الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنت إذا تأملت ما تقدم وما يأتي عَلِمتَ أن الحديث الضعيف المتفرّد بعمل لا يوقع في الشُّبْهة بل الراجح أنه باطل، وعلى فَرْض الاشتباه فالاحتياط ترك العمل به؛ لأن غاية ما يحتمل في ترك العمل أن يكون تركًا لمستحبّ، وأما العمل فيُخشى منه الابتداع والإحْداث في الدين، والكذب على الله تعالى، واتهام سلف الأمة بالتفريط، وغير ذلك مما تقدّم.
فالمُقْدِم على العمل إن كان الأمر عنده مشتبهًا، بمنزلة من يُقْدِم على [ص 36] الوقوع على امرأةٍ يشك أأُمه هي أم زوجته!
ومنها: أن المباح يصير قُرْبةً بالنية
.
والجواب: أن محلّ ذلك في مباح من شأنه أن يُعين على عبادة ثابتةٍ شرعًا، كالأكل بنيّة التقوِّي على الجهاد، فأما أن يعمد جاهل إلى أمر مباح، فيزعم أنه عبادة مقصودة، ويتعبد به، ويحافظ عليه؛ فذلك هو الإحْداث في الدين والكذب على ربّ العالمين، والتكذيب بآياته في حفظ الذكر وإكمال الدين، إلى غير ذلك مما مرّ.
ومنها: ما أجاب به ابنُ حجر الهيتمي في "شرح الأربعين"
(1)
عمن قال من المانعين: "إن الفضائل إنما تُتلقّى من الشارع، فإثباتها بما ذُكِر اختراعُ عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله". قال الهيتمي: "وليس ذلك من باب الاختراع والشرع المذكورَين، وإنما هو من باب ابتغاء فضيلة ورجائها بأمارةٍ ضعيفة من غير ترتُّب مفسدة عليه".
(1)
(ص 32).
والجواب: أن ابتغاء فضيلةٍ ورجاءها بأمارةٍ ضعيفة إنما يجوز فيما يكفي في ثبوته دلالة الحسّ والمشاهدة والقرائن، وذلك كمعرفة أن فلانًا عالم، وفلانًا فقير، وفلانًا صالح؛ فإنّ توقير العالم والصالح ومواساة الفقير فضائل ثابتة بالشرع. ولكن معرفة أن فلانًا عالم وفلانًا صالح وفلانًا فقير [ص 37] لا تتوقّف على الحجج النقلية بل مدارها على الحسّ والمشاهدة والتسامع والقرائن، فإذا وُجِدت أمارة ضعيفة أن فلانًا فقير ــ مثلًا ــ كان للمكلّف ابتغاءُ فضيلة الصدقة عليه استنادًا إليها، وذلك كأن يرى ثوبَه خَلَقًا. ويُعتدّ هنا بالأمارات التي لا تثبت بها الأحكام الشرعية، وذلك كخبر الكافر والفاسق والصبي، وكالرؤيا ونحوها.
وليس مسألتنا من هذا القبيل في شيء وإنما هي من قبيل الأحكام الشرعية التي إنما يُستدلّ عليها بالحجج المعتبرة شرعًا في ثبوت الأحكام. وهذا واضح والحمد لله.
ومنها: أن يُقال: إذا جاز أن يفعل المباح، ويختار صيام يوم معيّن، وقيام ليلةٍ معيّنة لمجرَّد سبب دنيوي، وذلك كالتختُّم بالعقيق تزيُّنًا به، وصوم ثاني يوم من صَفَر لأنه كان فارغًا فيه، وقيام ليلته لأنه سهر فيها، فكيف لا يجوز لسبب ديني وهو التماس فضيلة زائدة ولاسيما إذا ورد بها ضعيف.
والجواب: أن التزيّن واغتنام الفراغ والسهر ليس فيها كَذِب على الله ولا تكذيب بآياته ولا زيادة في دينه، وعليك أن ترجع إلى ما قدمنا من الأسئلة التي تورَد على من تحرّى النومَ في ضوء القمر ونحو ذلك، زاعمًا أنه يُرجى لفاعله الأجر والثواب.
وقد قدمنا أن الأسئلة بعينها تورَد على من تحرّى [ص 38] صوم ثاني صفر، زاعمًا أنه يُرجَى لصائمه أجرٌ وثواب أفضل مما يُرجَى لصائم اليوم الذي قبله ونحوه.
فإنه يقال لهذا: أمِن المشروع صوم هذا اليوم لهذا الرجاء؟
فإن قال: نعم، قيل له: آلله عز وجل شَرَعَه أم غيره؟ .. (إلى آخر ما تقدّم)
(1)
.
فأما المتزيّن ومغتنم الفراغ ومغتنم السهر؛ فإنهم لو سُئلوا الأسئلة المذكورة لمرّوا في أجْوِبتها على الوجه الصحيح إلى أن يقال لهم: "فأوْجِدونا في الشريعة ذلك" فيقولون: قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32]، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، والسهر ضرب من الفراغ، والإجماع المحقق منعقد على الجواز. فتدبَّر
(2)
.
(1)
(ص 175 وما بعدها).
(2)
هنا تنتهي هذه القطعة من الكتاب. وقد ألحقنا بها موضعين من القطع الأخرى كما سيأتي التنبيه عليه.
[فصل]
(1)
نصوص الإمام الشافعي في هذا البحث
قال الإمام الشافعي في صدر "الرسالة"
(2)
: "
…
وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبًا وصورًا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهةً عبدوها، فإذا استحسنوا غيرَ ما عبدوا منها ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه
…
فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ كفر في تفرُّقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور الكفر بالله وابتداع ما لم يأذن به الله
…
فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله جل ثناؤه الدليل على سبيل الهدى فيها".
وقال: "والعلم طبقات شتى، الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة
(3)
، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نعلم له مخالفًا منهم، والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يُصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما
(1)
هذا الفصل ألحقناه هنا، وهو من القطعة الثانية من الرسالة [4658/ 10](17 ب- 19 ب). ولعله من ضمن ما استدل به النواوي على جواز العمل بالضعيف، كما ذكر المؤلف [ص 6] من هذه القطعة من الرسالة.
(2)
(ص 10).
(3)
"إذا ثبتت السنة" ليست في ط دار الوفاء.
موجودان". "الأم" (7/ 246)
(1)
.
وقال: "
…
لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكمًا أو مفتيًا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب ثم السنة، أو ما قاله أهلُ العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض. هذا، ولا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان
…
" "الأم" (7/ 271)
(2)
.
وقال ــ رحمه الله ــ بعد أن ساق المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء الافتتاح: "فإن زاد فيه شيئًا أو نقصه كرهته ولا إعادة""الأم"(1/ 92).
ونحو هذا ذكر في التلبية، وروى فيها "عن عبد الله بن أبي سلمة أنّه قال: سمع سعدٌ بعضَ بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج، فقال سعد: المعارج؟ إنّه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". "الأم" (2/ 132 ــ 133)
(3)
.
وذكر في موضع آخر بعد أن ذكر تلبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ولا أحبّ أن يزيد على هذا في التلبية حرفًا إلا أن يرى شيئًا يعجبه فيقول: لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة، فإنّه لا يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه زاد في التلبية حرفًا غير هذا عند شيء رآه فأعجبه". (2/ 173)
(4)
.
(1)
(8/ 764 - دار الوفاء).
(2)
(9/ 67 - 68).
(3)
(3/ 391 - 392).
(4)
(3/ 525).
أقول: ومثل هذا ما جاء أنّ رجلًا عطس عند ابن عمر فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله. فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علّمنا أن نقول:"الحمد لله على كل حال". "جامع الترمذي"(2/ 123)
(1)
، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"
(2)
وقال: صحيح غريب، وأقرّه الذهبي.
وقال الشافعي
(3)
: "وأحبّ أن يستلم الركنَ اليماني بيده ويقبّلها ولا يقبّله؛ لأنّي لم أعلم أحدًا روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قبّل إلا الحجر الأسود، وإن قبّله فلا بأس به، ولا آمره باستلام الركنين اللذين يليان الحجر الأسود، ولو استلمهما أو ما بين الأركان من البيت، لم يكن عليه إعادة ولا فدية، إلا أني أحبّ أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
وبعد كلام روى "عن محمد بن كعب القُرَظي أنّ رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمسح الأركان كلها، ويقول: لا ينبغي لبيت الله تعالى أن يكون شيء منه مهجورًا. وكان ابن عباس يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
…
" "الأم" (2/ 146 ــ 147)
(4)
.
وذكر بعد ذلك أنّ الذي كان يستلمه ابنُ الزبير، وذَكَر قولَ ابن عباس ثم
(1)
(2738) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع".
(2)
(4/ 265) وعبارته: "هذا حديث صحيح الإسناد غريب في ترجمة شيوخ نافع".
(3)
(3/ 428).
(4)
(3/ 430 - 431).
قال: "وبهذا نقول"
(1)
.
وقد روى الإمام أحمد
(2)
وغيره أنّ ابن عبّاس طاف مع معاوية فكان معاوية يستلم الشاميين وابن عباس يمنعه ويقول: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". وفي بعض الروايات: أنّ معاوية رجع عن ذلك
(3)
.
وقد عقد البيهقي في "السنن" بابًا لذلك، وذكر فيه جواب الشافعي عن شبهة الهجران بقوله:"قال الشافعي: ولم يدَّعِ أحدٌ استلامهما هجرةً لبيت الله ونسكه، ولكنّه استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسك عمّا أمسك عنه". "سنن البيهقي"(5/ 77).
وقد جاء عن عمر وعثمان عدم استلام الشاميين واحتجَّا بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله
(4)
.
أقول: وقول الشافعي: "وإن قبّله فلا بأس به
…
" يمكن أن يكون أراد بالبأس الإعادة والفدية، أي: أنّه لا إعادة عليه ولا فدية كما بيّنه بعد ذلك، ولكنّه قال في موضع: "وأيّ البيت قَبَّل فحَسَنٌ غير أنّا نأمر بالاتباع"، وهذا لا يخلو عن إشكال، ولعله أراد أنّه مباح إذا لم يزعم فاعله أنّه من الدين، بل فعله بباعث المحبة، كالذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة، مع أنّ بينهما فرقًا، فإنّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الصلاة ثابت إجمالًا، وتقبيل ما
(1)
(3/ 435).
(2)
(2210)، وأخرجه البخاري (1608) معلقًا، والحاكم:(3/ 542).
(3)
في "المسند"(1877) وفيه قول معاوية لما ذكر له ابنُ عباس الآية: "صدقت".
(4)
خبر عمر رواه أحمد (253، 313)، وخبر عثمان رواه أحمد أيضًا (512).
بين الأركان لم يثبت إجمالًا ولا تفصيلًا، والقياس فاسد الاعتبار لمخالفته النص، فإنّ تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجرَ الأسود، وتركه تقبيل غيره واضح في الدلالة على الفرق، هذا مع ما جاء من مزيّة الحجر الأسود على سائر البيت، والله أعلم.
وذكر الشافعيُّ في الحجِّ أدعيةً بعضها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسندٍ لا يثبت، وبعضها حكاها عن بعض التابعين وبعضها لم يحكه عن أحد، ويعبر عنها بقوله:"أستحب" ونحوه، وقد يتوهّم أنّ تلك الأدعية مستحبة على التعيين، وليس هذا مراد الشافعي إن شاء الله، وإنّما مراده ــ إن شاء الله ــ أنّ الدعاء المناسب للمقام مستحب، وذلك الدعاء الذي ذكره مناسب، وروايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن بعض السلف يُكْسِب النفسَ طمأنينة بسلامة الدعاء ممّا يكره، ولو عَدَل الحاجُّ عنه إلى دعاء آخر مناسب كان قد أتى بالمستحب؛ ولهذا قال الشافعي في باب القول عن رؤية البيت بعد أن ساق بعض الأدعية:"فأستحبّ للرجل إذا رأى البيت أن يقول ما حكيت، وما قال مِنْ حَسَن أجزأه إن شاء الله تعالى". (2/ 144)
(1)
.
وهذا كثيرٌ في كلام الشافعي يقول: أستحبُّ كذا، ويذكر مثالًا خاصًّا يريد ــ والله أعلم ــ أنّه فَرْد من أفراد المستحب المطلق لا أنّه مستحب بعينه.
فمن ذلك أنّ مالكًا ــ رحمه الله ــ كره عند الذبح أن يُصَلّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
، فقال الشافعي:"والتسمية على الذبيحة "باسم
(1)
(3/ 423).
(2)
انظر "البيان والتحصيل": (3/ 281)، و"مواهب الجليل":(1/ 383).
الله" فإذا زاد على ذلك شيئًا مِنْ ذِكْر الله عز وجل فالزيادة خير، ولا أكره مع تسميته عند
(1)
الذبيحة أن يقول: صلى الله على محمد رسول الله، بل أحبُّه له، وأحب أن يُكثر الصلاةَ عليه، فصلّى الله عليه في كل الحالات؛ لأنّ ذكر الله عز وجل والصلاة عليه إيمان بالله تعالى وعبادة له يُؤجَر عليها إن شاء الله تعالى من قالها
…
قال: ولسنا نعلم مسلمًا، ولا نخاف عليه أن تكون صلاته عليه صلى الله عليه وآله وسلم إلا إيمان بالله
(2)
، ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدْخَلَ على بعض أهل الجهالة النهيَ عن ذِكْر اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الذبيحة، ليمنعهم الصلاةَ عليه في حالٍ لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة
…
". "الأم" (2/ 305)
(3)
.
يعني بقوله: "لمعنى
…
" إلخ أن ينوي الذبح لله وللرسول، أو يظن ذِكْر الرسول لازمًا لزوم ذكر اسم الله أو نحو ذلك. وقوله: "فالزيادة خير" يريد الخيرية المطلقة المشتركة بين هذا الموضع وغيره، وهكذا قوله: "بل أحبه له" مراده أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم محبوبة مطلقًا، وهذا الموضع من أفراد ذلك المطلق، وهذا ظاهر في سياق عبارته، وإن غلط في هذا بعض الفقهاء فزعم أنّها مستحبة في هذا الموضع بعينه على الخصوص.
وقد يُحْتَجّ لمالك بأنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الذبح لم تُنقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه ولا
(1)
في "الأم": "على".
(2)
كذا في الأصل، وفي ط. دار الوفاء:"الإيمان بالله".
(3)
(3/ 621 - 622).
أئمة التابعين، وقد احتجّ الشافعي بمثل هذا في مواضع قد تقدم بعضها
(1)
. وتَرْكُه صلى الله عليه وآله وسلم من سنّته، وقد مرّ احتجاج ابن عباس بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(2)
[الأحزاب: 21]، ومثلها في الحجة قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. وغيرها من الآيات في الأمر بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّ مِنْ اتباعه تَرْكَ ما تركه، وقد غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النفر الذين أراد بعضهم أن يصوم ولا يفطر، وأراد الآخر أن يقوم الليل ولا ينام، وأراد الثالث أن يتجرّد للعبادة فلا يتزوّج، وممّا قاله صلى الله عليه وآله وسلم في زَجْرهم وزجر أمثالهم:"فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ومرّ احتجاج عمر وغيره، وسيأتي مزيد لذلك في بيان أن ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة
(3)
.
وذكر الشافعي ــ رحمه الله ــ في باب (الاغتسال للعيد)
(4)
[قال: كان مذهب سعيد وعروة في أن الغسل في العيدين سنة، أنه أحسن وأعرف وأنظف، وأنْ قد فعله قومٌ صالحون، لا أنه حَتْمٌ بأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم].
(1)
(ص 191).
(2)
(ص 192).
(3)
(ص 200 وما بعدها).
(4)
(2/ 489). إلى هنا انتهت هذه القطعة من النسخة الثانية من الرسالة، وقد نقلتُ باقي كلام الشافعي من "الأم".
[فصل]
(1)
نعم قد توجد مسائل عن بعض الأكابر استحسنوا فيها العمل بحديث يظهر أنه ضعيف، ولكن مثل ذلك لا يثبت به أصل عظيم من الأصول الشرعية تُعارَض به الأصول القطعية؛ لاحتمال أن ذلك الحديث كان عند مَن قال بموجبه صحيحًا، أو كان له عاضد ولو من القياس، أو يكون ذلك سهوًا منه، أو غير ذلك.
وقد يُروى عن بعضهم المحافظة على بعض المباحات على هيئة يتوهَّم الناسُ أنه كان يرى أنها مستحبة، ولم يكن هو يراها مستحبة، وقد تكون له نية يصيرُ ذلك المباح بها قربة، ولكن لا تتفق هذه النية لكل أحد. كما يروى أن مالكًا رحمه الله كان إذا أراد الخروج إلى مجلس الحديث اغتسل
(2)
، وأن البخاري قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين
(3)
. فكأنهما كانا يغتسلان لأن الغسل يورث ......
(4)
.
[فصل]
[ص 21][والبدعة] بالتعريف المذكور
(5)
مذمومةٌ قطعًا ولا يُستثنى منها
(1)
من هنا إلى آخر الرسالة أضفناه من القطعة الثانية من الرسالة [4658/ 10](ق 23 ب- 33 ب) وقد حصل فيها خرم في موضعين كما سيأتي التنبيه عليه.
(2)
انظر "تهذيب الأسماء واللغات": (ق 1/ 2/76).
(3)
انظر "تاريخ بغداد": (2/ 9)، و"السير":(12/ 402).
(4)
هنا خرم ورقة أو أكثر.
(5)
بسبب الخرم السالف سقط ما قبل هذا من الكلام، وواضح أن حديث المؤلف عن البدعة فأضفناه بين معكوفين، والتعريف الذي أراده المؤلف هو "إلصاق أمر بالدين وليس من الدين". انظر "حقيقة البدعة"(ص 88 - ضمن رسائل العقيدة) للمؤلف.
شيء، وأدلة ذلك لا تحصى، وقد بسطها الشاطبي في "الاعتصام"
(1)
، وسأشير إلى بعضها:
فمنها: أن الله تعالى قسَّم الكفر في كتابه إلى قسمين: الكذب عليه، والتكذيب بآياته، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32].
وكلّ من عمل عملًا يرجو ثوابه من الله تعالى، فقد نَسَب ذلك العمل إلى الدين، فإن كان عنده سلطان أنه من الدين وإلا فهو كاذب على الله تعالى، والسلطان إما يقينيّ بذاته كآيةٍ من القرءان قطعية الدلالة، وإما مُسْتَنِد إلى يقينيّ كحديث صحيح، فإنه ليس قطعيًّا في نفسه عند أكثر العلماء، ولكنه مستند إلى أصل قطعي، وهو وجوب العمل بالحديث الصحيح، فإن مجموع الأدلة على ذلك يفيد اليقين، وإن كان كلّ فرد منها لا يفيده.
وما لم يكن قطعيًّا ولا يستند إلى قطعيّ فهو من الخَرْص الذي قال الله تعالى فيه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10]، ومن الظن الذي قال فيه:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، فصاحبه كاذب على الله عز وجل ولا بدّ.
(1)
(3/ 62 - 66).
والبدعةُ المذمومةُ التي سبق تعريفها
(1)
كلها داخلة في هذا، ولكن من النّاس من يُعْذَر، على ما يأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى
(2)
.
ومن هنا تضافرت الأحاديث على ذمها كلها، ومن تلك الأحاديث ما رواه مسلم وغيره من طرق متواترة إلى جعفر الصادق عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كانت خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول بعد ذلك ــ وقد علا صوتُه ــ:"أمّا بعد، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" مسلم ج 3 ص 11
(3)
.
ولولا عِظَم خطر الإحداث في الدين لما كرّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكلام كلَّ جمعة.
وقد اتفق المحققون أنّ المرادَ بالبدعة في هذا الحديث البدعةُ في الدين ــ على ما قدمنا تعريفها ــ ولكن منهم من أدخل فيها ما كان مِنْ هَدْيه صلى الله عليه وآله وسلم بالقوّة، فاحتاج إلى استثنائه من هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة.
ومنهم مَن نَظَر إلى أنّ البدعة لغةً أعمّ من البدعة في هذه الأحاديث، فاحتاج إلى قسمتها إلى الأحكام الخمسة. وقد نصّ هذا الحديثُ وغيرُه [ص 22] من الأحاديث أنّ البدع شر الأمور، وأنّ كلّ بدعة ضلالة. فأقلّ ما
(1)
انظر (ص 197) حاشية رقم (5).
(2)
(ص 211 - 212).
(3)
(867).