الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثالث
كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم
مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره
وما حققه في مواضع من كتبه ومؤلفاته
علق عليه: السيد محمد رشيد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أبو الحسن بن عروة رحمه الله تعالى في الكواكب (1) : نقل من سؤال قدم من بلاد كيلان في مسألة القرآن إلى دمشق في سنة أربع وسبعمائة من جهة سلطان تلك البلاد على يد قاضيها، لأجل معرفة الحق من الباطل عندما كثر عندهم الاختلاف والاضطراب، ورغب كل من الفريقين في قبول كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية في هذا الباب، فأملاه شيخ الإسلام في المجلس، وكتبه أحمد بن محمد بن مري الشافعي بخط جيد قوي، ثم إن كاتب هذه الأوراق اطلع على هذه الفتوى يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فاخترت لنفسي منها مواضع نقلتها في هذه الأوراق إذا الجواب طويل جداً.
صورة السؤال: ما تقول السادة أئمة الدين رضي الله عنهم في قوم يقولون: إن كلام الناس وغيرهم قديم، سواء كان الكلام (2) صدقاً أو كذباً، فحشاً أو غير فحش، نظماً أو نثراً ولا فرق بين كلام الله عز وجل وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب.
وقال قوم منهم بل أكثرهم: أصوات الحمير والكلاب كذلك (3) لما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد رداً على قولهم تأولوا ذلك القول وقالوا إن أحمد إنما قال ذلك خوفاً من الناس، فهل هم مصيبون أو مخطئون؟ فإذا كانوا مخطئين فهل على ولي الأمر
(1) نقل من الجزء العشرين من الكواكب المودع في خزانة المكتبة العمومية بدمشق في المدرسة الظاهرية
(2)
وجد في الأصل ههنا لفظة كلام وهي زائدة كما أشار في حاشية نسختنا
(3)
لعل الأصل ولما
وفقه الله ردعهم وزجرهم عن ذلك أم لا؟ وإذا وجب زجرهم فهل يكفرون إن أصروا أم لا؟ وهل الذي نقل عن الإمام أحمد حق، أو هو كما يزعمون؟ أفتونا مأجورين.
أجاب الإمام العلامة شيخ الإسلام قامع البدع ومظهر الحق للخلق أبو العباس أحمد بن تيمية:
الحمد لله بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأً محرماً فاحشاً بإجماع المسلمين، وقد قالوا منكراً من القول وزوراً، بل كفراً وضلالاً ومحالاً، ويجب نهيهم عن هذا القول الفاحش، ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاءً بما كسب نكالاً من الله، فإن هذا القول مخالف للعقل والنقل والدين، مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، وهي بدعة شنيعة لم يقلها قط أحد من علماء المسلمين، لا من علماء السنة ولا من علماء البدعة، ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول، ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداهة العقل أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة، إلا من جهة أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة، وإن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين، ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف، وليعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم، بل قول الأئمة مناقض لقولهم، فإن الأئمة كلهم نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق، بل نص أحمد على أن فعال العباد مخلوقة عموماً وعلى كلام الآدميين خصوصاً، لم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لمثل هؤلاء المبتدعة.
ثم ساق الشيخ كلاماً طويلاً إلى أن قال: ومن المشهورفي كتاب صريح السنة لمحمد بن جرير الطبري - وهو متواتر عنه - لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال: وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عمن في قوله الشفا والغنى، وفي إتباعه الرشد والهوى، ومن قام مقام الأئمة الأول: أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي
حدثني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: اللفظية جهمية.
قال ابن جرير: سمعت من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.
قال ابن جرير: القول في ذلك عندنا لا يجوز أن يقول أحد غير قوله، إذ لم يكن إمام قائم به سواه، وفيه كفاية لكل متبع، وقناعة لكل مقتنع، وهو الإمام المتبع.
وقال صالح بن الإمام أحمد: بلغ أبي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء فقال له أبي: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب أبي وجعل يرتعد، فقال له: قرأت عليك: " قل هو الله أحد " فقلت لي: هذا ليس بمخلوق، فقال له: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم، فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم أني لم أقل هذا، وغضب وقال له: تحكي عني ما ألم أقل؟ فجعل فوزان يعتذر إليه (1) . وانصرف من عنده وهو مرعوب، فعاد أبو طالب فذكر أنه حكى ذلك من كتابه وكتب إلى أولئك القوم يخبرانه وهم علي أبي عبد الله في الحكاية عنه، قال أبو عبد الله: القرآن حيث تصرف غير مخلوق.
وقال عبد الوهاب الوراق: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فإنه يهجر ولا يكلم ويحذر منه، وذكر الخلال في كتاب القراءة عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وكنت سألته عن قوله (2) : من لم يتغن بالقرآن، قال: هو الرجل يرفع صوته به فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به، وعن منصور وصالح أنه قال لأبيه يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال: نعم إن شاء رفع، ثم ذكر
(1) كذا بالأصل وليحرر
(2)
يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سنن أبي داود بلفظ " ليس منا من لم يتغن بالقرآن"
حديث أم هانئ: كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريشي من الليل.
وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال: كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت رجل لا يتكلفه.
قال: وأما قول القائل أن أحمد قال ذلك خوفاً من الناس فبطلان هذا القول يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا هو إلى العقوبة البليغة أحوج منه إلى جوابه لافترائه على الأئمة، فإن الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة، والصبر على الحق، فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد لقوله تعالى:" وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " فإنه أعطي من الصبر واليقين، وينال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل، وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك مما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، ولهذا قال بعض علماء الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل، فكيف يظن به أنه كان يخاف هذه الكلمة التي لا قدر لها، وأيضاً فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولاً مبتدعاً، فكيف بكلمة ما قالها أحد قبله.
قال: فالمنتسبون إلى السنة والحديث وإن كانوا أصلح من غيرهم وفيهم من الخير
ما لا يوجد في غيرهم، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فكما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم من الخير فهو في المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبون إلى السنة قد يوجد فيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم، وإن كان في غيرهم خير فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر.
قال: ويجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقاً ولا يحتاج إلى تفصيل بأن يقال نظمه أو تأليفه أو غير ذلك، وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه، وعامة ما يوجد في كتاب الله وسنة رسوله وكلام السلف وسائر الأمم عربهم وعجمهم فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً لشموله لهما فيقال عن كلام الله وهو القرآن هذا كلام الله وهذا كلام فلان.
قال: وأما الأمة الوسط الباقون على الفطرة فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه: هذا كلام ذاك لا كلامك وإنما بلغته بقولك، كما قال أبو بكر الصديق لما خرج على قريش فقرأ " ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض " الآية. فقالوا هذا كلامك أو كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل " فبين أن ما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته، والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة أو كلاماً أو قرآناً، أو مسألة قالوا هذا كلام فلان وقوله فإنه هو الذي اتصف به وألفه وأنشأه.
قال: وكذلك من تبع آباءه الذين سلفوا من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه في مثل قوله: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى
ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " وفي قوله: " يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " الآية. وكذلك من اتبع الظنون والأهواء معتقداً أنها عقليات وذوقيات فهو ممن قال الله فيه:" إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالمعجزات كما قال تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " وقال: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " وقال: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه " الآية. وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " الآية. فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكاً بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد من جميع الأمم إن من تلبس بهذه الخصال من سائر الأمم وهي جماع الصلاح وهي الإيمان بالله والبعث والمعاد والإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وهو أداء المأمورات وترك المحظورات فإن له أجره عند ربه ولا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه، وإسلام الوجه هو إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قول:" إياك نعبد وإياك نستعين " وهو محسن، فالأول وهو إسلام الوجه وهو النية وهذا الثاني وهو الإحسان هو العمل الصالح. وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه على جميع عباده من الأولين والآخرين، وهو دين الله العام الذي بعث به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب.
فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب فإنهم يكفرون الفاسق الملي، فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة - ومنهم
من قال والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبداً بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام، قالوا: والإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات فيكون العاصي كافراً لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر، وقالت المعتزلة: ننزله منزلة بين المنزلتين: نخرجه من الإيمان ولا ندخله في الكفر، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية فإن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين.
وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول قول القلب واللسان، وفي العمل عمل القلب والأركان، وقال المنتصرون لمذهبهم (1) أن للإيمان أصولاً وفروعاً وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرها من العبادات، فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل أو ترك مثل الإحرام ومثل ترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف بالبيت وبين الجبلين المكتنفين له وهما الصفا والمروة. ثم الحج مع هذا اشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه وهي الوطء، ومشتمل على واجبات من فعل وترك يأثم بتركها عمداً، ويجب مع تركها لعذر أو غيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها ولا يأثم بتركها ولا توجب دماً، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر أو نهي أو ذكر: من فعل الواجب
(1) لفظ (وقال) ليست من الأصل الذي طبعنا عنه ولكنها ضرورية
وترك المحظور فقد تم حجه وعمرته لله وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل، لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم حجاً وعملاً وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فهو حج ناقص يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما ترك، ومن أخل بركن أو فعل مفسداً فحجه فاسد لا يسقط به فرضه بل عليه إعادته، مع أنه قد تنازعوا في إثباته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض، والأشبه أنه يثاب عليه، فصار الحج ثلاثة أقسام كاملاً بالمستحبات، وتاماً بالواجبات فقط، وناقصاً عن الواجب، والفقهاء يقسمون الوضوء إلى كامل فقط ومجزئ، ويريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه بالمجزئ ما اقتصر على واجبه، فهذا في الأعمال المشروعة وكذلك في الأعيان المشهودة فإن الشجرة مثلاً اسم لمجموع الجذع والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة كاملة وبعد ذهاب الأغصان شجرة ناقصة، فليكن مثل ذلك في مسمى الإيمان.
والذين قالوا (1) الإيمان ثلاث درجات: إيمان السابقين المقربين، وهو ما أتي فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك، وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين وهو ما ترك صاحبه فيه بعض الواجبات، أو فعل فيه بعض المحظورات، ولهذا قال علماء السنة: لا يكفر أحد بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، وإيمان الظالمين لأنفسهم وهو من أقر بأصل الإيمان وهو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله وهو شهادة أن لا إله إلا الله ولم يفعل المأمورات ويجتنب المحظورات، فإن أصل الإيمان التصديق والانقياد فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن وقد تواتر في الأحاديث:" أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان - مثقال حبة من خير - مثقال ذرة من خير " و " الإيمان بضع وستون أو بضع
(1) قوله والذين قالوا - ليس بعده ما يصلح أن يكون خبراً له فالظاهر أن أصله: وقالوا
وسبعون (1) شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة، وإن قليله يخرج به صاحبه من النار إن دخلها، وليس كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة أنه لا يقبل التبعيض والتجزئة بل هو شيء واحد إما أن يحصل كله وإما أن لا يحصل منه شيء.
واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم، وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدراً ووصفاً، فإن ما جاء به محمد من صفات الله وأسمائه وذكر اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء ومنه ما تختلف الشرائع والمناهج كالقبلة والنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك، فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة، بل مسماه في الآخر أكمل من مسماه في أول البعثة وأوسطها، كما قال تعالى في آخر الأمر:" اليوم أكملت لكم دينكم " وقال بعدها: " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ولهذا قال الإمام أحمد: كان الإيمان في أول الإسلام ناقصاً فجعل يتم، وهكذا مسمى الإيمان والدين قد يتنوع بحسب الأشخاص، وبحسب أمر الله كلاً منهم، وبحسب ما يفعله مما أمر به، وبحسب إقباله وحضوره وإخلاصه، فإن المؤمنين من الأولين والآخرين مشتركون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولكن بينهم تفاوت ما في القلوب إذا ذكر الله وما في اليوم الآخر ما تفاوت به الإيمان، فعند ذكر الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك يزداد الإيمان الواجب لقوله:" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " الآية. وقوله: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " الآيات.
(1) هذه رواية مسلم بالشك واعتمد البخاري رواية العدد الأول وأصحاب السنن العدد الثاني
وقوله: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع " الآية. وقوله في الجنة: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث نفى الإيمان الواجب عنه الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه هذا معنى قولهم نفي كمال الإيمان، وحقيقة ذلك أن الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء: الغسل كامل ومجزئ، ومنه قوله عليه السلام:" من غشنا فليس منا " ليس المراد به أنه كافر كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا كما تأولته المرجئة، ولكن المضمر يطابق المظهر، والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب، السالمون من العذاب، والغاش ليس منا (1) لأنه متعرض لعذاب الله وسخطه.
إذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب في الجملة لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بمنزلة صلاة المريض والخائف وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أفضل، وأكمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " رواه مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث حسن السياق: " إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس " ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علماً واعتقاداً وإن لم يعمل به.
قال فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن بالسيئات، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وإن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر،
(1) الأظهر أن يكون؛ ليس منهم
وأنه يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر ما دون الشرك، وأن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل، ونحو ذلك، فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما قد جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة، وبهذا يتبين أنا نشهد بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه، لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه. وفائدة هذا الوعيد أن هذا الذنب سبب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه.
يبين هذا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها، وثبت عنه في الصحيح أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن الخمر لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن أولاً شاربها على العموم.
قال فمسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل فنبدأ بمذاهب الأئمة في ذلك قبل التنبيه على الحجة فنقول: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله، بل وجميع الرسل، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال غير واحد من الأئمة: أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفروا من يقول أن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب
ونحو ذلك من صفاته، وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه يكفرهم فإن بدعهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون علياً على أبي بكر لا يختلف قوله أنه لا يكفرهم، وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون.
قال: وعنه في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان أصحهما ما لا يكفر، والجهمية عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية.
قال: فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها (1) وإثابة قائلها، وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها.
قال: وفي الإدلالة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطأه وإن عذب المخطيء من غير هذه الأمة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له " وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب الصحيح والمساند من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عامر وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيد العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم، فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من يصل إلى الحالة التي أمر أهله أن يفعلوها به، وإن من أحرق وذري لا يقدر الله أن يعيده ويحشره إذا فعل به ذلك، وأنه ظن ذلك ظناً ولم يجزم به.
(1) هذه الجملة تعليل لمن كفروا دعاة البدعة دون سائر أهلها وكان ينبغي لابن عروة أن لا يحذف ذكرهم من تلخيصه لكلام شيخ الإسلام
وهذا أصلان عظيمان: أحدهما متعلق بالله وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ولو صار إلى ما يقدر صيرورته إليه مهما كان فلا بد أن الله يحييه ويجزيه بأعماله، فهذا الرجل مع هذا لما كان مؤمناً بالله في الجملة ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح وهو خوفه من الله أن يعاقبه على تفريط غفر له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه، كما أن الذي وجد راحلته بعد إياسه منها أخطأ من شدة فرحه.
وقد وقع الخطأ كثيراً لخلق من هذه الأمة واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام، وكذلك لبعضهم في قتال بعض وتكفير بعض أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ " بل عجبتُ " ويقول أن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ " بل عجبت " فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة لله دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحاً إمام من الأئمة، وكذلك بعض العلماء أنكر حروفاً من القرآن كما أنكر بعضهم:" أولم ييأس الذين آمنوا " فقال: إنما هي " أولم يتبين الذين آمنوا " وآخر أنكر " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " فقال: إنما هي " ووصى ربك " وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورتي القنوت، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع، وكذلك الخطأ في الفروع العلمية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثماً، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذا القولان شاذان ولم يقل أحد بتكفير المخطئ فيها، فقد أخطأ بعض السلف فيها مثل خطأ بعضهم في بعض
أنواع الربا واستحلال آخرين القتال في الفتنة، وقد قال تعالى:" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث - إلى قوله - ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " وفي الصحيح: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ".
والسنة والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما وجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضاً من أصول الإيمان، فإن الإيمان الذي يوجب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون (1) وأولئك في الدرك الأسفل من النار. بل أصل هذه البدع من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته مأخوذاً عن الصابئين والمشركين وأصل هؤلاء هو الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في غير ذلك ممن كان هذا أصله، فهو يعد الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة
(1) كذا في الأصول وهو محرف فاما أن يكون أول الجملة فأكثر ما يوجد إلخ وأما أن يكون آخرها. من الزنادقة المنافقين
كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك كإنكار تكليم الله لموسى واتخاذ الله إبراهيم خليلاً.
قال: فإن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها ما شرع من العقوبات دفعاً للظلم والعداون وكسراً للنفوس العاتية الباغية ودفعاً لشر الجبار الطاغي، وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير ملتزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس ولهذا أكثر السلف على قتل الداعي إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين سواء قالوا هو كافر أو ليس بكافر.
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول، وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان والعمل الصالح ما ليس في بعض، والله أعلم.
فصل:
في مسألة القرآن العزيز وذكر دلالة الكتاب والسنة على ما اتفق عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين: الأئمة الأربعة وغيرهم والتنبيه على الأقوال التي حدثت بعد السلف الصالح كقول السلف أن القرآن كلام الله.
قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وهو منزل من الله، كما قال تعالى:" أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقاً.
وقال تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - حم تنزيل من الرحمن الرحيم ".
وقال تعالى: " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".
وقال تعالى: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى " ونحو ذلك.
وقال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء وأنه منزل من الله إلا كلامه بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك، لذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فإن من قال إنه مخلوق يقول أنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها؛ والمخلوق أنزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله تعالى أنه مخلوق
من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور، لو كان مخلوقاً في غيره لم يكن الرب تعالى متصفاً به، بل كان يكون صفة لذلك المحل، فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفاً بصفة موجودة قائمة بغيره لأنه فطر ذلك (1) ، ما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به، وهذا مبسوط في مواضع أخر.
ومن قول السلف أن الناس من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين، قال الله تعالى:" لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ".
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ علي القرآن " قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت إلى هذه الآية:" فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " قال: " حسبك " فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى:" قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ".
وقال تعالى: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ".
وقال تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس - وهو الروح الأمين وهو جبريل - من الله بالحق، ولم يقل أحد من السلف أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله وإنما قال ذلك بعض المتأخرين، وقوله تعالى: " إن
(1) قوله لأنه فطر ذلك ليس له معنى فلابد أن يكون محرفا وما قبله وما بعده سيأتي بيانه في مواضيع أخرى من هذه المباحث كما أشار إليه في قوله وهذا مبسوط في مواضع أخرى
علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه " هو كقوله تعالى:" نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق " وقوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته، فإن لفظ نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه، فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه، فهو سبحانه أحق باسم نحن، وفعلنا ونحو ذلك من كل ما يستعمل.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " فإذا قرأه رسولنا، وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أي نقرؤه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه.
وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحياً، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولاً فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء، وقال تعالى:" الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس " فإذا أرسل الله تعالى رسولاً كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم " وإنما نبأهم بوساطة الرسول، والرسول مبلغ به، كما قال تعالى:" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ".
وقال تعالى: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ".
وقال تعالى: " وما على
الرسول إلا البلاغ المبين " والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
وقال صلى الله عليه وسلم لما خطب المسلمين: " ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه إلى غير فقه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ".
وفي السنن عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكما لم يقل أحد من السلف أنه مخلوق فلم يقل أحد منهم أنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله، ولما ظهر من قال أنه مخلوق قالوا رداً لكلامه أنه غير مخلوق، ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحداً من المسلمين لم يقل أنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا أنه مخلوق خلقة الله في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.
وأول من عرف أنه قال مخلوق الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول فمنهم من قال الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه وهو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره.
وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى آية الكرسي ليس معنى آية الدين، ولا معنى قل هو الله أحد معنى تبت يدا
أبي لهب، فكيف بمعاني كلام الله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه، ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يا أيها المزمل، أيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف أن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم أن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلاً عن أن يقول أن صوتي به قديم أو غير مخلوق بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ".
وقال تعالى: " بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق والصوت الذي يقرأ به صوت العبد والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام البارئ، والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، كما قال تعالى:" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله، ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً، فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقاً للكتاب والسنة، وقد قال تعالى:" واقصد في مشيك واغضض من صوتك ".
وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ".
وقال تعالى: " إن
الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ".
وقال تعالى: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " ففرق سبحانه بين المداد الذي تكتب به كلماته وبين كلماته، فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق، وكلمات الله غير مخلوقة.
وقال تعالى: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " فالأبحر إذا قدرت مداداً تنفد وكلمات الله لا تنفد. ولهذا قال أئمة السنة: لم يزل الله متكلماً كيف شاء وبما شاء كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
هذا وقد أخبر الله سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع، فقال تعالى:" فلما ذاقا الشجرة بدت سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكم إن الشيطان لكما عدو مبين ".
وقال تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون "" ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة طه ومريم والطس الثلاث وفي سورة والنازعات، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى:" فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ".
وقال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ".
وقال تعالى: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا " واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت، نادى موسى وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال أن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم أن الصوت الذي سمعه قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم أن هذه
الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم وبين أصوات العباد.
وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل، وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت، وقد ذكر من صنف في السنة من ذلك قطعة كما (1) من ذلك قطعة وعلى ذلك ترجم عليه البخاري في صحيحه قوله تعالى:" حتى إذا فزع عن قلوبهم " وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال مما يبين به الفرق بين الصوتين آثاراً متعددة، وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره بعد موت أحمد بسنين ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه.
وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول، قال: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الاسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين.
وقد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة فتنازعوا في اللفظ بالقرآن هل يقال إنه مخلوق، ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد
(1) بياض بالأصل
بن حنبل وغيره أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال أنه غير مخلوق فهو مبتدع، وأما صوت العبد فلم يتنازعوا أنه مخلوق، فإن المبلغ لكلام غيره بلفظ صاحب الكلام إنما بلغ غيره، كما يقال روى الحديث بلفظه وإنما يبلغه بصوت نفسه لا بصوت صاحب الكلام.
واللفظ في الأصل مصدر لفظ يلفظ لفظاً وكذلك التلاوة والقراءة مصدران لكن شاع استعمال ذلك في نفس الكلام الملفوظ المقروء المتلو (1) ، وهو المراد باللفظ في إطلاقهم فإذا قيل لفظي أو اللفظ بالقرآن مخلوق أشعر أن هذا القرآن الذي يقرؤه ويلفظ به مخلوق، وإذا قيل لفظي غير مخلوق، أشعر أن شيئاً مما يضاف إليه غير مخلوق، وصوته وحركته مخلوقان، لكن كلام الله الذي يقرؤه غير مخلوق، والتلاوة قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعها، فإذا أريد بها الكلام نفسه الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره.
ولم يكن أحد من السلف يريد بالتلاوة ومجرد قراءة العباد وبالمتلو مجرد معنى واحد يقوم بذات الباري تعالى، بل الذي كانوا عليه أن القرآن كلام الله تكلم الله به بحروفه ومعانيه ليس شيء منه كلاماً لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما، بل قد كفر الله من جعله قول البشر، مع أنه سبحانه أضافه تارة إلى رسول من البشر وتارة إلى رسول من الملائكة، فقال تعالى:" إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد
(1) يعبر عن الأول بالمعنى المصدري وعن الثاني بالحاصل بالمصدر
رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين " فالرسول هنا جبريل وأضافه سبحانه إلى كل منهما باسم رسول لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئاً منه، إذ لو كان قد أحدث منه شيئاً لم يكن رسولاً فيما أحدثه بل كان منشئاً له من تلقاء نفسه، وهو سبحانه يضيف إلى رسول من الملائكة تارة ومن البشر تارة، فلو كانت الإضافة لكونه أنشأ حروفه لتناقض الخبران، فإن أنشأ أحدهما له يناقض إنشاء الآخر له، وقد كفر الله تعالى من قال إنه قول البشر، فمن قال أن القرآن أو شيئاً منه قول بشر أو ملك فقد كذب، ومن قال أنه قول رسول من البشر ومن الملائكة بلغه عن مرسله ليس قول
…
(1) ولم يقل أحد من السلف إن جبريل أحدث ألفاظه ومحمداً صلى الله عليه وسلم ولا أن الله تعالى خلقها في الهواء أو غيره من المخلوقات، ولا أن جبريل أخذها من اللوح المحفوظ بل هذه الأقوال هي من أقوال بعض المتأخرين، وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على تنازع المبتدعين الذين اختلفوا في الكتاب وبين فساد أقوالهم، وأن القول السديد هو قول السلف وهو الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح وإن كان عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف بل ولا سمعوه ولا وجوده في كتاب من الكتب التي يتداولونها لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها، ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالاً مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره لأنه لا يعرفه ولهذا نجد الفاضل من هؤلاء حائراً مقراً بالحيرة على نفسه وعلى من سبقه من هؤلاء
(1) بياض بالأصل والمعنى يقتضي أن يكون المحذوف: ليس قولا أنشأه من عنده فقد صدق
المختلفين لأنه لم يجد فيما قالوه قولاً صحيحاً.
وكان أول من ابتدع الأقوال الجهمية المحضة النفاة الذين لا يثبتون الأسماء والصفات فكانوا يقولون أولاً إن الله تعالى لا يتكلم بل خلق كلاماً في غيره وجعل غيره يعبر عنه وإن قوله تعالى: " وإذا نادى ربك موسى " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " معناه أن ملكاً يقول ذلك عنه، كما يقال: نادى السلطان، أي أمر منادياً نادى عنه، فإذا تلي عليهم ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أنه يقول ويتكلم. قالوا: هذا مجاز. كقول العربي امتلأ الحوض، وقال قطني، وقالت (1) اتساع بطنه ونحو ذلك.
فلما عرف السلف حقيقته وأنه مضاه لقول المتفلسفة المعطلة الذين يقولون أن الله تعالى لم يتكلم وإنما أضافت الرسل إليه الكلام بلسان الحال كفروهم وبينوا ضلالهم، ومما قالوا لهم أن المنادي عن غيره كمنادي السلطان يقول: أمر السلطان بكذا خرج مرسومه بكذا، لا يقول إني آمركم بكذا وأنهاكم عن كذا، والله تعالى يقول في تكليمه لموسى:" إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " ويقول تعالى إذا نزل الليل الغابر: " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفر لي فاغفر له " وإذا كان القائل ملكاً قال - كما في الحديث الذي في الصحيحين: " إذا أحب الله العبد نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل وينادي في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض " فقال جبريل في ندائه عن الله تعالى: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، وفي نداء الرب يقول:" من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " كان قيل: فقد روي أنه يأمر منادياً
(1) كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه شيء
فينادي، قيل هذا ليس في الصحيح، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر منادياً ينادي. أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول:" من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " فلا يجوز.
وكذلك جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً ولا حياً ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز، قال لأنه إذا سمي باسم تسمى به المخلوق كان تشبيهاً، وكان جهم مجبراً يقول: إن العبد لا يفعل شيئاً، فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادراً لأن العبد عنده ليس بقادر.
ثم إن المعتزلة الذين اتبعوا عمرو بن عبيد على قوله في القدر والوعيد دخلوا في مذهب جهم، فأثبتوا أسماء الله تعالى ولم يثبتوا صفاته، وقالوا نقول أن الله متكلم حقيقة، وقد يذكرون إجماع المسلمين على أن الله متكلم حقيقة، لئلا يضاف إليهم أنهم يقولون أنه غير متكلم، لكن معنى كونه سبحانه متكلماً عندهم أنه خلق الكلام في غيره، فمذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون هو متكلم حقيقة وأولئك ينفون أن يكون متكلماً حقيقة. وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام، ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولا محب ولا راض ولا مبغض ولا رحيم إلا من قام به الإرادة والمحبة والرضى والبغض والرحمة، وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة، وغيرهم من أئمة المسلمين ليس فيهم من يقول بقول المعتزلة لا في نفي الصفات ولا في القدر ولا المنزلة بين المنزلتين ولا إنفاذ الوعيد.
ثم تنازع المعتزلة والكلابية في حقيقة المتكلم، فقالت المعتزلة: المتكلم من فعل الكلام ولو أنه أحدثه في غيره، ليقولوا أن الله يخلق الكلام في غيره وهو متكلم به، وقالت الكلابية: المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلماً بمشيئته
وقدرته ولا فعل فعلاً أصلاً، بل جعلوا المتكلم بمنزلة الحي الذي قامت به الحياة، وإن لم تكن حياته بمشيئته ولا قدرته الحاصلة بفعل من أفعاله.
وأما السلف وأتباعهم وجمهور العقلاء فالمتكلم المعروف عندهم من قام به الكلام وتكلم بمشيئته وقدرته، لا يعقل متكلم لم يقم به الكلام ولا يعقل متكلم بغير مشيئته وقدرته، فكان كل من تينك الطائفتين المبتدعتين أخذت بعض وصف المتكلم: المعتزلة أخذوا أنه فاعل والكلابية أخذوا أنه محل الكلام، ثم زعمت المعتزلة أنه يكون فاعلاً للكلام في غيره وزعموا هم ومن وافقهم من أتباع الكلابية كأبي الحسن وغيره أن الفاعل لا يقوم به الفعل، وكان هذا مما أنكره السلف وجمهور العقلاء، وقالوا لا يكون الفاعل إلا من قام به الفعل، وإنه يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول وذكر البخاري في كتابه خلق أفعال العباد إجماع العلماء على ذلك. والذين قالوا أن الفاعل لا يقوم به الفعل وقالوا مع ذلك أن الله فاعل أفعال العباد كأبي الحسن (1) وغيره أن يكون الرب (2) هو الفاعل لفعل العبد وأن العبد لم يفعل شيئاً وأن جميع ما يخلقه العبد فعل له، وهم يصفونه بالصفات الفعلية المنفصلة عنه، ويقسمون صفاته إلى صفات ذات وصفات أفعال مع أن الأفعال عندهم هي المفعولات المنفصلة عنه فلزمهم أن يوصف بما خلقه من الظلم والقبائح مع قولهم أنه لا يوصف بما خلقه من الكلام وغيره فكان هذا تناقضاً منهم تسلطت به عليهم المعتزلة. ولما قرروا ما هو من أصول أهل السنة وهو أن المعنى إذا قام بمحل اشتق به منه اسم ولم يشتق لغيره منه اسم كاسم المتكلم نقض عليهم المعتزلة ذلك باسم الخالق والعادل فلم يجيبوا عن النقض بجواب سديد.
(1) أبو الحسن الأشعري
(2)
كذا في الأصل ولعله سقط منه شيء "كأنكروا" فإنهم يقولون أن السيد هو الفاعل لفعله من أكل وشرب ونوم ولو كان الله هو الفاعل لذلك لوجب أن يقال أنه هو الآكل الشارب النائم لأن الفاعل من قام به الفعل
وأما السلف والأئمة فأصلهم مطرد. ومما احتجوا به على أن القرآن غير مخلوق ما احتج به الإمام أحمد وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بكلمات الله التامات " قالوا والمخلوق لا يستعاذ به، فعورضوا بقوله:" أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فطرد السلف والأئمة أصلهم وقالوا معافاته فعله القائم به، وأما العافية الموجودة في الناس فهي مفعوله.
وكذلك قالوا أن الله خالق أفعال العباد فأفعال العباد القائمة بهم مفعولة له لا نفس فعله، وهي نفس فعل العبد، وكان حقيقة قول أولئك نفي فعل الرب ونفي فعل العبد. فتسلطت عليهم المعتزلة في مسألة الكلام والقدر تسلطاً بينوا به تناقضهم كما بينوا هم تناقض المعتزلة.
وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعياً له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقاً لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وممن له قلب يعقل به وأذن يسمع بها، بخلاف الذين قالوا:" لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ".
وقد وافق الكلابية على قولهم كثير من أهل الحديث والتصوف ومن أهل الفقه المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وليس من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين من يقول بقولهم.
وحدث مع الكلابية ونحوهم طوائف أخرى من الكرامية وغير الكرامية من أهل الفقه والحديث والكلام فقالوا أنه سبحانه متكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته، ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا أنه لم يكن يمكنه في الأول أن يتكلم بل صار
الكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً عليه، من غير حديث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه، وهذا القول مما وافق الكرامية عليه كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل قولهم. وهذا مما شاركوا فيه الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء كلهم يقولون أنه لم يكن الكلام ممكناً له في الأزل ثم صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً عليه من غير حدوث سبب أوجب إمكانه لكن الجهمية والمعتزلة يقولون أنه خلق كلاماً في غيره من غير أن يقوم به كلام لأنه لو قام به كلام بمشيئته وقدرته لقامت به الحوادث قالوا: ولا تقوم به الحوادث، قالت الجهمية والمعتزلة لأن الحوادث هي من جملة الصفات التي يسمونها الأعراض، وعندهم لا يقوم به شيء من الصفات قالوا لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس هو بجسم لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وقالت الكلابية: بل تقوم به الصفات ولا تقوم به الحوادث، ونحن لا نسمي الصفات أعراضاً لأن العرض عندنا لا يبقى زمانين وصفات الله تعالى باقية، وقالوا وأما الحوادث فلو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فقال الجمهور المنازعون للطائفتين أما قول أولئك لأنه لا تقوم به الصفات لأنها أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس بجسم، فتسمية ما يقوم بغيره عرضاً اصطلاح حادث، وكذلك تسمية ما يشار إليه جسماً اصطلاح حادث أيضاً، والجسم في لغة العرب هو البدن وهو الجسد كما قال غير واحد من أهل اللغة منهم الأصمعي وأبو عمرو، فلفظ الجسم يشبه لفظ الجسد وهو الغليظ الكثيف.
والعرب تقول هذا جسيم وهذا أجسم من هذا أي أغلظ منه. قال تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم ". وقال تعالى: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " ثم قد يراد بالجسم نفس الغلظ والكثافة ويراد به الغليظ الكثيف.
وكذلك النظار يريدون بلفظ الجسم تارة المقدار وقد يسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر وهو الجسمي الطبيعي، والمقدار المجرد عن المقدر كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان. وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن. قالوا وإذا كان هذا معنى الجسم بلغة العرب فهو أخص من المشار إليه، فإن الروح القائمة بنفسها لا يسمونها جسماً، بل يقولون خرجت روحه من جسمه ويقولون إنه جسم وروح ولا يسمون الروح جسماً، ولا النفس الخارج من الإنسان جسماً، لكن أهل الكلام اصطلحوا على أن كل ما يشار إليه يسمى جسماً، كما اصطلحوا على أن كل ما يقوم بنفسه جوهراً، ثم تنازعوا في أن كل ما يشار إليه هل هو مركب من الجواهر الفردة أو من الماردة والصورة أو ليس مركباً لا من هذا ولا من هذا على أقوال ثلاثة قد بسطت في غير هذا الموضع، ولهذا كان كثير منهم يقولون الجسم عندنا هو القائم بنفسه أو هو الموجود لا المركب.
قال أهل العلم والسنة: فإذا قالت الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات أن الصفات لا تقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، قيل لهم إن أردتم بالجسم ما هو مركب من جواهر فردة أو ما هو مركب من المادة والصورة لم نسلم لكم المقدمة الأولى وهي قولكم أن الصفات لا تقوم إلا بما هو كذلك، قيل لكم إن الرب تعالى قائم بنفسه والعباد يرفعون أيديهم إليه في الدعاء ويقصدونه بقلوبهم وهو العلي إلا علا سبحانه، ويراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة عياناً كما يرون القمر ليلة البدر، فإن قلتم إن ما هو كذلك فهو جسم وهو محدث، - كان هذا بدعة مخالفة للغة والشرع والعقل، وإن قلتم نحن نسمي ما هو كذلك جسماً ونقول إنه مركب - قيل تسميتكم التي ابتدعتموها هي من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن عمد إلى المعاني بالشرع والعقل وسماها بأسماء منكرة لينفر الناس عنها قيل له
النزاع في المعاني لا في الألفاظ ولو كانت الألفاظ موافقة للغة، فكيف إذا كانت من ابتداعهم، ومعلوم أن المعاني التي يعلم ثبوتها بالشرع والعقل لا تدفع بمثل هذا النزاع اللفظي الباطل، وأما قولهم إن كل ما كان يقوم به الصفات وترفع الأيدي إليه ويمكن أن يراه الناس بأبصارهم فإنه لا بد أن يكون مركباً من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهذا ممنوع بل هو باطل عند جمهور العقلاء من النظار والفقهاء وغيرهم، كما قد بسط في موضعه.
قال الجمهور وإما تفريق الكلابية بين المعاني التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث - ومنهم من يسمي الصفات أعراضاً لأن العرض لا يبقى زمانين - فيقال قول القائل أن العرض الذي هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف، بل من الناس من يقول أنه معلوم الفساد بالاضطرار، كما قد بسط في موضع آخر.
وأما تسمية المسمي للصفات أعراضاً فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم، والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيها اختلاف الاصطلاحات، بل يعد هذا من النزاعات اللفظية، والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف، فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين، وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفضيل ليس هذا موضعه.
وأما قول الكلابية ما يقبل الحوادث لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، فقد نازعهم جمهور العقلاء في كلا المقدمتين حتى أصحابهم المتأخرون نازعوهم في ذلك، واعترفوا ببطلان الأدلة العقلية التي ذكرها سلفهم على نفي
حلول الحوادث به، واعترف بذلك المتأخرون ومن أئمة الأشعرية والشيعة والمعتزلة وغيرهم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وحدثت طائفة أخرى من السالمية وغيرهم ممن هو من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف ومنهم كثير ممن هو ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وكثر هذا في بعض المتأخرين المنتسبين إلى أحمد بن حنبل فقالوا بقول المعتزلة وبقول الكلابية: وافقوا هؤلاء في قولهم أنه قديم، ووافقوا أولئك في قولهم أنه حروف وأصوات، وأحدثوا قولاً مبتدعاً كما أحدث غيرهم فقالوا القرآن قديم وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لنفس الله تعالى أزلاً وأبداً. واحتجوا على أنه قديم بحجج الكلابية، وعلى أنه حروف وأصوات بحجج المعتزلة. فلما قيل لهم الحروف مسبوقة بعضها ببعض فالباء قبل السين والشين قبل الميم، والقديم لا يسبق بغيره، والصوت لا يتصور بقاؤه فضلاً عن قدمه، قالوا الكلام له وجود وماهية، كقول من فرق بين الوجود والماهية من المعتزلة وغيرهم. قالوا: والكلام له ترتيب في وجوده، وترتيب ماهية الباء للسين بالزمان هي في وجوده وهي مقارنة لها في ماهيتها لم تتقدم عليها بالزمان وإن كانت متقدمة بالمرتبة كتقدم بعض الحروف المكتوبة على بعض، فإن الكاتب قد يكتب آخر المصحف قبل أوله ومع هذا فإذا كتبه كان أوله متقدماً بالمرتبة على آخره.
فقال لهم جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالاضطرار فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الوجود في الخارج دعوى فاسدة كما قد بسط في موضع آخر. والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول
يعني بالقديم أنه بدأ من الله وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح لكن الذين نازعوا هل هو قديم أو قديم لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم إنه قديم وأراد هذا المعنى قد أراد معنى صحيحاً لكنه جاهل بمقاصد الناس مضل لمن خاطبه بهذا الكلام مبتدع في الشرع واللغة.
ثم كثير من هؤلاء يقولون أن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف ومنهم من يقول بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول بل يسمع من القارئ شيئان الصوت القديم وهو ما لا بد منه في وجود الكلام والصوت المحدث وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون المداد الذي في المصحف مخلوق لكن الحروف القديمة ليست هي المداد بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد أنه قديم أو مخلوق، وقد يقول لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا من يتكلم بالحق ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض، وخوض الناس وتنازعهم في هذا الباب كثير قد بسطناه في مواضع، وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع يبين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام، والله تعالى أعلم.
مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم
عليه السلام
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه عن رجلين تجادلا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنهما قديمة ليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. فقال الآخر ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها، والقديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسألا أيهما أصوب قولاً وأصح اعتقاداً؟ فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. أصل هذه المسألة هو معرفة كلام الله تعالى ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فكلامه قائم بذاته، ليس مخلوقاً بائناً عنه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، لم يقل أحد من سلف الأمة أن كلام الله مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم أن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلاً وأبداً، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قالوا أن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية، بل قالوا لم يزل الله متكلماً إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وكلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى:" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " والله سبحانه تكلم بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية، فالقرآن العربي كلام الله، كما قال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إلى قوله - لسان
عربي مبين " فقد بين سبحانه أن القرآن الذي يبدل منه آية مكان آية نزله الروح القدس وهو جبريل - وهو الروح الأمين كما ذكر ذلك في موضع آخر - من الله بالحق، وبين بعد ذلك أن من الكفار من قال: " إنما يعلمه بشر " كما قال بعض المشركين يعلمه رجل بمكة أعجمي، فقال تعالى: " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي الذي يضيفون إليه هذا التعليم أعجمي " وهذا لسان عربي مبين " ففي هذا ما يدل على أن الآيات التي هي لسان عربي مبين نزلها روح القدس من الله بالحق كما قال في الآية الأخرى: " أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين " والكتاب الذي أنزل مفصلاً هو القرآن العربي باتفاق الناس، وقد أخبر أن الذين أتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، والعلم لا يكون إلا حقاً فقال " يعلمون " ولم يقل يقولون، فإن العلم لا يكون إلا حقاً بخلاف القول، وذكر علمهم ذكر مستشهداً به، وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح - إلى قوله - حجة بعد الرسل " فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر، وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى قوله - روح القدس ".
وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً " إلى آخر السورة، فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة، إما حياً وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى، وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال:" وناديناه من جانب الطور " الآية. وقال: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن " الآية، والنداء باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتاً مسموعاً، فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم، وأهل الكتاب يقولون إن موسى ناداه ربه نداء سمعه
بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى، والصوت لا يكون إلا كلاماً والكلام لا يكون إلا حروفاً منظومة، وقال قال تعالى:" تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقال: " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وقال: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله، وهذا معنى قول السلف: منه بدا، قال أحمد ابن حنبل رحمه الله: منه أي هو المتكلم به، فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره عبداً فبدا من ذلك المخلوق، فقال السلف: منه بدا، أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاماً لذلك المحل الذي خلقه فيه، فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين، فإذا خلق طعماً أو لوناً في محل كان ذلك المحل هو المتحرك (1) المتكون به، وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علماً أو كليهما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام، ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين، وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات، لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات، فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني، ومن جعل كلامه مخلوقاً لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى:" إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاماً إلا لرب العالمين، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقاً بل كان ذلك لرب العالمين (2) ، وقد قيل للإمام أحمد
(1) قوله المتحرك غير ظاهر لأن ما قبله ليس فيه معنى الحركة فإما أن يكون قد سقط منه شيء وأما أن يقال المتصف أي بالطعم واللون
(2)
لعل الأصل صفة أو كلاما لرب العالمين
بن حنبل أن فلاناً يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا ألف، فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال أن الحروف مخلوقة، لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقاً لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقاً وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة، مخالف للأدلة العقلية والسمعية، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة أن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال، وإما من غيره، وهؤلاء يقولون: إنما كلم الله موسى من سماء عقله أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج، وأصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء، بل يقولون أن الله لا يعلم الجزئيات، فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة، فقالوا مثل ذلك، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهم كثيروا التناقض، كقولهم أن الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى فيقولون: هو عقل وعاقل ومعقول، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم محب محبوب، ويقولون نفس العلم هو نفس المحبة، وهو نفس القدرة، ونفس العلم هو نفس العالم، ونفس المحبة هي نفس المحبوب، ويقولون أنه علة تامة في الأزل، فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان، ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان، ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئاً بعد
شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.
وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث، ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه، كما قال تعالى:" إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخياً عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان.
والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك، فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته، فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال كلامه لا يكون إلا حادثاً، لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً، وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم.
ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائماً به، وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين، لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.
ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، لأن ذلك يلتزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع.
قالت هذه الطوائف: ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها.
ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة، وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء، أما الأول فهو حادث بالضرورة لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث.
وأما جنس الحوادث شيئاً بعد شيء تنازع فيه الناس، فقيل أن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما، وقيل بل هو جائز في المستقبل دون الماضي لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، وهو قول كثير من طوائف النظار. وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وإن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته. وهو أيضاً قول أئمة الفلاسفة، لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ويقولون إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء، فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض بل هو خالق كل شيء وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن. وأن القديم الأزلي هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها.
ثم لما تكلم في النبوات من اتبع أرسطو كابن سينا وأمثاله ورأوا ما جاءت به الأنبياء من أخبارهم بأن الله يتكلم وأنه كلم موسى تكليماً وأنه خالق كل شيء،
أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون: الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني بمعنى أنه معلول وإن كان أزلياً لم يزل مع الله، وقالوا: إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون في أيام، وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن كما قال:" وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً " والعقول الصريحة توافق ذلك وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارناً للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وإن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول، وقالوا لهؤلاء قولكم:" إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره، فإن أردتم الأول لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن أردتم الثاني لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وإن كان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء، وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء، وإن أردتم فسد قولكم لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلاً لها من غير تجدد سبب يوجب الأحداث، وهذا يناقض قولكم، فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين، وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه.
وأيضاً فكونه فاعلاً لمفعول معين مقارن له أزلاً وأبداً في صريح العقل، وأيضاً فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب والضروري الممتنع لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً أخرى، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضرورياً واجباً يمتنع عدمه، وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا، وذكره في كتبه المشهورة كالشفاء وغيره، ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديماً أزلياً ولا يزال، وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، وزعم أنه له ماهية غير وجوده، وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع.
والقول الثاني للناس في كلام الله تعالى قول من يقول إن الله لم يقم به صفة من الصفات، لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة ولا رحمة ولا غضب ولا غير ذلك، بل خلق كلاماً في غيره فذلك المخلوق هو كلامه، وهذا قول الجهمية والمعتزلة. وهذا القول أيضاً مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم، وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم، بل لهم شبه عقلية فاسدة قد بينا فسادها في غير هذا الموضع، وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج، وهم لا الإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا.
والقول الثالث قول من يقول أنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلاً وأبداً، وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم، لكن قالوا الرب يقوم به الصفات ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية.
وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن
كلاب، ثم افترق موافقوه، فمنهم من قال ذلك الكلام معنى واحد هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وقالوا معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، وقالوا الأمر والنهي والخبر صفات الكلام لا أنواع له، ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر والخبر يعود إلى العلم.
وجمهور العقلاء يقولون قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة، وهؤلاء يقولون تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى، فقيل لهم: أفهم كل الكلام أم بعضه؟ إن كان فهمه كله فقد علم علم الله، وإن كان فهم بعضه فقد تبعض، وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد، وقيل لهم: لقد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره، وعلى أصلكم لا فرق، وقيل لهم: قد كفر الله من جعل القرآن العربي قول البشر، وقد جعله تارة قول رسول من البشر، وتارة قول رسول من الملائكة، فقال في موضع:" إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون " فهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في الآية الأخرى:" إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل، فأضافه تارة إلى الرسول الملكي وتارة إلى الرسول البشري، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد فقيل لهم: لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر، وهو سبحانه إضافة إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي، فدل على ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه، بل قد كفر من قال أنه قول البشر.
والطائفة الأخرى التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته
قالت بل الكلام القديم هو حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلاً وأبداً لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئاً بعد شيء، ولا يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام وبين عين الحروف قديمة أزلية، وهذا أيضاً مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة، فإن الحروف المتعاقبة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديماً أزلياً وإن كان جنسها قديماً، لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها وحروف متعاقبة لا نهاية لها، وامتناع كون كل منها قديماً أزلياً، فإن المسبوق بغيره لا يكون أزلياً، وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها فقال: الترتيب في ماهيتها لا في وجودها، وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره، فإن ماهية الكلام هو حروف لا يكون شيئاً بعد شيء، والصوت لا يكون إلا شيئاً بعد شيء، فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزلياً متقدماً عليها به، مع أن الفرق بينهما لو قدر الفرق بينهما، ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها أيضاً مترتباً متعاقباً.
ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك، وكان أظهر فساداً مما قبله، فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد.
وطائفة خامسة قالت: بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أولها، وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل كما فعله أولئك. ثم جعلوا الفعل والكلام ممكناً مقدوراً من غير تجدد شيء، أوجب القدرة والإمكان كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة.
وأما السلف فقالوا: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وإن الكلام صفة كمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، ومن
يتكلم بمشيئته وقدرته ممن يكون الكلام لازماً لذاته ليس عليه قدرة ولا له فيه مشيئته، والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له، ولا يكون الموصوف متكلماً عالماً قادراً إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة، وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفاً بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفاً بها لو كان حدوثها ممكناً، فكيف إذا كان ممتنعاً؟ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، ومن أجلها الكلام، فلم يزل متكلماً إذا شاء ولا يزال كذلك، وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن العربي، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة لأن الله تكلم بها.
فصل: ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين، وسبب نزاعهم أمران: أحدهما أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه، وبين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ، فإن القرآن كلام الله تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم. فإذا قال القارئ " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم " كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" زينوا القرآن بأصواتكم " وكان يقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي بلغه كلام ربه وبين أن القارئ يقرأه بصوت نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال أحمد والشافعي وغيرهما: هو تحسينه بالصوت، قال أحمد بن حنبل:
يحسنه بصوته، فبين أن القارئ يحسن القرآن بصوته نفسه.
والسبب الثاني أن السلف قالوا كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم أن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلاً منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء، فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض.
فمن قال أن حروف المعجم كلها مخلوقة وأن الله تعالى (1) مخالفاً للمعقول الصريح، والمنقول الصحيح، ومن قال أن نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئاً من ذلك قديم فقد خالف أيضاً أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهراً لكل أحد، وكان مبتدعاً قولاً لم يقله أحد من أئمة المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك، ومن قال أن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل، ومن قال أن جنس الحروف التي كلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقاً والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب.
وإذا قال أن الله هدى عباده وعلمهم البيان فأنطقهم بها باللغات المختلفة وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه
(1) كذا بالأصل ويظهر أنه قد سقط من هنا شيء فان قوله (وأن الله تعالى) ليس له خبر يتم به الكلام.وهو تمهيد للجواب عن الأقوال التي تقدم سؤال شيخ الإسلام عنها في صفحة 35 وفيه أن الذين قالوا أنها مخلوقة بشكلها ونقطها إلخ وقوله " مخالفا للمعقول" سقط من قبله العامل فيه ولعله قال فقد قال قولا مخالفاً إلخ
وأسمائه فهذا قد أصاب، فالإنسان وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق، والعباد إذا قرؤوا كلامه فإن كلامه الذي يقرؤونه هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقاً وكان ما يقرؤون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقاً، وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوباً في المصاحف وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق، وقد فرق سبحانه وتعالى بين كلامه وبين مداد كلماته بقوله تعالى:" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " وكلمات الله غير مخلوقة والمداد الذي يكتب به كلمات الله مخلوق والقرآن المكتوب في المصاحف غير مخلوق، وكذلك المكتوب في اللوح المحفوظ وغيره قال تعالى:" بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " وقال: " كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة ". وقال تعالى: " يتلو صحفنا مطهرة، فيها كتب قيمة " وقال: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون ".
فصل: فهذا المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. وقال الآخر: إنها ليست بكلام وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها وإن القديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقاداً، يقال لهما: يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل فإن كثيراً من نزاع العقلاء لكونهما (1) لا يتصوران مورد النزاع تصوراً
(1) أي لكون المتنازعين منهم
بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنياً على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع فأول ما في هذا السؤال قولهما: الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في المعارف وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن منبه وكعب الأحبار، ومالك ابن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولاً عن خاتم المرسلين، وأيضاً فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو أن من خط وخاط إدريس، فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه إن إدريس أول من خاط الثياب وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرؤون كتباً. والذي في حديث أبي ذر المعروف عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن آدم كان نبياً مكلماً كلمه الله قبلاً " وليس فيه أنه أنزل عليه شيئاً مكتوباً، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتاباً ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له ولو كان هذا معروفاً عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ".
والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف
مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع، ولكم لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض فيعلم أبجد هوز، وليس هذا وحده كلاماً.
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل، ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير اب ت ث، وتفسير أبجد هوز حطي، ويروونه عن المسيح أنه قال لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب كالشريف المزيدي والشيخ أبي الفرج وابنه عبد الوهاب وغيرهم، وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين، وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين عن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره (1) فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل، فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير أبجد هوز حطي، وذكر حديثاً رواه من طريق محمد بن زياد الجزري عن فرات ابن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد " قال: قالوا يا رسول الله وما تفسيرها؟ قال: " أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه، وأما الباء فبهاء الله، وأم الجيم فجلال الله، وأما الدال فدين الله،
(1) في هذا التركيب نظر والمعنى أن هذا إن كان النقاش والمزيدي وأبو الفرج وابنه قد ذكره وسكتوا عليه فابن جرير قد ذكره وصرح ببطلانه وهو أجل منهم
وأما الهاء فالهاوية، وأما الواو فويل لمن سها، وأما الزاي فالزاوية، وأما الحاء فحطوط الخطايا عن المستغفرين بالأسحار " وذكر تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثاً ثانياً من حديث عبد الرحيم بن واقد حدثني الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: ليس شيء إلا وله سبب وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثاً عجيباً، أما أبو جاد فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي فحطت عنه خطيئته، وأما كلمن فأكله من الشجرة ومن عليه بالتوبة " وساق تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثاً ثالثاً من حديث إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر بن كدام عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال له عيسى: وما بسم الله؟ فقال له المعلم: ما أدري. فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم ملكه، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة، أبو جاد ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز هاء الهاوية " وذكر حديثاً من هذا الجنس وذكره عن الربيع بن أنس موقوفاً عليه.
وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثاً عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير اب ت ث من هذا الجنس.
ثم قال ابن جرير: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الحزري الذي حدث حديث معاوية بن قرة عن فرات عنه غير موثوق بنقله، وأن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل
بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مليكة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره.
قلت: إسماعيل بن يحيى هذا يقال له التيمي كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين فإنه حافظ لحديث أهل بلده كثير الغلط في حديث أولئك، وهذا متفق عليه بين أهل العلم بالرجال، وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم، وفرات بن السائب ضعيف أيضاً لا يحتج به فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً.
وقد تنازع الناس في أبجد هوز حطي، فقال طائفة هي أسماء قوم، قيل أسماء ملوك مدين أو أسماء قوم كانوا ملوكاً جبابرة، وقيل هي أسماء الستة أيام التي خلق الله فيها الدنيا، والأول اختيار الطبري، وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب.
والصواب أن هذه ليست أسماء لمسميات وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم، ولفظها: أبجد، هوز، حطي. ليس لفظها أبو جاد هواز.
ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحداً، والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون الكاف عشرون. . . وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون كل ألف ب وكل ب ج فكل ألف ج. ومثلوا بهذه لكونها ألفاظاً تدل على صورة الشكل. والقياس لا يختص بمادة دون مادة، كما جعل أهل التصريف لفظ فعل تقابل الحروف الأصلية، والزائدة ينطقون بها ويقولون وزن استخرج استفعل، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل
والزائد ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن نكتل فقال نفعل، وضحك منه أهل التصريف ووزنه عندهم نفتل فإن أصله نكتال، وأصل نكتال نكتيل تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في نعتد ونقتد من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده.
ونحو ذلك في نقتيل فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها وجعلت ثمانية تكون متحركة وهي الهمزة (1) ، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة، ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء فجعلوا اللام قبلها فقالوا لا، والتي في الأول هي الهمزة المتحركة فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها لام ألف، والصواب أن ينطق بها لا، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها.
الثاني أن يقال هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف مثل قوله " الم "، وقوله " المص " قوله " الم طس - حم - كهيعص - حمعسق - ن - ق " فهذا كله كلام الله غير مخلوق.
الثالث أن هذه الحروف إذا وجدت في الكلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة
(1) قوله:ونحو ذلك في نقتيل - إلى هنا - محرف فكلمة نقتيل ليست من الناقص فتكون لام الكلمة في وزنها ألفا منقلبة وقوله " صار وزنها " قد سقط خبره ولو ذكر لعرفنا أصل الكلمة: وقوله " جعلت ثمانية " غير مفهوم فيفهم به ما قبله وما بعده إلخ
في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم ونوح ومحمد وإبراهيم وغير ذلك، فيقال هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها لكن لم يتكلم بها مفردة، فإن الاسم وحده ليس بكلام ولكن يتكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله:" محمد رسول الله " وقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً - إلى قوله - رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي " وقوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " ونحو ذلك ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل: ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق.
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى، لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد. فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة والصوت الذي سمعه منه موسى ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده، فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو سبحانه فقد علم العباد من علمه ما شاء كما قال تعالى:" ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقاً ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقاً، فلا يقال إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقاً.
وأصل هذا أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق (1) به ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك، مثل الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فإن الله له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه. فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب. وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب والعبد، فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب، وإذا قال العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال
(1) يعني أن الاشتراك في اطلاق الوصف لا يقتضي المساواة ولا المشابهة في الصفة فضلا عن مشابهة الموصوف. وقد اختلف العلماء هل هو اشتراك في الجنس أو في الاسم؟ وسببه أنه لا يمكن تعريف الوحي والرسل عباد الله بربهم وصفاته إلا بلغاتهم التي يفهمونها (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) فكان لابد من تسميته صفاته تعالى باسماء صفاتهم التي تدل عليها مع إعلامهم بعدم مماثلتها لها، قال الغزالي في بيان هذا المعنى ما حاصله: أن الله صفة يصدر عنها الإبداع والاختراع وبسند إلخ. الإيجاد والإعدام وهذه الصفة أجل وأرفع من أن تدركها عين واضع اللغة فيخصها باسم يدل على كنهها، فلما أريد أعلام البشر بها استعير لها من ألسنة المتخاطبين باللغات أقرب الكلمات دلالة عليها أو اشارة إلى عظمة شأنها وأثرها في الخلق وهي كلمة القدرة بالمعنى من غير مراجعة الأصل وهو في كتاب الشكر من الاحياء. وما يقال في القدرة في العلم والكلام والصوت به الذي هو مقتضى النداء الثابت بالقرآن والمصرح به في الحديث الصحيح خلافا لمن فرق بين هذه الصفات من المتكلمين بتحكم نظريات المذاهب
عليه كله أنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف؛ فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة، ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الجنب:" الحمد لله رب العالمين " ينوي به القرآن منع من ذلك وكان قرآناً، ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئاً وجاز ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " رواه مسلم في صحيحه. فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال هي من القرآن، فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل:" يا يحيى خذ الكتاب " ومقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب: يا يحيى خذ الكتاب لكان هذا مخلوقاً لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص وبالكتاب ذلك الكتاب، ليس مراداً به ما أراده الله بقوله:" يا يحيى خذ الكتاب " والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه.
وقد تنازع الناس في مسمى الكلام في الأصل، فقيل هو اسم اللفظ الدال على المعنى، وقيل المعنى المدلول عليه باللفظ، وقيل لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي، وقيل بل هو اسم عام لهما جميعاً يتناولهما عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة. هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب، وهذا كما تنازع الناس في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعاً، وإن كان
مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق، فمن سمى شخصاً محمداً وإبراهيم، وقال: جاء محمد وجاء إبراهيم لم يكن هذا محمد وإبراهيم المذكورين في القرآن، ولو قال: محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلامه فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به.
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في آداب الخلاء أنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله واحتجوا بالحديث الذي في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وكان خاتمه مكتوباً عليه " محمد رسول الله " محمد سطر، رسول سطر، الله سطر.
ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء (1) مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب. ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك، وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة أتاه سعد فقال له: أهذا شيء أمر الله به فسمعاً وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي بل فعله باجتهاده فقال:" لقد كنا في الجاهلية وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بقرى أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلون تمرنا؟ لا يأكلون تمرة واحدة " وبصق سعد في الصحيفة وقطعها فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها. وأيضاً فقد كره السلف محو القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين.
وأما قول القائل: إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ فإن له مبدأ ومنتهى، وهو مسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثاً.
(1) يعني بالعلماء الأئمة المجتهدين وقد قال بعض فقهاء الحنفية باحترام المكتوب من كلام الناس
وأيضاً فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاماً إلا بالحروف باتفاق الناس. وأما الحروف فهل تكون كلاماً بدون الصوت؟ فيه نزع. والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق، ومن كلام الله الحروف التي تكلم الله بها فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقاً. وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم.
والخط العربي قد قيل أن مبدأه كان من الأنبار ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته: العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها.
فإن قيل: فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق؟ فإن قلتم هو من حيث هو مخلوق لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم مخلوق لزم أن يكون مخلوقاً في كلام الله؟ قيل: قول القائل بل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو والعلم من حيث هو هو والقدرة من حيث هي هي، والوجود حيث هو هو، ونحو ذلك.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص مختص به وإن كان اسم الوجود عاماً يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحرف وليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين، فإذا قيل إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة.
وأيضاً فلفظ الحرف يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله:" الم - وحم - وطسم - وطس - ويس - وق - ون " ونحو ذلك فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقاً.
وأيضاً فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً، أمراً يأمر به أو خبراً يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله فيقال هذا كلام الله مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه
الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبداً، وإذا قال القائل القاف في قوله:" أقم الصلاة لذكري " كالقاف في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قيل وما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة والمخلوق يماثل المخلوق.
وفي هذا جواب للطائفتين لمن قاس ثفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة، فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود، والحلولية الممثلة أشباه النصارى دخلوا في هذا وهذا، أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائض التي تختص بالمخلوق كالفقر والبخل، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، والمسلمون يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال، وينزهونه عن الأكفاء والأمثال، فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات، فإن المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، والله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ".
ومما ينبغي أن يعرف أن كلام المتكلم في نفسه واحد، وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به فإذا أنشد المنشد قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه مع أن أصوات المنشدين له تختلف وتلك الأصوات ليست صوت لبيد، وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه كقوله:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه أدى الحديث بلفظه وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول، فالقرآن أولى أن يكون كلام
الله لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وفي بعض الروايات عنه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي، لأن اللفظ يراد به المصدر لفظ يلفظ لفظاً، ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق، ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ وذلك كلام الله لا كلام القارئ، فمن قال إنه مخلوق فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وإن هذا الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله، ومعلوم أن هذا مخالف لما علم الاضطرار من دين الرسول.
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد ولم يقل أحمد قط: من قال إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال لفظي بالقرآن، والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلغ له فرق واضح، فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير، ونفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي الإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق، وقال أحمد: نقول القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف أي حيث تلي وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرؤون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق، ولهذا لم يهتد إلى هذا الفرق يحار، فإنه معلوم أن القرآن واحد ويقرأه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة القراء وإنما يكثر
ما يقرؤون به القرآن فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به وسمعه جبريل من الله وسمعه محمد من جبريل وبلغه محمد إلى الناس وأنذر به الأمم لقوله تعالى:" لأنذركم به ومن بلغ " قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق، وليس هذا من باب ما هو واحد بالنوع متعدد الأعيان، كالإنسانية الموجودة في زيد وعمر، ولا من باب ما يقول الإنسان مثل قول غيره كما قال تعالى:" كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم " فإن القرآن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، كما قال تعالى:" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ". فالإنس والجن إذا اجتمعوا لم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن مع قدرة كل قارئ على أن يقرأه ويبلغه، فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس مثل ذلك القرآن، وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره فليس هذا هو ذاك بعينه بل هو نظيره، وإذا تكلم الله باسم من الأسماء كآدم ونوح وإبراهيم وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها فإذا قرئت في كلامه فقد بلغ كلامه، فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلاماً لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة، فإن بعض من قال أن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات، وقائل هذا يلزمه أن يكون أيضاً النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله:" يا يحيى خذ الكتاب " وإن أراد بذلك شخصاً اسمه يحيى وكتاباً بحضرته.
فإن قيل يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن وإن كان اللفظ نظير اللفظ، قيل كذلك سائر الأسماء والحروف إنما يوجد
نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله، وقولنا يوجد نظيرها في كلام الله تقريب أي يوجد فيما نقرأه ونتلوه، فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن، وكلا الصوتين مخلوق، وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين، وكلام الله هو كلامه بنظمه ومعانيه، وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فإذا قلنا:" الحمد لله رب العالمين " وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه لا يماثل لفظ المخلوقين ومعناهم، وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداءً من غير أن يقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكراً ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا، وننطق بلفظه بألسنتنا، وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن وإن كان نظيره في القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن فجعل درجتها دون درجة القرآن، وهذا يقتضي أنها ليست من القرآن. ثم قال: " هي من القرآن " وكلا قوليه حق وصواب، ولهذا منع أحمد أن يقال الإيمان مخلوق، وقال لا إله إلا الله من القرآن، وهذا الكلام لا يجوز أن يقال إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن، ولا يقال في التوراة والإنجيل إنهما مخلوقان، ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه أنها مخلوقة كقوله: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " فكلام الله قد يكون قرآناً وقد لا يكون قرآناً والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن، وكلام الله كله غير مخلوق.
فإذا فهم هذا في مثل هذا فليفهم في نظائره وإن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال إنه من كلام الله
باعتبار كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار، لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق، وكلام المخلوقين كله مخلوق، فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق وما كان من كلام غيره فهو مخلوق.
وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به، شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد، مثل ذلك أن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله قرؤوه بحركاتهم وأصواتهم، فقال الجهمي: أصوات العباد ومدادهم مخلوقة وهذا هو المسمى بكلام الله أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله فيكون كلام الله مخلوقاً.
وقال الحلواني الاتحادي الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق الذي نسمعه من القراء هو كلام الله وغنما نسمع أصوات العباد فأصوات العباد بالقرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة، ثم قالوا الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة، وراد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق والأعمال غير مخلوقة.
وزاد بعضهم أعمال الخير والشر وقال هي القدر والشرع والمشروع وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال الحركات بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة كما ورد في الحديث الصحيح " إنه تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف " فيقال له وهذا الثواب مخلوق، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق. وبذلك أجابوا من احتج على خلق القرآن بمثل هذا الحديث فقالوا له الذي يجيء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن وثواب القرآن مخلوق،
إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف والبدع تنشأ شيئاً فشيئاً وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع آخر.
وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية وطلب منهم تعطيل الصفات وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك، ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة فدفع حجج المعارضين النفاة وأظهر دلالة الكتاب والسنة وأن السلف كانوا على الإثبات فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماماً كما قال تعالى:" وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " ولهذا قيل فيه رحمة الله: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه.
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفاً بالأدلة الشرعية وليس في المعقول ما يخالف المنقول، ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل قال: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه، والفقه فيه معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية أحب إلي من أن تحفظ من غير معرفة وفقه، وهكذا قال
علي بن المديني وغيره من العلماء فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه فإنما أتي من نفسه.
وكذلك العقليات الصريحة إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها لم تكن إلا حقاً وتوحيده وصفاته وصدق رسله وبها يعرف إمكان المعاد، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها، قال تعالى:" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً " وقال: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " وقال: " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ".
وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة وحجج الجهمية معطلة الصفات وحجج الدهرية وأمثالها كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنعون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر.
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه السلف ومعرفة المعقول الصريح فإن هذا هو الكتاب وهذا هو الميزان وقد قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز " وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور إذا كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين
صفة المخلوق، ثم قال هؤلاء: وصفة المخلوق مخلوقة فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء: صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة، ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله فخرجوا إلى أقواله ظاهرة الفساد، خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن ولا شيء من الكتب الإلهية ولا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديماً أزلياً، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائماً بهم بل يكون ظاهراً فيهم من غير قيام بهم، ولما تكلموا في حروف المعجم صاروا بين قولين: طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا هذا مخالفة للحس والعقل فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا الحرف حرف واحد. وصنف في ذلك القاضي يعقوب البرزيني مصنفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه، وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتاً منه، ولا أكثر اجتهاداً منه، ولا تشاغلاً بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة، والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئاً من نفر من الدنيا.
وذكر القاضي يعقوب في مصنفه أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبة قاضي حران يقول هو مذهب العلوي الحراني وجماعة من أهل
حران.
وذكره أبو عبد الله بن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكاوذري في خلق من أتباعهم يقولون إنها قديمة.
قال القاضي أبو يعلى: وكذلك حكي لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا. وذكروه عن الشريف أبي علي بن أبي موسى وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله. وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له أن سرياً السقطي قال لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر. فقال أحمد هذا كفر. وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله: كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله: لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس، ويقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي: ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: فكلامك منك وهو مخلوق.
قلت: الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكر على من قال أن الله خلق الحروف، فإن من قال أن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئاً منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خنيس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن
الألف منتصبة في الخط ليس هي مضجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر، وأحمد أنكر قول القائل أن الله لما خلق الحروف، وروي عنه أنه قال: من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي، لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق. وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الأسماع لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته. وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف أن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم أن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم أن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدا ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في كتاب السنة وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل وأبي داود السجستاني صاحب السنن، والأثرم والمروذي وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري صاحب الصحيح وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه واختاره كعبد الرحمن
بن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصهباني وأمثال هؤلاء، ومن كان أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر، وقد ذكرنا في المسائل الطبرستانية والكيلانية بسط مذاهب الناس وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل.
والمقصود هنا أن كثيراً من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول إنه متبع لهم مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية وذلك لجهله بعلمهم بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعاً فاسدة يلتزمونها كما صرحوا في تكلم الله تعالى بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفاً أو مفرداً لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع الجمع والفرق، فقال هؤلاء: هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق وقال هؤلاء: هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق، كما ذكر ابن عقيل في كتاب الإرشاد عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق فهو شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم فقال: أقل ما في القرآن من إمارات الحدث كونه مشبهاً لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك، لأن قول القائل لغلامه يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسده، مع أنه إن جاز دعوى
قدم الكلام مع كونه مشاهداً للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفاً من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما أن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد إنه قديم محدث.
قلت: وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البرزيني ذكره في مصنفه فقال: دليل عاشر، وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم، وكذلك ها هنا، قال: فإن قيل لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل: لا نسلم بل لها حرمة.
فإن قيل: لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل: قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها كما يقال في الصبي يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه.
فإن قيل: فيجب إذا حلف بها حالف أن ينعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له: كما في حروف القرآن مثله نقول هنا.
فإن قيل: أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى مثل قوله: يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله وإن كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة؟ قيل: كل ما كان موافقاً لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله وإن قصد به خطاب آدمي.
فإن قيل: فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدمياً وهو في الصلاة أن لا تبطل صلاته، قيل له: كذلك نقول قد ورد ذلك عن علي وغيره إذ ناداه رجل من الخوارج " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " قال فأجابه علي وهو في الصلاة " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخلفنك الذين لا يوقنون " وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ".
قال: فإن قيل أليس إذا قال: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً؟ وإن نوى به القرآن يكون قديماً، قيل له: في كلا الحالين يكون قديماً لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديماً ولا القديم محدثاً، قال: ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ.
وقال أيضاً: كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض ولا يشبهه من جميع أحواله لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها.
قلت: هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله مع أنه أجل من تكلم في هذه المسألة ولما كان جوابه مشتملاً على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به.
وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا هذا مثل هذا بأن قال: الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالماً هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يبينه الواحد منا، وليس مماثلاً لنا في كوننا عالمين، وكذلك كونه قادراً هو صحة الفعل منه سبحانه وتعالى، وليس قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلاً، والافتراق في القدم والحدوث حاصل.
قال: وجواب آخر، لا نقول إن الله يتكلم بكلامه على الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى أنه يقول يا يحيى فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله خذ الكتاب بقوة وترتب في الوجود كذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل: يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه شابه الكلام القائم بذاته فلا.
قال ابن عقيل: قالوا فهذا لا يجيء على مذهبكم، فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قيل: ليس معنى قولنا هي المتلو أنها هذه الأصوات المقطعة وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لا بد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس وإدارة اللهوات، لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع والابتداء والانتهاء والتكرار والبعدية والقبلية، ومن قال ذلك لم يعرف حد القديم وادعى قدم الأعراض وتقطع القديم، وتقطع القديم عرض لا يقوم بقديم، ومن اعتقد أن كلام الله القائم بذاته على حد تلاوة التالي من القطع والوصل والتقريب والتبعيد والبعدية والقبلية فقد شبه الله بخلقه، ولهذا روي في الخير أن موسى سأله بنو إسرائيل: كيف سمعت كلام ربك؟ قال: كالرعد الذي لا يراجع، يعني ينقطع لعدم قطع الأنفاس وعدم الأنفاس والآلات والشفاه واللهوات ومن قال غير ذلك وتوهم أن الله تكلم على لسان التالي أو الكلام الذي قام بذاته على هذه الصفة من التقطيع والتقريب والتبعيد فقد حكم به محدثاً لأن الدلالة على حدوث العالم هو الاجتماع والافتراق، ولأن هذه من صفات الأدوات.
قلت: فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزيني، فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أن من تكلم في الصلاة بكلام الآدميين عامداً لغير مصلحتها عالماً بالتحريم بطلت صلاته
بالإجماع خلاف ما ذكره القاضي يعقوب، ومتى قصد به بالتلاوة لم تبطل بالإجماع وإن قصد به التلاوة والخطاب ففيه نزاع، وظاهر مذهب أحمد لا تبطل كمذهب الشافعي وغيره، وقيل تبطل كقول أبي حنيفة وغيره. وما ذكروه عن الصحابة حجة عليهم، فإن قال علي بن أبي طالب " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " هو كلام الله ولم يقصد علي أن يقول للخارجي ولا يستخفنك الخوارج وإنما قصد أن يسمعه الآية وأنه عامل بها صابر لا يستخفه الذين لا يوقنون، وابن مسعود قال لهم وهو بالكوفة " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " ومعلوم أن مصر بلا تنوين هي مصر المدينة وهذه لم تكن بالكوفة، وابن مسعود إنما كان بالكوفة فعلم أنه قصد تلاوة الآية وقصد مع ذلك تنبيه الحاضرين على الدخول فإنهم سمعوا قوله ادخلوا، فعلموا أنه أذن لهم في الدخول، وإن كان هو تلا الآية فهذا هذا.
وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كلاب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما وهو الأصل الذي وافقوه فيه ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته لامتناع قيام الأمور الاختيارية عندهم لأنها حادثة والله لا يقوم به حادث عندهم، ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل، كقوله تعالى:" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " فإن هذا يقتضي أنه سيرى الأعمال في المستقبل وكذلك قوله: " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " وقوله " اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله " وكذلك قوله: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " فإن هذا يقتضي أنه يحبهم بعد إتباع الرسول، وكذلك قوله تعالى:" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " فإن هذا يقتضي أنه قال لهم بعد خلق آدم وكذلك قوله تعالى: " فلما أتاها نودي " يقتضي أنه نودي
لما أتاها، لم يناد قبل ذلك، وكذلك قوله:" إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ومثل هذا في القرآن كثير.
وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال: احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، مع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل، وقد قيل أن الحارث رجع عن ذلك وأقر بأن الله يتكلم بصوت كما حكى عنه ذلك صاحب: التعرف لمذهب التصوف، أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي.
وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وافقوا ابن كلاب على هذا الأصل، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر.
واختلف كلام ابن عقيل في هذا الأصل، فتارة يقول بقول ابن كلاب وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث أن الله تقوم به الأمور الاختيارية، ويقول أنه قام به بأبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك، وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولاً أنه سيوجد، كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن كقوله تعالى " لنعلم من يتبع الرسول " وغير ذلك، وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف، تارة هذا وتارة يقول هذا، فإن هذه المواضع مواضع مشكلة كثر فيها غلط الناس لما فيها من الاشتباه والالتباس.
والجواب الحق أن كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين، كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين، وقول القائل أن الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث لفظ مجمل، فإنا إذا قلنا: لله علم ولنا علم، أو له قدرة ولنا قدرة، أو له كلام ولنا كلام، أو تكلم بصوت ونحن نتكلم بصوت، وقلنا صفة الخالق
وصفة المخلوق اشتركتا في الحقيقة - فإن أريد بذلك أن حقيقتهما واحدة بالعين فهذا مخالف للحس والعقل والشرع، وإن أريد بذلك أن هذه مماثلة لهذه في الحقيقة وإنما اختلفتا في الصفات العرضية، كما قال ذلك طائفة من أهل الكلام - وقد بين فساد ذلك في الكلام على الأربعين للرازي وغير ذلك - فهذا أيضاً من أبطل الباطل، وذلك يستلزم أن تكون حقيقة ذات الباري عز وجل مماثلة الحقيقة ذوات المخلوقين.
وإن أريد بذلك أنهما اشتركا في مسمى العلم والقدرة والكلام فهذا صحيح، كما أنه إذا قيل إنه موجود أو أن له ذاتاً فقد اشتركا في مسمى الوجود والذات، لكن هذا المشترك أمر كلي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان (1) فليس في الخارج شيء اشترك فيه مخلوقان كاشتراك الجزئيات في كلياتها بخلاف اشتراك الأجزاء في الكل فإنه يجب الفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الحيوان إلى ناطق وغير ناطق، وقسمة الإنسان إلى مسلم وكافر، وقسمة الاسم إلى معرب ومبني، وقسمة الكل إلى أجزائه كقسمة العقار بين الشركاء وقسمة الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ففي الأول إنما اشتركت الأقسام في أمر كلي فضلاً عن أن يكون الخالق والمخلوقون مشتركين في شيء موجود في الخارج وليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفة المخلوق، بل كل ما يوصف به الرب تعالى فهو مخالف بالحد والحقيقة لما يوصف به المخلوق أعظم مما يخالف المخلوق المخلوق، وإذا كان المخلوق مخالفاً بذاته وصفاته لبعض المخلوقات في الحد والحقيقة
(1) يظهر من هذا التفصيل أن شيخ الإسلام يرجح أن الاشتراك بين صفات الله وصفات المخلوق اشتراك في التسمية لا في الجنس الذي ينقسم إلى أنواع هي جزئياته. وهذا هو الذي اختاره شيخنا في درسه لرسالة التوحيد وذكرناه في حاشية لها وأشرنا إليه في حاشية سابقة على هذا الكتاب
فمخالفة الخالق لكل مخلوق في الحقيقة أعظم من مخالفة أي مخلوق فرض لأي مخلوق فرض، ولكن علمه ثبت له حقيقة العلم ولقدرته حقيقة القدرة ولكلامه حقيقة الكلام كما ثبت لذاته حقيقة الذاتية ولوجوده حقيقة الوجود، وهو أحق بأن تثبت له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه، فهذا هو المراد بقولنا: علمه علم المخلوق في الحقيقة، فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابهاً ولا مماثلاً لما سمعه موسى من صوته إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين، فهذا في نفس تكلمه سبحانه وتعالى بالقرآن، والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئاً من أصوات العباد، ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرأه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب، فالقرآن الذي نقرأه هو كلام الله مبلغاً عنه لا مسموعاً منه، وإنما نقرأه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل، قال الله تعالى:" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم ".
وقال الإمام أحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال: يزينه ويحسنه بصوته كما قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة أنا نقرأ القرآن بأصواتنا والقرآن كلام الله كله لفظه ومعناه، سمعه جبريل من الله وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه محمد منه، وبلغه محمد إلى الخلق، والخلق يبلغه بعضهم إلى بعض ويسمعه بعضهم من بعض، ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه كما قال:" نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه " فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم، وقد علم الفرق بين من يروي الحديث
بالمعنى لا باللفظ واللفظ المبلغ لفظ الرسول وهو كلام الرسول، فإن كان صوت المبلغ ليس صوت الرسول وليس ما قام بالرسول من الصفات والأعراض فارقته وما قامت بغيره، بل ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله، وإذا كان هذا معقولاً في صفات المخلوقين فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال وأبعد عن كل صفة نقص، والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق، وامتناع الاتحاد والحلول بالذات للخالق وصفاته في المخلوق عظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق، وهذه جمل قد بسطت في مواضع أخر.
هذا مع أن احتجاج الجهمية والمعتزلة بأن كلام المخلوق بقوله " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " مثل كلام الخالق غلط باتفاق الناس حتى عندهم، فإن الذين يقولون هو مخلوق يقولون أنه خلقه في بعض الأجسام أما الهواء أو غيره، كما يقولون أنه خلق الكلام في نفس الشجرة فسمعه موسى، ومعلوم أن تلك الحروف والأصوات التي خلقها الله ليست مماثلة لما يسمع من العبد وتلك هي كلام الله المسموع منه عندهم، كما أن أهل السنة يقولون الذي تكلم هو الله بمشيئته وليس ذلك مماثلاً لصوت العبد، وأما القائلون بعدم الكلام المعين سواء كان معنى أو حروفاً أو أصواتاً فيقولون خلق لموسى إدراكاً أدرك به ذلك القديم، وبكل حال فكلام المتكلم إذا سمع من المبلغ عنه (1) فكيف يكون ذلك في كلام الله تعالى.
(1) قد سقط من الناسخ هنا خبر "فكلام المتكلم" ويعلم مما سبق وهو أن ما قام بنفس المبلغ غير ما قام بنفس المتكلم المنشئ للكلام ولكنه مثله لتماثل كلام بشر، وبه يظهر قوله فكيف يكون ذلك في كلام الله تعالى؟ يعنى وهو لا يماثل كلام البشر
فيجب على الإنسان في مسألة الكلام أن يتحرى أصلين: أحدهما تكلم الله بالقرآن وغيره، هل تكلم به بمشيئته وقدرته أم لا؟ وهل تكلم بكلام قائم بذاته أم خلقه في غيره؟ والثاني بتبليغ ذلك الكلام عن الله وأنه ليس مما يتصف به الثاني وإن كان المقصود بالتبليغ الكلام المبلغ، وبسط هذا له موضع آخر.
وأيضاً فهذان المتنازعان إذا قال أحدهما إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث، وقال الآخر: إنها ليست بكلام الله وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها، قد يفهم من هذا أنهما أرادا بالحروف الحروف المكتوبة دون المنطوقة، والحروف المكتوبة قد تنازع الناس في شكلها ونقطها، فإن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة، فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقياً وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوباً كالتوراة، وأنزله منجماً مفرقاً ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب، كما قال تعالى:" وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الآية، وقال تعالى:" وقرآناً فرقناه " الآية، وقال تعالى:" ولا تعجل بالقرآن " الآية. وقال تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " الآية وفي الصحيح عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحركهما؛ فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال جمعه في صدرك ثم تقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " قال: فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أي نبينه بلسانك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه، فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون
المصاحف ويشكلونها، وأيضاً كانوا عرباً لا يلحنون فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل: يعملون، وتعملون، فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الآخرة، ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعلمون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك شد، ويعملون المدة بقولك مد، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل أنا وعلى شكل ثنا.
وتنازع العلماء هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها؟ على قولين معروفين وهما روايتان عن الإمام أحمد، لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط كما يجب احترام الحرف ولا تنازع بينهم أن مداد النقطة والشكل مخلوق كما أن مداد الحرف مخلوق، ولا نزاع بينهم أن الشكل يدل على الإعراب والنقط يدل على الحروف وأن الإعراب من تمام الكلام العربي ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، ولا ريب أن النقطة والشكلة بمجردهما لا حكم لهما ولا حرمة ولا ينبغي أن يجرد الكلام فيهما، ولا ريب أن إعراب القرآن العربي من تمامه ويجب الاعتناء بإعرابه، والشكل يبين إعرابه كما تبين الحروف المكتوبة للحرف المنطوق، كذلك يبين الشكل المكتوب للإعراب المنطوق.
فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصوراً تاماً ظهر لهم الصواب، وقلت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له الحق في شيء من
ذلك اتبعه ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بالدعاء لله، ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول:" اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
وأقول: القائل الآخر كلامه كتب بها يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ". قال الترمذي: حديث صحيح. فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد وإنما أراد الحرف المنطوق، وفي مراده بالحرف قولان: قيل هذا اللفظ المفرد، وقيل أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم كما قال ألف حرف ولام حرف وميم حرف.
ولفظ الحرف والكلمة له في لغة العرب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى، فالكلمة في لغتهم هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:" كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". وقال " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب له بها رضوان الله إلى يوم القيامة، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة " وقال لأم المؤمنين (1) : " لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله
(1) لعل اسمها سقط من الناسخ وهي صفية (رض)
عدد خلقه، سبحان الله رضاء نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته ".
ومنه قوله تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ". وقوله: " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ".
وقوله تعالى: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله " وقوله: " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " وقوله: " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ونظائره كثيرة، ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ كلمة إلا والمراد به الجملة التامة، فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب، والفاضل منهم (1) يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم، ويقولون: العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد، وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة.
ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره سواء كان أزلياً أو لم يكن كما قال تعالى:" حتى عاد كالعرجون القديم " وقال: " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب، ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى:" ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " وهذا يقتضي أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم، وهذا موافق للغة العرب الذي نزل بها القرآن ونظير هذا
(1) وهو ابن مالك صاحب الألفية المشهورة رحمه الله
لفظ القضاء فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة وإن كان ذلك في وقتها كما قال تعالى: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " وقوله " فإذا قضيتم مناسككم " ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ القضاء مختصاً بفعلها في غير وقتها، ولفظ الأداء مختصاً بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول، ثم يقولون قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر، ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم:" فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " وفي لفظ " فأتموا " فيظنون أن بين اللفظين خلافاً وليس الأمر كذلك بل قوله " فاقضوا " كقوله " فأتموا " لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان: وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به، وأن هذا ليس وقتاً في حق غيرهما.
ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها، وما ذكر في مسمى الكلام مما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال: واعلم إن قلت في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكي وإنما تحكي بعد القول ما كان كلاماً قولاً وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب، ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء، ولهذا سأل الخليل أصحابه: كيف تنطقون بالزاي من زيد؟ فقالوا: زاي فقال: نطقتم بالاسم، والحرف زه (1) فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء.
(1) الهاء في قوله زه - ساكنة زيدت لأجل الوقف، وإنما مسمى الحرف الأول من زيد "ز" بالفتح والعرب لا تقف على متحرك كما أنها لا تبتدئ النطق بساكن
وكثيراً ما يوجد في كلام المتقدمين هذا حرف من الغريب يعبرون بذلك عن الاسم التام، فقوله صلى الله عليه وسلم:" فله بكل حرف مثله " بقوله (1)" ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " وعلى نهج ذلك، وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك وقد قيل إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسراً في بعض الطرق، والنحاة اصطلحوا خاصاً فجعلوا لفظ الكلمة يراد به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني، لأن سيبويه قال في أول كتابه: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، فجعل هذا حرفاً خاصاً، وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب، وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفاً، فقيد كلامه بأن قال: وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلي إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء، كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها، وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه كما يقال الاسم ينقسم إلى معرب ومبني.
وجاء الجزولي وغيره فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم فقالوا كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساماً له، وأراد بذلك الاعتراض على قول الزجاج: الكلام اسم وفعل وحرف، والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال، ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات التي لا توجد كليات إلا في الذهن، كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم، وقسمة الاسم إلى المعرب والمبني، فإن المقسم هنا هو معنى عقلي كلي لا يكون كلياً إلا في الذهن.
(1) كذا في الأصل الذي طبعنا عنه. ولفظ الحديث " من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن أقول: ألف حرف،ولام حرف، وميم حرف " أخرجه الترمذي وصححه
فصل: ولفظ الحرف يراد به حروف المعاني التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، مثل حروف الجر والجزم، وحرفي التنفيس، والحروف المشبهة للأفعال مثل إن وأخواتها، وهذه الحروف لها أقسام معروفة في كتب العربية كما يقسمونها بحسب الإعراب إلى ما يختص بالأسماء وإلى ما يختص بالأفعال، ويقولون ما اختص بأحد النوعين ولم يكن كالجزء منه كان عاملاً كما تعمل حروف الجر وإن وأخواتها في الأسماء، وكما تعمل النواصب والجوازم في الأفعال، بخلاف حرف التعريف وحرفي التنفيس كالسين وسوف فإنهما لا يعملان لأنهما كالجزء من الكلمة، ويقولون كان القياس في " ما " أنها لا تعمل لأنها تدخل على الجمل الاسمية والفعلية، ولكن أهل الحجاز أعملوها لمشابهتها لليس وبلغتهم جاء القرآن في قوله " ما هذا بشراً - ما هن أمهاتهم " ويقسمون الحروف باعتبار معانيها إلى حروف استفهام وحروف نفي وحروف تحضيض وغير ذلك، ويقسمونها باعتبار بنيتها كما تقسم الأفعال والأسماء إلى مفرد وثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي، فاسم الحرف هنا منقول عن اللغة إلى عرف النحاة بالتخصيص، وإلا فلفظ الحرف في اللغة يتناول الأسماء والحروف والأفعال، وحروف الهجاء تسمى حروفاً وهي أسماء كالحروف المذكورة في أوائل السور لأن مسماها هو الحرف الذي هو حرف الكلمة.
وتقسيم تقسيماً آخر إلى حروف حلقية وشفهية والمذكورة في أوائل السور في القرآن هي نصف الحروف واشتملت من كل صنف على أشرف نصفيه: على نصف الحلقية والشفهية والمطبقة والمصمتة، وغير ذلك من أجناس الحروف.
فإن لفظ الحرف أصله في اللغة هو الحد والطرف كما يقال حروف الرغيف وحروف الجبل، قال الجوهري: حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه
حرف الحبل وهو أعلاه المحدد، ومنه قوله تعالى:" ومن الناس من يعبد الله على حرف - إلى قوله - والآخرة " فإن طرف الشيء إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقراً فلهذا كان من عبد الله على السراء دون الضراء عابداً له على حرف تارة يظهره وتارة ينقلب على وجهه كالواقف على حرف الجبل، فسميت حروف الكلام حروفاً لأنها طرف الكلام وحده ومنتهاه، إذا كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاه حده وحرفه القائم بشفتيه ولسانه، ولهذا قال تعالى:" ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين " فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا.
ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفاً فيراد بالحرف الشكل المخصوص ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه، ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق - إلى قوله - ما لم يعلم " فبين سبحانه في أول ما أنزله أنه سبحانه هو الخالق الهادي الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، كما قال موسى " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " فالخالق يتناول كل ما سواه من المخلوقات ثم خص الإنسان فقال:" خلق الإنسان من علق " ثم ذكر إنه علم فإن الهدى والتعليم هو كمال المخلوقات.
والعلم له ثلاث مراتب: علم بالجنان، وعبارة باللسان، وخط بالبنان (1)، ولهذا قيل إن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي، وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، واللسان والبنان، لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات
(1) المرتبتان الأولييان مما فطر عليه الإنسان، والثالثة وهي الخط صناعة استحدثها من قديم الزمان، وقد استحدث في هذا الزمان صناعات أخرى وهي نقل الكلام بالآلات الكهربائية كالتلغراف السلكي والتلغراف الهوائي وألواح الآلة التي تسمى (فونغراف) ويدخل هذا في عموم قوله تعالى (علم الإنسان مالم يعلم)
في أنفسها والله خالق كل شيء، وأما الذهني الجناني فهو العلم بها الذي في القلوب، والعبارة عن ذلك هو اللساني، وكتابة ذلك هو الرسمي البناني، وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ وذلك يستلزم تعليم العلم فقال:" علم بالقلم " لأن التعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، وأطلق التعليم ثم خص فقال " علم الإنسان ما لم يعلم " وقد تنازع الناس في وجود كل شيء، هل هو عين ماهيته أم لا، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين أن الصواب من ذلك أنه قد يراد بالوجود ما هو ثابت في الأعيان، ليس ما هو ماهيتها المتصورة في الأذهان، لكن الله خلق الموجود الثابت في الأعيان وعلم الماهيات المتصورة في الأذهان، كما أنزل بيان ذلك في أول سورة أنزلها من القرآن، وقد يراد بالوجوه والماهية كليهما ما هو متحقق في الأعيان، وما هو متحقق في الأذهان، فإذا أريد بهذا وهذا ما هو متحقق في الأعيان أو ما هو متصور في الأذهان، فليس هما اثنين (1) بل هذا هو هذا، وكذلك الذهن إذا تصور شيئاً فتلك الصورة هي المثال الذي تصورها وذلك هو وجودها الذهني الذي تتصوره الأذهان، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب ومن تدبر هذه المسائل وأمثالها تبين له أن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء " ومن لم يجعل الله له نوراً فما من نور " وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل وتفاصيلها في مواضع أخرى، فإن الناس كثر نزاعهم فيها حتى قيل: مسألة الكلام، حيرت عقول الأنام، ولكن سؤال هذين لا يحتمل البسط الكثير فإنهما يسألان بحسب ما سمعاه واعتقداه وتصوراه، فإذا عرف السائل أصل مسألته ولوازمها وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة تبين له أن من الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل فلا بد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه.
(1) كانت في الأصل (في الايمان) ولم يكن المعنى بها ظاهراً
ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه (1) فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان، وقد قال تعالى:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ".
وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو جمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئاً بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث.
وكثير من الكتب المصنفة في أصول العلوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالاً متعددة، والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه
(1) كذا في الأصل وقد سقط منه الخبر الذي يتم به الكلام ويعلم من القرينة ومما يعده وهو: لا يكون إلا حقا في اثباته ونفيه
سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به، وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، وقد قال تعالى:" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله " وقال تعالى: " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ".
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال:" أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه " ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد كتب في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصول كثيرة، ولكن هذا الجواب كتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة، والله تعالى يهدينا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين.
فصل: في بيان أن القرآن كلام الله العزيز العليم ليس شيء منه كلاماً لغيره لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، قال الله تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الدين يتولونه والذي هم به مشركون، وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ".
فأمره أن يقول: " نزله روح القدس من ربك بالحق " والضمير في قوله " نزله " عائد على " ما " في قوله " بما ينزل " فالمراد به القرآن كما يدل عليه سياق الكلام، وقوله:" والله أعلم بما ينزل " فيه إخبار بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه منزل منه.
ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيداً بالإنزال منه كنزول القرآن، وقد يرد مقيداً بالإنزال من السماء ويراد به العلو، فيتنازل نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند الله وغير ذلك، وقد يرد مطلقاً فلا يختص بنوع من الإنزال بل ربما يتناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى:" وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " والإنزال من ظهور الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك فقوله " نزله روح القدس من ربك " بيان لنزول جبريل من الله عز وجل، فإن روح القدس هنا هو جبريل بدليل قوله تعالى:" من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وهو الروح الأمين كما في قوله تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به روح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين " وفي قوله الأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص، فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال تعالى في صفته في الآية الأخرى:" إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين ".
وفي قوله " منزل من ربك " دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والبخارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة جهمياً، فإن جهماً أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات، وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك
والدعوة إليه، وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً " ثم نزل فذبحه، ولكن المعتزلة إن وافقوا جهماً في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك، كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضاً، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول: إن الله لا يتكلم أو يقول أنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون أنه يتكلم حقيقة لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضاً كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء.
فالمقصود أن قوله " منزل من ربك " فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات، ولهذا قال السلف: منه بدأ، أي هو الذي تكلم به لم يبتدئ من غيره كما قال الخلقية.
ومنها أن قوله " منزل من ربك " فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره (1) كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة وهذا القول أعظم كفراً وضلالاً من الذي قبله.
ومنها أن هذه الآية أيضاً تبطل قول من قال أن القرآن العربي ليس منزلاً
(1) هذا يشبه قول بعض فلاسفة أوربة أن وحي الأنبياء يفيض من أنفسهم في أحوال مخصوصة تستولي عليها وتستغرق ادراكها ووجدانها كاستيلاء كراهة الوثنية على نبينا صلى الله عليه وسلم. ويرده أن الوحي إليه لم يكن مقصوداً على إبطال الوثنية وخرافاتها واثبات التوحيد وما يناسبه من العبادات والفضائل، بل فيه من أخبار الغيب الماضية والآتية ومن الحكمة وأصول التشريع مالا يعقل أن يكون نابعا من نفس رجل أمي ولا متعلم. وإنما يعقل أن يكون وحيا من عالم الغيب والشهادة
من الله بل مخلوق إما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابية والأشعرية الذين يقولون: القرآن العربي ليس هو كلام الله وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام: الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمد فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون جبريل أخذه من اللوح المحفوظ أو غيره.
فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع هذا القول، فإن هذا القرآن العربي لا بد له من متكلم تكلم به أولاً قبل أن يصل إلينا، وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين: أحدهما أن أولئك يقولون أن المخلوق كلام الله وهم يقولون إنه ليس كلام الله لكن يسمى كلام الله مجازاً هذا قول أئمتهم وجمهورهم، وقال طائفة من متأخريهم: بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراك اللفظي، لكن لفظ هذا الكلام ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به، ومع هذا لا يقولون أن المخلوق كلام الله حقيقة كما يقولوه المعتزلة مع قولهم أنه كلام حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلاماً لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة وهذا حقيقة قول الجهمية، ومن هذا الوجه نقول: المعتزلة أقرب، وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء وإنما ينازعونهم في اللفظ الثاني أن هؤلاء يقولون: لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام، ومن هذا الوجه الكلابية خير من الخلقية في الظاهر، لكن جمهور الناس يقولون إن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا كلاماً له حقيقة غير المخلوق، فإنهم يقولون إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، ومنهم من قال هو خمس معان.
وجمهور العقلاء أن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في الأخبار المتواترة، وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمداً، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ومحبته ليصير (1) ذلك القول كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة.
وقال جمهور العقلاء: نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن ذلك معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا (2) وكذلك معنى " قل هو الله أحد " ليس هو معنى " تبت يدا أبي لهب "، ولا معنى آية الكرسي معنى آية الدين، وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي.
ثم منهم من قال الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد وإما ناف بها، وأما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع، وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ومنهم من اعترف بأنه ليس له عنه جواب كأبي حسن الآمدي وغيره.
والمقصود هنا أن هذه الآية تبين بطلان هذا القول كما تثبت بطلان غيره فإن قوله " نزله روح القدس من ربك " يقتضي نزول القرآن من ربه والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، بدليل قوله " فإذا قرأت القرآن " وإنما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المحددة، وأيضاً فضمير المفعول في قوله " نزله "
(1) كذا في الأصل ولعله لنصر ذلك القول
(2)
بياض بالأصل قليل، يظهر أنه موضع شاهد كالشواهد التي بعده
عائد إلى " ما " في قوله " والله أعلم بما ينزل " فالذي أنزله الله هو الذي نزله روح القدس، فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله، فلا يكون شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة ولا نزله من نفسه.
وأيضاً فإنه قال عقب هذه الآية " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي " الآية. وهم كانوا يقولون إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، ولم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط، بدليل قوله " لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه فجعلوه هو الذي يعلم محمداً القرآن لسان أعجمي، والقرآن لسان عربي مبين، فلو كان الكفار قالوا يعلمه معانيه فقط لم يكن هذا رداً لقولهم، فإن الإنسان قد يتعلم من الأعجمي شيئاً بلغة ذلك الأعجمي ويعبر عنه بعباراته، وقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يقولون هو تعلمه من شخص كان بمكة أعجمي، قيل إنه كان مولى لابن الحضرمي.
وإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشراً والله أبطل ذلك بأن لسان ذاك أعجمي وهذا لسان عربي مبين، علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين، وأن محمداً لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس، وإذا كان روح القدس نزل به من الله، علم أنه سمعه منه ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله أن القرآن الذي هو اللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله، وكذلك قوله " هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً " الآية. والكتاب اسم للكلام العربي بالضرورة والاتفاق، فإن الكلابية أو بعضهم يفرق بين كلام الله وكتاب الله، فيقول كلام الله هو المعنى القائم بالذات وهو غير مخلوق، وكتابه هو المنظوم المؤلف العربي وهو المخلوق، والقرآن يراد به تارة وهذا وتارة هذا، والله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآناً وكتاباً وكلاماً، فقال تعالى
" تلك آيات القرآن وكتاب مبين " وقال " طسم، تلك آيات الكتاب المبين " وقال " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن " الآية، فبين أن الذي سمعوه هو القرآن وهو الكتاب وقال " بل هو قرآن " الآية، وقال " إنه لقرآن كريم " الآية وقال " يتلو صحفاً " الآية، وقال " والطور " الآية، وقال " ولو نزلنا عليك كتاباً " الآية، لكن لفظ الكتاب قد يراد به المكتوب فيكون هو الكلام وقد يراد به ما يكتب فيه كقوله " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال " ونخرج له يوم القيامة كتاباً " الآية.
والمقصود هنا أن قوله " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً " يتناول نزول القرآن العربي على كل قول، وقد أخبر أن " الذين آتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم. وقال إنهم يعلمون ذلك لم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه، والعلم لا يكون إلا حقاً مطابقاً للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل، فعلم أن القرآن العربي ينزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا محمد ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيراً منه من هذا الوجه.
وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله " إنا أنزلناه في ليلة القدر " أنه أنزله إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجماً مفرقاً بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى " بل هو قرآن مجيد " الآية. وقال " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال:" إنها تذكرة " الآية، وقال " وإنه في أم الكتاب " الآية، وكونه مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو غير ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوباً إلى
بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة وآثار السلف، ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها، فيقابل من الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنها فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف وهو حق، فإذا كان ما يخلقه ثابتاً عنه قبل كتبه أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به.
ومن قال إن جبريل أخذ القرآن عن الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلاً من وجوه: منها أن يقال إن الله تعالى كتب التوراة لموسى بيده فبنوا إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه فيه (1) ، فإن كان محمد أخذه من جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلا من محمد بدرجة، ومن قال إنه ألقي إلى جبريل معاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي، فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاماً، وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين كما قال تعالى:" وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي " وقال " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " وقد أوحى إلى سائر النبيين، فيكون هذا الوحي الذي لا يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلا من أخذ محمد القرآن عن جبريل لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء، ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، قال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد، وادعى أن أخذه عن الله أعلا من أخذ الرسول للقرآن، ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر، وإن هذا القول من جنسه.
(1) الذي عندهم أن الذي كتبه الله في الألواح هو الوصايا العشر لاكل ما يسمونه التوراة
وأيضاً فالله تعالى يقول " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " الآية. ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، وهذا يدل على أمور على أن الله يكلم عبده تكليماً زائداً على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص، فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص، والتكليم العام هو المقسم في قوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً " الآية، والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس قسماً منه، وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاماً فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى " فاستمع لما يوحى " وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى، وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات، فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي هو لآحاد العباد، ومثل هذا قوله في الآية الأخرى:" وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم وراء من حجاب وبين إرسال الرسول يوحى بإذنه ما يشاء، فدل على أن التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى أمر غير الإيحاء.
وأيضاً فقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره، وكذلك قوله تعالى " بلغ ما أنزل إليك من ربك " فإنه يدل على أنه مبلغ ما أنزل إليه من ربه وأنه مأمور بتبليغ ذلك.
وأيضاً فهم يقولون أنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله، وإن كان سمع البعض فقد استمع بعضه فقد تبعض، وكلاهما ينقض قولهم، فإنهم يقولون أنه معنى واحد ولا يتعدد ولا يتبعض، فإن كان ما سمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله
وأنزل عليه شيئاً في كلامه عالماً بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وإن كان الواحد من هؤلاء إنما سمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.
وأيضاً فقوله " وكلم الله موسى تكليماً " وقوله " ولما جاء موسى لميقاتنا " وقوله تعالى " وناديناه من جانب الطور الأيمن " وقوله " فلما أتاها نودي " الآيات دليل على تكليم موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر - ودليل أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتاً مسموعاً لا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازاً، وقد قال تعالى " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار - إلى قوله - رب العالمين ".
وأيضاً فقوله " فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك " وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك و " لما " فيها من معنى الظرف، كما في قوله " وإنه لما قام عبد الله يدعوه " ومثل هذا قوله " ويوم يناديهم فيقول أين شرائي الذين كنتم تزعمون "" ويم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " فإن النداء وقت بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.
ومثل هذا قوله تعالى " وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وقوله " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته، ومن هؤلاء من قال إنه معنى واحد لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة، ومنهم من قال بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في مقارنة وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته.
ومنهم من قال بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات، وكل هؤلاء يقولون أن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك في المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم بكلام الله بمشيئته وقدرته، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة ما يجعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عنه، وعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم، لا إنه حينئذ نودي، ولهذا يقولون إنه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس يكلم خلقه، وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم أنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه.
أما كون قولهم أقرب فأنهم يثبتون كلاماً قائماً بنفس الله وهذا قول السلف بخلاف الخليقة الذين يقولون ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره، فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف، وأما كون الخلقية أقرب فلأنهم يقولون أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف، وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه فليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته، وهم يقولون الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل، والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات، ومذهب السلف أنه صفة فعل وصفة ذات معاً، فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه.
واختلافهم في أفعاله ومسائل القدر بنسبة اختلافهم في كلامه تعالى فإن المعتزلة أنه يفعل لحكمة مقصودة وإرادة الإحسان إلى العباد، لكن لا يثبتون لفعله حكمة تعود إليه، وأولئك يقولون لا يفعل لحكمة ولا لمقصود أصلاً فأولئك أثبتوا حكمة لكن لا تقوم به، وهؤلاء لا يثبتون له قصداً يتصف به
ولا حكمة تعود إليه، وكذلك في الكلام أولئك أثبتوا كلاماً هو فعله لا يقوم به، وهؤلاء يقولون ما لا يقوم به لا تعود حكمته إليه، والفريقان يمنعون أن تقوم به حكمة مرادة له، كما يمنع الفريقان أن يقوم به كلام وفعل يريده، وقول أولئك أقرب إلى قول السلف والفقهاء إذ أثبتوا الحكمة والمصلحة في أفعاله وأحكامه، وأثبتوا كلاماً يتكلم به بقدرته ومشيئته، وقول هؤلاء أقرب إلى قول السلف إذ أثبتوا الصفات وقالوا: لا يوصف بمجرد المخلوق المفصل عنه الذي لم يقم به أصلاً، ولا يعود إليه حكم شيء لم يقم به، فلا يكون متكلماً بكلام لم يقم به، ولا قديراً بقدرة لم تقم به، فكل من المعتزلة والأشعرية في مسائل كلام الله وأفعال الله وافقوا السلف والأئمة من وجه وخالفوهم من وجه، وليس قول أحدهم قول السلف دون الآخر، لكن الأشعرية في جنس مسائل الصفات والقدر أقرب إلى قول السلف والأئمة من المعتزلة.
فإن قيل: فقد قال تعالى " إنه لقول رسول كريم " وهذا يدل على أن الرسول أحدث الكلام العربي، قيل: هذا باطل، وذلك أن الله ذكر هذا في موضعين والرسول في أحد الموضعين محمد والرسول في الآية الأخرى جبريل، قال تعالى في سورة الحاقة " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون " الآية، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في سورة التكوير " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فالرسول هنا جبريل، فلو كان أضافه إلى الرسول لكونه أحدث حروفه أو أحدث منه شيئاً لكان الخبران متناقضين، فإنه إن كان أحدهما الذي أحدثها امتنع أن يكون الآخر هو الذي أحدثها.
وأيضاً فإنه قال " لقول رسول كريم " ولم يقل لقول ملك ولا نبي، ولفظ الرسول يستلزم مرسلاً له، فدل ذلك على أن الرسول مبلغ له عن مرسله لا إنه أنشأ منه شيئاً من جهة نفسه، وهذا يدل على أنه أضافه إلى الرسول لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأ منه شيئاً وابتدأه
وأيضاً فإن الله قد كفر من جعله قول البشر بقوله " إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر "(1) ، ومحمد بشر، فمن قال إنه قول محمد فقد كفر، ولا يفرق بين أن يقول بشر أو جني أو ملك، فمن جعله قولاً لأحد من هؤلاء فقد كفر، ومع هذا فقد قال " إنه لقول رسول كريم، ما هو بقول شاعر " فجعله قول الرسول البشري مع تكفيره من يقول إنه قول البشر، فعلم أن المراد بذلك أن الرسول بلغه عن مرسله، لا أنه قوله من تلقاء نفسه، وهو كلام الله تعالى الذي أرسله، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالذي بلغه الرسول هو كلام الله تعالى لا كلامه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف ويقول " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " رواه أبو داود وغيره، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مبلغاً مؤدياً.
وموسى سمع كلام الله بلا واسطة والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى سماع مطلق بلا واسطة، وسماع الناس سماع مقيد بواسطة، كما قال تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً التكليم أو من وراء حجاب " ففرق بين التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى بين التكليم بواسطة الرسول كما كلم الأنبياء بإرسال رسوله إليهم، والناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام تكلم بحروفه ومعانيه بصوته صلى الله عليه وسلم ثم المبلغون عنه يبلغون كلامه بحركاتهم وأصواتهم كما قال صلى الله عليه وسلم:" نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه " فالمستمع منه مبلغ حديثه كما سمعه، لكن بصوت نفسه لا بصوت الرسول، فالكلام هو كلام الرسول تكلم به بصوته، والمبلغ بلغ كلام رسول الله بصوت نفسه.
(1) يعني إلى قوله (إن هذا إلا قول بشر)
وإذا كان هذا معلوماً في تبليغ كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بذلك، ولهذا قال تعالى:" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " فجعل الكلام كلام البارئ، وجعل الصوت الذي يقرؤه به العبد صوت القارئ، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي ينادي الله به ويتكلم به، كما نطقت النصوص بذلك بل ولا مثله، فإن الله تعالى " ليس كمثله شيء " لا في ذاته ولا أفعاله، فليس علمه مثل علم المخلوقين ولا قدرته مثل قدرتهم، ولا كلامه مثل كلامهم، ولا نداؤه مثل ندائهم، ولا صوته مثل أصواتهم، فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله أو هو كلام غير الله فهو ملحد مبتدع ضال، ومن قال إن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع، بل هذا القرآن هو كلام الله وهو مثبت في المصاحف، وكلام الله مبلغ عنه، مسموع من القراء ليس مسموعاً منه، فالإنسان يرى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة ويراها في ماء أو مرآة، فهذه رؤية مقيدة بالواسطة، وتلك مطلقة بطريق المباشرة، ويسمع من المبلغ عنه بواسطة، والمقصود بالسماع هو كلامه في الموضعين كما أن المقصود بالرؤية هو المرئي في الموضعين.
فمن عرف ما بين الحالين من الاجتماع والافتراق والاختلاف والاتفاق زالت عنه الشبهة التي تصيب كثيراً من الناس في هذا الباب، فإن طائفة قالت هذا المسموع كلام الله، والمسموع صوت العبد وصوته مخلوق، فكلام الله مخلوق، وهذا جهل فإنه مسموع من المبلغ، ولا يلزم إذا كان صوت المبلغ مخلوقاً أن يكون نفس الكلام مخلوقاً، وطائفة قالت: هذا المسموع صوت العبد وهو مخلوق والقرآن ليس بمخلوق، ولا يكون هذا المسموع كلام الله، وهذا جهل، فإن المخلوق هو الصوت لا نفس الكلام الذي يسمع من المتكلم به ومن المبلغ عنه، وطائفة قالت: هذا
كلام الله وكلام الله غير مخلوق، فيكون هذا الصوت غير مخلوق، وهذا جهل، فإنه إذا قيل هذا كلام الله فالمشار إليه هو الكلام من حيث هو، وهو الثابت إذا سمع من الله وإذا سمع من المبلغ عنه، وإذا قيل للمسموع أنه كلام الله فهو كلام الله مسموعاً من المبلغ عنه لا مسموعاً منه، فهو مسموع بواسطة صوت العبد وصوت العبد مخلوق، وأما كلام الله منه فهو غير مخلوق حيث ما تصرف، وهذه نكت قد بسط الكلام فيها في غير هذا الموضع.
فصل: فإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفريق والاختلاف؟ قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع.
وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على (1) بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في الأدلة في المسألة المتقدمة فتارة يثبتونها بان الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون،
(1) بياض في الأصل والمعروف أنهم استدلوا بما ذكر على قدم الصانع واجب الوجود
وهي حادثة، وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام قد تخلو عن بعض أنواع الأعراض، وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون إن الأعراض يمتنع بقاؤها لأن العرض لا يبقى زمانين، وهي الطريقة التي اختارها الأمدي وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى والجويني والباجي وغيرهم.
وأما الهشامية والكرامية وغيرهما من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم يقولون أن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث كما في قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل فإنهم قالوا أن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة.
والناس متنازعون في السكون هل هو أمر وجودي أو عدمي، فمن قال إنه وجودي قال الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون فإذا انتفت عنه الحركة فالسكون به وجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت أن السكون وجودي، فمن قال إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث كما هو في قول الكرامية. وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بلى ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، ولا يقولون إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء.
وكان كثير من أهل الكلام يقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناءً على أن هذه مقدمة ظاهرة بأن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده، وقارن الحوادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث، وهذا
الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحوادث المعينة أو ما لا يسبق الحادث المعين فهو حق بلا ريب ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث حكم ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا ما أريد الحوادث الأمور التي تكون شيئاً بعد شيء لا إلى أول وقيل إنه لا يخلو عنها وما لم يخل فهو حادث لم يكن ذلك ظاهراً ولا بيناً، بل هذا المقام، حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم، ما لا يخطر عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقاً قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال: فقيل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.
وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقاً، وليس كل ما يقارب حادثاً بعد حادث لا إلى أول يجوز أن يكون حادثاً، بل يجوز أن يكون قديماً سواء كان واجباً بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول والفاعلية ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك كأرسطو وأتباعه ثامبطوس والإسكندر الأفرديوسي وبوملس والفارابي وابن سينا وأمثالهم، وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بهذا وقيل بل إن كان الملتزم للحوادث ممكناً بنفسه وجب أن يكون حادثاً فإن كان واجباً بنفسه لم يجز أن يكن حادثاً، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة وهو قول جماهير أهل الحديث.
وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، وما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث، لأنه إن كان مفعولاً ملتزماً للحوادث امتنع أن يكون قديماً، فإن القديم المعلول لا يكون قديماً إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله بحيث يكون
معه أزلياً لا يتقدم عنه، وهذا ممتنع فإن من استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجباً بذاته يستلزم معلوله في الأزل فإن الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء لا يكون مجموعها في الأول ولا يكون شيء منها أزلياً بل الأزلي هو ذاتها واحد بعد واحد الموجب بذاته الملتزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئاً بعد شيء سواء كان صادراً عنه بواسطة أو بغير واسطة فإن ما كان واحداً بعد واحد يكون متعاقباً حادثاً شيئاً بعد شيء فيمتنع أن يكون معلولاً مقارباً لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل أن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئاً بعد شيء فإنه على هذا لا يكون في الأزل موجباً بذاته ولا علة سابقة تامة فلا يكون معه في أول شيء من المخلوقات، لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئاً بعد شيء، وكل مفعول يأخذ عنده وجود كمال فاعليته، إذ المؤثر التام الملتزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره إذ لو تخلف لم يكن مؤثراً تاماً، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام، يستلزم وجود الأثر، فليس في الأول مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأول ليس هو حداً محدوداً ولا وقتاً معيناً بل كل بتقدير العقل من الغاية التي ينتهي إليها، فالأول قبل ذلك كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " فلو قيل أنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارناً له دائماً، وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوداث، لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه، وإن كانت ذات المؤثر وموجودة قبل ذلك لكن لا بد من وجود شروط التأثير عند وجود الأثر والألزم الترجيح من غير مرجح وتخلف المعلول عن العلة التامة ووجود الممكن بدون المرجح التام وكل هذا ممتنع وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل: وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس فالذين قالوا ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، تنازعوا في كلام الله تعالى، فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئته المتكلم وقدرته فيكون حادثاً كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة والرب تعالى لا يقوم به الحوادث فيكون الكلام مخلوقاً في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقاً من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل، وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات والروائح والحركة العلم والقدرة والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات علامة، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول كل كلام في الوجود فهو كلامه كما قال بعض الاتحادية (1) :
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم فإن هؤلاء يقولون إنه خالق أفعال العباد وكلامهم مع قولهم أن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا، وأما المعتزلة فلا يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك، وقالت طائفة: بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن لا يكون كلامه إلا مخلوقاً في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته، فيكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن لامتناع حوادث لا أول لها، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقاً بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة إذ لو قلنا أنه بمشيئته وقدرته لزم أن يكون حادثاً وحينئذ يلزم أن يكون مخلوقاً أو قائماً بذاته فيلزمه قيام الحوادث به وذلك مستلزم لتسلسل الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، قالوا وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل.
(1) ابن عربي
ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً، لأن تلك الحروف لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده، لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً من غير مرجح، وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد، قالوا وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة، ومنهم من قال بل هو أيضاً أصوات قديمة، ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد، فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى، فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً، لأن ما وجب قدمه، لزم بقاؤه وامتنع عدمه.
والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه (1) .
وقد يراد بالحروف نفس المداد، وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ونحو ذلك، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية وهي ما يسجل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به وقد تنازع الناس هل يتمكن وجود حروف بدون أصوات قديمة لم تزل
(1) سقط من الأصل خبر المبتدأ فتركنا له بياضاً يضعه فيه من علمه
ولا تزال، ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ هل سمع منه الصوت القديم؟ قيل المسموع هو الصوت القديم، وقيل بل المسموع هو صوتان أحدهما القديم والآخر المحدث، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القرآن وما زاد على ذلك فهو المحدث، وتنازعوا في القرآن هل يقال أنه حال في المصحف والصدور أم لا؟ يقال على قولين: فقيل هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه، وقيل بل القرآن حال في الصدور والمصاحف.
فهؤلاء الخلقية والحادثية والاتحادية والإقرائية أصل قولهم إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً، ومن قال بهذا الأصل فإنه يلزم بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثاً أو قديماً، وإذا كان حادثاً إما أن يكون حادثاً في غيره، وإما أن يكون حادثاً في ذاته، وإذا كان قديماً فإما أن يكون القديم المعني فقط أو اللفظ، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم أن لا يكون الكلام المقروء كلام الله ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف.
وأما قدم اللفظ فقط فهذا لم يقل به أحد لكن من الناس من يقول أن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخل في مسمى الكلام، فهذا يقول الكلام القديم هو اللفظ فقط: إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول إن معناه قديم.
وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً، وإن القديم يجوز أن يعتقب عليه الحوادث مطلقاً وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه، فهؤلاء هم القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم هذه الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته.
وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا أن لها علة غاثية تتحرك للتشبه بها فهي تحركها كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعاً بذاته، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة ابن سينا وأتباعه، وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلاً،
أما على قول من جعل الأزل علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلاً لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم، فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره لكون القدرة والداعي يستلزمان وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد، فيقال لهم تقولون هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه أنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقول، وهذا القول الذي يقوله ابن سينا وأتباعه باطل أيضاً لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع بذاته، وإذا قالوا بحركة توسطه قيل لهم إنما هو في حدوث الحركة، فإن الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضي لها علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها، فإن ذلك جمع بين النقيضين، إذا القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا يحدث بها. وهؤلاء يقولون كلام الله ما يفيض على النفوس الصافية كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاماً خارجاً عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة، مع أن أكثرهم يقولون أنها أعراض.
وقد تبين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية الحوادث (1) التي هي العقول والنفوس والمواد والصور إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
وأما الصنف الثالث الذين فرقوا بين الواجب والممكن والخالق والمخلوق والغني الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغير، فقالوا: كل ما قارن
(1) لعله للحوادث فليتأمل
الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئاً قديماً فضلاً عن أن يقارن حوادث لا أول لها، ولهذا كانت حركة الفلك دليلاً على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه، وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فاعلاً، لم يكن دوام كونه متكلماً بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به، لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكناً يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطياً له الكمال وهذا ممتنع، بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلماً على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلماً وأن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له (1) .
وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة، لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها
(1) هذا المذهب هو الذي قرره شيخنا في رسالة التوحيد بأوضح بيان عند إثبات الصفات ولكنه لم يفصل فروعه الآتية
وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب وقدمها وحدوثها وحدوث العالم.
وإذا قيل أن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكناً بخلاف ما إذا قيل اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن كان هذا مكابرة للحس، والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجودها بنوعها، وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع والتأليف المعين فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله.
والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطي وهو نقلها عن بكر بن خنيس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا إثبات أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيراً من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئاً حتى يؤمر بهن فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدة لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس.
وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط غير العرب لا يماثل خط العرب، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ثابتة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم والحروف المنطوقة لا يقال فيها بأنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية فقد قال عنهم ما لم يقولوه.
وأما الإمام أحمد فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق وهو
أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فقد سلك طريقاً إلى البدعة، قال إن ذلك مخلوق، وقد قال أن القرآن مخلوق ولا ريب أنه من جعل نوع الحروف مخلوقاً ثابتاً عن الله كائناً بعد إن لم يكن لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقاً، وامتنع أن يكون الله متكلماً بكلامه الذي أنزله إلى عباده، فلا يكون شيء من ذلك كلامه فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثابت الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعاً من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوقاً فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.
والكلام في هذا الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفات وإيجادها وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية، فإن عمومها متأولة بالأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب فإن هذه أمور مشكلة ومحارات للعقول ولهذا اضطرب فيها طوائف من الناس ونظارهم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والله سبحانه أعلم.
ذكر ما لخصه الإمام شيخ الإسلام
في كتابه منهاج السنة في مسألة الكلام
هذه مسألة كلام الله تعالى الناس فيها مضطربون، قد بلغوا فيها إلى سبعة أقوال: أحدها قول من يقول: إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض، إما من العقل الفعال عند بعضهم، وإما من غيره، وهذا قول الصائبة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله، ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم، كأصحاب وحدة الوجود، وفي كلام صاحب الكتب " المضنون بها على غير أهلها "(1) ورسالة " مشكاة الأنوار " وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا، وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا، لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه، وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطابقة الأحاديث النبوية.
وثانيها قول من يقول: بأنه معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.
ورابعها (2) قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث، ذكره الأشعري في المقالات (3) عن طائفة. وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم، وهؤلاء
(1) هو أبو حامد الغزالي ولا نعرف له إلا كتابا واحداً بهذا الاسم وما ذكر من الإشارات ليس فيها نص يدل على اعتقاد هذا المذهب واما ابن سينا فيقوله في حكاية مذهب الفلاسفة وهو يثبت الملائكة
(2)
سقط الثالث من الأصل
(3)
كتاب طبعه بعض المستشرقين من الألمان حديثا في الآستابة
قال طائفة منهم: إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت المسموع من النار، أو هي بعض الصوت المسموع من النار (1) ، وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا هذا مخالفة لضرورة العقل.
وخامسها وسادسها قول من يقول: إنه حروف وأصوات، لكن تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته، بعد أن لم يكن متكلماً ولا فاعلاً، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة.
وسابعها قول من يقول: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وبالجملة أهل السنة والجماعة - أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية - يقولون أن الكلام غير مخلوق، وهذا هو المتواتر عن السلف والأئمة من أهل البيت وغير أهل البيت، ولكن تنازعوا بعد ذلك على الأقوال الخمسة المتأخرة.
أما القولان الأولان قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم، والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم كالنجارية والضرارية.
وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة، وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم (2) وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث، وهذا هو المعروف عند أهل البيت كعلي بن أبي طالب وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وغيرهم، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد
(1) أي في خطاب الله لموسى
(2)
أي من كتاب منهاج السنة المنقول عنه هذا
من كان ينكر الرؤية، ولا يقول بخلق القرآن ولا ينكر القدر ولا يقول بالنص على علي (1) ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر، ولا يسب أبا بكر وعمر، والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة، وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع، وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غيرهم من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يعفر أنه لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سبقهم إليه أحد.
وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا - أي ابن المطهر الذي رد عليه ابن تيمية في هذا البحث -: قولك " إن أمره ونهيه وأخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأخباره، أتريد به أنه حادث في ذاته، أم حادث منفصل عنه؟ والأول قول أئمة الشيعة المتقدمة والجهمية والمرجئة والكرامية، مع كثير من أهل الحديث وغيرهم. ثم إذا قيل حادث، أهو حادث النوع، فيكون الرب قد صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، أو حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء؟ والكلام الذي كلم به موسى هو حادث، وإن كان نوع كلامه قديماً لم يزل؟ فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك، وقد علم أنك أردت النوع الأول وهو قول الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال، فقالوا: إنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، فيقال لك: إذا كان الله قد خلقه منفصلاً عنه لم يكن كلامه، فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها وفعلها في غيره، ولهذا إذا خلق الله حركة
(1) أي على إمامته
وعلماً وقدرة في جسم كان ذلك الجسم هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات الله بل مخلوقات له، ولو كان متصفاً بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات - كما قال " يا جبال أوبي معه والطير " وكما قال:" يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " وكما قال: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " ومثل تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم أو تسبيح الحصى بيده، وتسبيح الطعام وهم يأكلونه، فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره، وإذا تكلمت الأيدي فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون أنه خلق كلاماً في الشجرة كلم الله به موسى بن عمران.
وأيضاً فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه، وهذا ما قالته الحلولية (1)، من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
وحينئذ فيكون قول فرعون " أنا ربكم الأعلى " كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " كلام الله.
وأيضاً فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه المخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، ولهذا عاب الله من يعبد إلهاً لا يتكلم فقال
(1) لعله سقط من هنا لفظ الاتحادية الذي يطلقه عليهم دائما في كتبه فابن عربي وابن الفارض وأمثالهم يقولون باتحاد الخالق بالخلق وأن هذا عين هذا إلا أنه غيره وحال فيه وأنه ماثم غيره وهذا مفصل في رده عليهم من هذا المجموع
: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً " وقال: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً " ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائماً به، وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام، كما لا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة، ولا عالم إلا من يقوم به العلم، ولا متحرك إلا من تقوم به الحركة ولا فاعل إلا من يقوم به الفعل، فمن قال: أن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلاً عنه. قال ما لا يعقل، ولم يفهم الرسل الناس هذا، بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل بل ما هو متصف به.
قالوا: المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلماً فيقال لهم: للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال: قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلاً عنه، وهذا إنما قاله هؤلاء.
وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته، وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم.
وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته فقام به الكلام، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم، فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات، والصنف الثاني يقولون: صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته، والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل، وهو قائم به يتعلق بمشيئته وقدرته.
إذا كان كذلك فقولكم أنه صفة فعل ينازعكم فيه طائفة، وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال: هب أنه صفة فعل منفصل عن القائل الفاعل أو قائم به؟ أما الأول فهو قولكم الفاسد، وكيف تكون الصفة غير قائمة بالموصوف، أو القول غير قائم بالقائل؟ فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به
الحوادث؟ قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل (1) ونحن نعقل الفرق بين نفس التكوين وبين المخلوق المكون؟ وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قويه وقول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث، وحكاه البخاري في كتاب أفعال العباد عن العلماء مطلقاً، وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية.
ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم، ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية، ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنه لم يزل متصفاً به فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف.
وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم، فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم.
فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل أن الباري يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء، فقد ناقض كتاب الله. ومن قال أنه لم يزل ينادي موسى
(1) لعل الأصل بفاعله فان المردود عليهم يقولون الكلام فعله ولكنه قام بغيره فيجعلون الفعل عين المفعول كما شرحه في مواضع تقدمت
في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله تعالى يقول:" فلما جاءها نودي " وقال " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فنحن نقول به، وما يقول به من يقول أن كلام الله قائم بذاته وأنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما، فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة، ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته.
ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة.
ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية؟ فإذا قال الأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائماً بالمتكلم لا منفصلاً منه كافياً في هذا الباب.
وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث ما لم يكن فاعلاً لها ولا لضدها؟ فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها؟ ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل، فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل
الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، وإن لم يكن جائزاً كان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين.
فإن قلت: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم، قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم، وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك، قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه، وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها، أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها، وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل.
فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، أو منفصل عنه لا يقوم به، مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً، لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث.
فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية؟ قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً
ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادراً، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعاً غير ممكن لأنه جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادراً ما يبين أنه لم يزل قادراً على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وهو منقول عن جعفر الصادق بن محمد في الأفعال المتعدية فضلاً عن اللازمة وهو دوام إحسانه.
والفلاسفة الدهيرة قالوا بقدم العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن الباري موجب بذاته للعالم ليس فاعلاً بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه، وأنتم وافقتموهم على طائفة باطلهم، حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختار، ويقدر عليه، وجعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم.
ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل، من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء، وقلنا أنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً فلا نقول أن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم، ولا نقول أنه شيء واحد أمر ونهي وخبر، وأن معنى التوراة والإنجيل واحد، وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد، فإن هذا مكابرة للعقل، ولا نقول أنه أصوات متقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين.
وأيضاً فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم لما كان أزلياً لم يزل، ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك، ولا نقول أنه صار متكلماً بعد أن لم
يكن متكلماً فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلاً للحوادث التي كل بها بعد نقصه، ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب، والقول في الثاني كالقول في الأول، ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوقاً له حادثاً بعد أن لم يكن، لأنه يكون سبب الحدوث وهو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك، فيعقل سبب حدوث الحوادث، ومع هذا يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديماً لكان مبدعه موجباً بذاته يلزمه موجبه ومقتضاه، فإذا كان الخالق فاعلاً بفعل يقوم بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجباً بذاته لشيء من الأشياء، فامتنع قدم شيء من العالم، وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئاً منفصلاً عنه مقارناً مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى، لأنه على هذا التقدير الأول يكفي في نفس المشيئة والفعل الاختياري والقدرة، ومعلوم أن ما يتوقف على المشيئة والفعل الاختياري القائم به أن يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
وأكثر الناس لا يعلمون كثيراً من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب. انتهى.
فصل آخر
فيما قال في مسألة اللفظ كما في كتابه: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول (1)، وهذا نصه:
لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً، لا كلام من بلغه عنه مؤدياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وإنما سمعناه عن المبلغ عنه بفعله وصوته، ونفس الصوت الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه، وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المحدث، فمن قال أن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفترياً، وكذلك من قال إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أحدثه في غيره أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتاً أو عاجزاً عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونحو هذا الكلام - فمن قال هذا كان مفترياً ومن قال أن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان مفترياً، فإذا كان هذا معقولاً في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم.
فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
(1) ص 153 ج1 - (هامش منهاج السنة)
" ليس هو كلاماً لغيره لا لفظه ولا معناه، ولكن بلغه عن الله جبريل وبلغه محمد عن جبريل، ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين، لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه لا لفظه ولا معناه، إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الأحداث إلى الآخر فقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فهذا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل عليه السلام وقد توعد تعالى من قال " إن هذا إلا قول البشر ".
فمن قال أن هذا القرآن قول البشر فقد كفر، وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر، ومن قال أن شيئاً منه قول البشر فقد قال ببعض قوله، ومن قال إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهذا أيضاً كافر ملعون.
وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه، وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وإنا نحن إنما نسمع كلام الله من المبلغين عنه، وإن كان الفرق ثابتاً بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه ومن سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى، لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته، من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته.
ولما كان الجهمية يقولون إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاماً في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي، كان من المعلوم أن القائل إذا قال هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه هو ليس بكلامه بل خلقه في غيره، وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعنى وإن كان صحيحاً ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا هذا القرآن كلام الله، لم
يريدوا بذلك أن أصوات القائلين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وكذلك إذ قالوا في إنشاد المنشد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
هذا شعر لبيد وكلام لبيد، لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بلى أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه هو للبيد وهذا منشد له، فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو أن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال إن هذا الكلام ليس هو كلام الله، وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث، وبمنزلة من قال إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد، ومعلوم أن هذا كله باطل.
ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءة القرآن مخلوقة، ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق.
ويدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا: اللفظية جهمية، وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق، فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة. فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم، ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة: من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة، أنه سمع غير واحد من
أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وصنف أبو محمد بن قتيبة في ذلك كتاباً وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروذي في ذلك، وذكر قصة أبي طالب المشهورة عن أحمد التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروذي وأبي محمد فوزان ومحمد بن إسحاق الصنعاني وغير هؤلاء.
وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف، ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة رداً لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بذلك نوع من الفرقة والفتنة.
وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما، وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ.
وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة.
والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام
نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيماً للعمل ونوعاً آخر ليس هو منه.
ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق هل يدخل فيه الكلام على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملاً فتكلم هل يحنث؟ على قولين: وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل، فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فهو يقول لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لعملت مثل ما يعمل " كما أخرجه الشيخان في الصحيحين، فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملاً كما قال لعملت فيه مثل ما يعمل الثاني كما في قوله تعالى:" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقوله تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا شهوداً إذ تفيضون فيه " فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المتلو، وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء. والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليست هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح.
وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك، يراد به المصدر ويراد به المفعول، فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح، ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح.
فمن قال اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي، احتراز عما إذا أراد به فعله وصوته.
وذكر اللالكائي: إن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له: لا تضربني، فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة، فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي، فقال: هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن.
ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي، قيل: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحاً فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطاً بين الطرفين.
وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق، ومن غير أن يقرن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد، وهم كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال، وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه.
ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم، وقوم يقولون
نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئاً منه، ولا خلق منه شيئاً في غيره، لا حروفه ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما.
وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة.
وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى " قل هو الله أحد " هو معنى " تبَّت " وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى، بل قصده أن التلاوة أفعال العباد وأصواتهم، وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له، ومنهم من لا يعرف منه هذا ولا هذا، وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ممن يوافق ابن كلاب على قوله موافقاً للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا، فيمنعون أن يقال اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن أنه بلفظ أو لا بلفظ، وقالوا: اللفظ الطرح والرمي، ومثل هذا لا يقال في القرآن، ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله، ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظ والحلولية ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة، كما مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقة، وحكى كل منهما
عن الأئمة ما يدل على كثير من مقصوده لا على جميعه، فما قصده كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثابت عن الأئمة ما يوافقه.
وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أموراً عظيمة المنفعة، لكنه نصر فيه قول من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل، ورجح طريقة من هجر البخاري، وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنه رجع إلى ذلك، وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة، وليس الأمر كما ذكره، فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام أحمد، كالمروذي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم، وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد، وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم، ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتاباً فيمن أخذ عن أحمد العلم، فذكر طائفة ذكر منهم أبا بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلى وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا، وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان الماثلين إلى طريقة ابن كلاب، ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحياناً محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل