الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير القرطبي
سورة النمل
إدعاء علم الغيب، وسماع الموتى في قبورهم
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(65 - 66) سورة النملِ].
قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [(65) سورة النمل]، وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق، ولم يطلع عليه أحد؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم:
لأن العبد إذا اطلع على الغيب وعرف ما في المستقبل، وما يعرض له، وما يحصل له فإنه يأمن من هذا، يحترز مما يعتريه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [(188) سورة الأعراف]، ومع الأسف أنه شاع بين الناس في السنوات الأخيرة لما انتشرت تجارة الأسهم، ادعاء الغيب من كثير ممن يزاول هذه المهنة، ومع الأسف من بعض من ينتسب إلى طلب العلم الشرعي، تجد الواحد منهم يتصل على الآخر فيقول: اشتري في الشركة الفلانية فإنها خلال أسبوع سوف تتضاعف أسهمها، تتضاعف أقيامها، وستذكر ما أقول لك، واشتري في كذا وبع في كذا؛ لأنها تخسر وتنزل، هذا ادعاء علم الغيب، الإخبار عما في الغد من علم الغيب.
ويؤكدون ذلك وأحياناً بالأيمان، وكل هذا داخلٌ في هذه الآية دخولاً أولياً، وانتشر هذا حتى حصل ما حصل من الكارثة التي صارت في سوق الأسهم، صاروا يعضون أنامل الندم حيث لا ينفعهم الندم، وتبرءوا ممن اغتروا بهم، وقال قائلهم: ليتني لم أتخذ فلاناً مستشاراً، كما يقول القائل:{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [(28) سورة الفرقان]، إذا بانت سوء العاقبة هذه النتيجة، وكل هذا من شؤم ادعاء علم الغيب مع ما يحتف بهذه الأسهم من شبهات، بل محرمات أحياناً.
فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن ينتبه لهذا الأمر؛ لأن الذي يزعم أنه يعلم ما في الغيب هذا كافر نسأل الله العافية، مخالف للنصوص القطعية، مصادم للنصوص القطعية، النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وهؤلاء يذكرون ما في الغد، بل ما في بعد أسبوع أو بعد أشهر، ويحلفون على ذلك، ويؤكدون، ثم بعد ذلك تظهر النتائج عكسية.
وقد يستدرج الإنسان، يقع ما توقعه، ثم يستبصر في ذلك، ولا يشعر ولا يدري أنه منكرٌ به، ويستدرج، نسأل الله السلامة والعافية.
وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة، و "من" في موضع رفع.
يوم القيامة لا يعلم متى تقوم إلا الله -جل وعلا-، ولا تأتي إلا بغتة، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، وجاء في حديث جبريل عليه السلام حينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الساعة، قال:((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) فهما مستويان في الجهل بها؛ لأنه لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، ومع الأسف أن من من بحث في أشراط الساعة زعم أن الساعة تقوم سنة 1407هـ، وهذا الكلام قيل: قبل أربعمائة سنة، يقول تقوم الساعة سنة 1407هـ بناءً على حساب الجُمَل؛ لأن بغتة حسبت بحساب الجمل فيظهر الناتج 1407هـ، مع أن النصوص القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه لا يعلمها أحد إلا الله -جل وعلا-.
وأما قول الله -جل وعلا-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [(15) سورة طه]، يعني على ضوء قواعد العربية: كاد إذا كانت مثبتة تختلف عما إذا كانت منفية، فمفهوم قوله:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} أنه أظهرها، لكن على إظهار قريب من الخفاء، وليس هذا المراد قطعاً؛ لأن مثل هذا النص يرد إلى النصوص المفسرة.
فقال من قال من المفسرين -ولو وجه ظاهر-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} حتى عن نفسي، هذا مبالغة في إخفائها، فالنصوص القطعية تدل على أنه لا يعلمها أحد كائناً من كان.
هناك الأمور الخمسة التي استأثر الله بعلمها في آخر سورة لقمان، ومنها:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [(34) سورة لقمان]، وهذه الآية أشكلت على كثير من الناس، نعم لا يعلم ما في الأرحام إلا الله -جل وعلا-؛ لأنها من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وجاء النص الصحيح المفسر لهذه الآية؛ لأنه قد يقول قائل:{يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} لا ينفي أن يكون غيره يعلم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح:((في خمسٍ لا يعلمها إلا الله)) فالحصر دل على أن ما في الأرحام لا يعلمه إلا الله -جل وعلا-.
وقد يقول قال: أن الأطباء الآن بأجهزتهم يخبرون النساء الحوامل عما في بطونهن، هل هو ذكر أو أنثى، ولكن لا شك أن الحمل إذا خرج عن دائرة الغيب وعرفه الملك أمكن معرفته، وقبل ذلك لا يمكن بحال؛ لأنه من الخمس المغيبات التي لا يعلمها إلا الله.
والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فإنه بدل مِن "مَن" قاله الزجاج. وقال الفراء: وإنما رفع ما بعد "إلا" لأن ما قبلها جحد.
يعني ليس استثناء تام موجب، إنما هو سالب؛ لأن ما قبلها جحد، يعني من في من، تقدمت عليه {قُل لَّا يَعْلَمُ} إذا كان الاستثناء منفي يرفع، وإذا كان الاستثناء تام موجب فإنه ينصب.
كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك، والمعنى واحد، قال الزجاج: ومن نصبَ نصب على الاستثناء، يعني في الكلام، قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجماً، وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية.
نعم، من يزعم أنه يدعي علم الغيب، ولم تكن لديه شبهة يتشبث بها لا شك أنه كافر، الذي يدعي علم ما نفاه الله -جل وعلا- لا شك في كفره، إلا إذا كانت لديه شبهة عنده لديه شبهة، فتزال هذه الشبهة قبل الحكم عليه.
قلت: وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى، وقالت عائشة: من زعم أن محمداً يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية
…
غلاة الصوفية جعلوا له من العلوم جميع ما يعلمه الله -جل وعلا-، غلاتهم يزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب، بل جعلوا له كل ما يخص به الرب -جل وعلا-، نسأل الله السلامة والعافية.
والله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [(65) سورة النمل]، خرجه مسلم، وروي أنه دخل على الحجاج منجمٌ فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصا؟ فحسب المنجم، ثم قال: كذا، فأصاب.
لأن عدد الحصا ليس من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنما يعلمه الحجاج؛ لأنه عدها، فخرج عن دائرة الغيب، ومع ذلكم هو غيب، لا يعلمه هذا المنجم، فإن زعم أنه يعلم ما في يد الحجاج من الحصى ولو عدها الحجاج هي غيب، ما وراء هذا الجدار لا يمكن أن يعرفه من دونه؛ لأنه غيب، إلا بإعانة الشياطين، فتعود المسألة من كونها غيب إلى كونها استعانة بالشياطين، ومعروفٌ أن الشياطين لا يعينون إلا من استعان بهم، وقدم لهم، نسأل الله السلامة والعافية؛ لأنه لم يعرف هذا العدد بمفرده بمجرده إلا بإعانة من يستطيع الوقوف على هذا العدد؛ لأنه خرج عن دائرة الغيب.
ثم أعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب فأخطأ؟ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا، قال: فإني لا أصيب، قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب. و {لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقد مضى هذا في "آل عمران" الحمد لله.
وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [(66) سورة النمل]، هذه قراءة أكثر الناس، منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد:{بل أَدْرَك} من الإدراك، وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان ين يسار والأعمش:{بل ادَّرَك} غير مهموز مشدداً، وقرأ ابن محيصن
…
ذكر الأعمش في القراءة الأولى والثالثة، ولكن أكثر كتب التفسير لا تذكر الأعمش في القراءة الثالثة، إنما المعروف عنه القراءة الأولى {بل ادارك} .
وقرأ ابن محيصن: {بل آدرك} على الاستفهام، وقرأ ابن عباس:{بلى} بإثبات الياء، و {أدارك} بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها، قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس، وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي {بل تدارك علمهم} وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبي {أم تدارك} ، والعرب تضع بل موضع "أم" و "أم" موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام كقول الشاعر:
فوالله لا دري أسلمى تقولت
…
أم القول أم كل إلي حبيب
أي بل كل.
قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد؛ لأن أصل {أدارك} تدارك، أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى.
لأنه إذا أدغم الحرفان فصارا حرفاً واحد مشدد، حرفٌ مشدد عبارة عن حرفين أولهما ساكن، ولا يمكن الابتداء بالساكن، فيتوصل إلى الابتداء به بمتحرك، فتتحد القراءتان.
وفي معناه قولان، أحدهما أن المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما يوعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا: تكون، وقالوا: لا تكون، والقراءة الثانية فيها أيضاً قولان:
التدارك من الإدراك، ومعناه على التتابع واحد؛ لأن من يتبع غيره قد يدركه، فتدارك أو ادارك علمهم في الآخرة يعني تتدارك وتتابع علمهم في الآخرة، فعاينوا ما كانوا يشكون فيه، فبعد أن كان خبراً قابلاً للشك على حد زعمهم، لعدم إيمانهم، صار يقيناً، وصار عين اليقين، وحينئذ يتتابع علمهم عليه، ويتواطئون عليه، ولا يمكن أحدٌ منهم أن ينكره.
القراءة الثانية فيها أيضاً قولان: أحدهما: أن معناه: كُمل في الآخرة وهو مثل الأول، قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين، والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار وهو مذهب أبي إسحاق، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(66) سورة النمل]، أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها علم، والقراءة الثالثة:{بل ادَّرك} فهي بمعنى {بل ادارك} وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى. ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا.
يأتي المفاعلة التي هي في الأصل بين طرفين، بمعنى الفعل الذي هو لطرفٍ واحد، يأتي كالمسافرة مثلاً، قلت: سافر زيد، لا يعني أن هذه المفاعلة المسافرة وقعت بين طرفين، تقول: طَارَقَ زيدٌ النعل، المطارقة هذه لا تعني أنها بين اثنين، وإن كان بابها والأصل فيها أنها تكون بين اثنين كالمضاربة والمكاتبة وما أشبه ذلك.
والقراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار، كما تقول: أأنا قاتلتك؟ فيكون المعنى لم يدرك، وعليه ترجع قراءة ابن عباس، قال ابن عباس:{بلى آدارك علمهم في الآخرة} أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه.
قوله: أأنا قاتلتك؟ هذا الاستفهام إنكاري، يراد به إنكار المقاتلة.
وهو قولٌ حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف، فأنت تروي ما لا أروي، وأنت تكذبه، وقراءة سابعة:{بلَ أدرك} بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في "قمَ الليل" فإنه عدل إلى الفتح.
فتح اللام اللي في "بل"{بلَ أدرك} .
وقراءة سابعة: {بلَ أدرك} بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في "قمَ الليل" فإنه عدل إلى الفتح.
وكذلك و"بعَ الثوب" ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ {بل أأدرك} بهمزتين {بل أأدرك} ..
الفتح، فتح اللام التي هي في الأصل مكسورة، وعدل عنها إلى الفتح للتخفيف، لا شك أن الأصل هو الكسر؛ لأنه إذا توالى ساكنان، حُرك الأول منهما بالكسر، {يَرْفَعِ اللَّهُ} [(11) سورة المجادلة]، قد يقول قائل: الفعل لا يجر، نقول: نعم، حرك بالكسر لئلا يجتمع ساكنان، طيب لماذا لم يحرك بالفتح أو لم يحرك بالرفع؟ هو محله الجزم، فإذا حرك بالرفع والمضارع يرفع إذا تجرد عن العوامل الناصبة والجازمة؟ قلنا: أنه مرفوعٌ أصلاً، وأن محله الرفع، وكذلك إذا حرك بالنصب ظن أنه منصوب؛ لدخول العامل الناصب عليه؛ لأن من شأن الناصب أن ينصب، والتجرد يرفع، والمضارع إنما يرفع إذا تجرد عن العوامل وينصب إذا دخل عليه ناصب، ويجزم إذا دخل عليه جازم، وحينئذٍ يلجأ إلى حركةٍ لا توجد في الحالات الثلاث، ليعرف أن هذا ليست حركة إعراب، الحركة التي عليه ليست حركة إعراب، وإنما هي حركة تخلص، فيلجأ إلى الكسر لهذا، وإلا فالأصل أن الفعل لا يجر.
وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ {بل أأدرك} بهمزتين {آأدرك} بألف بينهما {بلى أأدرك} {أم تدارك} {أم أدرك} فهذه ثنتا عشرة قراءة.
ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة {بل أأدرك} على الاستفهام؟ قلتُ: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ:{أم أدرك} و {أم تدارك} لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ:{بلى أأدرك} على الاستفهام، فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن {فِي الْآخِرَةِ} في شأن الآخرة، ومعناها {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي في الدنيا {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(66) سورة النمل]، أي بقلوبهم، واحدهم عمو، وقيل: عَمٍ، وأصله عميون، حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
عمون: جمع مذكر سالم، جمعٌ عمٍ، واحدهم عمٍ، وأصله ناقص، مختوم بالياء، والناقص في حالة الرفع تحذف ياءه إذا لم يقترن بأل، جاء قاضٍ، فهو في محل الرفع محذوف الياء، ويجمع على قاضون، مثل عمون.
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [(67) سورة النمل]، يعني مشركي مكة، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} هكذا يقرأ نافع هنا، وفي سورة:"العنكبوت".
المؤلف والمفسر على قراءة نافع، لذا تجدون مثل ما كررنا مراراً أنه يفسر الآيات على قراءته، ويشير إلى القراءات الأخرى.
وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة، وقرأ عاصم وحمزة أيضاً باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعاً واحد، وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب:{أئذا} بهمزتين {إننا} بنونين على الخبر في هذه السورة وفي سورة: "العنكبوت" باستفهامين.
قال أبو جعفر النحاس: القراءة {إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون} موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال:
ومر بنا مراراً أن المراد بأبي حاتم هو السجستاني.
وهذا معنى كلامه: {إذا} ليس باستفهام و {آينا} استفهام، وفيه {إن} فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ وكيف يجوز أن يعمل ما بعد {إن} فيما قبلها؟ وكيف يجوز غداً إن زيداً خارج؟ فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلاً لما ذكره، وقال أبو جعفر:
يعني ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله.
وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة المشكلة، وهي قوله اله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [(7) سورة سبأ]، فقال إن عمل في {إذا} {ينبئكم} كان محالاً؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد {إنَّ} كان المعنى صحيحاً، وكان خطأً في العربية أن يعمل ما قبل {إنَّ} فيما بعدها، وهذا سؤال بَيِّن رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها، فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى:
يعني جوابه في الجزء الرابع عشر صفحة "262"، جواب هذا الإشكال.
واستدل بقوله تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [(144) سورة آل عمران].
سبأ، سبأ الجزء الرابع عشر، صفحة "262". . . . . . . . .
يقول: ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إن؛ لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولها، وأجاز الزجَّاج أن يكون العامل فيها محذوفاً.
التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم -هذا الجواب الذي أحال عليه هنا- المهدوي: ولا يعمل فيه مزقتم؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
لماذا؟ الآن المضاف إليه مجرور، مجرور بالمضاف، فالمضاف هو العامل في المضاف إليهم، وهنا يقول: المضاف إليه لا يعمل في المضاف – هذا طبيعي، هذا أنه إذا كان العامل هو المضاف في المضاف إليه لا ينعكس- وأجازه بعضهم على أن يجعل "إذا" للمجازاة.
لكن هل يجوز أن يكون المضاف إليه عاملاً بمعنى أنه يأتي منه الحال؟
ولا تجز حالاً من المضاف له
…
إلا إذا اقتض المضاف عمله
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [(4) سورة يونس]، جميعاً حال من الكاف المضاف إليه، ولذا المضاف إليه معمول وليس بعامل: إلا إذا اقتض المضاف عمله كما في هذا.
أو كان جزء ما له أضيف
…
أو مثل جزءه فلا تحريف
المقصود أنه المضاف إليه الأصل فيه أنه معمول وليس بعامل.
فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى:{أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [(144) سورة آل عمران]، وبقوله تعالى:{أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [(34) سورة الأنبياء]، وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئاً.
والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد، ومعنى:{أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [(34) سورة الأنبياء]، أفإن مت خلدوا، ونظير هذا: أزيدٌ منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد، وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام.
لأن منطلق كلمة، أزيدٌ منطلق، منطلق: خبر زيد، لا يقوم بنفسه، أما جملة {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} جملة كاملة من مبتدأ وخبر، يختلف الحكم في هذا عن هذا.
والأول كلام يصلح فيه الاستفهام، فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ:{أئذا كنا تراباً وآباؤنا إننا} فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلاً عليه بمعنى الإنكار.
قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [(68) سورة النمل]، تقدم في سورة "المؤمنون"، وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت فقريب.
يقربون أمر الساعة التي هي مقدمة البعث، ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ومع ذلك مضى أكثر من (1400) سنة ما قامت الساعة، كل ما آتٍ قريب. ويقربونها كي يستعد لها الناس.
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [(69) سورة النمل]، أي {قُلْ} لهؤلاء الكفار {سِيرُوا} في بلاد الشام والحجاز واليمن {فَانظُرُوا} أي بقلوبكم وبصائركم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين لرسلهم.
{سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} الأرض جنس، يشمل ما ذكر في بلاد الشام والحجاز واليمن، ويشمل غيرها من بلاد المشرق والمغرب، كلها فيها عبر وآيات، فهل من مدكر. سينظرون في الآفاق، وينظرون في الأرض على اختلاف ألوانها وأشكالها، ومناخها، وتضاريسها، ومع ذلك لا اعتبار ولا ادكار، وكثيرٌ من الناس يذهب إلى السياحة والفرجة والمتعة، ويرى من آيات الله ما يخلع القلوب، ومع ذلك كأن شيئاً لم يكن، ويزاول في سياحته هذه التي الأصل أن يستفيد منها ويعتبر، يزاول فيها ما حرمك الله -جل وعلا-. فالله المستعان.
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [(70) سورة النمل]، أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا، {وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ} في حرج، {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وقد تقدم ذكرهم، وقرئ:{في ضِيق} بالكسر، وقد مضى في آخر "النحل".
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [(71) سورة النمل]، أيَّ وقتٍ يجيئنا العذاب بتكذيبنا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
استبعاد لعذاب الله، وما أشبه الليلة بالبارحة، يوجد الآن على وجه الأرض من يستبعد وينكر العذاب، وحال كثيرٍ من المسلمين، وإن لم يقولوا بلسان المقال، بل ما اشتمل عليهم حالهم كأنها حال مكذب، والله المستعان.
قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [(72) سورة النمل]، أي اقترب لكم ودنا منكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: من العذاب
…
لأن الرديف قريبٌ من مرادفه، الرديف قريب من مرادفه، لصيق له، مجاورٌ له، فإذا ردفَ لهم بعض الذي يستعجلون قرب منهم، كان رديفاً لهم كان قريباً منهم.
أي من العذاب، قاله ابن عباس، وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره، وتكون اللام أدخلت؛ لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم، أو تكون متعلقة بالمصدر، وقيل: معناه معكم، وقال ابن شجرة: تبعكم، ومنه ردفُ المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب:
عاد السواد بياضاً في مفارقه
…
لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردفا
أوضح منه: الرديف على الدابة، الدابة يركب عليها الاثنان والثلاثة إذا كانت تطيق ذلك يجوز، وجاء في أحاديث عن أكثر من ثلاثين صحابياً، كل منهم يقول:"كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم" وألف ابن منده في ذلك جزءاً فيمن ردف النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا أكثر من ثلاثين، هذا أوضح من ردف المرأة؛ لأن الردف ملاصق، ويأتي مع لا يأتي بعد، أما الرديف الذي يركب خلف الراكب فهذا ليس بملاصق له.
قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى، قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا
…
ظننت بآل فاطمة الظنونا
يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظيَن.
القارظين، القارظ بن عنزة، ذهب ولم يعد:
إذا ما القارظ العنزي آبا
معلقٌ عليه الأمور المستحيلة، ذهب لحاجات من الحاجات فلم يرجع.
وقال الفراء: {رَدِفَ لَكُم} دنا لكم، ولهذا قال:{لكم} . وقيل: ردفه وردف له بمعنى، فتزاد اللام للتوكيد، عن الفراء أيضاً:
يعني الأصل أنه متعدٍ بنفسه.
كما تقول: نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته وكلت له ووزنت له، ونحو ذلك. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [(72) سورة النمل]، من العذاب فكان ذلك يوم بدر، وقيل: عذاب القبر.