الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 26
فهرس المحتويات
1-
حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2-
من أعلام المحدثين - أبو جعفر العقيلي (322هـ) :بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
3-
البهائية.. إحدى مطايا الاستعمار والصُهيونيَّة: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4-
كيف نعد المعلم الصالح..: بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
5-
لعمري: بقلم فضيلة الشيخ حماد محمد الأنصاري
6-
فتوى شرعية حول الملكية الفردية في الإسلام:بقلم فضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف
7-
علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية: بقلم فضيلة الشيخ زهير الخالد
8-
دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم: بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
9-
ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟ : بقلم فضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
10-
الشيوعية.. وموقفها المعادي للإسلام: بقلم الأستاذ توفيق علي وهبه
11-
شلل الأطفال: بقلم الدكتور خالد زربا
12-
بيان مشيخة الأزهر - بشأن فيلم "محمّد رسول الله": أصدر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر
13-
ندوة الطلبة - "كوكبنا وكوكبهم": بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
14-
الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
15-
أخبار الجامعة: بشرى
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} الآية من سورة المائدة. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية من سورة الشورة0 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة يوم الجمعة:"أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعد ما بلغ البلاغ المبين وبيّن للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال فكله بدعة مردود على من أحدثه ولو حسن قصده وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وهكذا علماء الإسلام بعدهم فأنكروا البدع وحذروا منها كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح، والطرطوشي وأبي شامة، وغيرهم، ومن البدع التي أحدثها بعض الناس بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد
عليه وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله. وورد فيها أيضاً آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم والذي عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف وغيره والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنا أنقل لك أيها القارئ ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة حتى تكون على بينة في ذلك وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الإتباع وما خالفهما وجب إطراحه وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله فضلاً عن الدعوة إليه وتحبيذه.
كما قال الله سبحانه في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال تعلى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية من سورة الشورى. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضى بحكمهما وأن ذلك هو مقتضى الإيمان وخير للعباد في العاجل والآجل وأحسن تأويلاً أي عاقبة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه (لطائف المعارف) في هذه المسألة بعد كلام سبق ما نصه: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد به معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة ليس ذلك ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى إلى أن قال ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن ابن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام"انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها الأفراد واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله سواء فعله مفرداً أو في جماعة وسواء أسره أو أعلنه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه (البدع) ما نصه: "وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال:"ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلاً على ما سواها "وقيل لابن أبي مليكة أن زياداً النميري يقول: "إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر"فقال: "لو سمعته وبيدي عصا لضربته"وكان زياداً قاصاً"، انتهى المقصود.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في الفوائد المجموعة ما نصه:
"حديث: "يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى الله له كل حاجة..الخ".
هو موضوع في ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الصواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في المختصر: حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، ضعيف، وقال في اللآلئ مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله للديلمي وغيره موضوع وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء، قال واثنتا عشر ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع.
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب الأحياء وغيره وكذا من المفسرين وقد رويت صلاة هذه الليلة أعني ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في مقام ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه. انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي: "حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه"، وقال الإمام النووي في كتاب المجموع: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك.
وعد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلامهم في هذه المسألة لطال بنا الكلام ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم وليس له أصل في الشرع المطهر بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم.
ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وما جاء في معناها من الآيات وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وما جاء في معناه من الأحاديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوها يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث الأمة على قيامها وفعل ذلك بنفسه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، فلو كانت ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه أو فعله بنفسه ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة ولم يكتموه عنهم وهم خير الناس وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم وقد عرفت آنفاً من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب ولا في فضل ليلة
النصف من شعبان فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام وهكذا تخصيصهما بشيء من العبادة بدعة منكرة وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة كما لا يجوز الاحتفال بها للأدلة السابقة هذا لو علمت فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف وقول من قال إنها ليلة سبع وعشرين من رجب قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة ولقد أحسن من قال:
وشر الأمور المحدثات البدائع
وخير الأمور السالفات على الهدى
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها والحذر مما خالفها إنه جواد كريم- وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
الشيوعية.. وموقفها المعادي للإسلام
بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبه
مدير الشئون القانونية
في بريد الدواوين - القاهرة
تطالعنا بين الحين والآخر بعض الكتب التي تهاجم الإسلام صادرة عن دور نشر شيوعية ثم تصدر المصادر الرسمية الشيوعية بيانات تدعي فيها تزوير هذه الكتب وتنفي نسبتها إليها
…
ودون الدخول في تفاصيل نود أن نوضح أن هذه الأجهزة تقصد من وراء نفي صدور الكتب عنها رواج هذه الكتب وتهافت الناس عليها لمعرفة ما تتضمنه.
وسواء أكان هذا النفي صحيحاً أم كاذباً فإن لدائرة المعارف السوفيتية موقفاً معادياً للإسلام لا يقل عن موقف الكتب التي تنفيها المصادر الشيوعية بل هي أخطر وأكثر عداء للإسلام والمسلمين بل الأهم من ذلك أنها أكثر صراحة من أي كتب تظهر عداءها للإسلام.
ترى ما هو موقف الأزهر وعلماء الدين في العالم العربي والإسلامي من هذا العداء الصريح للإسلام ولماذا لا تتدخل الهيئات الإسلامية لدى الحكومة السوفيتية لتوضيح رأيها فيما تقوله دائرة المعارف الروسية عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
رأي دائرة المعارف السوفيتية عن القرآن:
جاء بالمجلد رقم 12 صفحة 564:
"القرآن.. الكتاب المقدس الأساسي للمسلمين، مجموعة من المواد الدينية المذهبية والأسطورية والقانونية وقد وضع القرآن وشرع خلال حكم ثالث الخلفاء العرب عثمان (644 - 656م) ثم أدخلت عليه فيما بعد حتى بداية القرن الثامن - وفق ما وصلنا من المعلومات - بعض التغييرات ووفقاً للتقليد الإسلامي التاريخي الديني يعتبر محمد هو مشرع القرآن كما يعتبر مؤسس الإسلام، على أنه وفقاً للتحليل الموضوعي للقرآن هناك نظرية تقول إن جزءاً معيناً منه فقط ينتمي إلى عصر محمد، أما الأجزاء الأخرى من هذه المجموعة فلا بد أنها تنتمي لعصور متقدمة عليه أو متأخرة عنه. ويمكن أن نتبين هذا من وجود عدد من الأساليب المختلفة في القرآن يمكن أن تعزى لتطور اللغة العربية، ولزمن ظهور السور ومكانها. وتستخدم الطبقات الاستغلالية القرآن ورجال الدين الإسلامي الرجعيين كسلاح لخداع الجماهير الكادحة وكبحها".
النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
أما سيدنا رسول الله عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام فقد وردت سيرته بالمجلد 28 صفحة 599 كما يلي: "محمد مبشر ديني يعتبر مؤسس الإسلام، ويصور في العقيدة الإسلامية على أنه "أعظم المرسلين وخاتمهم، وهو عربي نشأ في مكة، وأبعد ما أمكن الوصول إليه فيما كتب عن سيرة محمد كتب في النصف الثاني من القرن الثاني كتبه جامع للأساطير نشأ في المدينة يُدعى (ابن إسحاق) وعنوان كتابه هو (سيرة رسول الله) وقد ألف هذا الكتاب بناء على أمر من الخليفة في بغداد.
وإلى جانب الحقائق الواقعية عن حياة محمد يشمل الكتاب عدداً من الأساطير والخرافات وفي كتب السيرة الأكثر حداثة طمست هذه الأساطير تماماً صُوَر محمد التاريخية، وحتى يومنا هذا مازالت سيرة محمد تُشيد على المعلومات شبه الأسطورية الواردة في القرآن والتي يتقبلها علماء الإسلام البرجوازيون بغير مناقشة.
وتقول إحدى الأساطير إن محمداً ينحدر من أسرة هاشم إحدى أسر قبيلة قريش التي كانت تعيش في مكة وقد هذب محمد تعاليم الموحدين قبل الإسلام - الحنفاء - وراح يبشر بالإسلام في مكة وقد مكن ظهور الإسلام ظهور مجتمع طبقي بين العرب تكون تدريجياً
…
وقد تحول محمد في نظر الأجيال التالية من المسلمين إلى (قديس) وصانع (المعجزات)(وشفيع) للمؤمنين. ويحاول المدافعون عن الإسلام والطبقات الاستغلالية استخدام صورة محمد لإضعاف الكفاح الطبقي".
هذا قليل من كثير ورد في دائرة المعارف الروسية التي تتبع هيئة تحريرها لرئاسة مجلس الوزراء السوفيتي مباشرة، وتتلخص الافتراءات على القرآن والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
1-
القرآن ألف في عهد عثمان ابن عفان وبعض من تآليف محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما يخالف ما أجمع عليه ثقات المؤرخين من أن القرآن وحي من الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متضمناً رسالة الإسلام خاتمة الديانات وأن ما حدث في عهد ثالث الخلفاء عثمان بن عفان رضي الله عنه هو تدوين القرآن وجمعه وليس تأليفه.
2-
تتعد أساليب القرآن تبعاً لتطور اللغة العربية، وهذا جهل فاضح وافتراء من جاهل لأن اختلاف الأساليب راجع إلى ما يعالجه القرآن من موضوعات فالحديث عن الاعتقاد يختلف عن الحديث عن الحياة الاجتماعية
…
وهكذا، ثم اختلاف العهد المكي عن العهد المدني ففي مكة كان المقصود هو بناء العقيدة، أما في المدينة فكان الاهتمام ببناء المجتمع بالإضافة إلى بناء العقيدة.
3-
يستخدم رجال الدين الرجعيون القرآن لخداع الجماهير، وهذا هجوم على علماء المسلمين بدون مبرر ووصفهم بالرجعية لا يستقيم مع كونهم رجال دين يجب احترامهم وتوقيرهم، إن رجال الدين يستخدمون القرآن لإبلاغ رسالة الإسلام إلى الناس وبيان العقيدة الحقة لهم ولبناء المجتمع الصالح الفاضل.
4-
ترى دائرة المعارف الروسية أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبشر ديني أخذ تعاليم الحنفاء الذين وجدوا على أيامه وطورها وأقام على أساسها الإسلام وأنه ألف بعضاً من القرآن الذي أكمل فيما بعد.
إن الحقد الذي أعمى قلوبهم وأفكارهم دفعهم إلى الافتراء على سيد خلق الله أجمعين والتطاول على مقامه السامي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن تتناول سيرته الطاهرة دائرة معارف الملحدين الكفرة الذين لا يرون في الدين إلا مخدراً للشعوب.
إن ما ذكرته من مقتطفات أردت به إيقاظ الوعي لدى المسلمين لما يقال عن دينهم ونبيهم وكتابهم وما يدبر لهم بمعرفة أعداء الإسلام.
وإنني من على صفحات هذه المجلة أدعو الهيئات الرسمية الإسلامية وغير الرسمية وعلى رأسها الأزهر الشريف إلى الوقوف في وجه هذه الحركات المعادية للإسلام وأن يبعثوا إلى هيئة تحرير دائرة المعارف السوفيتية بالحقائق التي يتجاهلونها عن الإسلام وطلب إثبات هذه الحقائق بها بدلاً من الخرافات التي تملأ كتبهم عن ديننا الحنيف.
وأتوجه إلى هؤلاء الذين أعمت الأحقاد قلوبهم وصدورهم عن ذكر الله أدعوهم إلى الإسلام وإلى اعتناق دين الله الحق وشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
شلل الأطفال
بقلم الدكتور خالد زربا
الأخصائي في أمراض الأطفال - مونبليه - فرنسا
هو مرض سار ووبائي ينتج عن فيروز اسمه (POLIO-VIRUS) بوليو - فيروس، ويتميز هذا الفيروس بتوضعة في القسم الأمامي من النخاع الشوكي.
تنتقل عدوى هذا مرض من المصابين أو حاملي فيروس المرض إلى الأصحاء عن طريقين:
1-
عن طريق الأنف والحنجرة وحدة انتقال المرض عن هذا الطريق قصيرة.
2-
عن طريق البراز وهذا هو الطريق الأهم، وطرح (الفيروس) عن هذا الطريق سريع ويتم بكميات كبيرة وستمر لفترة طويلة، مما يسبب تلوث بعض المأكولات والمياه أحياناً.
وهكذا نرى أن العدوى تتم بطريقة مباشرة - الطريق الأول - أو طريقة غير مباشرة - الطريق الثاني-.
وهذا المرض يصيب عادة الأطفال ما بين الشهر السادس والسنة الخامسة ولكنه قد يصيب الرضع الذين لم يبلغوا الستة أشهر أو أولئك الذين تعدوا هذا العمر ووصلوا سن المراهقة والنضوج ولكن نسبة المصابين منهم بسيطة جداً.
ويتولد المرض بسهولة لا سيما إذا عرفنا أن ال POLIO-VIRUS يستوطن الأمعاء ويتميز بميله للجهاز العصبي وبشكل خاص القسم الأمامي من جذور النخاع الشوكي وفيها الخلايا التي تحرك العضلات.
في أكثر الحالات يمر الفيروس في الأمعاء دون أن يعبر جدارها - والشخص هنا يكون حاملاًً للمرض دون أن يمرض ولكنه ينقل العدوى للآخرين - لأن الجسم يفرز أجساماً مضادة تؤمن الدماغ ضد هذا الفيروس. وفي بعض الحالات يعبر جدار الأمعاء ويصل إلى الدم ويسبب بعض الأمراض الخفيفة دون أن يسبب الشلل.
أخيراً في بعض الحالات القليلة يعبر جدار الأمعاء ويصل إلى الدم ومن ثم يعبر السحايا (أنسجة تغلف الجهاز العصبي) وبالتالي يصل إلى النخاع الشوكي حيث يتوضع في خلايا الجزء الأمامي من جذور النخاع الشوكي، أو خلايا مراكز أعصاب الرأس ويدمرها.. وبالتالي يحدث الشلل.
أعراض المرض تظهر على شكلين:
1-
حالات خفيفة لا يحدث فيها الشلل.
2-
حالات شديدة يكون نتيجتها الشلل وهي مجال بحثنا هذا، والحالات التي يحدث فيها الشلل أيضاً نجدها متنوعة منها الحالات الخفيفة كشلل العصب الوجهي أو بعض الأعصاب الأخرى في الوجه، وحالات شديدة جداً تسبب الموت السريع بعد أن تسبب تعطيل عملية دوران الدم وعملية التنفس. لكنّ الحالات الغالبة والتي تزيد على70 %من الحالات المرضية هذه هي الحالات التي تصيب النخاع الشوكي والتي يسميها الناس عادة شلل الأطفال. وتتميز عادة عن الحالات الأخرى بكونها تمر في معظم الأحيان بمراحل أربعة:
1-
المرحلة الأولى: وتسمى المرحلة التمهيدية للمرض وخلالها يشعر المريض بارتفاع الحرارة أو انحطاط جسمي، وعدم قابلية للأكل أو آلام رأس حادة وآلام في الحنجرة وحالات إسهال أو إمساك، والحرارة تصل إلى 38-39ْ درجة وبعد يومين أو ثلاثة تختفي ومعها تختفي بقية العوارض.
2-
المرحلة الثانية: وتسمى مرحلة ما قبل الشلل. تبدأ فجأة بارتفاع الحرارة خلال24-48 ساعة تصل إلى 39-40ْ درجة ويرافقها حالة زكام أو نزلة صدرية بسيطة ويحدث في نفس الفترة آلام رأس وغالباً ما يتقيأ المريض مرة واحة. ويحدث أحياناً بعض التشنجات والآلام العضلية في الأطراف والظهر، ويمر المريض بحالة تعرق شديد وخاصة في مضمار الرأس وهذه المرحلة تستمر عدة أيام.
3-
المرحلة الثالثة أو مرحلة الشلل: بعد نهاية المرحلة الثانية وخلال ساعات يبدأ بالظهور الارتخاء أو الشلل العضلي لبعض العضلات أو لبعض المجموعات العضلية وغالباً لعضلات الأطراف السفلية، وفي بعض الأحيان بعد مرور عدة أيام يمكن أن تظهر موجة جديدة من الشلل لبعض العضلات الأخرى وميزة هذا الشلل أنه يصيب غالبياً الأطراف السفلية بشكل غير متناظر. أي يمكن أن يصيب الطرف الأول بشكل أقوى أو أضعف من الطرف الآخر، وفي هذه المرحلة غالباً ما نلاحظ انحباس البول في المثانة.
4-
أما المرحلة الأخيرة وتسمى بمرحلة تطور المرض: وخلال هذه الفترة يحاول الجهاز العصبي (في النخاع الشوكي) إعادة بعض ما كان عليه من عمل قبل الإصابة بالمرض وهذه المرحلة قد تستمر من عدة أشهر إلى عدة سنوات (2-3-4) والتحسن يكون قوياً نسبياً في بداية الأشهر الثلاثة الأولى ويقل بالتدريج.
وبعد مضي هذه المدة تبقى الآثار النهائية وبشكل دائم. حيث تكون العضلات المصابة قد ضمرت مما يسبب تشوهات للأطراف المصابة وبالتالي تشوهات للعمود الفقري والحوض تبقى طول العمر..
أما تشخيص المرض فيرتكز على دراسة الأعراض وعلى التحاليل المخبرية.
والمعالجة هي أصلاً لأعراض المرض- وليس للمرض نفسه- وترتكز على:
- عزل المريض والراحة المطلقة في السرير.
-مراقبة الوظائف الحيوية عند المريض- القلب- التنفس - الوعي
-تخفيف الآلام.
- إعادة الحركة للمصاب بواسطة التدليك الطبي وإعطاء الفيتامينات ث، ب12، ب1 وكذلك هناك حقن ال NIVAILN النيفالين التي تساعد أحياناً في تقوية وتنشيط المرحلة الأخيرة بشكل جيد لا سيما إذا استعملت الأيام الأولى من حدوث الشلل.
أما الوقاية فهي الوسيلة المثلى لتفادي الإصابة خصوصاً أن العلاج الطبي المذكور لا يستطيع إزالة هذا الشلل بشكل أكيد وفعّال بسبب موت الخلايا العصبية التي يتوضع فيها الفيروس.
إن الوقاية من هذا المرض ترتكز فعلاً، بشكل مضمون على عملية التلقيح (التطعيم ضد المرض) .
بيان مشيخة الأزهر
بشأن فيلم "محمّد رسول الله"[1]
أصدر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر البيان التالي:
باسمي
وباسم الأزهر
وباسم مجمع البحوث الإسلامية الذي درس هذا الموضوع في عدة جلسات عقدها لهذا الغرض.
أعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم. أو أي فيلم آخر يتناول بالتمثيل على أي وضع كان شخصية الرسول وشخصية الصحابة رضوان الله عليهم.
ذلك لأن ظهور هذه الشخصيات على الشاشة السينمائية- تصريحاً أو تلميحاً- أو بأية صورة من الصور الخفية أو المعلنة - ينقص من قيمتها ويحط من منزلتها في وجدان المسلم.
هذا إذا افترضنا جدلاً أن الذي يقوم بتمثيلها على درجة عالية من الخلق الطيب والصلاح والتقوى، تقارب الشخصية التي هي موضوع التمثيل.
أما أن الأمر ليس كذلك على أي حال من الأحوال، فإن الإساءة إلى الشخصيات الإسلامية تصبح بالغة وشديدة الخطورة.
ومن ناحية أخرى فإن القصة بما فها من حوار ومناظر- مهما تكن درجة إجادتها أو مطابقتها للحقائق الإسلامية- يدخل فيها دائماً شيء من اجتهاد المؤلف ويبقى فيها دائماً جوانب خاضعة لاجتهاد الممثل والمخرج، والمصور، وغيرهم من سائر الفنيين العاملين في إنتاج الفيلم، يمكنهم التصرف فيها وفقاً لثقافتهم وعقائدهم واتجاهاتهم الخاصة. وهذا مصدر خطر شديد.
كذلك فإن الأمر يتصل بمجال عرض الفيلم في الدور المعدة لذلك. وهي دور معدة أساساً للهو والتسلية والترفيه - وذلك بلا شك يترك أثراً على قداسة الشخصيات الإسلامية التي يتعرض لها الفيلم..
على أنه إذا كان الغرض من تمثيل هذا الفيلم - أو غيره مما تظهر فيه الشخصيات الإسلامية ذات المنزلة الخاصة - التعريف بالإسلام، أو بمجد من أمجاده فإن في تاريخ الإسلام متسعاً لذلك حيث يغني بالشخصيات والعهود والأحداث والأمجاد التي يمكن تقديمها دون التعرض لشخصية الرسول أو الصحابة
أو من يماثلهم من أصحاب القدوة بين المسلمين.
من ذلك كله:
يتبين أنه لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج (فيلم محمد رسول الله) كما لا يجوز السماح بعرضه..
وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم..
كما ندعو الأمة الإسلامية كلها..
إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم.
شيخ الأزهر
دكتور عبد الحليم محمود
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
سبق أن أصدر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز استنكارا لإخراج فيلم (محمد رسول الله صلى عليه وسلم) ونشر في بعض الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها وقد نشرته مجلة الجامعة الإسلامية في افتتاحية العدد الثالث من سنتها السادسة في محرم سنة 1394هـ
ندوة الطلبة
"كوكبنا وكوكبهم"
بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
رأيت في إحدى المجلات العربية هذه العبارة "ليتسابق الناس إلى الكواكب أما نحن فكوكبنا عندنا على الأرض"يعني بكوكبهم أم كلثوم.
فما لنا في الجو من مطمح.
قالوا إلى الكوكب فليصعدوا.
نلقاه في الشاشة والمسرح.
فإنما كوكبنا عندنا.
وغردي ما بيننا واصدحي.
يا أم كلثوم أديمي الغنا.
ولازمي الشدو ولا تبرحي.
وفرقي بالشدو آلامنا.
ففتقي أفكارنا وافتحي.
فيا لغنا تفتح أفكارنا.
تذهب بالهم عن المترح.
فإنما غايتنا نغمة.
بالحب من قومِكِ ولتفرحي.
يا كوكبَ المشرِقِ فلتهنئي.
في ساحة المرقص والمسرح.
فكم نرى حولَكِ من خُشّع.
كالذكر إن أثّر في المفلح.
يمتزجُ الشجو بأنفاسهم.
في حضرةِ المرشد والمصلح.
إنصاتُهم يفضل إنصاتنا.
من طلب الخِسة لا تستحي.
يا ضيعة الأمجاد في أُمةٍ.
على مرور الدهر لا تمحي.
أورثها آباؤها عزةً.
وفارقوا الصرحَ إلى الأبطح.
فذبحوها جهرةً في الضحى.
وفارقوا الأفضل للأقبح.
وخالفوا دَيْدَنَ آبائهم.
تعدو على الأصلح فالأصلح.
فها هي النيران مسعورةٌ.
فقد دنا القومُ من المذبح.
فليبكِ من شاء على قومه.
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
السؤال الأول: إذا ارتد مسلم عن دينه سنوات عديدة ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى فهل عليه قضاء الصوم والصلوات المكتوبة التي تركها خلال الردة؟
والجواب: إذا ارتد المسلم عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك ثم منّ الله عليه بالتوبة فليس عليه قضاء ما ترك من صلاة وصوم زمن الردة لقول الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها"وهذا هو أصح أقوال أهل العلم للآية المذكورة والحديث المذكور وما جاء في معنى ذلك ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يأمروا من أسلم من المرتدين في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره بقضاء ما تركوا من الصلاة والصوم وهم أعلم الناس بشريعة الله بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام ولأن في إلزامه بقضاء ما ترك من الصلاة والصوم تنفيراً له من العودة إلى الإسلام وهكذا الزكاة لا يقضي ما ترك منها لأنها إنما تصح من المسلم ولا يطالب بها سواه فيه كالصلاة والصوم.
السؤال الثاني: إذا توفي عن المرأة المسلمة الموظفة زوجها وهي في دولة لا تعطي لأي إنسان توفي عنه قريبه إجازة أكثر ممن ثلاثة أيام فكيف تعتد فمثل هذه الظروف لأنها إن قررت أن تعتد المدة المشروعة تفصل من العمل فهل تترك الواجب الديني من أجل اكتساب المعيشة.؟
الجواب: عليها أن تعتد العدة الشرعية وتلزم الإحداد الشرعي في جميع مدة العدة ولها الخروج نهاراً لعملها لأنه من جملة الحاجات المهمة وقد نص العلماء على جواز خروج المعتدة للوفاة في النهار لحاجتها والعمل من أهم الحاجات وإن احتاجت لذلك ليلاً جاز لها الخروج من أجل الضرورة خشية أن تفصل ولا يخفى ما يترتب على الفصل من المضار إذا كانت محتاجة لهذا العمل وقد ذكر العلماء أسباباً كثيرة في جواز خروجها من منزل زوجها الذي وجب أن تعتد فيه، بعضها أسهل من خروجها للعمل إذا كانت مضطرة إلى ذلك العمل والأصل في هذا قوله سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق على صحته والله سبحانه وتعالى أعلم.
السؤال الثالث: إذا وقع عيد من العيدين في يوم جمعة فهل تصلى الجمعة مع خطبتها في ذلك اليوم أم لا؟
الجواب: المشروع للمسلمين إذا اجتمع عيد وجمعة أن يقيموا صلاة العيد وصلاة الجمعة في المساجد التي تقام فيها الجمعة ويجوز لمن حضر صلاة العيد ترك الجمعة والاكتفاء بصلاة الظهر للأحاديث الآتية:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة ثم قال: "من شاء أن يصلي فليصل" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" رواه أبو داود وابن ماجه. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين" رواه مسلم.
ففي هذه الأحاديث الدلالة على أن المسلمين يقيمون صلاة العيد وصلاة الجمعة إذا اجتمعا في يوم واحد وفي الأول منها والثاني على جواز ترك حضور صلاة الجمعة لمن حضر صلاة العيد إذا اجتمعا في يوم، وإن على من ترك صلاة الجمعة أن يصلي صلاة الظهر لأنه من المعلوم بالأدلة القاطعة أن على المسلم المكلف في كل خمس صلوات مفروضة ومن ذلك يوم الجمعة فصلاة الجمعة في وقتها هي أحد الفروض الخمسة فمن لم يصلها لمرض أو سفر أو لحضور صلاة العيد في اليوم الذي اجتمع فيه العيد والجمعة لزمه أن يصلي صلاة الظهر وهذا محل إجماع بين أهل العلم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للفقه في دينه والثبات عليه وأن يجعلنا وإياكم من أنصاره والدعاة إليه على بصيرة إنه جواد كريم.
أخبار الجامعة
بشرى
نقلت إلينا رابطة العالم الإسلامي مكة بشرى موافقة الحكومة الباكستانية رسميا على قرار الجمعية الوطنية الباكستانية القاضي باعتبار القاديانية أقلية غير إسلامية في باكستان.
ويعتبر هذا القرار تعزيزا لقرار الحكومة السعودية القاضي بمنع دخول القاديانيين إلى المملكة ومنعهم من أداء فريضة الحج لخروجهم من الإسلام.
والمجلة إذ تزف هذا الخبر لقرائها الكرام تسأل الله أن يحفظ جلال الملك فيصل لخدمة هذا الدين والذود عنه والله الموفق.
المجلة
بدأت الدراسة في كليات الجامعة ومعاهدها يوم الاثنين الموافق 6/10/94 هـ ومن الجدير بالذكر أن في الجامعة ثلاث كليات هي: كليم الشريعة. وكلية أصول الدين. وكلية القرآن الكريم. ويعتبر يوم الاثنين 6/10/94 هو أول يوم من أيام كلية القرآن الكريم وقد قام بإلقاء أول محاضرة فيها فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي العالم المشهور في القراءات وعلوم القرآن والذي زادت مؤلفاته على العشرين مؤلفا وقد ألقى قبله فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد المحسن بن الحمد العباد كلمة مختصرة افتتح فيها الكلية باسم الله. وأشار إلى أهمية هذه الكلية وأنها جاءت في الوقت الذي اشتدت الحاجة إلى إيجادها وأن افتتاحها في هذه الجامعة بناءا على موافقة جلالة الملك فيصل حفظه الله من توفيق الله لجلالته إذ هي أول كلية من نوعها في العالم. وحث الطلبة على الإقبال على هذه العلوم النافعة ومضاعفة الجهود في تحصيلها ليحصل بهم سد الفراغ الموجود في العالم.
عقد مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة دورته الخامسة في الطائف في شهر شعبان وكانت هذه الدورة برئاسة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وقد درس المجلس المواضيع المعروضة عليه.
من أعلام المحدثين
أبو جعفر العقيلي (322هـ)
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو محمد بن عمرو بن موسى بن محمد بن حماد.
كنيته ونسبته:
كنيته أبو جعفر وقد اشتهر بها وهو من أهل مكة فيقال له: المكي ويقال الحجازي، ويقال له: العقيلي بضم العين نسبة إلى قبيلته وقد اشتهر بهذه النسبة.
سمع جده لأمه محمد بن يزيد العقيلي ومحمد ابن إسماعيل الصائغ وأبا يحيى ابن أبي ميسرة ومحمد بن أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي ويحيى بن أيوب العلاف ومحمد بن إسماعيل الترمذي وإسحاق الدبري وعلي بن عبد العزيز البغوي ومحمد بن خزيمة ومحمد بن موسى البلخي والمقدم ابن داود الرعيني وبشر بن موسى الأسدي وغيرهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي وأبو بكر بن المقرئ وغيرهما.
ثناء الأئمة عليه:
قال مسلمة بن قاسم: كان العقيلي جليل القدر عظيم الخطر وكان كثير التصانيف فكان من أتاه من المحدثين قال: اقرأ من كتابك ولا تخرج أصله فتكلمنا في ذلك وقلنا إما أن يكون أحفظ الناس وإما أن يكون من أكذب الناس فاجتمعنا عليه فلما أتيت بالزيادة والنقص فطن لها فأخذ مني الكتاب وأخذ القلم فأصلحها فانصرفنا من عنده وقد طابت أنفسنا وعلمنا أنه من أحفظ الناس. وقال الحافظ أبو الحسن بن سهل القطان: أبو جعفر ثقة جليل القدر عالم بالحديث مقدم بالحفظ، وقال الذهبي في التذكرة: الحافظ الإمام وقال: وكان مقيماً في الحرمين وقال في العبر: الحافظ صاحب الجرح والتعديل عداده في أهل الحجاز.
آثاره:
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: صاحب كتاب الضعفاء الكبير وقال في العبر: صاحب الجرح والتعديل، وقال مسلمة بن قاسم: وكان حسن التأليف عارفًا بالتصنيف، وقال الفاسي في العقد الثمين في أخبار البلد الأمين: مؤلف كتاب الضعفاء، وقال الصفدي في الوافق بالوفيات: له مصنف جليل في الضعفاء: وقال الذهبي في أول كتابه ميزان الاعتدال: وله مصنف مفيد في معرفة الضعفاء.
وهذا الكتاب يوجد مخطوطاً في المكتبة الظاهرية بدمشق اسمه: الضعفاء ومن نسب إلى الكذب ووضع الحديث ومن غلب على حديثه الوهم ومن يتهم في بعض حديثه ومجهول روى ما لا يتابع عليه وصاحب بدعة يغلو فيها ويدعو إليها وإن كانت حاله مستقيمة.. قال عنها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في الفهرس الذي وضعه لمخطوطات الحديث في المكتبة قال: نسخة جيدة عليها سماع بتاريخ سنة 414هـ، وهي تحت رقم 362 حديث تبلغ صفحاتها 470 صفحة، ويوجد نسخة مصورة عنها محفوظة في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية في القاهرة تحت رقم 718 فهرس قسم التاريخ.
وفاته:
توفي الحافظ أبو جعفر العقيلي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمكة في شهر ربيع الأول أرخ وفاته في هذه السنة الذهبي في العبر وفي تذكرة الحفاظ وابن العماد في شذرات الذهب والصفدي في الوافي بالوفيات والفاسي في العقد الثمين وقال: توفي في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمكة كما ذكر ابن زبرقي في وفياته وذكر أنه شهد جنازته.
ممن ترجم له:
1_
ترجم له الذهبي في العبر 2/194 وفي تذكرة الحفاظ 3/52.
2_
وابن العماد في شذرات الذهب 2/295.
3_
والسمعاني في النساب 396 مخطوط.
4_
والفاسي في العقد الثمين 2/244.
5_
والصفدي في الوافي بالوفيات 4/291.
6_
وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 11/98.
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
استحباب مجالسة الصالحين
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه. وإما أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة".
رواه مسلم
البهائية.. إحدى مطايا الاستعمار والصُهيونيَّة
بقلم الشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحابته الطاهرين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين أما بعد: فإن البهائية مؤامرة إلحادية خططت لها الماسونية السرية، والصهيونية العالمية، وتولت غرس شجرتها الجاسوسية الروسية لقصد تغيير دين الإسلام وطمس عقائده وهدم أنظمته، والتمكن من تنفيذ المؤامرات والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين.
كيف تم تكوين هذه العصابة؟
حوالي سنة 1231 هـ ظهر بكر بلاء في العراق رجل مجهول الأصل والمولد والمنشأ- ويذكر بعض الباحثين أنه كان قسيسًا نصرانيًا - فادعى أن اسمه كاظم الرشتي - ورشت قرية من قرى إيران بالرغم من أن أهل رشت لا يعرفون عنه شيئًا. وقد استغل من مبادئ الشيعة الاثني عشرية فكرة الغائب بالسرداب المنتظر وفكرة الباب لهذا الغائب فعمل على إيجاد شخص يضفي عليه هذا اللقب ويضعه على عينه ليصل بواسطة هذا الباب إلى كل ما يريد.
واتخذ لنفسه مجلسًا، واستطاع أن يستميل إليه بعض ذوي النفوس المنحرفة والقلوب المريضة وجعلهم تلاميذ له.
وكان من أخبث هؤلاء رجل يقال له: حسين البشروئي - من بشرويه إحدى قرى خراسان أضفى عليه المدعو كاظم الرشتي لقب كبير التلاميذ واختاره ليكون المنفذ الحقيقي لهذه المؤامرة البشعة ولقبه باب الباب.
ومن أخطر هؤلاء التلاميذ امرأة أصلها من الشيعة الاثني عشرية كانت تسمى فاطمة بنت صالح القزويني كانت بارعة الجمال فلقبها أبوها بلقب زرين تاج لأنها كانت ذات شعر ذهبي. زوجها أبوها وهي صغيرة من ابن عم لها فنفرت منه وانفصلت عنه واتصلت بكاظم الرشتي بالمراسلة، ونشط هو في مكاتبتها إذ وجد فيها ضالة منشودة له. ولقبها في رسائله لها بأنها: قرة العين: ودعاها إلى ترك قزوين والحضور إلى كربلاء غير أنه هلك عام 1259هـ قبل وصولها إليه، وما أن وصلت إلى كربلاء حتى تلقفها حسين البشروئي وبقية تلاميذ الرشتي وقد صارت أجرأ هؤلاء التلاميذ على إعلان الخروج على الإسلام والدعوة إلى الشيوعية في النساء، ولما أخذت تطبق هذا الأمر علنًا مع بعض تلاميذ الرشتي أطلقوا عليها لقب الطاهرة وكان من بين تلاميذ الرشتي شاب يقال له علي محمد الشيرازي، المولود بشيراز عام 1235هـ الموافق لعام 1819م وقد توفي والده وهو صغير فكفله خاله علي الشيرازي وعهد به إلى أحد تلاميذ الرشتي وهو لا يعرف أهدافه ثم رحل به خاله إلى ثغر (بوشهر) على ساحل الخليج في مقابلة الكويت وافتتح له متجرًا هناك وقد لاحظ خاله أنه بدأ ينحرف عن مذهب الاثني عشرية وقد أصابته لوثة عقلية كانت تعتريه في بعض الأحيان فرأى خاله أن يبعثه إلى كربلاء وسنه إذ ذاك عشرون عامًا فبصر به بعض تلامذة الرشتي وحملوه إلى أستاذهم الذي أخذ يوصي إليه بقرب ظهور المهدي ويدس له من يملأ نفسه بأنه الباب.
ولما مات الرشتي توجه إلى شيراز فأقام حسين البشروئي (قرة العين) مقام الرشتي في التدريس لتلاميذ الرشتي بكربلاء وكانت قد اصطفت لنفسها من بينهم رجلاً قوياً يقال له محمد علي البارفروشي ولقبوه القدوس.
وقد توجه البشروئي إلى شيراز ولحق بعلي محمد الشيرازي وأخذ يستغل سذاجة هذا الشاب وغروره فواصل الاجتماع به وأوهمه أنه يوشك أن يكون له شأن وأنه علم من شيخه الرشتي الإشارة إلى أن علي محمد الشيرازي يمكن أن يكون هو الباب وأن البشروئي هو باب الباب ولم يزل به حتى أعلن هذا الشاب المغرور في شيراز يوم 5 من جمادى الأول عام 1260 هـ أنه باب المهدي. وسارع حسين البشروئي ليبشر بقية التلاميذ بظهور الباب وأعلن أنه هو باب الباب.
وقد ظهر أن وراء هذه العصابة الجاسوس الروسي "كنياز دالكوركي"الذي كانت وظيفته الظاهرة مترجماً بالسفارة الروسية في طهران وقد ادعى هذا الجاسوس أنه اعتنق الإسلام وأخذ يلازم مجلس كاظم "الرشتي "ويغرس هذه الشجرة الملعونة في أرض الأمة الإسلامية وقد لعب دورًا خطيرًا في ضم مجموعة من الرجال إلى هذه العصابة إذ جلب لها رجلاً يقال له: حسين علي المازندراني والمولود بطهران عام 1233هـ وقد أوصى إليه هذا الجاسوس بعد ذلك بدعوى الألوهية والتلقب بالبهاء واستعمله مخلب القط لكل ما يريد. كما ضم إلى هذه العصابة يحيى المازندراني الأخ غير الشقيق لحسين علي ولقبه بعد ذلك بصبح الأزل.
ويقول هذا الجاسوس الروسي في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق "السوفيتية"سنة 1924-1925م: "والخلاصة أني خرجت حسب الأمر في أواخر سبتمبر مع راتب مكفى من روسيا إلى العتبات العاليات وفي لباس الروحانية باسم "الشيخ عيسى اللنكراني"ووردت كربلاء المقدسة.
ويقول: وكان بقرب منزلي طالب علم يسمى السيد علي محمد وكان من أهل شيراز فأنا أيضًا صادقته بحرارة، والسيد علي محمد لم يترك صداقتي وكان يضيفني أكثر من قبل وكنا نشرب الحشيش وكان ابن الوقت متلون الاعتقاد. ثم يستمر هذا الجاسوس في مذكراته فيقول: سأل طالب تبريزي يوماً السيد كاظم الرشتي في مجلس تدريسه فقال: أيها السيد: أين صاحب الأمر الآن؟ وأي مكان مُشَرّف به الآن؟ فقال السند: أنا ما أدري ولعل هنا- مكان التدريس يكون الآن مشرفاً بحضوره. ولكني لا أعرفه.
ثم يشرح الجاسوس كيف حاول باستمرار الإيحاء إلى علي محمد رضا هذا أنه هو المنتظر إلى أن أقنعه بذلك بواسطة حسين البشروئي فأعلن أنه الباب.
ويصف الجاسوس نصائحه إلى هذا الباب فيقول له: ولا تكن متلوناً فإن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحملون عنك كل شيء حتى ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ فكان السيد يصغي ويستمع كاملاً وبلا نهاية، صار طالباً ومشوقاً أن يدعي ادعاءاً ثم يسوق الجاسوس خبر رجوعه إلى إيران من العراق ثم يقول: فطفق كل من الميرزا حسين علي- البهاء- وأخيه الميرزا يحيى - صبح الأزل - والميرزا رضا علي - الباب - ونفر من رفقتهم يأتونني مجدداً ولكن مجيئهم كان من باب غير معتاد للسفارة الذي كان قرب سكة مغسل الأموات.
ويصف هذا الجاسوس كيف اصطدم مع السفير الروسي "كراف سيمنويج"فاستدعته الحكومة الروسية إلى روسيا وفي ذلك يقول: لقد قطع هذا الوزير المفوض جميع رواتب أصدقائي ورفقائي حتى رواتب الميرزا حسين علي وأخيه الميرزا يحيى والميرزا علي رضا وغير هؤلاء الذين كانوا يأخذون الرواتب سراً فبقطعه رواتب هؤلاء قد هدم مؤسساتي جمعاء وقلب كل ما أنا فعلته ونقض كل ما أنا غزلته. ثم يصف اتصال هؤلاء به في روسيا فيقول: في كل شهر كانت تأتيني من الأصدقاء الطهرانيين رسائل ومكتوبات وكلهم كانوا يدعونني إلى إيران وحتى بعض عُبّاد البطن منهم مثل الميرزا علي رضا والميرزا حسين علي وبعد اقتناع الحكومة الروسية بضرورة إرجاعه إلى إيران يقول: وكان الميرزا حسين علي أول من ورد هذه الغرفة وأخبرني بمطالب مهمة جداً ثم يقول: انقضى رمضان وأنا كنت أربي نفراً من أصحاب سري تربية الجاسوسية ولم تكن لأي منهم لياقة الميرزا حسين علي وأخيه يحيى.
إعلانات علي محمد رضا الشيرازي المتناقضة
أعلن علي محمد الشيرازي بتسويل حسين البشروئي وتدبير الجاسوس الروسي أنه الباب إلى الغائب الذي بالسرداب ثم توجه من شيراز إلى بوشهر مختفياً وأخذ البشروئي يذيع أنه رأى الباب بعينه وأخذ يدعو الناس إلى متابعته وأطلق على من تبعه اسم (البابية) ثم لم يلبث البشروئي أن حوله من باب المهدي إلى المهدي نفسه وأطلق عليه "قائم الزمان"وانضم إليه في ذلك رجل يقال له محمد علي البارفروشي وآخرون بلغ عددهم سبعة عشر رجلا ًوامرأة وهي الملقبة لديهم بقرة العين وتوجهوا إلى بوشهر واجتمعوا بزعيمهم الجديد (الباب) وصاروا معه تسعة عشر شخصاً فلذلك قرر أن يجعل عدة الشهور تسعة عشر شهراً والشهر تسعة عشر يوماً واعتبر اليوم الذي أعلن فيه دعوته يوم 5 من جمادى الأولى سنة 1260 هـ هو بدء التاريخ ثم جمع جملاً متناقضة مملوءة بالسفسطات والأكاذيب وجعلها أساس دينه الجديد وسماها البيان. ثم ادعى أنه الممثل الحقيقي لجميع الأنبياء والمرسلين فهو نوح يوم بعث نوح وهو موسى يوم بعث موسى وهو عيسى يوم بعث عيسى وهو محمد يوم بعث محمد عليهم الصلاة والسلام. ثم زعم أنه يجمع بين اليهودية والنصرانية والإسلام وأنه لا فرق بينهما ثم أنكر أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحرّم قراءة القرآن ثم زعم أن الله تعالى حلّ فيه وادعى أنه أكمل هيكل بشرى ظهرت فيه الحقيقة الإلهية. وأنه هو الذي خلق كل شيء بكلمته. وألغى الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة إلا في الجنازة وقرر أن الطهر من الجنابة غير واجب، وأن القبلة هي البيت الذي ولد به في شيراز أو البيوت التي يعيش فيها هو وأتباعه، وجعل الحج هو زيارة هذه البيوت. أما الصوم فيكون من شروق الشمس إلى غروبها لمدة شهر بابي أي تسعة عشر يوماً وينتهي بعيد النيروز المجوسي وأباح لأتباعه خمسة أيام قبل الصيام يرتكبون فيها ما شاءوا من الشهوات وأوجب أن يؤخذ في الزكاة خمس المال وأوجب الزواج على من بلغ
الحادية عشرة من الذكور والإناث ولا يحتاج الزواج لأكثر من رضا الذكر والأنثى ويجوز إيقاع الطلاق. تسع عشرة مرة وعدة المطلقة تسعة عشر يوماً، ولا يجوز الزواج بأرملة إلا بعد دفع دية وبعد انقضاء عدتها ومقداره خمسة وتسعون يوماً، وحرم على المرأة الحجاب، وقرر أنه لا وجود للنجاسة، وأوجب دفن الميت في قبر من البلور أو المرمر المصقول، مع وضع خاتم في يمناه منقوش عليه فقرة من كتابه البيان. وأوجب استقبال قرص الشمس ساعة عند شروقها. إلى غير ذلك من الآراء المتناقضة التي لا تلائم فطرة ولا يقرها عقل ولا تجلب للإنسانية غير البلبلة والاضطراب.
وقد ثار علماء شيراز على دعاة البابية فقبض واليها حسين خان عليهم ثم أمر بإحضار الباب من بوشهر فأحضر وحيل إلى مجلس الحاكم فخر على الأرض ترتعد فرائصه فلطمه الحاكم وبصق في وجهه ثم رمي به في السجن. ثم رأى الحاكم أن يختبره بنفسه فأرسل إليه وأحضره من السجن وأظهرله أنه تأسف على ما بدر منه فانطلق الباب المغرور يمنيه بأنه سيجعل منه سلطاناً فيما بعد على الدولة العثمانية حينما تدين الدنيا كلها له ولأتباعه. ثم فوجئ الباب بحشد من العلماء في قصر الحاكم ففزع فأوهمه الحاكم بأنهم جمعهم للتمكين لدعوته وإعلانها فاغتر الباب وحضر مجلس العلماء ثابت الجنان ثم بدأ يخاطب العلماء بقوله إن نبيكم لم يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتاب البيان فاتلوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن، ولما اطلع العلماء عليه لم يجدوه فيه إلا كفراً بواحاً وأخطاء فاحشة في اللغة فلما نبهوه إلى هذه الأخطاء ألقى اللوم على الوحي الذي جاء بها هكذا. وهنا قال له الحاكم: كيف تدعي الرسالة وترجح نفسك خاتم النبيين وأنت عاجز عن التعبير عن مكنون نفسك ثم أمر الحاكم رجاله فعلقوه من رجليه ثم انهالوا عليه ضرباً فأعلن أنه كفر بدعوته ورضي أن يطاف به في الأسواق على دابة شوهاء ثم أعيد إلى سجن شيراز.
بيد أن الجاسوس الروسي بواسطة جاسوس روسي آخر هو منوجهر خان الأرمني الذي دفعته الحكومة الروسية لإعلان إسلامه فغمره الشاه بالفضل وأولاه ثقته وعينه معتمداً للدولة في أصفهان استطاع منوجهر هذا أن يخلص الباب من السجن ويهربه إلى أصفهان. ولما مات منوجهر عثر بالباب يمرح في قصره فقررت الحكومة نفيه إلى قلعة ماكو بأذربيجان.
مؤتمر بدشت سنة 1264هـ
يقول الجاسوس الروسي في مذكراته فأنا بواسطة الميرزا حسين علي وأخيه يحيى ونفر آخر قمنا بالضجيج والعجيج أن صاحب الأمر قد قبض عليه. فاجتمع الدعاة المرتدون الثمانية عشر وقرروا أن يحضروا معهم كل الذين استمالوهم وأن يعقدوا منهم مؤتمراً في صحراء بدشت بين خراسان ومازندران وعلى رأسهم باب الباب (حسين البشروئي) وقرة العين وحسين علي المازندراني الذي تلقب فيما بعد بالبهاء وجعلوا الدعوة الظاهرة لهذا المؤتمر هي التفكير في الوسائل الممكنة لإخراج الباب من السجن، أما المقصود لهذا المؤتمر فهو إعلان نسخ دين الإسلام. وما أن انعقد المؤتمر حتى اندفعت (قرة العين) تلهب حماسهم وتقرر حقيقة نحلتهم الجديدة فقالت: اسمعوا أيها الأحباب والأغيار إن أحكام الشريعة المحمدية قد نسخت الآن بظهور الباب وأن أحكام الشريعة الجديدة البابية لم تصل إلينا، وأن اشتغالكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل إن مولانا الباب سيفتح البلاد ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم المسكونة وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة حتى لا يبقى إلا دين واحد وذلك الدين الحق هو دينه الجديد وشرعه الحديث. وبناء على ذلك أقول لكم وقولي هو الحق: لا أمر اليوم ولا تكليف، ولا نهي ولا تعنيف فاخرجوا من الوحدة إلى الكثرة ومزقوا هذا الحجاب الحاجز بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال وتقاسموهم بالأفعال، وأصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن
من الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وأن الزهرة لا بد من قطفها وشمها لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف والكم، فالزهرة تجني وتقطف، وللأحباب تهدي وتتحف. وأما ادخار المال عند أحدكم وحرمان غيركم من التمتع به والاستعمال فهو أصل كل وزر وأساس كل وبال، ساووا فقيركم بغنيكم، ولا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم إذ لا ردع الآن ولا حد، ولا منع ولا تكليف ولا صد، فخذوا حظكم من هذه الحياة فلا شيء بعد الممات.
وبعد انفضاض المؤتمر وتسرب أنبائه ثارت ثائرة رجال الدين والدولة في إيران فطلب الشاه من ولي عهده ناصر الدين وهو في تبريز أن يحضر الباب لمحاكمته فأقر الباب أمام العلماء بأنه جاء بدين جديد فوجه إليه العلماء هذا السؤال: ما النقص الذي رأيته في دين الإسلام وما الذي كملت به هذا النقص لو كان؟ فارتج الدعي ولم يجد شيئاً، فاستقر الرأي على وجوب قتله مرتداً بعد أن أطبق العلماء على كفره وردته.
ولما جاء وقت التنفيذ حمل الباب من سجنه ومعه أحد أتباعه لإعدامهما في أحد ميادين تبريز الذي كان مكتظاً بفئات كثيرة من الناس حضروا ليشاهدوا مصرع هذا الضال بيد أن القنصل الروسي استطاع أن يتصل بقائد الفرقة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام وأن يغريه برشوة كبرى ليحاول إنقاذ الباب. وشد هذا الباب إلى عمود طويل ومعه تابعه والناس يلعنونه ويستعجلون بالفتك به ن ووقف القنصل الروسي مشدوهاً بين هؤلاء وأطلق الجنود ثمانمائة رصاصة استقرت كلها في جسد تابعه المغرور غير واحدة من هذه الرصاصات فقد قطعت الحبل الذي ربط به الباب وحينما إنجاب الدخان الكثيف رأى الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود أما الباب فقد فر بعد أن قطعت الرصاص حبله. غير أن بعض الجند الذين كانوا يعرفونه ويجهلون قصد قائدهم قاموا بتمزيق جسده بالرصاص فانهار قنصل الروس وبكى من هول ما أصيب به. وقد تركت جثته في خندق طعاماً للوحوش بعد أن قام قنصل الروس بتصوير الجثة وقد بعث بالصورة إلى حكومته كما جاء في
كتاب الكواكب الدرية في تاريخ ظهور البابية والبهائية المطبوع في القاهرة سنة 1343هـ وهو لأحد البهائيين. وكان إعدام هذا الدعي يوم 28 من شعبان سنة 1266 هـ أو 1267هـ.
ثم قامت الحكومة بالتنكيل بأتباعه وأعدمت الكثير منهم ومن بينهم قرة العين.
من البابية إلى البهائية:
بعد أن قتل الباب حاول الروس اختيار شخص آخر من أتباعه ليكون خليفة له ويقول الجاسوس الروسي كنياز د الكوركي في مذكراته: فوصلني خبر قتله بطهران فقلت لميرزا حسين علي - البهاء - ونفر آخرين أن يثيروا الغوغاء بالضجيج والعجيج وقد تعصب نفر آخرون وأطلقوا الرصاص على الشاه ناصر الدين فلذلك قبضوا على كثيرين من الناس وكذلك قبضوا على حسين علي المازندراني وبعض آخر من الذين كانوا لي أصحاب السر فأنا حاميت عنهم وبألف مشقة أثبت أنهم ليسوا بمجرمين وشهد عمال السفارة وموظفوها حتى أنا بنفسي أن هؤلاء ليسوا بابيين فنجيناهم من الموت وسيرناهم إلى بغداد وقلت لميرزا حسين علي: اجعل أنت أخاك الميرزا يحيى وراء الستر وادعوه (من يظهره الله) فلا تدعه أن يكلم أحداً وكن أنت بنفسك متوليه وأعطيتهم مبلغاً كبيراً رجاء أن أعمل بذلك عملاً"ثم يقول:فألحقت به في بغداد زوجته وأولاده وأقرباءه كي لا يكون له هوى من خلفه. ثم يقول: فشكلوا في بغداد تشكيلات وجعلوا له كاتب وحي. وكان قسم من أعمال السفارة الروسية في طهران منحصراً في تهيئة الألواح وتنظيم أعمال البابية ثم يقول: والدولة الروسية كانت تقويهم وبنت لهم مأوى وسكناً ثم يقول: ورقباؤنا كانوا ساعين أن يفشو الألواح المتضادة المتناقضة التي كانت صادرة بيد كتابنا ثم يقول: وكل من كان في طهران يصير بهائياً كنا نعاونه ونساعده ولم يكن لأولئك البتة مأوى وملجأ سوانا.
بيد أن الخلاف بدأ يدب بين البابيين فصار جماعة منهم يتبعون حسين المازندراني وجماعة يتبعون أخاه يحيى وجماعة رفضوا أن ينصاعوا لأحد الرجلين وبدأ النزاع بين هذه الفرق الثلاث وتأكد لشاه إيران أن البابية رغم مقامهم في بغداد بعيدا عن حدوده ما زالوا يمثلون خطراً داهما على دولته فطلب من الحكومة العثمانية إخراجهم من العراق، فأصدرت أمرا بنفي حسين المازندراني وأخيه وأتباعهما إلى الآستانة سنة 1281هـ.
وتجمع هؤلاء في حديقة نجيب باشا والي بغداد استعداداً للرحيل فاستغل حسين المازندراني اجتماع هؤلاء وأعلن أنه الموعود الذي جاء الباب ليبشر به وأنه بهاء الله، وان الغاية من ظهور الباب أنها كانت لإعداد الناس لقدوم بهاء الله، وما أن وصل هؤلاء إلى الآستانة حتى طلب السفير الإيراني نقلهم إلى مكان بعيد عن العاصمة فنقلوا إلى أدرنة وفيها احتدم النزاع بين الأخوين فعرف أتباع يحيى بالأزليين إذ صار يحيى يلقب صبح الأزل وعرف أتباع حسين بالبهائيين إذ أطلق على نفسه لقب بهاء الله.
وحاول حسين القضاء على أخيه بدس السم له كما حاول قتله غيلة مما حدا بالحكومة إلى نفي يحيى إلى قبرص ونفي حسين إلى عكا في فلسطين وقد عمدت الحكومة العثمانية إلى إقامة عيون على كل واحد من الأخوين من أتباع الآخر.
وما أم وصل حسين إلى عكا واستمر في سجنها حوالي أربعة أشهر حتى امتدت الأيدي الماسونية والصهيونية لإمداده بالمال الوفير وتهيئته للدعوة لدينه الجديد وأطلق سراحه من السجن وما أن خرج من السجن حتى دبّر مؤامرة لأتباع أخيه فأبادهم ليلاً بالحراب والسواطير مما حمل الحكومة على اعتقال البهائيين في أحد معسكرات عكا. ولم يمض طويل زمن جميل كما وضع أتباعه في منزل آخر وأذن لأتباعه ولغيرهم في زيارته والتحدث إليه.
النحلة الجديدة
بدأ حسين المازندراني بدعوى أنه وصي الباب ثم زعم أنه المسبح قد نزل ثم ادعى لنفسه النبوة ثم زاد في تبجحه وادعى إنه إله السموات والأرض زاعماً أن الحقيقة الإلهية لم تنل كمالها الأعظم إلا بتجسدها فيه. وقد أمدته الصهيونية بلقب بهاء الله الموجود في المزامير إذ قد ردد فيها (أن السموات تحكي عن بهاء الله) فزعم أو زعموا له أنه هو هذا البهاء وأنه مظهر الله الأكمل وأنه موعود كل الأزمنة ومجيئه الساعة الكبرى وقيامه القيامة والانتماء إليه هو الجنة ومخالفته هي النار وقد أخذ ينسخ من البابية ما لا يوافق هواه.
وبدأ يجمع كتباً يعارض بها كتاب الله ويؤسس فيها نحلته الفاجرة فألف الإتقان والإشتراقات ومجموعة الألواح والأقدس المطبوع ببغداد لأول مرة عام 1349هـ ويقع في 52 صفحة بالقطع المتوسط والذي هو أهم كتاب عندهم وهو في نظرهم أقدس من جميع الكتب المقدسة وقد حشاه بالآراء المضطربة والأقوال المتناقضة، ولم يخرج في جملته عن مثل ضلالات شيخه الباب، وإن كان نسخ جملة منها ويقول في الفقرة 275 ص26:"إنا أخبرنا الكل بأن لا يعادل بكلمة منك ما نزل في البيان إنك أنت المقتدر على ما تشاء".
هلاك حسين المازندراني
وقد استمر حسين المازندراني هذا في نشر افتراءاته وإشاعة أراجيفه بواسطة المؤسسات الماسونية ودعاة الصهيونية العالمية التي اتخذته مطية لقضاء مآربها وتحقيق أهدافها إلى أن أنهكته الحمى فهلك في اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سنة 1309هـ الموافق مايو 1892هـ بعد أن عمل على تمهيد الطريق لأكبر أولاده الذي سماه (عبد البهاء) عباس. إذ حاول قبيل هلاكه أن يجمع وصف الألوهية له ولولده هذا إذ كتب له يقول: من الله العزيز الحكيم إلى الله اللطيف الخبير"كما كان يلقبه بالفرع العظيم المتشعب من الأصل القديم. وقد ترك وراءه من زوجتيه أربعة أبناء وثلاث بنات.
تنازع الإخوة على الرئاسة
عندما أعلن عباس (عبد البهاء) أنه وصي أبيه نازعه أخوه محمد علي وانضم إليه بقية إخوانه غير أنه استطاع أن يستأثر بالأمر دونهم.
وقد كان عباس هذا أشد مكراً من أبيه وأعرق في الخبث والدهاء فأخذ يضم إلى ضلالات أبيه ضلالات أخرى وأخذ يتزلف إلى كل أعداء الإسلام في الأرض فقرر بنوة عيسى عليه السلام لله عز وجل وأعلن إيمانه بألوهية المسيح وصلبه مما قد نفاه الله عز وجل وفي ذلك يقول في مفاوضات عبد البهاء ص 102: ولما أشرقت كلمة الله من أوج الجلال بحكمة الحق المتعال في عالم الجسد اعتدى عليها في الجسد إذ وقعت في أيدي اليهود أسيرة لكل ظلوم وجهول وانتهى الأمر بالصلب. ويقول في"مكاتيب عبد البهاء ص13: وفي كور المسيح الأب والابن والواسطة روح القدس.
وادعى أن البهائي يجمع بين جميع الديانات فهو يقول في "خطابات عبد البهاء ص99: اعلم أن الملكوت ليس خاصاً بجمعية مخصوصة فإنك يمكن أن تكون بهائياً مسيحياً وبهائياً ماسونياً وبهائياً يهودياً وبهائياً مسلماً.
وقد أخذ عبد البهاء يدعو إلى التجمع الصهيوني ويحقق الغرض الذي من أجله أسست البهائية: وهو تغيير دين الإسلام والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وفي ذلك يقول في مفاوضات عبد البهاء ص59: وفي زمان ذلك الغصن الممتاز وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة.ثم يقول: فانظروا الآن تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة ويمتلكون الأراضي والقرى ويسكنون فيها ويزدادون تدريجياً إلى أن تصير فلسطين جميعاً وطناً لهم.
وقد ذكر فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين (الرابع عشر) الهجري في الجزء الثاني ص377 أن بعض دعاة البهائية فسر الفقرة الثانية من الإصحاح الثالث الثلاثين من سفر التثنية التي تقول: جاء الرب من سينا وأشرق من ساعير وتلألأ من جبل فاران"فقال: فهذه الآية المباركة تدل دلالة واضحة أن بين يدي الساعة وقدام مجيء القيامة لابد من أن يتجلى الله على الخلق أربع مرات ويظهر أربع ظهورات حتى يكمل بني إسرائيل وينتهي أمرهم إلى الرب الجليل فيجتمع شتيتهم من أقصى البلاد ويدفع عنهم كل العباد ويسكنهم في الأرض المقدسة ويرجع موازينهم القديمة.
وقد استمر هذا الأفاك في نشر ضلالاته وضلالات أبيه حتى أهلكه الله في يوم الاثنين السادس من ربيع الأول سنة 1340 هـ عن ثمان وسبعين سنة بعد أن عهد إلى المدعو شوقي ابن بنته ضيائية نكاية في أخيه محمد علي الذي استمر مناوئاً له إلى آخر رمق منه.
وقد حاول هؤلاء المجرمون نسخ الإسلام في كل شيء ولقد حملتهم هذه العداوة لدين الله أن حاربوا هديه حتى في عدة الشهور التي أطبق عليها بنوا البشر. فاخترعوا لأنفسهم تاريخاً جعلوا مبدأه يوم إعلان دعوة الباب وهو 5 من جمادى الأول سنة 1260هـ وجعلوا أشهر السنة تسعة عشر شهراً واخترعوا لهذه الشهور أسماء من وحي خيالهم ولبهم: وهي:
البهاء - الجمال - العظمة - النور - الرحمة - الكلمات - الأسماء - الكمال - العزة - المشيئة - العلم - القدر - القول - المسائل - الشرف - السلطان - الملك - العلا.
وهكذا حملتهم مصادفة بلوغ عدد جماعتهم عند إعلان دعوتهم تسعة عشر مرتداً أن جعلوا الشهور تسعة عشر شهراً والمهر تسعة عشر مثقالاً والزكاة تسعة عشر في المائة والصيام تسعة عشر يوماً إلى غير ذلك مما أسسوا به ديانة المصادفات.
هذه لمحة موجزة تلقي ضوءاً كاشفاً على هذا المذهب الهدام ولا نحب أن نقارن هنا بين تعاليم الإسلام التي ما تركت باباً تلج منه الإنسانية إلى أسباب سعادتها إلا دلت عليه وأمرت به وأوضحت سبيله ورسمت منهجه. ولا تركت باباً يدخل على الإنسانية منه شر إلا حذرت منه ونهت عنه.
لا نحب أن نقارن بين الإسلام دين الفطرة والعقل والعلم والنظام والرحمة والعدل وأحسن مناهج السلوك في سائر صنوف المعاملات.لانحب أن نقارن بين دين الله وبين هذه التلفيقات الهدامة والتضليلات المارقة والخرافات الباطلة لأن المثل يقول:
إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا
ألم ترَ أن السيف ينقص قدره
ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله للذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله متى الساعة". قال: "وما أعددت للساعة". قال: "حب الله ورسوله". قال: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: "فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: "فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم".
رواه مسلم
كيف نعد المعلم الصالح..
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
العملية التربوية - أيها الإخوة - تقوم على أربع قواعد: على معلّم، وعلى متعلّم، وعلى مادة تعلّم، وعلى طريقة يعلم بها. وما من ضرر، أو ضعف، أو انحراف، يصيب إحدى هذه القواعد، إلاّ أضر بالعملية كلّها، فعاقها عن الأهداف المبتغاة، وقصّر بها عن الآمال المرتجاة.
ولكنّ بعض الشر أهون من بعض، فما يصيب المتعلم من ضعف أو عجز، وما يلحق بالمادة العلمية من اضطراب أو تخمة، وما ينوب الطريقة من فوضى أو جمود، كل أولئك قد يهون على الأيام، ويقوّمُ فيستقيم.
ولكن المعلم إذا ما أصابه الفساد وكان غير صالح، فهنالك الخطب الفادح، هنالك ندعو واثبوراه، ولا ندعو ثبوراً واحداً، ولكن ندعو ثبوراً كثيراً.
لقد قال الناس كثيراً من القول بياناً لفضل المعلم، ولقد قالوا كثيراً فيما له من أيادٍ لا تمنن على تقدم العلم ونهوض الأمم، ولقد شكروا له ما يبذله من جهد في رفع مستوى الحياة الكريمة، وتحقيق الأهداف العظيمة، وإن المعلم لجدير بما قيل فيه من ثناء، حريّ بما يلاقيه من تكريم، على أنه - وا أسفاه - لا يزال دون المنزلة التي يستحقها في مجتمعات كثير من أمم هذا العالم الكنود.
ولكن المعلمين في هذه الدنيا كثير، فأيهم الذي استحق هذا الثناء؟ وأيهم الذي استأهل ذلكم التكريم؟ هنا نجد جواباً واحداً لا يختلف: هو المعلم الصالح، ولكن - مرة ثانية - ومن يكون المعلم الصالح؟ وهنا تختلف الإجابات، باختلاف أهداف التربية والتعليم لدى الأمم والجماعات، فلكل أمة هدف تُعِدُ المعلم لتحقيقه، ولكل جماعة غاية تريد المعلم أن يقود إليها.
ولنترك الناس يختلفون في أهدافهم ويختصمون، ولننظر نحن في هذا المعلم كيف يُنَشّأ، وماذا ينبغي له، لينتفع به الطلاب، ويصلح به المجتمع، ونجني على يديه الخير الكثير:
لا بد لهذا المعلم أن يمرّ بثلاث مراحل، على أنني أود أن أستدرك هنا فأقول: إن بعض المعلمين يخلقون معلمين بالفطرة، كما يخلق الشعراء وغيرهم من ذوي المواهب الفنية المطبوعة التي لا تخضع كثيراً لقواعد الصناعة، ولا تحتاج طويلاً إلى تخطيط دقيق.
أما هذه المراحل التي ينبغي أن يمر بها المعلم وأعني به هنا معلم المدرسة الابتدائية - وهو ما أريد أن أقصر عليه القول - وأرجو ألا أكون بذلك قد فجعت آمال كثير منكم، كانوا يتوقعون أن يشمل حديثي المعلم الصالح في جميع مراحل الدراسة، وإني لأعتذر إلى هؤلاء، فإن حديثاً واحداً لا يتسع للمعلمين الصالحين جميعاً، وليس من المنطق والحكمة أن نتحدث عن مدرس المرحلة المتوسطة والثانوية، قبل أن نتعرف مدرس المرحلة الابتدائية التي هي القاعدة والأساس فإذا صلُحت صلحت بقية المراحل، وإذا فسدت فهيهات هيهات
…
وعلى كل حال فالصورة التي سأرسمها للمعلم الصالح في المدرسة الابتدائية تعطيكم كثيراً من الصفات التي ينبغي أن تكون راسخة في المعلم الصالح لأي مرحلة من مراحل الدراسة. والآن أعود فأقول: لا بد للمعلم الصالح في المدرسة الابتدائية، أن يمر بثلاث مراحل: مرحلة التعلّم، ثم مرحلة الإعداد للتعليم، ثم مرحلة التعليم واتخاذه مهنة.
أما المرحلة الأولى
وهي مرحلة التعلّم فينبغي على وجه الإجمال ألا تقل عن مستوى التعليم الثانوي.
والمعلمون اللذون زاولوا مهنة التعليم وهم دون ذلك فينبغي أن تتاح لهم الفرص ليدركوا ما فات، كأن تُعقد لهم دورات صيفية،أو دراساتٌ ليلة، أو سنواتٌ تكميلية، إلى أن يصلوا هذا المستوى المطلوب.
ذلك لأن المرحلة الابتدائية على الرغم من أنها أدنى مراحل التعليم في نظرنا نحن الكبار – هي مرحلة صعبة كؤود في نظر الصبية الصغار ولن يستطيع أن يقوم بأعبائها، ويذلل صعابها، ويجعل التلاميذ قادرين على هضمها واساغتها، على نهج سليم واضح، يحقق أهداف التربية والتعليم، لا يستطيع أن يفعل ذلك، إلا معلمون على مستوى غير قليل من العلم والخلق الكريم والتدريب المحكم.
والمعلم الضعيف في مادته العلمية يُلحق أذى كبيراً بالتلاميذ، ويضيع عليهم فرصاً ذهبية في حياتهم الدراسية، قد تحتاج إلى زمن غير قصير كي تعوض، وربما لا تعوض أبداً.
والمعلم الضعيف إذا ما أضاع شخصيته العلمية لدى تلاميذه، لجأ إلى وسائل شتى كي يعوض ما أضاع، ولكن على حساب التلاميذ وحساب التربية والتعليم.
والتلاميذ الذين يحسون بضعف معلمهم يفقدون ثقتهم فيه، ولا يتلقّون قوله بالقبول ولو كان صواباً، ولا يجدون في أنفسهم الرغبة في سؤاله ومناقشته، وقد يتطور الأمر إلى كراهية الدرس والمدرس والمدرسة جميعاً.
وأنا أفضل أن يظل الطفل في بيت أهله سنة أو سنتين انتظاراً للمعلم الصالح على أن يذهب إلى المدرسة في سن مبكرة ليجد أمامه معلماً ليس بذي علم نافع ولا خلق كريم ولا طريقة ذات صلاح وجدوى. وقد يسيء هذا المعلم إلى تلميذه إساءة تقضي على مستقبل مضيء في حياته الدراسية.
المرحلة الثانية
وهي مرحلة الإعداد أو مرحلة الدراسة بمعاهد المعلمين.
هذه المرحلة امتدادٌ لمرحلة التعلم السابقة، لا تكاد تتميز عنها إلا في الشكل والتسمية.
غير أن مرحلة التعلّم السابقة مرحلة عامة واسعة الأبواب يدخلها كثير من الطلاب، ومرحلة الإعداد هذه ذات باب ضيق، ومصفاة دقيقة.
ذلك أنه ينبغي ألاّ يباح دخول معاهد المعلمين، إلا لمن نجح وحصل على معدّل جيد، في امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وهذا المعدل تقوم بتقديره لجنة مسئولة على ألاّ يقل معدّل الدرجات العم فيما أرى عن خمس وسبعين في المائة، أو على الأقل ألا يقل عن هذا المعدل في المواد التي سيتخصص في دراستها، وتدريسها في المستقبل.
وإن إغماض العيون عن هذا الشرط، وفتح أبواب معاهد المعلمين على مصاريعها لكل من نجح،دون اصطفاء واختيار، إن ذلك كان ولا يزال وسوف يظل من أعظم الأسباب في هبوط مستوى التعليم.
ليست المدرسة داراً لإزالة الأمية، وليس التلاميذ أوعية فارغة تملأ بالمعلومات، وإنما المدرسة مسجدٌ يهدي للتي هي أقوم، وأُمٌ تحنو وترضع العلم، وأبٌ يربي باللسان والقدوة الصالحة، وعيادةٌ نفسية تكشف الميول والغرائز وتشبعها بما طاب وأفاد ومصنعُ رجال يبني الشخصيات على أساس أن يعتمد التلميذ على نفسه بعد الاعتماد على الله وأن يشارك في عملية التعليم مشاركة إيجابية لا أن يقف منها موقف المستقبل المتكل على المعلم في كل شيء.
وقيادة التلاميذ على هذا المستوى، عملية شاقة، لا يستطيعها معلمون عاديون نتلقفهم كيفما اتفق، دون اختيار دقيق، وميزان مقسط.
ولما في عملية التعليم من تربية عظيمة ومقاصد سامية وتوجيهٍ هادف مستمد من الدين، كان لا بد أن نشترط في هذا الطلب الذي نعده للتعليم في المستقبل شرطاً أخلاقياً، هو في الحقيقة أعظم أهمية من الشرط العلمي السابق، ذلك أن الطالب المختار لمعاهد المعلمين، لابد أن يكون على حظٍ موفور من حميد الأخلاق وكريم السجايا على المستوى الجدير بالمسلم الحق.
وينبغي أن يعتمد في ذلك على شهادة أمنية صادقة من مدير مدرسته الذي أشرف على تعليمه، ومن معلميه الذين درّسوه وقتاً غير قصير، فالطالب الذي كان يؤدي واجباته الدينية طاعة واحتساباً، ويقوم بواجباته الدراسيةِ رغبة وصواباً، ثم كان ذا مودة وإحسان مع معلميه وزملائه، لم يتمرد على نظام، ولو يتأخر عن دوام، مثل هذا الطالب أهل لأن يكون معلماً صالحاً في المستقبل.
ولعل أقرب الصفات الحميدة إلى مهنة التدريس، وأوثقها صلة بالمعلم، هي التواضعُ والتعاونُ، والصبُر على العمل.
ولعل أقبح الصفات وأشدّها جفاء لمهنة التدريس هي الغرور، والملل، واللامبالاة.
ولن تجد معلماً ناجحاً صالحاً إلا وجدته متواضعاً يخفض جناحه لزملائه وتلاميذه، حريصاً على أداء الواجب، صبوراً على العمل، لا يتلمّس المعاذير في التقاعس عنه، معواناً على الخير كلما سنحت فرصة للعون، سواء أكان ذلك لرؤسائه أم لزملائه أم لتلاميذه.
ولن ترى معلماً خائباً غير موفق في تعليمه، إلا رأيته مغروراً لا يتقبل نصحاً، أو ملولاً لا يطيق عملاً، أو لا مبالياً لا يبالي أحضّر درسه أم لم يُحضّره، أفَهِم تلاميذه ما يقول لهم أم لم يفهموا، أدخَلَ على طلابه مع بَدْءِ الحصة أم بعد رُبْع ساعة، أقام الطلاب بواجباتهم أم لم يقوموا، هو لا يهتم بشيء من ذلكم ولا يكترث له، ولا يعرف المسئولية كيف تكون ومتى تكون وأين تكون.
وهناك صفة بالغة القيمة، ينبغي أن يتحلّى بها الطالب الذي نعدّه للتعليم في المستقبل، وينبغي أن نوليها عنايةً عظيمةً في مجال الاختيار والإعداد تلك هي الرغبة الصادقة في التعليم، على أن تكون رغبةً خاصةً لوجه الله، ليست لما يتوهمه أناس في هذه المهنة من سهولة العمل، أو حلاوة العطل، أو الحصول على وظيفة بأقلّ كلفةٍ وأيسر طريق.
فإذا وجدت الرغبة الصادقة الخالصة في التعليم، فسوف يجد صاحبها في هذه المهنة لذةً ومتعة، تنسيه المتاعب، وتذلل المصاعب، وتوقد في صدره العزيمة، فيدخل على تلاميذه ووجهه يطفح بالبشر، ويصدرُ عنهم وهو مطمئن الفؤاد.
أما الذي لا يرغب في التعليم، وكان قد أخطأ الظن والتقدير في هذه المهنة، فسوف تجده يراوغ فيها كما تراوغ الثعالب، ويذهب إلى غرف التدريس وهو يقتلع أقدامه من الأرض اقتلاعاً كأنما يساق إلى الموت.
فما جدوى هؤلاء وأمثالهم؟ ولم يشقى بهم التلاميذ، وتشقى بهم الأمة، ويحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم يوم يقوم الحساب.
وإذا كنت قد اشترطت في الطالب الذي أُعِدّه للتعليم أن يكون ذا معدلٍ جيد في الدرجات، وصفاتٍ حميدةٍ تلتزمُ الدين ورغبةٍ صادقةٍ في التعليم إذا كنت قد اشترطت ذلك كلّه فلست بناس أمراً رابعاً ذا أهمية عظمى.
ذلك أن يكون ذا صحة جيدة، ولسانٍ مبرأ ٍمن العيوب فصيح، وإذا كان زعماء السياسة وقادة الجماهير وخطباء المنابر إذا كان هؤلاء جميعاً لا يعرفون لهم سلاحاً أمضى من فصاحة اللسان، وسحر البيان، فإن المعلم لأولى من هؤلاء جميعاً أن يكون طلق اللسان فصيح اللهجة واضح الحروف، ذا حنجرة قوية الأوتار مرنان.
والآن وقد عرضت ما ينبغي أن يكون عليه الطالب المختار للتعليم، أرى أن لا غناء له عن سنتين يقضيهما في دراسة علمية ودراسة مسلكية في التربية، وعلم النفس، وطرق التدريس، والتدريب العملي، قبل أن يخرج إلى المرحلة الثالثة مرحلة العمل ومزاولة المهنة.
وهذه الدراسة ليست دراسة جامعية ولا نصف جامعية، وليست دراسة للثقافة العامة، وليست قادرة على أن تؤهل كل معلم لأن يعلم كل مادة من مواد المرحلة الابتدائية.
لهذا كله كان لا بد أن تقوم الدراسة في معاهد المعلمين على شيء من التخصص: تخصصٍ لتدريس الدين، تخصصٍ لتدريس اللغة العربية، تخصص لتدريس الرياضيات والعلوم.. وهكذا..
وينبغي أن يقوم بالتدريس في معاهد المعلمين هذه أساتذة ذوو اختصاص علمي وتجربة، وأن يكونوا على حظ عظيم من الثقافة الإسلامية، والأخلاق الكريمة والتمسك بالدين بحيث يكونون قدوة صالحة لطلابهم في السلوك والقول والعمل لأن طالب معاهد المعلمين إذا لم يجد في أساتذته الكبار قدوةً قيمةً صالحة، فمن الصعب أن يكون هذا الطالب في المستقبل قدوةً صالحةً لتلاميذه الصغار.
ولا بد أن تكون المواد الدراسية في معاهد المعلمين سواءٌ أكانت علميةً أم مسلكية لا بد أن تكون مقصورة على ما يحتاج إليه الطالب في تدريسه في المستقبل دون إسراف ولا إرهاق.
وعلى سبيل المثال يكون منهج اللغة العربية مقصوراً على دراسة القواعد والقراءة والنصوص والتعبير والإملاء والخط، وأن تكون مباحث القواعد هي المباحث المقررة في المرحلة الابتدائية ولكن على نطاق واسع وتطبيقات أدق، وأن تكون القراءة جهريةً في الكثير الغالب، لأنها هي التي يحتاج إليها المعلم، ويعوّل عليها في تدريسه، وأن تكون دراسة النصوص قائمة على التحليل والتذوق البعيدين عن الصناعة ومصطلحات البلاغة، مع حفظ كثير من هذه النصوص ليزداد الطالب تمكناً في اللغة، وقدرة على التعبير، وأن تكون دراسة الإملاء دقيقة شاملة كثيرة التطبيقات، كافية لأن تغسل العار الذي تسيل به دفاتر التحضير وأن يكون تدريس الإنشاء قائماً على كثرة الكتابة وحسن التوجيه.
أما النقد والبلاغة وتاريخ الأدب ونحو ذلك فلا حاجة إلى دراستها في هذه المعاهد، لأن المعلم لن يحتاج إلى تدريسها في المرحلة الابتدائية، وأرى أن نسير على هذا النهج وهذا المستوى في سائر المواد العلمية والمسلكية، فما يحتاج إليه الطالب معلمُ المستقبل نقرره عليه، وندرّسُه له، وما لا يحتاج إليه فلا داعي أن نرهقه به، ونُضيع عليه فرصة التوسع والتعمق في موادّ أخرى مفيدة له، فالمناهج إنما توضع على أساس أن يتسع لها الوقت، وعلى أساس أن تهضم وتستوعب، وعلى أساس أن ينتفع بها الطالب في مهنة المستقبل ويصطحبها حين تخرجه.
وبتخرّج الطالب من معهد المعلمين تنتهي المرحلة الثانية وهي مرحلة الإعداد وتبدأ المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة
وتبدأ المرحلة الثالثة بمزاولة المعلم عمله، وبتجريب ما تعلّمه، والذين يظنون أن مرحلة الإعداد قد انتهت بانتهاء الدراسة في معاهد المعلمين هم أناس يتعجلون، فدراسة الطالب في المعهد دراسة نظرية لم تخضع للتجربة الصادقة والتمحيص الدقيق، ودروس التطبيق التي قام بها في أثناء دراسته دروس قليلة غلب عليها طابع التصنع والتكلف، وأسابيع التدريب التي علّم فيها قبيل تخرجه قليلة لا تكسبه خبره، ولا تشعره بالمسؤولية.
أما حين يصبح معلماً رسمياً مسئولاً، يعلّم دروسه وهو يعلم أنه مسئول عما يعلّم وعمّن يعلم، وتلاميذه يعرفون منه ذلك، فهو يعيش حياة جديدة وتجارب جديدة، وتلاقيه الصعوبات والمفاجآت التي لم تخطر له على بال وحينئذٍ يلتفت يمنةً ويَسْرة، لعله يجد من ينصح ويرشد ويعين.
وهنا يجب على التوجيه التربوي أن يقوم بزيارات سريعة لهؤلاء المعلمين الجدد، وأن تستمر هذه الزيارات إلى أن يصبح التدريس عملية طبيعية لا تكلف فيها ولا تخوّف، وتصبح خطوات الدرس في دفاتر التحضير وفي غرف التدريس سليمة من الاضطراب ومن العثار.
وحينئذ نستطيع أن نقول إنه قد تم إعداده بصورة مبدئية.
ولكن لا بد لهذا المعلم أن يواصل إعداد نفسه بنفسه، غير راض أن يقف في أول الطريق، ولا على أولى درجات السلم، وعليه أن يبذل ما يستطيع من مال وجهد ووقت في سبيل تعميق مادته العلمية، وتوسيع ثقافته العامة، وتجديد معلوماته المسلكية، وعليه أن يقوم بتجارب متعددة في التدريس إلى أن يصل إلى ما هو أنجح وأجدى، أما إذا قنع بما ناله أيام الدراسة، واستعبدته طريقة واحدة من طرق التدريس فسوف يصدأ على الأيام ويبلى ويعلوه التراب، ويكون قد أضاع نفسه، وأضاع تلاميذه، وأضاع الأمانات التي حملها.
هذا، وعلى الوزارة المختصة ولا سيما قسم التوجيه التربوي، ألاّ تترك المعلمين وشأنهم، بل عليها أن تدعوهم إلى دورات صيفية عامة، أو دورات شهرية محلية، لتعرض عليهم ما لدى المختصين فيها، من جديد مفيد في شؤون العلم والتعليم وفي طرق التدريس، والتربية، وعلم النفس، وعليها أيضاً أن تستمع إلى آراء المعلمين في المناهج المقررة، وفي الكتب المدرسية. فهم أدرى الناس، وأعلمهم بما فيها من طول أو ضعف، أو صعاب، أو ارتفاع عن المستوى أو عدم صلاحية، وعليها أن تأخذ بآرائهم إذا رأت فيها الصواب وصدق التجربة.
هذا ما أردت أن أقوله لكم أيها الإخوة الكرام في سبيل إعداد المعلم الصالح للمرحلة الابتدائية.
ولقد كان في إمكاني أن أرسم صورة أخرى أكثر بريقاً وأشد لمعاناً وأبعد مثالية ولعلها صورة كانت تداعب خيال فريق منكم كما داعبت خيالي.
ولكني أردت معلماً صالحاً قريباً من الواقع أستطيع العثور عليه في هذه الدنيا بسهوله ويُسر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
…
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عله وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في أهل الأرض".
رواه البخاري
لَعَمري
بقلم: فضيلة الشيخ حماد محمد الأنصاري
المدرس بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فلقد جرى بيني وبين بعض الإخوان بحث مهم حول زعم النحويين إن كلمة "لعمري"نص في اليمين كما قال ابن مالك في ألفيته:
وفي نص يمين "ذا استقر"
وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم
وأثارت هذه الدعوى بيننا استشكالاً عميقاً لأنها لا تتلاءم مع نهي الشارع عن الحلف بغير الله على القول بأنها يمين شرعاً، لما ثبت في حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عند الشيخين.
قال البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وعند ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عكرمة قال: قال عمر: "حدثت قوماً حديثاً فقلت لا وأبي. فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم". قال الحافظ وهذا مرسل يتقوى بشواهده. وعند الترمذي من وجه آخر عن ابن عمر: "أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". قال الترمذي حسن وصححه الحاكم. وقال النووي: "قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر".
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: "قال عبد الله لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً". اهـ ج8 ص469. من المنصف91.
قال الهيثمي: "ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح". ج4 ص177.
وقال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها وجزم غيره بالتفصيل فقال فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك كافراً وعلى هذا يتنزل حديث الترمذي المذكور.
وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه. قال الماوردي لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحداً بشيء من ذلك وجب عزله لجهله - انتهى.
وهذا هو سبب الاستشكال المذكور آنفاً حول كلمة "لعمري" وفي ضمن البحث قلت إن لفظ "لعمري"ليس يميناً شرعياً بل هو يمين لغوية لخلوه من حروف القسم المعروفة المحصورة في الواو والباء والتاء ولعدم الكفارة على من أقسم بها. هذا مع ثبوت الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بها وصح عن بعض أصحابه رضي الله عنهم التفوه بها منهم ابن عباس وعثمان ابن أبي العاص وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم وكذلك صح عن التابعين لهم بإحسان استعمالها منهم عطاء وقتادة وغيرهما كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى. ولم يثبت عن أحد حسب الاستقراء مخالفتهم إلا ما حكي عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي.
قال عبد الرزاق اخبرنا معمر عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره "لعمرك"ولا يرى بـ"لعمري بأسا"قال معمر وكان الحسن يقول لا بأس بـ"وأيم الله"، ويقول قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وأيم الذي نفسي بيده". انتهى ج8 ص469- 471. وهما محجوجان بالنصوص الواردة في جواز التكلم بها إن لم نحمل قولهما على عدم بلوغ النصوص إليهما وهذا هو الأظهر المظنون بمثلهما أو على أنهما منعا ذلك سداً للذريعة. وأما قياس إبراهيم النخعي هذه الكلمة "لعمري"على قول الإنسان "وحياتي" فقياس مع فارق وهو باطل كما هو معروف في فن الأصول لأن الأخيرة معها واحد من حروف القسم التي أجمع على أنها صريحة في اليمين بخلاف تلك أي "لعمري" فإن اللام فيه ليست من أدوات القسم لما تقدم. بل مثل هذه اللفظة تعتبر جرياً على رسم اللغة تذكر لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به وليس الغرض فيه اليمين الشرعي فصورة القسم على هذا الوجه المذكور لا بأس به ولهذا شاع بين المسلمين استعمالها. وقد قال النووي في شرحه على حديث مسلم والدارمي وأبي داود أعني حديث إسماعيل بن جعفر قال مسلم النيسابوري القشيري في صحيحه حدثني يحيى بن جعفر قال مسلم النييسابوري القشيري في صحيحه حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد جميعاً عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه واسم أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ونافع هذا عم مالك بن أنس الإمام وهو تابعي سمى أنس بن مالك عن طلحة بن عبيد الله: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان. فقال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن
تطوع. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه أو دخل الجنة وأبيه إن صدق" وقال الحافظ محيى الدين النووي في شرحه: "هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"وجوابه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه" ليس حلفاً إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجواب المرضي وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام النووي هذا وزاد: "ولأبي داود مثل رواية مسلم لكن بحذف (أو) في قوله: "أفلح وأبيه إن صدق ودخل الجنة وأبيه إن صدق". ثم قال: "إن هذه كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرت على لسانهم (عقري وحلقي) وما أشبه ذلك أو فيه إضمار اسم الرب. وكأنه قال ورب أبيه وقيل هو خاص به صلى الله عليه وسلم ويحتاج هذا القول إلى دليل وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال هو تصحيف، وإنما كان والله فقصرت اللامان واستنكر القرطبي هذا وقال أنه يجزم الثقة بالرواية الصحيحة وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح لأنها ليست في الموطأ وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه".
قال البيهقي: "وأما الذي روينا في كتاب الصلاة عن طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح وأبيه إن صدق". فيحتمل أن يكون هذا القول منه صلى الله عليه وسلم قبل النهي ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة الكلام الجاري على الألسن وهو لا يقصد به القسم كلغو اليمين المعفو عنه. ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا كان منه على وجه التوقير والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم بل كان على وجه التوكيد.
ويحتمل أنه كان صلى الله عليه وسلم أضمر فيه اسم الله تعالى كأنه قال لا ورب أبيه وغيره لا يضمر بل يذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه". قال السهيلي في روض الأنف ج6 ص548 غزوة خيبر حول شرح "فاغفر فداء لك ما أبقينا" بعنوان "استعمال الكلمة في غير موضعها"قال في ذلك: "فرب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له أولا كما جاءوا بلفظ القسم في غير موضع القسم إذا أرادوا تعجباً واستعظاماً لأمر كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأعرابي من رواية إسماعيل بن جعفر: "أفلح وأبيه إن صدق" ومحال أن يقصد صلى الله عليه وسلم القسم بغير الله تبارك وتعالى لا سيما برجل مات عليه الكفر وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم ولفظ القسم في أصل وضعه لما يعظم فاتسع في اللفظ على هذا الوجه قال الشاعر:
فلا وأبي أعدائها لا أخونها
فإن تك ليلى استودعتني أمانة
لم يرد أن يقسم بأبي أعدائها ولكنه ضرب من التعجب وقد ذهب أكثر شراح الحديث إلى النسخ في قوله: "أفلح وأبيه" قالوا نسخه قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" وهذا قول لا يصح لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف قبل النسخ بغير الله ويقسم بقوم كفار وما أبعد هذا من شيمته صلى الله عليه وسلم تالله ما فعل هذا قط ولا كان له بخلق، وقال قوم رواية إسماعيل بن جعفر مصفحة وإنما هو "أفلح والله إن صدق"وهذا أيضاً منكر من القول واعتراض على الاثبات العدول فيما حفظوا. وقد خرج مسلم في كتاب الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام لرجل سأله أي الصدقة أفضل فقال:"وأبيك لأنبئنك أو قال لأخبرنك "وذكر الحديث. وخرج في كتاب البر والصلة قوله لرجل سأله: "من أحق الناس بأن أبره؟ أو قال: "أصله فقال وأبيك لأنبئك صل أمك" الحديث.
فقال: "في هذه الأحاديث كما ترى "وأبيك" فلم يأت إسماعيل بن جعفر إذا في روايته بشيء إمر ولا بقول بدع. وقد حمل عليه في روايته رجل من علماء بلادنا وعظماء محدثيها يعني الحافظ بن عبد البر وغفل عفا الله عنه عن الحديثين اللذين تقدم ذكرهما وقد خرجهما مسلم بن الحجاج وفي تراجم أبي داود في كتاب الإيمان في مصنفه ما يدل على أنه كان يذهب إلى قول من قال بالنسخ وأن القسم بالآباء كان جائزاً. والذي ذكرناه ليس في باب الحلف بالآباء كما قدمنا ولا قال في الحديث وأبي، وإنما قال وأبيه أو وأبيك بالإضافة إلى ضمير المخاطب أو الغائب وبهذا الشرط يخرج عن معنى الحلف إلى معنى التعجب الذي ذكرناه هكذا في الروض الآنف ج6 ص548 في غزوة خيبر الطبعة الأخيرة.
وقال الحافظ: "وأقوى الأجوبة الأولان وهما أن هذا كان قبل النهي أو أنها كلمة جارية على اللسان كما تقدم في كلام النووي. وكونه منسوخاً أصح لحديث عمر وابنه".
فصل في ذكر بعض ما ورد في هذه الكلمة مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً.
فهاك أيها القارئ الطالب للحق بعض ما ورد في هذه الكلمة مرفوعاً اسرده لك بعدما مهدت به على هذه المسألة ولقد فتشت وسألت عمن ألف في خصوصيتها فلم أجد من قرع بابها قبل قلمي هذا.
فأقول وبالله التوفيق (الأحاديث المرفوعة) في المسألة قولاً وتقريراً من الشارع صلى الله عليه وسلم قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت عن عمه بن صحار التميمي أنه مر بقوم فأتوه فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل فأتوه برجل معتوه في القيود فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق" وقال أبو داود أيضا في سننه حدثنا عبد الله بن مسلمة عبد مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: "نزلت وأنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئاً نأكله فجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أجد ما أعطيك"فتولى الرجل وهو مغضب وهو يقول: "لعمري إنك لتعطي من شئت"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغضب عليّ أن لا أجد ما أعطيه. من سأل منكم وله أوقية أو عد لها فقد سأل إلحافا". قال الأسدي فقلت للقحة لنا خير من أوقية والأوقية أربعون درهماً قال فرجعت ولم أسأله فقدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير أو زبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتى أغنانا الله عز وجل"، قال أبو داود هكذا روى الثوري كما قال مالك. انتهى.
"فصل"في الآثار عن الصحابة
وقد تقدم أن سبعة من الصحابة نطقوا بهذه الكلمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي روى حديث النهي عن الحلف بغير الله فقد ثبت عنه في كتابه إلى أبي عبيدة بن الجراح أنه قال:
"أما بعد فقد قدم عليّ أخو ثمالة بكتابك يخبرني فيه بنفر الروم إلى المسلمين براً وبحراً وبما جاشوا عليكم من أساقفتهم وقسيسهم ورهبانهم وإن ربنا المحمود عندنا والصانع لنا والعظيم ذا المن والنعمة الدائمة علينا قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حيث بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأعزه بالنصرة ونصره بالرعب على عدوه وقال وهو لا يخلف الميعاد {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فلا تهولنك كثرة ما جاءك منهم فإن الله منهم بريء من برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرة وإن يكله الله إلى نفسه ويخذله ولا توحشنك قلة المسلمين في المشركين فإن الله معك وليس قليلاً من كان الله معه فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم وتستظهر بالله عليهم وكفى به ظهيراً وولياً ونصيراً. وقد فهمت مقالتك احتسب أنفس المسلمين إن هم أقاموا ودينهم إن هم تفرقوا فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته ويأتيهم بغياث من قبله.
وأيم الله لولا استثناؤك بهذا لقد كنت أسأت ولعمري إن أقام لهم المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خير الأبرار ولقد قال الله عز وجل {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فطوبى للشهداء وإن لمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين لأسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطنه فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا الموت في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعده ولا استكانوا لمصيبتهم ولكنهم تأسوا بها وجاهدوا في الله من خالفهم منهم وفارق دوينهم ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصيروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. فأما قولك أنهم قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإن لا يكن لكم بهم قبل فإن لله بهم قبلا ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا ولو كنا والله إنما نقاتل الناس بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا ولكن نتوكل على الله ربنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصرة والرحمة وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال فأخلصوا لله نيتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم فتفلحون".
قال أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة ذكرها صاحب فتوح الشام ص 162.
قلت: قال أبو عبد الله الواقدي مؤلف فتوج الشام والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح إلا الصدق وما نقلت أحاديثها إلا عن الثقات.
قال الخطيب البغدادي في كتابه الموضح: "أخبرنا السكري أخبرنا جعفر الواسطي أخبرنا ابن المتوكل أخبرنا المدائني قال: قال عبد الله بن فائد وغسان ابن عبد الحميد عن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة أنشدني مرثيتك أخاك مالكاً فأنشده:
ولا جزعاً مني وإن كنت موجعا
لعمري وما عمري بتابين هالك
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة قالت فجلست إلى الأرض فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه فأنا أتخوّف على أطراف سعد قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم فمر وهو يرتجز ويقول:
ما أحسن الموت إذا حان الأجل
ليث قليلاً يشهد الهيجا حمل
قالت فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه تسبغة له تعني المغفر فقال عمر رضي الله عنه ما جاء بك"لعمري"والله إنك لجريئة وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تخور قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت في ساعتئذ فدخلت فيها فرفع الرجل التسبغة عن وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التخور أو الفرار إلا إلى الله" الحديث ذكره ابن كثير بطوله جـ3 ص479.
ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما فقد جاء عن جويرية بنت أسماء عن نافع بن شيبة قال: "لقي الحسين معاوية بمكة عند الردم فأخذ بخطام راحلته فأناخ به ثم ساره طويلاً وانصرف فزجر معاوية الراحلة فقال له ابنه يزيد لا يزال الرجل قد عرض لك فأناخ بك"قال: "دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله"في كلام طويل إلى أن قال: "وقال ابن عمر للحسين: "لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة وإنك بضعة منه ولا تنالها ثم اعتنقه وبكى وودعه فكان ابن عمر يقول غلبنا بخروجه ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن يتحرك". انتهى من سير النبلاء جـ3ص199.
ومنهم ابن عباس قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري من بني قشير قبيلة من العرب معروفة النيسابوري في باب النساء الغازيات جـ12 ص190: "حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا سليمان يعني ابن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن خمس خلال فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كاتبت إليه كتب إليه نجدة [1] أما بعد فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهم بسهم وهل كان يقتل الصبيان ومتى يتقضى يتم اليتيم وعن الخمس لمن هو؟
فكتب إليه ابن عباس رضي الله عنهما كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن وان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان، وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم"فلعمري" إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو، وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذلك"وأخرج مسلم عن عروة ابن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال ان ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فناداه أنك لجلف جاف"فلعمري"لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فوالله لأن فعلتها لأرجمنك بأحجارك والمراد بالرجل ابن عباس انتهى من مسلم في باب نكاح المتعة جـ1 ص452.
وأما عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد نطقت بـ"لعمري".
قال محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في باب قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال قلت: "أكذبوا أم كذّبوا"قالت عائشة: "كذّبوا"قلت: "فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن"قالت: "أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك"فقلت لها: "وظنوا أنهم قد كذبوا"قالت: "معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها"قلت: "فما هذه الآية؟ "قالت: "هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأسوا ممن كذبوهم من قومهم فظنت الرسل أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك".
وأخرج الحاكم في مستدركه بسنده إلى عبد الله بن وهب أخبرني عمرو ابن الحارث أن بكيراً حدثه أن أمه حدثته: أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان فلما داوته عائشة وفرغت منه رأت في رجليه خلخالين جديدين فقالت عائشة أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئاً كتبه الله عليه لو رأيتهما ما تداوى عندي وما مرّ عندي لعمري للخلخالين من فضة أطهر من هذين قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص سمعه ابن وهب منه.
وأما عثمان بن أبي العاص فقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري"[2] وقال الحافظ بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة: "ذكر المرزباني في معجم الشعراء أن عثمان بن بشر بن دهمان كان قد شد في الجاهلية على عمرو بن معد يكرب فهرب عمرو فقال عثمان:
حواسر يخمشن الوجوه على عمرو
لعمرك لولا الليل قامت مآتم
وأما أبو عبيدة بن الجراح: فإنه ثبت أنه تكلم بها في كتابه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح.
سلام عليكم فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:
فإن الروم قد أقبلت فنزلت فحل طائفة منهم مع أهلها وقد سارع إليهم أهل البلد ومن كان على دينهم من العرب وقد أرسلوا إلي أن أخرج من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب وأنكم لستم لها بأهل والحقوا ببلادكم بلاد الشقاء والبؤس فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ثم أعطينا لله عهداً أن لا ننصرف عنكم ومنكم عين تطرف فأرسلت إليهم: أما قولكم أخرجوا من بلادنا فلستم بأهله فلعمري ما كنا لنخرج منها وقد دخلناها وورّثناها الله منكم ونزعناها من أيديكم وإنما البلاد بلاد الله والعباد عباده وهو ملك الملوك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وأما ما ذكرتم من بلادنا وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء فقد صدقتم قد أبدلنا الله بها بلادكم بلاد العيش الرفيغ أي الواسع والسعر الرخيص والفواكه الكثيرة فلا تحسبونا بتاركيها ولا منصرفين عنها ولكن أقيموا لنا فوالله لا نجشمكم إتياننا ولتأتينكم إن أقمتم لنا فكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلاً على الله راضياً بقضاء الله واثقاً بنصر الله كفانا الله وإياكم والمؤمنين مكيدة كل كائد وحسد كل حاسد ونصر الله أهل دينه نصراً عزيزاً وفتح لهم فتحاً يسيراً وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً. انتهى. من جمهرة رسائل العرب وقد عزاها صاحبها إلى فتوح الشام ص109.
وروى البزار بسند فيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو ضعيف جداً وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به عن جابر قال دخل علي بن أبي طالب على فاطمة رضي الله عنها يوم أحد فقال-
فلست برعديد ولا بلئيم أفاطمة هاك السيف غير ذميم
ومرضاة رب بالعباد عليم
"لعمري"لقد أبليت في نصر أحمد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وابن الصمة وذكر آخر فنسيه علي فقال جبريل صلى الله عليه وسلم يا محمد هذا وأبيك المواساة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل إنه مني فقال جبريل وأنا منكما انتهى من مجمع الزوائد جـ6 ص 122.
وأما أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقد ذكر الحافظ الذهبي في سير النبلاء انها فاهت بهذه الكلمة بما لفظه سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال قدمت أسماء من الحبشة فقال لها عمر يا حبشية سبقناكم بالهجرة فقالت "لعمري"لقد صدقت كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعلم جاهلكم وكنا البعداء الطرداء أما والله لأذكرنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان.
وكذلك الصحابي الذي جاءه الأسدي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أقره صلى الله عليه وسلم على النطق بها لما تولى وهو مغضب حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد ما أعطيك فقال "لعمري" إنك لتعطي من شئت الحديث تقدم عند أبي داود في باب الأحاديث المرفوعة ومنهم أبو هريرة.
(قال عبد الرزاق) باب الحلف بغير الله وأيم الله "ولعمري"
قال الراوي أخبرها عبد الرزاق قال أخبرها ابن جريج قال سمعت عطاء يقول كان خالد بن العاص وشيبة بن عثمان يقولان إذا أقسما "وأبي" فنهاهما أبو هريرة عن ذلك أن يحلفا بآبائهما قال فغير شيبة فقال"لعمري"وذلك أن إنساناً سأل عطاء عن "لعمري"وعن"لا"ها الله إذا أبهما بأس فقال لا ثم حدث هذا الحديث عن أبي هريرة وأقول ما لم يكن حلف بغير الله فلا بأس فليس"لعمري"بقسم. انتهى منه جـ8 ص469 إلى 471.
ورور عبد الرزاق أيضاً عن الثوري عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذا الصلوات المكتوبة حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى"ولعمري"ما أخال أحدكم إلا وقد اتخذ مسجداً في بيته ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه أو معروف نفاقه ولقد رأيت الرجل يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف فما من رجل يتطهر فيحسن الطهور فيخطو خطوة يعمد بها إلى مسجد لله تعالى إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى إن كنا لنقارب في الخطا جـ -1 ص 516 [3] .
الأحاديث المقطوعة في المسألة.
وقد ذكرنا في أول التمهيد أن كلمة "لعمري" تكلم بها التابعون منهم عمر بن عبد العزيز فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة وكان عاملاً على البصرة: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أن قبلك عمالاً قد ظهرت خيانتهم وتسألني أن آذن لك في عذابهم كأنك ترى أن لك جنة من دون الله فإذا جاءك كتابي هذا فإن قامت عليهم بينة فخذهم بذلك وإلا فاحلفهم دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما اختانوا من مال المسلمين شيئاً فإن حلفوا فخل سبيلهم فإنما هو مال المسلمين وليس للشحيح منهم إلا جهد إيمانهم "ولعمري" لأن يلقوا الله بخياناتهم أحبّ إليّ من أن ألقى الله بدمائهم والسلام - انتهى سيرة عمر بن عبد العزيز للإمام مالك ص55.
وذكر ابن كثير أنه لما احتضر عمر بن عبد العزيز سمع غسالاً يغسل الثياب فقال ما هذا فقالوا غسالاً فقال يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم ولم آل الخلافة ثم تمثل فقال:
ودانت في الدنيا بوقع البواتر
لعمري لقد عمرت في الملك برهة
ولي سلّمت كل الملوك الجبابر
وأعطيت حمر المال والحكم والنهي
كحلم مضى في المزمنات الغوابر
وأضحى الذي قد كان مما برني
ولم أسع في لذات عيش نواضر
فيا ليتني لم أعن بالملك ليلة
وقد أنشد هذه الأبيات أيضاً معاوية بن أبي سفيان عند موته وقال عمر بن عبد العزيز لزوجته فاطمة بنت عبد الملك قد علمت حال هذا الجوهر كلها وما صنع فيه أبوك ومن أين أصابه فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه فإن خلصت إليه أنفقته وإن مت قبل ذلك "فلعمري"ليردنه إليك قالت له افعل ما شئت ففعل ذلك فمات رحمه الله تعالى ولم يصل إليه فرد ذلك عليها أخوها يريد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه وقالت ما كنت لأتركه ثم آخذه فقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه. انتهى من سيرة عمر بن عبد العزيز برواية مالك بن أنس تأليف أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم ص53.
وقال أيضاً كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان والي المدينة أما بعد فقد قرأت كتابك إلى سليمان تذكر فيه أنه كان يقطع لمن كان قبلك من أمراء المدينة من الشمع كذا وكذا يستضيئون به في مخرجهم فابتليت بجوابك فيه "ولعمري"لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح "ولعمري "لأنت يومتئذ خير منك اليوم ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك والسلام- انتهى منه ص55.
وقال أيضاً دخل عمر بن عبد العزيز على الوليد بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة فإذا خلا لك عقلك واجتمع فهمك فسلني عنها قال ما يمنعك منها الآن قال أنت أعلم إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم، فمكث أياماً ثم قال يا غلام من بالباب فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز فقال أدخله فدخل عليه فقال نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم وإن عمالك يقتلون ويكتبون أن ذنب فلان المقتول كذا وكذا وأنت المسؤول عنه ومأخوذ به فاكتب إليهم أن لا يقتل أحد منهم أحدا حتى يكتب إليك بذنبه ثم يشهد عليه ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك قال بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك عليّ بكتاب فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يخرج من ذلك إلا الحجاج فإنه أمضه وشق عليه وأقلقه وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك فقال من أين دهينا أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره ثم أن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري جاف من بكر بن وائل ثم قال له الحجاج ما تقول في معاوية فنال منه قال له ما تقول في يزيد فسبه قال فما تقول في عبد الملك فظلّمه قال فما تقول في الوليد فقال اجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك قال فسكت عنه الحجاج واقترضها منه ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه أنا أحوط لديني وأرعى لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد ما تقول فيّ قال ظالم جائر جبار قال ما تقول في عبد الملك قال جبار عات قال فما تقول في معاوية قال ظالم قال الوليد لابن الريان اضرب عنقه فضرب عنقه ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال يا غلام اردد عليّ عمر فرده عليه فقال يا أبا حفص ما تقول
في هذا أصبنا فيه أم أخطأنا فقال عمر ما أصبت بقتله ولغير ذلك أرشد وأصوب كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك قال "لعمري" ما أستحله لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه فقام الوليد مغضباً فقال ابن الريان لعمر يغفر الله لك يا أبا حفص لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أن يأمرني بضرب عنقك فقال عمر ولو أمرك كنت تفعل قال أي"لعمري"قال عمر أذهب إليك - انتهى ص115.
ومنهم قتادة، قال ابن جرير في تفسيره الجليل حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} قال فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري "لعمري"أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفته الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام:{وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} .
ومنهم عطاء فقد أخرج الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في باب طواف النساء مع الرجال قال وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت بعد الحجاب أو قبل قال إي "لعمري"لقد أدركته بعد الحجاب قلت كيف يخالطن الرجال قال لم يكن يخالطن. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن عطاء قال قلت له أيحق على النساء إذا سمعن الأذان أن يجبن كما هو حق على الرجال قال لا "لعمري" جـ3 ص 147.
فصل في أقوال أئمة التفسير واللغة في "لعمرك"
قال الإمام أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الفقيه الحنفي الخوارزمي المولود سنة 538 المتوفى سنة 616 في كتابه المغرب في ترتيب المعرب العمر بالضم والفتح البقاء إلا أن الفتح غلب في القسم حتى لا يجوز فيه إلا الفتح ويقال لعمرك ولعمر الله لأفعلن كذا وارتفاعه على الابتداء وخبره محذوف.
وقال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير في النهاية في غريب الحديث وفي الحديث أنه اشترى من أعرابي حمل خبط فلما وجب البيع قال له اختر فقال له الأعرابي عمرك الله بيّعا أي أسأل الله تعميرك وأن يطيل عمرك والعمر بالفتح العمر ولا يقال في القسم إلا بالفتح وبيعا منصوب على التمييز أي عمرك الله من بيّع ومنه حديث لعمر الهك هو قسم ببقاء الله ودوامه وهو رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره لعمر الله قسمي أو ما أقسم به واللام للتوكيد فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر، فقلت عمر الله وعمرك الله أي بإقرارك لله وتعميرك له بالبقاء.
قال القرطبي في تفسيره والعمر بضم العين وفتحها لغتان ومعناهما واحد إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال، وتقول عمرك الله أي أسأل الله تعميرك وكره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري لأن معناه وحياتي قال إبراهيم النخعي يكره للرجل أن يقول لعمري لأنه حلف بحياة نفسه وذلك من كلام ضعفة الرجال ونحو هذا قال مالك أن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك وليس من كلام أهل الذكران وإن كان الله سبحانه أقسم به في قصة لوط عليه السلام فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره وقال ابن حبيب ينبغي أن يصرف"لعمرك"في الكلام لهذه الآية وقال قتادة هو من كلام العرب قال ابن العربي وبه أقول لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه وقال القرطبي القسم بلعمرك ولعمري في أشعار العرب وفصيح كلامهم كثير قال النابغة الذبياني:
لقد نطقت بطلا عليّ الاقارع
لعمري وما عمري عليّ بهين
أراد بالأقارع بني قريع بن عوف وكانوا قد وشوا به إلى النعمان.
وقال طرفة العبد:
لك الطول المرضى وثنياه باليد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
والطول بكسر الطاء وفتح الواو الحبل قوله وثنياه أي ما ثنى منه ثم قال وقال بعض أهل المعاني لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله عمر وإنما هو تعالى أزلي ذكره الزهراوي وقال أبو حيان في البحر المحيط وهذا الكلام يوهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك العمر والعمر البقاء.
وقال الجوهري في صحاحه قال ابن الأعرابي احتشمته أغضبته وأنشد:
بطئ النضج محشوم الاكيل
لعمرك إن قرص أبي خبيب
وقال في صحاحه أيضا:
عمر الرجل بالكسر يعمر عمراً وعمراً وعلى غير قياس مصدره التحريك أي عاش زمناً طويلاً ومنه قولهم أطال الله عمرك والعمر وهما وإن كانا مصدرين بمعنى واحد إلا أنه استعمل في القسم أحدهما وهو المفتوح فإذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء قلت لعمر الله واللام لتوكيد الابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي أو ما أقسم به، فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وقلت عمر الله ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت ومعنى لعمر الله وعمر الله أحلف ببقاء الله ودوامه وإذا قلت عمرك الله فكأنك قلت بتعميرك الله أي بإقرارك له بالبقاء.
وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
قمرك الله كيف يلتقيان
أيها المنكح الثريا سهيلاً
أي سألت الله أن يطيل عمرك لأنه لم يرد القسم بذلك.
قال أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المعروف بابن المنظور الإفريقي المصري الأنصاري الخزرجي في كتابه لسان العرب العمر بالفتح والعمر بالضم والعمر بضم العين والميم الحياة يقال قد طال عمره وعمره لغتان فصيحتان فإذا أقسموا قال في القسم "لعمري ولعمرك"يرفعونه بالابتداء ويضمرون الخبر كأنه قال "لعمرك"قسمي أو يميني أو ما أحلف به.
قال ابن جني ومما يجيزه القياس غير أنه لم يرد به الاستعمال خبر العمر من قولهم لعمرك لأقومنّ فهذا مبتدأ محذوف الخبر وأصله لو أظهر خبره لعمرك ما أقسم به فصار طول الكلام بجواب القسم عوضاً من الخبر.
وقيل العمر هاهنا الدين وأياً كان فإنه لا يستعمل في القسم إلا مفتوحاً وفي التنزيل العزيز {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} لم يقرأ إلا بالفتح.
وقال أبو حيان قال أبو الهيثم النحوي"لعمرك" لدينك الذي تعمر وقال ابن الأعرابي عمرت ربي أي عبدته وفلان عامر لربه أي عابد قال ويقال تركت فلاناً يعمر ربه أي يعبده فعلى هذا لعمرك لعبادتك وقال الزجاج ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمري فلزموا الأخف وقد تقدم من كلام القرطبي أن قتادة قال لعمري ولعمرك من كلام العرب قال ابن العربي وبه أقول لكن الشرع قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه وقال ابن منظور روى عن ابن عباس في قوله تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} الآية أي لحياتك قال وما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وقال قال أبو الهيثم ويقولون معنى لعمرك لدينك الذي تعمر وأنشد بيت عمر بن أبي ربيعة المتقدم قال عمرك الله عبدتك الله فنصب وأنشد:
وذرينا من قول من يؤذينا
عمرك الله ساعة حدثينا
فأوقع الفعل على الله عز وجل في قوله "عمرك الله وقال الأخفش في قوله {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} الآية وعيشك وإنما يريد العمر وقال أهل البصرة اضمر له ما رفعه لعمرك المحلوف به وقال الفراء الإيمان يرفعها جواباتها.
قال الأزهري وتدخل اللام في لعمرك فإذا أدخلتها رفعت بها بالابتداء فقلت لعمرك ولعمر أبيك فإذا قلت لعمر أبيك الخير نصبت الخير وخفضت فمن نصب أراد أن أباك عمر الخير يعمره عمراً وعمارة فنصب الخير بوقوع العمر عليه ومن خفض الخير جعله نعتاً لأبيك وقال المبرد في قوله عمرك الله إن شئت جعلت نصبه بفعل أضمرته وإن شئت نصبته بواو حذفته وعمرك الله وإن شئت كان على قولك عمّرتك الله تعميرا وأنشدتك الله نشيداً ثم وضعت عمرك في موضع التعمير وأنشد فيه:
هل كنت جارتنا أيام ذي سلم
عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا
يريد ذكرتك الله وقال الأزهري عمرك الله مثل نشدتك الله قال أبو عبيد سألت الفراء لم أرتفع لعمرك فقال على إضمار قسم ثان كأنه قال وعمرك فلعمرك عظيم وكذلك لحياتك مثله قال والدليل على ذلك قول الله عز وجل {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} الآية.. كأنه أراد والله ليجمعنكم فأضمر القسم، قال المبرد وفي لغة وعملك يريدون لعمرك ومنه قول عمارة بن عقيل الحنظلي:
تعرض لي من طائر لصدوق
عملك ان الطائر الواقع الذي
وتقول إنك عمري لظريف وقال ابن منظور العرب تقول عمرك الله افعل كذا وإلا فعلت كذا بالنصب وهو من الأسماء الموضوعة في موضع المصادر المنصوبة على إضمار الفعل المتروك إظهاره وأصله من عمّرتك الله تعميرا فحذفت زيادته فجاء على الفعل وأعمرك الله أن تفعل كذا كأنك تحلّفه بالله وتسأله بطول عمرك قال الشاعر:
ألوي عليك لو أن لبك يهتدي
عمرتك الله الجليل فإنني
قال الكسائي عمرك الله لا أفعل ذاك نصب على معنى عمرتك الله أي سألت الله أن يعمّرك كأنه قال عمرت الله إياك قال ويقال أنه يمين بغير واو وقد يكون عمر الله وهو قبيح وعمر الله يعمر عمراً وعمارة وعمراً وعمر يعمر ويعمر الأخيرة عن سيبويه كلاهما عاش وبقي زمناً طويلاً.
قال لبيد:
لو كان للنفس اللجوج خلود
وعمرت حرسا قبل مجرى داحس
وأنشد محمد بن سلام كلمة جرير:
لقد حديت تيم حداء عصبصبا
لئن عمرت تيم زماناً بغرة
ومنه قولهم أطال الله عمرك قال الحافظ بن عبد البر في الاستيعاب قال عمرو بن الأهتم التميمي:
لصالح أخلاق الرجال سروق
ذريني فإن البخل يا أم هيتم
ولكن أخلاق الرجال تضيق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
وقال الحافظ بن حجر قال هشام بن الكلبي حدثني جعفر بن كلاب أن عمر بن الخطاب ولى علقمة بن علاثة العامري حوران فنزلها إلى أن مات وخرج إليه الحطيئة في جده قد مات وأوصى له بجائزة فرثاه بقصيدة منها:
وبين الغنى إلا ليال قلائل فما كان بينني لولقيتك سالماً
بحور أن أمسى أدركته الحبائل لعمري لنعم المرء من آل جعفر
وأقوال الشعراء في هذه الكلمة كثيرة.
فصل في بيان أقوال أئمة المذاهب في الكلمة المسؤول عن حكمها
أما الإمام مالك ففي المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن القاسم وغيره عن مالك رحمه الله قال سحنون قلت أرايت قوله "لعمري "أتكون هذه يميناً قال قال مالك لا تكون يميناً.
قال الحطاب في كتابه مواهب الجليل شرح مختصر خليل لأبي المودة الجندي التركي المالكي ما نصه وقوله"لعمري"أو هو زان أو سارق أو قال والصلاة والصيام والحج أو قال هو يأكل لحم الخنزير والميتة أو يشرب الدم أو الخمر أو يترك الصلاة أو عليه لعنة الله أو غضبه أو أدخله الله النار وكل ما دعى به على نفسه لم يكن بشيء من هذا يميناً.
وأما الإمام امام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني فقد قال الموفق بن قدامة في المغني قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد سئل عن الرفع إي "لعمري"ومن يشك في هذا كان ابن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه وأمره أن يرفع وقال في موضع آخر في نفس الكتاب وإن قال "لعمري"أو "لعمرك"أو"عمرك"فليس بيمين، في قول أكثرهم وقال الحسن في قوله "لعمري"عليه الكفارة ثم قال والدليل على أنه ليس بيمين أنه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذاك لأن هذا اللفظ يكون قسماً بحياة الذي أضيف إليه العمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو أقسم به والعمر الحياة والبقاء وقال أبو عبد الله محمد بن مفلح في كتابه الفروع وإن قال "لعمري"أو قطع الله يديه ورجليه أو أدخله الله النار إن فعل كذا فذلك لغو نص عليه الإمام أحمد ولا يلزمه إبرار القسم في الأصح.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مختصر الإنصاف وإن قال لعمري أو لعمرك فليس بيمين في قول الأكثر وقال الحسن في قول"لعمري" كفارة وبمثل هذا أفتى حفيده الشيخ عبد اللطيف في منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس العراقي حيث قال إن المذهب والأكثر لا يرى أن لعمري أو لعمرك يمين وانتفاء الكفارة لانتفاء اليمين. وأما قول الحسن فمرجوح كما تقدم وقد يكون يوجب الكفارة لمعصية القائل وفجوره مع أن اليمين غير مقصودة بها بل هذا يجري على ألسنتهم من غير قصد كقوله عقري وحلقي وقوله ثكلتك أمك بل هو غير معلوم وغير مفهوم من كلام أهل العلم والإيمان وأئمة هذا الشأن أنه يمين بل صريح كلامهم نفي هذا وأنه ليس بقسم ثم قال وليس الغرض اليمين الشرعية وتشبيه غير الله به وفي التعظيم حتى يرد عليه أن الحلف بغير اسمه تعالى وصفاته عز وجل مكروه كما صرح به النووي في شرحه على مسلم بل الظاهر من كلام الحنفية أنه كفر إن كان باعتقاد أنه حلف يجب البر به وحرام إن كان بدونه كما صرح به بعض الفضلاء.
3-
الأحناف أما المذهب الحنفي فقد قال العيني في عمدة القاري شرح البخاري وإذا قال "لعمري"فقال الحسن البصري عليه الكفارة إذا حنث فيها وسائر الفقهاء لا يرون فيها كفارة لأنها ليست عندهم يمينا انتهى.
خاتمة المطاف
لقد تبين مما تقدم من النصوص الدالة على أن كلمة "لعمري" ليست يميناً شرعية تجب الكفارة به تبين من ذلك أن اليمين الشرعية هي اليمين التي تجب الكفارة على من حلف بها إذا حنث. وأما ما ذكره ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن ص 428 من أن أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف من السلف فيه نزاع أن "لعمرك "في قوله تعلى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قوله إن هذا قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته وهذه مزية لا تعرف لغيره ولم يوافق الزمخشري على ذلك فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط عليه الصلاة والسلام "لعمرك"إنهم لفي سكرتهم يعمهون "وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل والاعتزال. قال ابن عباس رضي الله عنهما والعمر بفتح العين المهملة والعمر بضمها واحد إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف لكثرة دوران الحلف بها على ألسنتهم وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم ولا ريب أن عمره وحياته صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم والآيات فهو أهل أن يقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات - انتهى.
فهذا الكلام من الإمام ابن القيم يحمل على أنه إنما أراد أن هذه الكلمة قسم لغة وإلا فإن الأحاديث الصحيحة المتقدمة تمنع وتنهى عن الحلف بغير الله من المخلوقات فإن ذلك من أعظم المحرمات كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة هذا كله في غير قسم الله تعالى بما شاء من مخلوقاته فإنه يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقد تقدم في النصوص التي سردناها عن الأئمة أن هذه الكلمة ليست من الإيمان الشرعية التي تجب الكفارة بها عند الحنث بل هي محمولة على أحد الوجوه المتقدمة.
أولاً: حمله على حذف مضاف وقد نقل ذلك عن بعض أهل العلم فيكون التقدير "لواهب عمري"كما في أمثالها مما أقسم فيه بغير الله على قول كقوله تعالى والشمس والليل، والقمر.
وثانياً: أن يكون المراد بها وبأمثالها ذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله تعالى لوجوب البر به وليس الغرض اليمين الشرعية وتشبيه غير الله تعالى به في التعظيم بل الظاهر من كلام الأحناف أنها كفر إن كان يعتقد أنه حلف يجب البر به. وحرام إن كان بدون ذلك كما صرح به بعض الفضلاء فعلى هذا فذكر صورة القسم على أحد الوجوه المذكورة لا بأس به ولهذا شاع استعمال هذه الكلمة بين العلماء بإجماعهم. كما تقدمت عليه النصوص.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه هداة الأمم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
هو نحدة بن عامر الحروري بن وؤس الخوارج زائغ عن الحق ذكر في الضعفاء الجرجاني وهو ابن عمير اليماني خرج باليمامة عقب موت يزيد بن معاوية وقدم مكة وله مقالات معروفة واتباع انقرضوا وقد ذكر له الحافظ ترجمة في تهذيب التهذيب قتل بعد ابن عباس بقليل في سنة 70 اللسان للحافظ.
[2]
قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال كانت يمين عثمان بن أبي العاص"لعمري" انتهى من العلل للإمام أحمد ص406.
[3]
أخرجه مسلم وأبو داود ففي مسلم ج1 ص232 وفي أبي داود ج1 ص81.
فتوى شرعية حول الملكية الفردية في الإسلام
بقلم فضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد طلبت منا وزارة
…
بيان الحكم الشرعي فيما تضمنه المنشور الذي وضع بعنوان (مشاكلنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي) من أن الإسلام يرفض أن توجد طبقة تحتكر الثروة وفي مقدمة ما عنى به من الناحية الاقتصادية توزيع الملكيات الزراعية. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع العلاج الناجع لما تعانيه مصر الآن من التباين الشاسع في توزيع هذه الملكيات فقال: "من كان له أرض واسعة فليزرعها أو يمنحها أخاه ولا يؤجرها إياه ولا يكريها" وأن مؤدى ذلك أن الملكية الفردية يجب أن تكون محدودة بطاقة الإنسان على زرع أرضه وما زاد عن ذلك يجب أن يوزع على المعدمين فلا استغلال بالإيجار بل لا تأجير مطلقاً.
وكذلك عمر بن الخطاب حينما فتح المسلمون أرض سواد العراق وأرادوا قسمة أربعة أخماسها بين الفاتحين أبى عليهم ذلك وقال: "ما يفتح بلد فيكون فيه كبير نيل حتى يأتي المسلمون من بعدهم فيجدوا الأرض قد قسمت وحيزت وورثت عن الآباء وتضيع الذرية والأرامل".
وانتهى المنشور إلى القول بأن الإسلام يحارب الإقطاعات الشائعة اليوم في الرأسمالي الذي يبيح الملكية المطلقة كما يحارب الشيوعية اللادينية التي تنادي بأن تكون الأرض ملكاً للدولة فينهار بذلك ركن من أركان الاقتصاد السليم فضلاً عن تجاهل المبدأ الغريزي في الإنسان وهو حب التملك وأن الحل الوسط بين الرأسمالية والشيوعية هو أن يتملك الإنسان بقدر طاقته الزراعية وما زاد عن ذلك يجب أن يعطيه لغيره من المعدمين مجاناً.
والجواب
…
ذلك ما زعموا أنه حل لهذه المعضلة في ضوء النظام الإسلامي.
والحق الذي لا مرية فيه أن في الشريعة الإسلامية ما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها بالنسبة الأفراد والجماعات. فقد اعتبرت الفرد قواماً للجماعة وسنت له النظم الصالحة لحياته في نفسه وباعتباره عضواً في أسرته وفي عشيرته وفي أمته وفي المجتمع الإنساني عامة ليكون لبنة متينة في بنائه وعضواً قوياً في كيانه. كما اعتبرت الجماعة عضداً للفرد وظهيراً له في أداء رسالته والتمتع بحقوقه والقيام بواجباته ووثقت الصلة بين الرد والجماعة بالتكافل في جميع الحقوق والواجبات.
ولم تدع شأناً من شؤون الفرد والجماعة إلا أنارت فيه السبيل وأوضحت النهج وكشفت عما فيه من صلاح وفساد وخير وشر فكانت لذلك خاتمة الشرائع وأبقاها على الدهر وأصلحها لكل أمة وزمان.
قررت أسمى المبادئ وأعدل النظم في الاجتماع والسياسة والثقافة والاقتصاد وما إلى ذلك مما يكفل للأمة إذا هي استمسكت بها واعتصمت بهديها القوة والسلطان والحياة المشرقة الرافهة التي يسودها التعاون على البر والخير ويظلها الأمن والسلام.
وهذا كتاب الله الذي أنزل على صفوة خلقه بين أيدينا نطالع فيه ما يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم في كل ما يمس شؤون الحياة ونجد فيه العلاج الشافي لكل نازلة والحل الموفق لكل معضلة مما فيه كل الغنى عما سواه من مذاهب وآراء استحدثها الغرباء عنه وأولع بها بعض الدخلاء فيه أو الجهلاء بمقاصده ومراميه.
وهل يستوي تشريع إلهي حكيم أنزله الله على رسوله لمصالح عباده وهو العليم الخبير بما يصلح لهم ويسعد حالهم ومذاهب وآراء يضعها آحاد الناس كتشريع ونظام عام على ما يظنون ويتخيلون. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
وما هذه الثورات الفكرية والاضطرابات الدولية والدماء المهراقة والأموال المستنزفة والمدن المهدمة والحضارات المحتضرة والوشائج المقطعة إلا نتائج لتلك المذاهب والآراء المستحدثة التي لا يقرها الإسلام في سياسة الشعوب ونظام الاجتماع والعمران ويقرر في ضوء الحق والواقع ما فيها من هدم وإفساد.
ولسنا نطمع في أن يكون الناس أمة واحدة. ولكنا ندعو أمم الأرض على اختلاف العقائد والنحل وفيهم الفلاسفة والعباقرة ودعاة الأمن والإصلاح أن يدرسوا مبادئ الإسلام وتعاليمه في القرآن الكريم والسنة الصحيحة دراسة العالم المدقق والمفكر الحر ليعلموا أنها وحدها هي النظام المثالي الاجتماع والحضارة والعدل والسلام وأن لا منجى للعالم مما حاق به إلا بالأخذ بها والعيش في ظلالها.
اندفعت أمم من الغرب بدافع الجشع والطمع وعبادة المال إلى استعمار البلاد الشاسعة واستعباد الأمم الضعيفة واستغلال مواردها واحتكار مرافقها ولبست لذلك مسوح الرهبان خداعاً للشعوب وتغريراً بالعقول فمرة تزعم أنها إنما أقدمت على ذلك لترقيها وترفع مستواها وتسعد أهلها اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً ومرة تزعم أنها إنما تبسط يدها عليها وتتحكم في مواردها وثوراتها لتنقذ الطبقة الدنيا من مخالب الرأسمالية.
وهي في كل هذه المظاهر الكاذبة مخادعة مرائية لا تبغي إلا السيادة والغلبة واحتكار الأمم الضعيفة والشعوب المفككة كما تحتكر الأمتعة والسلع.
وأي فرق بين ما تنعاه على الأثرياء من احتكار الثروات العقارية وبين ما تهالكت عليه وبذلت في سبيله المهج والأموال من إخضاع الشعوب لسلطانها وبسط يدها في جميع مرافقها قهراً عنها وإرغاماً لها.
أليس ذلك احتكاراً لملكية الشعوب بأسرها نفوساً وأموالاً بل هو أبشع صورة الاحتكار وأفحش أساليبه.
ليس لنا وراية الإسلام تظلنا وتعاليمه ترشدنا أن ننخدع بهذه البروق الخالية ونذعن لتلك الدعايات الهادمة ندع ما شرعه الله لنا من النظم الحكيمة المالية والاجتماعية. بل ذلك حقيق أن يوقظ دول الإسلام وينبه منها الشعور لما يراد بها ويدبر لها من كيد وإذلال وأن يحفزها لجمع الكلمة والتئام الصفوف وتضافر القوى للدفع في صدور هذه الدول الطامعة التي لا تبغي من وراء دعايتها إلا الهدم والتدمير.
وما احتالوا به لإذكاء نار الفتنة في نفوس طبقات العمال وأشباههم من الشعوب وهم الكثرة الغالبة.
إظهار التحنن لهم والحدب عليهم بدعوى وجوب محو الملكيات العقارية بتاتاً أو وجوب تقصير مداها إلى حد الكفاف على النحو الذي عالج به المنشور توزيع الثروة العقارية بين الأفراد، بزعم أنه علاج إسلامي.
الإسلام يبيح الملكية المطلقة للأفراد ويرتب عليها حقوقاً
أما الإسلام الحنيف فقد ساير سنن الوجود وطبيعة العمران وقرر أسمى المبادئ في نظام الملكية فأباح الملكية المطلقة للأفراد ولكنه أوجب بجانب ذلك على الأغنياء في أموالهم حقوقاً يؤدونها للفقراء والمساكين وذوي الحاجة سداً لخلتهم وينفقون منها في المصالح العامة التي تعود بالخير على المجتمع.
وفي آيات القرآن والأحاديث النبوية من الحث على أداء هذه الحقوق والترهيب من الإخلال بها والترغيب في التصدق والإنفاق والبر والمواساة ما لو ابتعه المسلمون كانوا أسعد الأمم حالاًً وأهنأها بالاً وأبعدها عما نراه من المآثم والشرور.
أوجب الزكاة في الأموال تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء وهي الركن المالي من دعائم الإسلام.
وأمر بالبر والإحسان لذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل.
قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وضاعف مثوبة الصدقات فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وحث على صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلى غير ذلك من الآيات التي عدلت الأغنياء بالفقراء وأسعدت الفقير بحظ من ثمرات ملكية الغنى يسد خلته ويكفي حاجته.
وبجانب ذلك حث القرآن في كثير من الآيات على العمل والكسب ونهت السنة عن البطالة وإراقة ماء الوجه بالسؤال والاستجداء كيلا يتكل الفقراء على الأغنياء ويعيشوا عليهم عالة يتكففونهم.
وفي ظلال هذه التعاليم التي يكمل بعضها بعضاً يعيش العامل والفقير والغني عيشة راضية مطمئنة لا يشوبها كدر ولا ينغصها ألم.
احترم الإسلام حق الملكية فأباح لكل فرد أن يتملك بالأسباب المشروعة ما يشاء من المنقولات والعقارات وأباح له استثمارها والانتفاع بها في نطاق الحدود التي رسمها. وخوله حق الدفاع عنها كالدفاع عن النفس والعرض ولو بقتل الصائل عليها وأوجب عليه صيانتها ونهاه عن إضاعتها وصرفها في غير المشروع من وجوهها استكمالاً لوسائل العمران.
وفي الحديث: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله " وفي حديث آخر: "من قتل دون ماله فهو شهيد ". وقد أضاف القرآن الأموال إلى أصحابها إضافة التملك فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
وشرع الإسلام أسباب ملكية الأعيان والمنافع وطرائق انتقالها من مالك إلى آخر وأقام للتعامل بين الناس نظماً وحدوداً تكفل صيانة حق الملكية وتمكن المالك من استيفاء حقه والانتفاع بثمرة ملكه وتخول المستأجر الانتفاع بملك غيره وحرم من وسائل التعامل ما يفضي إلى التهارج والتقاتل كالربا في صوره المختلفة والعقود التي فيها جهالة وغرر ومخاطرة وحرم الغضب والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وسن الحدود والعقوبات جزاء لمن ينتهك حرمة الملكية ويتعدى حدودها المشروعة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
بل نهى سبحانه عن أدنى أنواع التعرض للأموال وهو تمني زوالها عن الغير فقال {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} للإرشاد إلى أن التفاضل في المال لا يسوغ العدوان عليه ولو بالتمني المذموم. فإن ذلك قسمة صادرة من الحكيم الخبير وعلى العبد أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظ المفضل حسداً وحقداً بل يسأل الله من واسع فضله وجزيل إنعامه فإن خزائن ملكه لا تنفد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
أقام الشارع هذه النظم الحكيمة الآخذ بعضها برقاب بعض صيانة للمجتمع من الفوضى والفساد ورعاية لمصالح العباد وهو أعلم بها ولم يترك الأمر سدى تعبث به الأهواء ويضل الناس فيه السبيل فأنزل القرآن الكريم هدى ونوراً. وجاءت السنة النبوية بياناً له وتنويراً. وجاء فيهما من التعاليم ما إن تمسك به المسلمون كانوا على بينة من دينهم وعلى هدى من أمرهم وكانت السعادة ملاك أيمانهم وليس بعد الحق إلا الضلال. فليس لمسلم أن يأخذ بغير هدى الإسلام فيما شرعه من الأحكام ولا أن يدعو الناس إلى غير ما دعا إليه من الحق والنور.
هذه كلمة الإسلام في احترام حق الملكية الفردية للعقار وصيانته من العدوان وهو حق تقتضيه سنة العمران وغريزة الإنسان غير أن بعض العقول قد غشيتها في هذا العصر غواش من الظلم حجبت عنها نور الحق فارتطمت في عميائها بالصخور وتردت في المهاوي وتلقفها في إبان هذه العماية وغمرة هاتيك الحيرة شياطين من الإنس يوحون إليهم زخرف القول غروراً ويمنونهم بباطل الأماني وكاذب الأحلام.
فذهب دعاة هدامون إلى إهدار ملكية العقار الفردية وأقاموا نظامهم الاقتصادي والاجتماعي على هذا المبدأ وسيعلمون بعد حين أنه غير صالح للبقاء وأنه إن امتد به الزمن حيناً فسيقضي عليه بالفناء.
لا احتكار للثروة:
وقال آخرون إن الإسلام يرفض وجود طبقة تحتكر الثروة وإنه لحق لو كان هناك احتكار ولكنه في الواقع حديث عن وهم وخيال.
فليس هناك طبقة تحول بقوتها بين الناس وأسباب الغنى والثراء وتمنعهم بحولها من التملك والشراء وليس هناك احتكار من أحد للثروة بالمعنى المفهوم من الاحتكار بل هناك نواميس طبيعية وسنن اجتماعية قضت بتفاوت الناس في القوى والمدارك والعمل والإنتاج. فكان منهم طوائف العمال والصناع والزراع وفيهم الجهال والعلماء والأغبياء والأذكياء والكسالى والمجدون {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ولهذا التفاوت آثاره الطبيعية في الكسب والتملك كما قضت هذه السنن بخضوع التعامل بين الناس لقاعدة العرض والطلب والحاجة والاستغناء. ولم يشذ عنها التعامل في العقار فلا يزال في ظلها حراً في الأسواق يتبادله من الأفراد من يشاء بالبيع والشراء لا حظر فيه من أحد على أحد.
وليس وجود طبقة عاجزة عن التملك بطريق الشراء مما يسوغ حسبان القادرين عليه محتكرين ما دام مرد الأمر فيه إلى عوامل أخرى ليس منها حجر فريق على حرية فريق.
وقد ترك الإسلام الحنيف الناس أحراراً في التعامل بالبيع والشراء ولم يقيدهم في ذل إلا بما يكفل صحة العقود ويدفع التنازع والتخاصم وأكل الأموال بالباطل. وليس في أحكامه ما يحول بين المرء والتملك وما يسوغ تسمية الملاك محتكرين مهما اتسعت ثروتهم بل العمل على هدم هذه الثروات بزعم أنها ضرب من الاحتكار مما يأباه الإسلام الذي يقدس حق الملكية ويحرم العدوان عليه.
الملكية الفردية غير محدودة:
قالوا إن الإسلام يوجب أن تكون الملكية الفردية محدودة بطاقة الإنسان وما زاد عن طاقته الزراعية يجب أن يعطى منحة للمعدمين بالمجان ولا يجوز أن يستغل المالك أرضه بالتأجير بصوره المختلفة.
والعجب أن يشرعوا للناس ما لم يشرعه الله ويوجبوا عليهم ما لم يوجبه فمن البديهي أن الشريعة الإسلامية لم تحدد للملكية الفردية حداً لا يتجاوزه المالك ولم توجب عليه أن ينزل عما زاد عن طاقته الزراعية للمعدمين بالمجان ولا لغير المعدمين بالثمن.
وقد كان من الصحابة رضوان الله عليهم من يملك الثروات الطائلة كعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد أصحاب الشورى في الخلافة.
وكان بجانب هؤلاء الجم الغفير ممن لا يملك شروى نقير كأهل الصفة وأشباههم وكان في الأنصار كثير من أهل المزارع الواسعة ولم يوجب الرسول على أحد ممن تضخمت ثرواتهم بجهودهم أن يوزع ما زاد عن طاقته الزراعية على المعدمين لا من العقار ولا من المنقول.
نعم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين قدم المدينة بين المهاجرين والأنصار في دار أنس ابن مالك وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار.
آخى بينهم على المساواة والبر والتوارث بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى أن نزل قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فنسخ التوارث بعقد الأخوة وبقي التوارث بالقرابة.
أما المواساة والترافق بين المؤمنين عامة فأمر مندوب إليه مرغب فيه.
وفيما تلونا من آيات القرآن من الحث عليه وعلى معونة الفقراء والمحتاجين بلاغ للناس. ولكن هذا شيء ووجوب التنازل عن الملك شيء آخر ولا واجب في الدين إلا ما أوجبه الشارع الحكيم.
وقد أجازت الشريعة لمالك الأرض أن يتصرف فيها كيف يشاء فله أن يزرعها كلها أو بعضها بنفسه وله أن يؤجرها لغيره بطريق المزارعة أو بالنقد بلا تحديد بالطاقة وعيش الكفاف وله أن يمنها أو يمنحها أو يمنح منها للغير غنياً أو فقيراً.
الاستغلال بطريق المزارعة
فأما الاستغلال المزارعة وهي نوع من الأجير مشروع فأصله أن أهل المدينة كانوا أكثر الناس حقولاً ومزارع وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغلون الأرض بطريق المزارعة وتسمى أيضاً المخابرة مشتقة من الخبير وهو الفلاح. "وهي عقد بين المالك والعامل على كراء الأرض ببعض ما يخرج منها"فتارة كانوا يحددون نصيب المالك بالشطر أو الثلث أو الربع. وتارة يحددونه بما ينبت على حافة الأنهر أو الجداول أو السواقي أو أن له ثمرة قطعة معينة من الأرض وللعامل ثمرة قطعة أخرى ونحو ذلك مما شأنه أن يفضي إلى التنازع والتشاحن وأكل الأموال بالباطل لما فيه من الجهالة والغرر.
وتارة يجمعون بين التحديدين فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوعين الأخيرين من الكراء لما فيهما من المخاطرة المفضية إلى النزاع.
وعن حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال لا بأس به. إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات "لفظة معربة معناها حافة النهر ومسايل الماء"وإقبال الجداول (رءوس الأنهر الصغيرة) وأشياء من الزرع فيهلك هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا فذلك زجر عنه. فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وفي رواية عن رافع قال حدثني عماي أنهما كانا يكتريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء "جمع ربيع وهو النهر الصغير"وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي عن ذلك"رواه البخاري وأحمد والنسائي.
وفي رواية عنه "كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا. كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذاك فنهينا فأما الذهب والورق (الفضة) فلم يكن يومئذ"(رواه البخاري) .
وفي رواية عنه "كنا أكثر الأنصار حقلاً فكنا نكتري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا"أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أسيد بن ظهير: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف والثلث والربع ويشترط ثلاث جداول والقصارة "بضم القاف وهي الحب في السنبل بعد ما يداس"وما يسقي الربيع. وكان يعمل فيها عملاً شديداً ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال: "فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بكم رافقاً وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم نهاكم عن الحقل (الزرع) "(رواه أحمد وابن ماجه) .
فهذه الروايات صريحة في أنه عليه السلام إنما نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها إذا اشتملت على ما يؤدي إلى المخاطرة والغرر من مثل هذه الشروط الفاسدة فأما إذا خلت منها فيجور كراؤها به مثل كرائها على النصف أو الربع مما يخرج منها.
وهذا هو الذي فهمه ابن عمر حيث رد على رافع في قوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع بقوله "قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن"أخرجه في الصحيح.
وحاصل رده كما ذكره القسطلاني أنه ينكر على رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض ويقول: إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كانوا يدخلون فيه الشرط الفاسد وهو إنهم يشترطون ما على الأربعاء وطائفة من التبن وهو مجهول وقد يسلم هذا ويصيب غيره آفة أو بالعكس فتقع المزارعة ويبقى الزارع أو رب الأرض بلا شيء. اهـ
وهو ما فهمه أيضاً ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال كما في الصحيح أنه عليه السلام لم ينهه عنه أي عن كراء الأرض بشطر ما يخرج منها ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئاً معلوماً. اهـ
قال الخطابي: "وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما يخرج من الأرض وإنما أراد بذلك أن يتمانحوا أراضيهم وأن يرفق بعضهم ببعض: وقد ذكر رافع في رواية عنه في هذا الباب (باب المزارعة) النوع الذي حرم منه، وذلك قوله كان الناس يؤاجرون.."الخ.
فأفاد أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها الشروط الفاسدة، وأن يستثنوا من الزرع لرب الأرض ما على السواقي والجداول. والمزارعة وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة. وقد يسلم ما على السواقي والجداول ويهلك سائر الزرع فيبقى العامل لا شيء له وهذا خطر. اهـ ملخصاً.
وقال الليث بن سعد: "وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة".اهـ
وهو موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة.
قال في الفتح ونيل الأوطار: "وعليه تحمل الأحاديث المطلقة الواردة في النهي عن المزارعة والمخابرة كما هو شأن حمل المطلق على المقيد". اهـ
وفي منتقى الأخبار: "..إن حديث حنظلة بن قيس بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض". أهـ
وممن حمل النهي على ذلك وأجاز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع دون أن يقارنه شرط مفسد للعقد الخلفاء الراشدون وابن عمر وابن مسعود وسعد بن مالك وحذيفة ومعاذ ابن جبل وأسامة وخباب وعمار بن ياسر وهو قول ابن المسيب وطاووس وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والقاضي أبي يوسف ومحمد ابن الحسن وابن المنذر وأحمد بن حنبل استناداً لما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بعد أن ظهر عليهم على أن يزرعوا له أرضها ولهم نصف ما تخرجه من ثمر أو زرع واستمر اليهود على ذلك إلى صدر من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها إلى تيماء وأريحاء.
وعن أبي جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع عمر وعلي وسعد بن مالك وابن مسعود ومعاذ وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة ابن الزبير وكثير غيرهم".
وقال ابن القيم في زاد المعاد: "في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك واستمر إلى حين وفاته، ولم ينسخ البتة ودرج عليه الخلفاء الراشدون". اهـ
وجملة القول أنه يجوز استغلال الأرض بكرائها بجزء من الخارج منها على الوجه الذي لا يفضي إلى المنازعة والتخاصم وهو قول الجمهور والقول المفتى به عند الحنفية والمختار عند الشافعية كما ذكره النووي خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي من عدم جواز كرائها به استناداً إلى أحاديث النهي المطلقة وقد علمت أنها محمولة على ما فيه شروط مفسدة.
على أنه قد روى عن زيد بن ثابت أنه قال: "يغفر الله لرافع أنا والله أعلم بالحديث منه. إنما أتى النبي عليه السلام رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال: "إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع".اهـ
ومقصوده كما في سبل السلام، أن رافعاً اقتطع الحديث فروى النهي ولم يرو أوله فأخل بالمقصود. اهـ
استغلال الأرض بالإيجار
ونعني به تأجيرها بالذهب أو الفضة أو بما جرى به التعامل من النقود والأوراق المالية. ولا شك في جوازه. ويقاس على ما ذكر التأجير بغيره من سائر الأشياء المعلومة المتقومة كما في سبل السلام ونيل الأوطار) ويدل عليه حديث حنظلة بن قيس السابق.
وعن ابن عباس قال: "إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء ليس فيها شجر من السنة إلى السنة "رواه البخاري.
وعن سعد بن أبي وقاص: "إن أصحاب المزارع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء (ما جاء من الماء من غير طلب) مما حول النبت فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يكروا بذلك وقال: "اكروا بالذهب والفضة". (رواه أحمد وأبو داود والنسائي) .
وقال ابن المنذر: "إن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه. وقد تبين من ذلك أنه يجوز استغلال الأرض المملوكة بطريق المزارعة المستوفية شرائط الصحة وهي نوع من التأجير وبطريق التأجير بالنقد وما يقاس عليه. ولا شك أن في هذا رفقاً عظيماً بالناس. فإن الملاك قد يعجزون عن العمل بأنفسهم فلا يستطيعون الانتفاع بأرضهم إلا بتأجيرها للغير والمستأجرون قد لا يملكون الأرض مع استطاعة الزراعة فلا يتيسر عيشهم إلا بالاستئجار من الملاك فرعاية للمصلحتين أجازت الشريعة استغلال الأرض بهاتين الطريقتين.
وكثيراً ما كان حظ المستأجر أوفر من حظ المالك وخاصة إذا اتقى الله في عمله وعزم على الوفاء بدينه وإعطاء المالك حقه فإن الله يعينه ويربحه ويبارك له في رزقه.
فالقول بأنه لا استغلال بالإيجار للأرض المملوكة بل لا تأجير مطلقاً قول زائف لا يعول عليه ولا يلتفت إليه من الوجه الشرعية والعلمية.
الحديث الذي رووه - رواياته ومعناه:
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه" أخرجه البخاري ومسلم.
وأصل هذا الحديث ما رواه جابر رضي الله عنه قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى (القصرى كبشرى بقية الحب في السنبل بعد الدياس) ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها"رواه مسلم وأحمد.
وفي رواية عنه كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها". وما رواه رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير:"لقد نهانا رسول الله عن أمر كان بنا رافقاً قلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت نؤاجرها على الربيع يشترطون لأنفسهم ما ينبت على النهر وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال عليه السلام لا تفعلوا ازرعوها أو زارعوها أو امسكوها. قال رافع: قلت سمعاً وطاعة"رواه مسلم.
وهذه الروايات يفسر بعضها بعضاً وتدل على أنه عليه السلام لما وجدهم في المدينة يكرون الأرض بعقود مزارعة تشتمل على شروط فاسدة نهاهم عنها لإفضائها إلى التنازع والتقاتل كما صرح به في حديث سعد بن أبي وقاص وحديث زيد بن ثابت وأرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه في استغلال مزارعهم فقال مرة كما في رواية سعد: "اكروا بالذهب والفضة" وهو جائز بالإجماع لأن الكراء بهماوبما في معناهما لا مخاطرة فيه وقال مرة كما في رواية ابن عباس: "لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجراً معلوماً". وفي رواية: "من كانت له أرض فإنه إن يمنحها أخاه خير له". وهو صريح في عدم إيجاب منح الأرض بدون أجر. وفي جواز أخذ الأجرة لأن الخيرية والأولوية ظاهرة في الجواز. فيكون المراد مجرد استحباب المنح والترغيب فيه مواساة ورفقاً كما صرح به ابن عباس. وخيرهم مرة ثالثة بين هذا الأمر المستحب. وهو إعطاء الأرض منحة بدون أجر وبين أن يزرعوها بأنفسهم أو يتركوها بدون زرع. والأمر في الثلاثة للندب لا للوجوب بقرينة جواز تأجير الأرض بالذهب أو الفضة بالإجماع. وجواز بأجيرها بالنصف أو الثلث أو الربع على طريق المزارعة كما فعل الرسول في أرض خيبر مستمراً على ذلك إلى وفاته وكما فعل أصحابه في حياته وبعد وفاته كما سبق وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الإعارة بلا فرق بين المزارعة وغيرها فوجب حمل هذا الحديث على الاستحباب والندب كما أوضحه صاحب منتقى الأخبار.
على أن الإمام الصنعاني قال في سبل السلام بعد رواية حديث النهي عن المزارعة: "إنه كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم والمواساة ويدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبى فليمسكها" وهذا كما نهوا أول الأمر عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بها ثم بعد أن اتسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكه بما يشاء من إجارة وغيرها ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم من النهي وترك إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية"اهـ.
وسواء أقلنا أن أحاديث النهي عن المزارعة إنما وردت في المزارعة الفاسدة أم أن النهي عنها كان عاماً أول الأمر للحاجة ثم زال بزوال سببه فإن الذي استقر عليه الأمر في حكم الشريعة الإسلامية أن المالك حر يتصرف في ملكه بما يشاء من زرع ومزارعة وتأجير لا حجر عليه في شيء من ذلك ولا إيجاب.
ما فعله عمر في سواد العراق
لما فتح المسلمون سواد العراق في خلافة عمر بن الخطاب رأى الفاتحون أن يقسم بينهم قسمة تملك كقسمة الغنائم فأبى عمر عليهم ذلك وقال كما في كتاب الخراج لأبي يوسف:"والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق فترك الأرض مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى الأرض الخراج ليكون ما يجبي من ذلك سداداً لحاجة المسلمين عامة ينفق منه على الجيوش المقاتلة وسد الثغور وبناء القناطر والجسور وأرزاق العمال والموظفين وما إلى ذلك مما يتوقف عليه صيانة البيضة وبقاء الدولة. وقد أسلم كثير من أهل السواد فوضعت عنهم الجزية وتداولت الأيدي أرضه وأصبح ملكاً للمسلمين وغيرهم يتصرف كل مالك في ملكه بما يريد من أنواع التصرف ومن هؤلاء الملاك التابعون وتابعوهم وأئمة المسلمين والفقهاء والمحدثين ومن بعدهم على تتابع القرون إلى وقتنا هذا فأي صلة بين هذا وبين ما يدعون إله من قصر ملكية الفرد على قدر عيش الكفاف ووجوب تنازله عما زاد عن ذلك منحة للمعدمين.
الرأسمالية
ولقد أسرف الكاتبون في الطعن على الرأسمالية مجاراة لتلك الدعايات الهادمة وصوروها للعامة بأبشع الصور فإن عنوا احتكار الملكية بمعناه الحقيقي فنحن أول من ينكره وينعى عليه وإن أرادوا مجرد الملكية كان طعنهم مراغمة للشرائع ومكابرة للعقول وقد تبين مما أسلفنا أن النظام المالي في الإسلام يحترم حق الملكية ويعاقب على العدوان عليه ويبيح للمالك حق التصرف في ملكه بما يشاء من بيع ورهن وإجارة ومزارعة وإعارة ووقف ونحو ذلك ولا يوجب عليه أن يمنح ملكه لغيره ولا أن يكتفي من زراعة أرضه بما يحصل له عيش الكفاف كما تبين من سياق الحديث الذي استندوا إليه ومما ذكره أئمة الحديث في بيانه أنه لا يمت بصلة إلى ما زعموه وكذلك فعل عمر في سواد العراق لا يؤيد ما ذهبوا إليه.
ولسنا ننكر أن أمر الطبقات الفقيرة في بلادنا يحتاج إلى علاج حاسم ونرى بالإجمال أنه لا علاج له إلا باتباع تعاليم الإسلام الحقة في النظم المالية والاجتماعية ولبيان ذلك تفصيلاً مجال آخر والله أعلم
…
علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية
بقلم فضيلة الشيخ زهير الخالد
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
لقد قامت - عبر التاريخ - علاقة بين المسلمين وبين المعسكر النصراني الصليبي فعلى أي أساس قامت هذه العلاقة؟
هل قامت على أساس المحبة والإخاء في الإنسانية كما يقال: وعلى التعاون المشترك على ما ينفع الطرفين بلا أحقاد ولا أضغان ولا استغلال ولا استعمار، على اعتبار أن بيننا وبينهم صعيداً مشتركاً من الإيمان بالله تعالى والدار الآخرة - كما يقولون -؟
أم قامت على أساس العداء والكره والتعصب والأحقاد والحروب الدامية؟
وما هي الأسباب الجوهرية لتلك الحروب الدامية التي كانت بيننا وبينهم؟
وهل هذه الأسباب أصيلة أم عرضية يرجى زوالها؟
أم قامت على هذا تارة وعلى ذاك تارة أخرى؟ أم على غير ذلك كله؟
ثم ما هي الحال التي آلت إليها هذه العلاقة اليوم؟ وهل هي متأثرة فيما كان بيننا وبينهم في الماضي؟ وما هو مدى تأثرها؟ أم أنها بنت اليوم لا أثر للماضي فيها ولا سلطان له عليها؟
ثم ما هي نظرة المعسكر النصراني الصليبي اليوم لنا، وما هي منطلقاتها الأساسية؟ وهل تستوي دوله وشعوبه وهيئاته ومؤسساته وكنائسه ورؤوسه في نظرتهم إلينا أم يختلفون؟ وإذا اختلفوا فما هو السر في ذلك؟
هذا ما سأحاول الإجابة عليه - إن شاء الله تعالى - في محاضرتي هذه موجزاً ما أمكنني الإيجاز، وإن كان من عادتي - ولله الحمد - أن لا أتولى الإجابة بنفسي، وإنما أدع الحقائق التي استخلصها من أصدق المصادر التي لا يتطرق إليها شك هي التي تتولى الإجابة في مثل هذه الموضوعات الشائكة التي تشكل مجالاً كبيراً لاختلاف الاجتهادات والمذاهب، وكذلك الآراء الشخصية والرغبات الذاتية لها أثرها الواضح وحتى الأهواء والأغراض تترك عليها بصماتها.. مما يكون لهذا كله أثره العميق في حجب الرؤية الصحيحة وتشويش الصورة الحقيقية أو طمس معالمها في الأذهان.. ولكن أذهان من؟ إنها أذهان المسلمين وحدهم - وللأسف الشديد - إلا من رحم ربك وقليل ما هم بالنسبة لعامة المسلمين وذراريهم..
المصادر التي اعتمدها:
لقد قلت إنني لا أجيب بنفسي وإنما أدع الحقائق التي أستخلصها من أصدق المصادر التي لا يتطرق إليها شك هي التي تتولى الإجابة، فما هي هذه المصادر؟
إنها مصدران اثنان، هما: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة ثم الواقع التاريخي.
المصدر الأول: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة:
إن وحي الله عز وجل سواء كان في القرآن الكريم، أو على لسان الرسول الكريم، محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - هو أوثق المصادر على الإطلاق، فهو الذي لا يرقى إليه شك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد. قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت: 42. ومن ثم فإن تقريراته منزّهة عما تتعرض له تقريرات البشر واستنباطاتهم من نتائج ما فطروا عليه من جهل وقصور بشري، ورغبات في النفع الذاتي ومحاباة لذوي السلطان والنفوذ والمال والجاه، أو مجاراة للتيارات السائدة، والسعي وراء الأغراض والأهواء، وكذلك مراعاة لجماهير الأمة ومحاولات استرضائها والتقرب إليها.. ومن ثم فالقيمة العظمى والكبرى للتقريرات الربانية في الكتاب والسنة.
المصدر الثاني:الواقع التاريخي:
وأعني بالواقع التاريخي: الأحداث التاريخية كما حدثت ووقعت بالفعل بأشخاصها ودوافعهم الحقيقية، وأغراضهم وأهدافهم الخاصة والعامة. وقد جاء الواقع التاريخي مصدقاً ومترجماً للتقريرات الربانية، وهذا أمر بديهي بل أكثر من البديهي إن صح هذا التعبير لأن المقرر هو الله سبحانه وتعالى الذي يستوي لعلمه الحاضر المشاهد والماضي السحيق، والمستقبل الغائب.
هذا الذي أعنيه بالواقع التاريخي وليست كتب التاريخ وما كتب فيها جملة وحوته بين صفحاتها..لأن هناك فرقاً كبيراً جداً وبونًا شاسعاً بين الواقع التاريخي كما وقع وحدث بالفعل وبين ما كتب عنه وسجل في كتب التاريخ، لا سيما التي بين أيدي أبنائنا والتي كتبت خصيصاً لأبناء المسلمين فيما أعيد كتابته من تراثنا الإسلامي وبأيدي المستشرقين النصارى واليهود أو تحت إشرافهم وبتوجيه دوائرهم حين بدأوا غزونا الفكري وسأتعرض لهذا الموضوع إن شاء الله عز وجل في نهاية هذه المحاضرة.
إننا كثيراً ما نجد في هذا النوع المبثوث بين أيدي أبنائنا من كتب التاريخ لا أصل لها أو حوادث أخذت يد التغيير والتبديل تلعب فيها وتدس عليها حتى طمستها ومسخت حقيقتها،وشوهت صورتها وأعطت عنها صورة أخرى تغير حقيقتها كل المغايرة، كالافتراءات على الصحابة - رضوان الله تعلى عليهم - خير أجيال البشرية بعد أنبياء الله ورسله عليهم - الصلاة والسلام - الذين اختارهم الله تعالى لحمل أكمل دين أنزله، ولصحبه خير نبي أرسله - عليه أفضل الصلاة والسلام -. كما نجد فيها بطولات مختلقة لا أصل لها تنتحل للطوائف غير المسلمة في عالم المسلمين، في الوقت الذي نجد فيه طمساً لبطولات المسلمين تشويهاً لها بأن يجعل الباعث عليها هو طلب الدنيا ومتاعها، أو تستند لغير المسلمين وبشكل خبيث وما كر بأن يجعل امرأة أو أحد أفراد الطوائف غير المسلمة وراء أبطال المسلمين الذين يقومون بها، كما يفعل الكاتب النصراني الحاقد جُرجي زيدان، في روايات الهلال، وغيره كثير.
كما نشاهد أن كتب التاريخ التي قررت في مدارس المسلمين وفي بلادهم قد أغفلت ذكر حوادث ووقائع تاريخية على الرغم من شهرتها ووضوحها وذلك مراعاةً لفئةٍ أو طائفةٍ أو خدمةً لغرضٍ في نفس المؤلف أو سواه. ومن هذا القبيل إغفال ذكر كل صدام وقع بين المسلمين وبين الطوائف غير المسلمة وإغفال وقوف الطوائف غير المسلمة إلى جانب الصليبيين والتتار الوثنيين ضد المسلمين وذلك إلى جانب الاستعمار الأوربي في العصر الحديث ثم الزعم بعد هذا أنهم أصحاب بطولات وطنية وحرب على الاستعمار وهم الضالعون معه.
فهذا شاعر نصراني مثلاً يسمي المستعمرين الفرنسيين بالفاتحين ويتحمس لهم حين يدخلون بعض البلاد العربية ويطلب أهل ملته بالتعصب لهم فيقول:
بالمسلمين العرب والإسلام!
وتعصبوا للفاتحين نكايةً
كذلك نجد فيها تفسيرات وتوجيهات للحوادث التاريخية، التي يستحيل طمسها، بعد مسخها، كالحروب الصليبية فقد مسخت حتى حصرت بحدود قرنين من الزمان هما السادس والسابع الهجريان، وليس هذا فحسب بل حصرت بعدة حملات صليبية جاءت على شريط ضيق على الساحل السوري والمصري فقط، ثم لما اطمأنوا إلى أن عملية المسخ هذه انطلت على الكثير من المسلمين مسخوها كلية فقالوا: إنها ليست صليبية في حقيقتها وإنما هي حروب استعمارية اقتصادية وسياسية ولكنها جاءت تحت شعار الصليب وباسم الدين، لأن العصور الوسطى هي عصور دينية، وبعد هذا المسخ المتواصل لا تكاد تجد لها بحثاً في هذا النوع من كتب التاريخ، وإنما مجرد ذكر هو للإشارة أقرب منه للبحث.
كما نجد تفسيرات متعسفة وتوجيهات لأحداث تاريخية هامة انتصاراً لفكرة فاسدة وتأييداً لمذهب باطل..إلى آخر ما هنالك من صور التشويه والدس على تاريخ المسلمين مما لا يمكن حصره في هذه المقدمة لهذه المحاضرة..إلا أن الذي أريد أن أقوله: إن هذا النوع المشوه من كتب التاريخ قد كثر كثرة فاحشة في هذه الأيام، مما بات معه من الضروري جداً أن ينهض المسلمون لكتابة تاريخهم من جديد، فإن التاريخ الإسلامي، لم يكتب بعد كما يجب أن يكتب، ولم ينل العناية الكافية من أبنائه، بل لعلّي لا أبالغ إذا قلت أن تاريخنا الإسلامي اليوم لم ينل الحد الأدنى من العناية به من المسلمين، ومن ثم لا يوجد أمامنا منه سوى المؤلفات الضخمة التي وضعها علماؤنا الأفذاذ على طريقتهم التي لا تصل إلا للمختصين والباحثين، كما سنشير بعد قليل إن شاء الله تعالى. ونوع آخر من كتب التاريخ وهو ما عنيته بالذكر مما كتبه المستشرقون أو تحت إشرافهم المباشر أو غير المباشر وبتوجيه من دوائرهم بشتى طرق التوجيه التي أقلها ألا يصبر المؤرخ المحدث على المؤلفات القديمة أو لا يحسن البحث فيها، فلا يجد مرجعاً له سوى ما وضعه المبشرون ومؤسساتهم فيعتمدها ومن ثم تتسرب توجيهاتهم وأغراضهم إلى ما يكتب ويؤرخ، ويستنتج ويقرر، والأمثلة كثيرة على هذه الأنواع كلها..
أمام هذه الافتراءات على التاريخ تارة، والتنكر لحوادثه والتغيير والمسخ في حقائقه تارة أخرى والتفسيرات المتعسفة لوقائعه والعرض الماكر لأحداثه تارة ثالثة نجد أنفسنا مضطرين للتمييز بين الواقع التاريخ كما حدث ووقع بالفعل وبين ما كتب عنه وسمي تاريخاً!.
إلا أننا نجد أنفسنا أمام سؤال يطرح نفسه وهو: كيف السبيل للوصول إلى الواقع التاريخي كما حدث ووقع بالفعل؟
إن الوصول للواقع التاريخي كما حدث ووقع - بالفعل - أيها الأخوة ليس مستحيلاً.. بل هو ممكن إذا صحت العزيمة وصدقت النية وتوفرت الإمكانات، إذ أن سبيله قائمة، وأولها: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة، كما ذكرنا حيث يشكل نوراً يستضيء به المؤرخ المسلم في بحثه عن الواقع التاريخي. وثانيها: أمهات كتب التاريخ التي ألفها علماؤنا الأفذاذ كالطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم كثير، وقد امتازت كتبهم بذكر السند في الرواية التاريخية مما يمكن المؤرخ المتتبع اليوم من تحري الحادثة التاريخية كما وقعت بدراسة سندها على طريقة علماء الحديث في الجرح والتعديل وكذلك تمحيص متن الرواية التاريخية على ضوء الكتاب والسنة لاسيما إذا كانت تتعلق بالصحابة -رضوان الله تعالى عليهم - وتتعرض لعدالة أحد منهم.. الخ. وبذلك يتمكن المؤرخ من تحري الواقعة التاريخية، وإبعاد ما تعرض لنسيان الراوي - زيادة كان أو نقصاً - أو ما تعرض منها لتشيع الراوي أو غير ذلك من الشوائب التي تنقص من قيمة الواقعة التاريخية. بل إن بعض مؤرخينا الأفذاذ ساروا على هذه الطريقة في تجريد بعض الروايات وترك الأخرى جرياً على عادتهم في جمع كل ما يصلون إليه من روايات التاريخ دون تمحيص تاركين لمن يأتي بعدهم أن يقوم بهذه المهمة، بعد أن مهدوا له الطريق بذكر سند الرواية التاريخية. جزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيراً.
لا شك أن هذا عمل ليس من السهولة بحيث يستطيع القيام به رجل واحد أو رجلان لا سيما إذا كان مشغولاً بالسعي لطلب الرزق له ولمن يعول. بل لا بد من توافر جهود المثير من المعنيين بدراسة التاريخ ممن عندهم الاستعداد النفسي والوعي الفكري والثقافي، والنضج العلمي، وتفريغهم لهذا العمل الهام جداً، والذي ستتعمق معرفتنا لأهميته كلما أدركنا مدى خطورته بالنسبة لنا ولمستقبل أمتنا..وليس من الضروري طبعاً أن يجتمع العدد المطلوب في مكان وزمان واحد، فإن حصل هذا فذلك غاية النهى في هذا المطلب العزيز، وإن لم يتوفر فحسبنا أن نشق الطريق أو نمشي بضع خطوات أو نقطع مرحلة منه تاركين لمن يأتي بعدنا متابعة السير في طريق شق وبدئ السير فيه حتى يصل المسلمون بإذن الله - تعالى - إلى هذه الغاية المرجوة من كتابة تاريخهم الإسلامي وتاريخ العالم كما يجب أن يكتب بأيدي مسلمة أمينة واعية. وأليس تقصيراً من المسلمين يخشى أن يكونوا آثمين فيه أن ينهض أعداؤهم لكتابة تاريخهم الإسلامي وصياغته وفق أغراضهم، والمسلمون ينظرون، أو يقتفون آثارهم وتنطبع في أذهان أبنائهم وأجيالهم وذراريهم الصور المشوهة التي أرادها أعداؤنا عن سلفنا الصالح وعظمائنا، مما دفع الكثير من أبناء المسلمين أن يستحيوا من الانتساب إلى تاريخهم وسلفهم الصالح ويتجملوا بتقليد أعدائهم؟.
إن إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي أمر يحتاج إلى جهود ضخمة، هذا صحيح ولكن أي جهد صادق واع خلص لله - سبحانه - يبذل فيه لا بد أن يؤتي ثماره الطيبة بإذن الله تعالى ولو بعد حين.
ماذا نعني بمصطلح معسكر؟
إن الدارس لأحوال الناس الدينية والاجتماعية والفكرية يلحظ ظاهرة هامة جداً في حياة الناس وهي: أن الناس يجتمعون بناء على اتفاقهم في الدين والعقيدة والفكرة والمذهب.. ويفترقون إذا اختلفوا فيها.. وليست هذه الظاهرة إلا ترجمة لما فطر عليه جنس الإنسان وهو الارتياح إلى من يشاركونه في الدين والعقيدة، والفكرة والمذهب والميل إليهم وموالاتهم والاندفاع لمناصرة قضاياهم والتحمس لها. وبالعكس من ذلك فإنه لا يرتاح إلى من يخالفونه في ذلك ويشعر بغربة دينهم، وينفر منهم، بل ويحاربهم إذا اقتضى الأمر مهما تكن الروابط المادية بينه وبينهم، وما ذلك إلا لأن الآصرة التي يجتمع عليها الناس ويفترقون، هي الدين والعقيدة، أو الفكرة والمذهب وليست اتحاد الجنس والنسب أو الاشتراك في الأرض والحدود الجغرافية أو السياسية وليست هي المصالح والمنافع القريبة.. فهذه كلها أمور عرضية لا علاقة لها بجوهر الإنسان الكريم..
ألا ترى إلى اليهودي كيف يتحمس لقضايا اليهود في العالم ويناصرها، ويوالي قيادتهم ولا يطمئن إلا لليهودي وقد كشف القرآن الكريم لنا كيف يوصي بعضهم بعضاً ويقولون:{وَلا تُؤْمِنُوا إِلَاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران: 73)
وكذلك الماركسي (شيوعياً كان أو اشتراكياً) هواه مع العالم الماركسي ودوله وأحزابه الشيوعية والاشتراكية، فيهتم لأخبارهم ويناصر قضاياهم ويدافع عن موقفهم وقضاياهم ويبرر أخطاءهم حتى ولو كانت ضد شعبه هو أو ضد بلده وقضاياه..
وقل مثل ذلك عن النصراني والوثني.
أما شأن المسلم فهو أكثر وضوحاً فهو يهتم لأمر المسلمين، فيحزن لما أصابهم ويفرح لما نالوه من خير في مشارق الأرض ومغاربها، فإن لم يجد مثل هذا الشعور فهو دليل المرض في قلبه، والضعف في إيمانه، وما أصدق وأعمق دلالة هذا الأثر:"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".. بل إن المسلم مأمور بنص كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام أن لا يوالي بعد الله - سبحانه - ورسوله-صلى الله عليه وسلم غير المسلمين الملتزمين بإسلامهم الذين لم يخلطوا معه مبدءًا أو مذهباً أو شعاراً آخر ليس من الإسلام. قال تعلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .. الآيات.
ثم يقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة: 51-52-55-56) .
وهكذا وبسبب هذه الفطرة وكون العقيدة هي جوهر الإنسان، فإن الإنسان يجد مع الذين يشاركونه في الدين والعقيدة، والفكرة والمذهب، وحدة آمال وأهداف، وأفراح وأتراح وبواعث ومواقف، ويشكل معهم كتلة واحدة، وجبهة واحدة أو معسكراً واحداً.. فالمعسكر إذن هو: أتباع الدين الواحد أو العقيدة الواحدة أو المذهب الواحد.. الخ. وما ينشأ عن هذا الإيمان من مشاعر وعواطف وانفعالات ومواقف متشابهة أو واحدة، وكذلك من عمل وسعي لمناصرة قضاياه وموالاة قياداته ورؤوسه.
هذا وإن دراسة واعية للتاريخ والحاضر تكشف لنا أن أتباع الدين أو المذهب أو الفكرة الواحدة الذين يعملون لها ويناصرون قضاياها ويتخذونها قضاياً لهم، ويجعلونها منطلقاً أساسياً لهم في موقفهم من غيرهم ومعاملتهم.. يشكلون فيما بينهم معسكراً واحداً على اختلاف مستوياتهم ورقعة الأرض التي يسكنونها وكذلك - ولعلنا لا نبالغ - إذا قلنا مع اختلاف أزمانهم..فالواقع التاريخي إذن يثبت هذا الذي نذهب إليه.
وبناء على هذا فاليهود على اختلاف أجناسهم وهيئاتهم وجماعاتهم ومؤسساتهم يشكلون معسكرًا واحدً هو المعسكر اليهودي الصهيوني..
وكذلك النصارى يشكلون معسكراً واحداً هو المعسكر النصراني الصليبي.
والشيوعيون والاشتراكيون الماركسيون يشكلون المعسكر الماركسي الملحد.
والوثنيون يشكلون المعسكر الوثني المشرك..
وهذه المعسكرات كلها تشكل فيما بينها وعلى اختلافها حزباً واحداً هو حزب الشيطان..
ولما كانت هذه المعسكرات لا تهتدي بهدي الله تعالى ولا تحكم شريعته - سبحانه -
ولما كانت الجاهلية هي كل حالة أو وضع لا يهتدي بهدي الله تعالى ولا يحكم شريعته - سبحانه - وليست فترة زمنية محدودة [1] ، فوصف الجاهلية يشملهم جميعاً، فهم إذن معسكرات جاهلية وأممهم أمم جاهلية، بل كافرة ومشركة. وقد نص القرآن الكريم والسنة المطهرة على كفرهم جميعاً اليهود والنصارى والمشركين والملحدين. والكفر يشكل بينهم عاملاً مشتركاً "الكفر ملة واحدة".
أما المسلمون فإنهم يشكلون فيما بينهم ومن دون الناس جميعاً أمة واحدة هي الأمة المسلمة أو الإسلامية، ومعسكراً واحداً هو المعسكر الإسلامي، وحزباً واحداً هو حزب الله تعالى ما داموا متمسكين بكتاب الله تعالى وسنة - رسوله صلى الله عليه وسلم.
من هذا الواقع وهو كون المعسكرات الجاهلية كلها كافرة، وكون المسلمين يشكلون أمة من دون الناس، من هذا الواقع نشأت علاقة غير المسلمين بالمسلمين وتحدد نوعها وهو العداء. عداؤهم لنا وقد كشف القرآن الكريم عنها بقوله تعالى:{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} (النساء:101) .
وفي القرآن الكريم آيات أخرى وردت كهذه الآية الكريمة، بصيغ نهائية قطعية مما يفيد أن عداوتهم ليست عرضية زائلة بل هي أصيلة طويلة الأمد لا يرجى لها زوال ما دام على الأرض كفر وكفار.
هذا وقد نشأ عن هذا العداء الأصيل للمسلمين من قبل غيرهم حقيقتان تاريخيتان هما:
الأولى: استحالة المصلحة والتعايش بسلام دائم بين المسلمين وأي من المعسكرات الجاهلية سواء كانوا الصهاينة أو الصليبيين أو الملحدين أو الوثنيين، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحالة هذا اللقاء والتعايش واستحالة المصالحة بين المؤمنين والكافرين بقوله:"لا تراءى ناراهما".
وإذن لا يمكن أن يتعايش المؤمنون المسلمون مع الكافرين أياً كان دينهم ومعسكرهم إلا إذا أمكن أن يعيش الإيمان إلى جانب الكفر في قلب رجل واحد، وهذا مستحيل، نعم مستحيل لأن المعركة قائمة منذ بدء الحياة البشرية إلى ما يشاء الله تعالى بين الإيمان والكفر، وبين الإسلام والجاهلية بين الهدى والضلال بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك.. ومن ثم فالمعركة قائمة ومستمرة بين المؤمنين المسلمين أتباع الحق والهدى، أهل التوحيد وبين الكافرين أتباع الباطل والضلال أهل الشرك والوثنيات..
أما سبب هذه المعركة الطويلة الأمد وسرها فهو الخلاف الأصيل والمناقضة التامة بين الإسلام وطبيعته وما يهدف إليه في حياة البشر، وبين الكفر وطبيعته وما يهدف إليه في حياة البشر..
الإسلام بما في طبيعته من حق يريد تحرير الناس من العبودية لغير الله تبارك وتعالى أياً كان شكل هذه العبودية وصورتُها، ويريد إخلاصها لله -تعالى -وحده، فلا يعبد غير الله - تعالى - معه أو دونه.
أما الكفر فبما في طبيعته من بغي (ممثلاً بإبليس عليه لعنة الله - وجنده وأوليائه) فيريد فتنة الناس عن دين الله تبارك وتعالى وتعبيدهم لغير الله - سبحانه -.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38)
وهدّد فرعون موسى عليه الصلاة والسلام قائلاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء: 29) . فهو لا ترضيه السيطرة على أوضاع الناس بل يطغى للسيطرة على عقولهم وقلوبهم فلا تنشرح لشيء إلا بعد استئذانه ولو كان الإيمان بالله تعالى. قال فرعون لسحرته حين أسلموا ولم يستأذنوه بانشراح صدورهم للإيمان بالله تعالى وتغيير معتقدهم الباطل، وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (طه 71) . إنها بنظر الكفر هي الجريمة الكبرى التي يستحقون عليها القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف فهددهم قائلاً:{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .
والإسلام بما في طبيعته من طهر ونظافة يريد تطهير الناس وضمائرهم وبيوتهم وواقعهم من لوثات الكفر والفسق والعصيان.
ولكن الكفر بما في طبيعته من انحراف وفجور ورجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (براءة 28) يكره هذا الذي يريده الإسلام للناس وينقم عليه، لأنه يريد لهم الانحراف واتباع الشهوات.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (النساء26) .
والإسلام بما في طبيعته من حيوية وحركة وجد ينطلق يجاهد الكفر أنّى وُجد ويطارده من القلوب والعقول، ومن واقع الناس وأنظمتهم.. وقد ظهر إصرار الإسلام، على مطاردة الكفر، في انطلاقه خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة، يطارد الكفر ويحطم قواه التي بها يصول ويجول، ويزيل أنظمته وأوضاعه الجاهلية التي يعبد بها الناس لغير ربهم - سبحانه - ويفتنهم عن دين الله تعالى وهداه. [2]
وأما الكفر فهو الآخر بما في طبيعته من طغيان يعمل على محاربة الإسلام وملاحقته والصد عنه ما واتته الفرصة من ليل أو نهار، وقد ظهر إصرار الكفر على محاربة الإسلام ومحاولات رد المسلمين عن دينهم في ظاهرتين اثنتين:
الظاهرة الأولى: مسارعة رؤوس الكفر وأئمة الضلال في قوم كل نبي يرسله الله - تعالى - للوقوف في وجه نبيهم عليه الصلاة والسلام والصد عن دين الله - تعالى - وفتنة المؤمنين به.
الظاهرة الثانية: مسارعة المعسكرات الجاهلية لنقض عهودها مع المسلمين حالما تلوح لهم فرصة ضعف المسلمين وعجزهم عن تأديب ناقضي العهد معهم.
وهكذا نجد أن كلاً من الإسلام والكفر يعمل بإصرار على إزالة الآخر من العقول والضمائر والقلوب ومن حياة الناس وأوضاعهم وأنظمتهم، لأنه لا يوجد أحدهما إلا حيث يخسر الآخر وينسحب، ولا وجود لأحدهما إلا على حساب الآخر، وأن بداية أحدهما في عقل أو ضمير أو قلب، أو وضع أو نظام أو مكان هي بداية النهاية للآخر..
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال:39) .
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة: 36) .
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217) .
2-
أما الحقيقة التاريخية الثانية فهي تعاون القوى الكافرة ومعسكراتها ضد الإسلام والمسلمين.. وهذا ما كشف عنه الكتاب والسنة أيضاً في أكثر من آية وحديث.. وبأكثر من أسلوب تصريحاً وتلميحاً.. من ذلك جمع الكفار كلهم في سياق آية واحدة، والحديث عن مرادهم في المسلمين وموقفهم منه مما يدل على وحدة بواعثهم وأهدافهم تجاه الإسلام والمسلمين، وكذلك وحدة مواقفهم كقوله تعالى - على سبيل المثال لا الحصر:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة: 105)[3] .
أما الواقع التاريخي فقد ترجم هذه الحقيقة وأظهرها خلال الأربعة عشر قرناً من الزمان "لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد" وما يزال يظهرها اليوم ويبينها أجلى ما يكون بياناً..
وهذه الحقيقة التاريخية وسابقتها تحتاج إلى محاضرة مستقلة إن لم يكن أكثر من محاضرة، وأرجو أن أوفق لذلك في المستقبل بإذن الله تعالى. وهذه إشارات خاطفة على سبيل المثال لا الحصر:
أيها الأخوة: كلنا يعلم الحروب الطويلة الأمد التي كانت بين الفرس والروم، وأن هذه الحروب توقفت فجأة بظهور الإسلام وتحولت القوتان المتخاصمتان دهراً طويلاً إلى قوتين متعاونتين ضد الإسلام والمسلمين..فحارب المسلمون على الجبهتين الفارسية والرومية في وقت واحد ونصرهم الله تعالى عليهما..
كذلك إن الذي يدرس تاريخ الحروب الصليبية وغزو التتار لبلاد المسلمين يعلم السفارات التي كانت تتبادل بين دول المعسكر الصليبي وإماراته ورؤوسه وبين التتار في بلادهم قبل بدئهم بغزو العالم الإسلامي، ولما جاءوا إلى بلاد الإسلام انضم إليهم غير المسلمين من الطوائف الأخرى في بغداد وبلاد الشام وغيرهما وتعاونوا معهم، بل إن النصارى هللوا واستبشروا بقدوم التتار الوثنيين واعتبروا غزوهم لبلاد المسلمين حملة صليبية جديدة جاءت من الشرق بدلاً من أن تأتي من الغرب، وقد رأينا كيف أنه لم ينج من مذبحتهم الرهيبة في بغداد إلا هؤلاء الذين تعاونوا معهم من الطوائف غير المسلمة، ومنحهم الغزاة قصور المسلمين وأمرائهم الذين ذبحوا منهم من ذبحوا، وفر منهم من استطاع الفرار، واختفى الباقون في الأقنية والسراديب، فلما خرجوا لقوا حتفهم بسبب المرض الذي فتك بهم.
أما تعاون القوى الكافرة والمعسكرات الجاهلية فيما بينها اليوم ضد الإسلام والمسلمين وقضاياهم فهي أوضح من أن تحتاج إلى بيان في فلسطين وباكستان الشرقية والفلبين والحبشة بل في إفريقيا كلها وفي كل قضية يكون المسلمون طرفاً فيها..
أيها الأخوة: إن إدراكنا لهذا الواقع، وهو كون المسلمين أمة من دون الناس، وكون الكفر عاملاً مشتركاً بين سائر المعسكرات الجاهلية "الكفر ملة واحدة"..
وإن إدراكنا لسر الصراع الطويل الأمد بين الحق وجنده، وبين الباطل وجنده.. إن هذا يمكننا من إدراك عدة أمور هامة جداً في حياتنا اليوم، يجب أن تبحث وتفصل حتى يعرفها شبابنا وأبناؤنا ليكونوا على بصيرة بعصرهم هذا الذي أقبلت فيه الفتن كقطع الليل المظلم، وركب بعضها بعضاً، وأخذ بعضها برقاب بعض، بحيث تدع الحليم حيراناً، فما بالك بغير الحليم؟! ..
ومن هذه الأمور: انه يمكننا من فهم طبيعة الجهاد في سبيل الله- تعالى - وبواعث المجاهدين من سلفنا الصالح ولماذا كانوا لا يقتلون إلا المقاتلين الذين لا يرمون السلاح وهو يمكننا من فهم أسباب الحروب الطويلة التي شنتها المعسكرات الجاهلية على المسلمين في كل مكان غلب فيه المسلمون على أمرهم، وكذلك لماذا كانت حروبهم معنا ولنا حرب إبادة واستئصال؟
وهو يمكننا من فهم أسرار الطغيان وعمليات السحق الوحشية لشباب المسلمين والفتك بعلمائهم وقادة فكرهم على أيدي الأنظمة الجاهلية وأوضاعها، ومطاردتهم وتشريدهم؟ !
وهو يمكننا كذلك من فهم الصمت المطبق في وسائل الإعلام العالمية حين تكون الضحية مسلمة والقضية إسلامية، والضجة الكبرى حين يوجه إيذاء لغير المسلمين أو يمنعون من ممارسة شعائرهم أو نشاطاتهم؟ [4]
كما أنه يمكننا من إدراك حقيقة العلاقة التي قامت عبر التاريخ وتقوم الآن بيننا وبين المعسكر النصراني الصليبي هو أحد معسكرات الكفر، ومن ثم فعلاقته بنا إذن تنبثق من العداء الأصيل بين الحق وأهله وبين الباطل وأهله، وأن كل ما بين الإسلام والكفر من عداء وإصرار كل منهما على ملاحقة الآخر وتعقب آثاره لتصفيته من دنيا الناس وواقعهم وقلوبهم وضمائرهم هو قائم بين المؤمنين المسلمين وبين المعسكر النصراني الصليبي.
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120)
وهذا ما ترجمه الواقع التاريخي طوال الأربعة عشر قرناً من الزمان..
أيها الأخوة: لقد قلنا: من واقع كون المسلمين أمة من دون الناس جميعاً، وكون المعسكرات الجاهلية كلها كافرة نشأت علاقة غير المسلمين بالمسلمين وتحدد نوعها وهو عداؤهم لنا عداء أصيلاً مستمراً لا يرجى له زوال ما دام على الأرض كفر وكفار أو يتحول المسلمون عن دينهم إلى الكفر - والعياذ بالله تعالى -، وأن القرآن الكريم كشف عن هذا بقوله تعالى:{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن الإسلام بما فيه من حق وطهر وحيوية وحركة لا بد وأن ينطلق يحرر الناس ويطارد الكفر بشتى صوره، ويحطم قواه التي يصول بها ويجول ويزيل أنظمته الجاهلية وأوضاعه التي يفتن بها الناس عن دين الله - تعالى - ويصدهم عنه.. وكان بديهياً ومنتظراً أن يصطدم بالمعسكر النصراني الصليبي القابع في شمال الجزيرة العربية - باعتباره أحد معسكرات الكفر - والذي بدأ يتحرك ويتحفز للانقضاض على المسلمين منذ أن أصبح لهم دولة وقوة في هذه المدينة المنورة، ويترجم بذلك خوف الكفر وحذره من انطلاق الإسلام وإصراره على حرب الإسلام ومحاولات القضاء عليه، ومدفوعاً بطغيان الكفر وبغيه وكرهه للإسلام.. فكانت غزوة مؤتة وكانت غزوة تبوك، وغيرهما..
هذا بعض ما كان منه، أو بدأ به، أما ما كان من الإسلام.. فإن الإسلام ما أن أخضع الجزيرة العربية واستخلصها لنفسه قاعدة له لا يشاركه فيها دين آخر "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"حتى بدأ بالزحف على المعسكر النصراني في انطلاقه العام لتحرير الناس كلهم وتعبيدهم لخالقهم وحده، فكانت اليرموك وكان غيرها..واستمر الصراع حتى اليوم، لم يهدأ، ولم يفتر، بل كثرت ألوانه وأساليبه، وترك بصماته قوية على مكانة العالم النصراني العالمية، وأحدث تغييراً كبيراً في خارطته وأوضاع الشعوب التي كانت تخضع له، مما كان له تأثيره العميق على تفكيره ونفسيته، واتصالاته بنا وتجاربه التي خرج بها خلال هذه القرون الأربعة عشر، فنشأت من ذلك أمور أخذت مع الزمن تترسم في أذهان قادته ورؤوسه من ملوكه وأمرائه ورجال كنيسته وتترسخ في قلوبهم ومشاعرهم وتشكل منطلقات أساسية لنظرتهم إلينا وعلاقتهم بنا، لا يستطيعون فكاكاً منها، ولا تخلصاً من ضغطها بل التحمت بلحمهم وعظمهم، وسرت روحاً في كيانهم لا تفارقهم لحظة من ليل أو نهار.. وقد كانت أولى هذه الأمور: روحاً صليبية حاقدة..فما هي الروح؟ وكيف تشكلت عبر التاريخ؟ وما هو مدى تأثيرها على نظرتهم إلينا وعلاقتهم بنا؟
هذا ما أبدأ الإجابة عليه (بإذن الله تعلى) .
الروح الصليبية ونشأتها:
1-
لقد كان عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام آخر الرسل قبل سيدهم وخاتمهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ومن ثم كان حواريوه من بعده هم أساتذة العالم ومرشدي الأمم..
لكن المسيحية أصابها انحراف كبير وخطير نقلها من ديانة توحيدية سهلة إلى ديانة وثنية معقدة وذلك في عهدها الباكر، وفي منتصف القرن المسيحي الأول على يد اليهودي الماكر (بولس) . إلا أن النصارى ممثلين برجال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذلك الاعتبار الذي كان لحواريي عيسى عليه الصلاة والسلام وحواريوه - رحمهم الله تعالى - وعلى الرغم من إمعانهم في تحريف ما ورثوه من هذه النصرانية المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حتى ظهور الإسلام، وحتى يومنا هذا..
فلما ظهر الإسلام بتوحيده الصافي وحقه المبين، كشف انحراف النصرانية وبطلان ما آلت إليه وأظهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عما زعموه لأنفسهم من أستاذية العالم وهدايته، وآلت الصدارة للإسلام وغدا المسلمون هم أساتذة العالم وهداة البشرية وقادة الأمم ومرشدي الناس إلى الحق والهدى، وانتزعوا تلك المكانة من النصارى (كما انتزعوها من اليهود في هذه المدينة المنورة بعد الهجرة إليها) .
وقضى المسلمون على ما كان لرجال الكنيسة من سلطة ومصالح، وما زعموه لأنفسهم من وصاية على البشر وأوضاعهم وعلى عقولهم وأرواحهم، وما فرضوه عليهم من حق السخرة وما ابتزوه من أموالهم ضريبة يؤدونها إلى رجال الكنيسة دون تلكؤ أو تردد أو مراجعة أو استفسار.. وهذا كله عدا تعبيدهم لهم من دون الله تبارك وتعالى..
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم".
فكانت ذلك سبباً أصيلاً وعميقاً في كراهية النصارى - لاسيما رجال كنيستهم - للإسلام والمسلمين، وكان وراء ذلك محاولاتهم المستمرة للصد عن الإسلام ورد المسلمين عن دينهم أو القضاء عليهم وعلى إسلامهم..
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) .
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (البقرة: 109) .
2-
ثم نشأ سبب آخر زاد في عمق وتأصيل كراهية النصارى - لا سيما رؤوسهم من رجال كنيستهم وملوكهم - للإسلام والمسلمين، والجهد في حرب المعسكر الإسلامي.. هذا السبب هو: انطلاق الإسلام في الأرض لتحرير الناس من العبودية لله تعلى وحده ولإخراجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. واصطدامه بالمعسكر النصراني الصليبي وتحطيمه جيوشه وأنظمته.. والفتوحات التي أحرزها في العالم النصراني نفسه، وانتزاعه منه بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، ووثبته على الأندلس وتوغله في أوربا من الغرب حتى شاء الله - تعالى - أن يقف المسلمون في تلك الجولة قريباً من (باريس) عاصمة فرنسا، ثم دخوله أوروبا مرة أخرى من الشرق وانتزاعه منه الأناضول والبلقان، وقضاؤه على الإمبراطورية البيزنطية وفتحه عاصمتها القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة الإسلام (إسلام بول) وتوغله بعدها في قلب أوروبا حتى شاء الله عز وجل أن يقف في هذه الجولة عند أسوار فيينا عاصمة النمسا. وكذلك صعوده على أوروبا من الجنوب من إيطاليا حتى دق أبواب روما وهدد دولة الفاتيكان. ثم صعوده على روسيا القيصرية وانتزاعه منها أطرافها الجنوبية والشرقية..
وجد المعسكر النصراني الصليبي نفسه أمام عملاق قوي خرج من هذه المدينة المنورة، فحطم له قواه وجيوشه التي كان بها يصول ويجول ويحكم بها نصف العالم، وطارده حتى حصره في أوروبا وحدها بل في جزء منها وطوقه من الشرق والغرب بذراعين قويتين يهدده بهما صباح مساء..
فكان هذا، أيضاً، سبباً في تأصيل كراهية المعسكر النصراني الصليبي وعدائه للإسلام والمسلمين وتعميق هذه العداوة والكراهية وامتزاجها بلحنه ودمه وعظمه وعصبه، وغدوها جزءاً من تركيبه وتحولها إلى روح خبيثة من الحقد الدفين الذي أُترع به قلبه، وامتلأ بها صدره وأكلت كبده، فظهرت على ألسنة رؤوسه ورجاله {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 119) .
هذه الروح الحاقدة على الإسلام والمسلمين هي الروح الصليبية..
فالروح الصليبية إذن: هي روح العداء والحقد والكراهية للإسلام والمسلمين في نفوس رؤوس المعسكر النصراني الصليبي، من رجال كنيسته وملوكه، ومن والاهم وأطاع أوامرهم وخضع لهم وعمل بتوجيهاتهم واقتفى أثرهم في كره الإسلام والمسلمين وحربهم والحقد عليهم..
لقد سرت هذه الروح في جسم المعسكر الصليبي - بفعل رؤوسه - حتى كادت تشمل كيانه وتتغلغل في أجزائه وتشمل شعوبه وجماعاته وطوائفه وأفراده لولا وجود مجموعات أو طوائف بدت منهم المودة للإسلام والمسلمين، بسبب بقائهم أو قربهم من التوحيد الذي جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام ولذا بقيت بمنأى عن التلوث بهذه الروح الخبيثة، التي دأب رجال الكنيسة وسواهم من رؤوس المعسكر النصراني الصليبي على غرسها وإحيائها في شعوبهم وأتباعهم تضليلاً لهم وحقداً على الإسلام والمسلمين، ومن ثم دخلت مجموعات من هذه الطوائف في الإسلام حين وصلها وعرفته، كما فعلت طائفة منهم كانت في إقليم (البوسنة) تدعى (طائفة البوغوميل)(رفضوا عبادة السيدة مريم، وأبوا نظام التعميد، وأنكروا الصليب رمزاً دينياً، واعتبروا الانحناء أمام الصور الدينية والتماثيل إنما هو ضرب من عبادة الأصنام، وكرهوا نواقيس الكنائس وأطلقوا عليها أبواق الشياطين، وكانت دور صلاتهم على درجة كبيرة من البساطة والبعد عن الزينة والزخارف على عكس الكنائس الكاثوليكية التي كانت تتميز بالزخارف الزاهية.. وفوق هذا كله كان أفراد هذه الطائفة يعتقدون أن المسيح نفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلب ولكن حل محله شبح آخر، وهم يتفقون مع الآية الكريمة التي جاء فيها {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وكانوا يحرمون على أنفسهم شرب الخمر ويحرصون على أن يكون سلوكهم الخارجي وعلاقاتهم الاجتماعية مبرأة من العيوب التي حفلت بها المجتمعات المسيحية في أوروبا في ذلك الوقت.
"وكان من الطبيعي أن تنظر الكنيسة شذراً إلى هذه الطائفة ودعت البابوية إلى شن حملات صليبية عليهم، وقد تعرضوا لموجات من الاضطهاد العنيف على يد ملوك البوسنة الذين كانوا يستجيبون إلى توجيهات البابوية في روما. واستغاثت أفراد هذه الطائفة بالأتراك العثمانيين في القرن الخامس عشر لتخليصهم مما هم فيه من اضطهاد وبؤس وشقاء. ولما غزا السلطان محمد الفاتح البوسنة في سنة 1464م انضمت طائفة البوغوميل إلى الفاتحين، واستولى الجيش العثماني في خلال أسبوع واحد على معظم مدن البوسنة، وعلى إثر الفتح العثماني دخل البوغوميل في الإسلام أفواجاً بمحض إرادتهم، إذ وجدوا الفروق ضئيلة جداً بين مذهبهم وبين تعاليم الإسلام. أما البقية الباقية من أفراد هذه الطائفة فقد أسلموا تدريجياً. وبقي الكاثوليك من أهالي البوسنة على ديانتهم وآثروا الهجرة إلى النمسا والمجر "[5] .
ولعل هؤلاء النصارى (طائفة البوغوميل وأمثالهم) كأولئك الذين وجدوا في عصر الدعوة الإسلامية الأول ولم يجدوا في نفوسهم ما وجد غيرهم من الكبر الذي يصدهم عن الإسلام فأسلموا.. لعل هؤلاء وأولئك هم المعنيون بقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (المائدة: 82-86) .
وهكذا نجد أن الروح الصليبية نشأت منذ وجد للإسلام كيان ودولة في هذه المدينة المنورة وانتزع من النصارى ما زعموه لأنفسهم من مكانة دينية، ثم تفجرت وغلى مرجلها بعد الصدام المسلح الذي وقع بين المسلمين والدولة البيزنطية لا سيما بعد معركة اليرموك الظافرة التي لقيت فيها جيوشهم هزيمة نكراء تحطمت فيها قواهم وخرج بعدها رأسهم هرقل إمبراطور الدولة الرومانية من بلاد الشام هارباً والأسى والحزن يعصر قلبه عصراً، وقد عبر عن ذلك حين ركب البحر واستقل السفينة وألقى نظرات الوداع الأخيرة على شواطئ سورية الجميلة فلم يملك نفسه أن أطلق صرخة أودعها كل ما عنده من أسى وحزن وكمد فصاح قائلاً: الوداع، الوداع، إلى الأبد يا سورية، وداعاً لا لقاء بعده. وقد كان كذلك ولله الحمد
…
لقد نشأت هذه الروح منذ ذلك الحين ثم ما زادتها الأيام والأحداث إلا اشتعالاً واتقاداً وتفجراً وغلياناً، إذ دأب رجال الكنيسة إلى إبقاء جذوتها متقدة متوهجة، منتهزين كل انتصار يحرزه المسلمون ليسهل عليهم تسخيرها في أي وقت لدفع الكتل البشرية النصرانية في موجات تخريبية من الغزو الصليبي المدمر، والفتك بالمسلمين كلما قدروا عليهم.. وليس هذا فحسب بل أراد رؤوس المعسكر النصراني الصليبي أن يجعلوا هذه الروح الحاقدة تقليداً لأتباعهم وشعوبهم وطقساً من طقوسهم يشيب عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، ويرضعها الوليد مع لبن أمه.. وذلك حتى يمسي التخلص من الإسلام ورد المسلمين عنه أو إبادتهم هو الشغل الشاغل لكل نصراني على وجه الأرض وليس فقط لرؤوس المعسكر النصراني الصليبي..
وهكذا نجد أن الروح الصليبية ذات تأثير عميق جداً على نظرة المعسكر النصراني الصليبي إلينا ومن ثم علاقتهم بنا، إلى درجة أنها تشكل شطر منطلق على نظرة المعسكر النصراني الصليبي إلينا أما الشطر الآخر لهذا المنطلق فقد نشأ من نفس الظروف والأحداث التي نشأت عنها الروح الصليبية.. هذا الشطر الآخر: هو الثأر القديم الذي يشعر به المعسكر النصراني الصليبي تجاه الإسلام والمسلمين..
الثأر القديم:
أيها الأخوة: فقد قلنا إن المعسكر النصراني الصليبي وجد نفسه أمام عملاق خرج من هذه المدينة المنورة فانتزع منه مكانة الأستاذية والإرشاد في العالم، وما زعمه لنفسه من مكانة دينية في غفلة من الناس وبعدهم عن دين الله تعالى.. وانتزع منه شعوباً وأمماً كانت تخضع له وتدين لملوكه وكنيسته بالطاعة فأصبحت من جند الإسلام المخلصين تحمله وتفتح به البلاد وتهدي العباد بإذن الله تعالى..
وانتزع منه أيضاً أراضٍ واسعةٍ وبلاداً شتى كان ينفرد وحده باستغلال خيراتها لا يشاركه فيها أحد من الناس..
وانتزع كذلك أربع مدن رئيسية من أعز خمس مدن عليه في العالم وهي: (القدس، وإنطاكية، ونيقيه، والقسطنطينية) وبات يهدد الخامسة بالفتح وهي (روما) .
وفوق هذا كله فقد قضى على إمبراطوريته البيزنطية التي كان يعتبر إمبراطورها رأساً للعالم النصراني، ونائباً عن الله تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيرًا.
وهكذا وجد المعسكر النصراني الصليبي نفسه أمام عدو طعنه طعنات نجلاء، وجرحه جروحاً غائرة لا تندمل، ولا يمكن أن تندمل حتى يثأر لنفسه منه، ويسترد - بزعمه وتصوره -مكانته
وسائر ما انتزعه الإسلام منه من البلاد والعباد، وهداها الله تعالى به..
إلا أن أشد ما أثار المعسكر النصراني الصليبي وأقامه ولن يقعده هو فتح الإسلام لبلاد الشام وفيها (القدس) وقد رأينا حسرته ولوعته التي بدت بصرخة رأس من رؤوسه وهو هرقل حين خرج منها وهو يقول: "الوداع. الوداع يا سورية. وداعاً لا لقاء بعده". وكذلك فتح الإسلام للقسطنطينية وتحويلها إلى دار إسلام (إسلام بول) .
إن اهتمام المعسكر النصراني الصليبي بالقدس والقسطنطينية جعله يجهد بدأب واستمرار وعلى كافة المستويات منذ فتحهما الله تعالى على يد المسلمين وحتى اللحظة الحاضرة لانتزاعهما من أيدي المسلمين وإعادتهما مركزين أوليين من مراكز الصليب.. وإن أية دراسة واعية للحروب الصليبية تكشف لنا أن انتزاع (القدس) من أيدي المسلمين هو في رأس القائمة [6] قائمة أهدافهم ونشاطاتهم وحروبهم التي يعتقدون بقدسيتها والتي يعتقدون أنها لا تنتهي ولن تنتهي ما دامت القدس بأيدي المسلمين، كما صرح بذلك الجنرال الإنكليزي (أللنبي) حين دخل القدس في الحرب العالمية الأولى وظن أنهم انتزعوها من أيدي المسلمين فقال:(الآن انتهت الحروب الصليبية) .. فلما عادت للمسلمين رجعت المحاولات تبذل من جديد ولم يتغير فيها إلا الشكل والاسم.. كانت من قبل صريحة واضحة هكذا.. يريدون انتزاع القدس من أيدي المسلمين الذين يسمونهم كفرة. قال رأس من رؤوسهم وهو البابا أوروبا الثاني منفذ فكرة الحروب الصليبية المقدسة المعروفة بهذا الاسم والذي بدأ بدفع الكتل البشرية الأوروبية إلى بلاد الشام ومصر ثم استمرت بعده طوال قرنين من الزمان.. قال: "..فاتخذوا محجة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين الكفار (يقصد المسلمين)
…
" [7] أما اليوم فقد جاءت هذه الجهود على مراحل، المرحلة الأولى منها جاءت تحت اسم (التدويل) وما ذلك إلا لخداع المسلمين وتمويه الحقيقة عليهم، فإذا تمت لهم هذه المرحلة - لا سمح الله - خطوا للمرحلة الأخيرة وهي انتزاعها
نهائياً من أيدي المسلمين، وجعلها مركزاً رئيسياً من مراكز الصليب والاستعمار الصليبي.. هذا هو الغرض الذي يرمي إليه كل من ينادي بالتدويل..
أيها الأخوة: نخرج من هذا العرض الموجز أن المعسكر النصراني الصليبي يشعر بأن له فينا ثأر قديم ينتظر أية فرصة وبادرة كي يثأر لنفسه وينتقم منا وهذا الثأر من الروح الصليبية يشكلان منطلقاً جوهرياً وأساسياً لنظرته إلينا ومعاملته لنا، وعلاقته بنا..
المصالح الآنية:
أيها الإخوة: لقد كان للمعسكر النصراني في صراعه مع المسلمين لا سيما في الحديث جولات اجتاح فيها العالم الإسلامي بجيوشه من عسكريين ومبشرين وفنيين وخبراء وسوى ذلك، وقد أجرى خلال ذلك - وما زال يجري دراسات هامة ودقيقة عن العالم الإسلامي، وطبيعة أرضه وشعوبه وثرواته، خدمة لأغراضه هو ومصالحه قبل غيره، ولتمديد فترة وجوده وبقائه فيه، واستعماره له، واستغلاله لخيراته أطول فترة ممكنة، وذلك في حال عجزه عن رد المسلمين عن دينهم أو إبادتهم وتصفيته تصفية جسدية، وقد خرج من هذه الدراسات بنتائج جد هامة.
1-
وجد أن العالم الإسلامي يمتد على رقعة من الأرض كبيرة جداً تمتد من أواسط أوروبا حتى أواسط روسيا فأواسط الصين، ثم ينحدر نحو الجنوب الشرقي ليشمل جنوب شرقي آسيا حتى أستراليا ثم يتجه نحو الجنوب ليشمل إفريقيا كلها تقريباً حتى أسبانيا (الأندلس الفردوس المفقود) .
ووجد أن هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف يضم جوانحه على أهم البحار التي تجري على سطحها معظم تجارة العالم، وأنه يملك معظم سواحلها ومداخلها، كالمحيط الهندي والبحر الأحمر والأبيض، والأسود، والساحل الشرقي للمحيط الأطلسي من رأس الرجاء الصالح حتى مضيق جبل طارق، وأنه إذا كانت بعض دول المعسكرات الجاهلية الأخرى تشاركه في السيطرة على القليل من سواحل هذه البحار، فإنه ينفرد دونها بامتلاك مداخلها والسيطرة عليها..فمثلاً:
المحيط الهندي: مدخله من الشرق: مضيق مالقا بين جزيرة سومطرة مشبه جزيرة الملايو من إندونيسيا المسلمة.
وأما مدخله من الشمال الغربي فهو مضيق باب المندب، بين الجزيرة العربية والصومال المسلمة.
البحر الأحمر: مدخله الجنوبي: هو مضيق باب المندب المذكور آنفاً، أما مدخله الشمالي فقناة السويس (الشريان الحيوي لرفاهية أوروبا وأمريكا) .
البحر الأبيض المتوسط: مدخله من الجنوب قناة السويس. ومن الشمال البوسفور والدردنيل في أرض مسلمة (تركيا) .
البحر الأسود: مدخله الوحيد هو من الجنوب وهو من الجنوب مضيقا البوسفور والدردنيل المذكورين.
فماذا يعني هذا الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي؟
إنه يعني أن الأمة المسلمة عملاق كبير يجلس على رقعة كبيرة من الكرة الأرضية وتمر من تحته كل قوافل التجارة العالمية وكل وسائل الرفاه الدولي، وإن المعسكر النصراني الصليبي لا يستطيع الاستغناء عن هذه الطرق البحرية، ومعنى ذلك أن تجارته العالمية ورفاهية شعوبه متعمدة اعتماداً كبيراً على العالم الإسلامي.. هذه واحدة..
2-
والنتيجة الثانية التي وجدها المعسكر النصراني الصليبي عقب دراسته المشار إليها: أن الله سبحانه قد حبا العالم خيرات كثيرة هائلة وكنوزاً ضخمة ظاهرة وباطنة، تشكل عصب الحياة لصناعاته وحياته.. فالعالم الإسلامي يملك نسبة عالية من الثروات العالمية المعدنية والنباتية والحيوانية.. فمثلاً: ينتج العالم الإسلامي 31% من جملة الإنتاج العالمي للبترول، ويملك في جوفه3 ،69 % من احتياطي البترول العالمي، وينتج أكثر من 28% من جملة الإنتاج العالمي للكروم و 23% من الانتاج العالمي من الفوسفات، ونسبة كبيرة من اليورانيوم والنوريوم، وهذا كله سوى الحديد والذهب والفضة والنحاس، وكذلك الثروات النباتية كالأخشاب والقطن والمطاط وأيضاً الثروات الحيوانية..
هذه الإحصائيات هي ما يقوله خبراء العالم فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن العالم يأتي إلينا ليستجدي منا لقمة العيش وكفاف الحياة [8] .
وهذا يعني أيضاً: أن صناعات المعسكر النصراني الصليبي تقوم على ما ينتجه العالم الإسلامي ويملكه المسلمون من مواد أولية..هذا من جهة..
ومن جهة أخرى تقوم صناعاته أيضاً على أسواق تصريفها في العالم الإسلامي، لأن المصنوعات إذا لم تجد لها أسواقاً فإنها تقف.. فالعالم الإسلامي إذن هو مصدر أو نبع للمواد الخام التي يحتاجها المعسكر النصراني الصليبي [9] لصناعاته، وهو - أي العالم الإسلامي - سوق لتصريف صناعات المعسكر النصراني الصليبي [10] .
أيها الإخوة: إن هذا الموقع الممتاز للعالم الإسلامي وسيطرته على طرق التجارة البحرية ومدخلها وهذه الثروات الضخمة التي يملكها المسلمون
…
واعتماد المعسكر النصراني الصليبي على هذا الموقع وهذه الثروات له دلالته عنهم.. وهي: أن مصالحه الحيوية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعالم الإسلامي، ولكن هذا المعسكر بدافع الروح الصليبية الحاقدة، والثأر القديم، لا يريد أن يعامل المسلمين معاملة كريمة لائقة أو معاملة المثل بالمثل على الأقل، وإنما يريد استعمارهم واستعبادهم وإذلالهم والانفراد بخيرات بلادهم دونهم! ومن ثم فهو يدرك أنه لن يصل إلى ما يريده من استعمار المسلمين بخيرات أرضهم دونهم إلا في غفلة منهم وفي حال بعدهم عن مصدر قوتهم وهو إسلامهم العظيم، ومن ثم يعمل جاهداً للإبقاء على المسلمين في حالة نوم عميق وغفلة طويلة.. ويحذر حذراً شديداً أية صحوة لهم، ويحارب بلا هوادة كل شخص أو حركة تريد تنبيه المسلمين عملاق متى ما صحا وعادت إليه قوته بعودته إلى دينه ووحدته سيطرة وبقوة على التجارة العالمية وتحكم في صناعات العالم، وأمسك بلقمة عيشهم وفرض هيبته وسلطانه وأخضع كافة المعسكرات الجاهلية لإرادته وسهل عليه بعد ذلك نشر دينه بين شعوبها، وهذا ما تحذره وتخافه أشد الخوف والحذر- كما سيأتي إن شاء الله تعالى معنا في الفقرة الثالثة والأخيرة -
…
ويضمن له استعمار العالم الإسلامي واستعباد شعوبه والانفراد دونهم بخيراتهم هو نشر النصرانية وأفكارها بين المسلمين وتغريبهم (أي نشر الأفكار الغربية بينهم)[11] وكل ما من شأنه أن يضعف صلة المسلمين بإسلامهم ويردهم عنه..ومن هنا كان الاهتمام الكبير من الحكومات والمؤسسات الاقتصادية والهيئات السياسية في المعسكر النصراني الصليبي بالتبشير والأعمال التبشيرية في العالم الإسلامي، والإنفاق بسخاء على المبشرين الذين يعملون بين المسلمين، وينشرون الفساد والإنحلال في مجتمعاتهم.
ورد في كتاب الغارة على العالم الإسلامي ما يلي:
"ولما انتهت اللجنة من أعمالها قال اللورد بلفور [12]، رئيس الشرف: إن المبشرين ساعد لكل الحكومات في أمور هامة، ولولاها لتعذر عليها أن تقاوم كثيراً من العقبات، وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يناط بها التوسط والعمل لما فيه مصلحة المبشرين.
"فأجيب اللورد بلفور إلى اقتراحه وتشكلت لجنة مختلطة ولجنة لمواصلة العمل وقال: م. ن.اكسنفلد عن المؤتمر الاستعماري الألماني:
"إن المؤتمر الاستعماري امتاز بميزتين:
الأولى: أنه بحث في الشؤون الصناعية والاقتصادية.
والثانية: إجماعه على وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال الأخلاقية والدينية في سياسة الاستعمار الألماني.
ثم استشهد بقول (شنكال) رئيس غرفة التجارة في همبرغ: إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات، وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة، لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على هذه الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية ".
ثم قال:"وتوسعوا في القول حتى خيّل للجميع أن المؤتمر الاستعماري تحول إلى مؤتمر تبشيري..".
وورد في الكتاب المذكور أيضاً وهو (الغارة على العالم الإسلامي) ذكر لبعض الإحصائيات التي تبين مدى الاهتمام والمساعدات الكبيرة التي يلقاها المبشرون الأمريكان من أغنياء أمتهم ومتمولي بلادهم الذين يمدونهم بالأموال الطائلة لأداء مهمتهم التبشيرية في العالم الإسلامي..
والذي ننتهي إليه من هذه النماذج التي لا تمثل إلا قطرة من بحر، هو أن المعسكر النصراني الصليبي له مصالح هامة في بلادنا، وهو يرى أن الضمان الوحيد لمصالحه هو رد المسلمين عن دينهم سواء بنشر النصرانية وهذا أهم شيء وأضمنه بالنسبة لهم إذ يخضع المنتصرون بعدها لأوامر وتوجيهات رؤوسه مباشرة أو نشر الأفكار الغربية الأخرى التي تبعد المسلم عن دينه وترده عنه في حال عجزهم عن تنصير المسلمين.. قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) .
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109) .
وهكذا نجد أن مصالح المعسكر النصراني الصليبي في بلادنا، والكيفية التي يريد الحفاظ بها عليها، تضغط على أعصابه وتستحوذ على تفكيره وتؤثر تأثيراً عميقاً على علاقته بنا، ومن ثم فهي تشكل منطلقاً آخر من منطلقات علاقته بنا وعاملاً من العوامل الموجهة لمعاملته لنا، يضاف إلى العوامل الأخرى التي سلف بحثها وهي العداء بين الإسلام والكفر، والروح الصليبية الحاقدة، والثارات القديمة..
مخاوف مستقبلة:
ولكن في الواقع إن الذي يدرس أحوال المعسكر النصراني الصليبي يجد أن هذه العوامل ليست هي كل العوامل التي تؤثر على معاملته لنا وعلاقته بنا، وتوجهها وجهة معينة، بل إنه يعثر على عامل آخر يبدو من نظراته للمسلمين ومعاملته لهم. وقد كان نتيجة الدروس التي خرج بها: أن المسلمين إذا حلت بهم هزيمة - نتيجة ضعفهم وتمزقهم وبعدهم عن دينهم - إن هذه الهزيمة لم تكن دائمة ولو طال أمدها، بل كانت هزيمة مؤقتة لا تلبث أن تتعقبها صحوة لهذا العملاق المسلم فينقض على أعدائه يطاردهم حتى في عقر دارهم فيفتح بلاداً جديدة، ينشر فيها الإسلام وينتزعها من أعدائه الذين غلبوه في ساعة غفلته وانقسامه وضعفه.. وأن هذه البلاد التي يفتحها يستأثر بها إلى الأبد ويحول أهلها إلى مسلمين..
لقد حدث هذا أكثر من مرة وتكرر عبر التاريخ، ومن ثم فالمعسكر النصراني الصليبي ما زال يخشى حدوثه اليوم ويخشى أن يعيد التاريخ نفسه..
يروي الحاج أمين الحسيني في بعض مذكراته: أن دول المعسكر النصراني الصليبي تعارض وحدة أيٍّ من الأقطار الإسلامية في دولة واحدة خشية أن تعود لهم قوتهم بوحدتهم، ومن ذلك معارضتهم استقلال دول المغرب العربي ووحدتها، في حديث كان بينه وبين (بروفر) وكيل وزارة الخارجية الألمانية للشؤون الشرقية في حكومة هتلر النازية [13] . ويقول الحاج أمين حين ألمح لبروفر:"أن معارضة دول المعسكر النصراني الصليبي لاستقلال دول المسلمين قد تدفعنا للتعاون مع دول المعسكر الشيوعي ومن ثم تحولها للشيوعية التي تخاف منها أوروبا".
قال: فأجابني بروفر قائلاً:"إن هذه الدول الاستعمارية ترى أن الإسلام أشد خطراً من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها ودرء أخطارها برفع مستوى المعيشة عند الشعوب وتعميم العدل الاجتماعين وغير ذلك من الوسائل".
"ولكنها ترى في الإسلام عقيدة زاحفة يخشى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها. وأضعفت قيمها الخلقية والروحية والعسكرية، وهم يخشون إذا تألفت هذه الدول المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم ويتوهمون أنها لا تلبث أن تقفز على أوروبا مرة أخرى، ويعيد التاريخ نفسه". [14] .
فهم إذن يعيشون في خوف دائم قلق مستمر من عودة المسلمين إلى دينهم ووحدتهم خوفاً من أن يعيد التاريخ نفسه، وهم يرون أن الإسلام هو الخطر الحقيقي عليهم، وهو الجدار الوحيد في وجه استعمارهم لبلاد المسلمين وانفرادهم بخيراتها كما يودون.
يقول جورج براون في كتاب له صدر عام 1364هـ ما يلي معبراً عن مخاوف المعسكر النصراني الصليبي من الإسلام، فقال:
"كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكنا بعد اختبار لهم لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي..إلا أن هذا التخويف لم يتفق كما تخيلناه..
إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! [15] .
ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا..
أما الشعوب الصفراء فهناك دول ديمقراطية كبرى تقاومها..
ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي."
هذا الذي يخيفهم فقط، إنه الإسلام ويقظة المسلمين وعودتهم إليه. وخوفهم من الإسلام ويقظة المسلمين ليس على مصالحهم في العالم الإسلامي فحسب، بل حتى وجودهم في بلادهم. ومن ثم فهم يحذرون كل تحرك للمسلمين ويرقبونه ويرصدونه كل حركة أو دعوة إسلامية ترمي لإيقاظ هذا العملاق النائم لتوحيد أعضائه وربطها بقلبه ويتتبعون أخبارها وليس هذا فقط، بل يهتمون ويغتمون لقيام كل شخصية أو داعية إسلامي يصيح في المسلمين ليستيقظوا من غفلتهم ويعودوا إلى ربهم -سبحانه - ويتمسكوا بكتاب ربهم - سبحانه - وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ويرجعوا إلى وحداتهم، ومن ثم فهم يبذلون جهوداً ضخمة للتخلص منه ومن دعوته بشتى الوسائل والأساليب، وإن كانوا اليوم وبعد تجارب كثيرة يفضلون أن يكون التخلص منه على أيدي أبناء المسلمين حتى لا يشكل ذلك ردة فعل عند المسلمين ويحدث الذي يخشونه من عودة المسلمين إلى كتاب ربهم -سبحانه - وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ولذلك نجدهم يخططون لهذا ويعبرون عن ذلك بقولهم "علينا أن نخرج من المسلمين من يتولى حرب الإسلام، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد فروعها".ومن هنا وجدنا كيف أوعزت الدوائر الاستعمارية الصليبية لربيب نعمتها محمد علي باشا (الذي يسمونه بالكبير) أن يزحف على الدرعية بالسلاح الذي زودته به أوروبا وبالتدريب العسكري الذي دربت جنوده عليه. ولكن هذا كله تم باسم الباب العالي أو قل باسم خليفة المسلمين، وبصرف النظر عن الملابسات الأخرى، لكن المهم هو أنهم ما أن عرفوا حقيقة دعوة مجدد الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى - حتى أقامهم ذلك وأقعدهم وملأ قلوبهم رعباً، وراحوا يسعون سعياً حثيثاً لإجهاض هذه الحركة الإسلامية العظيمة التي تروم العودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة مما كان لها آثارها العظيمة ولله الحمد في إعادة المسلمين إلى كتاب ربهم - سبحانه - وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام -
وتطهيرهم من الخرافات والبدع والشركيات والضلالات. والعجيب من أمر المسلمين أنه بينما يعوم المعسكر النصراني الصليبي ويقعد لأنباء الحركات والدعوات والشخصيات الإسلامية وترتعد فرائصه لقيامها، ويموج فرحاً بشعوبه ومؤسساته لوأدها وقتل رجالها وقادتها، يبقى المسلمون - إلا من رحم ربك - في غفلة عن ذلك كله وكأن الأمر لا يعنيهم وهذا في أحسن أحوالهم، وهذا إذا لم يستخدموا كما يستخدم المعول في الهدم، أو يصفقوا ببلاهة وسذاجة للهدامين..
يقول العالم الشهيد - سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هياج المعسكر النصراني الصليبي لقتل إحدى هذه الشخصيات الإسلامية التي خلفت الإمام المجدد محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في إيقاظ المسلمين والعمل على توحيدهم-
يقول: "كنت يومها في أمريكا- أي يوم قتل الشهيد حسن البنا - رحمه الله تعالى - ولم أكن أعط الحركة الإسلامية ولا مرشدها من اهتمامي - ما هو جدير به - ولم أكن أتصور أنها تشكل في بؤرة الشعور الغربي شيئاً يذكر حتى صدمني الواقع من حولي في أمريكا وهزني هزاً فتح أعيني فتحاً ما لم أفطن إليه من قبل".
"لقد شهدت مظاهر الابتهاج والفرح بل والشماتة في كل شيء من حولي في الصحافة، وفي جميع أجهزة الإعلام، ووفي كافة المنتديات، كلها تهلل وتهنئ بعضها بعضاً بالتخلص من أخطر رجل في الشرق فعجبت من هذا الاهتمام به والتقييم لحركته والتتبع الواعي لها إلى هذا الحد الذي لا وجود لمثله في بلادنا نفسها، وعلمت أن في الأمر سراً أكبر يغيب عني يكمن في طبيعة دعوة هذا الرجل، وفي شخصه العظيم الذي لم أحظ بمعرفته على الوجه الأكمل، وأنا أعيش معه في وطن واحد، الأمر الذي لم أستوِ فيه حتى مع المستعمرين، وصممت بعد عودتي من أمريكا أن أعيد بحث الأمر من جديد.."[16]
وهكذا نجد أن المعسكر النصراني الصليبي يعيش في خوف دائم، وحذر شديد من يقظة المسلمين وعودتهم لإسلامهم، وتسودّ الدنيا في عينيه حين يرى شخصية إسلامية يصيح في المسلمين لتوقظهم أو توحد كلمتهم فترتعد فرائص رؤوسه ويقومون يقابلون دعوته هذه باجتماعات يتداعون لها، وأحلاف يعقدونها كما رأينا منهم عبر التاريخ، وكما نرى اليوم.. كل ذلك خوفاً من أن يستيقظ هذا العملاق المسلم النائم الذي بدأ يتحرك ويصحوا وينتبه من غفلته ونومه الطويل، وخوفاً من أن يعيد التاريخ نفسه..
وهكذا نجد أن المخاوف من المستقبل تضغط هي الأخرى على أعصابهم وتسيطر على تفكيرهم ونظرتهم للإسلام والمسلمين فلا تبرحهم لحظة من ليل أو نهار، ومن ثم تشكل منطلقاً أساسياً آخر من منطلقات نظرتم إلينا ومعاملتهم لنا ينضم إلى المنطلقات الأخرى السالفة الذكر، وهي المصالح الآنية، والثارات القديمة، والروح الصليبية.. التي تنبع كلها من الصراع الطويل الأمد بين الإسلام والكفر..والتي تعمل كلها مجتمعة في عقله وقلبه وفي (بؤرة شعوره) وتسيطر على تفكيره وضميره، وكيانه كله، والتي كانت وما تزال تدفعه دفعاً لحرب الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل وعلى كافة المستويات00ولا تدعه يرتاح ويطمئن ما دام في الدنيا إسلام ومسلمون.. فهو إن نسي ثاراته، وخبت روحه الصليبية - مثلاً وجدلاً - ذكرته مصالحه الآنية، فإذا نسي مصالحه أقلقه مخاوفه المستقبلة من صحوة المسلمين وعودتهم إلى دينهم، فهو إذن من أمر الإسلام والمسلمين في شغل شاغل وعمل دائب مستمر - ولقد عمل للتخلص من الإسلام والمسلمين منذ زمن بعيد، وما تلك الحروب التي شنها في الماضي البعيد والقريب (ويشنها اليوم في الفلبين والحبشة وسواهما على المسلمين إلا لوناً من ألوان جهوده للتخلص من الإسلام والمسلمين.. ولكنه اليوم وفي العصر الحاضر يعمل وهو مزود بتجاربه ودروسه التي استفادها من صراعه مع المسلمين..
لقد عرف المعسكر النصراني الصليبي أن المسلم لا يمكن أن يواجه في معركة مكشوفة يكشف فيها عدوه عن حقيقة أهدافه وهي رده عن الإسلام أو قتله، فإن هذا الكشف كفيل بأن يوجد لدى المسلم ردة فعل ترجعه إلى إسلامه فيتمسك بكتاب ربه - تعالى - وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وفي ذلك قوته التي لا يقهرها كفر بإذن الله تعالى ونصره.
وعرف كذلك أن المسلم يتمتع برصيد عالٍ من الاستعداد الإيماني حتى والهزيمة تحل به فهو دائماً وأبداً يشعر أنه أعلى من عدوه الذي خدمته ظروف المعركة ولوقت ما، ومن ثم كان المسلم يعتبر أن هذه الهزيمة مؤقتة ولو طال أمدها، يعود بعدها وينتصر على عدوه..
لقد أدرك المعسكر النصراني الصليبي هذا السر في المسلم فعمل وبدأب واستمرار وبشتى الوسائل لتحطيم هذا الاستعلاء الإيماني ووأد روح المقاومة عنده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى جاء يتسلل تسللاً يخادع المسلمين ويرفع لهم فوق حروبه معهم شعارات متعددة تخفي طابع غزوه الديني، وتستر حقيقة مقصده وهي التخلص من الإسلام والمسلمين بردهم أو إبادتهم.. والحق أن الظروف ساعدت المعسكر النصراني الصليبي لتحقيق قدر كبير من أهدافه، وأشير الآن إشارات خاطفة لبعض أعماله..
1-
لقد عرف المعسكر النصراني الصليبي أن مصدر قوة المسلم هو الكتاب والسنة فعمل على الفصل بينه وبينهما، فشجع على نشر الخرافات والبدع والضلالات والصوفيات [17] ، وكلما تحمل على الفصل بين المسلم وكتاب ربه عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
2-
ولكنه وجد أنه إن استطاع الفصل بين المسلم وكتاب ربه - تعالى - وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فهناك التراث الإسلامي في الفكر والتاريخ وسوى ذلك، فإن هذا التراث كفيل لو رجع إليه المسلم، ولا بد أن يرجع إليه وأن ينبه المسلم الغافل، ومن ثم عمدت دوائره الاستشراقية إلى دراسة هذا التراث الأصيل وإعادة كتابته ما أمكن كتابته منه وباللون الذي يريده المعسكر النصراني الصليبي، ويخدم أغراضه من قتل روح الاستعلاء عند المسلم واستبدالها بروح التبعية للغرب، كما أشرنا لذلك في بداية هذه المحاضرة على صنيعهم في التاريخ.
3-
ثم قامت وسائله الإعلامية بتسليط أضواء قوية على الفكر الغربي وإنتاجه والثقافة الغربية، وبالمقابل إسدال ستار كثيف على التراث الإسلامي الأصيل، وذلك حتى يبهر المسلم بالغرب وثقافته، وبقدر ما يبهر بالغرب يستحيي من الانتماء للإسلام وكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتاريخه وتراثه الأصيل.
4-
ثم عمل على وأد روح الإبداع عند المسلم، فسيطر على مناهج التعليم ووضع لها سياسة معينة هدفها توسيع عملية التعليم كما يقال: أفقياً بحيث يزداد حملة الشهادات (التي لا تشهد لحاملها بالعلم بل تشهد له بالضحالة العلمية) . ويقل بسبب ذلك العلماء والخبراء.. أو بتعبير آخر: كان هدف هاتيك السياسات التعليمية هو: ليس تخريج علماء ومخترعين وبحاثين وإنما تخريج موظفين وكتبة، وحسب، بحيث لا يصلحون إلا لهذا النوع من العمل، وفي نفس الوقت لا يكون لهم سوى تحصيل الربح المادي الوفير والاسترزاق بشهاداته التي يحملها، فهو عبء على شهاداته، وهو أيضاً عبء على دولته وعالة على أمته لإطعامه وكسوته وما إلى ذلك دون أن يقدم لها هو شيئاً يذكر سوى هذا العمل الذي يمكن أن تقوم به آلة حاسبة أو كاتبة مثلاً، وذلك لأن روح المتابعة والتحصيل العلمي والفكري والإنتاج والإبداع قد قتلت في نفسه، قتلتها سياسات التعليم ومناهجها التي وضعتها له الدوائر الاستعمارية الصليبية وغيرها. [18] وكانت النتيجة هي أن الكم بدأ يتغلب على الكيف والنوع..
وفي نهاية كل سنة دراسية كان - وما يزال - في عالمنا الإسلامي يدخل الحياة العامة جيل من هذا النوع من حملة الشهادات، ويحمل معه الضحالة في العلم والسطحية في التفكير، والرغبة الجامحة في الحصول على أعلى نسبة ممكنة من الربح المادي مما شغله عن الاهتمام بتعميق وعيه وإدراكه ومتابعة الحركات العلمية والأدبية، فتحولت الكثرة الغالبة من هذه الأجيال إلى فئات من المرتزقة بالشهادات التي تحملها.
"والمؤسف حقاً أن هذه الفئات هي التي بدأت منذ منتصف القرن الحاضر تملأ الشواغر في الأجهزة العلمية والإعلامية والتربوية حتى أصبحنا اليوم نرى أن الأمية الفكرية هي الصبغة الغالبة على جيوش المثقفين"[19] .
وقد تم هذا كله دون أن تشعر الأجيال الجديدة من المسلمين بخطورة هذا الاتجاه وآثاره على مستويات الثقافة، وذلك لأن قدرتها على التمييز والاختيار تضعف بالقدر الذي تهبط فيه مستويات التعليم.. بل إن أجيالنا أصبحت لا تستمرئ ولا ترضى إلا هذا النوع المنخفض من التعليم، فتحرص عليه بدافع حب الراحة والكسل. وإذا رأت مثلاً - وعلى سبيل المثال فقط - مدرساً يتوسع في مادته أو مذكرته لهم، ويطالبهم بالرجوع إلى المصادر الأصيلة والبحث فيها، علت أصواتهم بالاحتجاج، لأنهم يريدون النجاح والشهادة وحسب. أما العلم فهو من شأن طلابه..
هذا بعض ما فعله بنا أعداؤنا، هناك أمور أخرى ومستويات حاربونا عليها لا مجال لذكرها الآن، لضيق الوقت عنها وأكتفي بالإشارة إليها بذكر خطاب القسيس (زويمر) الذي يوضح سياسة المعسكر النصراني الصليبي فينا، وهو الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر المبشرين المنعقد في جبل الزيتون بالقدس في عام 1327هـ. وقد كان رداً على خطاب ألقاه مقرر المؤتمر الذي قال فيه:
"إن جهود المبشرين فشلت فشلاً ذريعاً في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحداً من اثنين إما قاصر خضع بوسائل الإغراء أو بالإكراه أو معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهاً ليعيش".
فرد عليه زويمر قائلاً، كاشفاً عن خطة المعسكر النصراني الصليبي في العالم الإسلامي:
قال: "كلا، إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي، إنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية، كلا.
إنما كل مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا.. ولقد نجحنا في هذا نجاحاً كاملاً، فكل من تخرج من هذه المدارس لا مدارس الإرساليات التبشيرية فحسب، ولكن المدارس الحكومة والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم.. كل من تخرج من هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالاسم، وأصبح عوناً لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو أصبح مأموناً علينا.. ولا خطر علينا منه..لقد نجحنا نجاحاً منقطع النظير..".
ثم قال: "
…
إنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال المئة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً كل التهنئة".
"لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرها في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوروبية والأمريكية والفضل إليكم وحدكم أيها الزملاء.
إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد.. إنكم أعددتم نشأ (في ديار المسلمين) لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من إسلامه ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".
"إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية ورضي عنكم الاستعمار فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب". [20] .
هذا ما يريده بنا المعسكر النصراني الصليبي، وهذه نظرته ومعاملته لنا، وهذه منطلقاته الأساسية، روح صليبية حاقدة، ثارات عديمة، مصالح آنية، مخاوف مستقبله، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها الأخوة: لعل أسئلة ترد سائلة عن سبيل الخلاص والوقوف في وجه هذا المعسكر الحاقد وغيره من المعسكرات الجاهلية الأخرى.
وهي بكلمات موجزة:
1-
عودة صادقة جادة إلى الله سبحانه. وكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتربية لنفوسنا وأبنائنا على ما كان عليه سلفنا الصالح، من عقيدة سليمة وإيثار للآخرة على الدنيا، ولرضوان الله تعالى على كل شيء..
وصبر على الطاعة بصورها وتكاليفها كلها.. وصبر عن المعاصي كلها بأنواعها ومغرياتها كلها.. وتخليص لتراثنا الأصيل مما علق به أو دس عليه.
وإحياء لروح الاستعلاء الإيماني في ناشئتنا وأجيالنا..
وتمتين للمحبة والإخاء بينهم، والعمل على توحيد صفوف المسلمين، وتنبيه للغافلين منهم وتوعيتهم لقضايا دينهم في عصرهم هذا..
وبكلمة موجزة: عودة كاملة شاملة إلى الحياة الإسلامية كما كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم..
ما بغير الإسلام تؤتى الحياة..
مسلماً إن ترد حياة فهيّا
وكلمة ختامية لا بد منها:
إن هذا هو طريق الخلاص ولكن لا بد له من قدوة حسنة تتمثله تمثلاً كاملاً وتنطلق به. فالقدوة أمرها هام وعظيم.. ومن أولى من العلماء والقادة بهذه القدوة..ونماذج من هؤلاء العلماء والقادة موجودون بحمد الله تعالى، لكن الذي نرجو أن يلتفّ المسلمون حول هذا النموذج الصادق العامل من العلماء والقادة وأن يكثر عددهم في عالمنا الإسلامي حتى يتمكنوا من قيادته وإنقاذه والوقوف بوجه أعدائه والانتصار عليهم بإذن الله تعالى وتوفيقه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------------------------------------------------------------------------
[[1 انظر الكتاب القيم: جاهلية القرن العشرين للداعية الإسلامي المجاهد الأستاذ محمد قطب حفظه الله تعالى ورعاه.
[2]
انظر سورة براءة في الكتاب القيم (في ظلال القرآن) للعالم الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى -.
[3]
وكقوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. الحديث..
[4]
انظر الكتاب القيم (في ظلال القرآن) للعالم الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى. ج
[5]
من كتاب أوروبا في مطلع العصور الحديثة. ص657 -659 من الجزء الأول للدكتور عبد العزيز محمد الشناوي. أستاذ كرسي التاريخ الحديث بجامعة الأزهر.
[6]
وكذلك وضعت القسطنطينية منذ فتحها في رأس قائمة أهدافهم ونشاطاتهم، وقد تحلى ذلك في أكثر من مناسبة لا سيما في الحرب العالمية الأولى حين دخلتها جيوش الحلفاء (المعسكر النصراني الصليبية) وخيل إليهم أن يوم الثأر وانتزاعها من المسلمين قد حان فثار المعسكر النصراني الصليبي بمؤسساته وهيئاته وصحفه.. الخ. ثورة عارمة ونشط رجال الكنيسة الشرقية والغربية نشاطاً غريباً يستحثون حكوماتهم من أجل انتزاعها من أيدي المسلمين. وقد شعر المسلمون بذلك ورأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم. وقد بينت ذلك في محاضرة لي بعنوان (الحروب الصليبية طبيعتها ومداها في الزمان والمكان) . وبينت فيها إلى جانب ذلك كما يشير العنوان طبيعة الحروب الصليبية وحقيقتها والزمن الذي استغرقته وهي الأربعة عشر قرناً، وكذلك المكان الذي دارت عليه خلال هذه الفترة الطويلة.
[7]
انظر المحاضرة المذكورة فقد بينت فيها بعض المحاولات الكبرى التي قام بها المعسكر النصراني الصليبي عبر هذا التاريخ لانتزاع مدينة القدس ولا سيما محاولة الإمبراطورين نقفور فوقاس وحنا شمشقيق في منتصف القرن الرابع الهجري، وكذلك محاولات أوروبا خلال القرنين السادس والسابع الهجريين والتي أول من وضعها موضع التنفيذ البابا أوربان الثاني كما أشرنا أعلاه. ثم المحاولات الأخيرة في القرن الرابع عشر الهجري والتي بدأت قبيل سقوط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية حتى االلحظة الحاضرة.. بالتعاون مع المعسكرات الجاهلية الأخرى كما لا يخفى.
[8]
انظر مجلة البلاغ الكويتية عدد 186 تاريخ 26/12/92 هـ ص35-36 عن كتاب: الإسلام خلاصنا للأستاذ هادي المدرسي.
[9]
وكذلك المعسكرات الأخرى إلا أن حديثنا هنا عن المعسكر النصراني الصليبي.
[11]
انظر خطاب القسيس زويمر في نهاية هذه المحاضرة.
[12]
اللورد بلفور هو نفسه صاحب الوعد المشؤوم لليهود بإنشاء كيان لهم في فلسطين المسلمة.
[13]
يقول عنه الحاج أمين:" إن بروفر من كبار الساسة الألمان الواقفين على شؤون الأقطار العربية والإسلامية حتى إن حكومة الهند استعانت به بعدما انتهت الحرب، وظل يعمل لديها بضع سنين، وهو يتكلم اللغات العربية والتركية والفارسية وكان سفيراً لألمانيا في القاهرة.
[14]
مذكرات الحاج أمين الحسيني نشرتها بعض المجلات في البلاد العربية خلال العام الهجري 1392هـ.
[15]
صدق الله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} .
[16]
مجلة المجتمع الكويتية عدد (115) تاريخ 19/7/1392هـ ص10-11 بشيء من التصرف اليسير.
[17]
قد لا يرتاح البعض أو يعترضون على إدخال الصوفيات بين البدع والضلالات التي يشجعها الاستعمار في عالم المسلمين، ويقولون ليست كل الصوفيات ضالة..الخ، وأقول: نحن نفرق بين الزهد الحقيقي الذي كان عليه سلف هذه الأمة الصالح وبين الزندقة التي دخلت باسم الصوفية على المسلمين.. لكن الواقع المشاهد هو أن ما تحويه كتب الصوفية اليوم هو خليط من هذا وذاك أو على الأقل لا يخلو من الدس والشرك والبدع00 هذه واحدة.. وأمر آخر ولعله أشد خطراً وهو: أن صالحي الصوفيين يؤولون الكفر والزندقة والخرافات فيها إن لم يقبلوها بقبول حسن.. ومن ثم يتسرب الشرك والبدع والزندقة للمسلمين من كتب الصوفية، وصالحوهم يساهمون بلا قصد أو يسكتون.. ثم إننا نلاحظ السلبية القاتلة على عامة الصوفيين، القاتلة لامكاناتهم وروح الجهاد فيهم، وهذا ما يطلبه الاستعمار ومعسكراته..
[18]
حمداً لله تعالى واعترافاً بنعمته فقد وفق سبحانه لوضع سياسة تعليمية مستقلة إسلامية لهذه المملكة، وقد قام بوضعها علماء مسلمون مختصون فطاحل جزاهم الله تعالى خيراً.
[19]
محلة البلاغ الكويتية عدد 138 ص24-25. وانظر بالتفصيل الكتاب القيم (هل نحن مسلمون) للأستاذ الكبير محمد قطب، حفظه الله تعالى.
[20]
عن محاضرة الحروب الصليبية طبيعتها ومداها في الزمان والمكان ص32-34 للمحاضر نفسه.
دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم
بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
خريج كلية الشريعة بالجامعة
وهذه حلقة ثانية من الحديث الممتع العذب الذي حدثني به أحد الضيوف في الأسبوع الماضي في الطابق العلوي من الحرم المكي الشريف، وكان قد انتهى حديثه عن وصف دقيق للمؤتمر الإسلامي العظيم الذي عقده رؤساء الدول الإسلامية، وملوكها في مدينة لاهور الباكستانية، ومن نتائجه المثمرة، وفوائده العظيمة، وآثرها الطيبة على العالم كله.
وأفاض في هذه الجلسة الثانية الأخيرة عن مناهج التعليم في العالم الإسلامي، تلك المناهج التي هي في حاجة ماسة إلى التغيير الجذري في كثير من الدول الإسلامية لأنها من مخلفات الدول الاستعمارية التي وضعتها حسب رغباتها المادية، وميولها السياسية، وشهواتها الحيوانية لا صلة لها بهذه الأمة المجيدة، وبتاريخها الحافل، ورسالتها السماوية، وضعت تلك المناهج التعليمية في ضوء المكاسب المادية التي تعود على المستعمرين بالفائدة الكبيرة من تخريب أذهان الشباب المسلم، والبعد عن دينه، ورسالته بعداً لا مثيل له في التاريخ، تلك المناهج التي كانت سبباً حقيقياً للفساد الكبير الذي وطد أقدام المستعمرين في البلاد الإسلامية بشكل فظيع. ولم يكن المستعمر ليترك هذه الأراضي الإسلامية والعربية إلا وهو متيقن في نفسه أنه لا حاجة الآن إلى بقائه ظاهراً، لأن الشعب الذي ترك له أرضه هو مستعمر فكرياً رغم أنفه شعر أم لم يشعر، فهذه المناهج التي وضعتها في التعليم والثقافة في بلاده كافية لاستمرار الاستعمار الحقيقي الذي قصده منذ أن وطدت أقدامي على بلاده ووطنه، ولا يمكن له أن يتحرك بحركة أخرى معاكسة ما دام هو مقيد الفكر، والحواس، والشعور في ضوء هذه المناهج التي وضعتها له. نعم قد أقمت الجامعات الكبيرة العالمية في بلادي التي ترتبط بها الجامعات في بلاد المسلمين برباط وثيق. وقد جمعت التراث الإسلامي العظيم من نوادر المخطوطات التي استنار الغرب والشرق من طريقها، وعما فيها من العلوم النافعة، وقد احتفظت بهذا التراث الذي كنت خصصت له جملة كبيرة من الباحثين المستشرقين لكي يحضروا هذا التراث مهما يكلفني من المبالغ الهائلة من بلاد الشرق الإسلامية، وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، فانظروا فهارس مكتبة جامعة الهارفرد الأمريكية وكذا فهارس جميع الجامعات الأوروبية كجامعة كمبريدج وأكسفورد ولندن وألمانيا، وجامعة سربون الفرنسية بباريس وغيرها من الجامعات
العالمية والتي يقصدها المسلمون بأعداد كبيرة جداً لنيل درجاته العلمية، وهذا هو المخطط الخطير الذي وضع قبل مائتين سنة أو أكثر لسد الطريق أمام الشعوب الإسلامية لكي لا تتحرر تحرراً يتفق مع دينها المتين، ورسالته السامية، فهذه مادة التربية التي تدرس هناك والتي يتخصص فيها عدد كبير من أولاد المسلمين، فانظروا فيها نظرة علمية دقيقة، وتعمقوا فيها وستجدون أن هناك اتفاقاً كاملاً مع مجتمعهم وما في هذه المادة. فانظروا البرامج التلفزيونية التي تعرض على شاشة التلفزيون في أوروبا وأمريكا، وروسيا وغيرها من البلدان، وكذا الأفلام التي تعرض هناك في دور السينما وفي ذلك أكبر دليل على تقدمهم العليم المزعوم الذي توصلوا إليه ولقد شاهدت أنهم فقدوا الآن جميع مقومات الحياة الحرة الكريمة وقد تعدوا حدود الإنسانية الكريمة (فشتان) بين حياتهم الجاهلية الحاضرة والجاهلية الأولى التي حاربها الإسلام، وهكذا يا بني ستجد في صفحات التاريخ الإسلامي عندما بدأت حملة اليونان الفلاسفة وذلك في نهاية القرن الثاني، واستفحل أمرها وشررها في عهد عبد الله المأمون العباسي على العقيدة الإسلامية، تلك الحملة الشنعاء التي أزهقت فيها الأرواح البريئة المؤمنة من المحدثين البارعين في الإسلام؟ فإذا كان من أسبابها وآثارها السيئة على العالم الإسلامي إلى يومنا هذا؟ فانظروا العقائد النسفية التي تدرس في أغلب المدارس الإسلامية الآن، فكان لتلك الحملة لون متغاير، وتفسير وجيه في نظر هؤلاء الذين ساروا في ضوء هذه الحملة النكراء، وكانوا يريدون بذلك تنزيه الرب جل وعلا عن صفات الله جل وعلا الثابتة في كتابه الكريم، وصحيح سنته المطهرة، وفي ضوء تلك العقائد جردت ذات الله تبارك عن كثير من صفاته العلى، وأسمائه الحسنى، وكان يقصد العدو حينذاك من هذه الحملة أن ينكر المسلمون وجود ربهم، ومعبودهم لأن ذات المجردة عن الصفات لا وجود لها في الحقيقة، ثم أقيمت المدارس
في العالم الإسلامي على هذا النمط إلا أن جماعة كبيرة من أهل الحديث كأحمد بن حنبل والبخاري، وأبي زرعة، وابن أبي حاتم، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري، وابن أبي عاصم وغيرهم كثيرين عليهم رحمة الله تعالى وقفوا ضد هذه المدارس العقيلة وحاربوها وألفوا تأليفات نافعة يحذرون فيها الأمة الإسلامية من هذه العقليات، فانظر كتب الفريقين في هذا المجال ستجد الحق إن كنت منصفاً مع الذين ساروا مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وهكذا لعبت يا بنيّ هذه الفلسفة لعبة خطيرة في صفوف المسلمين، وشقت طريقهم، ثم حملة المادية اللعينة التي أشرت إليها آنفاً من قبل أعداء الإسلام من الغربيين والشرقيين وغيرهم من الشعوبيين الحاقدين على هذه الرسالة السماوية من اليهود والنصارى، والمجوس عليهم لعائن الله تعالى، وقد أكثرت عليك يا بني من هذا الحديث الذي لا يخفى على من له أدنى علم بالحوادث التاريخية، والمقصود يجب على المسلمين العودة الحميدة والرجوع المشرف إلى منابع العلم الصحيح، وإلى الثقافة الإسلامية الحرة النزيهة التي سار عليها الآباء الأمجدون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(ابن تيمية مدرسة إسلامية عظيمة)
ثم تكلم أخيراً عن الإمام العلامة شيخ الإسلام، وبركة الأنام، المجدد للملة المحمدية أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، العالم الرباني والمفكر الإسلامي العظيم الذي كسر الله به شوكة الفلسفة اليونانية، وقوتها، وأبطلها بعلمه الغزير. وكشف عوارها وعيبها، فألف في إبطالها، ومحاربتها تلك التأليفات النافعة التي قال بعض أساطين الغرب عنها "إنها لو ترجمت إلى لغات أخرى منها اللغة الأوروبية لأسلم نصف أوروبا". فكان بذلك مدرسة إسلامية عظيمة، أو جامعة إسلامية كبيرة ضخمة، جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين فوقف في الميدان وقفة رائعة مثالية كان لها أعظم الأثر في العالم كله، فهذه فئات الكتب التي تركها للأمة الإسلامية لتدل دلالة واضحة على أن الله تعالى جدد به الدين الإسلامي الحنيف، وأيد به العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي رمز الجهاد والحق، والقوة والعظمة لله سبحانه وتعالى، ولقد صدق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخرجه الإمام أبو داود السجستاني في سننه والحاكم في المستدرك، والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، وأورده صاحب المشكاة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: فيما علمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[1] فلو حلفت يا بني على أن هذا الإمام أعني شيخ الإسلام ابن تيمية هو أحد مجددي هذا الدين الحنيف ومن بعده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي رحمة الله عليهما وعلى جميع المسلمين لما كنت حانثاً إن شاء الله تعالى، وهذا الأخير كان أثراً بارزاً من آثار الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى فسار في حياته العلمية الحافلة سيراً مباركاً عظيماً، وخطى خطوات سريعة في الإصلاح، والدعوة إلى الله عز وجل في تلك الظلمات التي كادت لا نظير لها في حياة المسلمين من الشرك والظلم، والاستبداد وغير ذلك من المعاني المنكرة
الشائعة حينذاك في بلاد نجد، والحجاز وغير ذلك من الوديان والبراري، فأنار الله جل وعلى به الطريق السوي المستقيم لجميع الشعوب الإسلامية، واستمر الرجل العظيم في دعوته، وجهاده بل حزم، وإيمان، ونشاط حتى انتشرت الدعوة وبلغت جميع الآفاق فعم به الخير، والبركة في بلاد نجد وغيرها فجمع بها شمل هذا الشعب العظيم من إقامة الدولة الإسلامية العظيمة التي أقامت الحدود الإسلامية في ربوعها، ووضعت الحق في نصابه، وأرجعت الأمور إلى طبيعتها، وقطعت جميع سبل الشر، والفساد، والنهب، واللصوصية، والإجرام، وأمنت البلاد والعباد في ضوء هذه الرسالة الكريمة، فكان بذلك بركة عظيمة في جميع مناحي حياتنا المادية والمعنوية ذلك مثل عظيم لصلاحية رسالة الإسلام في كل زمان، ومكان، انظروا إلى الإحصائيات الجنائية التي تقع في العالم كله، ثم طالعوا دفاتر الأمن والاستقرار لهذه البلاد المقدسة، ثم قارنوا بين هذا، وذاك حتى يقفوا على الحقيقة الناصعة البيضاء التي يمكن أن تتقطع جميع الشبهات التي أثارها أعداء الدين من أن صلاحية هذا الدين في جميع شئون الحياة غير ممكنة في الوقت الحاضر، تلك شبهة تافهة هزيلة لا أضيع الوقت في ردها.
وقد أكثرت عليك يا بني من هذا الحديث الذي يعرفه كل من له صلة بالعلم في عالمنا الإسلامي، وهناك حديث آخر، وقد يكون أخيراً في هذه الجلسة وهو أن تكون المنح التي تخصص في جامعات هذه البلاد المقدسة لأولاد المسلمين وهي لا شك عمل إسلامي عظيم تنبه له هذا الإمام العظيم حفظه الله تعالى، والمخلصون من علماء هذه البلاد المقدسة أمثال العلامة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونائبه العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. وغيرهما حفظهم الله تعالى وتولاهم. فلتكن هذه المنح كلها أو جلها للطالب الذي يريد التخصص في مادة العلوم الشريعة، ما عدا البلاد الإفريقية، والأمريكية والأوروبية التي خلت عن الدراسة الدينية مطلقاً ومعنى هذا أن تكون هناك في الجامعة الإسلامية في جميع كلياتها شعبة التخصص في جميع الفنون الإسلامية التي تساعد الطالب في دعوته إلى الله تعالى على بصيرة، والقاضي في قضائه الذي سيتولاه بعد تغيير المناهج التعليمية في بلاده، وكل في فنه من الفنون الإسلامية ولا جدوى الآن يا بني: من المناهج النظرية التي تدرس في الكليات الإسلامية لأنها غير كافية في تثقيف الطالب ثقافة عالية رفيعة يمكن له أن يقف بها موقفاً صلباً أمام دعاة الإلحاد، الفساد، فالإسلام الآن في حاجة ماسة إلى دعاة أقوياء علماً، وعملاً، وصلاحاً، ورشاداً، وإخلاصاً، ولا أقول إن هذه الدولة العظيمة تتحمل بجميع نفقات هذا التخصص المشار إليه، وإنما تكون بعضها على الطالب الذي أعطي من المال حظاً وافراً، يرغب الذهاب إلى أوروبا في سبيل هذا التخصص وهو مستعد أن يتحمل هذه النفقات بكل سهولة، ويسر هناك، فإذا خرج الداعي المتخصص في فنه من هذه الجامعة المباركة فسيكون له بصر تام، وعلم غزير في ميدان الدعوة الإسلامية الصحيحة، ومعه علم مع الخلق العظيم، والأدب الرفيع فسوف يؤثر إن شاء الله تعالى بحوله، وقوته المجتمع الذي سيعيش فيه. فلتكن هناك مكتبة
كبيرة عالمية بجوار هذا التخصص في هذا البلد المقدس الطاهر والتي يستمد منها الطالب مصادره، ومراجعه وهي أكبر نواة لهذا البناء الراسخ وأرى أن يسمح لأي طالب مسلم حاز على درجة الليسانس أو البكالوريوس من أي جامعة إسلامية، أو مدرسة معروفة، أو الاختبار كما هو معمول به الآن في جميع الجامعات الأوروبية والأمريكية، فإذا تخصص الطالب مخصصاً علمياً في هذه الجامعة، وأمامه المكتبة الكبيرة التي لا نظير لها في العالم كله، وفيها من المراجع الهامة من المطبوعات، والمخطوطات، فإذا تخصص في عالم السيرة النبوية مثلاً، أو الحديث الشريف، أو الفقه الإسلامي المقارن، أو التاريخ أو غير ذلك من الفنون، فإنه يكون على حقيقة ناصعة من علمه، تاركاً كل شيء وراءه لم يثبت لديه علمياً، فهذا هو الحق الذي أخذه من هنا، ودعا إليه المسلمين، فهذا بناء راسخ قوي، للدعوة الإسلامية، والقضاء الإسلامي، والفكرة الإسلامية، وغير ذلك من ذلك من الأمور المتخصص فيها وليس هذا بمشكل أمام هذا الإمام العظيم حفظه الله تعالى الذي هيأ الله تعالى له جميع أسباب الرخاء والتقدم وبعمله هذا سوف يقطع خطاً كبيراً امتد طولاً، وعرضاً من ديار المسلمين إلى بلاد الكفار وتمر قوافل طلبة المسلمين عليه ليلاً، ونهاراً في سبيل تخصصاتهم العلمية كما سبقت الإشارة إليه، وإن قطع هذا الخط سيعتبر عملاً جليلاً في الإسلام وبداية كبيرة للعهد المبارك الذي سيأتي على المسلمين إن شاء الله تعالى.
ولقد علمت، وتأكدت أن جلالة الفيصل العظيم حفظه الله تعالى ورعاه قد وضع حجر الأساس في العام المنصرم للمكتبة الإسلامية العظيمة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وسميت بمكتبة جلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود تغمده الله برحمته، ورضوانه. فلتكن هذه المكتبة هي التي تخدم رواد الثقافة الإسلامية من كل مكان ولتجمع إلى جنباتها من أندر المخطوطات الإسلامية وغيرها وبذلك تكون أعظم مكتبة في الدنيا كلها لما لها من أهمية بالغة في العالم كله من ناحية الموقع الجغرافي ومن ناحية المادة العلمية التي اشتملت عليها، وأخبرك يا بني عن بعض المكتبات الإسلامية التي تعمل ليلاً ونهاراً في خدمة العلم - كمكتبة دار الكتب المصرية التي أقامها رجل بارز في بداية القرن الحالي وهو علي بن المبارك الباشا أحد الوزراء المصريين بالقاهرة ولا شك أنها مكتبة كبيرة يقال: أن فيها تسعين ألفاً من أندر المخطوطات زيادة على ما فيها من المطبوعات، وتملك هذه المكتبة أعظم مطبعة عصرية في الوقت الحاضر تطبع فيها الكتب القيمة وهناك مكتبات أخرى وإن كانت أقل مستوى من دار الكتب المصرية، وفي دمشق الشام توجد مكتبة كبيرة وهي مكتبة دار الكتب الظاهرية أقامها الملك العادل ظاهر بيبرس في القرن السابع ولا تزال تقدم خدمة كبيرة للعلم والثقافة. وفي تركيا الإسلامية عدة مكتبات أثرية كمكتبة أحمد الثالث باستنبول، وآيا صوفيا، ومكتبة ملا مراد إلا أن إمكانيات أصحابها محدودة جداً بمكة المكرمة عاصمة الإسلام الأولى مكتبة وهي مكتبة مثالية في المملكة العربية السعودية ولم أجد لها نظيراً في سائر المكتبات التي زرتها وإن كانت صغيرة في حجمها بالنسبة للمكتبات المشار إليها إلا أن الخدمة العلمية فيها ممتازة للغاية، حبذا لو كان النظام في سائر المكتبات العالمية كنظامها لكان خيراً كبيراً من حيث تنول المراجع والمصادر بسهولة، ويسر، زيادة على ما تهيئ هذه المكتبة
لروادها ما يحتاجون إليه من المرافق الهامة، والورق والحبر والماء البارد وتكييف الهواء في موسم الحر، والهدوء التام وغير ذلك من الأشياء.
لو سارت جميع المكتبات في هذه البلاد المقدسة على غرارها وكمكتبة الجامعة الملك عبد العزيز الواقعة بمكة المكرمة، وجُدّة لكان عملاً مباركاً عظيماً يرجع على الباحثين بالفائدة العلمية الكبيرة. فلتكن مكتبة جلال الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى مثالية شامخة، تلك المكتبة العظيمة التي رعاها برعاية الله تعالى ابن عبد العزيز المخلص فيصل بن عبد العزيز حفظه الله تعالى نعم: فلتكن هذه المكتبة عالمية بمعناها الصحيح فلتكن بجوارها شعبة التخصص، تلك الشعبة التي تحمل مسئولية كبيرة فذة في العالم الإسلامي في الدعوة والإرشاد، والإصلاح وهكذا يعم الخير في ربوع الدنيا كلها بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا الإمام أيده الله تعالى، ونصره.
وهكذا تستقل هذه البلاد الطاهرة المقدسة بهذا التعليم الإسلامي لئلا يكون هناك مجال لخروج الطالب المسلم إلى أوروبا أو أمريكا في سبيل تخصصه في المادة الإسلامية ويتردد على أبواب هؤلاء الكفرة في سبيل علمه، وخلقه، وأدبه، وعنده ما ليس عند غيره وهكذا يرتفع هذه البلاد رويداً، رويداً في جميع شعب الحياة فتكون بذلك مرجعاً لجميع المسلمين في جميع شعب حياتهم المادية والمعنوية، وهذا الذي أحلم به ويحلم به معي كل مسلم في كل مكان وهذا الذي فكره الإمام فيصل بن عبد العزيز المعظم رعاه الله تعالى، وليس هذا ببعيد إن شاء الله تعالى. وفي الختام أستودع الله دينك، وأمانتك وخواتيم أعمالك وأصلي وأسلم على عبده، ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هكذا تمت هذه الجلسة الأخيرة في رحاب البيت العتيق وقد أجاد وأفاد فيها هذا الأخ المسلم وما أكثر هؤلاء الذين يحملون اليوم هذه الفكرة في العالم الإسلامي لعلها تجد إن شاء الله تعالى تجاوباً كريماً، واستجابة طيبة وقد حررت هذه الأسطر أداء للأمانة التي حملني إياها ذلك الأخ الفاضل المخلص لإبلاغها وإيصالها إلى الأسماع المؤمنة المخلصة في هذه البلاد الإسلامية العظيمة وصلى الله على رسوله محمد وصحبه أجمعين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
-أخرجه أبو داود في سننه في أول كتاب الملاحم 109/4، والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن 523/4 والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، في انظر المرقاة شرح االمشكاة 248/1 وإسناده حسن.
ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟
بقلم فضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
المدرس في كلية الدعوة وشعبة اللغة بالجامعة
لعل من الواجب أن نكشف عن (هُوّية)[1] هذه الأمة المسلمة قبل أن نأخذ بالإجابة عن هذا السؤال، بل لعل الكشف عن هويتها يتضمن الجواب في جوهره وحقيقته، إذ لا يخفى ما بين هوية الكائن الاجتماعي أو السياسي، كالأمة والدولة وبين علاقته بالأمم والدول الأخرى من صلات وشيجة.
وخير وسيلة للكشف عن (هوية) أمتنا المسلمة الكريمة - هي - النظر إليها من خلال العاملين الأساسين اللذين صاغاها على نحو ما نعلم، وهما الكتاب والسنة، وهذان العاملان غنيان - ولله الحمد والمنة - بما يسهل علينا هدفنا هذا.
يقول الله سبحانه: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [2] .
ويقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [4] .
ويقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْك َر
…
} [5] .
ويقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [7] .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في غزوة خيبر، وقد عهد إليه بمهمة عسكرية: "
…
فوالله لأن يُهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم" أخرجه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم مبيناً أن إمكاناتنا جميعاً يجب أن تجعل في سبيل الله، وأننا مسؤولون عن ذل بين يديه سبحانه:"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه".
وكان عليه الصلاة والسلام يبعث أصحابه - على حبه إياهم وحرصه عليهم - ليدعوا إلى الله، ويبلغوا عنه، يسهموا في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولو كان طريق الدعوة محفوفاً بالشدائد، وما خبر أصحاب الرجيع (في السنة الثالثة من الهجرة) ، ولا أصحاب بئر منونة (في السنة الرابعة) عنا ببعيد، فلقد استشهد على طريق الدعوة في هاتين المناسبتين وحدهما زهاء ثمانين رجلاً من خيار المسلمين، فرضي الله عنهم وأرضا لهم، ورزقنا اقتفاء آثارهم.
والآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، والتاريخ الراشدي، في ذلك كثيرة
…
وفي ضوء ما تقدم يمكننا في يسر وسهولة أن نحدد (هويّة) أمتنا المسلمة الكريمة على النحو التالي:
"إن هذه الأمة هي ناس من خيار الناس، أكرمهم الله سبحانه بالاجتماع على الإيمان والعمل بما جاء من عنده، وجعل ولاءهم المطلق له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وشرفهم بتكليفهم دعوة العالم كله إلى ما هداهم إليه من الحق وأوجب عليهم جعل حياتهم خالصة له، لا يضنون بشيء منها نفساً أو نفيساً في سبيل تبليغ الدعوة، تصحيحاً لحياة الناس، وإخراجاً لهم من عبادة العباد إلى عبادة الله، وإسعاداً لهم في معاشهم ومعادهم، وهذه الأمة بطبيعة هويتها تسمو في تفكيرها وسلوكها فوق جميع الاعتبارات التي لا تنطوي على قيم حقيقية، كالاعتزاز باللون أو الجنس أو النسب أو الأرض، أو ما شاكل ذلك، وهي إنما تبتغي بدعوة الناس كل الناس إلى الحق وجه الله والدار الآخرة، دونما تطلع إلى استعلاء، أو استعمار، وإنما هي الرغبة المخلصة، والجهاد الجاهد لإشراك الجميع فيما أولاها الباري سبحانه من نعم معنوية أو مادية.
ولعلي أستطيع أن ألخص الكلام في (هوية) أمتنا المسلمة بقولي: "إنها أمة عقيدة ودعوة"، فإذا عرفنا ذلك وتذكرها أثر (هوية) الأمم والدول في سلوكها، وفي علاقتها بسواها من الأمم أدركنا غير ما عناء أن علاقة أمتنا المختارة بالأمم الأخرى على اختلاف ألوانها، ولغاتها، وأديانها ليست في- حقيقتها - علاقة سلم ولا حرب، ولا دفاع ولا هجوم، وإنما هي (علاقة دعوة)، وصدق العلي القدير إذ يقول - كما سلف الاستشهاد -:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فالأمة المسلمة – إذن - أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمان، وسمو، وعفوية، كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى،سواء كانت هذه الحدود جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية
…
أو نحوها، وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين.
والآن أود أن أطرح على نفسي هذا السؤال: ما حقيقة هذه العلاقة التي أسميتها (علاقة دعوة) ؟ إن هذه العلاقة في حقيقتها هي منهج متكامل لمواجهة أيما عقبة يحتمل ظهورها في طريق تبليغ دعوة الحق للأحمر والأسود، وهذه المواجهة مبنية في حكمة بالغة، ودقة دقيقة على سنن الله في الأشياء، ومقتضيات الظروف في كل مرحلة من مراحل تاريخ الدعوة الذي لن ينتهي - بإذن الله - إلا بقيام الساعة.
فهذه العلاقة - بناء على ذلك - تتخذ أشكالاً شتى تبعاً لمصلحة الدعوة أي تبعاً للمصلحة الحقيقية لأهل الأرض جميعاً، لأن مصلحتهم الحقة هي التي تترتب عليها سعادتهم الشاملة في هذه العاجلة، سعادتهم الأبدية في الآجلة، وكل مصلحة سواها، ليست سوى (ملهاة) .
ولأستعرض الآن نماذج للأشكال التي عرفتها هذه العلاقة في ضوء الواقع التاريخي، وفي ضوء الظروف العلمية التي مرت بها0
أولاً: المرحلة المكية:
كل الظروف التي واجهت علاقة المسلمين بالمشركين في هذه المرحلة كانتا تقضي أن تكون علاقة غير قتالية، أي علاقة بيان للحق، وصبر على الأذى فيه، واحتساب لكل ما عرفت رباع مكة ورمضاؤها، والطائف وفجاجها، من أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذاب لبلال وآل ياسر، وزنّيرة، وخباب، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وليس معنى ذلك أن علاقة المسلمين بغيرهم هي - أبداً - علاقة بيان وسلام فحسب، بل إن مصلحة الدعوة في مواجهة ظروفها في هذه المرحلة، هي التي اقتضت أن تكون كذلك، بحيث تتناول الناس بالأساليب السلمية، وبيان الحقائق بياناً مؤثراً، ما كان - أجدره بأن يستجيب له القوم، لولا إتباع الهوى، ولولا سلطان المصالح الحائلة الزائلة، من زعامة، ووجاهة، ومكاسب مادية، وما إلى ذلك.
وكلنا يعلم ما كان من أمر عتبة بن ربيعة العبشمي عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً لكفار قريش، عله يصرفه عن دعوته بإغراء المال، أو الجاه، أو الملك، فما كان منه عليه الصلاة والسلام، إلا أن تلا عليه قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [10] .
وما إن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية حتى أخذ عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكفّ، ثم عاد الرجل إلى من وراءه بغير الوجه الذي جاء به، ونصح إليهم أن يخلوا بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما هو فيه من الدعوة، ولكن هيهات، لقد رموه بأنه قد سُحر
…
وهكذا نرى أن علاقة المسلمين بغيرهم قد اتخذت في هذه المرحلة المكية شكلاً اقتضته طبيعة المرحلة التاريخية، وهو البيان، والصبر، والصمود، والاحتساب.
ثانياً: مرحلة ما بعد الهجرة:
لقد تغيرت ظروف الدعوة بعد الهجرة، وكان تغيرها من جهات عدة، لقد شعر المسلمون في دارهم الجديدة بأمن لم يعرفوه في المرحلة السابقة، وبعد الهجرة أذن لهم بالقتال، ثم فرض عليهم قتال من يقاتلهم، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فصدعوا بالأمر، وقاتلوا لأن القتال كان مما اقتضته ظروف الدعوة الجديدة، وليس معنى ذلك أن علاقة المسلمين بغيرهم صارت قتالاً صرفاً، بل بقيت كما كانت علاقة دعوة، بمعنى أنها تهدف إلى نشر الدعوة التي كلفوا نشرها بالوسائل الأكثر مناسبة للظروف المواجهة، ومع الإذن بالحرب، بل مع فرضها بقي المجال واسعاً للطرق الودية إذا كانت - هي - الأجدى على الدعوة.
لقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل يثرب من المسلمين واليهود والمشركين معاهدة رائدة، يمكن أن توصف بأنها دستور لدولة المدينة التي ولدت بعد الهجرة، والتي أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم الواقع رجلها الأول، ثم جاءت هذه المعاهدة فأكدت ذلك، وقد اعتبر العام الباحث محمد حميد الله معاهدتنا هذه أول دستور مكتوب في العالم، وإليكم نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم: بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على رِبعتهم [11] ، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم [12] بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتعم، يتعاقلون معاقلهم الأولى [13] ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة نفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وأن المؤمنين لا يتركون مفرَحاً ( [14] ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعة [15] ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فسادٍ بين المؤمنين.
وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان والد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
وإن المؤمنين يُبيء [16] بعضهم على بعض، بما نال دماءهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هَدْيٍ وأقومه. وإنه
لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
وإنه من اعتبط [17] مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه وأنه من نصره أو آوه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيمة ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل0
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يهود بني عوفٍ أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وإثم، فإنه لا يوتغ [18] إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وإن لبني الشُطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم [19] .
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة [20] يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنه لا ينحجز على ثأر جُرح.
وإنه من فَتَك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.
وإن الله على أبر هذا [21] .
وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة.
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره [22] .
وإنه لاتجار قريش ولا من نصرها.
وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإن دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
وإنه البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثِم.
وإن الله جار لمن بَرّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" [23] .
إن هذه المعاهدة إذ عقدت كانت مصلحة الدعوة في الظروف المواجهة تقتضي عقدها، وليس معنى ذلك أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم أضحت علاقة معاهدات، وعلاقة حبر على ورق، بل الواقع أن هذه العلاقة بقيت كما كانت (علاقة دعوة) ، وقد عقدت هذه المعاهدة، لأن مصلحة الدعوة - كما قلنا - كانت تقتضيها.
ولما أن تبدلت الظروف بخيانة اليهود، ونقضهم المعاهدة، وأصبحت مصلحة الدعوة - وهي المصلحة الحقيقية للبشر قاطبة - تتطلب الحرب حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني قينقاع في السنة الثانية للهجرة، وأجلى بني النضير في السنة الرابعة، وكان ما كان من أمر بني قريظة بعد غزوة الأحزاب في السنة الخامسة.
فهذه الحروب، ومثلها سائر حروب المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لم يكن لها من هدف سوى إزالة العقبات من طريق الدعوة كي يتاح تبليغها الناس في جو خال، من الضغط أو الفتنة، وفي غيبه الطواغيت الذين كانت مصالحهم الذاتية تستلزم الحؤول بين الدعوة الهادية وبين الشعوب التي كانت ترزح تحت كابوس مظالمهم واستغلالهم، فكان لا بد من أجل مصلحة الدعوة، بل مصلحة الشعوب أن يزاح هؤلاء ولو بشبا السيوف حين لا يكون بد من ذلك، لأن المسلمين ما كانوا ليستطيعوا بحسب تعاليم دينهم التضحية بمصلحة العباد من أجل حفنة من الطواغيت الذين كانوا يستغلون اليهودية، والنصرانية، والوثنية، والمجوسية إبقاء على مصالحهم الخاصة.
وليس من المعقول أن توصف هذه الحروب بدفاع أو هجوم، لأن مثل الوصف غير واردٍ أصلاً، فهي - كما رأينا، وكما هو الواقع - حروب لإزالة العقبات، أياً كانت، من طريق المصلحة البشرية الحقيقية، أو من طريق الدعوة الربانية.
وقد استمرت علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى خلال العهدين النبوي والراشدي منهجاً متكاملاً يواجه أيما عقبة تبدو في طريق الدعوة، مواجهة مكافئة لمقتضيات الظروف، وطبائع الأمور، ولذلك فإننا نرى أن الحروب والأساليب السلمية من وساطة، ومعاهدات، وتحكيم، وما إلى ذلك تتناوب وتتعاون حسب مصلحة الدعوة وحدها، دونما نظر إلى أي اعتبار آخر، ولا سيما اعتبار الدفاع الذي فتن به بعض المعاصرين كما سنرى.
ففي رمضان من السنة الأولى للهجرة، على رأس سبعة أشهر من مهاجرته [24] صلى الله عليه وسلم رأى من مصلحة الدعوة أن يعترض عيراً لقريش كانت آيبة من الشام، وعلى رأسها أبو جهل في ثلاثمائة من المشركين، فعقد لعمه حمزة وأرسله في ثلاثين رجلاً من المهجرين لهذه الغاية، فسار ركب المجاهدين الدعاة حتى بلغوا ساحل البحر من ناحية العيص، فصادفوا العير هناك، ولما تصافوا للقتال تدخل مجديُّ بن عمرو الجهني، وبذل وساطته للكف عن القتال، فرضي الطرفان وساطته، وانصرف أحدهما عن الآخر، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قبول وساطة مَجْدي، بل شكرها له فيما ذهب إليه الشيخ محمد الخضري [25] 0
فلو رحنا نتلمس الدوافع التي كانت وراء هذا التحرك العسكري لما رأيناه دفع هجوم قامت به قريش، بل لرأينا أنه كان هنالك دافعان اثنان وراءه، الأول اعتراض العير لإضعاف قريش عدوة الإسلام الأولى مالياً، وبما أنها قبيلة تقوم حياتها على التجارة، فاعتراض عيرها وعرقلة نشاطها التجاري مما يضعفها، وفي ضعفها مصلحة للدعوة، لأنها - كما قلنا آنفاً - عدوة الإسلام الأولى بل زعيمة العرب في هذا العداء، والدافع الثاني إشعار المتربصين من مشركي يثرب ويهودها، ومن حولها من القبائل أن المسلمين أضحوا قوة، وأن الوضع الذي كانوا عليه من قبل قد مضى إلى غير معاد، فما عليهم إلا أن يحسبوا لهذه القوة حسابها في تصرفاتهم إزاء أصحابها، وإن في قبول المسلمين وساطة مَجْدي، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له لما يدل على أن منهج المواجهة للظروف والاحتمالات في علاقة المسلمين بغيرهم كامل العناصر والأدوات،
…
فهناك الحرب حين تدعو مصلحة الدعوة إليها، وهناك الأخذ بالوسائل السلمية من وساطة وتحكيم وغيرهما حين يكون من مصلحة الدعوة الأخذ بها،
…
وإذن فلا داعي بل لا مساغ لفكرة الدفاع والهجوم، إنما هي مصلحة الدعوة أو مصلحة البشرية الحقيقية، وتتكرر العوامل والمقتضيات على هذا المنوال نفسه طول المرحلة التاريخية التي تنتهي تقريباً في صفائها، ونقائها، ومثاليتها بانتهاء عهد الخلفاء الراشدين..
ولنضرب مثالاً آخر من حياة المسلمين المبكرة في المدينة المنورة، ولنرَ كيف تكمن وراءه الدوافع نفسها، وهي مصلحة الدعوة
…
ففي صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة [26] خرج يريد عيراً لقريش، ويريد بني ضمْرة أيضاً، وسار حتى بلغ وَدّان [27] غير أن العير فاتته، فاكتفى عند ذلك بموادعة بني ضمرة، ثم عاد إلى المدينة ولم يلق كيداً، وقد كان موضوع هذه الموادعة أن بني ضمْرة آمنون على أنفسهم، وأن لهم النصرَ على من رامهم، وأن عليهم نُصرةَ المسلمين إذا دُعوا [28] .
فالدوافع التي كانت وراء هذه الغزوة هي نفسها التي كانت وراء صلات المسلمين بغيرهم ألا وهي مصلحة الدعوة، والنتائج التي انتهت إليها هي مصلحة الدعوة أيضاً، ألم تر أنها كسبت تأييد قبيلة لها قيمتها في المنطقة، ولا شك أن لهذا الكسب وزنه في سير الأمور في هاتيك الظروف.
ثم تتوالى الأحداث والعلاقات الكثيرةُُ بين المسلمين والمشركين، وكلها تلتقي على مبدأ واحد، وهو معالجتها من قبل المسلمين على أساس خدمة الدعوة، والتمكين لها، وتهيئة الأسباب الموضوعية لتسهيل وصولها إلى الناس كي يعتنقوها، ويحققوا باعتناقها مصلحتهم الحقيقية في الدنيا والآخرة.
ونسير مع الأحداث حتى نبلغ السنة السادسة للهجرة، فإذا بنا أمام غزوة الحديبية، وهنا نود أن نقف قليلاً مع هذه الغزوة لما فيها من دلالة على ما نحن بصدده.
"رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فأخبرهم أنه يريد العمرة [29] ، وخرج في ذي القعدة بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من الأعراب، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائراً للبيت معظماً له، [30] حتى إذا كانوا بثنية المُرار بركت ناقته القصواء، فقال الناس:"خلأت الناقة"، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما خلأت؟ وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"، ثم أمر الناس أن ينزلوا"[31] .
على أن قريشاً لم تطب نفساً بهذه العمرة، ولم ترض عن دخول المسلمين عليها مكة، ولو كانوا إنما يريدون زيارة البيت وتعظيم حرمته، فأعدت ما استطاعت من قوة، وخرجت بالعوذ المطافيل تريد صد النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد ....
وأنّى لها صده؟! وقد التف حوله أولئكم الآساد الظماء، الذين يستعذبون الموت في طاعته، وفي نصرة عقيدتهم، وإعلاء راي دعوتهم
…
فعمدت مكرهة إلى المفاوضات، علها تأخذ لنفسها منه ما ترضى به
…
وطالت هذه المفاوضات، واختلفت الرسل بينه صلى الله عليه وسلم وبينها، وبلغ عدد رسلها إليه خمسة: بُديل بن ورقاء الخزاعي، ومِكرَز بن حفص بن الأخيف، والحليس بن علقمة، وعروة بن مسعود الثقفي، وسهيل بن عمر أخو بني عامر بن لؤي [32] ،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاهم بصدر رحب، ويبين لهم في قاله وحاله أنه ما جاء يريد حرباً، وأنه إنما جاء معظماً لحرمة البيت
…
وكان هؤلاء السفراء يعودون إلى قريش وهم أميل إلى مواتاة المسلمين والسماح لهم بأداء نسكهم الذي جاؤوا من أجله، غير أن قريشاً كانت تأبى في ذلك عناد ومكابرة، وعدم تقدير لواقع الظروف التي تطيف بها.
وأخيراً اضطرت إلى تفويض رسولها الخامس سهيل بن عمرو بمصالحة المسلمين على شروط اشترطتها، وخلاصتها ما يلي:
1 -
وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، وعند بعضهم أربع سنين.
2 -
من جاء المسلمين بغير إذن وليه رُدّ عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرَد.
3-
أن يرجع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عامهم هذا، فلا يدخل عليهم مكة، وإنه إذا كان عام قابل، خرجوا منها، فدخلها بأصحابه، فأقام بها ثلاثاً ليس معهم إلا سلاح الراكب، السيوف في القرب.
4-
من أراد الدخول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب دخل، ومن أراد الدخول في عهد قريش دخل.
ولا شك أن هذه الشروط تنطوي - في ظاهرها - على إجحاف كبير بحق المسلمين، وتسامح عظيم مع قريش لا يكاد يحتمل، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبلها، واحتمل كل ما فيها نظراً لما كان يرى بتعليم الله إياه من عواقبها المفيدة للدعوة، والمبشرة بانتشارها وانتصارها في الجزيرة العربية وفيما وراءها
…
وقد انضاف إلى ما في ظاهر هذه الشروط من إجحاف مرارة موقف الأصحاب رضي الله عنهم إزاءها، وما داخلهم بشأنها من غم أوفوا معه على الهلاك، وقد زاد الموقف حرجاً تعنت مفاوض قريش بشأن ذكر البسملة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله في صلب المعاهدة، ثم مجيء أبي جندل بن المفاوض سهيل بن عمرو فاراً بدينه من قريش، وموافقته صلى الله عليه وسلم على رده إليها عملاً بشروط المعاهدة
…
وهكذا انعقدت كل هذه السحب الكثيفة الكئيبة في جو هذا الصلح - ومع ذلك احتملها الرسول صلى الله عليه وسلم في صبر ورفق واطمئنان، لأنه- كما قلنا آنفاً - كان يلمح وراء ما الأكمة من تحقيق مصلحة الدعوة، وما كان ينتظرها من ظفر عظيم من جراء هذه الشروط التي فرحت بها قريش، وساء الأصحاب قبولها، ولم يستطيعوا أن يدركوا ما أدركه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من فوائدها، ولا غرو فهو عبد الله ورسوله لا يخالف أمر ربه ولا يضيعه ربه.
وقد حققت الأيام صحة تقدير النبي صلى الله عليه وسلم الأمور، وصواب ما كان يلمحه من مصلحة الدعوة، وما كان لها ألا تفعل، حتى استحق صلح الحديبية هذا أن يسمى فتحاً، يقول الزهري رحمه الله:"فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر"[33] .
والدليل على صحة قول الزهري - كما يقول ابن هشام - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله - ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف [34] .
وأصدق من ذلك كله قول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [35] ، وهذا الفتح هو صلح الحديبية [36] .
ونحن نحس- بلا شك- أن جميع المتاعب التي عاناها الرسول صلى الله عليه وسلم، في جميع مراحل هذا الصلح، إنما كانت من أجل تكييف علاقته بقريش على نحو يحقق مصلحة الدعوة، ويمهد أمامها سبل الوصول إلى ما يريد لها من انتشار، وانتصار، وإلى ما يريد للناس من اهتداء وانتفاع
…
وبذلك لم تخرج علاقة المسلمين بقريش- كما تبدت من خلال ملابسات الحديبية الدقيقة - عن الخط العام، وهو كون علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة دعوة، يهدف - هذه العلاقة - إلى نشر الدعوة، وتعمل على تحقيق أهدافها التي من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً.
وثمة ظاهرة أخرى في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تدل على صحة ما نذهب إليه في تفسير علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، وهذه الظاهرة هي إرساله صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعد رجوعه من الحديبية – لأنه - إذ ذاك - قد أمن السبل على أصحابه أكثر من ذي قبل، وتخفف مؤقتاً وإلى حد ما من التفكير في شأن قريش، فبعث - فيما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى [37] ستة نفر في يوم واحد، يحملون كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، وذلك في المحرم سنة سبع، ومن هؤلاء دَحية بن خليفة الكلبي، الذي توجه بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم، وجاء في هذا الكتاب كما أخرجه البخاري رحمه الله بسنده:
"من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاَ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون".
وظاهر أن محور هذا الكتاب هو الدعوة إلى الإسلام، مدعمة بما يترتب على الاستجابة إليها من سلامة وأجر، وإنّ الكتب الأخرى التي حملها سائر من بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك لا تخرج - في الجملة - عن معنى هذا الكتاب، فهي تنضح بروح الدعوة التي هي - كما نعلم - جوهر العلاقة بين أمتنا المسلمة والأمم الأخرى.
وهناك شيء آخر يشارك إرسال الرسول بالكتب إلى الملوك في الدلالة على ما نحن بصدده، ألا وهو استقبال الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عله وسلم، ولا سيما في السنة التاسعة والعاشرة، حتى دعيت السنة التاسعة - فيما ذهب إليه ابن هشام [38]- سنة الوفود.
والسبب الأول في إقبال هذه الوفود على المدينة هو فتح مكة سنة ثمانٍ، إذ بفتحها سقطت زعامة الشرك، وهوت رايته من أقوى يد كانت تحملها، وسبب آخر له أثره في تحريك هذه الوفود إلى طيبة عاصمة الدعوة المنتصرة، ألا وهو غزاة تبوك سنة تسعٍ، وما واكبها من انسحاب الروم إلى معاقلهم داخل بلاد الشام، فأيقن العرب بعد هاتين الحادثتين أن الأمر جد أي جد، وانه لا مناص من الاستجابة للحق، فالمكابرة مهما طالت غير مجدية
…
وعامل آخر كان له أثره في تعميق شعور القبائل بوجوب هذه الاستجابة، وهو إسلام ثقيف، لأنها كانت آخر قبيلة عزيزة الجانب لم تدن بالإسلام، على أن استجابتها هي نفسها كانت من نتائج إسلام العرب من حولها، وإحساسها بأنها لا طاقة لها بحربهم جميعاً.
وأيا ما كان الأمر،فقد تحركت وفود القبائل قاصدة المدينة، وقد بلغت من الكثرة مبلغاً كبيراً، حتى أن عددها قد جاوز عند ابن سعد سبعين وفداً، وما إخاله قد أحصاها جميعاً.
وقد بدا الرسول صلى اله عليه وسلم من خلال محادثاته مع هذه الوفود ذلكم الداعية الحكيم الذي يحرص كل الحرص على هداية الناس، وتبليغ رسالته التي أرسله الله بها، وتحقيق مصلحة دعوته التي تشكل جوهر العلاقات بين أمته وسواها من الأمم والشعوب.
وإن موقفه هذا لا يعروه تغير سواء مع وفود القبائل العربية، أو مع وفود الدول الكبرى كدولة الروم، فها إنه يبدأ رسول هرقل إليه الذي وافاه بتبوك أول ما يبدؤه بقوله:"هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟ "[39] .
والخلاصة أن الأمة المسلمة هي في هويتها الأصيلة أمة (عقيدة ودعوة) وإن دعوتها إلى هذه العقيدة التي كرمها الله بها هي ملاك صلتها بالأمم والشعوب الأخرى، وأن هذه الصلة القائمة على العقيدة لتتخذ شكل منهجٍ متكامل العناصر ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها، وإن الحرب عنصر أساسي من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحة الدعوة وجوداً وعدماً، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه به الدعوة مختلف الاحتمالات والظروف، وما هدف هذه الحرب إلا إزالة العقبات والحوائل من طريق الدعوة التي تتمثل فيها المصلحة الحقيقية للبشرية قاطبة - كما قلنا غير مرة - وسأعود إلى هذه النقطة فيما يأتي من الكلام.
عهد الخلفاء الراشدين:
وقد استمرت صلة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى على هذا النحو الذي ذكرنا طول عهد الخلفاء الراشدين، وحسبنا أن نسوق للدلالة على ذلك مثالاً واحداً حدث في الجبهة الشرقية سنة أبرع عشرة للهجرة، قبيل نشوب معركة القادسية، وما أكثر الأمثلة التي تلتقي معه في الروح والدلالة.
يروي الطبري [40]رحمه الله ما خلاصته: بعث سعد بن أبي وقاص عن أمر عمر رضي الله عنهما وفداً من خيار رجاله إلى ملك الفرس يزدجرد يدعونه إلى الإسلام، وكان فيهم النعمان بن مقرن، وبسر بن أبي رهم، والمغيرة بن شعبة، والمغيرة بن زرارة، والمعنى بن حارثة، فلما بلغوا المدائن وأدخلوا على الملك سألهم بواسطة ترجمانه، ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتن علينا؟ فأجابه النعمان ابن مقرن:"إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير، ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يَدْعُ إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين، فرقة تقربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص [41] ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أُمِرَ أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، وبدأ بهم وفعل، فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كله، فإن أبيتن فأمر من الشرين هو أهون من أخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء، قبلنا منكم، وإلا قاتلناكم". والخبر جد عظيم، ولكن الرغبة في الاختصار تحول دون نقله بتمامه.
الحرب وبدعة الدفاع:
لقد عرفنا مما سلف أن الحرب في الإسلام- هي - عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه به الدعوة الإسلامية مختلف الاحتمالات والظروف في صلاتها بالأمم الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن التحرك لبدء الآخرين بالدعوة إلى الإسلام هو خصيصة ذاتية من خصائص هذا الدين.
يدل على ذلك قول النعمان بن مقرن الآنف ذكره، وهو " ثم أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف "فهل يسوغ مع ذلك أن نقول: إن الحرب في الإسلام - هي - حرب دفاعية؟ كلا، إنها حرب لإزالة العقبات من طريق الدعوة، وللإسلام في تهيئة المناخ المناسب لدخول الناس في دين الله تحقيقاً لسعادتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة.
ثم هل من المعقول أن تواجه دعوة عالمية كالإسلام الأمم والشعوب بمنطق الدفاع، وعلى رأس هذه الأمم وتلك الشعوب حكام جبابرة كالأكاسرة والقياصرة، يحولون دون امتداد الدعوة بمختلف أنواع القوة؟ أليس من طبائع الأشياء أن يبدأ المسلمون هؤلاء الجبابرة بالدعوة في إطار من القوة، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ فإن استجابوا كف المسلمون عنهم، وتركوهم وشأنهم، وإن أبو لم يكن أمام المسلمين إلا أن يزيلوا سلطانهم ليخلوا بين الأمم وبين دعوة الإسلام، تتفهمها في جو من الأمن والاطمئنان، عسى أن ينتهي هذا التفهم إلى اعتناقها، والوصول إلى مصالحهم الحقة في معاشهم ومعادهم.. وهذا ما حصل فعلاً على مدى التاريخ الملتزم بالإسلام.
ثم هل كان النعمان بن مقرن وغيره من الصحابة يجهلون تعاليم الإسلام حين قالوا لكسرى وأمثاله: "وأمَرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا" إلى آخر ما سلفت روايته من كلامه؟
ويقول أحد الكتاب المعاصرين:
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة، أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد؟ وأمام الدعوة تلك العقبات المادية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، التي تحميها تلك القوة المادية الجبارة؟!
أليس من السذاجة بمكانٍ أن يتصور الإنسان دعوة عازمة على هدية العالم كله، ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهد باللسان والبيان فحسب؟!
وشيء آخر، لماذا لم تظهر فكرة الحرب الدفاعية قبل وقوعنا تحت ضغط الاستعمار الغربي، وتخاذلنا أمام مخططاته الرهيبة، ومخططات المبشرين والمستشرقين؟
لماذا لم يقل بهذه الفكرة أحد من علماء هذه الأمة، سلفها أو حتى خلفها؟ أجهلوا جميعاً هذا التفسير العبقري للحرب في الإسلام، حتى جاء ضحايا المخططات فاكتشفوه وقدموه غذاءً عصرياً - ولكنه غير صحي- للفكر الإسلامي.
لماذا خلت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الحاسمة في وجوب القتال من هذه البدعة "بدعة الحرب الدفاعية"؟
ألم يقل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [42] كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} سواء بسواء؟
ألم يقل رسوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق" رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
ألم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية قال له: "
…
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم
…
فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" [43] .
وأعود فأقول: أعن جهل أم عن تقصير خلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من بيان (بدعة الحرب الدفاعية) ؟ حاشا لله، ولكن ضحايا المخططات يتأولون الأمور على غير وجهها
…
إن هذه البدعة، تشبه أن تكون مقدمة للقول بما ذهبت إليه القاديانية من إلغاء الجهاد بالسيف والاكتفاء بالجهاد عن طريق البيان، ولا شك أن مذهب هؤلاء خطة استعمارية هدفها إبطال مفعول الجهاد الذي طالما حال دون الاستعماريين وما يشتهون من إخلاد تسلطهم على البلاد الإسلامية.
اللهم إننا لا نستطيع أن نقبل هذه البدعة إلا أن نتخلى عن نقائضها وهي خمسة أشياء:
أولاً: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الني توجب علينا الجهاد كعنصر من عناصر منهج المواجهة، وقد عرفنا ذلك آنفاً.
ثانياً: فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وفهم من تبعهم بإحسان لمعنى الجهاد في الإسلام، وتطبيقهم إياه باذلين فيه النفس والنفيس، والطريف والتليد.
ثالثاً: وقائع السيرة النبوية والتاريخ الراشدي.
رابعاً: كون الإسلام دعوة حركية مبادِهَة.
خامساًً: الاحتفاظ بعقولنا حرة دون وقوعها فريسة لمخططات الأعداء.
أجل، إننا لا نستطيع قبول بدعة الحرب الدفاعية إلا بالتخلي عن هذه الأمور جميعاً، وهذا ما لا سبيل إليه!
وإذن فلا سبيل إلى قبول هذه البدعة، التي لا تعدوا - في الحقيقة - أن تكون ضرباً من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، على أن موضوع القتال في الإسلام حري بأن يفرد ببحث بل بأبحاث ضافية.
مناقشة شبهة:
وبمناسبة الكلام في علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى أود أن أعرض ببعض المناقشة لشبهة أثارها الأستاذ مجيد خدوري [44] في كتابه" War And Peace in Islam "
أي (الحرب والسلم في الشريعة الإسلامية) إذ قال: " إن القانون الدولي الحديث يعترف بداهة بوجود الأسرة الدولية المؤلفة من دول تتمتع بحقوق السيادة كاملة، وبالمساواة فيما بينها، أما القانون الدولي الإسلامي فلا يعترف بأمة سوى أمته
…
" [45] .
وأقول هذا كلام ليس بمنصف ولا دقيق، إن المسلمين قد اعترفوا منذ البداية بوجود الأمم والدول غير الإسلامية، وكان اعترافهم بها - على الأقل - من النوع الذي يسمى في اصطلاح الحقوق الدولية المعاصرة اعترافاً بالأمر الواقع (De Pacto) وهو الذي يجيء نتيجة تعامل فعلي كعقد الاتفاقيات وتبادل الوفود، وما إلى ذلك، وكلنا يعلم أن المسلمين منذ العهد النبوي عقدوا الاتفاقيات، والموادعات، وتبادلوا الوفود مع الدول والجماعات غير المسلمة.
ولكن هذا الاعتراف الواقعي لا يعني إقرار ما انطوت عليه حياتها من زيغ وانحراف وشوائب، لأن هذا الإقرار ينافي طبيعة الإسلام الذي أخذ على عاتقه تصحيح أوضاع الأمم كلها، وإخراجها جميعاً من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى الذي لا يضارعه هدى.
وعلى ذلك فقد كان أجدر بالأستاذ خدوري أن يقول لو أراد رعاية جانب الإنصاف والروح العلمي: "إن القانون الدولي الإسلامي يعترف بوجود الأمم والدول غير الإسلامية ولكنه لا يرضى عن إهمالها وتركها على ما هي عليه من الزيغ والانحراف، لأن ذلك يتنافى والخصائص الذاتية للإسلام".
تبدل وابتعاد:
ومما يؤسف له حقاً أن (هُوّيّة) هذه الأمة لم تبق دائماً على ما كان لها من صفاء وقوة وسمو في العهدين النبوي والراشدي، بل داخلها ولو على بعض المستويات شيء من التبدل الذي ظهرت آثاره في علاقاتها بالأمم الأخرى، على أنها كانت تعود إلى هذه الهوية من حين إلى حين، وحينئذ كانت تعود علاقاتها بالأمم الأخرى إلى أصالتها الأولى، وآثارها الحميدة العظيمة، فإذا عادت وابتعدت عن هويتها هذه عادت فظهرت آثار هذا الابتعاد في تلك العلاقات.
ومن فترات العودة إلى الهوية الحقيقية الفترة التي حكم خلالها خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، إذ عادت علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى إلى كونها علاقة قائمة على أساس الدعوة ومقتضياتها (لا على أساس الجباية والسطوة) ، مما سبب دخول الملوك في الإسلام على يديه، ولكن الذين جاؤوا بعده عادوا إلى الانفصال النسبي عن هذه الهوية، فظهرت آثار هذا الانفصال السيئة على مسرح العلاقات الخارجية الإسلامية.
يقول البلاذري في كتابه فتوح البلدان [46] :
"ثم مات سليمان بن عبد الملك، وكانت خلافة عمر بن عبد العزيز بعده، فكتب إلى الملوك (ملوك السند) يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، على أن يملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم حليشة [47] والملوك، وتسموا بأسماء العرب".
ولكن ولاية السند صارت في أيام هشام بن عبد الملك إلى الجنيد بن عبد الرحمن المري، (فأتي الجنيد الديبل [48] ، ثم نزل شط مِهران [49] ، فمنعه حليشة العبور، وأرسل إليه:"إني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك". فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً بما على بلاده من الخارج، ثم إنهما ترادّا الرهن، وكفر حليشة وحارب، وقيل إنه لم يحارب، ولكن الجنيد تجنى عليه، فأتى الهند فجمع جموعاً، وأخذ السفن، واستعد للحرب، فسار إليه الجنيد في السفن، فالتقوا في بطيحة الشرقي، فأُخذ حليشة أسيراً، وقد جنحت سفينته فقتله.
وهرب صصة بن داهر [50] ، وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله) [51] وقد أورد ابن الأثير هذا الخبر في (الكامل)[52] بنحو رواية البلاذري.
وعندي أن المسؤولين في هذه الأمة عبر التاريخ لو استقاموا على سنن النبوة، والخلافة الراشدة في تكييف علاقاتهم بالأمم الأخرى لدانت لهم البلاد والعباد، ولمكن الله لهم في الأرض، ولأحلوا أمتهم المسلمة المكان الذي خلقت لتحله، لكنهم انحرفوا عن هذا السنن، فالتوت عليهم الأمور، وجعلوا ينحدرون شيئاً فشيئاً إلى مستوى المسؤولين العاديين في أنفسهم وفي علاقاتهم بالأمم الأخرى.
غير أنه قد كان لهذه الأمة - كما قلنا - عودات إلى (هويتها الحقيقية) وليس الآن مكان استيعابها، وقد كان من آخرها عودتها في القرن الثاني عشر في عهد الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، وجزاهما عن الإسلام وأهله خيراً، وهذه العودة حقيقة بدراسة متخصصة مستوعبة.
صفوة القول:
أن الأمة المسلمة العظيمة لها (هُوّيّة) متميزة، وذلك أنها أمة (عقيدة ودعوة) عالميتين، ومن هذه الهوية انبثقت علاقتها بالأمم الأخرى، فكانت علاقة قائمة على (الدعوة والعقيدة) ، هادفة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، أي أنها كانت دعوة هادفة إلى إبلاغ الناس قاطبة مصلحتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة، وقد أعدت لذلك منهجاً متكاملاً لمواجهة مختلف الظروف والاحتمالات وهي في زحفها الحاني الحكيم لتبليغ الناس ما كلفها الله تعالى تبليغه من الحق والهدى، وشعارها في كل ذلك (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وكانت الحرب، وما زالت عنصراً من عناصر منهج المواجهة المتكامل، وكانت وما زالت فرضاً مفروضاً، غير أن استخدامها إنما يتوجب بحسب مصلحة وجوداً وعدماً، ولا يجوز بوجه ما أن توصف بأنها دفاعية أو هجومية، وأحق ما توصف به أنها حرب لإماطة العقبات، أيّاً كانت، عن طريق الدعوة، أو عن طريق المصلحة الحقيقية للإنسانية كافة
…
ثم كان لهذه الأمة إنفصالات عن هويتها الحقيقية، أورثت خللاً في علاقتها بالأمم الأخرى، ثم كانت لها عودات إلى هذه الهوية، أورثت استقامة في علاقاتها تلك.
ويبدو أنه من واجبنا في هذا العصر أن نحشد الجهود لتربية الأجيال المسلمة في ضوء الهوية الأصلية لهذه الأمة، لعل الله تعالى يصلح بهم أمر أمتهم - بل أمر العالم أجمع، وما أجدر المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، جامعاتٍ وغير جامعاتٍ، والمؤسسات الإعلامية أن تدير مناهجها وبرامجها على أساس هذه (الهوية) .
إن مصلحة العالم قاطبة لن تتم إلا يوم تكون الهيمنة فيه للهوية الإسلامية الأصيلة هوية العقيدة والدعوة، التي تجعل علاقة الأمم بعضها ببعض ملاكها التلاقي على الدعوة الربانية، والعقيدة الصحيحة، والفكرة الموضوعية المستعلية - كما قلنا في بداية هذه المحاضرة - على جميع الاعتبارات التي لا تنطوي على قيم حقيقة كالاعتزاز، باللون، أو اللغة، أو الجنس، أو الأرض، وتنأى بجانبها عن أي ضربٍ من ضروب الاستغلال، أو الاستعمار، أو غمط الآخرين أي حق من حقوقهم التي جعل الله لهم قواماً، وكلنا يعلم أن هذه الأمور التي يشجبها الإسلام جملة وتفصيلاً هي أكبر أسباب التوتر والقلاقل والحروب في العالم قديمة وحديثة.
وخير ما أختم به محاضرتي هذه - هو - قوله تعالى:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [53]، وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [54]، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [55] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الهوية: حقيقة الشيء الذي تميزه عن غيره.
[2]
السورة - 103
[3]
سورة لقمان - 22
[4]
سورة يونس - 62 و 63
[5]
سورة التوبة - 71
[6]
سورة يوسف -108
[7]
سورة فصلت - 33
[8]
سورة التوبة - 24
[9]
سورة الحجرات - 13
[10]
سورة فصلت: 1 - 14.
[11]
الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
[12]
العاني: الأسير.
[13]
المعاقل: الديات، الواحدة: معقلة.
[14]
مفرحاً: المثقل بالدّين، والكثير العيال.
[15]
الدسيعة: العظيمة، وأراد بها هنا: ما ينال عنهم من ظلم.
[16]
يُبيء: هو من البواء أي المساواة.
[17]
إعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.
[18]
يوتغ: يهلك.
[19]
وإن البر دون الآثم: وإن البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزاً عن الإثم.
[20]
بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.
[21]
وإن الله على أبر هذا: وإن الله على الرضا به.
[22]
وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره: وإن الله وحزبه المؤمنين على الرضى به.
[23]
ابن هشام، السيرة، جـ1 ص501 - 504، الطبعة الثانية 1375هـ 1955م. وقد أورد الباحث العالم محمد حميد الله هذه المعاهدة في كتابه (أول دستور مكتوب في العالم) the first written constitution in the world واستقصى رواياتها ومصادرها استقصاء حسناً.
[24]
الطبري، جـ2 ص402، تحقيق الجيزاوي، 1962م.
[25]
محمد الخضري، نور اليقين، ص: 101، الطبعة الخامسة عشرة.
[26]
عبد السلام هارون، تهذيب سيرة ابن هشام، جـ2 ص139.
[27]
وَدان قرية بين مكة والمدينة، بينها وبين الأبواء ستة أميال، ولذا تدعى هذه الغزوة غزوة الأبواء.
[28]
محمد الخضري، المرجع السابق، ص102.
[29]
محمد الخضري، المرجع السابق، ص186.
[30]
عبد السلام هارون، المرجع السابق، ص27.
[31]
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ4ص195، ط دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
[32]
عبد السلام هارون، المرجع السابق، جـ2 ص28- 32-
[33]
(2) ابن هشام، السيرة، جـ2، ص322.
[34]
ابن هشام،السيرة، جـ2، ص322
[35]
سورة الفتح-27.
[36]
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ4 ص203.
[37]
جـ1 ص 258.
[38]
السيرة، جـ2 ص 560.
[39]
ابن كثير، السيرة النبوية، جـ4، ص27، تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط1385 - 1966 القاهرة.
[40]
تاريخ الأمم والملوك، جـ3 ص17، القاهرة، 1357هـ - 1939م.
[41]
يريد بالخواص الخواص من حيث جودة الاستعداد لتقبل الحق، فقراء كانوا أو أغنياء، ضعفاء أو أقوياء وليس الخواص من حيث المكانة الدنيوية متمثلة في الجاه، والمال، والقبيل.
[42]
البقرة - 216.
[43]
صحيح مسلم، جـ12 ص37.
[44]
مستشرق عراقي الأصل.
p.p.4.4
[45]
[46]
ص540.
[47]
يسميه ابن الأثير جيشبة بن ذاهر (الكامل، جـ4، ص197، طبعة محمد منير الدمشقي) .
[48]
يقال إن الديبل تقع مكان كرا تشي اليوم، أو قريباً منها.
[49]
وادٍ يجري فيه نهر السند.
[50]
أخو حليشة أو جيشبة (ابن الأثير، المرجع السابق) .
[51]
البلاذي، فتوح البلدان، جـ3 ص541، ط، مكتبة النهضة المصرية.
[52]
جـ4، ص 197.
[53]
سورة التوبة - 105
[54]
انظر ص: 1
[55]
انظر ص: 2