المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أنواع التوحيد - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة - ابن باز - جـ ١

[ابن باز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌العقيدة الصحيحة وما يضادها

- ‌التوحيد وأنواعه

- ‌ أنواع التوحيد

- ‌الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق

- ‌حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان

- ‌وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه

- ‌حكم الإسلام فيمن زعم أن القرآن متناقضأو مشتمل على بعض الخرافات

- ‌بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآنأو في الرسول عليه الصلاة والسلام

- ‌ذكر كلام العلماء فيمن طعن في القرآن الكريم أو الرسول عليه أفضلالصلاة والتسليم

- ‌كشف الشبه المذكورة في الكلام المنسوب إلى القائلين به

- ‌تنبيه هام:

- ‌نواقض الإسلام

- ‌شرعية التخلق بما يحب الله التخلق بهمن معاني أسمائه وصفاته

- ‌إجابة عن أسئلة في العقيدة

- ‌الجواب عمن يقول بأن الله حال بين خلقه

- ‌النهي عن سب القدر

- ‌إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير اللهأو صدق الكهنة والعرافين

- ‌التحذير من البدع

- ‌الرسالة الأولىفي حكم الاحتفال بالموالد النبوية وغيرها

- ‌الرسالة الثانيةحكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج

- ‌الرسالة الثالثةحكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان

- ‌الرسالة الرابعةتنبيه هام على كذب الوصية المنسوبةللشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف

- ‌كلمة في المعضد

- ‌الأسورة النحاسية

- ‌التحذير من الرقى المخالفة للشرع

- ‌وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها

- ‌وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة

- ‌وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلموالتحذير مما يخالفهما

- ‌عوامل إصلاح المجتمع

- ‌الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب

- ‌الصعود إلى الكواكب

- ‌حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية

- ‌حكم الاحتكام إلى القوانين الوضعيةمع وجود القرآن الكريم

- ‌يجب تحكيم الشرع في الخاطفين

- ‌الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة

- ‌الأمر الأول: بيان حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها:

- ‌الأمر الثاني: كيفية أدائها وأساليبها

- ‌الأمر الثالث: بيان الأمر الذي يدعى إليه

- ‌الأمر الرابع: بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أنيتخلقوا بها وأن يسيروا عليها:

- ‌واجب المعلم

- ‌تعليق على محاضرة عن " منهج الإسلام

- ‌الإمام محمد بن عبد الوهابدعوته وسيرته

- ‌ ما هي الوهابية وهل هي مذهب خامس أم تتبع بعض المذاهب الأربعة

- ‌كلمة في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي

- ‌الرد على مصطفى أمين

- ‌الرد على صالح محمد جمال

- ‌حكم الإحداد على الملوك والزعماء

- ‌استنكار إخراج فيلم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله

- ‌رسالة جوابية حول " الواو " في قوله تعالى {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}

- ‌حكم من زعم أن عيسى عليه السلام لم يرفع إلى السماءأو أنه لا ينزل آخر الزمان

- ‌التحذير من بناء المساجد على القبور

- ‌الإجابة عن أسئلة متفرقة

- ‌ البوذية:

- ‌ التصوير:

- ‌ سب الدين والرب:

- ‌ الأغاني:

- ‌ الأذان والإقامة عند القبر:

- ‌ التكبير من سورة الضحى إلى آخر القرآن:

- ‌ الدعاء عند تفريق الصدقة:

- ‌ مدع الكرامات والمعجزات:

- ‌ عقائر الإبل والغنم:

الفصل: ‌ أنواع التوحيد

فالواجب على الطلبة في هذه الجامعة، وعلى جميع الطلاب في جميع الجامعات الإسلامية: أن يعتنوا بهذا الأصل، وأن يحكموه غاية الإحكام، حتى يكونوا دعاة للهدى، ومبشرين بالحق، وحتى يكونوا مبصرين للناس بحقيقة دينهم الذي بعث الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، وبعث به الرسل جميعا.

وهذه الكلمة التي أقولها لكم الآن تتعلق بأنواع التوحيد وأنواع الشرك. والتوحيد: مصدر وحد يوحد توحيدا، يعني: وحد الله أي اعتقده واحدا لا شريك له في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في ألوهيته وعبادته، سبحانه وتعالى. فهو واحد جل وعلا وإن لم يوحده الناس، وإنما سمي إفراد الله بالعبادة توحيدا؛ لأن العبد باعتقاده ذلك قد وحد الله عز وجل، واعتقده واحدا فعامله على ضوء ذلك بإخلاص العبادة له سبحانه ودعوته وحده، والإيمان بأنه مدبر الأمور وخالق الخلق، وأنه صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة، وأنه يستحق العبادة دون كل ما سواه.

ص: 34

وعند التفصيل تكون‌

‌ أنواع التوحيد

ثلاثة:

توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية أقر به المشركون ولم ينكروه، لكنهم لم يدخلوا به في الإسلام؛ لأنهم لم يخصوا الله بالعبادة، ولم يقروا بتوحيد الإلهية، بل أقروا بأن ربهم هو الخالق الرازق، وأن الله هو ربهم، ولكنهم لم يوحدوه بالعبادة، فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخلصوا العبادة لله وحده.

فتوحيد الربوبيه معناه: الإقرار بأفعال الرب، وتدبيره للعالم، وتصرفه فيه، هذا يسمى: توحيد الربوبية، وهو الاعتراف بأنه الخلاق الرزاق مدبر الأمور ومصرفها، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وهذا في الجملة أقر به المشركون، كما قال سبحانه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1)

(1) سورة الزخرف الآية 87

ص: 34

وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2)

فهم معترفون بهذه الأمور، لكنهم لم يستفيدوا من هذا الإقرار في توحيد الله بالعبادة، وإخلاصها له سبحانه وتعالى، بل اتخذوا معه وسائط، وزعموا أنها شفعاء وأنها تقربهم إلى الله زلفى، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) فقال سبحانه ردا عليهم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) فهو سبحانه لا يعلم له شريكا، لا في السماء ولا في الأرض، بل هو الواحد الأحد، سبحانه وتعالى، الفرد الصمد، المستحق للعبادة جل وعلا، وقال سبحانه وتعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5){أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6) ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (7) والمعنى: يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، يعني: ما عبدناهم؛ لأنهم يضرون وينفعون، أو لأنهم يخلقون ويرزقون، أو لأنهم يدبرون الأمور، ولكن عبدناهم؛ ليقربونا إلى الله زلفى، وليشفعوا لنا عنده، كما قالوا في الآية السابقة من سورة يونس:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (8)

(1) سورة لقمان الآية 25

(2)

سورة يونس الآية 31

(3)

سورة يونس الآية 18

(4)

سورة يونس الآية 18

(5)

سورة الزمر الآية 2

(6)

سورة الزمر الآية 3

(7)

سورة الزمر الآية 3

(8)

سورة يونس الآية 18

ص: 35

وعرف بهذا أنهم لم يعتقدوا أن آلهتهم تنفع وتضر، وتحيي وتميت، وترزق وتعطي وتمنع، وإنما عبدوهم ليشفعوا لهم وليقربوهم إلى الله زلفى، فاللات والعزى ومناة والمسيح ومريم والصالحون من العباد، كل هؤلاء ما عبدهم المشركون الأولون، لأنهم ينفعون ويضرون، بل عبدوهم لأنهم يرجون شفاعتهم، وأن يقربوهم إلى الله زلفى، فحكم الله عليهم بالشرك في قوله تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) وقال في آية الزمر: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (2) فحكم عليهم بالكفر والكذب، حين قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فبين أنهم كذبة في زعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كفرة بهذا العمل، وهو عبادتهم إياهم بالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة ونحو ذلك.

وقد دعاهم صلى الله عليه وسلم عشر سنين يقول لهم: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (3) » فأعرض عنه الأكثرون، ولم يهتد إلا الأقلون، ثم أجمع رأيهم على قتله، فأنجاه الله من شرهم ومن كيدهم، وهاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، فأقام بها شريعة الله ودعا فيها إلى الله، وتقبل الدعوة الأنصار رضي الله عنهم، وجاهدوا معه عليه الصلاة والسلام وجاهد معه المهاجرون من قريش، ومن غيرهم حتى أظهر الله دينه، وأعلى كلمته، وأذل الكفر وأهله.

وهذا النوع الذي أقر به المشركون هو توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله من خلق ورزق وتدبير وإحياء وإماتة وغير ذلك من أفعاله سبحانه كما سبق.

وهو حجة عليهم في إنكارهم توحيد الله بالعبادة، لأنه يستلزمه، ويدل

(1) سورة يونس الآية 18

(2)

سورة الزمر الآية 3

(3)

مسند أحمد بن حنبل (3/492) .

ص: 36

عليه ويوجبه. فلهذا أقام الله الحجة عليهم بهذا الإقرار فقال: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) وفي الآيات الأخرى أفلا تعقلون، أفلا تذكرون.

ومن تدبر هذا الأمر الذي أقروا به، استفاد لو عقل أن هذا المتصف بهذه الصفات هو المستحق لأن يعبد، ما دام هو الخلاق وهو الرزاق وهو المحيي وهو المميت وهو المعطي وهو المانع وهو المدبر للأمور، وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، فكيف تصرف العبادة لغيره، بل كيف يرجى غيره، ويخاف غيره لو عقل أولئك الكفار، ولكنهم لا يعقلون:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) وقال في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (3) وهكذا أشباههم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (4) هؤلاء هم الغافلون حقا وهم أشباه الأنعام، بل هم أضل منها، كما وصفهم الله بذلك في آيات بينات، وحجج نيرات، وبراهين ساطعات، ومع ذلك لم يفهموها ولم يعقلوها، واستمروا على كفرهم وضلالهم، حتى حاربوه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق (يوم الأحزاب) ، استمروا في كفرهم وضلالهم، ولم تنفع فيهم الآيات، ولم يستفيقوا من غفلتهم وإعراضهم، ولله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى والحجة الدامغة.

ثم إنه سبحانه أظهر نبيه، وأعز دينه، وقهر الأعداء، فغزاهم صلى الله عليه وسلم يوم

(1) سورة يونس الآية 31

(2)

سورة المجادلة الآية 19

(3)

سورة البقرة الآية 18

(4)

سورة الأعراف الآية 179

ص: 37

الفتح، ونصره الله عليهم، وفتح بلادهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، وعند ذلك أظهر عليه الصلاة والسلام توحيد الإلهية، وقبله الناس، ودخلوا في الحق، ثم قامت ضده هوازن، وأهل الطائف. فأظهره الله عليهم، وشتت شملهم، واستولى عليه الصلاة والسلام على نسائهم وذرياتهم وأموالهم، وجعل الله العاقبة والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولعباده المؤمنين فالحمد لله على ذلك.

والنوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو أيضا من جنس توحيد الربوبية، قد أقروا به وعرفوه. وتوحيد الربوبية يستلزمه؛ لأن من كان هو الخلاق الرزاق والمالك لكل شيء، فهو المستحق لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا تدركه الأبصار وهو السميع العليم، كما قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وكما قال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2){اللَّهُ الصَّمَدُ} (3){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وهم أي الكفار يعرفون ربهم بأسمائه وصفاته، وقد كابر بعضهم فأنكر اسم الرحمن، فأكذبهم الله بقوله سبحانه:{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (6)

النوع الثالث هو توحيد الله بالعبادة وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي العبادة بجميع أنواعها عن غير الله، وتثبتها لله وحده سبحانه وتعالى.

وهذه الكلمة هي أصل الدين وأساسه كله، وهي الكلمة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم قومه، ودعا إليها عمه أبا طالب فلم يسلم ومات على دين قومه.

(1) سورة الشورى الآية 11

(2)

سورة الإخلاص الآية 1

(3)

سورة الإخلاص الآية 2

(4)

سورة الإخلاص الآية 3

(5)

سورة الإخلاص الآية 4

(6)

سورة الرعد الآية 30

ص: 38

وقد أوضح الله معناها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم، منها قوله سبحانه {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقوله جل وعلا:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وكلها تفسر هذه الكلمة، وتوضح أن معناها: إبطال العبادة لغير الله، وإثبات العبادة بحق لله وحده جل وعلا، كما قال سبحانه في سورة الحج:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (5) وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (6)

فالله سبحانه وتعالى هو الحق، وله دعوة الحق، وعبادته هي الحق دون كل ما سواه سبحانه وتعالى، فلا يستغاث إلا به، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب الشفاء إلا منه، ولا يطاف إلا ببيته العتيق، إلى غير هذا من أنواع العبادة، وهو الحق ودينه الحق سبحانه وتعالى، ومن أتقن هذه الأنواع الثلاثة: أعني أنواع التوحيد، وحفظها واستقام على معناها، علم أن الله هو الواحد حقا، وأنه هو المستحق للعبادة دون جميع خلقه، ومن ضيع واحدا منها أضاع الجميع فهي متلازمة، لا إسلام إلا بها جميعا، ومن أنكر صفات الله وأسماءه، فلا دين له، ومن زعم أن مع الله مصرفا للكون يدبر الأمور، فهو كافر مشرك في الربوبية بإجماع أهل العلم.

(1) سورة البقرة الآية 163

(2)

سورة الإسراء الآية 23

(3)

سورة الفاتحة الآية 5

(4)

سورة البينة الآية 5

(5)

سورة الحج الآية 62

(6)

سورة لقمان الآية 30

ص: 39

ومن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، ولكن لم يعبد الله وحده، بل عبد معه سواه من المشايخ أو الأنبياء أو الملائكة أو الجن أو الكواكب أو الأصنام أو غير ذلك فقد أشرك بالله وكفر به سبحانه، ولا تنفعه بقية الأقسام لا توحيد الربوبية، ولا توحيد الأسماء والصفات، حتى يجمع بين الثلاثة، فيقر بأن الله ربه هو الخالق الرازق المالك لجميع الأمور، ويقر بما كفر به المشركون، وحتى يؤمن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له، ولا شريك له، كما قال عز وجل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1){اللَّهُ الصَّمَدُ} (2){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) وقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6)

الثالث: وهو توحيد العبادة، هو معنى لا إله إلا الله، وهو الأساس العظيم لدعوة الرسل لأن النوعين الآخرين لم ينكرهما المشركون كما تقدم، وإنما أنكروا هذا النوع وهو توحيد العبادة، لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (7) وقالوا أيضا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (8) وقبلها قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (9){وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (10) فكذبهم الله بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (11)

وهذا النوع هو توحيد العبادة، وهو الذي أنكره المشركون الأولون، وينكره المشركون اليوم، ولا يؤمنون به، بل عبدوا مع الله سواه، فعبدوا

(1) سورة الإخلاص الآية 1

(2)

سورة الإخلاص الآية 2

(3)

سورة الإخلاص الآية 3

(4)

سورة الإخلاص الآية 4

(5)

سورة النحل الآية 74

(6)

سورة الشورى الآية 11

(7)

سورة ص الآية 5

(8)

سورة الصافات الآية 36

(9)

سورة الصافات الآية 35

(10)

سورة الصافات الآية 36

(11)

سورة الصافات الآية 37

ص: 40

الأشجار والأحجار وعبدوا الأصنام، وعبدوا الأولياء والصالحين، واستغاثوا بهم، ونذروا لهم وذبحوا لهم، إلى غير هذا مما يفعله عباد القبور وعباد الأصنام والأحجار وأشباههم، وهم بذلك مشركون كفار، إذا ماتوا على ذلك لم يغفر لهم، كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3)

فلا بد من تحقيق هذا النوع، وإفراد الله بالعبادة ونفي الإشراك به سبحانه وتعالى، والاستقامة على ذلك، والدعوة إليه، والموالاة فيه، والمعاداة عليه، وبسبب الجهل بهذا النوع، وعدم البصيرة فيه يقع الناس في الشرك ويحسبون أنهم مهتدون، كما قال عز وجل:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (4) وقال في حق النصارى وأمثالهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (5){الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (6) فالكافر لجهله وانتكاس قلبه، يحسب أنه محسن، وهو يعبد غير الله، ويدعو غير الله، ويستغيث بغير الله، ويتقرب بالذبائح والنذور لغيره عز وجل، وما ذلك إلا لجهله وقلة بصيرته، وقد أنزل الله فيهم عز وجل قوله سبحانه:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (7) وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (8) الآية فالواجب على

(1) سورة النساء الآية 48

(2)

سورة الأنعام الآية 88

(3)

سورة المائدة الآية 72

(4)

سورة الأعراف الآية 30

(5)

سورة الكهف الآية 103

(6)

سورة الكهف الآية 104

(7)

سورة الفرقان الآية 44

(8)

سورة الأعراف الآية 179

ص: 41

أهل العلم، وعلى طلاب العلم: أن يعنوا بهذا النوع أعظم عناية، لكثرة الجهل به، ووقوع أكثر الخلق في ضده.

أما النوعان الآخران: فهما بحمد الله من أوضح الأشياء وأبينها، لكن هذا النوع أعني: توحيد العبادة يشتبه على أكثر الناس بسبب الشبه الكثيرة التي يروجها أعداء الله، ويلبسون بها على كثير من الناس، والأمر فيها بحمد الله واضح لمن نور الله بصيرته وهي شبه باطلة لا وجه لها.

فالحق واضح أبلج، وهو وجوب إخلاص العبادة لله وحده، دون كل ما سواه، كما قال عز وجل:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) ويقول سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4){إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) في آيات كثيرات كلها دالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن صرف العبادة لغير الله شرك وكفر، وهكذا لو اعتقد أن شخصا أو جمادا يصلح أن يعبد كفر وإن لم يعبده، فلو اعتقد أن هذا الصنم، أو هذا الشخص لجبرائيل أو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو الشيخ: عبد القادر الجيلاني، أو البدوي، أو الحسين، أو علي بن أبي طالب، لو اعتقد

(1) سورة غافر الآية 14

(2)

سورة الجن الآية 18

(3)

سورة يونس الآية 106

(4)

سورة فاطر الآية 13

(5)

سورة فاطر الآية 14

(6)

سورة المؤمنون الآية 117

ص: 42

أن واحدا منهم أو غيرهم يصلح للعبادة، وأنه لا بأس أن يدعى من دون الله، ولا بأس أن يستغاث به صار كافرا، وإن لم يفعل شيئا.

وهكذا لو اعتقد أنهم يعلمون الغيب، أو يتصرفون في الكون كان كافرا بهذا الاعتقاد، عند جميع أهل العلم، فكيف إذا دعاهم من دون الله، أو استغاث بهم أو نذر لهم فإنه يكون بذلك مشركا شركا أكبر.

وهكذا إذا سجد لهم أو صلى لهم أو صام لهم صار بذلك مشركا شركا أكبر، نسأل الله السلامة من ذلك.

ص: 43

وضد التوحيد: الشرك وهو أنواع ثلاثة، والحقيقة أنه نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.

فالشرك الأكبر: هو ما يتضمن صرف العبادة لغير الله أو بعضها، أو يتضمن جحد شيء مما أوجب الله من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كالصلاة، وصوم رمضان، أو يتضمن جحد شيء مما حرم الله، مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر ونحوها، أو يتضمن طاعة المخلوق في معصية الخالق على وجه الاستحلال لذلك، وأنه يجوز أن يطاع فلان أو فلانة، فيما يخالف دين الله عز وجل، من رئيس أو وزير أو عالم أو غيرهم فكل ما يتضمن صرف بعض العبادة لغير الله كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم، أو يتضمن استحلال ما حرم الله، أو إسقاط ما أوجب الله، كاعتقاد أن الصلاة لا تجب أو الصوم لا يجب أو الحج مع الاستطاعة لا يجب، أو الزكاة لا تجب، أو اعتقد أن مثل هذا غير مشروع مطلقا، كان هذا كفرا أكبر، وشركا أكبر؛ لأنه يتضمن تكذيب الله ورسوله.

وهكذا لو اعتقد حل ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كاستحلال الزنا والخمر، وعقوق الوالدين، أو استحل قطع الطريق أو اللواط أو أكل الربا، وما أشبه ذلك من الأمور المعروف تحريمها بالنص والإجماع- إذا اعتقد حلها كفر

ص: 43

إجماعا، نسأل الله العافية وصار حكمه حكم المشركين شركا أكبر.

وهكذا من استهزأ بالدين، وسخر به حكمه حكمهم، وكفره كفر أكبر، كما قال الله سبحانه وتعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1){لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) وهكذا لو استهان بشيء مما عظمه الله احتقارا له، وازدراء له، كأن يستهين بالمصحف، أو يبول عليه، أو يطأ عليه، أو يقعد عليه، أو ما أشبه ذلك استهانة به، كفر إجماعا؛ لأنه بذلك يكون متنقصا لله، محتقرا له؛ لأن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، فمن استهان به فقد استهان بالله عز وجل، وهذه الأمور قد أوضحها العلماء في باب حكم المرتد، ففي كل مذهب من المذاهب الأربعة ذكروا بابا سموه: باب حكم المرتد، أوضحوا فيه جميع أنواع الكفر والضلال، وهو باب جدير بالعناية، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع الردة، والتبس الأمر في ذلك على كثير من الناس، فمن عني به حق العناية عرف نواقض الإسلام، وأسباب الردة، وأنواع الكفر والضلال.

والنوع الثاني: الشرك الأصغر، وهو ما ثبت بالنصوص تسميته شركا، لكنه لم يبلغ درجة الشرك الأكبر، فهذا يسمى شركا أصغر مثل: الرياء والسمعة كمن يقرأ يرائي، أو يصلي يرائي، أو يدعو إلى الله يرائي ونحو ذلك. فقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:«أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟ (3) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن محمود بن لبيد الأشهلي الأنصاري رضي الله عنه ورواه الطبراني أيضا والبيهقي وجماعة مرسلا عن محمود المذكور وهو صحابي صغير لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن مرسلات الصحابة صحيحة وحجة عند أهل العلم، وبعضهم حكاه إجماعا.

(1) سورة التوبة الآية 65

(2)

سورة التوبة الآية 66

(3)

مسند أحمد بن حنبل (5/428) .

ص: 44

ومن ذلك قول العبد: ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا الله وفلان، أو هذا من الله ومن فلان.

هذا كله من الشرك الأصغر، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان (1) » .

ومن هذا ما رواه النسائي عن قتيلة «أن اليهود قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شاء محمد (2) » وفي رواية للنسائي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رجلا قال: يا رسول الله ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده (3) » ومن ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) قال: هو الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا. هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن.

فهذا وأشباهه من جنس الشرك الأصغر. وهكذا الحلف بغير الله، كالحلف بالكعبة، والأنبياء والأمانة وحياة فلان، وبشرف فلان ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لما ثبت في المسند بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (5) » وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي رحمهم الله بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (6) » .

(1) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .

(2)

سنن ابن ماجه الكفارات (2118) ، مسند أحمد بن حنبل (5/72) ، سنن الدارمي الاستئذان (2699) .

(3)

سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/283) .

(4)

سورة البقرة الآية 22

(5)

مسند أحمد بن حنبل (1/47) .

(6)

سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .

ص: 45

وهذا يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن أو بمعنى الواو، والمعنى: فقد كفر وأشرك. ومن هذا ما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وهذه أنواع من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فإذا كان في قلب الحالف بالنبي أو البدوي أو الشيخ فلان، أنه مثل الله، أو أنه يدعى مع الله، أو أنه يتصرف في الكون مع الله أو نحو ذلك، صار شركا أكبر بهذه العقيدة، أما إذا كان الحالف بغير الله لم يقصد هذا القصد، وإنما جرى على لسانه من غير هذا القصد لكونه اعتاد ذلك، كان ذلك شركا أصغر.

وهناك شرك يقال له: الشرك الخفي ذكر بعض أهل العلم أنه قسم ثالث، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه (2) » خرجه الإمام أحمد.

والصواب: أن هذا ليس قسما ثالثا، بل هو من الشرك الأصغر، وهو قد يكون خفيا؛ لأنه يقوم بالقلوب، كما في هذا الحديث، وكالذي يقرأ يرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يرائي، أو يجاهد يرائي، أو نحو ذلك.

وقد يكون خفيا من جهة الحكم الشرعي بالنسبة إلى بعض الناس كالأنواع التي في حديث ابن عباس السابق. وقد يكون خفيا وهو من الشرك الأكبر كاعتقاد المنافقين.. فإنهم يراءون بأعمالهم الظاهرة، وكفرهم خفي لم يظهروه، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (3){مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (4) الآية،

(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .

(2)

سنن ابن ماجه الزهد (4204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/30) .

(3)

سورة النساء الآية 142

(4)

سورة النساء الآية 143

ص: 46

والآيات في كفرهم وريائهم كثيرة، نسأل الله العافية.

وبما ذكرنا يعلم أن الشرك الخفي لا يخرج عن النوعين السابقين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وإن سمي خفيا. فالشرك يكون خفيا ويكون جليا.

فالجلي: دعاء الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم، ونحو ذلك.

والخفي: ما يكون في قلوب المنافقين يصلون مع الناس، ويصومون مع الناس، وهم في الباطن كفار يعتقدون جواز عبادة الأوثان والأصنام، وهم على دين المشركين. فهذا هو الشرك الخفي؛ لأنه في القلوب.

وهكذا الشرك الخفي الأصغر، كالذي يقصد بقراءته ثناء الناس، أو بصلاته أو بصدقته أو ما أشبه ذلك، فهذا شرك خفي، لكنه شرك أصغر.

فاتضح بهذا أن الشرك شركان: أكبر، وأصغر، وكل منهما يكون خفيا: كشرك المنافقين.. وهو أكبر، ويكون خفيا أصغر كالذي يقوم يرائي في صلاته أو صدقته أو دعائه لله، أو دعوته إلى الله أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر أو نحو ذلك.

فالواجب على كل مؤمن: أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن هذه الأنواع، ولا سيما الشرك الأكبر، فإنه أعظم ذنب عصي الله به، وأعظم جريمة وقع فيها الخلق، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال فيه سبحانه وبحمده: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) وقال فيه سبحانه أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3)

(1) سورة الأنعام الآية 88

(2)

سورة المائدة الآية 72

(3)

سورة النساء الآية 48

ص: 47

فمن مات عليه فهو من أهل النار جزما، والجنة عليه حرام، وهو مخلد في النار أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك.

أما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، وصاحبه على خطر عظيم، لكن قد يمحى عن صاحبه برجحان الحسنات، وقد يعاقب عليه ببعض العقوبات لكن لا يخلد في النار خلود الكفار، فليس هو مما يوجب الخلود في النار، وليس مما يحبط الأعمال، ولكن يحبط العمل الذي قارنه.

فالشرك الأصغر يحبط العمل المقارن له، كمن يصلي يرائي فلا أجر له، بل عليه إثم.

وهكذا من قرأ يرائي فلا أجر له. بل عليه إثم، بخلاف الشرك الأكبر، والكفر الأكبر فإنهما يحبطان جميع الأعمال، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)

فالواجب على الرجال والنساء، وعلى العالم والمتعلم، وعلى كل مسلم، أن يعنى بهذا الأمر ويتبصر فيه، حتى يعلم حقيقة التوحيد بأنواعه، وحتى يعلم حقيقة الشرك بنوعيه: الأكبر والأصغر، وحتى يبادر بالتوبة الصادقة مما قد يقع منه من الشرك الأكبر، أو الشرك الأصغر، وحتى يلزم التوحيد، ويستقيم عليه، وحتى يستمر في طاعة الله، وأداء حقه، فإن التوحيد له حقوق، وهي أداء الفرائض، وترك المناهي، فلا بد مع التوحيد من أداء الفرائض، وترك المناهي، ولا بد أيضا من ترك الإشراك كله: صغيره وكبيره.

فالشرك الأكبر ينافي التوحيد، وينافي الإسلام كليا. والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، فلا بد من ترك هذا وهذا.

فعلينا جميعا أن نعنى بهذا الأمر، ونتفقه فيه، ونبلغه للناس بكل عناية وبكل إيضاح حتى يكون المسلم على بينة من هذه الأمور العظيمة.

(1) سورة الأنعام الآية 88

ص: 48

والله المسئول عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا والمسلمين جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 49

[وكما هي العادة لكل محاضرة السؤال عن الأشياء الهامة فقد وجهت إلي أسئلة كثيرة، أذكر هنا ما يتعلق بالتوحيد] :

س 1: يقول السائل: جزاكم الله خيرا على محاضرتكم الوافية، وجعلها الله في ميزان أعمالكم: وسؤالي هو: كيف السبيل إلى معرفة حقيقة التوحيد اعتقادا وسلوكا وعملا؟ .

جـ: الطريق بحمد الله ميسر فعلى المؤمن أن يحاسب نفسه، ويلزمها الحق، ويتأثر بالمطبقين للنصوص على أنفسهم، فيستقيم على توحيد الله والإخلاص له ويلزم العمل بذلك، ويدعو إليه، حتى يثبت عليه، ويكون سجية له لا يضره بعد ذلك من أراد أن يعوقه عن هذا أو يلبس عليه.

المهم أن يعنى بهذا الأمر ويحاسب نفسه، وأن يعرفه جيدا حتى لا تلتبس عليه الأمور، وحتى لا تروج عليه الشبهات.

ص: 49

س 2: نشاهد في بعض البلاد الإسلامية أن هناك أناسا يطوفون بالقبور عن جهل.. فما حكم هؤلاء، وهل يطلق على الواحد منهم مشرك؟ .

جـ: حكم من دعا الأصنام واستغاث بها ونحو ذلك بحمد الله ظاهر وهو الكفر الأكبر إلا أن يدعي أنه طاف بالقبور بقصد عبادة الله، كما يطوف بالكعبة يظن أنه يجوز الطواف بالقبور ولم يقصد التقرب بذلك لأصحابها وإنما قصد التقرب إلى الله وحده، فهذا يعتبر مبتدعا لا كافرا؛ لأن الطواف بالقبور بدعة منكرة، كالصلاة عندها، وكل ذلك من وسائل الكفر، ولكن الغالب على عباد القبور هو التقرب إلى أهلها بالطواف بها، كما يتقربون إليهم بالذبح لهم والنذر لهم، وكل ذلك شرك أكبر، من مات

ص: 49

عليه مات كافرا لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأمره إلى الله عز وجل في الآخرة إن كان ممن لم تبلغه الدعوة فله حكم أهل الفترة، ويدل على ذلك: ما جرى لأم النبي صلى الله عليه وسلم فإنها ما كانت أدركت النبوة وكانت على دين قومها، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يستغفر لها، فلم يؤذن له أن يستغفر لها؛ لأنها كانت على دين الجاهلية، وهكذا أبوه قال عنه صلى الله عليه وسلم لما سأله سائل عن أبيه:«إن أبي وأباك في النار (1) » وأبوه صلى الله عليه وسلم مات في الجاهلية على دين قومه فصار حكمه حكم الكفار، لكن من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، ومات على جهل بالحق يمتحن يوم القيامة في أصح أقوال أهل العلم فإن نجح دخل الجنة، وإن عصى دخل النار.

وهكذا جميع أهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2)

أما من بلغه القرآن أو بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يستجب فقد قامت عليه الحجة، كما قال الله عز وجل:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) يعني: أن من بلغه القرآن فقد أنذر.

وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (4) فمن بلغه القرآن وبلغه الإسلام، ثم لم يدخل فيه فله حكم الكفرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (5) » خرجه مسلم في الصحيح. فجعل سماعه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه.

والحاصل: أن من أظهر الكفر في ديار الإسلام حكمه حكم الكفرة، أما كونه يوم القيامة ينجو أو لا ينجو فهذا إلى الله سبحانه وتعالى، إن كان ممن لم تبلغه الدعوة ولم يسمع ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يمتحن يوم القيامة

(1) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .

(2)

سورة الإسراء الآية 15

(3)

سورة الأنعام الآية 19

(4)

سورة إبراهيم الآية 52

(5)

صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .

ص: 50

ويرسل إليه عنق من النار كما جاء في حديث الأسود بن سريع فيقال له: ادخل، فإن دخلها كان عليه بردا وسلاما، وإن أبى التف عليه العنق وصار إلى النار نسأل الله السلامة.

فالخلاصة: أن من لم تبلغه الدعوة كالذين في أطراف الدنيا أو في أوقات الفترات، أو كان بلغته وهو مجنون ذاهب العقل، أو هرم لا يعقل فهؤلاء وأشباههم مثل أولاد المشركين الذين ماتوا وهم صغار، فإن أولاد المشركين الذين لم يبلغوا الحلم كلهم أمرهم إلى الله، فالله يعلم بما كانوا عاملين، كما أجاب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنهم، ويظهر علمه فيهم سبحانه يوم القيامة بالامتحان، فمن نجح منهم دخل الجنة، ومن لم ينجح دخل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله. .

س 3: ما حكم التميمة من القرآن ومن غيره؟ .

ج: أما التميمة من غير القرآن كالعظام والطلاسم والودع وشعر الذئب وما أشبه ذلك فهذه منكرة محرمة بالنص، لا يجوز تعليقها على الطفل ولا على غير الطفل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وفي رواية «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » .

أما إذا كانت من القرآن أو من دعوات معروفة طيبة، فهذه اختلف فيها العلماء، فقال بعضهم: يجوز تعليقها، ويروى هذا عن جماعة من السلف جعلوها كالقراءة على المريض.

والقول الثاني: أنها لا تجوز وهذا هو المعروف عن عبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف قالوا: لا يجوز تعليقها ولو كانت من القرآن سدا للذريعة وحسما لمادة الشرك وعملا بالعموم؛ لأن الأحاديث المانعة من التمائم أحاديث عامة، لم تستثن شيئا. والواجب: الأخذ بالعموم فلا يجوز شيء من التمائم أصلا؛ لأن ذلك يفضي إلى تعليق غيرها والتباس الأمر.

(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .

(2)

مسند أحمد بن حنبل (4/156) .

ص: 51

فوجب منع الجميع، وهذا هو الصواب لظهور دليله.

فلو أجزنا التميمة من القرآن ومن الدعوات الطيبة لانفتح الباب وصار كل واحد يعلق ما شاء، فإذا أنكر عليه، قال: هذا من القرآن، أو هذه من الدعوات الطيبة، فينفتح الباب، ويتسع الخرق وتلبس التمائم كلها.

وهناك علة ثالثة وهي: أنها قد يدخل بها الخلاء ومواضع القذر، ومعلوم أن كلام الله ينزه عن ذلك، ولا يليق أن يدخل به الخلاء. .

س 4: ما معنى الحديث: إن الرقى والتمائم والتولة شرك؟ .

ج: الحديث لا بأس بإسناده، رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود، ومعناها عند أهل العلم: إن الرقى التي تكون بألفاظ لا يعرف معناها أو بأسماء الشياطين أو ما أشبه ذلك ممنوعة، والتولة نوع من السحر يسمونه: الصرف والعطف، والتمائم ما يعلق على الأولاد عن العين أو الجن، وقد تعلق على المرضى والكبار، وقد تعلق على الإبل ونحو ذلك، وسبق الجواب عنها في جواب السؤال الثالث، ويسمى ما يعلق على الدواب الأوتار، وهي من الشرك الأصغر وحكمها حكم التمائم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه «أرسل في بعض مغازيه إلى الجيش رسولا يقول لهم: لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت (1) » وهذا من الحجة على تحريم التمائم كلها سواء كانت من القرآن أو غيره.

وهكذا الرقى تحرم إذا كانت مجهولة، أما إذا كانت الرقى معروفة ليس فيها شرك ولا ما يخالف الشرع فلا بأس بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورقي، وقال:«لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (2) » رواه مسلم.

وكذلك الرقية في الماء لا بأس بها، وذلك بأن يقرأ في الماء ويشربه المريض، أو يصب عليه، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ماء لثابت بن قيس بن شماس ثم صبه عليه، وكان السلف يفعلون ذلك، فلا بأس به.

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .

(2)

صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .

ص: 52

س5: جرت العادة عند بعض القبائل أن ينحروا الإبل عند المناسبات، هل يعتبر هذا قدحا في العقيدة؟ . .

ج: هذا فيه تفصيل، فإن كان نحرها للضيفان وإطعام الناس فهذا لا بأس به، وهو عمل مشروع، أما إن كان نحرها عند لقاء الملوك أو عند لقاء المعظمين تعظيما لهم فهذا شرك؛ لأنه ذبح لغير الله، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وهكذا نحرها عند القبور تذكيرا بجود أهلها وكرمهم، فهذا من عمل الجاهلية، وهو منكر لا يجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عقر في الإسلام (2) » .

فإن قصد به التقرب إلى أهل القبور فهذا شرك أكبر؛ وهكذا الذبح للجن والأصنام كله من الشرك الأكبر، نسأل الله السلامة من ذلك.

(1) سورة البقرة الآية 173

(2)

سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .

ص: 53

س6: بعض الناس يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كهذه: اللهم صل على نبينا محمد طب القلوب ودواء العافية، هل هذا مشروع؟ . .

ج: ليس بمشروع، وفيه إبهام يخشى منه الالتباس على الناس، ولكن أفضل الصلاة عليه الصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. هذه الصلاة هي الصلاة المعروفة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولها أنواع، وبأي نوع منها صلى فقد فعل المشروع إذا كان من الأنواع الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.

ص: 53

س7: لي قريب يكثر الحلف بالله صدقا وكذبا.. ما حكم ذلك؟. .

ج: ينصح ويقال له: ينبغي لك عدم الإكثار من الحلف، ولو كنت صادقا. لقول الله سبحانه وتعالى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة

(1) سورة المائدة الآية 89

ص: 53

لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه» .

وكانت العرب تمدح بقلة الأيمان، كما قال الشاعر:

قليل الألايا حافظ ليمينه

إذا صدرت منه الألية برت.

والألية: هي اليمين.

فالمشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان ولو كان صادقا؛ لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب.

ومعلوم أن الكذب حرام، وإذا كان مع اليمين صار أشد تحريما، لكن لو دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة إلى الحلف الكاذب فلا حرج في ذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها (1) » رواه مسلم في الصحيح.

فإذا قال في إصلاح بين الناس: والله إن أصحابك يحبون الصلح ويحبون أن تتفق الكلمة، ويريدون كذا وكذا، ثم أتى الآخرين وقال لهم مثل ذلك، ومقصده الخير والإصلاح فلا بأس بذلك للحديث المذكور.

وهكذا لو رأى إنسانا يريد أن يقتل شخصا ظلما أو يظلمه في شيء آخر، فقال له: والله إنه أخي، حتى يخلصه من هذا الظالم إذا كان يريد قتله بغير حق أو ضربه بغير حق، وهو يعلم أنه إذا قال: أخي، تركه احتراما له، وجب عليه مثل هذا لمصلحة تخليص أخيه من الظلم.

والمقصود: أن الأصل في الأيمان الكاذبة المنع والتحريم، إلا إذا ترتب عليها مصلحة كبرى أعظم من الكذب، كما في الثلاث المذكورة في الحديث السابق.

(1) صحيح البخاري الصلح (2692) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2605) ، سنن الترمذي البر والصلة (1938) ، سنن أبو داود الأدب (4921) ، مسند أحمد بن حنبل (6/404) .

ص: 54

س8: هل يخرج الشرك الأصغر صاحبه من الملة؟ .

ج: الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، بل ينقص الإيمان وينافي كمال التوحيد الواجب، فإذا قرأ الإنسان يرائي أو تصدق يرائي، أو نحو ذلك نقص إيمانه وضعف وأثم على هذا العمل، لكن لا يكفر كفرا أكبر.

ص: 55

س9: قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) على من يعود الضمير في قوله تعالى: وجادلهم؟ .

ج: يعود على المدعوين، والمعنى: ادع الناس إلى سبيل ربك، فالضمير في جادلهم يعني المدعوين سواء كانوا مسلمين أو كفارا، ومثلها قوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وأهل الكتاب: هم الكفرة من اليهود والنصارى، فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فالظالم يعامل بما يستحقه..

س10: ما حكم من يوحد الله تعالى ولكن يتكاسل عن أداء بعض الواجبات؟ .

ج: يكون ناقص الإيمان، وهكذا من فعل بعض المعاصي ينقص إيمانه عند أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يقولون الإيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن أمثلة ذلك: ترك صيام رمضان بغير عذر أو بعضه فهذه معصية كبيرة تنقص الإيمان وتضعفه، وبعض أهل العلم يكفره بذلك.

لكن الصحيح: أنه لا يكفر بذلك ما دام يقر بالوجوب، ولكن أفطر بعض الأيام تساهلا وكسلا.

وهكذا لو أخر الزكاة عن وقتها تساهلا أو ترك إخراجها فهو معصية

(1) سورة النحل الآية 125

(2)

سورة العنكبوت الآية 46

ص: 55

وضعف في الإيمان، وبعض أهل العلم يكفره بتركها.

وهكذا لو قطع رحمه أو عق والديه كان هذا نقصا في الإيمان وضعفا فيه، وهكذا بقية المعاصي.

أما ترك الصلاة فهو ينافي الإيمان ويوجب الردة ولو لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » في أحاديث أخرى تدل على ذلك.

(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) .

(2)

سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .

ص: 56