المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أسباب الاختلاف: - التعليق على تفسير القرطبي - عبد الكريم الخضير - جـ ٢٠

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌من أسباب الاختلاف:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [(73) سورة النمل]، في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه.

قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [(74) سورة النمل]، أي تخفي صدورهم، {وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون من الأمور، وقرأ ابن محيصن وحميد:{ما تَكنُّ} من كننت الشيء إذا سترته هنا، وفي "القصص" تقديره: ما تَكن صدورهم عليه

أي ما تنطوي عليه وما تخفيه.

وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر، ومن قرأ:{تُكنُّ} فهو المعروف، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [(75) سورة النمل]، قال الحسن: الغائبة هنا القيامة، وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض، حكاه النقاش، وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيَّبه عنهم، وهذا عام، وإنما دخلت الهاء في "غائبة" إشارة إلى الجمع، أي: ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه، وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب.

العموم في الغائبة؛ لأنها نكرة في سياق النفي، وأكد هذا العموم بمن.

وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له، فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب، لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه، والكتاب اللوح المحفوظ، أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.

‌من أسباب الاختلاف:

قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [(76) سورة النمل]، وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضاً فنزلت.

والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.

ص: 12

سبب اختلافهم الكثير فيما بينهم، وإن كان لديهم كتاب منزل، لكنهم استحفظوا عليه فلم يحفظوه، استئمنوا واستحفظوا فلم يحفظوا، فغيروا وبدلوا، وكل واحد منهم يرجع إلى ما بيده من التوراة التي حرفها أو حُرفت له، فلا يرجعون إلى أصلٍ واحد، ولذا حصل الاختلاف الكبير بينهم؛ لأن كل واحد يحرف نسخته على ما يشاء على ما يريد، أو تحرف له، أو يتبع غيره ممن يحرف، المقصود أن كل واحد بيده غير ما بيد الآخر، فلذا كلٌ يرجع إلى نسخته فيحصل الاختلاف. ولذا ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن عشرة من النصارى اجتمعوا لبحث مسألة فصدروا عن أحدى عشر قولاً، لماذا؟ لأنهم لا يرجعون إلى أصل يمكن أن يحتكموا إليه، والذين بحثوا في الروح التي حجب الله عن الخلق معرفة ماهيتها وكنهها، اختلفوا على أكثر من مائة قول، والسبب في ذلك أنه لا يوجد أصل يرجعون إليه، لا يوجد أصل، الله -جل وعلا- قال:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [(85) سورة الإسراء]، وهم يخوضون في تعريفها، ولما لم يوجد الأصل الذي يمكن أن يعتمد عليه ويرجع إليه حصل مثل هذا الاختلاف، وهذا التباين الكبير في أقوالهم في حدها وماهيتها وكيفيتها.

{وَإِنَّهُ} يعني القرآن، {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [(77) سورة النمل]، خص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} ..

نعم، لأنه كتاب محفوظ، تكفل الله بحفظه، قال:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، والكتب الأخرى استحفظوا عليها، لكنهم لم يحفظوها، فكتابنا -ولله الحمد- محفوظ، ومن يرجع إليه ويتحاكم إليه لا بد أن يصل إلى الحق، القول الراجح المعتمد على النص الصحيح، قد يكون النص في دلالته شيء من الإجمال، ثم يختلف أهل العلم بسبب ذلك، وفي النهاية يعرف الراجح والمرجوح بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم.

{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} [(78) سورة النمل]، أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع الغالب الذي لا يرد أمره، {الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه شيء.

ص: 13