الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتحفان المصريان
المتحف المصري القديم
من طاف في أرجائه وتجول بين معروضاته وحدق نظره في عادياته وغرائب آثاره ـ أدرك لأول وهلة عجزه عن أن يفي تلك الآثار حقها من الوصف وبيان المعنى الذي وضعت له والغرض الذي اتخذت من أجله. وإن ذلك المتحف بما حواه من الآثار الجمة التي كادت تفوق الحصر كالبحر الزاخر المتلاطم الأمواج: ففيه أدوات وهناك (خرداوات) لا يكاد يتبينها الطرف لدقتها وصغر حجمها كما أن فيه من المحاريب والتماثيل الهائلة والعمد الممدة أو الماثلة ما ينوء بالعصبة أولي القوة ويحتلاج في زحزحته من مكانه إلى تعضيد الآلات وأعمال الماكينات فكيف يتسنى للكاتب أن يودع أوصافاً وملاحظات غير محدودة في مقالة محدودة. ذات سطور معدودة سئل بعض الوعاظ عن معنى قوله تعالى {والسماء ذات الحبك} فأحاب بقوله: السماء التي نشاهدها فوق رؤوسنا وأما الحبك فهو شيء لا نعرفه لا نحن ولا أنتم. وهكذا أراني عاملاً في الاعتذار لأديب كلفني وصف المتحف وآثاره: فأقول: المتحف بناء جليل بجوار قصر النيل وأما العاديات التي فيه فشيء لا أعرفه ولا يتيسر لي وصفه: المتحف المصري مكتبة تاريخ ومعجم هيروغليف ومعرض صناعة وهيكل عبادة. والباحث في عادياته يلزمه أن يعرف ـ عدا عما ذكر ـ التاريخ الطبيعي والكيمياء والهندسة وأن يكون له ذوق خاص في الفنون الجميلة كالنحت والنقش والتصوير وإلا كان شأنه أن يدخل فيرى كل شيء ثم يخرج فلا يبقى في ذهنه شيء اللهم إلا وقفة على رأس رعمسيس الثاني تنتزع المرء من عالم الشهادة فغلى عالم الغيب وتقذفه فيها أمواج اليقين على صخور الريب.
إذا دلنا النيل بصراحة على أن الأمة المصرية القديمة أمة زراعية بطبيعتها فإن هذا المتحف يدلنا أكثر صراحة أنها كانت أيضاً أمة صناعية ضربت في إتقان الصنائع وأحكامها بسهم وافر.
أما الكهانة والديانة والعبادة وسر الروح والموت والحساب والعقاب فهذا يكاد ينطق به كل أثر تقع عينيك عليه في هذا المتحف.
وقد راعت الحكومة النظير في البناء الذي شيدته لتلك الآثار. فكان فخماً مفخماً مثلها: بل
ربما قاسمها إعجاب الزائرين ولفت إليه عنها أنظار المتفرجين.
والمتحف قسمان: وقد وضع في القسم السفلي العاديات الضخمة الهائلة: ففيه ألواح وصفائح حجرية كبيرة جداً وقد رسم عليها بالخط البربائي صور طيور وحيوانات وإشارات ورموز أخر يتخللها صور شخوص أيضاً. وهذه النقوش تراها منبثة على ظاهر التوابيت والنواويس والتماثيل وقلما يخلو أثر منها. وأكثر ما يرى بين تلك النقوش من الحيوانات صور الجعلان والعجول والغربان ثم القرود والبواشق وبنات آوى. ولا أذكر أني رأيت ما بين تلك الصور صورة فرس أو فارس فكأن المصريين القدماء ما كانوا يقتنون الخيول ولا يزاولون الفروسية.
وقد ترى في ظاهر التابوت الحجري صورة بقرة يحلبها رجل وقد ربط عجلها من مقوده بإحدى قوائمها كيلا يفلت ويضل.
والفرق بين التابوت والناووس أن الأول على هيئة صندوق من الحجر أو الخشب ويوضع على الأرض كما يوضع الصندوق. أما الناووس فوضعه عامودي وفتحته على طول الإنسان المقابل له بحيث يمكنه أن يدخل تلك الفتنحة كما يدخل من باب الدار. وترى بين المعروضات موائد من حجر على أشكال مختلفة وهي كمذابح يضع عليها كهنة المصريين الأدوات التي يمارسون بها طقوس عبادتهم.
وترى تماثيل حجرية هائلة جداً منها ما هو على اسم المعبودات ومنها ما هو على اسم الملوك والفراعنة. وشأن المصريين كشأن اليونان الأقدمين من حيث أن القبيلين مزجوا بين معبوداتهم وملوكهم حتى اختلط حابلهم بنابلهم. وقد نحتوا من حجر الغرانيت سفينة سموها مقدسة. وكأن المقدسة عندهم هي التي يتخذونها للجنائز ونقل الموتى من شاطيء إلى آخر. ويوجد في تلك السفن زورقان كبيران كالزوارق الاعتيادية وباقيها مثل صغيرة تمثل الكبيرة في سواريها وأشرعتها وملاحيها. وعي في الدور العلوي وليس الأكثر من التوابيت الحجرية والخشبية والأولى مغطاة بأحجار منحوتة على شكل الإنسان تمثل الميت المودع فيها أما الأخرى الخشبية فيرسم على غطائها صور ذات ألوان وأصباغ تمثل الميت أيضاً. وفي هذا القسم كثير من الأحجار المختلفة في الحجم والشكل فمنها العمودي ومنها الهرمي وكثير منها شظايا حفظت لتجمع مع ما يوائمها ويأتلف معها.
أما الدور العلوي ففيه معظم العاديات وأنفس ذخائرها وأثمن كنوزها: ومن ذلك مجموعة الحلي والمصوغات ومجموعة المومياوات البشرية وأخرى للمومياوات الحيوانية. ومجاميع للنسيج والخزف وأجناس المعبودات والتوابيت والأمتعة والأدوات والخرثي ـ في نظير ذلك مما كان المصريون القدماء يرتفقون به في منازلهم ويعتمدون عليه في قضاء مصالحهم ومزاولة مختلف مهنهم وأعمالهم. والمومياء كناية عن جثة الميت تعالج بالأدوية والعقاقير ثم تشد وتلف بقطع ولفائف من النسيج شداً ولفاً محكمين على شكل خاص فتحفظ بذلك من البلى وتصل سليمة إلى الدار الأخرى.
ويوجد في المتحف من تلك المومياوات زهاء عشرين مومياء ما بين ملوك وملكات وقواد وكهان وأطفال صغار. وفيها مومياء أعظم وأجل ملك قام في تاريخ مصر القديم وهو رعمسيس الثاني من ملوك العائلة التاسعة عشرة وإذا نظرت إلى تلك الجثث رأيت عجباً وباعثاً على التعاظ والدهشة إلى حد الذهول وانفعال المشاعر. ولم يبق من تلك التجاليد الأرق من جلد على فخ من عظم وقد تترآى لك مزع (قطع) اللحم محمرة أو كامدة اللون لكنها لاطئة على الأعضاء والأفخاذ حتى عادت كالجلد اليابس. ومن تلك الجثث ما هو سليم تام الجوارح ومنها ما تشوه بهتم أسنانه وصلم آذانه أو سمل عينيه أو هشم أنفه ومنها ما أمسى لونه أسود كالزنجي ومنها المحمر والرصاصي اللون وما استولت عليه الكمدة.
وقد قال أبو النجم الشاعر العربي أن جذب الليالي وكرور الأيام عليه حلتت شعر رأسه وميزت عنه قنزعاً عن قنزع فماذا يقول هؤلاء الفراعنة وقد كرت عليهم آلاف السنين فوق الأرض وتحتها ثم فوقها مرة ثانية وإذا رأينا شعورهم مدلاة خصلاً وقنازع ذات ألوان منكرة لا يدري هل هي طبيعية أو نشأت عن جذب دهر الدهارير أو تأثير الأدوية والعقاقير.
وإذا رأى المرء هذه المومياوات تذكر ما قاله ابن خلدون من أن الأقدمين ما كانوا أضخم منا جثة ولا أطول قامة إلى الحد الذي وصفه القصاص والممخرقون وإنما هم أمم أمثالنا بدليل تلك المومياوات التي عثروا عليها في المدافن والنواويس. كما أنتقليب الفكر في هذه الجثث يوحي إلى النفس بأن العذاب الذ أوعد به الكافرون في برازخهم لا يصيب إلا الروح. وإلا فيلزمنا القول بأن أموات المصريين الأقدمين كانوا على عقيدة صحيحة تنجيهم
من عذاب البرزخ. أو أنهم لم تبلغهم دعوة رسول فما كانوا معذبين. أو يقال أن صناعة التحنيط المصرية كانت تحول بين القدرة افلهية وبين التنكيل بهذه الموميات فلا يصيبها شر ولا يلحقها أذى اللهم غفراً. أما المومياوات الحيوانية فلها مستودع خاص بها. وترى هناك تمساحين طول الواحد زهاء أربعة أمتار. وسمكة طولها أكثر من متر وطيور ماء ودجاج وأفراخ وكلاب وقطط وقرود وغزلان ووعول وخرفان وهذه الأجناس الأخيرة ماثلة أمام النظارة هياكل عظام مجردة عن اللحم. كما أن بعض الطيور والقرود لها نواويس تناسب حجمها قد أودعت فيها. وبين هذه المومياوات كثير من الأصداف والأبواق والقواقع البحرية وعدة قطع من الذبل (عظم السلاحف) ومن بيض الدجاج وبين آخر أكبر منه وأصغر من بيض النعام. وقد ألحقوا بهذه المومياوات الحيوانية موميات نباتية فترى غصوناً وأورقا شجر وأثماراً وضروباً أخرى من النبات وحبوباً وبذوراً وعدة أقراص من الخبز وقرص عسل من شمع النحل. وكلها معالجة بالأدوية والعقاقير ومحفوظة بذلك من الاندثار.
وإذا حفظ المصريون أجساد أمواتهم من البلى لتقوم سليمة ساعة الحشر والنشر فلا بدع إذا تداركوا لهم من أطايب الزاد وشهي الأثمار ما يقوون به على تحمل أعباء الحساب. ولكن ما الغرض من حفظ جثث الكلاب والقطط والقرود يا ترى؟ وقد خصصوا في المتحف مكاناً للحلي وأدوات الزينة وإنك لترى فيها قطعاً نفيسة جداً. وإذا أدركت كنه بعضها وفقهت الغرض الذي تتخذ لأجله كالأسورة والعقود والخواتيم ـ فإنك ترى منها ما لا تعرف له مغزى ولا تفقه له غرضاً بل إذا حاول المرء وصفه بقلمه أو لسانه فلا يقدر عليه. ومن ثمة كانت الزائرات من نساء الإفرنج يصورون ما يستحسنونه من تلك القطع في مذكراتهن تصويراً. وقد رأيت فتاة تصورا خنجراً له مقبض جميل مطوق بالذهب ومرصع بالأحجار الكريمة. وأخرى تصور عقداً مؤلفاً من عدة أسلاك نظزمت فيها الأحجار الكريمة وفصلت بالجمان وخيوط الذهب تفصيلاً. وليست الأحجار الكريمة مما نعهده بيننا اليوم كالماس واللؤلؤ والياقوت والمرجان وإنما هي أجناس أخر ليست منها وليس لها بريقها وبصيصها. ثم إذا طفت في أرجاء ذلك المتحف وقلبت طرفك بين عادياته وذخائره بصرت بأشياء ودوات كثيرة: منها ماله مثال في مرافقنا وتكاليف مدنيتنا كالجرار
والأسرة والمسارج. ومنها ما ليس له مثال كقطع من خزف أو طين على هيئة مخروط لا يعرف المرء منفعتها مهما قلب فيها الطرف وأخرى متخذة من الخزف والإبريز والزجاج والمرمر والحجر والعاج وغير ذلك بحيث لا يدري إن كانت تستعمل في مرافق منزلية أو صناعية وترى أواني خزفية عليها كتابة فينيقية مما يدل على اتصال المعاملة والمتاجرة بين تيك الأمتين القديمتين وزوارق من خشب لها سواء وأشرعة على غير الوضع المعهود في زماننا وفي تلك الزوارق صور رجال تمثل الملاحين والنواخذة وشراذم الجنود بأيديهم الدرق والرماح وآخرون بأيديهم السهام والسيوف.
وهناك تمثال شخص منحن على ركبتيه ويداه في إجانة أو وعاء أمامه كأنه يعجن أو يغسل وآخر بيده حجر كأنه يسحق به عقاراً. وخدم على رؤوسهم كهيئة الصناديق يمشون بها. ونعال من جلد أو خوص ومراوح من خوص وقماش. وكراسي ومقاعد وعربات على شكل غير معهود عندنا وصحاف وأزيار وأسرة لوضع الموميات في الاحتفالات الجنائزية وأمتعة وأوان غريبة الشكل منقوشة ومكتبة بالقلم البربائي. وأدوات وآلات للصناع وأرباب الحرف كالبنائين والنجارين وموازين ومقاييس ومكاييل ومثاقيل ومغازل وصناديق صغيرة من خشب مطعمة بالعاج والعظم. كما أن أخشاب التوابيت والزوارق مجموعة على طريقة التحشية المعروفة لدى أرباب هذه الصناعة اليوم. ورقوق وأدراج من البردي عليها نقوش وتصاوير ملونة بالأصباغ الزاهية ودمى وتماثيل صغيرة من مواد مختلفة من مثل الذهب إلى مثل الخزف تمثل موميات الأموات كأنهم يحفظونها كتذكار لأمواتهم. وأكثر ما ترى بين التماثيل المبثوثة في جنبات المتحف تمثال الجعل والعجل. وهناك تماثيل أخر على شكل الغراب والباشق وابن آوى والقرد وهم تارة ينحتونها من الخشب والحجر وطوراً يصنعونها من المعادن والفلز وآونة من اللازورد والجزع واليشب. وإنك لترى الحجر الضخم بحجم الرحى الكبيرة وقد نحت فيه من أعلاه صورة جعل كبير طوله نصف ذراع أو أكثر. وقد ينقشون الجعل تذكاراً لبعض الحوادث والأمور كالجعل الذي نقش تذكاراً لاقتران أمنوتس الثالث بتي.
أما العجل أبيس فقد أبدعوا في تمثيله وتصويره وتفننوا في الرمز إلى أحواله وأطواره: أبيس وقف ـ أبيس رابض ـ أبيس على شكل رجل برأس ثور ـ أبيس على يمينه
أسيس وخلفه نفتيس إلى غير ذلك. وتماثيل المعبودات مختلفات الهيئات متعددات الأشكال: فمعبودة صا الحجر يخالف شكلها معبودة عين شمس وتملاثيل المعبودة سلكيت على وضع غير وضع تماثيل المعبودة صاتحور وغير تماثيل المعبودة نفتيس هنا معبودة في حجرها طفل ترضعه. وهناك معبود له جناحان وقد نجم في رأسه قرنان كقرني الشيطان وقد أشرق من بينهما مثال الشمس والقمر. وثمة آخر يرفع يديه إلى السماء يمنعها أن تسقط على الأرض وأمامه معبود رأس رأس كبش ووراءه آخر برأس سبع. وما هذا المعبود الذي أمسك بكل يد \ من يديه ثعبانين وعقرباً وغزالاً وأسداً وقد وطيء بأخمصيه رؤوس تمساحين. وما هذه المعبودات الأخرى التي نصفها الأسفل أفعى والأعلى امرأة ولها مكان اليدين جناحا نسر وكأن قد بسطهما؟
هذا ما وعته الذكرة أيها الأديب من أمر ذلك المشهد العجيب فإن كان مما يعجبك وإلا فإني قائل ما قاله الواعظ الحبك.
دار الآثار العربية
يتوقف التمكن من علم أو صناعة على معرفة تاريخ 1ذلك العلم أو هذه الصناعة. فإن هذه المعرفة ما يدعو المرء إلى التوسع في علمه أو تحسين صناعته وزيادة البصيرة فيها. وكان التاريخ في القديم مسطوراً ومقروءاً. أما الآن فقد تنبه الإفرنج إلى نوع من التاريخ أقرب تناولاً من الأول وأكثر فائدة منه. ويصلح أن نسميه التاريخ الماثل المنظور ـ ذلك التاريخ هو ما يعرض على طلبة صناعة الكاشاني مثلاً كان عليه أن لا يقتصر على قراءة ذلك في السطور والأسفار بل يزور ما حفظ منها ونضد في دور الآثار: فهي تعرض عليه ما وجد من آثار تلك الصناعة من أول نشأتها وكيف تدرجت إلى أن وصلت إلى حالتها الحاضرة.
وهذا النوع من التاريخ أتقنعه الأوروبيون وشادوا له المباني الفخيمة. والدور العظيمة. وقد تنبهنا نحن إلى ذلك في الأزمنة المتأخرة. فكان في الأستانة وفي القاهرة بعض الشيء من ذلك.
ومن الأسف أن دار الآثار العربية في القاهرة كأنما أنشئت للأوروبيين وللمشتغلين يبالتاريخ والصناعة منهم: فهم الذين يزورونها ويتفقدون معروضاتها ويستفيدون منها وقلما
نرى زائراً لها من أهل البلاد أو من أهل الحرف والصناعات فيها.
وإذا سألت عن السبب في وضع فهرست لتلك الآثار الإفرنجية من دون العربية اعتذروا إليك بما قلناه من أن الإفرنج هم الذين يتداولن الفهرست ويحرصون على الاستفادة مما فيه. أما ابناء العرب فإذا وجد منهم بضعة آحاد يحذون حذو أولئك فهم في الغالب على معرفة من اللغة الأجنبية تمكنهم من الانتفاع بما سطر في الفهرست. ومعظم الآثار الموجودة في دار الآثار العربية يرجع عهده إلى القرن السابع والثامن والتاسع من الهجرة: أي هي من مخلفات أمراء المماليك والجراكسة الذين عاشوا الدولتين الصلاحية والعثمانية.
فمن نظر في آثار تلك القرون الثلاثة تبين له من حسنها ونفاستها وإتقان العمل فيها ـ ما يحكم معه بأن عصر أولئك المماليك كان عصر عمران وترق في الصناعة والذوق والترف. وأنه امتاز عن العصور التي سبقته وخلفته في ذلك.
ويمكن تقسيم الآثار إلى خمسة مجاميع:
1) مجموعة الحجر والرخام: ومعظمها يتألف من شواهد القبور وأزيار ماء بينها صفيحة حجر ضخمة عثروا عليها في الإسكندرية. ومكتوب عليهاما يفيد أن البناء التي كانت فيه مما أمر بإنشائه السلطان صلاح الدين. وشاهدة قبر محمد بك أبي الذهب مملوك محمد بك الإلفي. وهي مذهبة ومكتوب عليها شعر يدل على اسمه ووفاته في سنة 1189.
ومعظم الأزيار من رخام. ولها أحواض خاصة بها ترتكز عليها. ومما هو من الغرابة بمكان أن ترى حجراً ضخماً من الرخام نحت منه زير كبير مستطيل أو كروي الشكل. وقد جوف تجويفاً تاماً يحار العقل في الطريقة التي اتخذها صانعوه في تجويفه ثم نحت على ظاهره أشكال نافرة ورسوم متناسبة أو أضلاع مستوية كلها غاية في الحسن ودقة الصنعة. وأحد تلك الأزيار النفيسة اصطنع برسم الخاتون تاتار ابنة السلطان قلاوون وهناك صفائح من الرخام كبيرة حفر على سطوحها نقوش متعرجة متناسبة. وتسمى الصفيحة من تلك الصفائح السلسبيل والغرض منها أن يسيل الماء عليها من أنبوبة فوقها وفي أثناء سيلانه يتكسر بسبب ما تحته من التعاريج ويكون ذلك وسيلة إلى امتزاجه بالهواء ثم يصل إلى حوض رخامي صغير في أسفل الصفيحة فيكون ماء صحياً صالحاً للشرب كذا قالوا. وعندي أن السلسبيل وتحدر الماء عليه مما اتخذ لترويح النفس وإمتاع النظر كما اتخذوا
لذلك الفساقي ونوافرها. والسلسبيل في اللغة يوصف به الماء والشراب السائغ السهل المدخل في الحلق.
2) مجموعة الأخشاب: وهي تحتوي على محاريب ومنابر وأبواب وشبابيك ورواشن وكراسي للمصاحف وغيرها منها ما هو جاف غليظ ومنها ما بلغ منتهى الدقة والحسن. وقد ترى أغلاق الأبواب والنوافذ مؤلفة من قطع صغيرة من الخشب ذي الألوان المختلفة بحيث يقوم اختلاف تلك الألوان مقام الدهن بالأصباغ. وتلك القطع متناسقة ومرتبة على أشكال وأوضاع هندسية كصناعة الفسيفساء في الزجاج والرخام. وهي متماسكة الأجزاء لا بالمسامير وإنما بطريق الجمع والتحشية.
فهل كانت المسامير أو مادة الحديد عزيزة وقليلة الوجود في تلك الأعصر إلى هذا الحد؟ أو أن الصناع يريدون أن يظهروا مهارة وبراعة في صناعتهم بحيث يستغنون عما لا غنية عنه في العادة.
3) مجموعة المعدن والبرونز: وهي تتضمن أدوات كثيرة وأشياء مختلفة من ذلك ـ الثريات النحاسية التي قد تحمل الواحدة منها زهاء 360 مصباحاً،. ومنها كرسيان عاليان من نحاس شغل تفريغ مكتب بالذهب والفضة وهما مما صنعهما الصناع برسم ابن قلاوون. ومن الآثار النفيسة في هذه المجموعة مقلمة الغزالي وهي علبة مستطيلة من النحاس كان الإمام يضع فيها دواته وأقلامه ومكتوب على ظاهرها شيخ الإسلام محمد الغزالي الخ وهناك قطعة من الحلي ضخمة محدبة الشكل على هيئة نصف كرة من فضة وذهب ومرصعة بالياقوت والماس أهداها إلى دار الآثار حضرة محمد مجدي بك مستشار الاستئناف بمصر ويقال أن صاحبها في القديم كان يعيرها أو يؤجرها إلى أهل العرس يزينون بها عروسهم ليلة إهدائها إلى زوجها.
4) مجموعة الكاشاني والزجاج: ومعظم هذه المجموعة يتألف من مشكاوات (جمع مشكاة) وقطع آجر منقوشة ومكتبة وملونة بالأصباغ المختلفة. وقد اختلفوا في معنى المشكاة في القرآن اختلافاً كثيراً وأشهر الأقوال فيها أنها الكوة غير النافذة أما المشكاة في دار الآثار فلا خلاف في أنها وعاء من زجاج منتفخ البطن مخصر العنق له عرى حول عنقه يشد منها بالسلاسل إلى السقف ويوضع في جوفه الزجاجة التي يكون فيها المصباح. والمشكاوات
في دار الآثار تبلغ المئة. وإنك ترى ظاهرها منقوشاً ومصبغاً بالألوان وبعضها مكتباً بالآيات مثل الله نور السموات إلى قوله تعالى المصباح في زجاجة. ومن نفائس هذه المجموعة قطعة من الكاشاني نصف ذراع في مثله ـ صورت عليها مكة وحرمها ومعاهدها وضواحيها فهي بمثابة خارتة جغرافية لتلك البقاع المباركة وقد نقشت بالأصباغ والألوان المختلفة وعليها كتابات تنبئ بأسماء المعاهد ومكتوب عليها اسم صانعها ـ كل ذلك بمادة المينا أو بالدهان الملون الذي يشوى على سطح الخزف شياً.
وفي هذه المجموعة زير من خزف ضخم كروي الشكل مدهون بدهان قاتم شديد اللمعان وقد عثروا عليه وهم يحفرون في بعض جدران الأزهر وهناك أواني لوضع الزهور (زهريات) وهي كالزير الصغير ولها أعناق مستطيلة على شكل الزهريات التي تصنع في شرقي آسيا وقد صنعت برسم السلطان حسن صاحب الجامع المشهور.
ومما تتضمنه تلك المجموعة هنات مدورة من زجاج كانوا يستعملونها في الموازين مكان الصنوج المعدنية أن هذه يركبها الصدأ أو يأكلها فتزيد أو تنقص وأما تلك فلا تزيد ولا تنقص.
5) مجموعة النسيج: فيها قطعة من ثوب مكتوب عليه اسم قلاوون. وأنفس ما في هذه المجموعة بل أثمن تحفة تنافس بها دار الآثار العربية سائر الدور الأخرى ـ قطعة من حاشية نسيج كان حيك في مصر برسم الخليفة الأمين العباسي ابن هارون الرشيدي المتوفى في أخريات القرن الثاني من الهجرة وقد كتب على هذا النسيج بخيوط السدا واللحمة ما نصه بسم الله بركة من الله لعبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه مما أمر بصنعته في طراز العامة بمصر ـ الفضل ابن الربيع مولى أمير المؤمنين والفضل هذا كان وزيراً للأمين. وقد أريد بطراز العامة دار الطراز التي كان يصنع بها. والطراز من شارات الخلفاء وشعائرهم وهو أن ترسم أسماؤهم أو علامات يخصون بها أنفسهم ـ في حواشي أثوابهم التي يلبسونها ـ بخيوط من ذهب أو حرير ملون فيدل الطراز على لابسه كما تدل شرائط القصب والحرير الملون على مراتب ضباط الجند لهذا العهد. وكان لنسيج الطراز مصانع خاصة به تسمى دور الطراز والقيم الذي يشرف عليها يسمى صاحب الطراز. ويؤخذ مما كتب على قطعة النسيج المذكورة أن دار طراز الخلفاء
العباسيين في زمن الأمين ـ كانت في مصر.
هذا مثال مما يمكن أن يقال عن دار الآثار العربية ومن حسن عناية ولاة الأمور بتلك الدار أن اختاروا لها من أبناء البلاد ذوي الكفاءة ممن يعرف كيف يرتب تلك الآثار ويقرأ الكتابات المختلفة التي عليها ويهتم بحل الرموز التي تتراءى فيها ثم يشرح كل ذلك للوافدين فيكثر إن شاء الله ترددهم إليها وانتفاعهم بها.
(المغربي)