المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحيةوصداها في المغرب - مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤ - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحيةوصداها في المغرب

‌دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية

وصداها في المغرب

حسن بن عبد الكريم الوراكلي

الأستاذ بقسم الدراسات العليا - كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى

ملخص البحث

تتألف هذه الدراسة من تمهيد وثلاثة مباحث.

عُني التمهيد بتحديد قيمة الدعوات الإصلاحية والأساليب التي تعتمدها في عمليتي (الاستئصال) و (الاستتباب) لتحقيق هدفها في التغيير.

وبعد أن حدد التمهيد قيمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما استأصله من (إكباب) في مفهوم العقيدة والعبادة والمعاملة واستنبتت من (استواء) في جميعها أشار إلى ما كان لها من أثر بعيد الغور في الجزيرة ثم في مختلف أقطار المسلمين.

ثم توجهت الدراسة لبلورة ذلك الأثر في أحد الأقطار الإسلامية وهو المغرب الأقصى، وذلك عبر مباحث ثلاثة رصدت في أولها (تواريخ وصول الدعوة إلى المغرب) ، واستجلت في ثانيها (ملابسات الوصول) ، وبلورت في ثالثها (أصداء الدعوة عند فئات ثلاثة)، هي:

أ - ولاة الأمر والحكم.

ب - رجالات العلم والفكر.

ج - فئة المؤرخين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(( (( ((

تتحدد قيمة الدعوات الإصلاحية في ضوء ما يكون لها من (أثر) في بيئتها التي احتضنتها وفي عصرها الذي أظلها، ثم فيما يكون لها من امتداد في غير بيئتها وفي غير عصرها. و (الأثر) المشار إليه يتبدى، ومنذ بواكير أية دعوة إصلاحية، في (موقفين) منها يبدوان، لأول وهلة، متضادين متنافرين، لأن أحدهما يحتفي بها وينافح عنها في حين يصد الثاني عنها ويتربص بها الدوائر؛ غير أن من يستبطن الحوافز المحركة للموقفين يستكشف (توحدهما) في النظرة التقديرية لأثرها بصرف النظر عما يراد لها من مد عند أحدهما، ومن جزر عند الآخر!

ص: 281

وتتحدد مقصدية الدعوات الإصلاحية في ضوء ما يكون لها من قدرة على (التمحور) حول (الإنسان) ، أيا كان لونه ولسانه، وأياً كان مكانه وزمانه، بما تستأصل من شر في نفسه، وإكباب في فكره، وبما تستنبت من خير في وجدانه، واستواء في سلوكه. وبهذا تؤهله للوفاء بحمل الأمانة العظيمة والنهوض بها في نطاق الخلافة التي طوقه بها رب العالمين.

أما الأساليب التي تعتمدها تلك الدعوات في عملتي (الاستئصال) و (الاستنبات) فهي قد تتخذ لها صوراً شتى يمليها (مصدر) الدعوة حيناً، ويقتضيها (الظرف العام) آخر، ويستلزمها (الموقف الخاص) ثالثاً، غير أن ما ينتظمها جميعها هو خيط (التغيير) ، تغيير ما بالنفس استصلاحاً لحالها واستثماراً لبذرة (الاستواء) في خويصتها، وكذلك، وبذات الوقت، في تواصلها بأنفس الآخرين. وهي، أي الدعوات الإصلاحية، تلحم، بفضل ما تحققه من (تغيير) في الذات (الخاصة) وفي الذات (العامة) بين الوجدان الفردي والوجدان الجماعي، فتخلق بذلك الأجواء العقلية والنفسية السليمة لاستعادة الأمة (روحها) واسترداد (ذاكرتها) ممثلتين في قيمتها العقلية، ومثلها الروحية، وتجاربها التاريخية، وتلك أولى خطواتها على طريق الوعي اللاحب الذي لا عوج فيه ولا أمت (1) .

وفق هذا وذاك، ومن منطلق معرفتنا بسمتي (الإصلاح) و (التغيير) اللتين وسمتا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية نستطيع القول بأن قيمة هذه الدعوة تحددت بما كان لها من أثر بعيد الغور في بيئتها، عصرها وبعد عصرها إلى يوم الناس هذا وإلى ما شاء الله تعالى، وذلك بما استأصلت من (إكباب) في مفهوم العقيدة، والعبادة، والمعاملة عند الناس، واستنبتت من (استواء) فيها جميعها.

(1) انظر، كتابنا (المسلمون وأسئلة الهوية) ص 123.

ص: 282

وليس من شأننا، هنا، أن نفيض في التأريخ لهذه الدعوة (1) ، كما أنه ليس من شأننا، هنا، أن نبسط القول في مكوناتها وأدبياتها.

غير أنه لا بأس، حتى نتمثل طبيعة (المناخ) التصوري الذي انطلقت بين أحنائه الدعوة وتشكلت المواقف منها، أن نذكر بأبرز مظهر له وهو الذي كان يتمثل فيما أصاب عقيدة التوحيد من اختلال واهتراء أفرغاها من مضمونها الهادي الباني، فانعكس أثر ذلك على (حملتها) في حالة (الإكباب) التي تلبستهم في مجموع ما يأتون به من أفعال ويذرون من أمور، وكذلك في حالة (الشلل) الذي أصاب منهم الفكر والوجدان معاً ففقدوا، بسببه، القدرة على الإبداع والإبتكار في أي مجال من مجالات الحياة مادية وغير مادية ليكتفوا ب (الإجترار) و (التكرار) في كل باب طرقوه وفي كل مجال ولجوه. وكان من آثار اختلال العقيدة عندهم أن أخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم، واستسلموا عن طواعية، وفي خنوع مزر، لسلطان (الخوف) من (المجهول) ، ومن (الآخر) مما أتاح للشعوذة أن تبيض وتفرخ، ويمد متزعموها أياديهم في حياة أتباعهم من عامة الناس وخاصتهم، يصرفون أمورها وفق أهوائهم ومآربهم، مكرسين بذلك ألواناً من الحوادث والبدع، والضلالات والمنكرات في العقائد، والعبادات، والمعاملات ما فتئت تنأى بأصحابها وبمجتمعاتهم عن روح الإسلام شيئاً فشيئاً حتى غار، أو كاد، ماؤه، ونضب، أو كاد، معينه!

(1) أنجزت في ذلك دراسات كثيرة تناولت حياة الشيخ وسيرته بجميع جوانبها، كما عنيت بالدعوة ومبادئها وآثارها داخل الجزيرة وخارجها. وأعدت في ذلك رسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعات السعودية وغيرها.

ص: 283

ففي نجد (كان الشرك إذ ذاك قد فشى (

) وكثر الإعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور، والبناء عليها، والتبرك بها، والنذر لها، والاستعادة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر) (1) .

ولم تشذ عن مثل هذا (المناخ) غير نجد من بلاد (المسلمين) ، ونمثل لها ببلاد التكرور في غرب افريقيا، حيث وجد فيها الشيخ ابن فودي (ت 1817 م) (من أنواع الكفر والفسوق والعصيان أموراً فظيعة وأحوالاً شنيعة طبقت هذه البلاد وملأتها حتى لا يكاد يوجد في هذه البلاد من صح إيمانه وتعبد إلا النادر القليل، ولا يوجد في غالبهم من يعرف التوحيد، ويحسن الوضوء والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات، فمنهم كفار يعبدون الأشجار والأحجار والجن (

) ومنهم قوم يقرون بالكلمة ويصلون ويصومون ويزكون من غير استكمال شروط، بل يأتون ذلك كله بالرسم والعلامة مع أنهم يخلطون هذه الأعمال بأعمال الكفر الذي ورثوه من آبائهم وأجدادهم (

) ومنهم قوم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويزكون من غير استكمال شروط كما مر مع أنهم مقيمون على عوائد رديئة وبدع شيطانية، ومنهم منهمكون في المعاصي الجاهلية متأنسين بها، جارين فيها مجرى المباحات حتى كأنها لم يرد فيها نهي، وهي خصال كثيرة أقاموا عليها، وهؤلاء أكثر عامة الفلانيين وبعض مسلمي السودانيين) (2) .

(1) انظر، (عنوان المجد في تاريخ نجد) ج1 ص 33.

(2)

انظر، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور ص 82، 83، 84.

ص: 284

وكان لابد لمثل هذا الإختلال الذي أصاب عقيدة المسلمين أن تنعكس آثاره السلبية على مختلف جوانب حياتهم الإجتماعية، والعلمية، والسياسية، وهو ما صوره لنا أحد رحالة القرن الثامن عشر الميلادي الغربيين، وكان جاب أقطاراً من العالم الإسلامي فوجده (قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والإنحطاط أعمق دركة، فاربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة (

) وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال) (1) .

ذلك هو (المناخ) الذي كان يسود العالم الإسلامي في أقصاه إلى أقصاه.

وهذا المناخ الذي أفرز في قطر منه، هو بلاد نجد، الدعوة السلفية الإصلاحية التي صدع بها الشيخ محمد ابن عبد الوهاب كان حقيقاً أن يفرز مثلها في بقية أقطار العالم الإسلامي أو، على الأقل، أن يفسح لأصدائها أن تتردد بين جنباته، وهذا ما أثبته تاريخ هذه الدعوة حين تخطت حدود نجد إلى أجزاء أخرى من الجزيرة، وخاصة المدينتين المقدستين مكة المكرمة وطيبة الطيبة، ومنها اتخذت طريقها إلى أقطار قريبة مثل السودان والهند، وأخرى نائية مثل ليبيا وبلاد التكرور.

على أننا، هنا، لن نتتبع ما كان لهذه الدعوة من آثار في الأقطار المذكورة، وإنما يهمنا منها، أي الدعوة، ما تعلق بقطر آخر هو المغرب الأقصى؛ غير أننا قبل أن نرصد أصداءها في هذا القطر يحسن بنا أن نعني بتحديد (تواريخ) وصولها إليه، واستجلاء ملابساته.

ومجموع ذلك هو ما سنجتهد لبلورته في الفقرات التالية:

أ - تواريخ وصولها:

(1) انظر، حاضر العالم الإسلامي ص 81.

ص: 285

متى ترددت أصداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في المغرب؟ ومن حاملو أخبارها وأدبياتها الأول إلى هذا القطر النائي عن مكان ظهورها؟ أكانوا من المغاربة أنفسهم؟ أم كانوا من أهل الجزيرة؟ وهل كانوا من أشياعهم أو كانوا من المناهضين لها؟

بالنظر إلى ما نتوفر عليه من معلومات مستقاة من كتب التاريخ والتراجم ومن نصوص وثائق ورسائل تتعلق بالدعوة، يمكن القول بأن وصول أخبار هذه الدعوة وأدبياتها إلى المغرب تم على مراحل، كانت بواكيرها، فيما نقدر، في العقود الأولى من النص الثاني من القرن الثامن عشر، أي بعد نشأة الدعوة بعقدين أو يزيد قليلاً، وكانت أواخرها في العقد السابع من القرن التاسع عشر، وهو العقد الذي وصل فيه إلى المغرب أبو الحسن علي بن طاهر الوتري المدني، وألف، خلاله، رسالته في نقد الدعوة.

ويمكن تصنيف المراحل آنفة الذكر على النحو التالي:

1 -

مرحلة الرواية الشفوية.

وقد تزامنت مع عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1171 - 1204 هـ / 1757 - 1790 م) . ومع أن الدعوة لم تستطع أن تغادر مهدها إلا بعد فترة غير قصيرة من ميلادها إلا أن ذلك لم يكن ليحول دون تسرب أخبارها ومقولاتها إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة في مواسم الحج. ومع أن رحلات الحج المغربية المكتوبة في تلك الفترة يلوذ بعضها بالصمت إزاء الدعوة الجديدة، ويكتفي بعضها بالإشارة السريعة إليها فإن هذا ليس يمنع أن يكون غير أصحاب الرحلات المدونة من الحجاج نقلوا بالرواية الشفوية بعض أخبار الدعوة وبعض مقولاتها وتحدثوا بهذه وتلك بعد عودتهم إلى بلدانهم. ولعلنا أن نستأنس في دعم هذا بما عرف عن سلطان المغرب يومئذ سيدي محمد بن عبد الله من تعلق بالعقيدة الحنبلية حمله على مهاجمة كتب الأشاعرة ومحاربة بعض الزوايا.

2 -

مرحلة الرواية المكتوبة.

ص: 286

وفيها وصلت أخبار الدعوة ومقولاتها عن طريق الوثائق والوسائل، فبينما توالت الرواية الشفوية من قبل الحجاج في نقل ما تعرفه الدعوة الناشئة من وقائع، وما تشيعه من مبادئ، وما تواجهه من عراقيل، وجدنا بعض الحجاج، وخاصة العلماء منهم، يعودون إلى المغرب وهم يحملون معهم وثائق ورسائل تتضمن مبادئ الدعوة وتشرح أهدافها. ومن أولئك الحجاج الفقيه أحمد بن عبد السلام بناني الذي ذكر في كتابه (القيوضات الوهبية) أنه حمل معه بعد عودته من الحج عام 1803 م رسالتين تتعلقان بالدعوة الوهابية. وذكر كذلك أن الكبرى من الرسالتين تقع في نحو كراسة والصغرى في نحو ورقتين، كما ذكر أن الرسالتين وقعتا معاً بيد (الإمام الأوحد عالم السلاطين وسلطان العلماء أمير المؤمنين سيدنا سليمان ابن مولانا محمد)(1) .

3 -

مرحلة الرواية (الرسمية) .

ونعني بها رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز التي وصلت المغرب سنة 1811 م متضمنة مبادئ الدعوة وغاياتها. وفي المصادر (2) التاريخية أن هذه: الرسالة بعثت في أصلها إلى علماء تونس، وحول هؤلاء نسخة منها إلى علماء المغرب للنظر فيها والرد عليها. وهذا نص الناصري في الموضوع (ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام ومصر والمغرب، يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته. ولما وصل كتابه إلى تونس بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس

) (3) .

(1) مخطوط الخزانة العامة بالرباط. ك (3125) .

(2)

مثل (الترجمانة الكبرى) للزياني، و (تاريخ الضعيف الرباطي) ، ومعجم عبد الحفيظ الفاسي، وتاريخ الجبرتي، و (الجيش العرمرم) لأكسنوس، و (الإستقصا) للناصري، و (الفيوضات الوهبية) لبناني، ص 93.

(3)

مثل رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز، ونصوص الردود المغربية عليها وبعض الرسائل الأخرى.

ص: 287

ويغلب على الظن أن هذه الرسالة نفسها، أو رسالة أخرى بمعناها، وجهت من قبل الإمام سعود إلى سلطان المغرب المولى سليمان.

ويقوي هذا عندنا أمران:

أولاهما: أن الإمام سعود بن عبد العزيز اهتم، بعد أن تغلب على الحجاز والحرمين الشريفين، بالكتابة في شأن الدعوة السلفية التي قام بنصرتها وقاتل حتى أظهرها، يشرح مبادئها ويوضح أسسها لأولياء الأمر في مختلف الأقطار الإسلامية. ولسنا نجد تعليلاً لإغفاله المغرب مع العلم بأنه كان أكثر الأقطار استعداداً للتجاوب مع الدعوة الجديدة لاعتبارات نشير إليها في موضعها من البحث.

وثانيهما: أن السلطان المولى سليمان لو لم يكن تلقى من الإمام سعود رسالة رسمية في الموضوع لما أمر بكتابة جواب عنها على لسانه وكلف ولده الأمير إبراهيم بحمله إلى الأمير سعود بن عبد العزيز. وهذا، كما يقول صاحب الإستقصا (يقتضي أن كتاب ابن سعود ورد على السلطان المولى سليمان بالقصد الأول لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس، والله تعالى أعلم)(1) .

4 -

مرحلة الرواية (المناهضة) رواحت بين القول والكتابة، وأبرز من ساهم فيها أبو الحسن علي بن طاهر الوتري، وهو ذو نزعة صوفية متعصبة، كان قدم من الحجاز بلاده إلى المغرب حيث أقام في (فاس) و (مراكش) نحو عشر سنوات من آخر القرن الثالث عشر الهجري، يتحدث عن الدعوة حديث المنتقد لها ولصاحبها مما ضمنه رسالته التي ألفها خلال تلك الفترة بعنوان (ما أبرزته الأقدار في نصرة ذوي المناقب والأسرار)(2) .

(1) عنوانها (ما أبرزته الأقدار في نصرة ذوي المناقب والأسرار) وقد حققها وقدم لها بدراسة الدكتور محمد العماري.

(2)

انظر الإسقتصا، 8:66.

(10م) انظر، الفيوضات الوهبية.

ص: 288

والخلاصة أن الدعوة وصلت عبر الرواية الشفوية أولاً، ثم المكتوبة ثانياً، تارة، من قبل (المعتقدين) ، وأخرى، من قبل (المنتقدين) ، وكان من هؤلاء وأولئك أهل الجزيرة، ولاة أمر وعلماء، مثلما كان منهم مغاربة، علماء وغير علماء، واستغرق ذلك عقوداً من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين.

ب - ملابسات الوصول:

حين يستعرض المرء أوضاع المغرب السياسية، والاجتماعية، والفكرية خلال الفترات التي وصلت فيه أخبار الدعوة وأدبياتها إلى المغرب يستطيع أن يستخلص منها جملة (ملابسات) ، كان بعضها يفسح لها، وبعضها يذودها، وبعضها يسعف بيد ويعرقل بأخرى.

أما التي كانت تفسح فتمثل في:

1 -

تولي عرش المغرب، أثناء وصول الدعوة، ملكين عرفا بنزعتهما السلفية، أولهما الملك سيدي محمد بن عبد الله (ت 1204 هـ) وثانيهما ولده السلطان المولى سليمان (ت 1238 هـ) . فأما عن هذه النزعة السلفية عند الأول فيصورها لنا صاحب الإستقصا في حديثه عن مآثر هذا السلطان وسيرته حيث قال عنه (وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الإكتفاء بالإعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل)(1) .

(1) انظر، الإستقصا، 8:67.

(11م) انظر، الترجمانة ص 67.

ص: 289

وكان مما يتري عنده هذه النزعة عنايته البالغة بالحديث، وقد ذكر الناصري في (الإستقصا) كذلك أسماء العلماء (الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها) ، كما ذكر أنه (جلب من بلاد المشرق كتباً نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما) ، وألف في الحديث كتباً منها، كتاب (مساند الأئمة الأربعة)(1) . وأما عن النزعة المذكورة عند المولى سليمان فقد كان ورثها، فيما يبدو، عن والده، ورسخها لديه اهتمامه بالأصلين، ينتقي لتلاوة القرآن (الأساتيذ ومشايخ القراء (

) ويجمع أنجب العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام (

) ويشاركهم بغزارة علمه وحسن تفهمه) (2) .

وقد كشفت عن هذه النزعة عنده، وفي وضوح وجلاء، رسالته التي وجهها إلى الأمة يحذرها من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة.

وفيها وفي صاحبها يقول أحد شعراء العصر:

نصر الشريعة ناصحاً حتى غدا

نهج الهداية واضحاً للمقتدي

وحبا الأنام بخطبة غراء قد

لانت لرقتها قساوة جلمد

يا حسنها من خطبة أحيا بها

ما مات من سنن الشيوخ المجد

نصح الورى نصحاً بليغاً شرحه

ينسي فحول العلم كل مجلد

2 -

استقلال الكيان السياسي للمغرب عن الباب العالي كان يتيح له من اتخاذ المواقف والقرارات مالم يكن متاحاً لغيره من الدول الإسلامية، بما فيها دول الجوار، الدائرة في فلك السلطة العثمانية التي كانت، كما هو معروف، تناصب الدعوة والقائمين عليه العداء، وهو ما يفسر الموقف المناهض للدعوة من قبل بعض العلماء في بعض تلك الأقطار مثل موقف مفتي تونس عمر المحجوب.

(1) انظر، الإستقصا، 8:12.

(2)

انظر، الجيش العرمرم، ص 120.

ص: 290

وإذا كان لنا أن نرى في استقلال المغرب عن سلطة آل عثمان عاملاً سياسياً خول ولاة الأمر فيه حق الإفصاح عن تجاوبهم مع مبادىء الدعوة ومساندتهم للقائمين على نصرتها بالجزيرة فإن البعض قد يرى في هذا وذاك غاية سياسية تتمثل في تحالف ملوك المغرب وأمراء آل سعود في الجزيرة لمواجهة الخلافة العثمانية.

ونضيف إلى هذين العاملين اللذين كانا لهما أثر في فسح الطريق للدعوة في المغرب عاملين آخرين كان لهما بدورهما ما يماثل ذلك الأثر أو يعمق مجراه. وهذان العاملان هما:

1 -

غناء التراث المغربي من رصيد الخطاب السني السلفي. ونمثل لهذا بما ألفه علماء الأندلس والمغرب في محاربة البدع والحوادث والنهي عنها ونصرة السنة ومذهب السلف والذب عنهما، ومن ذلك (كتاب البدع والنهي عنها) لابن وضاح القرطبي (ت 287هـ) و (كتاب الحوادث والبدع) لأبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ) وكتاب (الإعتصام) لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) . وهذا الكتاب بالذات ذو شأن بالغ الأهمية فيما كشف عنه من الآثار العميقة للبدع في تردي الأمة وفيما أوضحه من الآثار البعيدة لمذهب السنة في انبعاثها. ومن هنا اعتبر الشيخ رشيد رضا كتاب الإعتصام دعوة (لإحياء السنة وإصلاح شؤون الأخلاق والإجتماع) واعتبر الشاطبي بكتابه هذا وكتابه الثاني “ الموافقات ” (من أعظم المجددين في الإسلام)(1) .

ومن ذلك الرصيد آثار أبي الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي المعروف بأبي الحسن الصغير (ت 719 هـ) ، وكان في المغرب مثل الشيخ ابن تيمية في المشرق. ومنه أيضاً آثار أبي عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي من أعلام العلماء في القرن الحادي عشر والثاني، وأهمها كتابه (جهد المقل القاصر) انتصر فيه لمذهب السلف ولشيخ الإسلام ابن تيمية.

(1) انظر الإستقصا، 8: 66، 68.

ص: 291

2 -

قيام حركتين سنيتين سلفيتين على غرار حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أقطار قريبة من المغرب، وانتقال أخبارهما إليه، وتردد أصدائهما في أنحائه. والحركتان هما:

1 -

حركة الشيخ أبي عبد الله محمد علي السنوسي (ت 1276 هـ) . وكان تلقى العلم بحلقاته العامرة في جامع القرويين بفاس، ثم رحل إلى بلاد المشرق للطلب والتحصيل. وألقى عصا التسيار في الحجاز حيث قيض له أن يجتمع في مكة، بعد أن دخلها الأمير سعود ابن عبد العزيز ونشر بها دعوة الشيخ، بعدد من أبناء الشيخ وتلاميذه فأعجب بها وتأثر بمبادئها، وأعلن دعوته للإصلاح الديني وفق مذهب أهل السنة والجماعة مسترشداً في ذلك بمنهج الأصلين وهديهما (1) .

2 -

حركة الشيخ أبي محمد عثمان بن محمد المعروف بابن فودي (ت 817 هـ) وقد كانت بلاده التكرور، على ما أسلفنا الإشارة، مسرحاً للبدع والضلالات في العقيدة والعبادة ف (قام هذا الشيخ يدعو إلى الله وينصح العباد في دين الله، ويهدم العوائد الرديئة، ويخمد البدع الشيطانية، ويحيي السنة المحمدية، ويعلم الناس فروض الأعيان، ويدلهم على الله ويرشدهم إلى طاعته، ويكشف لهم ظلم الجهالات، ويزيل لهم الإشكالات (

) فسارع إليه الموفقون وحمد إليه السعداء المهتدون، فجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وترادفت إليه الوفود أمواجاً) (2) . وقد أشاد أحد شعرائهم بحركة الشيخ ابن فودي وجهاده في إحياء السنة وإماتة البدعة ببلاد التكرور والسودان بعامة، فقال:

عثمان من قد جاءنا في ظلمة

فأزاح عنا كل أسود دجدج

بشرى لأمة أحمد ببلادنا السودان في هذا الزمان المبهج

كم سنة أحييتها وضلالة

(1) انظر الشيخ السنوسي ودعوته (حاضر العالم الإسلامي) و (المغرب العربي الكبير في العصر الحديث) و (المغرب العربي الكبير في العصر الحديث) و (النهضات الحديثة في جزيرة العرب) .

(2)

انظر، إنفاق الميسور ص 82.

ص: 292

أخمدتها جمراً ذكا بتأجج

فابيض وجه الدين بعد محاقه

واسود وجه الكفر بعد تبلج

فالسنة الغراء صبح ينجلي

والبدعة السوداء ليل يدج

طمست معالمها وأخلق ثوبها

والدين في درع يميس مدبج

وتفجرت للدين من بركاته

عين الحياة تذل ماء الحشرج (1)

وقد انتهت أخبار حركة الشيخ عثمان بن فودي وجهاده إلى سلطان المغرب المولى سليمان يرحمه الله فسارع بالكتابة إليه معرباً عن إعجابه بدعوته ومفصحاً عن محبته له.

ونقتطف من رسالة المولى سليمان إلى الشيخ ابن فودي ما يدل على انتشار دعوة هذا الشيخ الشنية السلفية في بلاد السودان والمغرب (

إلى السيد الذي فشا في أقطار السودان عدله، واشتهر في الآفاق المغربية ديانته وفضله، العلامة النبيه، العديم في زمانه الشبيه، ذي النورين العلم والعمل، اللذين هما منتهى الأمل، السيد عثمان بن محمد بن عثمان بن صالح الفلاني، نفع الله بعلومه القاصي والداني، وسلام منا عليه ما اشتد شوقنا إليه، ورحمة من الله تغشاه، حتى لا يخشى إلا الله {والله أحق أن تخشاه} . وبعد، فقد بلغنا من الثناء عليك والتعريف بأحوالك وأفعالك وأقوالك ما أوجب محبتنا لك، وتسليمنا عليك (

) أخبرنا بما قمت به من الأمر الواجب، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي له نصب الرسول والأمير والوزير والحاجب حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وترادفت عليك وفود الإسلام أمواجاً (

) وهذا من أعظم منح الله، وأتم النعم، كما يشهد الحديث ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) (2) .

وأما ماذاد الدعوة وصدها فيمكن تمثله في عاملين إثنين:

أولهما انتشار الزوايا، وتعدد الطرق الصوفية، واتساع نفوذها في المجتمع، واشتداد سلطتها عليه. وقد اكتسبت ذلك بمرور الأعوام، وسيطرة الجهالة على العقول، وهيمنة الشعوذة على النفوس.

(1) نفسه، ص 83.

(2)

نفسه، ص 295 - 296.

ص: 293

ومن أحسن ما وقع لنا في تصوير ذلك قول صاحب كتاب (تعظيم المنة بنصرة السنة) المؤرخ الشهير أحمد الناصري:

(قد ظهرت ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة لاسيما في المائة العاشرة وما بعدها بدعة قبيحة وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم من يشار إليهم بالولاية والخصوصية، ويخصونه بمزيد من المحبة والتعظيم، ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدراً زائداً على غيره من الشيوخ، بحيث يرتسم في خيال جلهم أن كل المشايخ أو جلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى، ويقولون ((نحن أتباع سيدي فلان، وخدام الدار الفلانية)) لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفاً عن سلف، وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهمتهم إليه معتقدين أن التقرب إليه نافع والإنحراف عنه قيد شبر ضار، مع أن النافع والضار هو الله سبحانه.

وإذا ذكر لهم شيخ آخر أو دعوا إليه حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله، هل يستحق ذلك التعظيم أم لا. فصار الأمر عصيباً وصارت الأمة بذلك طرائق قدداً، ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف، وهذا لم يكن معروفاً في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم، وغرض الشارع إنما هو في الإجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة) (1) .

ثانيهما الجمود الفكري الذي ساد الحياة العلمية فوقف بأصحابها، من علماء وطلبة، عند الحدود التي رسمها أصحاب المختصرات وحال بينهم وبين الإنتفاع من الأصول (المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة)(2) .

وكان للسلطان سيدي محمد بن عبد الله جهود مشكورة في النهي عن اعتماد المختصرات في الأحكام وما إليها والحض على الرجوع إلى المصادر والأمهات، كما كانت له مثل تلك الجهود في الحث على ترك كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية وفق المذهب الأشعري والإكتفاء بالإعتقاد المأخوذ من الكتاب والسنة بلا تأويل.

(1) انظر، (تعظيم المنة) ص 67.

(2)

انظر، الإستقصا، 8:67.

ص: 294

غير أن هذه الجهود وتلك اصطدمت بالجمود الفكري والتعصب المذهبي عند الفقهاء والعلماء، وما أحدثته من أثر في أوساط هؤلاء وأولئك سرعان ما زال بوفاة السلطان المذكور (1) .

على أن هذين العاملين إذا كانا في حدي ذاتيهما من أشد العوائق التي عثرت مسيرة الدعوة في المغرب؛ بل وفي غيره من الأقطار الإسلامية؛ بل وفي عقر دارها فإنهما كانا، وفي نفس الوقت، مما عمق الوعي عند طائفة من أبناء الأمة المتنورين بإيجابيات مبادىء الدعوة المستمدة من الكتاب والسنة وغاياتها في تحرير العقل المسلم من قيود الشعوذة وتطهيره من أوضار الخرافة.

وقد انعكس ذلك على مواقفهم من الدعوة وكتاباتهم عنها، وهو مدار حديثنا في الفقرة الثالثة من هذا البحث.

ج - أصداء الوصول:

وقد ترددت بواكيرها في المغرب، كما ألمحنا، في غضون النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري. وسنعني بتتبع هذه الأصداء ورصدها في آثار:

1 -

ولاة الأمر والحكم:

ويأتي في مقدمتهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي انتهت الأصداء الأولى للدعوة إلى المغرب في فترة حكمه. وقد كان له في إحياء السنة وإماتة البدعة جهود تمثلت في إعتنائه بكتب الحديث، إلى جانب الأصل الأول، وهي مرجعية الحركة السلفية، كما تمثلت في دعوته لنبذ العقيدة الأشعرية واستبدالها بالإعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل.

وكان يقول في تعليل ذلك بأن (طريقة الحنابلة في الإعتقاد سهلة المرام، منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأئمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام)(2) .

ووضع في ذلك رسالة نبه فيها إلى ما شاع بين العوام (من عموم الجهل بالتوحيد وأصول الشريعة وفروعها حتى ارتكبوا أموراً تقارب الكفر أو هي الكفر بعينه) .

(1) نفسه، 8:67.

(2)

نفسه، 8:66.

ص: 295

وتحدث الشيخ عبد الحفيظ الفاسي عن شغف السلطان سيدي محمد بن عبد الله بمذهب السلف وحرصه على التمكين له، فقال بأنه نصر مذهب السلف في العقائد (وصرح في أول كتابه “ الفتوحات الكبرى ” بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة، وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة على مذهب السلف، وعقد في آخره باباً بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره. ولم يزل معلناً بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية)(1) .

ونهج السلطان المولى سليمان نهج والده في الدعوة إلى مذهب السلف ومحاربة أهل الإبتداع والضلال. وإليه، كما أسلفنا، وجه الإمام سعود بن عبد العزيز بعد افتتاحه الحجاز وتطهيره مما كان فيه من البدع، رسالته التي شرح فيها مبادىء دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وغاياتها.

وقد تولى الرد على رسالة الإمام سعود بأمر من السلطان المولى سليمان وعلى لسانه أحد مرموقي علماء البلاط السليماني وأدبائه، وهو حمدون بن الحاج السلمي.

وصاغ هذا الرد في قصيد في تسعة وتسعين ومائة بيت، تتخللها تعليقات وشروحات نثرية من بحر البسيط وقافية الميم افتتحه بالتعبير عن شوقه للمواطن المجازية حيث تربة رسول الله ش المزرية بالمسك:

حق الهناء لكم جيران ذي سلم

وبارق واللوى وألبان والعلم

قدستم أنفسنا أهيل كاظمة

وساكني المنحني وألواد من أضم

هل المقدس غير واد فاطمة

وهل طوى غير ذي طوى من الحرم

أراك يا وادي الأراك مقتطعاً

من جنة الخلد في وسم وفي نسم

وكيف لا ورسول الله تربته

هناك مزرية بالمسك والزهم

وثنى على هذا بالصلاة على رسول الله ش، ثم تخلص لموضع رده، بعد الإشارة إلى جهود الأمير سعود بن عبد العزيز في نشر ألوية الأمن ببلاد الحجاز، وإماتة البدع وإحياء السنن:

لا شيء يمنع من حج ومعتمر

وزورة تكمل المأمول من حرم

إذ عاد درب الحجاز اليوم سالكه

(1) انظر، تعاليق عبد الحفظ الفاسي في آخر كتابه (الآيات البينات) ص 301.

ص: 296

أهنا وآمن من حمامة الحرم

مذ لاح فيها (سعود) ماحيا بدعاً

قد أحدثتها ملوك العرب والعجم

(سعود) بعد سلام الله شاعك من

غرب يسير لشرق ضائع النسم

هذا كتاب إليك من محب أتى

وصموا بها الدعوة. وختم مشيداً بسيرة الأمير سعود في القول والفعل رواية عن الواردين على مغناه من الحجاج المغاربة:

وأنك الرجل المحمود سيرته

في القول والفعل والمحسود في الشيم

بل لم أزل سائلاً للواردين على

مغناك حتى استبان كل منكتم

من أنك الزاهر الزاهي بزهده في

دنيا، وما هذه الدنيا سوى حلم

وأنك الباهر الباهي بعفته

مقفيا ما أتي النون والقلم

وإن بدت منك شدة بأول ما

بدوت ها أنت باد وافي الرحم

فكنت كالقلق البادي بأول ما

بدا به خيط أسود مرى طسم

الحمد لله رب العالمين على

ما عم من ضوئك الهادي لكل عمي

وليس من المستغرب في شيء أن يأتي هذا الرد، على ما فيه من وجهات نظر مخالفة في بعض ما قررته الدعوة وفي بعض ما أشاعه عنها مناوئوها من نظر مخالفة في بعض ما قررته الدعوة وفي بعض ما أشاعه عنها مناوئوها من أكاذيب، طافحاً بمشاعر الإعجاب بها والتقدير للقائمين عليها فإن صاحبه هو ذلكم السلطان العالم ذو النزعة السلفية الإصلاحية التي انعكست آثارها على كثير من مواقفه وآثاره، فهي التي دفعت به إلى إنكار بدع المتفقرة المتصوفة من أصحاب الزوايا، ومنع إقامة مواسم (الأولياء) عند أضرحتهم، وكانت كعبة المبتدعة والفساق، والأمر بهدم القبة المبنية على قبر والده، وإزاحة النقير المثبت عليه.

وقد صدرت عنه خطب ورسائل حث فيها على نبذ البدع والتمسك بالسنن، ومن أشهرها رسالته التي وجهها إلى الأمة عن طريق خطباء المساجد يخطبون بها في الجمع على سائر المنابر.

ولا بأس أن نسوق لكم من هذه الخطبة الجليلة فقرة تدل على بقيتها فيما حوته من إرشاد للناس لإتباع السنن ومجانبة البدع:

ص: 297

(أما بعد، أيها الناس شرح الله لقبول النصيحة صدوركم، وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه أمركم ومأموركم. فإن الله قد استرعانا جماعتكم وأوجب لنا طاعتكم، وحذرنا إضاعتكم. {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} سيما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} . ولهذا نرثي لغفلتكم، أو عدم إحساسكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم، وطهروا من دنس البدع إيمانكم واخلصوا لله إسراركم وإعلانكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرق السنة لتسلكوها، وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها، وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرفوا فضله عليكم وعوه، واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون، وافترقوا أوزاعاً، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعاً، فيما هو حرام كتاباً وسنة وإجماعاً، وتسموا فقرا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقراً {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ، وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني، وخبال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتاً وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأوقاتاً)(1) .

(1) انظر، (الترجمانة) ص 467.

ص: 298

وهذه النزعة السلفية الإصلاحية عند السلطان المولى سليمان هي التي ألبت عليه مشايخ الزوايا فأقدوا نار الفتن في كافة المغرب بتمردهم على سلطته وبما عضدوا من الخارجين عليه. ولولا ذلك لعمت دعوته السلفية الإصلاحية أرجاء المغرب كله.

وهذه النزعة السلفية الإصلاحية عند السلطان المولى سليمان هي دفعت به إلى التجاوب، بجدية وإيجابية، وبصدق وإخلاص، مع دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب السلفية، ومن بعدها، مع دعوة الشيخ ابن الفودي على ما تقدمت به الإشارة. ولاشك أن ما كان يعرف المغرب، على عهده، من انتشار البدع، وفساد العقائد. وانطماس معالم السنن، كل أولئك كان، كذلك، مما زاد في احتفائه بالدعوة بعد أن استقصى أخبارها، وتحرى مضامينها فيما حمله إليه الحجاج عبر الرواية الشفوية وفيما وقع له من رسائل ووثائق حولها.

ويظهر أن السلطان المولى سليمان لم يكتف بهذا الرد على رسالة الإمام سعود فعقب عليها برسالة ثانية تولى تحريرها أحد أبرز علماء المغرب يومئذ، وهو العلامة الطيب بن عبد المجيد بن كيران، ومن ديباجة هذه الرسالة قوله يخاطب الإمام سعود:

(من ملكه الله أزمة العرب وقيادها، فأحسن سياستها، وأصلح سيرتها، ومهد بلادها، وتيسر وصول الحجاج والعمار والزوار إلى نيل الأوطار والآراب، فأضبح وقد أحرز بذلك الثناء والثواب، وحصل به في الدارين أفضل جزاء وحسن مآب..) . ثم عقب بالثناء على شخصية الأمير، والتنويه بجهوده في محاربة البدع ومناصرة السنن، فقال:

ص: 299

(وبعد فإنا نحمد إليكم الله الذي هداكم وهدى بكم، فلقد سرنا ما بلغنا عنكم من سيرتكم، وشيمكم، وأحوالكم من الزهد في الدنيا، وإحياء رسوم الدين، والحض على طريق السلف الصالح وسنن المهتدين، والحمل على إخلاص التوحيد لرب العالمين، وقطع البدع والضلالات، التي هي منشأ زيغ العقائد وكثرة الجهالات. وما برحنا نسمع عنكم ما قد أصبتم فيه كل الإصابة، ووافقتم فيه كتب العلماء ومذاهب السلف والصحابة، كما لا يخفى على (من مارس) موطأ الإمام مالك وما في الصحيحين، وطالع مسند الإمام الأوحد الزاهد أحمد بن حنبل أمير المؤمنين في الحديث بلامين) (1) .

ومن منطلق أن (مذهبنا - بعبارته - معشر المالكية مبني على ما أنتم عليه من سد الذرائع وإبطال البدع والمحدثات) شرع يعرض وجهة النظر فيما أثارته دعوة الشيخ من قضايا مثل قضية التكفير بذنب، والإستغاثة، والشفاعة، والدعاء عند القبر الشريف، وتقبيل المعظم شرعاً وغير ذلك.

وقد تحدثت المصادر التاريخية أن السلطان المولى سليمان كلف ولده الأمير إبراهيم بحمل رده على رسالة الإمام سعود إليه، فتوجه به صحبه وفد من كبار علماء المغرب في ركب الحاج عام 1226 هـ.

وقد وردت الإشارة بذلك في الرد الأول:

بعثت حجاج بيت الله قائدها

شوق يقود بلا سوق ولا خطم

وفيهم فلذة غراء من كبدي

أقمت خلفا في نيل مغتنم

كما وردت ضمن الرد الثاني في قوله مخاطباً الأمير سعود (اتضح لدينا قصدكم وخلوص طويتكم في الذب عند الدين، ولحقنا احتياطتكموحياطتكم للمسلمين ومنعكم الجار وإن جار (

) وجهناهم - أي الحجاج - وأحللنا ولدنا وسطهم في هذه السنة ملتمسين أجر تلك الخطى وأن يحط بها عنا الوزر والخطا

) .

2 -

رجالات العلم والفكر:

ويمكن تصنيفهم من حيث موقفهم من الدعوة إلى فريقين:

(1) مخطوطة الخزانة العامة.

ص: 300

أولهما الفريق الذي تجاوب مع الدعوة وساندها. ويمكن أن نعد في طليعتهم السلطان سيدي محمد والسلطان المولى سليمان بوصفيهما عالمين. ونذكر منهم أبا الفيض حمدون بن الحاج السلمي (ت 1232 هـ) كاتب الرد الأول، والطيب بن عبد المجيد بن كيران كاتب الرد الثاني، والعباس بن كيران، والأمين بن جعفر الحسني الرتبي، وعبد الخالق الودي، ومحمد بن إبراهيم الزداغي المراكشي، وهو الذي تولى مساءلة الأمير سعود ومحاورته في مضامين الدعوة، وشهد، وكذلك رفاقه، أنهم ما رأوا منه (ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الإستقامة، والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المناكر المحرمة، وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهاراً بلا إنكار)(1) .

ونذكر من العلماء المتجاوبين مع الدعوة أبا عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس (ت 1294 هـ) . فقد دافع عن حمدون ابن الحاج، وهو كاتب رد الولى سليمان، وكان، بسبب هذا الرد، هدفاً للمناهضين للدعوة من العلماء، فبرأه مما رماه به أحدهم، وهو الزياني في (الترجمانة الكبرى وذكر أن السلطان المولى سليمان اختاره لكتابة الرد لسعة علمه وبراعة إنشائه وأنه ليس في علماء الوقت من يحسن الجواب عن ذلك الكتاب غيره ورأى أكنسوس في دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب صورة من السلفية السنية الحنبلية كما تمثلها ابن حزم وابن تيمية.

(1) انظر، الجيش العرمرم 1:287.

ص: 301

ومن أشهر العلماء الذين تمثلوا مبادئ الدعوة السنية، وتجاوبوا مع توجهاتها الإصلاحية في حركتهم السلفية التغييرية أبو سالم عبد الله بن إدريس السنوسي الذي حج وتحمل عمن لقي من المحدثين كمحمد نذير حسين الهندي وأمثاله، فلما رجع إلى المغرب تصدر لنشر مذهب السلف في العقائد داعياً إلى وجوب التمسك بالأصلين ونبذ ما سواهما. وقد وجد السنوسي في رعاية السلطان المولى الحسن الأول خير مشجع له على الدعوة الفكرية السلفية السنية.

يقول الشيخ عبد الحفيظ الفاسي:

(وفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى فقربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد. واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه ككونه معتزلياً وخارجياً وبدعياً؛ بل كان في الحقيقة ناصراً له بما كان يخصه به من العطايا والصلات زيادة على سهمه معه في جوائزه المعتدة. وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته فنشره في كافة أنحاء المغرب وتلقاه عنه كثير من مستلقي الأفكار منذ أوائل هذا القرن إلى أن توفى منتصفه رحمه الله تعالى)(1) .

أما الفريق الثاني فقد عادى الدعوة وناهضها. ولم يكن الدافع واحداً عند الذين اتخذوا هذا الموقف المعادي والمناهض للدعوة. فبعضهم اتخذه متأثراً بما كان يشيعه أعداء الدعوة عنها من أباطيل وأكاذيب وجهلاً بمبادئها وأهدافها، وبعضهم اتخذه تعصباً لمذهبه في الإعتقاد، وبعضهم اتخذه دفاعاً عن نزعته الصوفية الإبتداعية وانتمائه الطرقي.

(1) انظر، (المعجم) لعبد الحفيظ الفاسي ص 87.

ص: 302

ومن هؤلاء المناهضين للدعوة الزياني، وهو صاحب فكر خرافي قبوري، فقد اعتبرها (من طوائف أهل البدع) وذكر أن القائم عليها (يخيف أهل الحرمين ويمنع زيارة الأنبياء والتوسل بهم إلى رب السماوات، وينهى عن قراءة دلائل الخيرات والدعاء بمقامات الأولياء أهل الكرامات)(1) . وعده مبتدعاً ضالاً. واتهم كاتب الرد السلطاني على رسالة الأمير سعود أنه فعله من تلقاء نفسه. ورد على ذلك المؤرخ أكنسوس بقوله (والذي أوقع الزياني في أمثال هذه في كثير من المواضع في كتابه هذا – يعني (الترجمانة) - وفي غيره من التقاييد التي نجس بها هذه الدولة الطاهرة إنما أداه إلى ذلك الجهل المركب فإنه أحد الأصول التي هي أصول الكفر) (2) . وكان أيضاً من المناهضين للدعوة كذلك أحمد عبد السلام بناني، وقد ألف كتاباً في الرد على مبادئها، سماه (الفيوضات الوهبية) وقد دعا فيه السلطان إلى وجوب محاربة الدعوة وأصحابها، وتحامل على كاتب الرد السلطاني حمدون بن الحاج. وضمن كتابه ردوداً متهافتة لا تعتمد على حجة ولا كتاب منير.

وإلى جانب العلماء المغاربة الذين ناهضوا الدعوة، للأسباب المشار إليها آنفاً، وجدنا أحد علماء الحجاز يحل بالمغرب في العقد التاسع من القرن الثاني عشر الهجري، ويقيم في فاس ومراكش نحو عشر سنوات يؤلف أثناءها رسالة في انتقاد الدعوة ومهاجمتها.

وهذا العالم هو أبو الحسن علي بن طاهر الوتري المدني الحنفي، ورسالته هي التي سماها (ما أبرزته الأقدار في نصرة ذوي المناقب والأسرار) .

ومن الواضح من عنوان الرسالة أن دواعي تأليفها نابعة من تعصبه للطرق والزوايا الصوفية المبتدعة. أما هدفه من تأليفها في المغرب خاصة فهو كما ذكر محقق الرسالة المؤرخ المقتدر الدكتور محمد العماري يتمثل في (خلق حاجز وقائي ضد أي تسرب للسلفية السنية للمغرب) .

(1) انظر، (الترجمانة) ص 83.

(2)

انظر، الجيش العرمرم، 1: 290 وما بعدها.

ص: 303

ونالت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من اهتمام المفكرين المغاربة، على اختلاف نزعاتهم، حظاً ملحوظاً فيما كتبوه عن التيارات السلفية في المغرب الحديث. ونمثل لذلك بما كتبه الدكتور محمد عزيز الحبابي عن فكرة الإصلاح الديني في تصور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأوضح وسائلها في تحقيق الإصلاح بما استهدفه من تحرير الدين من الدجل والعقيدة من الشعوذة.

ونقتطف من كلامه في ذلك الفقرة التالية:

(كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو أيضاً، مجتهداً، رمى إلى تحقيق ما سعى إليه من سبقه من “ السلف الصالح ” أي إلى تحرير الدين (ومعه المتدينون) من الشبهات والمستحدثات التي تنحرف عن جوهر العقيدة والتشريع (إنحراف قد يزرع الحيرة والفوضى بين الناس) ، وعن الفضائل والمعايير التي يقوم عليها المجتمع. فابن عبد الوهاب، من هذا الجانب، قد فضح التدجيل على الدين (الإسلام التاريخي) ، فكان عمله محرراً) (1) .

(اعتمدت الوهابية الإصلاح الديني، واستعملت ما توفر لها من وسائل فرضتها ظروف المجتمع الذي عاش فيه محمد بن عبد الوهاب، فحاربت الإستغاثة بالموتى، والتبرك بالشجر، وتقديس الحجر (نوع من الطوطيمية البدائية) . وكما أن التقدمية تدعو الملتزمين إلى الإندماج في صفوف الطبقة المحرومة، كان ابن عبد الوهاب إلى جانب المستضعفين والفقراء، يحيا، ويعادي مستغليهم. تضايق هؤلاء من مواقفه وتآمروا على اغتياله. ولما سلم من مكرهم لم يخف بطشهم ومكائدهم، فواصل عمله والمستضعفين معه، يحاربون البدع والخرافات بنفس الإيمان الذي يحاربون به الظلم والفقر. وعندما انتشرت السلفية الوهابية ووعاها الناس اضطرت أن تبحث عن أداة تنفذ بها برنامجها الإصلاحي والسياسي، فتحالفت مع الأمير ابن سعود، بعد أن إقتنع هذا الأخير بصلاحية الإتجاه الوهابي ومبادئه:

(1) انظر، (الحركة السلفية في المغرب العربي) ، ص 62.

ص: 304

- “ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ” (تجنيد جميع الأفراد لتطهير المجتمع) .

- “ استقامة الشرائع ” (حتى لا تكون فتنة ولا فوضى ويجب احترام الدستور) .

- “ الجهاد في سبيل الله ” (حروب دفاعية عن النفس، وعن الوطن)(1) .

ويعنى دارس آخر هو الدكتور محمد الكتاني ببلورة موقع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تاريخ الدعوة السلفية فيقرر بأنه يعتبر أول من وضع كتاباً مذهبياً لمجال هذه الدعوة. وفي ذلك يقول:

(والملاحظ - على العموم - أنه في تحديد مجال الدعوة لا نقف على شيء مضبوط فيما يخص هذا التحديد ولاسيما في العهود التي سبقت ظهور حركة محمد بن عبد الوهاب - أو على الأقل هذا ما انتهيت إليه أنا في بحثي وفيما بين يدي من مراجع - أما ابن عبد الوهاب فيمكن أن يعتبر أول من وضع ما يمكن أن يسمى دستوراً لهذه الحركة وبالتعبير العصري أول من وضع كتاباً مذهبياً لمجال هذه الحركة فيما رآه هو مجالاً لها، وكتابه في مضمونه العام يحدد موقفه من العقيدة، حيث إنها - وكما أشرنا قبل - أهم نقطة احتد فيها الصراع بين السلفية وما سواها من المذاهب - فنص على اتباع مذهب السنة والجماعة، واتباع طريقتهم في إثبات صفات الله على ظاهرها بدون تأويل واعتقاد حقائقها، وتفويض أمرها إلى الله على طريقة قول مالك في رده على من سأله: كيف استوى على العرش؟ حيث رد: الإستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة)(2) .

أما الدكتور محمد العابد الجابري فيعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بداية “ التنوير ” بالعالم العربي في العصر الحديث وليس الثورة الفرنسية. يقول:

(1) نفسه، ص 64.

(2)

نفسه، ص 263.

ص: 305

(

الحقيقة التي يمدنا بها التاريخ، تاريخ العالم العربي في القرن الماضي والعقود الأولى من هذا القرن هي أن الحركة التي كان لها صدى واسع في جميع أقطار العالم العربي، وكان لها حضور فعلي في كثير منها هي الحركة الوهابية التي قامت قبل الثورة الفرنسية بإثنين وأربعين سنة (

) ولا نبالغ إذا قلنا - وهذا على سبيل التوضيح فقط - إن تأثير الحركة الوهابية في العالم العربي زمن الثورة الفرنسية كان يضاهي تأثير هذه الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية، بل ربما كان أقوى، فقد ظهرت حركات مماثلة تشكل نوعاً من الامتداد لها في أقطار عربية كثيرة: في اليمن قام الإمام الشوكاني (1758 - 1843) على رأس دعوة مشابهة لدعوة ابن عبد الوهاب.

وفي المغرب الأقصى تبنت الدولة الدعوة الوهابية إيديولوجية لها منذ أيام الثورة الفرنسية إلى أواخر القرن الماضي حينما أخذت الوهابية فيه تتطور إلى سلفية جديدة. وبين المغرب واليمن كان حضور الوهابية متعدد الأشكال: السنوسية في ليبيا وقد انتشرت رواياها في كل من السودان ومصر وبلاد العرب فضلاً عن برقة وطرابلس. ولم تخل مصر نفسها من تأثير الوهابية إذ كان لها حضور ما في فكر محمد عبده فضلاً عن خصومه المتزمتين

) (32 م) .

3 -

المؤرخون:

وكان للدعوة في آثار هؤلاء كذلك أصداء دلت على اهتمامهم بتبع أخبارها والتعرف على مبادئها كما دلت، في الوقت نفسه، على موقفهم منها.

ص: 306

ونمثل للمؤرخين بأبي عبد الله محمد أكسنوس، فقد احتفظ لنا في كتابه (الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا على السجلماسي) بمعلومات موثقة عن تصورات الدعوة وعن شخصية حاميها الأمير سعود بن عبد العزيز. أما عن شخصية هذا الأمير فقد نقل إلينا أكسنوس ما تحدث به إليه العلماء الذين رافقوا الأمير إبراهيم إلى الحج. ومجمل ذلك إلتزامه بظاهر الشريعة ومحافظته على شعائر الدين. واستقامته وتواضعه. وهذا نص المؤرخ أكسنوس:

(حدث كل واحد منهم أنهم ما رأوا من ذلك السلطان سعود ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الإستقامة، والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المناكر المحرمة وتنقية الحرمين الشريفين من القذارات والآثام التي كانت تفعل بها جهاراً بلا إنكار. وذكروا أن حاله كحال أحد من الناس لا تميزه من غيره بزي ولا لباس ولا مركوب، وإنه لما اجتمع بالشريف الخليفة مولانا إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الشريف، وجلس معه كجلوس هؤلاء المذكورين وغيرهم من خاصة مولانا إبراهيم)(1) .

كما روى لنا أكسنوس في تاريخه نص المحاورة التي دارت بين العلماء المغاربة والأمير سعود. وكانت محاورها تتركز على قضايا (الاستواء الذاتي) و (حياة النبي ش في قبره) و (زيارته ش) .

وهذه القضايا هي التي كان خصوم الدعوة يثيرون حولها الشبهات والترهات، ويعزونها للدعوة والقائمين عليها.

وهذا نص (المحاورة) كما اتفق به خبر العلماء الذين سمعوها وشاركوا فيها:

(1) انظر، الجيش العرمرم، 1:293.

ص: 307

(وكان الذي تولى الكلام معه هو القاضي ابن إبراهيم الزداغي، وكان من جملة ما قال لهم ((إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية، فأي شيء رأيتمونا خالفنا فيه السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل رؤيتكم لنا؟)) فقال له القاضي المذكور: ((بلغنا أنكم تقولون بالإستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى)) ، فقال لهم:((معاذ الله، إنما نقول كما قال مالك الإستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة انتهى، فهل في هذا مخالفة؟)) فقالوا له: ((لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضاً)) ، ثم قال له القاضي:((وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام في قبورهم)) ، فلما سمع ذكر النبي ش إرتعد ورفع صوته بالصلاة والتسليم عليه، وقال:((معاذ الله تعالى (بل) نقول إنه ش حي في قبره، وكذلك غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء)) ، ثم قال له القاضي:((وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته ش وزيارة الأموات قاطبة مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها)) ، فقال له:((معاذ الله أن ننكر ما ثبت في شرعنا، وهل منعناكم أنتم منها لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها، وإنما نمنع منها العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا يقضيها إلا الربوبية، وإنما سبيل الزيارة الإعتبار بحال الموتى وتذكار مصير الزائر إلى مثل ما صار إليه المزور، ثم يدعو له بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى، ويسأل الله تعالى المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يستشفع به، هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سداً للذريعة، فأي مخالفة للسنة في هذا القدر؟)) (1) .

(1) نفسه، 1:293.

ص: 308

ونختم حديثنا عن أصداء الدعوة في أعمال المؤرخين المغاربة بمثال نستقيه من كتاب الفقيه العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الذي سماه (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) فقد عقد فيه باباً ترجم فيه بالعلماء الحنابلة وجعل مسك ختامهم ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقد بلور فيها جوانب شخصيته العلمية، والعقدية، والفقهية، والنفسية كما بلور فيها مبادىء مذهبه وأهدافه.

وهذه مقتطفات من الترجمة المذكورة:

(

انتقل للبصرة لإتمام دروسه فبرع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران

) .

(عقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة، لا يخوض التأويل والفلسفة ولا يدخلهما في عقيدته) .

(وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه، بل إذا وجد دليلاً أخذ به، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معاً) .

(وكان قوي الحال، ذا نفوذ شخصي وتأثير نفسي على أتباعه، يتفانون في إمتثال أوامره، غير هياب ولا وجل) .

وعند مبادىء دعوة الشيخ قال الثعالبي: (ومن جملة مبادئهم التمسك بالسنة، وإلزام الناس بصلاة الجماعة، وترك الخمر وإقامة الحد على متعاطيها ومنعها في مملكتهم؟ بل منع شرب الدخان ونحوه مما هو من المشبهات. ومذهب أحمد مبني على سد الذرائع كما لا يخفى..) .

وعن المظاهر الشركية التي حاربتها الدعوة ذكر: (نبذ التعلق بالقبور، وعدم نسبة التأثير في الكون للمقبور؛ بل منع التوسل بالمخلوق، وهدم الأضرحة التي تشييدها سبب هذه الفكرة

) .

وأنهى الثعالبي ترجمته للشيخ بالإشارة إلى شهرته التي طبقت العالم الإسلامي بوصفه (من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى والمغيرين بفكرهم أفكار الأمم)(1)

(1) انظر، الفكر السامي، 4:197.

المصادر والمراجع

1 -

إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، محمد بلو بن عثمان فودي، تحقيق بهيجة الشاذلي، معهد الدراسات الإفريقية - الرباط (1996 م) .

2 -

الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب - الدار البيضاء (1956 م) .

3 -

الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات، عبد الحفيظ الفاسي، المطبعة الوطنية - الرباط.

4 -

الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور براً وبحرا، أبو القاسم الزياني، تحقيق عبد الكريم الفيلالي، وزارة الأنباء - الرباط (1567 م) .

5 -

تعظيم المنة، أبو العباس أحمد بن خالد الناصري.

6 -

الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي محمد أكنسوس، طبعة حجرية - فاس (1336 هـ) .

7 -

حاضر العالم الإسلامي.

8 -

رسالة حمدون بن الحاج السلمي، نشرها بعنوان (الرد المغربي على الرسالة المنسوبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب) ، الأستاذ أحمد العراقي، مجلة المناهل.

9 -

رسالة الطيب بن عبد المجيد بن كيران (مصورة خاصة) .

10 -

رسالة الوتري في محاكمة السلفية الوهابية بالمغرب، د/ محمد العمري، مجلة كلية الآداب - فاس. عدد خاص (دراسات في تاريخ المغرب)(1406 هـ - 1985 م) .

11 -

السلفية وإشكالية المفهوم، د/ محمد الكتاني، ضمن كتاب (الحركة السلفية في المغرب

العربي) ، منشورات جمعية المحيط الثقافية والجمعية المغربية للتضامن الإسلامي، ط1 - الرباط (1989 م) .

12 -

السلفية رجعية أم تقدمية؟ د/ محمد عزيز الحبابي، ضمن كتاب (الحركة السلفية في المغرب العربي) .

13 -

عنوان المجد في تاريخ نجد، الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي الحنبلي، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز رقم 27 (1402 هـ) .

14 -

الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، ط. إدارة المعارف - الرباط - فاس (1340 - 1345 هـ) .

15 -

الفيوضات الوهبية، أحمد عبد السلام بناني (مخطوط) .

16 -

ما أبرزته الأقدار في نصرة ذوي المناقب والأسرار، أبو الحسن علي بن طاهر الوتري، تحقيق محمد العماري، مجلة كلية الآداب - فاس - عدد خاص بتاريخ المغرب (1406 هـ) .

17 -

المسلمون وأسئلة الهوية، حسن الوراكلي.

ص: 309

والواضح من هذه المقتطفات أن الثعالبي كان على معرفة معمقة بشخصية الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وسيرته، كما كان على معرفة معمقة أيضاً بدعوته وتاريخها ومبادئها، وهذا ما جعله يهتم بالكتابة عن الدعوة وصاحبها في عملين آخرين له، هما (برهان الحق) و (بيان مذهب الوهابية) .

وبعد:

فإن صاحبنا الثعالبي أشار في آخر الباب الذي أفرده بتراجم السادة الحنابلة إلى قلة ما جمع من تراجمهم، فاعتذر لهم عن ذلك.

وإني أستعير منه، ببعض التصرف، عبارته عن ذلك وبها أختم شاكراً لكم حسن إصغائكم:

(ذلك جهد المقل القاصر

ولعلماء نجد الأماثل اعتذاري) والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

الهوامش والتعليقات

ص: 310