المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فتوى في مسألة الكلام - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا - جـ ٣

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ فتوى في مسألة الكلام

وأمثاله من أئمة السنة، وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم.

وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة الباقلاني وأدخلها إلى الحرم، ويقال أنه أول من أدخلها إلى الحرم، وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب، فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي، ثم رحل الباجي إلى العراق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني الحنفي قاضي الموصل صاحب الباقلاني.

ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع.

فصل آخر

أو‌

‌ فتوى في مسألة الكلام

لشيخ الإسلام رحمه الله:

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟ فأجاب: الحمد الله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله " وكلم الله موسى تكليماً " بل أقر بأن هذا اللفظ حق لكن أنفي معناه وحقيقته (1)

(1) أي هو كافر وإن قال لا أكذب بلفظ القرآن إلخ

ص: 131

فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة.

وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحور، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهي نفي صفات الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون القرآن مخلوق.

ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعاً أخرى في القدر وغيره، لكن المعتزلة يقولون أن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات.

والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون: أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاماً.

وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليماً وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين

ص: 132

يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن لله علماً وقدرة ونحو ذلك.

ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم الوفا، لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك.

وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكمت رجلين؟ فقال: ما حكمت مخلوقاً ما حكمت إلا القرآن، وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه، القرآن منه.

وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين. وهذا ثابت عن ابن مسعود.

وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.

وقال حرب الكرماني ثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين

ص: 133

سنة أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود.

وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه.

وعن جعفر الصادق بن محمد - وهو مشهور عنه - أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. وهكذا روى عن الحسن البصري وأيوب السختياني وسليمان التيمي وخلق من التابعين.

وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره، ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق، قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم. ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصاً الفرد، قال الربيع فلقيت حفصاً في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي.

وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل

ص: 134

السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على نبيه وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفره، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده حيث قال:" سأصليه سقر " فلما أوعد الله سقر لمن قال: " إن هذا إلا قول البشر " علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر.

وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية، فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يحبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق وإما بالعزل عن الولاية وإما بالحبس أو بالضرب وكفروا من خالفهم، فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإطلاق القول أن من قال أنه مخلوق فقد كفر.

وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى فهذه مناقضة لنص القرآن فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق فهو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف.

قال البخاري في كتاب خلق الأفعال قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، قال: وقال عبد الله بن المبارك من قال " إني أنا الله لا إله إلا أنا " مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا نقول

ص: 135

كما قالت الجهمية أنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه.

وقال: من قال " لا إله إلا الله " مخلوق فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال: وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا أن لله ولداً أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم.

قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق؟ فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد - وذكر له أن قوماً يقولون القرآن مخلوق - فقال: كيف يصنعون ب " قل هو الله أحد " كيف يصنعون بقوله " إني أنا الله لا إله إلا أنا "؟ قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قوماً أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقاً كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال " أنا ربكم الأعلى "؟ وزعموا أن هذا مخلوق والذي قال " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " هذا أيضاً قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق. فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه.

ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال أن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه، كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني " ومن قال هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً فقول هؤلاء أيضاً كفر. ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون

ص: 136

ذلك، فإن فرعون كذب وموسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع على إله موسى وإني لأظنه كاذباً " وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه، ولكن هؤلاء يقولون إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة: أحدها أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقاً معتاداً ونطقاً خارجاً عن المعتاد، قال تعالى " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " وقال تعالى:" حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ".

وقال تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ".

وقد قال تعالى: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاماً في غيره كان هو المتكلم به كان هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه فلو كان متكلماً بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله (1) يقولون:

(1) يكثر شيخ الإسلام في هذا البحث من هذا الجمع أو التنظير بين الجهمية وابن عربي وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود ولا يذكر فيه الفرق بينهما وهو أن الجهمية ينكرون صفات الخالق هربا من تشبيهه بخلقه فجعلوه كالعدم، والاتحادية زعموا أنه لا موجود غيره فهو الخالق والمخلوق عينا وصفة، ومن ثم كان كل كلام في الوجود كلامه إذ لا وجود كغيره، وشيخ الإسلام قد فصل مذهبهم هذا وبين بطلانه في رسالة أخرى من هذا المجموع

ص: 137

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذي يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق فأولئك يجعلون الجميع مخلوقاً وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية بسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام سلط الله أعداء الدين (1) فإن الله يقول:" ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " وأي معروف وأعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟

الوجه الثاني أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعماً أو لوناً أو ريحاً كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علماً أو قدرة أو إرادة أو كلاماً كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاماً في الشجرة أو في غيرها من الأجسام كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياةً أو علماً، ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعاً أو بصراً كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به، فكما أنه سبحانه لا يجوز أن يكون متصفاً بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من

(1) في الكلام نقص أصله (حتى سلط الله علماء السنة ففضحوا أعداء الدين) أو نحو هذا مما ينتظم به الكلام

ص: 138

الأصوات ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلماً بذلك الكلام.

الوجه الثالث أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك.

ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات، وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر، وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال مثل تكلم وكلم ويتكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء، قيل أن الفعل المشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن الفاعل الفعل هو فاعل المصدر، فإذا قيل كلم أو علم أو تكلم أو تعلم ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلاناً ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى:" وكلم الله موسى تكليماً " وقوله: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات " وقوله: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " يقتضي أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو المتكلم بكلام قائم بغيره يمتنع أن يقال كلم بكلام قائم بغيره

ص: 139

فهذه ثلاثة أوجه (1) : أحدها أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلاماً له إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاماً ولو في غيره كان متكلماً به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلول قائماً يدل لكونه خلق صوتاً في محل والدليل يجب طرده فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله تعالى على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام.

الثاني أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل ولا يعود حكمه إلى غيره.

الثالث أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال أن الله خلق كلاماً في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائداً إلى ذلك المحل لا إلى الله.

الرابع أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال " تكليماً "، قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه.

والخامس أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً " الآية، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " وقال " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعد - إلى قوله - وكلم الله موسى تكليماً " والوحي هو ما نزله الله على قلوب

(1) قوله فهذه ثلاثة أوجه، يعني ما تقدم وقد لخصها فيما يأتي وزاد عليها وجهين آخرين كان ينبغي أن يصرح بزيادتها

ص: 140

الأنبياء بلا واسطة فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء وأنه يقتضي تعطيل الرسالة (1) فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهياً لقول المتفلسفة الدهرية الذي يجعلون وجود الرب وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن، وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضاً حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كانت المعتزلة خيراً من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء؟ وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقاً؟ ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح

(1) سقط جواب لما وتقديره ما يناسب المقام نحو (كفرهم، أو أنكروا عليهم)

ص: 141

لم يزل الله عالماً متكلماً له المشيئة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق، فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول " ولكن حق القول مني " ولا يكون من الله شيء مخلوق، وهذا القول قاله غير واحد من السلف.

وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف القرآن كلام الله منه بدا ومنه خرج وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد غيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن. وقد روي عن أبي أمامة مرفوعاً.

وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب، لما سمع قرآن مسيلمة: ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاماً لم يخرج من إلٍ " أي من رب.

وليس معنى قول السلف والأئمة: أنه منه خرج ومنه بدا، أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى:" كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً " فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.

وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام البارئ والصوت صوت القارئ قال تعالى:" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ". وقال صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم ".

ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما

ص: 142

يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله " ولكن حق القول مني " فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات.

ومن هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عيناً يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وقوله في المسيح " وروح منه " وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله " وما بكم من نعمة فمن الله " وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله " ولكن حق القول مني " وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه رداً على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول أنه لم ينزل منه قال تعالى:" قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " وقال تعالى " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وروح القدس هو جبريل، كم قال في الآية الأخرى " نزل به الروح الأمين على قلبك " وقال:" من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وقال هنا " نزله روح القدس من ربك " فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " وقوله " حم، تنزيل من الرحمن الرحيم " وقوله " الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " وقوله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال أنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال " أنزل من السماء ماء " فذكر المطر في غير وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن

ص: 143

أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله:" وأنزلنا الحديد " لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد، لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة وأنزلها مكتوبة (1) فيكون بنو إسرائيل قد أقروا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتاباً لا يغسله الماء وإنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك، فقال:" وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً " وقال تعالى: " وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ".

ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوباً كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاماً ولم يقدر أن يتكلم به وهذا خلاف دين المسلمين.

وإن احتج محتج بقوله " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين " قيل له فقد قال في الآية الأخرى " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون " فالرسول في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض

(1) المراد بالتوراة هنا أصول الشريعة وهي الوصايا التي في الالواح لا كل أحكام الشريعة من عبادات واحتفالات وعقوبات وغيرها فان هذه شرعت بالتدريج وهذا مجمع عليه عند اليهود

ص: 144

الخبران، فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث ولهذا قال " لقول رسول " ولم يقل ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه كما قال " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على الناس في الموسم ويقول:" ألا رجل يحملني إلى قومه لا بلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " ولما أنزل الله " الم غلبت الروم " خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.

وإن احتج بقوله " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قيل له هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال " كالعرجون القديم " وقال " تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال " وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقال " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وكذلك قوله " جعلناه قرآناً عربياً " لم يقل جعلناه فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه ولكن قال " جعلناه قرآناً عربياً " أي صيرناه عربياً لأنه قد كان قادراً على أن ينزله عجمياً، فلما أنزله عربياً كان قد جعله عربياً دون عجمي. وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم.

ص: 145

فتوى أخرى لشيخ الإسلام

في تكليم الله لموسى عليه السلام

وهل هو بحرف وصوت أم لا؟ ومن أنكره: مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، فقال له آخر: بل كلمه تكليماً، فقال: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: أن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فهو كما قال أولاً؟ الجواب: الحمد لله، أما من قال أن الله لم يكلم موسى تكليماً فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد (1) أن يجحد نص القرآن، بل لو قال: إن معنى كلامي أنه خلق صوتاً في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه أيضاً كفراً، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف قالوا: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، لكن من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيراً مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان.

والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس فقتلوا لأجل الفساد في الأرض وحفظاً لدين الناس أن يضلوهم.

(1) كذا ولعله (وان كان كلامه من غير أن)

ص: 146

وبالجملة فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقة.

ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون أن كلام الله مخلوق وأن الله وإنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه ليس مبايناً لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه.

وأما قول الجهمي: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال أن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فيقال لهذا الملحد: أنت تقول إنه كلمه بحرف صوت، لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول أنه لا يجوز أن تقوم به الحروف والأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز، والباري ليس بمتحيز ومن قال أنه متحيز فقد كفر. ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة.

وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة أن العقل معه قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي وهو موافق للكتاب والسنة فهذا يقول إن معه السمع والعقل، وذاك إنما يحتاج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعه فساده، ولو قدر أن العقل معه.

والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل يكون كافراً، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً في الشريعة.

وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به فهو كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها الإخبار عن الله بأنه متحيز أو أنه ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا وهذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة، بل يستفسر هذا القائل إذا قال أن الله متحيز أو ليس بمتحيز فإن قال أعني بقولي أنه

ص: 147

متحيز: أنه دخل في المخلوقات وإن المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل، وإن قال أعني أنه محاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا خلق.

وكذلك قوله ليس بمتحيز، إن أراد به أن المخلوق لا يجوز الخالق فقد أصاب وإن قال أن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه فقد أخطأ.

وإذا عرف ذلك فالناس في الجواب عن حجته الداحضة وهي قوله: لو قلت أنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث، ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين بل استفسروه وبينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليماً.

فالصنف الأول أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن اتبعهما قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله تعالى يتضمن الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر عنه، فإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقالوا: إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركاً أو مجازاً في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق.

والصنف الثاني سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثاً، وصنف (1) قالوا إن المحدث كالحادث سواء كان قائماً بنفسه أو بغيره وهو يتكلم بكلام لا يكون قديماً وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول القرآن قديم وهو بحرف وصوت كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني.

(1) أي وصنف آخر من هذا الصنف الثاني ولذلك تكرر وإلا صارت الاصناف أربعة

ص: 148

وقالوا كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمراً ونهياً وخبراً ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلاً وشرعاً وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات وإن جاز أن يقال: إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.

وقالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم أن الكلام هو مجرد المعنى وقد خلق عبارة بيان (1) فإن قلتم أن تلك العبارة كلامه حقيقة بطلت حجتكم على المعتزلة فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم أنه يمتنع أن يكون متكلماً بكلام يخلقه في غيره، كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره، وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره، وأن يريد بإرادة قائمة بغيره، وإن قلتم هي كلام مجازاً لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازاً في اللفظ، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات.

والصنف الثالث: الذين لم يمنعوا المقدمتين ولكن استفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم، بل قالوا: إن قلتم أن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب مخلوقاً منه منفصلاً عنه، فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه، وهذا قول ممنوع، وإن قلتم بمعنى أنه لا يكون قديماً فهو مسلم لكن هذه التسمية محدثة.

وهؤلاء صنفان: صنف قالوا أن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه فإذا قلنا: الحرف والصوت لا يكون إلا محدثاً كان بمنزلة قولنا لا يكون إلا مخلوقاً وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله بقوله حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق، ثم استدل على ذلك بما يقتضي أنه يتكلم بكلام مخلوق وفيه تلبيس.

ونحن لا نقول كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق، بل هو سبحانه

(1) هكذا في الأصل ولعله محرف

ص: 149

يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه سبحانه استوى إلى السماء وهي دخان وأنه سبحانه يأتي في ظلل من الغمام والملائكة، كما قال " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " وقال:" هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " وقال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يبين الله سبحانه أنه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه، وما كان قائماً بنفسه هو كلامه لا كلام غيره، والمخلوق لا يكون قائماً بالخالق، ولا يكون الرب محلاً للمخلوقات، بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله، وليس من ذلك شيء مخلوقاً، إنما المخلوق ما كان بائناً عنه، وكلام الله من الله ليس ببائن منه، ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: منه بدا، أي هو المتكلم به لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة.

وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من أهل الكلام من أئمتهم من الهشامية والكرامية وغيرهم وأتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، منهم من يختار جواب الصنف الأول، وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن، وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني، وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون أن القرآن قديم كالساليمة وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الطائفة الثالثة، وهم الذين ينكرون قول الطائفتين المتقدمتين الكلابية والسالمية.

ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية، والكرامية ينتسبون إلى أبي حنيفة، ومنهم من لا يختار قول الكرامية أيضاً لما فيه من تناقض آخر، بل يقول بقول أئمة

ص: 150

الحديث كالبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن قبلهم من السلف، كأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين، وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة.

وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة، وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول، وما هو القول الصواب في صريح المعقول وصحيح المنقول (1) لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول أن كلام الله مخلوق، والأمة متفقة على أن من قال أن كلام الله مخلوق لم يكلم موسى تكليماً يستتاب فإن تاب وإلا يقتل.

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.

فتوى أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله

في القرآن هل هو بحرف وصوت أم لا؟

وفي نقط المصحف وشكله هل هما منه أم لا؟

سئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟ فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله الذي نزل به

(1) قد تقدم كل هذا في مواضع من هذه المجموعة

ص: 151

الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين والمرسلين وأن جبريل سمعه من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:" قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال: " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فقد أصاب في ذلك، فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.

ومن قال: إن القرآن العرب لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبريل أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فهو قول باطل من وجوه كثيرة.

فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وبالعبرانية كان توراة وبالسريانية كان إنجيلاً فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين و " قل هو الله أحد "" تبُّت يدا أبي لهب " والتوراة والإنجيل وغيرهما معنى واحداً، وهذا قول فاسد بالعقل والمشاهدة وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه غيره من السلف.

وإن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي، أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالقرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله لا كلام غيره كما ذكر الله ذلك، وفي السنن عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول:" ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ".

وقالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم

ص: 152

" ألم غلبت الروم " أهذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله تعالى.

والناس إذ بلغوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: " إنما الأعمال بالنيات " أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله إذا بلغته الرسل عنه وقرأته الناس بأصواتهم.

والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم بحرف وصوت ليس منه شيء كلاماً لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ والكلام كلام البارئ.

وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب بل يجعل هذا هو هذا فينفيهما جميعاً أو يثبتهما، جميعاً، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون منادياً لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله عز وجل، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً لا فرق بين القديم والحادث، وهو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق.

وإذا ثبت جعل صوت الرب هو العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله أن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان فجعل

ص: 153

عين صفة الرب تحل في العبد أو يتحد بصفته فقال بنوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.

وقد علم أن عدم الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته خطأ وضلال لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شيء من أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديماً، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين مقروء بألسنتهم محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله. والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون، ثم لما أحدث اللحن نقط المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ولم يكره في أظهر قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه بل هو تابع للحروف المرسومة فلهذا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله معانيه وحروفه وإعرابه، والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها

ص: 154

باتفاق المسلمين لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف مشكلاً منقوطاً كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين، ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله فلا يقال بعضهم كلام الله وبعضه ليس بكلام الله وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن كما قال تعالى:" هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً، ورسلاً قد قصصناهم من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليماً " فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى فمن قال إن موسى لم يسمع صوتاً بل ألهم معناه، لم يفرق بين موسى وغيره وقد قال تعالى:" تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالاً، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره: لم يزل متكلماً إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتلكم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى " فلما أتاها نودي يا موسى " فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى:" فأكلا منها فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما عدو مبين " فهو سبحانه ناداهما حين أكلا

ص: 155

منها ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى:" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد أن خلق آدم وصوره ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فأخبر أنه قال له كن فيكون بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " وقال:" نبدأ بما بدأ الله به " فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.

والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.

وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً أزلاً وأبداً لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شيء شيئاً، وهذا مخالف للشرع والعقل.

وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذي سمعه موسى، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا أن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم أن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام لا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا هذه حوادث والرب لا تقوم به الحوادث فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا

ص: 156

وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون لم يزل قادراً، لكن يقولون أن المقدور كان ممتنعاً وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن صار ممتنعاً عليه من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيئاً من مفعوله لازماً بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف الفاعل بالإرادة.

وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط فإن الشرط لا يلزمه أن يتقدم على المشروط بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلاً سواء سمي أو لم يسمى علة فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلاً قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين (1) ولأنه لو كان قديماً فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيء من الحوادث وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل بل لم يزل متكلماً إذا شاء فاعلاً لما يشاء، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال،

(1) لينظر العطف في هذه الجملة الشرطية على أي شيء يقابله، ولينظر جواب شرطها اين هو؟

ص: 157

منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على قدرة الرب تعالى مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود لا نقص فيه منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كف في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقاً، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها.

وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً بناءً على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده (1) والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام بل كان ذلك ممتنعاً عليه وكان معطلاً عن ذلك وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأول فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين.

ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام بل هذا يكون دائماً وإن كان كل من آحاده حادثاً كما يكون دائماً في المستقبل وإن كان كل من آحاده فانياً، بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً فإن هذا هو الباطل في صريح العقل

(1) يعني في الازل تركه للعلم به أو سقط من الناسخ

ص: 158

وصحيح النقل ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار لم ينازع فيه الأشرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب لوجوده فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء مع مخالفتهم لسلفهم أرسطو وأتباعه فإنه لم يكونوا يقولون ذلك وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين بناءً على إثبات علة غائية لحركة الفلك يتحرك الفلك للتشبه بها لم يثبتوا له فاعلاً ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره وهم وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم فيهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكناً بذاته فلا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم فاحتاجوا أن يقولوا كلامه مخلوق منفصل.

وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له لكن قالوا تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا أنه في الأزل لم يكن متكلماً بل ولا كان الكلام مقدوراً له ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث بكلام يقوم به وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.

وطائفة قال: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازماً لذات الرب فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال هو معنى واحد قديم، فجعل آية الكرسي وآية الدين وسائر آيات القرآن التوراة والإنجيل وكل كلام يتكلم الله به معنى واحداً لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال أنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، ولا يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ونحو ذلك، إنه لا يراها إذا وجدت بل إما أنه لم يزل رائياً لها وإما

ص: 159

أنه لم يتجدد شيء موجود بل تعلق معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل.

والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلماً إذا شاء ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية، والاقترانية.

وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون أن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته لا قديم النوع ولا قديم العين ولا حادث ولا مخلوق بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون أنه كلم موسى من سماء عقله، وقد يقولون أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون مع ذلك أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله.

وقولهم بعلم نفسه ومفعولاته حقن كما قال تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " لكن قولهم مع ذلك: إنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض فإن نفسه المقدسة معينة والأفلاك معينة وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وهم إنما ألجأهم إلى هذا الحد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى، مع أن هؤلاء يقولون أن الحوادث تقويم بالقديم وأن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ لاعتقادهم أنه لا صفة له بل هو وجود مطلق، وقالوا أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى وجعلوا الصفات هي الموصوف.

ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن

ص: 160

سينا أقرب إلى الصواب لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخرى.

ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئاً واحداً، جاز أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه.

ثم قالوا وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع.

وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذي قاله أهل الوحدة والحلول في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه وقالوا هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا أولاً أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال " إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني - إلى (1) - أنا الله رب العالمين " كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودات في الأزل بعضاً بعضها، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله.

ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من

(1) كذا في الأصل والآية الأولى من سورة طه والتي بعد إلى من سورة القصص فهي ليست غاية لما قبلها فيظهر أن في الكلام تحريفا أو سقطاً من النساخ والمراد مفهوم على كل حال

ص: 161

القراء.

وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم ومحدث.

وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية.

وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي.

وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي، وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه بل منهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.

والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاتها، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وإن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد بسطناها في الواجب الكبير والله أعلم بالصواب.

فتوى أخرى لشيخ الإسلام

في إثبات أن الكلام صفة المتكلم

لا عينه ولا غيره

سئل أيضاً رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له المعنى، بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد أثابكم الله بمنه.

ص: 162

فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، من قال: أن الكلام غير المتكلم والقول غير القائل وأراد أنه مباين له منفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول أن القرآن مخلوق فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم العلم غير العالم والقدرة غير القادر والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق وهذا تلبيس منهم.

فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال علم الله غيره، ولا يقال أن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقاً، لأن صفاته ليست هي الذات لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسماً لذات لا فات ها بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.

والصواب في مثل هذا أن يقال الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس منه بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " ولا يجوز أن يقال أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: أنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فقولهم منه بدأ رد على من قال: أنه مخلوق في بعض الأجسام ومن ذلك المخلوق ابتدأ، فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود أي فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله.

فمن قال أن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال أن الكلام غير المتكلم، وكذلك من قال أن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه

ص: 163

ظاهر، وكذلك من قال أن القرآن الذي يقرأه المسلمون غير المقروء الذي يقرأه المسلمون فقد أخطأ.

وإن أراد بالقرآن مصدر قرأ يقرأ قراءةً وقرآناً وقال أردت أن القراءة غير المقروء فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلاً كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيماً للفعل تارةً وقسماً منه أخرى، فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تجاوز لا متى ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ومنه قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " ومنه قوله تعالى: " وما تكون في شأن وما نتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل " وأمثال ذلك فيما يفرق بين القول والعمل، وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى:" فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " وقد فسروه بقول لا إله إلا الله، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله " مع قوله " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ونظائر ذلك متعددة.

وقد تتوزع فيمن حلف لا يعمل عملاً إذا قال قولاً كالقراءة ونحوها هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره بناءً على هذا.

فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب والله سبحانه وتعالى أعلم.

تم الكتاب المجموع ولله الحمد

ص: 164

يقول محمد رشيد آل رضا: قد جمع هذه المباحث والفتاوى عالم الشام السلفي

الاثري، الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي الشهير (رح) من كتاب الكواكب وغيره

من كتب شيخ الإسلام وفتاويه، وأرسله إلى صديقنا السلفي الاثري السري،

صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف الحجازي. وقد رفعه هذا إلى الإمام الهمام،

ومحي مذهب السلف وسنة خير الأنام، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل

سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها فبادر إلى اصدار أمره الينا بطبعه مع رسائل أخرى

لشيخ الإسلام قدس الله روحه لنشره في مملكته وغيرها كسائر مطبوعاته النافعة (وهي

ماحواه هذا المجموع) وكنا نظن أن المرحوم القاسمي عني بقراءته وتصحيحه بنفسه،

أن يكون عني بتصحيحه، وقد هون علينا تصحيحه ما فيه من تكرار المسائل فاستفدنا

من مقابلة بعضها ببعض.

وأما قيمة هذا المجموع الدينية العلمية فهي لا تقدر، والتكرار فيه مفيد فان

هذه التحقيقات الواسعة قلما يعيها أحد إلا إذا تكررت على ذهنه مراراً كثيرة

ومن الغريب أن هذه المسائل كان يكتبها شيخ الاسلام قدس الله روحه

أو يمليها من غير مراجعه كتاب من الكتب، وهي من الآيات البينات، والبراهين

الواضحات، على أن هذا الرجل من أكبر آيات الله في خلقه، أيد بها كتابه الذي

قال فيه انه (يهدي للتي هي أقوم) وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان

عليه السلف الصالح من فهمها، والاعتصام بها.

ويعلم من كل فتوى منها - بله جملتها ومجموعها - انه رحمه الله تعالى قد

جمع من العلوم النقلية والعقلية الشرعية والتاريخية والفلسفية من الإحاطة بمذاهب

الملل والنحل وآراء المذاهب ومقالات الفرق حفظا وفهما ما لا نعلم مثله عن

أحد من علماء الأرض قبله ولا بعده، وأغرب من ذلك ما آتاه الله من قوة الحكم في

إبطال الباطل وإحقاق الحق في كل منها بالبراهين النقلية والعقلية، ونصر مذهب السلف

في فهم الكتاب والسنة على كل ما خالفه من مذاهب المتكلمين والفلاسفة وغيرهم

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)

ص: 165

فهرس عناوين الكتاب

(مذهب السلف القويم، في تحقيق مسألة كلام الله الكريم)

(1)

سؤال من كيلان عن كلام الله عز وجل وكلام البشر وحكم من قال كل منهما

قديم وما نقل عن الإمام أحمد في المسألة - وجوابه ص 2 - 16.

(2)

فصل في مسألة القرآن العزيز ودلالة الكتاب والسنة على ما اتفق عليه

السلف الصالح فيها من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم وما حدث

فيها من الأقوال بعدهم 17 - 34.

(3)

مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم (ع. م) وهل هي قديمة أو مخلوقة 35

فصل منه في نزاع المتأخرين في الحروف من كلام البشر وسببه 45

فصل في الحكم بين المتنازعين في ذلك أيهم المصيب 47

فصل في حروف المعاني التي هي قسمة الأسماء والأفعال 84

فصل في بيان أن القرآن كلام الله لا كلام جبريل ولا محمد ومعنى إنزاله 89

فصل في منشأ النزاع والاختلاف وهو علم الكلام الذي ذمه السلف ونظرياته الباطلة. 102

فصل في فروع الاختلاف وفرق الناس فيه 106

مسألة كلام الله تعالى في كتاب منهاج السنة ومذاهب الشيعة فيها 113

فصل في كتاب موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 123

فتوى في مسألة الكلام 131

فتوى ثانية في مسألة الكلام 146

فتوى ثالثة في مسألة الكلام 151

فتوى رابعة في إثبات أن الكلام صفة المتكلم لا عينه ولا غيره 162

ص: 166