الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون)
(83)
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مؤاخذا بما يفعله الكفار من التولي عن دين الله، ولكن لماذا يتولى الكفار عن دين الله ولا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكفرهم؟
لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكفرهم؛ لأنهم يعرفون نعمة الله عليهم ولكنهم ينكرونها، أي ينكرون أن تكون هذه النعم دالة على استحقاقه للعبادة وحده جل في علاه. وأكثر هؤلاء المشركين، إنما أتى إنكارهم عن جحود وعناد لا عن جهل.
المعنى التفصيلي:
- جاءت جملة (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) غير معطوفة على ما قبلها؛ لأنها جاءت في مقام الجواب عن الذي قبلها (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) وهذا ما يسمى في علم المعاني بالفصل لشبه كمال الاتصال، لأن الجملة الثانية وقعت جوابا نتج عن الجملة الأولى فلم تعطف على الأولى.
والبيان الناشئ عن الآية السابقة، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم معذور لتولي الكفار عن دين الله؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحجة عليهم بالبلاغ، فعرفوا نعم الله، ولكنهم أنكروها من عند أنفسهم.
- لماذا جاء التعبير بـ (يعرفون)، وليس "يعلمون"؟
جاء التعبير بـ (يعرفون)، وليس "يعلمون"؛ لأن مقابل (يعرفون)(ينكرون)، ومقابل "يعلمون""يجهلون"، والآية إنما جاءت لسياق إنكار الكفار نعم الله.
وأيضا فإن معنى (يعرفون) هو تمييز نعمة الله عن طريق العلامات المميزة، أي أن المعرفة هي العلم الظاهر الذي يستطيعون به تمييز النعمة أنها من الله لا من الأصنام أو غير ذلك.
ذكر بعض العلماء فروقا بين "العلم" و"المعرفة"، ولكن منهم من اعتمد على المعاني الاصطلاحية، كاصطلاح العالم والعارف، وأراد أن يبين الفرق بينهما في القرآن بناء على هذا الاصطلاح الحادث، وهذا شيء عجيب.
ولا أريد أن أعرض هذه التعريفات فهذا أمر يطول، ولكن لنقف سويا أمام كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنلاحظ الفرق بين "المعرفة" و"العلم ":
قال تعال (يعرف المجرمون بسيماهم .... )(الرحمن: 41)
أي يميز المجرمون عن غيرهم بالعلامات المميزة، وهذا علم سطحي ظاهري.
وكذا قوله تعالى (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم .... )(الأعراف: 46) فأهل الأعراف يميزون أهل الجنة بالعلامات الدالة عليهم كبياض وجوههم وغير ذلك، ويميزون أهل النار بسواد وجوههم أو غير ذلك.
وأهل الكتاب يميزون النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته والعلامات الدالة عليه (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
…
) (البقرة: 146)
وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا (البخاري: 19)
وفي هذا الحديث فرق بين المعرفة والعلم، فالمعرفة هي علم بالظواهر المميزة (حتى يعرف الغضب في وجهه) والعلم معرفة بدقائق الأمور (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه فقال أخذت صرة مئة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها
…
(مسلم: 2248)
(عرفها) أي: اذكر من الصفات ما يميزها.
- التعبير بالمضارع (يعرفون) و (ينكرونها) يدل على أن المعرفة مستمرة باستمرار النعم، والإنكار مستمر باستمرار المعرفة.
- قيل معنى "النعمة" هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: النعم المادية المحسوسة.
والصحيح أن هذا كله مقبول؛ لأن الآية جاءت في سياق آيات النعم الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده، لأن نعمة "الدين" قد ذكرت ضمن نعم الله (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) (النحل:81)، ويلزم عن كون "الدين" نعمة أن يكون "النبي" نعمة أيضا؛ لأنه سبب تبليغنا هذه النعمة.
- التعبير بالمفرد (نعمة) من باب الجنس، أي أن معنى (نعمت الله) أي جنس نعمة الله، ولكن لماذا لم يأت التعبير بالجمع "نعم الله"؟
قد يقال: إن المراد هو جنس النعم، وهذا يستوي فيه الجمع والمفرد؛ لأن المراد هو الجنس.
ولكن قد يقال أيضا: إن الكفار لا يعرفون كل نعم الله، بل يعرفون بعضها (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: 18)؛ ولأنهم لا يعرفون كل النعم كان في التعبير عن الجنس بالمفرد إشارة إلى ذلك.
- حرف (ثم) في قوله تعالى (ثم ينكرونها) ليس للبعد الزمني بين المعرفة والإنكار، بل للبعد الرتبي بين رتبة المعرفة ورتبة الإنكار؛ لبيان أن البعد بينهما عظيم، إذ تقتضي المعرفة أن يشكر أصحابها لا أن ينكروا، وهذا من باب بيان عجيب تفكير المشركين.
- (ينكرونها) أي ينكرون أن تكون هذه النعم موجبة لعبادته وحده سبحانه وتعالى، أي أن معنى ينكرونها هو: لا يشكرون الله رغم ما يعرفون؛ لأن النعم موجبة للشكر من جهة الإنعام والفضل، وموجبة للشكر - أيضا - من جهة دلالتها على استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة وحده.
- ومن صور إنكار نعمة الله التي بقيت حاضرة في قلوب بعض المسلمين، هي اعتمادهم على الأسباب بأنها هي الفاعل الحقيقي، فيقول أحدهم: أنا من علم أبنائي، ولولا عنايتي بهم لضاعوا. ولا يستحضر في قلبه أن هذا من توفيق الله سبحانه وتعالى.
بل أذكر حادثة وقعت في يوم من الأيام، حيث ذهبت لأهنئ أحدهم بنجاحه في الثانوية العامة، فقلت له: مبارك نجاحك، وهذا من فضل الله عليك. فغضب، وظن أنني أقدح بقدراته وقال: أنا نجحت باجتهادي.
فقلت له: أنك اجتهدت وتعبت، ولكن من فضل الله أن أعطاك العقل وحبب إليك العلم، ويسر لك الظروف المناسبة، وأنا إذ قلت ما قلت لم أنقص من قدر اجتهادك، ولكن أردت أن أذكرك بنعمة الله عليك، لأن بعض الناس يغفلون عن استحضار نعمة الله عليهم في نشوة الفرحة.
- (وأكثرهم الكافرون) لماذا جاء التعبير عن الذين لا يشكرون الله ولا يعبدونه ويشركون به بالأكثر (وأكثرهم) علما بأن كل من لا يعبد الله كافر؟
قيل: لأنه كان فيهم الصبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء.
ولكن هذا مناقش بأن الصبي ومن لا يعقل ليسوا مكلفين، فلا ينسب إليهم إنكار نعمة الله؛ لأن إنكار نعمة الله كفر.
وقيل: ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل.
وهذا مناقش بأنه بعيد؛ لأن التعبير بالأكثر لا يكون بمعنى الكل لا للفظا ولا معنى، ويعصم عن مثل هذا كلام البشر، فكيف كلام الله؟؟!! فلو قال بعض الناس: وأكثر. ثم قال: أردت بالأكثر الكل. لم يقبل ذلك منه.
وقيل: أراد بالكافرين من سيموتون على الكفر.
وهذا مناقش بأن أكثر أهل مكة لم يموتوا كفارا بل دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة.
والأظهر أن المراد بالكافر: الجاحد المعاند، لأن في أهل مكة من لم يكن معاندا، بل جاهلا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية: وأكثرهم كافرون جحودا ومعاندة، وبعضهم كافرون لعدم اتضاح الصورة أمام عيونهم بعد؛ ولذا دخل من دخل الإسلام من قريش كلما لاح له النور، فاليوم عبد الله بن مسعود، واليوم حمزة بن عبد المطلب، وبعدهم عمر بن الخطاب، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا معاندين جاحدين قبل دخول الإسلام، بل كانوا جاهلين، ولذا فما أن ظهر لهم النور إلا اتبعوه، وهؤلاء من استثناهم الله سبحانه ممن بقي على الشرك ولم يؤد العبادة لله شكرا على نعمه.
- وجملة " وأكثرهم الكافرون " حال من الواو في " ينكرونها "، أي يا محمد أنت معذور لأن الكفار هم من اختار إنكار نعمة الله، بل زيادة على هذا، فإن أكثر هؤلاء منكر عن جحود وعناد لا عن جهل.