المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: موضوع الكتاب وخطورته - مختصر العلو للعلي العظيم

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌باب: موضوع الكتاب وخطورته

‌باب: موضوع الكتاب وخطورته

موضوع الكتاب وخطورته

اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا الكتاب قد عالج مسألة هي من أخطر المسائل الاعتقادية التي تفرق المسلمون حولها منذ أن وجدت المعتزلة حتى يومنا هذا، ألا وهي مسألة علو الله عز وجل على خلقه، الثابتة بالكتاب والسنة المتواترة المدعم بشاهد الفطرة السليمة، وما كان لمسلم أن ينكر مثلها في الثبوت، لولا أن بعض الفرق المنحرفة عن السنة فتحوا على أنفسهم وعلى الناس من بعدهم باب التأويل، فلقد كاد الشيطان به لعدوه الإنسان كيدا عظيما، ومنعهم به أن يسلكوا صراطا مستقيما، كيف لا وهم قد اتفقوا على أن الأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقة، وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، أو لقرينة عقلية أو عرفية أو لفظية كما هو مفصل في محله، ومع ذلك فإنك تراهم يخالفون هذا الأصل الذي أصلوه، لأتفه الأسباب، وأبعد الأمور عن منطق الإنسان المؤمن بكلام الله وحديث نبيه حقا، فهل يستقيم في الدنيا فهم أو تفاهم إذا قال قائل مثلا:"جاء الأمير" فيأتي متأول من أمثال أولئك المتأولين، فيقول في تفسير هذه الجملة القصيرة: يعني جاء عبد الأمير، أو نحو ذلك من التقدير. فإذا أنكرت عليه ذلك أجابك بأن هذا مجاز فإذا قيل له: المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة وهي ممكنة هنا أو لقرينة لا قرينة هنا "1" سكت أو جادلك بالباطل.

1 قرائن المجاز الموجبة للعدول إليه عن الحقيقة ثلاث: العقلية كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أهلهما. ومنه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} .

الثانية: الفوقية مثل {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي مر من يبني، لأن مثله مما يعرف أنه لا يني.

الثالثة: نحو "مثل نوره" فإنها دليل على أن الله غير النور.

قال أهل العلم: وأمارة الدعوة الباطلة تجردها عن أحد هذه القرائن، انظر:"إيثار الحق على الخلق""ص166-167" للعلامة المرتضى اليماني.

ص: 22

وقد يقول قائل: وهل يفعل ذلك عاقل؟ قلت: ذلك ما صنعه كل الفرق المتأولة، الذين ينكرون حقائق الأسماء والصفات الإلهية من المعتزلة وغيرهم ممن تأثر بهم من الخلف، ولا نبعد بك كثيرا بضرب الأمثال وإنما نقتصد مثلين من القرآن الكريم، أحدهما يشبه المثال السابق تماما، والآخر له صلة بصلب موضوع الكتاب.

الأول: قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فقيل في تأويلها: "وجاء ربك"! وقيل غير ذلك من التأويل. ونحو كذلك أولوا قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} . فقال بعضهم: يأتيهم الله بظلل. فنفى بذلك حقيقة الإتيان اللائق بالله تعالى بل غلا بعض ذوي الأهواء فقال: "قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظلل من الغمام ليروه جهرة، لأن اليهود كانوا مشبهة يجوزون على الله المجيء والذهاب"! نقله الكوثري في تعليقه على "الأسماء والصفات""ص447-448" عن الفخر الرازي وأقره!!

فتأمل -هداني الله وإياك- كيف أنكر مجيء الله الصريح في الآيتين المذكورتين. وهو إنما يكون يوم القيامة كما جاء في تفسير ابن جرير لقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فذكر "12/ 245-246" في قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} عن قتادة وابن جريج: يوم القيامة، ونحوه عن ابن مسعود وغيره. في "الدرر المنثور""1/ 241" وانظر كلمة الإمام ابن راهويه في إثبات المجيء في الفقرة الآتية من الكتاب "213".

فنفى هذا المتأول ببركة التأويل إتيان الله ومجيئه يوم القيامة الثابت في هذه الآيات الكريمة، والأحاديث في ذلك أكثر وأطيب، ولم يكتف بهذا بل نسب القول بتجويز المجيء على الله إلى اليهود، وأن الآية نزلت في حقهم! ضلال وكذب، أما الضلال فواضح من تحريف الآيات المستلزم الطعن في الأئمة الذين

ص: 23

يؤمنون بمجيء الله تعالى يوم القيامة. وأما الكذب فإن أحدا من العلماء لم يذكر أن الآية نزلت في اليهود، بل السياق يدفع ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ

} . [سورة البقرة: 208-211]

قلت: فأنت ترى أن الخطاب موجه للمؤمنين، ولذلك قال ابن جرير في تفسيره "4/ 259" لقوله تعالى:{فَإِنْ زَلَلْتُم..} :

" يعني بذلك جل ثناؤه، فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه وخالفتم الإسلام وشرائعه من بعد ما جاءتكم حججي، وبينات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون - فاعلموا أن الله ذو عزة

".

نعم قد روى ابن جرير "4/ 255" عن عكرمة قوله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وو

كلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله يوم السبت كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه

فنزلت ".

قلت: وهذا مع أنه في مؤمني اليهود لا يصح إسناده لإرساله، ولو صح لم يجز القول بأنها "نزلت في حق اليهود" لأنها تعني عند الإطلاق كفارهم، والواقع خلافه! فتأمل هذا رحمنا الله وإياك، هل تجد في هذه الآيات المصرحة بإتيان الله ومجيئه قرينة من تلك القرائن الثلاث تضطر السامع إلى فهم ذلك على المجاز لا الحقيقة؟ كلا، ثم كلا، ولكنهم لما فهموا مجئ الله تعالى مجيئا على نحو مجيء المخلوق، وهذا تشبيه حقا اضطرهم هذا الفهم الخاطئ إلى إنكاره ونسبته إلى اليهود! وصاروا إلى التأويل. وكان بوسعهم أن يثبتوا لله تعالى هذه الصفة كما أثبتها السلف دون تشبيه كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وإلا فهم على ذلك سيتأولون السمع والبصر أيضا، لأن الله تعالى قد أثبت للمخلوق سمعا وبصرا، في القرآن والسنة، فقد يقولون إننا إذا

ص: 24

أثبتنا السمع والبصر لله شبهناه بمخلوقاته! وهذا ما فعلته المعتزلة تماما، فإنهم تأولوهما بالعلم تنزيها له تعالى عن المشابهة، زعموا، وبذلك آمنوا بالطرف الأول من الآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولم يؤمنوا بالطرف الآخر منها {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأما الأشاعرة وغيرهم من الخلف، فقد آمنوا بكل ذلك هنا فجمعوا بين التنزيه والإثبات قائلين سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا. فهذا هو الحق وكان عليهم طرد ذلك في كل ما وصف الله به نفسه، فيقال: مجيئه تعالى حق ولكنه ليس كمجيئنا، ونزوله إلى السماء الدنيا حق لتواتر الأحاديث بذلك كما يأتي في الكتاب ولكن ليس كنزولنا، وهكذا في كل الصفات، ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف في كثير من الصفات، منها ما نحن فيه فتأولوه بما سبق، أو بغيره 1 ومنها الاستواء الآتي ذكره قريبا.

هذا هو المثال الأول:

وأما المثال الآخر فقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقوله فتأولوه "الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش ". فقد تأول الخلف الاستواء المذكور في هاتين الآيتين ونحوهما بالاستيلاء وشاع عندهم في تبرير ذلك إيرادهم قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

بغير سيف ودم مهراق!

متجاهلين اتفاق كلمات أئمة التفسير والحديث واللغة على إبطاله، وعلى أن المراد بالاستواء على العرش إنما هو الاستعلاء والارتفاع عليه، كما سترى أقوالهم مروية في الكتاب عنهم بالأسانيد الثابتة قرنا بعد قرن، وفيهم من نقل اتفاق العلماء عليه. مثل الإمام إسحاق بن راهويه "الترجمة 67"، والحافظ ابن عبد البر "الترجمة 151" وكفى بهما حجة في هذا الباب.

ومع ذلك فإننا لا نزال نرى علماء الخلف -إلا قليلا منهم- سادرين في

1 انظر "الأسماء والصفات" للبيهقي "ص448-449".

ص: 25

مخالفتهم للسلف في تفسيرهم لآية الاستواء وغيرها من آيات الصفات وأحاديثها.

وقد يتساءل بعض القراء عن سبب ذلك فأقول:

ليس هو إلا إعراضهم عن اتباع السلف، ثم فهمهم -خطأ- الاستعلاء المذكور في الآيات الكريمة، أنه الاستعلاء اللائق بالمخلوق، ولما كان هذا منافيا للتنزيه الواجب لله اتفاقا فروا من هذا الفهم، إلى تأويلهم السابق، ظنا منهم أنهم بذلك نجوا من القول على الله تعالى بما لا يليق به سبحانه.

ولقد كان من كبار هؤلاء العلماء القائلين بالتأويل المذكور برهة من الزمن جماعة من أهل العلم. منهم الإمام أبو الحسن الأشعري كما سيأتي بيانه في ترجمته من الكتاب "120 ". ومنهم العلامة الجليل أبو محمد الجويني الشافعي والد إمام الحرمين المتوفى سنة "438" ثم هداه الله تعالى إلى اتباع السلف في فهم الاستواء وسائر الصفات، ثم ألف في ذلك رسالة نافعة1 قدمها نصيحة لإخوانه في الله كما صرح بذلك في مقدمتها. وقد وصف فيها وصفا دقيقا تحيره وتردده في مرحلة من مراحل حياته العلمية بين اتباع السلف، وبين اتباع علماء الكلام في عصره الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، فقال رحمه الله تعالى "ص176-177":

"اعلم أنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل:

1-

مسألة الصفات.

2-

مسألة الفوقية.

3-

ومسالة الحرف والصوت في القرآن المجيد.

وكنت متحيزا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع

1 لقد نقل الشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي في عقيدته "النصيحة في صفات الرب جل وعلا" رسالة الإمام الجويني. حتى إن نسبتها للجويني كان الأولى، وقد استدركت ذلك في الطبعة الثانية "زهير الشاويش".

ص: 26

ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل. فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت.

ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ويؤول النزول بنزول الأمر، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين، ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم، وأمثال ذلك، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذات بالأحرف بلا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم!

وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها، قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام، لفضلهم وعلمهم. ثم إني مع ذلك أجد في قبلي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره. المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.

وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول، مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه، واصفا له بها. وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يحضر مجلسه الشريف العالم والجاهل، والذكي والبليد، والأعرابي والجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها، لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها، كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين، مثل تأويلهم الاستيلاء للاستواء، ونزول الأمر للنزول، وغير ذلك. ولم

ص: 27

أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها، ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني آخر باطنة، غير ما يظهر من مدلولها، وأجد الله عز وجل يقول

".

ثم ذكر بعض الآيات في الاستواء والفوقية والأحاديث في ذلك، مما هو جزء يسير مما سيأتي في الكتاب ثم قال "ص181"1:

"إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبهة التأويل، وعماوة التعطيل، وحماقة التشبيه والتمثيل، وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك، والصدور تنشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وعي، مع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا، ولا نقف في ذلك. وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة. فمن وفقه الله تعالى للإثبات بلا تحريف، ولا تكييف، ولا وقوف، فقد وقف على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى".

ثم شرع يبين السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويل "الاستواء" بالاستيلاء فقال "ص181-183":

"والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء و

هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا

فلذلك حرفوا الكلام عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به. ونذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

لا ريب أنا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع،

1 "مجموعة الرسائل المنيرية".

ص: 28

والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام لله. ونحن قطعا لا نعقل من الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا. وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراضا تقوم بجوارحنا، فكما أنهم يقولون: حياته ليست بعرض، وعلمه كذلك، وبصره كذلك هي صفات كما تليق به، لا كما تليق بنا، فكذلك نقول نحن: حياته معلومة، وليست مكيفة، وعلمه معلوم وليس مكيفا، وكذلك سمعه وبصره معلومان، ليس جميع ذلك أعراضا بل هو كما يليق به.

ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله، ففوقيته معلومة، أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر، فإنهما معلومان ولا يكيفان. كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما يليق به، واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته، وجلال صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معلومة من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصرا بها من وجه، أعمى من وجه مبصرا من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكيف والتحديد. وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الرب تعالى منا في إبراز صفاته لنا، لنعرفه به، ونؤمن بحقائقها، وننفي عنها التشبيه، ولا نعطلها بالتحريف والتأويل، ولا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، الكل ورد به النص.

فإن قالوا لنا في الاستواء: شبهتم نقول لهم في السمع: شبهتم، ووصفتم ربكم بالعرض! فإن قالوا: لا عرض بل كما يليق به. قلنا في الاستواء والفوقية: لا حصر، بل كما يليق به. فجميع ما يلزمونا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم. فكما لا يجعلونها هم أعراضا. كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا ما يوصف به المخلوق، وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف.

ص: 29

ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده، وقبل نصيحتنا، ودان لله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك، ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف. وهذا مراد الله منا في ذلك؛ لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة، فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وحرفنا هذه وأولناها، كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى".

قلت: لقد وضح من كلام الإمام كالجويني رحمه الله تعالى السبب الذي حمل الخلف -إلا من شاء الله- على مخالفة السلف في تفسير آية "الاستواء"، وهو أنهم فهموا منه -خطأ كما قلنا- استواء لا يليق إلا بالمخلوق وهذا تشبيه فنفوه بتأويلهم إياه بالاستيلاء!

ومن الغريب حقا أن الذي فروا منه بالتأويل، قد وقعوا به فيما هو أشر منه بكثير، ويمكن حصر ذلك بالأمور الآتية:

الأول: التعطيل، وهو إنكار صفة علو الله على خلقه علوا حقيقيا يليق به تعالى. وهو بين في كلام الإمام الجويني.

الثاني: نسبة الشريك لله في خلقه يضاده في أمره، فإن الاستيلاء لغة لا يكون إلا بعد المغالبة كما ستراه في ترجمة الإمام اللغوي ابن الأعرابي، فقد جاء فيها:

أن رجلا قال أمامه مفسرا الاستواء معناه: استولى. فقال لهم الإمام: اسكت، العرب لا تقول للرجل:"استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى. والله تعالى لا مضاد له". وسنده عنه صحيح كما بينته هناك في التعليق "210" واحتج به العلامة نفطويه النحوي في "الرد على الجهمية" كما ستراه في ترجمته "119".

فنسأل المتأولة: من هو المضاد لله تعالى حتى تمكن"! " الله تعالى من التغلب عليه والاستيلاء على ملكه عنه؟!

ص: 30

وهذا إلزام لا مخلص لهم منه إلا برفضهم لتأويلهم، ورجوعهم إلى تفسير السلف، ولما تنبه لهذا بعض متكلميهم جاء بباقعة أخرى! وذلك أنه تأول "الاستيلاء" الذي هو عندهم المراد من "الاستواء" بأنه استيلاء مجرد عن معنى المغالبة! 1.

قلت: وهذا مع كونه مخالفا لغة كما سبق عن ابن الأعرابي فإن أحسن ما يمكن أن يقال فيه: إنه تأويل للتأويل!! وليت شعري ما الذي دخل بهم إلى هذه المآزق، أليس كان الأولى بهم أن يقولوا: استعلى استعلاء مجردا عن المشابهة. هذا لو كان الاستعلاء لغة يستلزم المشابهة. فكيف وهي غير لازمة؟ لأن الاستواء في القرآن فضلا عن اللغة قد جاء منسوبا إلى الله تعالى كما في آيات الاستواء على العرش، وقد مضى بعضها، كما جاء منسوبا إلى غيره سبحانه كما قال في سفينة نوح "استوت على الجودي" وفي النبات "استوى على سوقه"، فاستواء السفينة غير استواء النبات. وكذلك استواء الإنسان على ظهر الدابة، واستواء الطير على رأس الإنسان واستواؤه على السطح، فكل هذا استواء ولكن استواء كل شيء بحسبه، تشترك في اللفظ، وتختلف في الحقيقة، فاستواء الله تعالى هو استواء واستعلاء يليق به تعالى ليس كمثله شيء.

وأما الاستيلاء فلم يأت إطلاقه على الله تعالى مطلقا إلا على ألسنة المتكلمين! فتأمل ما صنع الكلام بأهله، لقد زين لهم أن يصفوا الله بشيء هو من طبيعة المخلوق واختصاصه، ولم يرضوا أن يصفوه بالاستعلاء الذي لا يماثله شيء وقد قال به السلف، فلا عجب بعد ذلك أن اجتمعوا على ذم الكلام وأهله، وتأتيك بعض النقول عنهم في الكتاب ووافقهم على ذلك بعض الخلف، فقال السبكي في مقدمة رسالة "السيف الصقيل" "ص12":

" وليس على العقائد أضر من شيئين: علم الكلام والحكمة اليونانية

1 نقله الكوثري في تعليقه على "الأسماء والصفات""ص406" عن ابن المعلم!

ص: 31

وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة، إما خطأ في بعضه، وإما سقوط هيبته، والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون، وعموم الناس الباقون على الفطرة السليمة".

وبعد فإن ضرر التأويل على أهله، وحمله إياهم على الانحراف عن الشرع مما لا حدود له في نظري، فلولاه لم يكن للقائلين بوحدة الوجود اليوم وجود، ولا لإخوانهم القرامطة الباطنية من قبل، الذين أنكروا الشريعة وكل ما فيها من حقائق كالجنة والنار، والصلاة والزكاة والصيام والحج، ويتأولونها بتآويل معروفة. قال العلامة المرتضى اليماني في "إيثار الحق على الخلق" في صدد بيان قبح التأويل "ص135":

"فإن المعتزلة والأشعرية إذا كفروا الباطني بإنكار الأسماء الحسنى والجنة والنار، يقول لهم الباطني: لم أجحدها، إنما قلت: هي مجاز، مثلما أنكم لم تجحدوا الرحمن الرحيم الحكيم، وإنما قلتم: إنها مجاز! وكيف كفاكم المجاز في الإيمان بالرحمن الرحيم وهما أشهر الأسماء الحسنى أو من أشهرها، ولم يكفني في سائرها وفي الجنة والنار مع أنهما دون أسماء الله بكثير؟ وكم بين الإيمان بالله وبأسمائه والإيمان بمخلوقاته؟! فإذا كفاكم الإيمان المجازي بأشهر الأسماء الحسنى فكيف لم يكفني مثله في الإيمان بالجنة والنار والمعاد؟! ".

قلت: ونحوهم طائفة القاديانية اليوم الذين أنكروا بطريق التأويل كثيرا من الحقائق الشرعية المجمع عليها بين الأمة كقولهم ببقاء النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم متأسين في ذلك بنبيهم ميرزاغلام أحمد، ومن قبله ابن عربي في "الفتوحات المكية" وتأولوا قوله تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بأن المعنى زينة النبيين وليس آخرهم! وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي" بقولهم: أي معي! وأنكروا وجود الجن مع تردد ذكرهم في القرآن الكريم، فضلا عن السنة وتنوع صفاتهم فيهما، وزعموا أنهم طائفة من البشر! إلى غير ذلك من ضلالاتهم، وكلها من بركات التأويل الذي أخذ به الخلف في آية الاستواء وغيرها من آيات الصفات.

ص: 32

وليس أدل على ضرر التأويل على أصحابه المغرمين به من القول الذي شاع بينهم ولهجت به ألسنتهم كلما أثير بحث الصفات والإيمان بها على حقائقها أو على تأويلها ألا وهو قولهم:

" مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم "

والشاب المثقف اليوم الذي لم تتلوث ثقافته الشرعية بشيء من علم الكلام ربما لا يصدق أن أحدا من الخلف يقول مثل هذا القول! وحق له ذلك لخطورته وفظاعته ولكنه -مع الأسف- هو الواقع المعروف لدى طلبة الشريعة، وإليك مثالا واحدا على ذلك مما يقرؤونه على مشايخهم قال الباجوري في حاشيته "ص55" تحت قول صاحب "الجوهرة":

وكل نص أوهم التشبيها

أوله أو فوض ورم تنزيها

"وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لما فيها من مزيد الإيضاح، والرد على الخصوم، وهي الأرجح، ولذلك قدمها المصنف، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى"!

وكلام الكوثري المشهور بعدائه الشديد لأهل السنة والحديث في تعليقاته كلها يدور على هذا المعنى من التفصيل المزعوم، وفي تعليقه على "السيف الصقيل" التصريح بذلك "ص132".

وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة! قال ابن تيمية في "العقيدة الحموية": "كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:

لعمري قد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

ص: 33

وأقروا على أنفسهم بما قالوا، متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، مثل قول بعض رؤسائهم:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ويقول الآخر منهم:

" أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام".

ثم إذا حق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولا وقعوا من ذلك على عين وعلى أثر.

كيف يكون هؤلاء المنقصون المحجوبون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذي بهم قام الكتاب وبه قاموا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.

ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟! "

وقال العلامة السفاريني في "شرح العقيدة""1/ 21 - مختصره":

" فمن المحال أن يكون المخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق له به ممن لا يقدر قدر السلف ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا

ص: 34

المؤمنين به؛ حق المعرفة المأمور بها، أن طريقة السلف أسلم [وطريقة الخلف] 1 أعلم وأحكم.

وهؤلاء إنما أتوا، من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث؛ من غير فقه ذلك، بمنزلة الأميين أو أن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات.

فهذا الظن الفاسد، أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم".

ثم استشهد على ذلك بكلام للحافظ ابن رجب في كتابه "فضل علم السلف على علم الخلف" فليراجعه من شاء.

والظن الذي أتوا منه المخالفون هو مما يكرر ذكره بعض المؤيدين لمذهب الخلف على مذهب السلف، ويتوهم صحته بعض الكتاب الإسلاميين الذين لا علم عندهم بأقوال السلف، ويسمونه بـ"التفويض"، وهو مما يكثر الكوثري عزوه إليهم زورا، فيقول في تعليقه على "السيف الصقيل" "ص13":"الذي كان عليه السلف إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة "؟ " في صفات الله سبحانه على اللسان، مع التنزيه بدون خوض في المعنى، ومن غير تعيين المراد"!

وأعاد هذا المعنى مواضع أخرى منه "ص131 و145"، وجر على منواله قرينه المتعاون معه على تحريف نصوص كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي ذاك في التعليق عليه، وهذا في التقديم له في كتابه الذي سماه "فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان" أعني الشيخ سلامة القضاعي

1 سقطت من "المختصر" واستدركتها من "اللوامع""1/ 25".

ص: 35

العزامي، فقد ذكر نحوه في مواطن منه غير أنه قال:"أكثر السلف على الكف عن بيان المعنى المراد اللائق بالحق تعالى" كذا قال "ص94 ". ونحوه "ص81 و5"، فقد نسب إلى أكثر السلف تنزههم عن بيان المعنى اللائق بالحق تعالى. فهل كان ذلك جهلا منهم بالله، أم كتما للعلم؟! فبأيهما أجاب، فهو كما قيل: أحلاهما مر. وصدق الله العظيم: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم} !

وجملة القول في التأويل الذي تمسك به الخلف أنه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في منتصف قصيدته الرائعة "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" المعروفة بالنونية:

" هذا وأصل بلية الإسلام من

تأويل ذي التحريف والبطلان".

ثم أفاض في سرد أضراره نظما بما لا تجده عند غيره نثرا، فراجعه فإنه هام جدا. وانظرها مع شرحها للشيخ أحمد بن عيسى المسمى بـ"توضيح المقاصد وتصحيح القواعد بشرح قصيدة ابن القيم"1.

ثم إن عجبي لا يكاد ينتهي من الكوثري وأمثاله الذين ينسبون السلف الصالح في آيات الصفات إلى التفويض وعدم البحث عن المراد منها كما سبق النقل الصريح بذلك عنه فإنه إن لم يجد في قلبه من التعظيم للسلف وعلمهم ما يزعه عن التلفظ بها بما يمس مقامهم في المعرفة بالله تعالى وصفاته أفلم يقف على ما نقله العلماء عنهم من العبارات المختلفة لفظا والمتحدة معنى وكلها تلتقي حول شيء واحد وهو إثبات الصفات مع الرد على المعطلة النافين لها والممثلة المشبهين لها بصفات الخلق، وإليك بعض النصوص في ذلك مما ستراه في الكتاب في تراجمهم إن شاء الله تعالى.

1-

قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد: عن الأحاديث التي في الصفات؟ فكلهم قالوا لي:

" 1" في مجلدين كبيرين وهي من مطبوعات "المكتب الإسلامي".

ص: 36

أمروها كما جاء بلا تفسير. وفي رواية: بلا كيف.

2-

قال ربيعة الرأي، ومالك وغيرهما:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتوى الحموية""ص109 مطبعة السنة المحمدية".

"فقول ربيعة، ومالك: الاستواء غير مجهول

" موافق لقول الباقين، "أمروها كما جاءت بلا كيف"؛ فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" ولما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم"!

وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبت الصفات.

وأيضا، فإن من ينفي الصفات الجزئية -أو الصفات مطلقا- لا يحتاج إلى أن يقول "بلا كيف" فمن قال:"إن الله ليس على العرش" لا يحتاج أن يقول "بلا كيف"، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، فلما قالوا:"وبلا كيف".

وأيضا فقولهم "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظا دالة على معاني فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: "أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد. أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن من الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة" وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ "بلا كيف" إذا نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول".

ص: 37

3-

قال الإمام الخطابي:

" مذهب السلف في الصفات إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها".

4-

قال الحافظ ابن عبد البر:

" أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئاً من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئاً على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود".

قلت: فهذا قل من جل النصوص التي سنراها في الكتاب، وهي كلها متفقة على أن السلف كانوا يفهمون آيات الصفات، ويفسرونها ويعينون المعنى المراد منها، على ما يليق به تبارك وتعالى.

فلماذا لا يرفع الكوثري وأمثاله من الخلف رؤوسهم إلى هذه النصوص، ويظلون يصرون على أن السلف كانوا لا يفهمونها وإنما كانوا يجرونها على ألسنتهم فقط، دون تدبر لها وبيان لمعناها؟!

والجواب: أحسن أحواله أن يكون حاله كحال الجويني الذي كان متأثرا بشيوخه من علماء الكلام، ولكنه لما كان مخلصا في علمه لله تعالى هداه الله تبارك وتعالى إلى عقيدة السلف في الاستواء وغيره مصداقا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، فهل كان الكوثري وأمثاله من الطاعنين في أئمة الحديث والسلف مخلصين أيضا؟

من الصعب جدا أن نجيب عن هذا بالإيجاب لكثرة ما نرى من عدائه الشديد -في كل تعليقاته- لأئمة السلف والتوحيد واستمراره على اتهامهم بالتجسيم والتشبيه وبصورة خاصة لابن تيمية منهم مع رد هذا على المجسمة

ص: 38

ومبالغته في سائر كتبه، فلا نكاد نراه في صدد الرد على المعطلة، إلا ويشرك معهم في الرد المجسمة، كما يعرف ذلك كل من له دراسة لكتبه رحمه

الله تعالى، ومن كلامه في هذا الصدد قوله في "الحموية" "ص160":

" فمن قال: لا أعقل علما ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟ ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه".

قلت: وهذا قليل من كثير من كلامه الذي يدل دلالة قاطعة على أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو منزه وليس بمشبه أو مجسم كما يفتري الكوثري. وقد نقل صديقه 1 العلامة أبو زهرة في كتابه "ابن تيمية" نصوصا كثيرة من كلام ابن تيمية في موضع الصفات الإلهية، ولخص عقيدته فيها تلخيصا جيدا لا تحامل فيه، بل إنه قد برأه مما اتهمه الكوثري فقال "ص264":

" وليس في ذلك ما يتنافى مع التنزيه، أو يخالف التوحيد، أو يثبت مشابهة بينه سبحانه وبين الحوادث ". ثم قال "ص266":

" وينتهي بلا ريب إلى أن يثبت لله سبحانه وتعالى الاستواء واليد وغير، ذلك ولكن يقول: إن هذا كله بما يليق بذاته تعالى لا نعرف حقيقته وعلينا الإيمان به"

ولكنه عاد فنقل عن كتاب "رد شبه التشبيه" لابن الجوزي كلاما له ينتصر فيه للتأويل ويرد به على من يرميهم بالتشبيه فقال أبو زهرة "ص272" عقبه: "وهو مؤدى كلامهم ومهما حاولا نفي التشبيه فإنه لاصق بهم وإذا جاء ابن تيمية من بعده بأكثر من قرن وقال: إنه اشتراك في الاسم لا في الحقيقة فإنهم إن فسروا الاستواء بظاهر اللفظ فإنه الاقتعاد والجلوس

1 كما صرح به في "المذاهب الإسلامية""ص290 ".

ص: 39

الجسمية لازمة لا محالة وإن فسروه بغير المحسوس فهو تأويل، وقد وقعوا فيما نهوا عنه"!

فأقول: "رويدك يا فضيلة الشيخ، فأنت تعلم أن ابن تيمية لا يفسر الاستواء بشيء مما ذكرت، وإنما بالعلو، وكتبه طافحة بذلك، فلماذا أوهمت القراء خلاف الواقع، فهلا جريت على سننك في نقل أقوال ابن تيمية وأنت تشرح عقيدته ورأيه، أم ضقت ذرعا بالتزام النقل الصحيح فأخذت تنسب إليه ما ليس بصحيح، تارة بالتلويح، كما فعلت هنا، وتارة بالتصريح كما فعلت في كتابك الآخر "المذاهب الإسلامية" إذ قلت في بحث "السلفية" والإمام ابن تيمية "ص320":

"وهكذا يثبتون كل ما جاء في القرآن والسنة عن أوصافه سبحانه.... ويثبتون الاستقرار على العرش"!

فأين رأيت ابن تيمية يقول بالاستقرار على العرش، علما بأنه أمر زائد على العلو، وهو مما لم يرد به الشرع، ولذلك رأينا مؤلفنا الحافظ الذهبي قد أنكر على بعض القائلين بصفة العلو التعبير عنها بالاستقرار كما نراه في الترجمة "158، الفقرة 322" ويقول أبو زهرة أيضا "ص322" من كتابه المذكور:

"يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف: هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية، وتحتية، واستواء على العرش"! وقال في الصفحة التي قبلها: "فيكرر هذا المعنى فيقول مؤكدا أن الله ينزل ويكون في فوق وتحت من غير كيف"!

فأين قرر ابن تيمية وأثبت لله تعالى صفة التحتية؟! غالب الظن أن الشيخ أبا زهرة فهم من أحاديث النزول التحتية المزعومة، ثم عزا ذلك لابن تيمية كما فهم من آيات الاستواء: الاستقرار ثم عزاه إليه، وكل ذلك خطأ عليه كما يعلم ذلك من درس كتبه دراسة تفهم ووعي لا دراسة سريعة من أجل النقل عنه في ترجمته، وتسويد صفحاتها!

ص: 40

ومثل هذا العزو منه لابن تيمية دلني على أنه لم يفهم ابن تيمية وعقيدته وأفكاره فهما جيدا، بل لعله لم يقرأ كل ما لابن تيمية من البحث والتحقيق في المسائل التي أثارها الشيخ أبو زهرة في ما طبع من كتب ابن تيمية فضلا عن المخطوطة منها ككتابة المطبوع في المكتب الإسلامي:"شرح حديث النزول" فإن ابن تيمية رحمه الله قد قرر فيه أنه لا يلزم من نزوله تعالى أن يصير العرش فوقه تعالى، وهو تحت العرش، فإن هذا من طبيعة المخلوق، والله ليس كمثله شيء كما سيأتي الإشارة إلى ذلك في ترجمة الإمام إسحاق بن راهويه من الكتاب تعليقا على الفقرة "211"1، "1" بل قد قال ابن تيمية في "منهاج السنة" "2/ 248":

"ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما جاء الحديث سيكون العرش فوقه ويكون محصورا بين طبقتين من العالم فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه".

وإن مما يؤكد ما ذكرته من عدم فهمه لابن تيمية أنه لم يقتنع بما لخصه هو نفسه عن ابن تيمية "ص276" من كتابه "ابن تيمية" فقال:

"إن ابن تيمية يرى أن الألفاظ في اليد والنزول والقدم والوجه والاستواء على ظاهرها، ولكن بمعان تليق بذاته الكريمة كما نقلنا من قبل"

لم يقتنع بصواب رأي ابن تيمية هذا مع أنه الحق الصراح بل أخذ يرد عليه بكلام هزيل مضطرب لا طائل تحته -وهذا أحسن ما يقال فيه فقال عقبه:

"ومن هنا نقف وقفة: إن هذه الألفاظ وضعت في أصل معناها لهذه المعاني الحسية، ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها، وإذا أطلقت على غيرها سواء أكان معلوما أم مجهولا فإنها قد استعملت في غير معناها، ولا تكون بحال من الأحوال مستعملة في ظواهرها، بل تكون مؤولة، وعلى ذلك يكون ابن تيمية قد فر من التأويل ليقع في تأويل آخر، وفر من التفسير المجازي ليقع في تفسير

1 الصفحة "181 ".

ص: 41

مجازي آخر "

فقل لي بربك -أيها القارئ اللبيب- هل يقول هذا في ابن تيمية عالم كأبي زهرة فهم كلام ابن تيمية الذي نقله هو نفسه أكثر من مرة كقوله أنه لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في الحقيقة. ويبين ذلك ما نقله "ص265" عن "التدمرية" لابن تيمية" "ص12" أنه قال:

"إذا كان من المعلوم بالضوررة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا مجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصص والتقيد فلا يقول عاقل إذا قيل له: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود: "إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود [وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود فوجود كل منهما يخصه. لا يشركه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما] "1

ثم علق أبو زهرة على هذا الكلام بما يوضحه قال:

"ولذا يقول ابن تيمية في هذا المقام:

"قد سمى الله نفسه حيا فقال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وسمى بعض خلقه حيا فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ} ، وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قوله "الحي" اسم لله مختص به وقوله "يخرج الحي من الميت" اسم للحي المخلوق مختص به وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص

"

فهل تجد أيها القارئ أثرا للتأويل الذي زعمه أبو زهرة في تفسيره لهذه

1 زيادة من "التدمرية" ص "13-14" طبع المكتب الإسلامي.

ص: 42

الأسماء والآيات، أم هو يصرح بأنها كلها حقائق تناسب مع ذواتها، وتختلف حقائقها باختلاف ذواتها، غير أن ما في الأمر أن ما كان منها محسوسا فمن الممكن أن نعرف حقيقته بخلاف ما كان غائبا عنا كصفات الله تعالى بل والجنة والنار، فلا نعرف حقيقته، فقد ضرب لك أمثلة توضح للناس هذا الموضوع الخطير الذي كان الجهل به سببا كبيرا لانحراف الناس في الصفات عن طريق السلف. فنحن جميعا نقول:"الله موجود" كما نقول: "الخلق موجود ". ووجود كل منهما حقيقة تتناسب مع ذواتهما، وتقول:"الله حي" و"وأنا حي" حياة كل منهما حقيقة تتناسب مع ذواتهما، وهكذا طرد ذلك في جميع الأسماء والصفات، تجد كلام شيخ الإسلام واضحا بينا مقنعا لكل ذي لب.

وإذا كان الشيخ أبو زهرة لم يفهم كلام ابن تيمية، وبناء عليه نسب إليه التأويل خطأ، فهذا الخطب فيه سهل جدا بالنسبة لخطأ آخر في كلامه السابق فإنه إذا كان يعتقد "أن هذه الألفاظ وضعت في أصل معناها لهذه المعاني الحسية ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها، وإذا أطلق على غيرها سواء أكان معلوما أم مجهولا فإنها قد استعملت في غير معناها

" إلخ كلامه السابق.

أقول: إذا كان الشيخ يعتقد هذا، فإن معنى كلامه -لو كان يدري ما يقول- وهو يجادل شيخ الإسلام متأثرا بعلم الكلام أن وجود المخلوق وحياته وعلمه واستواءه وغير ذلك كله حقيقة، وأما وجود الخالق سبحانه وحياته وعلمه واستواءه وغير ذلك من صفاته فهي مجاز! وليست بحقيقة، ولازمه أن الله غير موجود، وليس بحي، ولا هو يعلم ولا هو مستو على العرش، ولا ولا.... إلخ إلى ما هنالك من أساليب معروفة يقول بها الفلاسفة، وبعض من تأثر بهم من المعتزلة وعلماء الكلام نقول هذا الأن الشيخ -هدانا الله وإياه قال:"إن هذه الألفاظ وضعت في أصل معناها لهذه المعاني الحسية" ووجوده الله وعلمه وحياته وسائر صفاته ليست حسية وعليه فلا تطلق عليهما كما قال إلا مجازا فهل أحس الشيخ أين طوحت به كلمته هذه؟ فإن كنت لا تدري

فأقول: قد عرفنا معنى الوجود المحسوس والحياة المحسوسة والعلم المحسوس،

ص: 43

والاستواء المحسوس، فما هو معنى هذه الأسماء إذا أضيفت إلى الله تعالى وهو غير محسوس؟ فالجواب: إنه لا معاني لها وإنما هي أسماء له فقط كما تقوله المعتزلة تماما كما حكاه الشيخ نفسه عنهم فإنه قال في "المذاهب""ص303":

"نفى المعتزلة الصفات كما قررنا، وأثبتها الأشعري وقالوا إنها شيء غير الذات، فقد أثبتوا القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام وقالوا: إنها غير الذات وقال المعتزلة لا شيء غير الذات وإن المذكور في القرآن من مثل قوله تعالى: "عليم وخبير وحكيم وسميع وبصير هو أسماء له تعالى".

أي لا معاني لها، وإنما هي كالأعلام المحضة المترادفة، ولذلك نعى ذلك عليهم العلماء ونسبوهم إلى التعطيل كما هو مبين في كتب شيخ الإسلام وغيره.

فهل يلتزم فضيلة الشيخ أبو زهرة ما لزمه من كلامه السابق من التعطيل الذي حكى مثله عن المعتزلة، فيكون على ذلك مثلهم منكرا لصفات الله تعالى الثابتة بالقرآن والسنة، أم يتراجع عن تلك الكلمة، لأنها زلة لسان، ويلتزم المذهب الذي شرحه ابن تيمية شرحا ليس من السهل الاستدراك عليه فيه، ومنه الاستواء، فيؤمن به على أنه صفة حقيقية لله تعالى تليق به كما ينبغي أن يؤمن كذلك بجميع صفاته عز وجل كالعلم والكلام ولا يصرفها إلى المجاز فيقع في التعطيل؟ كنت أرجو أن أعتبر تلك الكلمة منه زلة لسان صدرت منه ولكن صدني عن ذلك هو نفسه حيث رأيته قد مال كما سيأتي إلى تفسير "الاستواء" بالمعنى المجازي وهو السلطان الكامل وتفسير النزول بفيوض النعم الإلهية دون أن يتنبه الشيخ المسكين أن مثل هذا التفسير لازمه الكفر لأن تمام حديث النزول -كما يعلم- فيقول: ألا هل من داع فاستجيب له ألا

ألا

فهل القيوض هي التي تستجيب، وتغفر، وتعطي أم الله عز وجل لا شريك له؟

وجملة القول فيما نقله الكوثري عن ابن تيمية أنه أراد أن يكون معه نزيها

ص: 44

أديبا غير متأثر بموقف صاحبه الكوثري منه، ولكنه -مع الأسف تغلب عليه أثر الصحبة، فأخذ يطعن في عقيدة ابن تيمية، ولكن تلويحا لا تصريحا كما يفعل صاحبه وينسب إليه صراحة ما لم يقله كما تقدم بيانه، ولا أقول إنه فعل ذلك عمدا كصاحبه لا وإنما أتي من سوء فهمه لكلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. ومما يؤكد ذلك قوله عقب ما سبق نقله من كلامه الذي فيه "وعلى ذلك يكون ابن تيمية قد فر من التأويل ليقع في تأويل آخر

". فقال "ص277":

" ثم ما المآل وما الغاية من التفسير الظاهري أيؤدي إلى معرفة حقيقة أم لا يؤدي إلا إلى متاهات أخرى إنه يقول "يعني ابن تيمية": إن الحقيقة غير معروفة فيقول: إن الله له وجه غير معروفة الماهية

وله استواء غير معروف الماهية، ويد

و

إننا بلا شك إذا فسرنا تلك المعاني "كذا قال ولعله سبق قلم، وإنما أراد الألفاظ" بتفسيرات لا تجعلنا نحمله على مجهولات يكون ذلك التفسير أحرى بالقبول، ما دامت اللغة تتسع له وما دام المجاز بينا فيها، كتفسير اليد بمعنى القوة أو النقمة، والاستواء بمعنى السلطان الكامل، وتفسير النزول

بفيوض النعم الإلهية إلخ، ولا يعترض بأمن ذلك ليس فيه أخذ بالظاهر، لأن الذي اختاره ليس فيه أخذ بالظاهر"!

كذا قال، ولو أردنا أن نبين ما تحته من الخطأ والبعد عن جادة الصواب الذي لا يجوز أن يقع فيه عالم مثله لطال بنا المقام أكثر مما تتحمله هذه المقدمة ولكني أقول للشيخ كلمة موجزة:

ألا يكفيك يا فضيلة الشيخ مآلا وغاية أن تفهم أن الاستواء هو صفة لله غير صفة النزول، وأن هذه الصفة غير صفة السيطرة والإنعام وهكذا، كما يكفيك -فيما أرجو- أن تعتقد أن صفة السمع غير صفة البصر وأنهما غير صفة العلم وأن لا تعطلهما وتنكر وجودهما بتأويلك إياهما بما يعود إلى أن المراد بهما

ص: 45

صفة العلم كما يقوله بعض المعتزلة، وإن كان كثيرون منهم ينكرون جميع صفات الذات لله تبارك وتعالى كما نقلناه عنهم فيما سبق؟

بلى إنه يكفيك هذا وإلا فما الفرق بين تفسيرنا تبعا للسلف لهذه الصفات على ظاهرها مع اعتقاد أن حقيقتها لا يعلمها إلا المتصف بها سبحانه وتعالى، وبين إنكارك الاستواء مثلا وإيمانك -فيما أظن بتفسيرنا لسائر الصفات ككونه حيا قديرا مريدا حكيما

إلخ صفاته تعالى تفسيرا لها على ظاهرها دون تأويل أيضا مع اعتقاد أن حقيقتها لا يعلمها إلا الله؟

الذي أعتقده وأقطع به: أن كل عاقل من أهل العلم لا بد من أن يسلم بأنه لا فرق بين هذا وهذا أبدا، إذ الكل يعود إلى صفات ذات الله تعالى، فكما أننا نؤمن بذاته تعالى دون أن نعلم كنهها وحقيقتها، فكذلك القول في صفاته سبحانه ولا فرق، وإذا كان الأمر كذلك فإما أن يؤمن الشيخ معنا بحقائق الصفات ومنها الاستواء على ما شرحنا وإما أن يتأولها كلها، وبذلك يُلزم بإنكار وجود الله تعالى لأنه لا يعرف حقيقته، وكل ما لا يعرف حقيقته كالاستواء فهو يتأوله!!! وهذا ما وقع فيه الباطنية وكثير من الفلاسفة وقارب ذلك المعتزلة ومن تأثر بهم من علماء الكلام كما فصل ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتبه الكثيرة، جزاه الله عن الإسلام خيرا.

وهنا يطيب لي بهذه المناسبة أن أنقل من بعض المخطوطات فصلا رائعا من كلام بعض علماء السلف مما لم يطبع حتى الآن فيما علمت وهو للخطيب البغدادي الحافظ المؤرخ المشهور، وقد ذكر المصنف طرفا منه في ترجمته كما يأتي، فرأيت أن أذكره هنا بنصه، إتماما للحجة على الخلف الذين يتوهم الكثير منهم، أن القول بوجوب الإيمان بحقائق الصفات ومعانيها كما يليق بالله تعالى هو مذهب تفرد به ابن تيمية ومن اقتدوا به فيها، ولم يعلموا أنه رحمه الله تابع لهم في ذلك، وإنما فضله في بيانه وشرحه له وإقامة الأدلة عليه بالمنقول والمعقول، ودفع الشبهات عنه، وإلا فهو سلفي المعتقد، وهو الواجب على كل مسلم، ولذلك

ص: 46

بادرنا إلى نشر كتاب الذهبي هذا الذي بين يديك لتعلم به ما قد يكون خافيا عليك كما خفي على غيرك، فكان ذلك سببا قويا من أسباب الابتعاد عن العقيدة السلفية والطريقة المحمدية.

قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى:

" أما الكلام في الصفات؛ فإن ما روي منها في السنن الصحاح؛ مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها. وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه. وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف. والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه.

والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع علي الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.

فإذا قلنا: لله تعالى يد، وسمع، وبصر؛ فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: أن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا

نقول: إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقوله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث ولبسوا على من ضعف علمه بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين، ورموهم بكفر أهل التشبيه، وغفلة أهل التعطيل أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها، وآيات متشابهات لا يوقف على معناها

ص: 47

إلا بردها إلى المحكم، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع؛ فكذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم جارية هذا المجرى، ومنزلة على هذا التنزيل، يرد المتشابه منها إلى المحكم، ويقبل الجميع.

وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام:

أ- منها أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها، لاستفاضتها وعدالة ناقليها. فيجب قبولها، والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيها لله بخلقه، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات، والتغير والحركات.

ب- القسم الثاني: أخبار ساقطة، بأسانيد واهية، وألفاظ شنيعة، أجمع أهل العلم بالنقل على بطولها، فهذه لا يجوز الاشتغال بها ولا التعريج عليها.

ج- والقسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها، فقبلهم البعض دون الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول، أو تجعل في حيز الفساد والبطول".

قلت: فاحفظ هذا الأصل من الكلام في الصفات وافهمه جيدا، فإنه مفتاح الهداية والاستقامة عليها، وعليه اعتمد الإمام الجويني حين هداه الله تعالى لمذهب السلف في الاستواء وغيره كما تقدم ذكره عنه، وهو عمدة المحققين كلهم في تحقيقاتهم لهذه المسألة كابن تيمية وابن القيم وغيرهما، قال ابن تيمية في "التدمرية" "ص29": طبع المكتب الإسلامي:

" القول في الصفات كالقول في الذات فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات.

فإذا قال السائل؛ كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك

ص: 48

وغيرهما رضي الله عنهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة" لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا

يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله. إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له، فيكف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء فسمعه وبصره، وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزوله واستواؤهم

".

وقال في "الحموية""ص99" بعد أن ذكر مختصر ما تقدم:

"ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف بهنفسه، ووصفه به رسوله، فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.

وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل. أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولا، وعطلوا آخرا. وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسماءئه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش، أو أصغر، أو مساويا، وكل ذلك من المحال -ونحو ذلك من الكلام- فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان. وهذا اللازم تابع

ص: 49

لهذا المفهوم، إما استواء يليق بجلال الله، ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، إذ لا يعقل موجود إلا هذا وقوله: إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا. فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين.

والقول الفصل هو ما عليه الأمة الوسط، من إن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به. فكما أنه سبحانه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأغراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.

واعلم أنه ليس في العقل الصريح، ولا في شيء من النقل الصحيح، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا".

وأقول: أما النقل الصحيح، فهو موضوع مختصر كتاب الحافظ الذهبي الذي بين يديك، فستجد فيه ما يجعلك على مثل اليقين مؤمنا بأن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار السلفية متفقة كلها على أن الله تعالى فوق عرشه بذاته، بائنا من خلقه، وهو معهم بعلمه. وسترى إنشاء الله تعالى أن أئمة المذاهب المتبعة وأتباعهم الأولين ومن سار على نهجهم من التابعين لهم حتى أواخر القرن السادس من الهجرة قد اتفقت فتاواهم وكلماتهم على إثبات الفوقية لله تعالى على عرشه وخلقه وعلى كل مكان وأن ذلك كما أنه متواتر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "1" فهو مجمع عليه من السالفين والأئمة الماضين من المحدثين والفقهاء

1 صرح بتواتر ذلك الحافظ الذهبي في "صفات رب العالمين""1/ 175/ 2 ".

ص: 50

والمفسرين واللغوين وغيرهم، وستراهم بأسمائهم وأقوالهم الثابتة عنهم في ذلك، حتى قاربوا في عددهم المائتين، وهم في الواقع يبلغون المئات، ولكن ذلك ما تيسر جمعه للمؤلف رحمه الله تعالى1، فإذا وقف الطالب المخلص للحق على كلماتهم تيقن أنه يستحيل أن يكونوا قد أجمعوا على الضلال، ولعلم أن مخالفهم هو في الضلال، وما أحسن ما قاله المصنف رحمه الله تعالى في "صفات رب العالمين" بعد أن ذكر قليلا مما أشرنا

إليه من النقول "187/ 1-2":

" ولو ذكرنا قول كل من له كلام في إثبات الصفات من الأئمة لا تسع الخرق، وإذا كان المخالف لا يهتدي بمن ذكرنا أنه يقول: الإجماع على إثباتها من غير تأويلها أو لا يصدقه في نقله فلا هداه الله. ولا خير والله فيمن رد على مثل الزهري، ومكحول، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد ومالك، وابن عيينة، وابن المبارك، ومحمد بن الحسن، والشافعي، والحميدي، وأبي عبيد، وأحمد بن حنبل، وأبي عيسى الترمذي وابن سريج. وابن جريج الطبري وابن خزيمة وزكريا الساجي وأبي الحسن الأشعري أو يقول مثل قولهم من الإجماع مثل الخطابي وأبي بكر الإسماعيلي وأبي القاسم الطبراني وأبي أحمد العسال

"فذكر غيرهم مما سيأتي" والشيخ عبد القادر الجيلي "الإمام في كل عصر" -الذين هم قلب اللب ونقاؤه.

قلت: والعقل الفطري السليم يشهد لهؤلاء الأئمة وما معهم من نصوص الكتاب والسنة، وبيان ذلك:

لا خلاف بين المسلمين جميعا أن الله تعالى كان ولا شيء، معه لا عرش ولا كرسي ولا سماء ولا أرض، ثم خلق الله تعالى الخلق. كما سيأتي في حديث عمران بن حصين.

1 وذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "اجتماع الجيوش الإسلامية" جماعة آخرين من العلماء فراجعه إن شئت.

ص: 51

فإذا كان كذلك فمما لا شك فيه؛ أن مخلوقاته تعالى، إما أن يكون خلقها في ذاته تعالى فهي حالة فيه، وهو حال فيها وهذا كفر لا يقول به مسلم، وإن كان هو لازم مذهب الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقول قائلهم:"كل ما تراه بعينك فهو الله" تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وإذا كان الأمر كذلك، فمخلوقاته تعالى بائنة عنه غير مختللطة به. وحينئذ فإما أن يكون الله تعالى فوق مخلوقاته، وإما أن تكون مخلوقاته فوقه تعالى وهذا باطل بداهة فلم يبق إلا أن الله تبارك وتعالى فوقها، وهو المطلوب المقطوع ثبوته في الكتاب والسنة، وأقوال السلف ومن جاء بعدهم من الأئمة على اختلاف اختصاصاتهم، ومذاهبهم كما ستراه مفصلا في الكتاب إن شاء الله تعالى.

ومن هنا نعلم مبلغ ضلال الجهمية ومن تأثر بهم من الخلف الذين أنكروا جميعا أن يكون الله تعالى على عرشه فوق خلقه، ثم انقسم هؤلاء على مذهبين:

الأول: مذهب الجهمية الذين ذهبوا إلى أن الله تعالى في كل مكان مخلوق 1. وقد جادلهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى. فأحسن جدالهم

وكشف به عوارهم، فقال في رسالة "الرد على الجهمية"1:

"وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل:

أ- إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن

1 وحكاه الأشعري في "مقالات الإسلاميين""ص212" عن بعض المعتزلة، وتبرأ منه في "الإبانة" كما ستراه في ترجمته، وجزم بأنه تعالى مستو على عرشه وهذا خلاف اعتقاد أتباعه المنتسبين إليه كما سترى قريبا.

ص: 52

والإنس والشياطين وإبليس في نفسه!

ب- وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه، ثم دخل فيهم، كفر أيضا، حن زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر.

ج- وإن قال خلقهم خارجا من نفسه، ثم لم يدخل فيهم. رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة"1.

والمذهب الآخر قول بعض غلاة النفاة للعلو:

"الله، لا فوق، ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا أمام ولا خلف لا داخل العالم ولا خارجه""2" ويزيد بعض فلاسفتهم:

" لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه"!

قلت: وهذا النفي معناه -كما هو ظاهر- أن الله غير موجود، وهذا هو التعطيل المطلق، والجحد الأكبر، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وما أحسن ما قال محمود بن سبكتكين لمن وصف الله بذلك: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم! " ذكره في "التدمرية" "ص41".

وهذان المذهبان الباطلان أحدهما -ولا بد- لازم لكل من أنكر صفة العلو لله على عرشه، كما سبق بيانه.

وإن مما يؤسف له شديد الأسف أن المذهب الأول منهما هو السائد اليوم على ألسنة الناس في هذه البلاد عامتهم وخاصتهم فما تكاد تجلس في مجلس يذكر الله فيه، إلا بادرك بعض الجالسين فيه بقوله:"الله موجود في كل مكان"! وقد يقول آخر: "الله موجود"! في كل الوجود" فإذا سارعت إلى بيان

1 اجتماع الجيوش الإسلامية "ص76-80" ومثله في رسالة "المعرفة" للشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله

2 كذا في "حاشية البيجوري على "الجوهرة" "ص58" وقد سمعت هذا النفي من بعض المشايخ على المنبر يوم الجمعة يعلم المسلمين الإيمان برب العالمين!

ص: 53

بطلان هذا الكلام، لما فيه من نسبة ما لا يجوز إلى الله من كونه مظروفا لخلقه، وما فيه من المخالفة لصفة علوه على عرشه سارع بعض المتعالمين إلى تأويل ذلك القول بضم جملة "بعلمه" إليه. كأنما هو آية من كتاب الله، أو حديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا بد من تأويله! ولم يدر هؤلاء المساكين أنها كلمة الجهمية والمعتزلة وعقيدتهم على ما يدل عليه ظاهر هذا القول دون أي تأويل، فإذا سمعت تأويلهم إياه بقولهم "بعلمه" ظننت خيرا، ولكن سرعان ما يخيب ظنك حينما توجه السؤال الموروث عن النبي المعصوم الكاشف عن إيمان المرء أو مبلغ معرفته بالله تعالى أو العكس ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم للجارية:"أين الله" قالت: في السماء. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" - فأنت إذا وجهت مثل هذا السؤال إلى العامة والخاصة وجدتهم يحملقون بأعينهم مستنكرين إياه جاهلين أو متجاهلين أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي سنه لنا ثم تراهم مع ذلك حيارى لا يدرون بماذا يجيبون كأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لبيانه مطلقا لا في الكتاب ولا في السنة مع أن الأدلة فيهما متواترة على أن الله تعالى في السماء. ولذلك فالجارية لما أجابت على السؤال بقولها: في السماء شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مؤمنة لأنها أجابت بما هو معروف في الكتاب والسنة فيا ويح من لا يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان ويا ويل من يأبى بل يستنكر ما جعله صلى الله عليه وسلم دليلا على الإيمان وهذا والله من أعظم ما أصاب المسلمين من الانحراف عن عقيدتهم أن لا يعرف أحدهم أن ربه الذي يعبده ويسجد له أهو فوق خلقه أم تحتهم بل لا يدري إذا كان خارجا عنه أو في داخله حتى صدق فيهم قول بعض المتقدمين من أهل العلم: أضاعوا معبودهم وهم مع ذلك لم يبلغوا في الضلال شأن أولئك الذين حكموا عليه بالعدم حين قالوا: "لا فوق ولا تحت

" إلخ فحق فيهم قول بعضهم: "المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ". يشير بذلك إلى الجهمية المعطلة النفاة وإلى المجسمة الممثلة الذين يثبتون الصفات مع التجسيم والتشبيه والحل وسط بينهما كما تقدم

ومع خطورة هذه المسألة وبالغ أهميتها، وشدة الخلاف القائم فيها بين أهل السنة من جهة، والجهمية والمعتزلة وغيرهم من النفاة من جهة أخرى حتى

ص: 54

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الجيوش الإسلامية""ص96":

"بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين عسكر الكفر وعسكر الإسلام".

أقول: مع هذا كله، نرى أغلب الدعاة الإسلاميين اليوم، لا يقيمون لهذه المسالة ولا لأمثالها من مسائل الاعتقاد وزنا، ولا يلقون لها بالا، فلا تسمع لها في محاضراتهم ولا في مجالسهم الخاصة فضلا عن العامة ذكرا، ويكتفون من المدعوين أن يؤمنوا إيمانا مجملا، ألا ترى إلى ذلك الدكتور الذي قال في مقدمة رسالة "باطن الإثم" وهو يرسم للمسلمين المتفرقين المتدابرين الدواء بزعمه:

"وما أظن إلا أننا جميعا مؤمنون بالله إلها واحدا لا شريك له بيده الخير والملك وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"!

نعم نحن مؤمنون بالله

ولكن إيمان المؤمنين يختلف بعضه عن بعض أشد الاختلاف، وما نحن فيه من صفة العلو أوضح مثال، فإن كان الدكتور يعتقدها على طريقة السلف المثبتين لها بدون تشبيه ولا تعطيل، فالناس الذين وضع لهم هذه الرسالة لا يشاركونه في ذلك الاعتقاد، إن كان هو ليس شريكا لهم في اعتقادهم! فماذا يفيد هذا الإيمان وهو ليس على ما شرعه الله وبينه، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام أبو محمد الجويني في مقدمة رسالته السابقة "الاستواء والفوقية" بعد أن ذكر الله تعالى ببعض صفاته كالسمع والبصر والكلام واليدين والقبضتين:

"استوى على عرشه، فبان من خلفه، لا يخفى عليه منهم خافية علمه بهم محيط وبصره بهم نافذ، وهو في ذاته وصفاته لا يشبهه شيء من مخلوقاته،

ولا يمثل بشيء من جوارح مبتدعاته. هي صفات لائقة بجلاله وعظمته، لا تتخيل كيفيتها الظنون، ولا تراها في الدنيا العيون. بل نؤمن بحقائقها وثبوتها، واتصاف الرب تعالى بها، وننفي عنها تأويل المتأولين، وتعطيل الجاحدين، وتمثيل المشبهين، تبارك الله أحسن الخالقين.

ص: 55

فبهذا الرب نؤمن، وإياه نعبد، وله نصلي ونسجد. فمن قصد بعبادته إلى إله ليست له هذه الصفات فإنما يعبد غير الله، وليس معبوده ذلك بإله ".

والإمام الجويني رحمه الله تعالى حينما يقول ذلك، ويصدر هذا الحكم العدل على النفاة إنما تلقى ذلك عن أئمة السلف1، فسيأتي في ترجمة الإمام عبد الله بن المبارك قوله في الجهمية:"إنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء ". في ترجمة عباد بن العوام: "آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى أن لا يناكحوا أو يتوارثوا". ونحوه في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي، ووهب بن جرير، والقعنبي وأبو

معمر القطيعي وغيرهم من الأئمة، لكنهم لا يكفرون بالجهم بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه كما سيأتي في ترجمة الإمام ابن جرير الطبري.

ولذلك فإني أعتب أشد العتب على الكتاب الإسلاميين اليوم -إلا القليل منهم- الذين يكتبون عن الإسلام كل شيء ما عدا العقيدة السلفية والطريقة المحمدية، وأخص بالذكر منهم أولئك الذين يتولون توجيه النشء الجديد إلى الإسلام، وتربيتهم بتربيته، وتثقيفهم بثقافته، فإنهم لا يحاولون مطلقا أن يوحدوا مفاهيمهم حول الإسلام الذي اختلف فيه أهله أشد الاختلاف، لا كما يظن بعض المغفلين منهم أو المتغافلين أن الخلاف بينهم في الفروع فقط دون الأصول، والأمثلة في ذلك كثيرة يعلمها من كان له دراسة في كتب الفرق، أو كان على علم بأفكار المسلمين اليوم، ويكفينا الآن مثالا على ما نحن فيه من البحث، ألا وهو علو الله على خلقه، فنحن تبعا للسلف نؤمن بها قاطعين جازمين، وغيرنا ينكرها أو يشك فيها تبعا للخلف والشك مما ينفي الإيمان بها قطعا ومع ذلك فنحن جميعا مؤمنون بالله

كما قال ذلك الدكتور فأينا المؤمن حقيقة؟ أما الجواب فهو معروف لدى كل طائفة وإن كنا لسنا في

1 وهذا معنى ما جاء في رسالة "المعرفة" للشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله "ص12": "ومن اعتقد أعتقادا غير مطابقا للواقع كاعتقاد النصارى بالتثليث والوثنية بالتجسيم، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة فهو كافر بإجماع المسلمين".

ص: 56

صدده، وإنما الغرض إبطال تلك الخرافة في الفروع فقط! والنصح بتثقيف الشباب المسلم في دينه أصولا وفروعا على ضوء الكتاب والسنة، ونهج

السلف الصالح.

وإني لن أنسى -ما حييت- تلك المناقشة التي كانت جرت منذ نحو عشر سنين في المدينة المنورة بيني وبين أحد الخطباء والوعاظ، الذين يحبون أن يتصدروا المجالس، ويستقلوا بالكلام فيها، فقد دخل علينا نحن في سهرة لطيفة جمعت نخبة طيبة من طلاب العلم من السلفيين أمثالي، فلم يقم له أحد من الجالسين سوى صاحب الدار مرحبا ومستقبلا، فصافح الشيخ الجالسين جميعا واحدا بعد واحد، مبتدئا بالأيمن فالأيمن، فأعجبني ذلك منه، حتى انتهى إلي وكنت آخرهم مجلسا، ولكني رأيت وقرأت في وجهه عدم الرضى بتركهم القيام له، فأحببت أن ألطف وقع ذلك عليه فبادرته متلطفا معه بقولي وهو يصافحني: عزيز بدون قيام يا أستاذ، كما يقولون عندنا بالشام في مثل هذه المناسبة، فأجاب وهو يجلس وملامح الغضب بادية عليه -بما معناه:

لا شك أن القيام للداخل إكراما وتعظيما ليس من السنة في شيء، وأنا موافق لك على ذلك ولكننا في زمن أحاطت فيه الفتن بالمسلمين من كل جانب، وهي فتن تمس الإيمان والعقيدة في الصميم. ثم أفاض في شرح ذلك، وذكر الملاحدة والشيوعيين والقوميين وغيرهم من الكافرين فيجب أن نتحد اليوم جميعنا لمحاربة هؤلاء ودفع خطرهم عن المسلمين، وأن ندع البحث والجدال في الأمور الخلافية كمسألة القيام والتوسل ونحوهما!

فقلت: رويدك يا حضرة الشيخ، فإن لكل مقام مقالا، فنحن الآن معك في مثل هذه السهرية الأخوية لم نجتمع فيها لبحث خاص، ولا لوضع الخطة لمعالجة المسائل الهامة من الرد على الشيوعيين وغيرهم، وأنت ما كدت تجلس بعد ثم إن طلبك ترك البحث في الأمور الخلافية هكذا على الإطلاق، لا أظنك تقصده، لأن الخلاف يشمل حتى المسائل الاعتقادية، وحتى في معنى شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. فأنت تعلم أن أكثر المشايخ اليوم يجيزون الاستغاثة بغير

ص: 57

الله تعالى. والطلب من الأموات وذلك مما ينافي معنى شهادة التوحيد عندنا جميعا -أشير إلى أنه في هذه المسألة معنا- فهل تريدنا أن لا نبحث حتى في تصحيح معنى الشهادة بحجة أن المسألة فيها خلاف؟!! قال: نعم. حتى هذا يجب أن يترك موقتا في سبيل تجميع الصفوف وتوحيد الكلمة، لدرء الخطر الأكبر: الإلحاد و

قلت: وماذا يفيد مثل هذا التجمع -لو حصل- إذا لم يقم على أساس التوحيد وعدم الإشراك بالله عز وجل. وأنت تعلم أن العرب في الجاهلية كانوا يؤمنون بالله تعالى خالقا، ولكنهم كانوا يكفرون بكونه الإله الحق {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} ، فلم يفدهم إيمانهم ذلك شيئا، ولم ينجهم من محاربة الرسول إياهم. فقال: نحن نكتفي اليوم بجمع الناس تحت كلمة لا إله إلا الله. قلت: ولو بمفهوم خاطئ؟! قال: ولو

أقول: فهذه المناقشة تمثل لنا في الحقيقة واقع كثير من الدعاة المسلمين اليوم، وموقفهم السلبي تجاه تفرق المسلمين في فهمهم للدين، فإنهم يدعون كل من ينتمي إليهم على أفكاره وآرائه، دون أن يحملوهم بالعلم والحجة من الكتاب والسنة على توحيدها، وتصحيح الخطأ منها، وجل اهتمامهم إنما هو في توجيههم إلى الأخلاق الإسلامية، وآخرون منهم، لا شغل لهم إلا تثقيف أتباعهم بالسياسة والاقتصاد، ونحو ذلك مما يدور عليه كلام أكثر الكتاب اليوم حوله، ونرى فيهم من لا يقيم الصلاة! ومع ذلك فهم جميعا يسعون إلى إيجاد المجتمع الإسلامي، وإقامة الحكم الإسلامي. وهيهات هيهات! إن مجتمعا كهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا بدأ الدعاة بمثل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الله، حسبما جاء في كتاب الله، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن البديهي، أن مثل هذه الدعوة لا يمكن النهوض بها، بعدما دخل فيها ما ليس منها من طريق الدس على النبي صلى الله عليه وسلم باسم الحديث، والدس على تفسير القرآن باسم التأويل، فلا بد من الاهتام الجدي العلمي لتصفية المصدرين المذكورين مما دخل فيهما لنتمكن من تصفية الإسلام من مختلف الأفكار والآراء والعقائد المنتشرة في الفرق الإسلامية، حتى ممن ينتسب إلى السنة منهم.

وأعتقد أن كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس الصحيح من التصفوية فسوف لا

ص: 58

يكتب لها النجاح اللائق بدين الله الخالد.

ولقد تنبه لهذا أخيرا بعض الدعاة الإسلامين، فهذا هو الأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى، فإنه بعد أن قرر تحت عنوان "جيل قرآني فريد" أن هذه الدعوة أخرجت جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعه، وأنها لم تعد تخرج من ذلك الطراز مرة أخرى، تساءل عن السبب مع أن قرآن هذه الدعوة لا يزال وحديث الرسول وهديه العملي وسيرته الكريمة كلها بين أيدينا كما كانت بين يدي ذلك الجيل الأول ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب بأنه:

"لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميا لقيام الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض إلى آخر الزمان".

ثم نظر في سبب عدم تكرر المعجزة عدة عوامل طرأت، أهمها ما أشرنا إليه من اختلاف في طبيعة النبع فقال:

"كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، القرآن وحده، فما كان حديث رسول الله وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله قالت: كان خلقه القرآن1.

كان القرآن وحده إذن هو النبع الذين يستقون منه، ويتكيفون به ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات كلا فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوربا تعيش عليه، أو على امتداده. وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك وحضارات أخرى قاصية

1 أخرجه مسلم، وأبو داود، وأحمد عنها.

ص: 59

ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين إلخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها. كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة، فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجبل على كتاب الله وحده.. في فترة تكونه

وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم ونهج مقصود. يدل على هذا القصد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة من التوراة، وقوله:"إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني"1.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب. خالص العقل. خالص التصور. خالص الشعور. خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي، الذي يتضمنه القرآن الكريم.

ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد، ثم ما الذي حدث؟

اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا. وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا".

ثم ذكر رحمه الله عاملين آخرين ثم قال "ص17":

"نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية

تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد

1 قلت؛ هو حديث حسن أخرجه الدارمي، وأحمد وغيرهما وقد خرجته في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل""1589 "

ص: 60

ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية وتفكيرا إسلاميا

هو كذلك من صنع هذه الجاهلية.

لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.

فلابد إذن في منهج الحركة الإسلامية أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها، ونستمد منها. لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال. النبع المضمون الذي لم يختلط ولم تشبه شائبة، نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق: وجود الله سبحانه

ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة وقيمنا وأخلاقنا، ومفاهيمنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.

ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية والتقاليد الجاهلية في خاصة نفوسنا

ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة

صفة الجاهلية

غير قابل لأن نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا.

وسنلقى في هذا عنتا ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ونصره على منهج الجاهلية ".

من أجل ذلك كان لا بد للعاملين من أجل الدعوة الإسلامية أن يتعاونوا جميعا على الخلاص من كل ما هو جاهلي مخالف للإسلام، ولا سبيل إلى ذلك إلا

ص: 61

بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ". فإذا هم فعلوا ذلك فقد وضعوا الأساس لقيام المجتمع الإسلامي وبدونه لا يمكن أن تكون لهم قائمة، أو تنشأ لهم دولة مسلحة.

وإني لأعجب أشد العجب من بعض الكتاب والدكاترة الذين يؤلفون في معالجة بعض أمراض النفوس، كمؤلف رسالة "باطن الإثم الخطر الأكبر

في حياة المسلمين" ثم لا يقنع بذلك حتى يكشف عن جهل كبير بالخطر الحقيقي الذي يحيط بالمسلمين وهو ما أشار إليه الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- في كلامه المتقدم:

فإن الدكتور المشار إليه لم تعجبه هذه الحقيقة، فأخذ يغمز منها ومن المذكر بها تحت عنوان له في الرسالة المذكورة "ص85":

" مشكلتنا أخلاقية وليست فكرية ". قال:

" ومعنى كل هذا الذي ذكرناه أننا نعاني من مشكلة تتعلق بالخلق والوجدان وليس لها أي تعلق بالقناعة أو الفكر "

كذا قال! ثم تعجب من الناس الذين يشعرون بمشكلته، ويتنبهون إلى ما سماه بالخطر الأكبر في حياة المسلمين، ولكنهم بدلا من أن يعالجوه بالسبل التي ذكرها هو في رسالة يعالجونه بمزيد من الأبحاث الفكرية

ثم قال مشيرا إلى كلام سيد قطب رحمه الله:

" فماذا يجدي أن نسهب في شرح "المجتمع الجاهلي" أو نتفنن في كشف المخطات العدوانية التي يسير عليها أعداء الإسلام وأرباب الغزو الفكري، أو نهتم بعرض المزيد من منهجية الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، وأن البلاء الذي يعانيه المسلمون ليس الجهل بشيء من هذا كله "1""" وإنما هو المرض العضال الذي يستحكم بنفوسهم"؟!

ص: 62

ليس بالمسلمين حاجة بعد اليوم إلى أي مزيد من هذه الدراسات الفكرية، فالمسلمون على اختلاف ثقافاتهم أصبحوا يملكون من الوعي في هذه النواحي ما يتيح لهم الحصانة الكافية لو أن الأمر كان موكولا إلى الوعي وحده.

وإنما هم بحاجة بعد اليوم إلى القوة الهائلة التي تدفع إلى التنفيذ، وهيهات أن يكون أمر التنفيذ بيد الفكر أو العقل وحده.

والقوة الهائلة التي يحتاجوها إنما هي قوة الأخلاق".

هكذا يقول الدكتور العليم "! " وفي كلامه من المغالطات والخطيئات ما لا يتسع المجال لبسط القول في بيانها، فإن أحدا من الإسلاميين لا يتصور أن يقول أن الوعي والفكر وحده يكفي لحل المشكلة، خلافا لما أوهمه كلامه، ولكن المشكلة التي أنكرها الدكتور هي الأصل لقوة الأخلاق ألا وهو الإيمان والتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة، ولذلك كانت الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم أول ما يبدؤون من الدعوة إنما هو توحيد الله عز وجل، فلم يكونوا يعالجون بادئ الأمر المشاكل الأخلاقية ولا الاقتصادية وغير ذلك مما افتتن بمعاجلته كثير من الكتاب اليوم مع الغفلة عن المشكلة الأساسية، وهي انحراف الكثير من المسلمين اليوم وما قبل عن العقيدة الصحيحة، ولكتب الكلام التي يسمونها بكتب التوحيد ضلع كبير في ذلك، وأنا أسأل الدكتور العليم سؤالا واحدا: هل يمكن لفرد أو أفراد أو جماعة أو أمة أن يحظوا بالقوة الهائلة التي يحتاجونها اليوم وهي قوة الأخلاق إذا كانت عقيدتهم غير صحيحة فإذا أجاب بعدم الإمكان فنسأله فهل الذي يعلمه هو أن هناك أمة مسلمة لا تزال عقيدتهم صحيحة، كما كانت عليه في عهد السلف على الرغم من أن فيهم من هو على عقيدة المعتزلة النفاة والجبرية وغلاة المتصوفة الذي منهم اليوم، وفي بلدنا خاصة من يقول بأن المسلم ليس بحاجة إلى أن يتعلم الكتاب والسنة والعلوم التي تساعد على فهمهما، وإنما يكفي في ذلك تقوى الله ويحتجون من القرآن بما هو حجة

ص: 63

عليهم لو كانوا يعلمون كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} وبناء على ذلك ينكرون كثيرا من الحقائق الشرعية كالشفاعة الثابتة للأنبياء والرسل وبخاصة نبينا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ونزول عيسى وخروج الدجال وغير ذلك كثير، وفي مصر والهند أناس يسمون بالقرآنيين الذين يفسرون القرآن دون الاستعانة على تفسيره بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، بل وبدون التزام للقواعد العلمية العربية.

فإن أجاب الدكتور بأن عقيدة المسلمين اليوم هي كما كانت في عهد السلف، فنسأله هل هذا الذي ذكرته من العقائد الباطلة موجود اليوم وفي بلده خاصة، فإن أجاب بالإيجاب كما هو الظن به، فكيف يتجرأ على القول المتقدم:"ليس بالمسلمين حاجة بعد إلى أي مزيد من هذه الدراسات الفكرية، فالمسلمون اليوم على اختلاف ثقافاتهم أصبحوا يملكون من الوعي في هذه النواحي ما يتيح لهم الحصانة الكافية"؟!

وإذا كابر وجحد ورجع إلى القول بأن المسلمين فيهم الخير والبركة من هذه الحيثية سقطت مخاطبته لأن الأمر كما قال الشاعر:

وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ

إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ

وأخيرا لا بد من أن أواجه إلى حضرة الدكتور السؤال الذي يكشف له إن شاء الله عن خطئه الذي وضع له ذلك العنوان الخاطئ إن كان لم يتبين له حتى الآن، نحن نسألك بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ فإن أجبت بالجواب الذي نؤمن به وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم دليل إيمان الجارية ألا وهو قولنا: في السماء وفهمه على الوجه الذي فهمه السلف أنه تبارك وتعالى على العرش، فقد أصبت الحق، واتفقت معنا في هذه المسألة التي علاقتها بالأفكار والعقائد، وليس بالأخلاق! ولكنك في الوقت نفسه خالفت جماهير المسلمين حتى المشايخ والأساتذة والدكاترة الذين درست عليهم الشريعة، فإنهم لا يوافقونك على هذا الجواب الحق، وما عهدك بالكوثري وأبي زهرة ببعيد.

ص: 64

وإن أنت أنكرت توجيه هذا السؤال الذي سنه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيت أن تجيب عليه بجواب إيجابي، أو أجبت بجواب المعتزلة: الله موجود في كل مكان. وهذا معناه القول باتحاد الخالق والمخلوق، وهو الكفر بعينه، أو تجيب بما في "الجوهرة" وحاشيتها وغيرها من كتب الكلام التي درستها وتثقفت بثقافتها حتى "أصبحت تملك من الوعي ما ينسج لك الحصانة الكافية"! فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة كما سبق أن أشرنا إلى بعض النقول عن بعض الأئمة الموثوق بهم عندنا جميعا ونحن على مذهبهم في ذلك وباختصار فسواء كنت معنا أو ضدنا في هذه العقيدة، فكل من الطائفتين يمثل ملايين المسلمين منذ مئات السنين حتى اليوم، وفي الطائفة التي تؤمن بالسؤال والجواب الوارد في الحديث

المشار إليه آنفا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن قيم الجوزية، وجميع إخواننا الحنابلة اليوم الذي هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكل من الطائفتين هم بلا شك مما يشملهم ظنك الواسع الذي عبرت عنه بقولك في الرسالة السابقة "ص9":

" وما أظن إلا أننا جميعا مؤمنون بالله إلها واحدا لا شريك له بيده الخير

"

وأما أنا فأعتقد أن كلا من الطرفين إذا تمسك بآداب الإسلام سيقول بلسان حاله أو قاله للطائفة المخالفة: "وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".

والدكتور يعلم فيما أعتقد أن إحدى الطائفتين أيا كانت فهي على ضلالة، وليس هي، بلا شك من حيث الخلق، وإنما من جهة الفكرة والعقيدة

وكل من الطائفتين يمثل ملايين المسلمين اليوم في هذه المسألة وغيرها من مسائل الاعتقاد، أفليس هؤلاء المختلفون بحاجة يا دكتور إلى الدراسات

الفكرية، ولا أقول كما قلت:"إلى مزيد من الدراسات الفكرية"؟! لأن الإنسان العاقل يطمع في المزيد عندما يجد المزيد عليه فكيف وهو مفقود أو في حكم المفقود،

ص: 65

فهو يطمع فيه ثم في المزيد عليه! أليس هؤلاء جميعا بحاجة ملحة إلى تلك الدراسات حتى يتبين الحق للطائفة الضالة أيا كانت هذه الطائفة، فتنضم إلى الطائفة المحقة، وتزداد هذه إيمانا على إيمان بحقها وصوابها، ومعرفة بملتها والدعوة إليها، وبذلك نسير إلى المجتمع الإسلامي المنشود، وهو لا ينافي إذا قام به بعض الدعاة، أن يقوم آخرون بمعالجة أمراض النفوس وأخلاقها كما فعل الدكتور في رسالته السابقة الذكر "باطن الإثم" ولكن بشرط أن لا ينكر على الأولين جهادهم الأكبر ولا أن يدعوهم بأن يسلكوا سبيلهم في معالجة المشكلة المدعاة "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات".

ص: 66