المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقَدّمة   ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب - مذكرات شاهد للقرن

[مالك بن نبي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقَدّمة   ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقَدّمة

ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب للقارئ، كما هو مألوف، إنما أردت أن أكشف الظروف المثيرة التي ألقت إليّ بهذه المخطوطة فاتجهت لنشر قسم منها في هذا الكتاب.

لكل امرئ ما تعود. ومن عادتي في بعض الأحيان أن أؤدي صلاة العصر في المسجد، حينما يخلو من الذين أدركوا الصلاة وراء الإمام في وقتها.

المكان شبه خالٍ إذن، وكنت أختار هذه الساعة بالذات لأستجمع نفسي في سكينة المسجد.

كان ذلك في مسجد قسنطينة المسترجع بعد ما ظل طوال قرن كاتدرائية المدينة. وكنت قد عدت إلى الجزائر منذ ثلاثة أيام أو أربعة وقد مضى على التحرر سنة كاملة.

عندما خلعت حذائي متأهباً لدخول المسجد، ألقيت نظرة فاحصة إلى داخله. فالمكان يتحدث بتاريخه أكثر مما يتحدث عنه طراز بنائه. واخترت ركنا في داخل المسجد مجانب المنبر القديم نائياً بنفسي عن ضجيج الشارع، وكانت أشعة الأصيل تتسرب من خلال الزجاج بين أعمدة المسجد.

وقفت في زاويتي أشرع في الصلاة. وكنت في الركعة الثانية من صلاة العصر أطيل السجود أكثر مما يفعل الناس في الجزائر؛ فهذه عادة حملها الزائرون للديار المقدسة حينما تتاح لهم فرصة المرور بالقاهرة والصلاة في مسجد الحسين بالقرب من الأزهر. وبينما أنا في سجود هذه الركعة تناهى إلى سمعي وقع

ص: 13

خطوات على السجادة ورائي، فما إن اقترب صاحبها مني حتى انسحب إلى الوراء. وعندما رفعت رأسي حانت مني التفاتة لا شعورية إلى جانبي الأيمن، فرأيت على مقربة من ركبتي ربطة حسنة التغليف.

أكملت صلاتي حسب العادة، ثم حيّيت وسلمت ونظرت ورائي فلم أجد أحداً، ثم نظرت يمنة ويسرة فلم أجد أحداً؛ فالذي وضع الربطة قد اختفى.

ولكن ماذا في هذه الربطة؟. أخذتها بين يدي فوجدتها مغلفة بعناية بورق مقوى وملتصق جيداً. وما إن لمستها حتى تبينت أنها كانت تضم أوراقاً، فنزعت عنها الغلاف الخارجي، إنها صفحات مكتوبة بخط دقيق لكنه مقروء جيداً، وعلى الصفحة الأولى رأيت العنوان (مذكرات شاهد للقرن) مكتوباً بخط أكبر ذي حروف مستديرة.

قرأت صفحة ثم أتبعتها بأخري. إنه شيء مثير، فكل جزائري يحسن الكتابة من أبناء جيلي يستطيع أن يكتب مثلها.

ثم قرأت بعض الصفحات فوقعت على اسم من يمكن أن يكون مؤلفها.

(صديق) .... من هو الصديق؟

إنه منذ الصفحة الأولى يبدو أنه واحد من مواليد قسنطينة ومن مواليد سنة 1905 فهو إذن رجل من أبناء جيلي. هذا كل ما في الأمر.

هل يجب أن أعيد إليه أوراقه، ولأي صديق أعيدها؟

ولكن أليس في نشرها إرجاع لها إليه؟ فربما كانت هذه رغبته بالذات.

فليتقبل القارئ إذن هذا الكتاب على أنه أفكار جزائري أراد أن يتحدث إليه من وراء حجاب محتفظاً باسمه لنفسه.

مدينة الجزائر 5 أيار (مايو) 1966م

مالك بن نبي

ص: 14

كان مولدي في الجزائر عام 1905، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حياً من شهوده، وإلإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده.

هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفترة.

فقد عرفت في عائلتي جدة لي؛ الحاجة (بايا)، عُمِّرت حتى جاوزت المئة. وماتت حين كان لي من العمر ثلاث سنين أو أربع لم أعرفها بما فيه الكفاية، غير أنها أورثت العائلة الكثير من مشاهداتها وذكرياتها القديمة التي انتقلت إليّ بالتالي. فقد سردت على مسامعي فيما بعد جدتي لأمي الحاجة (زليخة)، كيف تركت أمها الحاجة (بايا) وعائلتها مدينة قسنطينة يوم دخلها الفرنسيون.

ففي ذلك اليوم لم يعد لعائلات قسنطينة من همّ، سوى إنقاذ شرفهم، وخاصة تلك العائلات التي كانت تكثر فيها الصبايا. فقد أخلوا المدينة من ناحية وادي الرمل، حيث توجد اليوم في الجهة السفلى مطاحن كاوكي، ومن الناحية العليا الجسر المعلق.

فبينما كان الفرنسيون يدخلون المدينة من كوّة في السور، كانت صبايا المدينة يسرع بهن آباؤهن إلى الجهة الأخرى منه يتدلين هرباً، وكثيراً ما كانت تنقطع بهن الحبال فتلقي بالعذارى في هوة المنحدر. فمعمَّرتنا (بايا) عاشت هذه المأساة، إذ كان والداها يدفعانها أمامهما عبر أزقة مدينة مذعورة نحو هوة السور، كما قاد إبراهيم قديماً ابنه إسماعيل إلى مذبح الرب. فكان على جدتي إذن أن تُقَدَّم قرباناً على مذبح وطن ينهار، إنقاذاً لشرف عائلة مسلمة. ولكن جدتي نجت

ص: 15

أخيراً من مصيرها المرعب. فالحبل الذي تدلّى بها من فوق السور قاوم هذه المرة ولم يلق بحمله فسلمت جدتي، ولجأت مع عائلتها إلى تونس، وبعد سنوات عديدة قامت بزيارة مكة المكرمة لتعود بعدها مع زوجها وأطفالها إلى الجزائر. إنها الآن ميتة ولكن قصتها المحزنة ما تزال حية.

ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصة على مخيلة أحفادها الصغار وأنا منهم، حين كانت تقصها علينا في ليالي الشتاء الباردة ابنتها- جدتي الحاجة زليخة- التي عُمّرت هي أيضاً فبلغت مئة عام.

وهنا أضيف أن هذه المرأة كانت بارعة في قص الحكايات، إذ كانت تشدنا إليها ونحن متحلقون حولها. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد ثلاثين سنة- من هذا التاريخ حينما كنت طالباً في باريس- قمت ذات يوم مع عدد من رفاقي في الكلية بعملية استبطان. وكان على كل منا أن يجيب على السؤال التالي: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟ لقد أحيا هذا السؤال في نفسي ذكريات قديمة.

كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان وضع عائلتي قد ساء مادياً، فجدي لأبي باع كل ما تبقى بحوزته من أملاك العائلة، وهجر الجزائر المستعمَرة ليلجأ إلى طرابلس الغرب، فقد هاجر مع الموجة الأولى من الهجرة التي اجتاحت حوالي عام 1908 مدناً كثيرة كقسنطينة وتلمسان، تعبيراً عن رفض أهالي البلاد معايشة المستعمرين، والذي يعد البذرة الأولى لكثير من الأحداث السياسية التي جرت فيما بعد، وخصوصاً لذلك الشعور بضرورة مقاومة المستعمر الذي تفجر في أول تشرين الثاني (نوفبر) سنة 1954.

هذه الهجرة رافقتها تحولات اجتماعية كانت تتم تدريجياً في محيط مدينة قسنطينة، التي ما تزال تحافظ على المظاهر في الإطاار الاستعماري، إلا أن نظمها التقليدية وعاداتها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم

ص: 16

الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الجن، وحلقات الذكر عند الحنصالة والرحمانية والتيجانية، وخاصة العيسوية، كل ذلك كانت تقيمه عائلات المدينة في أبهة وروعة كما كان يجري في الماضي، مع أن مواردها لم تعد تسمح بذلك. ولو شاءت عائلة عرفت منذ قديم الزمان بالغنى أن تزوج ابناً أو بنتاً لها، لاضطرت أن تبيع بيتها، لتقوم بالمراسم المعتادة التي تليق بها.

لقد احتفظوا بالمظاهر فيما هم فقدوا الجوهر، إلا أن المظاهر بدورها لم تسلم في النهاية من التغيير. فهذه العادات الأخلاقية والاجتماعية قد اعتراها التحول. وقبل مولدي ببضع سنوات لم يعد أهل المنارل يضعون في المشكاة التي كانت بجانب الأبواب، طعاماً للفقراء يكفيهم السؤال بصوت مرتفع وهم يطرقون الأبواب.

لقد شاع الخمر وشاربوه. وبدت بوادر استغلال الثقة والمخالفة لتقاليد البلاد العريقة في الظهور، فيما نكفأت تتوارى شيئاً فشيئاً تلك التقاليد.

ومنذ طفولتي اختفت عادة تضامنية جميلة تقضي بأن يعير الجار عروس جاره حلي الزفاف. لقد اختفت هذه العادة لأن كثيراً من الحلي المعارة في أحد الاحتفالات لا تعود لأصحابها.

أما على الصعيد الاجتماعي فقد كان تدهور الإطار التقليدي أبلغ في الوضوح. فبعض النقابات المهنية كنقابة النساجين كانت قد اختفت منذ بعيد، فيما ظلت أخرى تقاوم قبل أن يدركها الأفول. لقد ولّت واحدة تلو أخرى لتخلي مكانها لما يستورد من السلع المصنوعة.

كثير من شوارع قسنطينة القديمة لا تزال محتفظة بأسمائها القديمة مثل: رحبة الصوف وسباط شبارليه (1)؛ مع أن تلك الجمعيات المهنية التي ازدهزت قديماً

(1) الشبرلة: حذاء النساء (ترجمة الأستاذ قنواتي).

ص: 17

والتي أعطت الاسم للشارع اختفت منذ زمن بعيد.

لقد بدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق ويسوده الفقر من تحت، حتى ملابس الرجال شملها هذا التطور المتدهور: ففي شوارع قسنطينة بدأت تختفي العمائم والبرانس والملابس المصنوعة من الأقمشة المطرزة. والمخازن التي كانت تصنع فيها تلك السلع- كمخازن الصدارين- بدأت تقفل واحدة تلو الأخرى. وأخذت تظهر أكثر فأكثر في هذه الشوارع البضائع الأوروبية، وأحياناً الأثواب المستعملة المستوردة من مرسيليا.

مظهر المدن إذن أخذ يتغير من هذه الناحية، ثم من ناحية أخرى فإن تجمع الأوربيين الذي بدأ يتكاثر شيئاً فشيئاً، وأبناء الجالية اليهودية الذين أصبحوا فرنسيين دفعة واحدة، قد أدّى ذلك كله إلى أن تكون لهؤلاء مقاهيهم ومتاجرهم ومطاعمهم ومصارفهم وكهرباؤهم ومخازهم ذات الواجهات الجميلة. هذا كله أخذ يضفي على المدينة طابعاً جديداً، فحياة السكان الأصلية أخذت تتقلص لتنعزل في الشوارع الضيقة وزقاق سيدي راشد.

لقد كان لهذه التغيرات علاوة على أثرها الأخلاقي والاجتماعي، تأثير نفساني مضنٍ على أولئك المسنين الذين كان جدي أحدهم، فكل ما يجري حوله كان يدفعه لترك الجزائر، إلا أن والدي لم يرافقه في هجرته لأن أمي كانت تتمسك بالبقاء قرب أهلها، الذين استقروا في تبسة منذ حوالي نصف القرن. ولما كان جدي الذي هاجر برفقة شقيق له وابن له هو عمي، قد حمل معه كل ما تمكن من حمله، فقد بقي والدي ردحاً من الزمن في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل.

لقد كانت هذه الفترة من حياة عائلتي شديدة العسر. إذ مات عمي الأكبر في قسنطينة، وكان قد تبناني منذ أمد بعيد، مما جعل زوجه تعيدني إلى أهلي في تِبِسَّة على الرغم مما خلف ذلك من أسى في نفسها وفي نفسي. لقد فعلت ذلك لأن مواردها لم تعد تسمح لها بإعالتي.

ص: 18

وعلى هذا فقد انضمت إلى زمرة أطفال تبِسَّة، وفي هذا الوسط الجديد في عائلة مفرطة في الفقر أخذت أتعرف إلى جدتي لأمي، وسمعت الكثير من أقاصيصها وحكاياتها التي كان محورها العمل الصالح وما يليه هن ثواب، وعمل السوء وما يتبعه من عقاب. وكانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري. فمنها عرفت أن الإحسان في مرتبة عليا من الأخلق الإسلامي. وإحدى حكاياتها عن الإحسان جعلتني أنا ابن السادسة أو السابعة من عمري أقوم بعمل ربما كان على ما أعتقد أسمى ما قمت به في حياتي.

ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائماً فارغاً.

ولا أزال أذكر كيف أنها اضطرت ذات يوم لكي تدفع لمعلم القرآن الذي يتولى تدريسي، بدل المال سريرها الخاص، وأذكر أنه كان مصنوعاً من عدة ألواح من الخشب رفعت على صقالتين. وكان هذا يسمى في الجزائر آنذاك (السدّة).

وموارد العائلة كما ترى كانت هزيلة، إلا أننا كنا نحصل على قوتنا بفضل حسن تدبير أمي وانكبابها الليالي الطوال على عملها. ولكن أمي في إدارتها لشؤون العائلة كانت تعرف أن ما يحصل عليه أطفالها من غذاء غير كاف، فكانت تسد هذا النقص بعمل إضافي أيام الجمع. كان هذا العمل الإضافي يعطينا شقيقتي وأنا يوم الجمعة قطعة من (الرفيس) وهي حلوى تبسية تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت.

وفي ظهيرة يوم الجمعة أخدت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلاً ينادي:((أعطوني من مال الله))، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت يإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه.

ص: 19

بعد ربع قرن من هذا الحادث وكنت قد أصبحت رجلاً، أخذت أدرك إلى أي حد كنت مديناً لتلك الجدة العجوز.

والآن من الواجب أن ألاحظ في هذه المذكرات أنه في تلك الفترة البائسة حين لم تكن البلاد تمسك بمقاليد وجودها، ولا همّ للشباب قبل الحرب العالمية الأولى سوى الاستقرار بقدر الإمكان في الإطار الاستعماري، كان جدي القديم وجدتي يتشبثان برصيدهما التاريخي الأصيل، بتلك التقاليد وهذه الروح التي لولاها ما استطاعت البلاد أن تعود لصياغة تاريخها من جديد.

ومهما يكن من أمر فعندما عدت إلى عائلتي في تبِسَّة، عدت إليهم وقد ارتسمت في نفسي انطباعات واضحة خلال إقامتي في قسنطينة عند عمي وزوجه.

ولعل فقداني لما اعتدت عليه في مدينة الباي، كان يزيد في تأثير بيئة تلك المدينة على ذهني. ولهذا فقد ظلت قسنطينة تستقطب تفكيري طيلة سنوات طفولتي. ولكن تبسة أصبحت هي الأخرى مجال استقطاب آخر أضاف إلى ذاتي طابعه النفسي أيضاً.

ففي هذه الفترة كانت المدينة قابعة تقريباً داخل حدودها البيزنطية القديمة، أعني داخل الأسوار التي بنيت سريعاً دون تنسيق لمواجهة غزو الفندال. وأضيف إلى المدينة أيام الحكم العربي ضاحية بنيت خارج الأسوار (مشتى) يسمونها الآن الزاوية؛ ولعلها سميت كذلك نسبة إلى سيدي عبد الرحمن، أحد الأولياء الصالحين. ويؤم هذه الضاحية عادة بعض رجال القبائل المجاورة (ليموشي واليحياوي وعبديس) ولعلهم يفضلون الإقامة فيها على المدينة ليبقوا قرب مواشيهم.

في هذا الإطار قضيت القسم الأهم من طفولتي.

ص: 20

وكان للعائلات المقيمة داخل المدينة أيضاً قطعانها من الأبقار ترسلها باكراً لترعى خارج المدينة. فكانت تتجمع في الصباح عند باب (كراكلا) ويسميه المسلمون الآن باب (سيدي سعيد)، ليدعها تعود في المساء وحدها إلى حظائرها تضج بها أزقة المدينة كما تملؤها بما تلقي خلفها من أقذارها. ثم أضاف الحكم الاستعماري إلى المدينة القديمة الطابع، ضاحية إدارية أقام فيها الوحدات المختلطة لدينتي (تبسة ومرسوت)، وأخرى سكنية لإقامة الأوربيين من الموظفين ومعلمي المدارس ورجال الجمارك ورجال الدرك مع طبيب واحد أو طبيبة.

فالإطار الذي سأقضي فيه شبابي يحكي باختصار قصة ألفي عام من تاريخ الجزائر. فبيئة تبِسَّة تختلف في عدة نقاط عن محيط قسنطينة حيث قضيت السنوات الأولى من طفولتي.

لقد نجت بنسبة كبيرة من تسلط الواقع الاستعماري الذي سيسمى فيما بعد (الحضور الفرنسي)، وهذا ناتج من أن طبيعة المنطقة كانت تشكل نوعاً من الدفاع الذاتي ضد الأوربيين. ذلك أن تربتها لم يكن فيها ما يستهوي المعمر الأوربي، ففيها كنت ترى الدركي وبوليس الجمرك سابحين، في محيط من لابسي البرانص، خاصة في الأيام التي تقام فيها الأسواق، فاحتكاكها بالقبائل المجاورة قد حفظ لها طابعاً شبه بدوي مع شيء عن مظاهر حياة قبلية رعوية تفوح منها رائحة الحليب والخمير التي تَأَلَّفَت الأزقة.

لم تكن النظم التقليدية لهذه المنطقة تفسح المجال كثيراً- كما هي الحال في الحواضر الكبرى- للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الوجود الاستعماري. فالسكان هنا لم يتخلوا عن فضائلهم وتقاليدهم. فلا يزال طعامهم الشائع الكسكسي والفطائر وشرابهم الماء القراح. لقد تمكنت تبسة من المحافظة على روحها القديمة وعزتها بفضل بساطة الحياة فيها وجدب تربتها. وهكذا

ص: 21

فبانتقالي من قسنطينة إلى تبسة، وجدتني في إطار جديد أمام عناصر ومؤثرات تختلف عن سابق نشأتي.

في تِبسَّة تختلف وسائل اللعب عنها في قسنطينة، فأطفال مدينتي الأولى قسنطينة أَكثر رفاهية وبالتالي فقد كانت لعبهم أكثر أناقة ورقة، فالصغار منهم يتلهون بلعب صغيرة صنعت محلياً من خشب ملون، فهي أشبه ما تكون بتلك الصناديق الرخيصة الثمن التي كانت تحملها عرائس قبائل تبسة ضمن جهازها، والذين هم أسنّ كانوا يلعبون بالقفز أو بلعبة أخرى هي (الكينة quinet). في تِبسَّة كانت اللعب تعتمد على مزيد من القسوة والصلابة المتأثرة بالتقاليد المحلية، وبعضها كان أحياناً يقترب من السحر والشعوذة.

هناك أيضاً الألعاب الموسمية، ففي الربيع تجري المباريات الرياضية بلعبة (الكورة) بين أبناء المدينة وأبناء الزاوية، وكثيراً ما كان بعض الكبار يشتركون فيها؛ أما الكورة فكانت عبارة عن عقدة من غصن سنديان أو أنها مصنوعة من شعر الماعز. أما قاعدة اللعب فتقضي بأن يحاول كل فريق توجيه كرته إلى أرض الفريق الآخر، بواسطة عصا صنعت من غصن سنديان معكوفة عند طرفها شويت على نار خفيفة (الخوص)، ولعلها تشبه إلى حد ما العصا المستعملة اليوم في لعبة (الجُلف).

وهناك لعبة أخرى ربما كانت أخطر، وهي عبارة عن حرب صغيرة تقوم بين صبية تبسة وأولاد الزاوية. وهذه معروفة أيضاً في قسنطينة حيث يتقابل بضراوة أبناء حي القنطرة مع صبية باب الجدابية. على أن أكثر ما كان يثير اهتمامنا نحن أبناء تبسة السطو. كان يحيط بالمدينة منطقة خضراء يقوم بعض المزارعين باستغلالها في إنتاج الخضار، وفي موسم الخسّ والفواكه كنا نحن الأطفال نغرو هذه الحقول ونسطو على ما يتيسر من إنتاجها. بل كثيراً ما كان الأطفال يهربون من مدارسهم جماعات جماعات ليغيروا على هذه الحقول. ولعل أطفال

ص: 22

المدينة قد أسهموا مع تطور الحياة في تحويل هذه الجنائن إلى أرض موات، قسمت فيما بعد إلى قطع معدة للبناء عند ضاحيتي باب زعرور وباب الزواتين.

أما أنا فكانت لي أماكن مفضَّلة وكذلك أيام مفضلة، فكان يطيب لي أن أسطو على شيء من الأثمار بعد ظهر كل أربعاء. ففي هذا اليوم بالذات كان معلم المدرسة- ولم أكن بعد قد دخلت المدرسة الفرنسية- يصرفنا قبل موعد الانصراف، بعد أن يكون قد حصل من كل طفل على قطعة نقدية من فئة القرشين، وهذا ما كان يوفر لي الوقت اللازم للسطو على البساتين.

في تلك الساعة من بعد الظهيرة كانت الشمس عادة تلف المدينة بأشعة ذهبية رائعة، مما كان يجعلني أجد متعة كبرى في اللعب على أرصفة شارع قسنطينة أو في ساحة (كارنو Carnot) حيث أقيم كشك للموسيقا، اعتاد الفرنسيون أن يرقصوا على أنغامه في ليالي الرابع عشر من تموز. ولا أزال أذكر تلك الأمسية من بعد ظهر أربعاء ركلني فيها أحد الأوربيين لأنني دست على قدمه بينما كنت ألعب على الرصيف. وكان اللعب قرب الأسوار بالذات يطربني إلى حد كبير، إذ كان يجعلني أشعر وكأنني أنتقل إلى عالم آخر.

في زوايا أخرى من المدينة كان يخالجني شيء من الاضطراب، فحين كنت أمر بصحبة أختي الكبيرة أمام الكنيسة كنت أتطلع باستمرار إلى جرسها، إذ كانت تتملكني فكرة لم أبح بها لأحد مطلقاً. كنت أعتقد أن شقيقتي الصغيرة وردة - التي لم أعرفها لأنها توفيت وأنا ما أزال رضيعاً- سجينة داخل الكنيسة كما لو كانت كنزاً سلب من أحد وأخفي في مكان أمين لا تصل إليه يد.

لم تكن الزاوية القادرية بعيدة كثيراً عن منزلنا. وكان العرف آنذاك يقضي في حفلات الزواج والختان، بأن تواكب نوبة الزاوية العريس ليلة زفافه والطفل يوم ختانه. وما إن يصل إلى مسامعي إيقاع الضربات الأولى للنوبة حتى أبادر إلى الخروج، وحين كان يحدث ذلك عند الظهر كنت أعرف أنه

ص: 23

بمناسبة ختان عند العائلة الفلانية، وأسارع فوراً إلى اللحاق بالموكب كما كان يفعل جميع صغار الحي.

هذه الذكريات تبدو لي غريبة حتى في هذا الوقت بالذات، ومع الأيام بدأت تتحسن أوضاع عائلتي المادية؛ فوالدي حصل على وظيفة في المجمع المختلط لتبسة، وذلك بفضل ما تعلمه قديماً في المدرسة.

لقد أرسلوني إلى المدرسة الفرنسية، إلا أنني في الوقت نفسه ثابرت على التردد على مدرستي القديمة لتعلم القرآن، فكنت أقصدها كل يوم في الصباح الباكر لأكون فيما بعد عند الثامنة صباحاً في المدرسة الفرنسية. وكنت أجد في ذلك صعوبة كبيرة، أضف إلى هذا أن الفارق الذي كنت أحس به بين المدرستين والمعلمين، كان يجعلني لا أطيق هذا الوضع، فبدأت أتغيب عن مدرسة القرآن القديمة وسجادة الخلفاء، مما كان يعرضني لعقاب متواصل من أبي ومن معلم القرآن، وهذا زادني كرهاً بمدرسة القرآن، واسمترار هذا الوضع جعل حالي تسوء في المدرستين. وهكذا اقتنع والدي فانقطعت عن مدرسة القرآن القديمة لأنني لم أتعلم الكثير على الرغم من السنوات الأربع التي صرفتها فيها. فحتى ذلك الوقت لم أكن قد تجاوزت في قراءتي للقرآن سورة (سَبَّح).

وإن من ذكريات تلك الأيام ما لا يزال في مخيلتي، فقد كنت كباقي التلاميذ أغسل كل صباح لوحي الحجري في بركة ماء صغيرة، تقع عند زاوية المدرسة، ومتى تشبعت مياه البركة بذلك الحبر الذي كنا نكتب فيه وهو الصماغ - وكان المعلم يصنعه عادة بنفسه مستعملاً دهن الخرفان- كنا نعمد إلى نقل المياه الملوثة بدلوٍ لطرحها في مكان خاص. شربت ورفاقي مرة من هذه المياه الملوثة لاعتقادنا بأنها كانت تضم كلمة الله. لقد كان قصدنا من ذلك نبيلاً ومؤثراً، فما أردناه هو أن نشرب كلمة الله المقدسة بالذات.

ص: 24

في المدرسة الفرنسية الوحيدة في مدينتنا الصغيرة، أوجدوا صفاً رابعاً خصص للصغار من أبناء البلاد Petits indigènes وهو عبارة عن (مطهر) يقضي فيه الولد عدة سنوات، قبل أن يلحق بالصفوف العادية، عقب امتحان يقرر ما إذا كان على التلميذ أن يدخل الصف الثاني أو الثالث. لقد كان لي حظ الدخول في الصف الثالث.

وكان هذا في الواقع حظاً أتاح لي على ما أعتقد متابعة دراستي. فقد تمثل في شخصي معلمتي (مدام بيل) التي أحفظ لها حتى اليوم ذكرى حانية. ففي هذا الصف وجدتني لأول مرة مع أطفال أوربيين قد أتوا عن طريق القسم الخامس.

لقد كان لدى أهلي اهتمام بوضعي في مستوى الوسط الجديد، فزودت بأولى صدارة سوداء وأول محفظة كتب بغية الانسجام مع رفاقي الصغار.

لقد وضعني أول امتحان- وكان على ما أعتقد إملاء فرنسيا وبضعة أسئلة في اللغة- في مقدمة زملائي، وأعطاني الحق في أن أكتب ذلك اليوم التمارين على الصفحة الأولى لما يسمى دفتر الصف، الذي كان المعلم أو المعلمة يضعه بيدي الطالب كل صباح وفقاً لترتيبه.

ولكن الذي بقي في ذاكرتي هو الحب الصاعق الذي جذبني بقوة نحو (مدام بيل). ففي صباح أحد الأيام استيقظت وأنا أستشعر حباً جنونياً نحو معلمتي الجديدة كما لو كانت أمي بالذات، ولعل من السهل تفسير هذه الحادثة إذا ما لجأنا إلى نظريات فرويد. والغريب أن هذه السيدة قد استجابت لنزوة قلبي الصغير.

وعلى كل فقد بدأت دراستي بداية طيبة وتصرفاتي في الشارع بدأت شيئاً فشيئاً تتسم بطابع الهدوء والانتظام، وربما منذ تلك الفترة بالذات بدأت أكثر من التردّد على المسجد وخاصة أيام العطل. إذ كانت تلذ لي بصورة خاصة المشاركة في صلاة الجمعة، ففي هذه المناسبة فقط يسمح لي أن أرتدي قميصي الأبيض المزركش وبرنصي الصغير. وكنت قد حصلت على هذه الملابس الجميلة هدية من

ص: 25

امرأة عمي بهيجة، تلك المرأة التي كفلتني في طفولتي في قسنطينة وما برحت تزورنا من آنٍ لآخر في تِبِسَّة، مما كان يبعث دوماً في نفسي الشوق والحنين للأرض التي ولدت فيها.

وقد بات الآن في وسعي أن أتتبع أحاديث أفراد العائلة، وبن خلال ذلك عرفت عن طريق امرأة عمي بهيجة في إحدى زياراتها أن جدي لأبي قد عاد إلى قسنطينة من طرابلس الغرب بعد أن احتلها الإيطاليون.

فقد مرَّ زمن طويل كنت خلاله ألهو وأدرس على عادتي في تبسة قبل أن تتاح لي فرصة السفر لرؤية قسنطينة، والتعرف إلى جدي الذي لم يسبق لي أن رأيت وجهه من قبل.

في السهول المحيطة بالمدينة كانت العائلات القديمة لا تزال تعيش من عمل زراعي تمارسه فيؤمن الغذاء لها ولمواشيها. وكثيراً ما كان يشاهد القائد الصدّيق جالساً أمام داره بُعَيْد الظهر في شارع (بريزون Prison )، وكان يجلس معه بعض أصدقائه القدامى يشربون القهوة ويلعبون (الدامة). لم يعد يمارس عملاً، اللهم إلا أن يعير برنصه الأحمر القديم إلى الشبان ليلة زفافهم، وأن تقدم زوجه لعائلاتهم القِدر الكبير الذي يستعمل عادة لطبخ الكسكسي في المناسبات الكبيرة.

فمنذ أن اجتاحت الحرائق الكبيرة في عام 1912 غابات المنطقة ودمّرتها، بدأت الأوضاع الاقتصادية لهذه العائلات تسوء تدريجياً، حتى أصبحت صعبة للغاية، وبدأ التحلل الاجتماعي الذي عمّ المنطقة ينتشر حتى عبر أسوار المدينة الرومانية القديمة.

لقد بدت مدينة تبسة في ذلك الوقت تعيش حياتها المعتادة داخل أسوارها، والحدث الفريد فيها هو الانتخابات، إذ كانت المدينة تتحسس الأحداث السياسية وكانت تتنازعها زعامتان:(عباس بن حمانة) وهو مستقل، و (بن علاوة) وهو هن أنصار الإدارة.

ص: 26

وكما كان (بن رحال) من أوائل رجال الفكرة الوطنية غربي الجزائر، فقد كان معاصره (بن حمانة) مثله في شرقي البلاد وإن لم يكن ذا شهرة واسعة. لقد تعارف الرجلان وشكلا أول وفد جزائري سافر إلى باريس في تلك الفترة، وقدم للحكومة الفرنسية بعض مطالب أبناء البلاد وقد خلف (عبابس بن حمانة) وراءه في باريس أثراً طريفاً؛ بالطبع لم يمنحه الفرنسيون الحقوق التي جاء يطلبها لبلاده، إلا أنهم على كل حال منحوه وسام الاستحقاق الزراعي؛ وحين سأله فيما بعد أحد الأوربيين في الجزائر مازحاً:((ماذا زرعت حتى تنال هذا الوسام؟)) فأجاب: ((لقد زرعت نفوذاً في باريس)).

على أن اسم هذا الرجل قد ارتبط في تلك الفترة بقضية اغتيال سياسي هزّ كيان الإدارة الفرنسية في الجزائر وكان له وقع كبير، حتى إن أحد الكتاب الأوربيين، وضع كتاباً حول الحادث أسماه (قضية تبسة).

على أن (بن حمانة) لابد أن يُذكَر على أنه أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلاد، وبفضله ارتفعت ضمن أسوار تبسة جدران أول مدرسة.

هكذا انتعشت الحياة في المدينة فجأة وسادها جو من الصراع السياسي، إذ كانت الأيام التي تسبق الانتخابات البلدية حافلة بالنشاط، أما الأمسيات التي عقبت ظهور النتائج الانتخابية فكانت أكثر حرارة بسبب المهرجانات التي ينظمها الحزب الفائز في شوارع المدينة. ولم تكن المواكب لتكتفي بالتجوال في الشوارع والأزقة، بل كانت تتوقف أمام منازل من ينتمون للحزب الخاسر للطرق على أبوابها بالعصي.

وفي إحدى الأمسيات توقف الموكب أمام دارنا، إذ كنا من أنصار (صالح بن حمانة) الذي أخفق في الانتخابات، فكان من الطبيعي أن يتلقى بابنا نصيبه من ضربات عصي الفائزين. وهنا أود أن أعترف بأن الخوف قد تملّكني في تلك اللحظة، إذ خشيت ألا يقفوا عند هذا الحد وأن يدخلوا دارنا

ص: 27

ويحطموا كل شيء فيه، ويحطموني أنا أيضاً بضربات عصيهم قطعاً صغيرة. ولما كان والدي خارج الدار في تلك اللحظة فقد اختبأت مذعوراً وراء أمي، التي كانت تتفرج على ما يجري في الخارج من فتحات النافذة.

كان لتبسة وجه آخر هو الوجه الشعبي، ففي (أيام السوق) كان يلذ لي أن أذهب هناك- إذا صادف يوم عطلة في مدرستي- وأستمع إلى الحكواتي، يقص بطولات سيدنا علي في الساحة قرب باب الجديد، وكان يطربني أكثر فأكثر أن أتحلق حول الحاوي وهو يرقص ثعابينه، أو أقف حول أولاد (بن عيسى) أتفرج على ألعابهم البهلوانية التي كان يزيد في بهائها حركات المهرج الذي كان يرافقهم، والذي كانوا يطلقون عليه اسم (المُسيّح).

في المساء كان الناس يتجمعون في المقاهي الجزائرية يستمعون إلى القصاصين يروون حكايات ألف ليلة وليلة أو سيرة بني هلال. أما من كانوا يفضلون البقاء في المسجد بعد صلاة العشاء فكانوا يستمعون إلى ما يلقي الإمام من دروس. وبذا كانت تبسة عبارة عن مركز ثقافي تلتقي فيه عناصر الماضي بطلائع المستقبل، وبالطبع فإن مداركي كانت تنمو متأثرة بهذين التيارين.

هكذا كانت الحياة في تبسة في تلك الحقبة من التاريخ التي أسماها الفرنسيون فيها بعد (العصر الجميل).

وذات صباح شاع في تبسة خبر اغتيال (عباس بن حمانة). وبعد أيام قلائل شاهدت المدينة آخر عيد للحرية 14 تموز (يوليو) يقيمه الفرنسيون قبل انتهاء الفترة الجميلة. لقد وضع الفرنسيون على كل جانب من بوابة الثكنة العسكرية مدفع ميدان مخصَّصاً لتلك المناسبة، وقد بدا لي أن لهذا علاقة بمقتل (بن حمانة)، بل أكثر من ذلك حين اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بعدة أيام خُيل إلي أن ذلك ما وقع إلا بسبب حادث الاغتيال.

ص: 28

حين اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى التي غيرت فيما بعد وجه العالم، لم يكن لذلك الحدث وقع كبير في نفسي، فالرابع عشر من آب (أغسطسى) عام 1914 لم يكن بالنسبة لي غير يوم كباقي أيام السنة؛ وحين سمعت جدتي تستعيد ذكريات حرب عام 1870 أو (عيطة البروس) كما كانت تسميها، خُيِّل إلي أن ما حدث في ذلك اليوم كان فقط بسبب مقتل (بن حمانة). وعلى كلٍ فإني أعتقد أن جميع الشعوب كانت في ذلك الوقت طفلة مثلي، فلم تستطع أن تقدر ماهية الحدث وأبعاده. ذلك أنها لم تكن تستطيع ذلك.

من المؤكد أن مظاهر الاندفاع الوطني كانت كثيرة وشاملة. إنني لا أدري ماذا فعل سكان برلين وكذلك سكان لندن لدى سماعهم نبأ الحرب، غير أن ما أعرفه هو أن أهالي باريس قد اندفعوا يحطمون واجهات المحلات التي افترضوا أنها تخص الرعايا الألمان، كما خرّبوا منشآت كثيرة منها مستودعات ( Maggi).

وساروا في تظاهرات ضخمة مخترقين شوارع باريس نحو (محطة الشرق La gare de L’Est) وهم ينشدون المرسلياز لوداع قوافل الشباب المسافرة إلى الجبهة. أما في تبسة فذلك اليوم كان عادياً كغيره: الأطفال يتلهون بتسلق الأسوار والأمهات يغزلن الصوف أو يطبخن الكسكسي، والحكواتي يسرد كعادته أخبار سيدنا علي أو يقصّ شيئاً من سيرة (أبي زيد الهلالي) في ساحة السوق؛ أما في المساء فكان الناس في الحي الأوربي من المدينة يمكنهم أن يشهدوا فيلماً تعرضه سينما متجولة تمر بالمدينة مرة في الأسبوع، فتعرض على رصيف أحد المقاهي أفلام (ماكس لينتر Max Linter)؛ أما في الجانب الغربي من المدينة فكان الناس يستمعون إلى فصل من قصص ألف ليلة وليلة، يُقرأ في أحد المقاهي الجزائرية. لكن البلاد

ص: 29

أخذت رويداً رويداً تدرك حقيقة ما يجري، خاصة حين بدأت أولى فرق المتطوعين تغادر المدينة، فكانت أمهاتهم ترافقهم حتى المحطة وتودعهم بالبكاء والنحيب.

وبدأت المدينة تستشعر بصورة أوضح جو الحرب، حين بدأت السلطة تَحُدُّ من استهلاك بعض السلع كالسكر والبترول الخ .... وخاصة لما ظهرت في البلاد تلك القطع النقدية الورقية الصغيرة.

في تلك الفترة وفي تلك الظروف بدأت تظهر أسطورة (الحاج غليوم)، وبدأ الشعراء الشعبيون يمجدونه مستعينين لذلك بالأدب الشعبي القديم يبعثونه من سباته، وأحياناً كانوا يخلقون أدباً جديداً لهذه الغاية، وقد أعاد هؤلاء إلى الأذهان في منطقة تبسة أقوال (سيدي علي بن الحفصي) القديمة حول الحرب والبطولات.

وفي منطقة قسنطينة أضيف إلى التراث الشعبي عدة أسئلة جديدة تدور حول موضوع الحرب.

ذات يوم كان معلم عجوز في مدرسة قرآنية في تبسة يروي لتلاميذه أن (غليوم) قال: ((أخشى أن تنتهي الحرب قبل أن أتمكن من التعبير عن كل أفكاري وتحقيق كل ما عندي من اختراعات)).

هذه الأوهام عاشت لفترة ما في ضمائر الجماهير، أما بالنسبة لي شخصياً فإن حدثاً مهماً جاء يغير مجرى حياتي. في مساء أحد الأيام كنت عائداً من المدرسة إلى المنزل فوجدت أمي بانتظاري عند أعلى درج السلم متأبطة حقيبة وضعت فيها ملابسي. عانقتني بحنان ورافقتني نحو السلم وهي تقول:((أسرع نحو عربة البريد لتجد والدك فترافقه إلى قسنطينة)). وقد اندفعت مسرعاً تحدوني رغبة ملحة

ص: 30

لرؤية امرأة عمي بهيجة، والتعرف إلى جدي لأبي الذي كنا نسميه (بابا الخضير)، كما كنت أرغب أيضاً التعرف إلى عمي محمود وإلى عم والدي محمد.

في الواقع منذ أمد بعيدى كنت أتمنى العودة إلى قسنطينة. ومن ثم فكلما مرت العربة تحت شبابيك مدرستي، وكلما تناهى إلى سمعي وقع سوط السائق يهوي على رؤوس خيوله ذات الصفين كنت أتنهد بأسى. لقد كان عجاج غبارها المنبعث وهي تتركه وراءها، في رواحها المتاخر على طريق قسنطينة، وغدوها عندما ألتقي بها وأنا عائد من المدرسة، يسلمني إلى أحلامي، وبصورة عامة لقد ولدت وفي نفسي ذلك المزاج الذي وصفه بدقة مؤلف كتاب (رجال الأسفار).

في ذلك المساء خامرتني نشوة الانتصار وأنا في ذلك المقعد الذي هو خلف سائق العربة. وعندما مرت العربة أمام مدرستي تحت نوافذ صفي، كان لدي شعور بالنصر والتحرر. كان النهار قد قارب نهايته حينما توقفت العربة في استراحتها الأولى في (يوكس)، فهناك بدلت جيادها وقد حصل هذا عدة مرات أثناء الليل في المحطات التالية. وفي الفجر وصلنا إلى عين البيضاء، وهناك كان علينا أن ننتظر قطار قسنطينة الذي سوف يسافر بعد الظهر. لقد قضينا الليل في غرفة حمام مغربي. والقليل من الأهالي كانوا يحجزون غرفة في فندق لأنهم غالباً ما كانوا يطردون. وحملنا القطار من عين البيضاء على خط ضيق في الدرجة الثالثة منه، وكم كان مثيراً في نفسي أن جاوزنا (الخروب) فتراءى لي بريق ينسلّ من الأفق الدامس من الليل؛ لقد لاحت قسنطينة بأضوائها الكهربائية.

خرجنا أنا وأبي سيراً عل أقدامنا من المحطة. وحين وقعت عيني على جسر القنطرة بأنواره الكهربائية بدا لي لأول وهلة كأنه من عمل الجان والعفاريت. ولكن نظرة مني في قنطرة الجسر تاهت في أعماق (وادي الرمل) الداكنة.

ص: 31

لم أكن أعرف كيف أسير لكن دقائق (الشارع الوطني National) الذي مشينا فيه أثارت انتباهي، وكذلك خيول العربات القادمة من المحطة تحمل المسافرين تضرب إيقاعاً بحوافرها على البلاط الصلب للطريق، لقد أسلمتني هذه الضجة في الواقع إلى صورة تختلف عن أختها في تبسة. ففي تبسة الحوافر صامتة لأنها تغرق في الغبار الذي يغطي شوارع المدينة الصغيرة.

ونظرت يميني فبدت لي السلم التي تصعد باتجاه الحي العربي، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أني صعدته ونزلته. ومما لفت نظري ارتفاع الأبنية في هذه المدينة، بينما تقصر عنها أبنية تبسة حتى في الشارع الرئيسي. وكذلك الإضاءة بالكهرباء لم يسبق لي أن شاهدتها.

وباختصار فإنني أتصور أن فلاحاً صغيراً يأتي من الريف إلى باريس في الليل، لم يكن ليختلف انطباعه عما استولى على نفسي في تلك الساعة.

وفجأة رأيت والدي يدخل مقهى عربياً يستعد صاحبه لإغلاقه. لقد كان يشعل نار الوجاق من أجل الصباح التالي. إن رقة الحاشية و (الشاش الأغباني) الذي كان يحيط بوجهه قد أشاعا في نفسي اطمئناناً واستلطافاً، لذلك الرجل العجوز الذي خف لاستقبالنا. لقد كان يدعى سي (بن يمينه)، وبينما كان يتبادل وأبي التحية كنت ألقي نظرة حول الحصر التي تغطي الأرض، وذلك الوجاق الذي صُفَّت حوله بذوق وأناقة فناجين القهوة وأباريقها ذات الأيدي الطويلة.

لقد أودعني والدي ذلك الشيخ ليقودني إلى منزل امرأة عمي بهيجة ثم انصرف. وهكذا أكمل الشيخ إعداد مقهاه للصباح، وأغلق الأبواب ثم سار بي عبر مجاهل شوارع قسنطينة العربية حتى وصلنا. وقبل أن نعبر إلى تلك الدار التي أثارتني باتساع أرجائها ونظافة جدرانها المطلية بالكلس الأبيض كباقي بيوت

ص: 32

قسنطينة، مررنا بمدخل يدعى السقيفة. ولعل مردّ تلك النظافة إلى العادة الشائعة في المدينة التي تفرض على المستأجر واجب طلاء الجدران بالكلس مرة كل سنة.

وأنا الآن أدرك نظام السكن في تلك البيوت، وغالباً ما يوجد عشرون مستأجراً تنمو العلاقة بينهم في حدود ضيقة. فكل بيت منها عبارة عن جماعة تجد فيها الأرملة والطالب والعامل والتاجر الصغير والمستخدم والموظف الصغير. لا يشكلون إذن طبقة ولكن جماعة تتشابه ظروف حياتهم. فهنا مستأجر أساسي مثل (سي بن يمينه) الذي يستأجر داراً ويختار بعد ذلك مستأجرين ثانويين، يدفعون بدورهم بدل الإيجار كل بما يشغل من مساحة.

وكانت أمي بهيجة واحدة من هؤلاء المستأجرين في تلك الدار، فالمورد الذي كان يؤمن لها الحياة مع عمي الكبير، انقطع بانقطاع المرتب التقاعدي الذي كان يتقاضاه باعتباره من متقاعدي حرب عام 1870؛ وهي لذلك تعمل أمينة صندوق لحمام. إنها وظيفة ثقة تناسب هؤلاء العجائز لاعتبارالت تتعلق بأمانتهن.

وناداها سي (بن يمينه): بهيجة

بهيجة. ها قد وصل الصدّيق؛ وسمعتها تصرخ بفرح وتنرل السلم بسرعة لتحضنني بذراعيها. وصعدت معها درج السلم حافي القدمين كما كانت تقاليد تلك البيوت، ثم قادتني إلى الحجرة الصغيرة التي تشغلها في الطابق الأول وأمضيت الليلة الأولى بين ذراعيها.

هكذا بدأت مرحلة جديدة من طفولتي. كان أول ما فعلت في الصباح أن تعرفت على جدي الذي أصبح صديقاً لي بسرعة. فقد أخذ يطلعني على معالم المدينة، ويقودني أحياناً إلى الزاوية العيسوية التي كان أحد أركانها، وكانت تحيي كل سبت حلقة من الذكر تعرض فيها الكرامات المدهشة والعجائب. وأحياناً

ص: 33

أخرى يصحبني معه إلى ذلك المقهى الصغير في حي (بن شريف) حيث يلعب (الداما) مع أقرانه، ويستعيد معهم ذكريات السنين الخوالي، وقد تتدخل أحداث الحرب الدائرة التي دخلت فيها تركيا إلى جانب ألمانيا والنمسا فتجذب إليها أطراف الحديث، فهذا الحدث وضع موضوع الحرب على الصعيد الديني لأن خليفة المسلمين في استنبول أصبح الآن طرفاً فيها. والخليفة لديه بحسب اعتقادهم سلاح رهيب. فإن سيدي (زرودي) معلم القرآن الذي يسكن معنا في الدار نفسها قال لهم:((لو أن الخليفة لوّح براية النبي محمد التي لديه فالعالم سيلتهب)). هذا التهديد التقي لم يكن بجاجة للتنفيذ، فالعالم كان يشتعل فعلاً.

لقد كان لمعركة الدردنيل في قسنطينة دوي كبير خاصة في الوسط اليهودي.

فالقيادة الفرنسية كانت حذرة أن يشترك الرماة الجزائريون في المعركة، فاختارت لذلك الميدان فرقة الزوارق التي يكثر اليهود فيها.

لقد لف الغلاء الحياة في المدينة فهدم طبقة قديمة تعيش على موارد الأرض والحرف التقليدية، ورفع على أنقاضها بفضل المضاربة طبقة من الأثرياء الجدد تعيش على التجارة. لقد آذن ذلك العصر بأفول نجم العائلات القديمة لقسنطينة، وأضحى الخط الاقتصادي الجديد يفرض تحولاً في العقلية وفي مظاهر الحياة.

لقد تَكّيَّفَ جدي مع هذا التحول بطريقته الخاصة، أعني بطريقة شيخ يرى التحول يرزأ وسطه العائلي. لقد كان يتحدث عن ذلك مع أصدقائه الشيوخ بمرارة حينما كنت أرافقه أحياناً إلى كشك للدخان يملكه في ساحة (بريش Brèche) صباحاً، ليقرأ الصحيفة ولينزه كلبه.

لقد أراد جدي على الرغم من ذلك كله أن يحافظ على مظهر سَيِّد. فكان يلبس بأناقة تلك الثياب ذات الطابع القسنطيني، ويسلم كشكه لإدارة شخص آخر فيما هو يصرف وقته في الحديث وقراءة صحيفته ولعب الداما، وكان الصيد يستأثر باهتهامه الكبير، لقد كان صياداً ماهراً وكلبه الأصيل رفيق وفي.

ص: 34

ولعل أكثر ما كان يغيظ جدي ظهور طبقة الأغنياء المحدثين، فقد كان يرى أن إطار المجتمع يتغير بشكل أعمق مما كان يظن، فولده عمي محمود ترك السروال ولبس البنطال الطويل وربطة العنق. ثم جاء ينشئ في قسنطينة مع عدد من أصدقائه جمعية هواة للموسيقا هدفها طابع الموسيقا التقليدي. والذي كان يدعو إلى الدهشة في جدي أنه كان يجمع في شخصه تيارين متعارضين، كان لهما فيما بعد دورهما في تكوين العقلية الجزائرية. وأريد أن أتكلم عن هذا الذي سمي فيما بعد (السلفية أو المرابطية).

كان جدي من مؤيدي الشيخ (بن مهانة) أحد رواد رجال الإصلاح الجزائري في نهاية القرن الماضي، وكان اندفاعه لتأييد الإصلاح يعادل ارتباطه بالطريقة العيسوية. ولم يكن الخلاف بين هذين التيارين المتعارضين قد اتخذ ذلك الطابع العنيف الذي عرفه جيلنا خصوصاً بعد سنة 1922، مع ظهور الصحافة المعبرة عن الرأي العام كصحيفة (المنتقد) التي ظهرت في مدينة قسنطينة.

في منزل جدي كانت شخصية غامضة لم أتعرف عليها جيداً، تلك هي شخصية (محمد) شقيق جدي. لم أكن أدري السبب في أنه بغير عائلة؛ إنما أعرف فقط أنه كان في طرابلس يحارب الإيطاليين، وأنه وقع أسيراً في أيديهم ثم أطلق سراحه ليذهب إلى الجزائر مع جدي وعمي.

كنت أراه وحيداً مرتدياً جلبابه الصوفي. يمر بنا ليصعد إلى غرفة في أعلى المنزل تسمى (السرايا) يقيم فيها وحيداً. وأحياناً ألتقي به خلال تجوالي على الجسر الطويل لسيدي راشد، إذ أراه أحياناً يتكئ على سوره ساهماً في الأفق البعيد.

وخلال هذه الفترة التي قضيتها في قسنطينة لم تتقدم دراستي كثيراً، فقد أفسدتني أمي بهيجة بعنايتها الزائدة، وحين كان عمي محمود يحاول تأديبي كان

ص: 35

جدي يحول دون ذلك، أما عمي محمد فلم يكن يتكلم معي. كنت أقضي وقتي متسكعاً ألهو بأجراس البيوت في (الشارع الوطني National)، وقد بهرتني السينما خاصة مع أول فيلم أميركي كنت أتابعه في كل عرض هو (عجائب نيويورك).

وفي يوم لم يكن معي نقود فعمدت إلى بيع حذاء جديد، كانت قد اشترته لي أمي بهيجة في الصباح، ودخلت بثمنه إلى سينما وكان يعرض فيلم ( Nunez).

وأمام تكاثر تصرفاتي السيئة اضطرت المرأة المسكينة أن تكتب لأهلي طالبة إليهم أن يعيدوني إلى تبسة.

لقد تركتُ قسنطينة: أمي بهيجة وجدي وكلبه، بأسى شديد. ولكني حملت معي من تلك الإقامة فائدة واحدة فالأمور بدأت تتصنف في تفكيري وذاتي.

ففي تبسة كنت أرى الأمور من زاوية الطبيعة والبساطة، أما في قسنطينة فقد أخذت أرى الأشياء من زاوية المجتمع والحضارة واضعاً في هذه الكلمات محتوى عربياً وأوربياَ في آن واحد.

لم تتغير تبسة خلال غيابي عنها، إنما شيء واحد خيب أملي، هو أنني لم أجد معلمتي القديمة السيدة (بيل)، ولكن لحسن الحظ فإن امتحاناً مختصراً أتاح لي الانتقال للصف الثاني، حيث وجدت الآنسة (رافي Rafi) وهي مدرسة يحبها تلاهيذها بطريقة لا تخلو من العقد، فقد كانت جميلة جداً. وفي يوم من الأيام اضطرت أن تطلب من مدير المدرسة السيد (آدم) تأديب طفل يهودي في صفها لموقف غير مهذب صدر عنه.

لقد كنت مثالاً للنظافة في الصف. وذات صباح حينما كانت الآنسة

ص: 36

(رافي) تستعرض أيادي تلاميذها في ملعب المدرسة عندما دق الجرس توقفت عندي وقالت للتلاميذ: ((هكذا تكون الأيدي نظيفة)).

كنت أدرس بجد طيلة أيام الأسبوع. وبما أني كنت أحرص على كتابة وظائفي مساء السبت فقد كنت أحصل على شيء من الحرية يوم الأحد. وبالتالي كنت أقضي يومي كله تقريباً في مخزن سي (شريف برقوقة) بَقَّال الحي. وبسبب ظروف الحرب التي أدت إلى فقدان الورق التجاري المستعمل في لف المشتريات، فقد اضطر كسائر زملائه إلى استبدال الورق المطبوع به.

كانت قصة الحرب آنذاك تظهر في أجزاء مطبوعة، أجد معظم أعدادها الصادرة في مخزن سي شريف، وكنت أغرق في قراءتها باهتمام مولع، خصوصاً لما تحتويه من صور كثيرة.

لقد حملت من قسنطينة بفعل الاحتكاك بجدي وبالطالب سي زرودي ميولاً تركية وجدت غذاءها في تلك القراءة. فمعركة الدردنيل وجبهة سلونيك لاحت مغامراتها أمام مخيلتي. فقد تتبعت الجيش التركي على رمال سيناء حتى مشارف السويس التي كاد يجتازها لو لم يقطع لورنس عنه إمداد الماء مستعيناً بالقبائل العربية.

باختصار فقد أصبحت قريباً من مسرح الحرب العالمية الأولى وألفت سمعي أسماء أمثال (شارلروا- المارن- الأردان- الفردان).

وذات يوم سمعت حولي حديثاً عن حركة عصيان في عين التوتة. ورأيت بنفسي في تبسة الحاكم وأعوانه يُنزلون إلى المحطة قافلة من المجندين من أهالي البلاد، والحجارة تتساقط على باب قسنطينة كالمطر، وقبعة الحاكم تقع على التراب، بينما كانت النسوة من قبائل ليموشي يجرحن خدودهن بأظافرهن.

لقد أبصرت تجارة خاصة النور: فقد رأيت رجلاً ذا ساق خشبية يبيع

ص: 37

الجيش الفرنسي لحم أبناء المستعمرات بالكيلو. والرجل المبيع يقبض ثمن نفسه بمقدار وزنه. وأحد هؤلاء المبيعين يدعى (ولد الجبلي) استهلك ثمنه باحتساء الخمر ثم تسكع بالقرب من الأسوار وهو يغني راثياً نفسه:

((كم بقي لك من الحياة ياجبلي؟ كم بقي لك من الحياة؟)).

((يقول الفرنسيون: إنه ليس لديهم ما يكفي من الجند)).

وأصبحت هذه الأقوال أغاني للأطفال. وكثيراً ما كنا ندور داخل الأسوار نغني هذه الأقوال بصوت حاد، ونترنح ذات اليمين وذات الشمال مقلدين صاحبها.

لقد سافر ولد الجبلي ولم أعد أراه فيما بعد، ولكن من وقت لآخر كان يعود بعض الجنود في إجازة تزين صدورهم أوسمة. وكان منهم ملازم يدعى (صدوق شتوكا)، كان بدوره يبهرنا زيه العسكري البراق وقامته الرشيقة.

وفي يوم من الأيام دوى طبل البلدية، وكان يحمله يهودي عجوز يدعى (هافي). فاستقطر الأطفال من كل زاوية في الشارع ثم نادى:

((بيان من عمدة تبسة. في هذا اليوم دخلت أميركا الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا)). ولا أحسب هذا البيان استرعى انتباه جدتي أكثر من البيانات الأخرى للسيد العمدة.

كنت أتابع دائماً قراءة نشرات الحرب عند البقال سي شريف، الذي كان أحياناً يترك لي إدارة محله. وكنت في الصف الأول حينما عم الحزن ذات يوم أبناء الأوربيين في تبسة، حتى إن مدام (دوننسان Denoncin) التي يعرفها التلاميذ جيداً، لأنها تبيع في مخزنها الأدوات المدرسية، غمرها البكاء. فقد أعلنت جريدة (الشؤون العامة لقسنطينة Dépêche de Constantine) بأن الطائرات الألمانية دمرت باريس بقنابلها. وفي صباح يوم آخر حوالي الساعة العاشرة سمعنا ونحن

ص: 38

في الصف جرس الكنيسة الصغير يدق بقوة، والآنسة (آدم Adam) التي كانت تنوب عن والدها في التدريس بسبب مرضه توقفت في ذلك اليوم، لقد فتحت النافذة فإذا واحد من الذين يمرون في الطريق يقول:((لقد طلب الألمان الهدنة))، وهكذا خرج كل من في المدرسة إلى الخارج.

في ذلك المساء شعرت في عائلتي بشيء من الامتعاض يصعب التعبير عنه بوضوح. ولكن في الخارج وخصوصاً في ساحة القصبة شاع الصخب وأشعلت النيران وقد رأيت (مدام Denoncin) تضحك وتطلق الأسهم النارية من عتبة دارها.

كان ذلك يوم الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفبر) عام 1918. الساعات التي تبعت ذلك التاريخ لم يكن لها المعنى نفسه في جميع أنحاء العالم؛ ففي الجزائر بدؤوا يتحدثون كثيراً عن النقاط الأربع عشرة لـ (ويلسون)، والشعوب بدأت تطالبه بحق تقرير مصيرها. وكان حظ الجزائر من ذلك توسيع المشاركة في الانتخابات البلدية، وكان التمثيل منقسماً إلى طائفتين داخل مندوبي الشؤون المالية والحق بحمل سلاح الصيد؛ لقد كان ذلك كثيراً. وهكذا عمل المعمرون الفرنسيون بطريقتهم الخاصة؛ إذ قام وفد من أبناء البلاد (رؤساء المُستعْمَرين) على رأسه (بن قِديري)، وذهب ليحتج في باريس ضد تجاوزات الحكومة الفرنسية في منحها (للسوقة من الأهالي) حقوقاً مفرطة. وقد ظهر أدب لتأييد ذلك في الجزائر، وبرز رجل يدعى (لويس بيرتران Louis Bertrant) كان على رأس حركة من أجل استمرار اللاتينية في إفريقيا الشمالية والوجود الفرنسي في الجزائر. ومن جهة أخرى كانت هناك معاهدة (فرساي) التي افتتحت عهد السلم الأوربي في العالم.

أما الامبراطورية العثمانية فقد تجزأت، و (الرجل المريض) بات تحت

ص: 39

حراسة الأسطول الإنكليزي والفرنسي والإيطالي. وفي جنيف وضع الحجر الأول لعصبة الأمم المتحدة.

أما فيصل ابن شريف مكة فقد طرد مع مطامحه من سوريا. والوطنيون كان لهم معركتهم في ميسلون. وكان نتيجة ذلك أن دخل الجنرال غورو إلى دمشق حيث ذهب إلى قبر صلاح الدين، وأمام مقام البطل الأسطوري صرخ: ((صلاحَ الدين!

إن حفيد (جودفروي Godefroy de Bouillon) أمام قبرك .... لقد انتهت الآن الحرب الصليبية)).

والإنكليز المحتلون لفلسطيق بدؤوا يحضرون لقيام دولة إسرائيل، التي رأت النور بعد حرب عالمية أخرى وفاء لوعد بلفور.

و (لورنس) من أجل تعزية الشريف حسين العجوز في تبديد حلمه في إمبراطورية عربية مشحه زورقاً صغيراً راسياً في جدة. وحينما رفع ذلك الزورق الصغير مراسيه، كتبت جريدة (أم القرى) التي أسسها الشيخ العقبي في مكة تقول:((لقد استقل الأسطول الملكي البحر)).

أما أميركا فقد كانت قطب العصر في السياسة والعادات؛ والنساء الأوربيات اللواتي كن في الجرائر بدأن بقص شعورهن، والفساتين أضحت قصيرة وأحذيتهن هن طراز (ريشيلو Richelieu) حلت نهائياً محل الأحذية المزررة أو ذات الأشرطة عدا أحذية العجائز.

لقد أصبح الدولار متداولاً وأنزلت (وولط ستريت Wall Street (1)) الاميركية منطقة (سيتي City (2)) الإنكليرية عن عرشها، فالعالم أخذ (يتأمرك) Le monde s'americanisait خصوصاً في الأفلام السينمائية، مُتخذاً ذلك التحول

(1) سوق النقد العالمي في أميركا.

(2)

سوق النقد العالمي في إنكلترا.

ص: 40

الذي أوحى لـ (بول فاليري) قولته الشهيرة ((أوروبا تطمح لأن تدار بلجنة أمريكية)).

ووراء جبال الكربات استطاع (لينين) أن يحطم (رانجل Wrangel) ويسد الطريق على (ويجان Weygand) ليبني عالماً جديداً. كما استطاع (رانجل Wrangel) أن يفرض الإرهاب في بودابست. وفي تِبِسَّة، استمر الناس في حياتهم البسيطة بينما كانت التفاصيل الجديدة تعمل على تبديل المنظر الاجتماعي والطبيعي.

الحرائق الكبيرة للغابة التي حدثت ليلة الحرب، عادت اليوم تعطي نتائجها، فالثلوج التي كنت أتزحلق عليها عندما كنت طفلاً، والهياكل الثلجية المتدلية من طرف السقف التي كنث أبددها بالحجارة اختفت من الوجود. أما سهل تبسة المسمى (الحريق) فقد أصبح محزناً. والعائلات التبسية القديمة التي عاشت في اقتصاد على شيء من الاكتفاء الذاتي، مؤمنة خبزها ومأواها وبرانصها أضحت غير قادرة على الحياة. والأرض التي كانت تطعم أجدادهم أصبحت الآن ماحلة. والكعكة الجيدة التي يجذبنا طيب رائحتها عندما نمر بالبيوت قد أخلت مكانها لخبز الفران، والبرنص استبدل به الرداء الذي أصبح يشترى من السوق حيث تصفى مخلفات الحرب، والعسكريون العائدؤن إلى الوطن- والذين كانوا كثيرين- استمروا بكل بساطة يلبسون آخر بزاتهم العسكرية.

وعندما تبلى بزة جندي من الاستعمال، كان يبدو لنا نحن الأطفال كبطل سقط من مجده، لأننا نذكر كيف كنا نراه يعود في إجازة قبل سنتين أو ثلاث سنوات؛ لقدم عم التدهور كل مكان.

لقد تخربت البيوت وانقطعت عن الشوارع قوافل البقر العائدة إلى حظائرها، تشبع الجو برائحة الاصطبل وتملأ الطرق برغائها.

لقد بدأت تظهر السيارات الكبيرة. وأمي بهيجة التي جاءت لزيارتنا

ص: 41

عادت إلى مدينتها بواحدة من تلك الاوتوبيسات ذات الخمسة عشر أو العشرين مقعداً والتي كنا نحلم بركوبها.

وعندما أعلن عن ورود كميون Berliet إلى تبسة لحساب أول شركة سفر أنشأها رجل يدعى أحمد الخالدي، اعتقدنا أنه لا يستطيع دخول باب قسنطينة.

حتى الأنظمة الإدارية لأبناء المستعمرات أصيبت هي أيضاً بتغير. فالإدارة الاستعمارية بدأت تعطي الأفضلية في اختيار قوادها للمحاربين القدماء. وكان من نتيجة ذلك أنه لم يعد عرسان المدينة يستعيرون البرنص الأحمر من القائد الصديق، فقد مات القائد العجوز في الحرب. والتقليد الذي بقي حياً لزمن بعده قد مات بدوره في الروح التبسية عندما تبدل البرنص القائدي.

أثناء ذلك نجحت في شهادة الدروس الابتدائية. لقد ترك هذا الامتحان في نفسي ذكرى. فخلال السنة كان سهلاً أن أراقب علاماتي وعلامات الثلاثة أو الأربعة الأوائل في الصف، وكنت أرى أنني كنت بالفعل أولهم، ولكن لم أكن الأول في الصف طيلة السنة، لأن الأب (آدم) كان يسلم دفتر العلامات لطفل فرنسي. وبذلك فقد حصلت في الشهادة الابتدائية على درجة جيد بينما رفيقي الفرنسي الصغير حصل على درجة جيد جداً. ومع ذلك فقد نجحت في امتحان المنح الذي كان له أكثر من معنى عند طفل من أبناء المستعمرات لا يستطيع أهله أن يرسلوه إلى (الليسيه).

فمع هذه المنحة سوف أستطيع متابعة دروسي في المرحلة التكميلية في قسنطينة في مدرسة سيدي الجلي، إذ يحضر خلال عام أو عامين المرشحون للدخول إلى المدرسة أو إلى معهد المعلمين أو ليكونوا مساعدي أطباء. العطل التي تبعت تلك المرحلة كانت بالنسبة لي قروناً من الانتظار. ولكني خلالها كنت أفاجئ عائلتي في الحديث عن مستقبلي.

***

ص: 42

لقد أزف يوم الرحيل إلى قسنطينة، وأمي أمضت تلك الليلة في تحضير الحقيبة التي سوف أحملها معي. فقد قرر أهلي أن يرسلوني إلى بيت عمي محمود لأن جدي (الخضير) قد مات، لذلك لم يفكروا بإرسالي إلى أمي بهيجة التي لن تستطيع مراقبة تصرفاتي ومتابعتي في الدراسة.

أما أنا فقد قضيت عشية الرحيل ليلة بيضاء لا أطيق صبراً على ساعاتها من الأرق. وأخيراً حَلَّت اللحظة المنتظرة، وجاءت أمي لتوقظني الساعة الخامسة لأن الأوتوبيس يترك تبسة في السادسة.

لقد جاء عمي إسماعيل ليصحبني معه. وكان أبي نائماً حينما شيعتني أمي حتى السلّم. وهناك بعيون ممتلئة بالدموع حمّلتني حقيبتي وهي توصيني بالجد والاجتهاد، ثم أسلمتني لعناية الله بعد أن صبّت على قدمي كما تقضي التقاليد ماء العودة.

وتولى عمي حجز مكان لي في السيارة ثم أصعدني إليها. وعندما خرجت من باب قسنطينة كان لدي شعور بأن شيئاً قد بدأ في حياتي.

الاوتوبيس في ذلك العصر لم يكن سريعاً، لذلك فقد أضاع وقتاً طويلاً من الوقوف غير المفيد، وخصوصاً في عين البيضاء. وهكذا وصل السادسة مساء إلى قسنطينة.

وعمي محمود الذي كان قد أخطر برقياً على ما أعتقد، انتظرني في مكتب السفر حيث كانت تقف قديماً العربة القادمة من عين البيضاء.

لقد بدا لي وجه قسنطينة ووجه عمي جميلين. وبمرورنا بالقرب من مقهى (بن يمينة) رأيت من بعيد الرجل العجوز، يقدم قهوته لزبائنه من أصحاب العربات وتجار الخيول الذين كنت أعرفهم لسنوات سابقة.

ص: 43

وسلكنا منحدر شارع (بيري غو Perrégaux) الذي ير تحت مدرج المدرسة، وكانت دار جدي على بعد خطوات من ذلك المكان. وامرأة عمي التي كانت قد تزوجت لفترة خلت استقبلتني استقبالاً جيداً.

وامرأة جدي خالتي بهية استقبلتني أيضاً بحرارة كبيرة في أعلى السلّم. لقد وجدتها عجوزاً أكثر من ذي قبل. وقد وجدت بيدها تلك الرزمة من الورق الذي كانت تبله بريقها وتدسه قليلاً في علبة تبغ صغيرة، ومن ثم تضعه في أنفها كما عهدتها دائماً.

كان المرقد الخشبي الذي كان يأوي إليه كلب جدي خالياً وقابعاً في إحدى الزوايا، ويبدو لي أن خالتي بهية التي كانت تملك البيت لم تعد مواردها بعد موت جدي تكفيها. فقد وجدت الآن مستأجرين في ذلك المنزل. وكانت تشغل منه المجلس مع أخيها خالي (علاوة) وهو عجوز صبي وديع كالمحل ولكنه غير قادر على تدبير شؤونه، لذلك فقد أسست له مخزناً لبيع الفحم في شارع قريب من الدار.

في مقابل المجلس من البيت غرفة تسكنها عائلة شابة تبدو على وجنتي الزوج ندوب الأخوة التي خلفتها حضرات العيسوية الأسبوعية، وما يتخللها من أفعال الكرامات في الزاوية العيسوية، وعليه مظهر عامل (فرام) في مصنع (بن القريشي) للتبغ والذي كان في ذلك الوقت مزدهراً.

في السرايا حيث كان يسكن عمي محمد، يقيم الآن رجل متزوج للمرة الثانية هو السي علي. كانت له بنت صغيرة من زواجه الثاني، وله من زوجه الأولى فتاة في العشرين من عمرها مطلقة. أما عمي فقد كان يشغل مع زوجه الغرفتين اللتين في الطابق الثاني. غرفة منهما للنوم وأخرى تستعمل لكل شيء، وقد خصص جرء منها قطع بحاجز لأعمال المطبخ.

ص: 44

لقد كانت غرفة النوم كبيرة جداً، وكانت لذلك تستعمل أيضاً غرفة استقبال للسيدات اللواتي يأتين لزيارة خالتي أو من أجل ضيوف عمي.

وكما هو شأن القاعات الكبيرة في قسنطينة كانت توجد في تلك الغرفة زاوية بشكل مخدع للنوم، فيها آلة موسيقية أكبر قليلاً من بيانو عادي تشير إلى اهتمام بالموسيقا في ذلك المنزل، وفي زاوية أخرى مقابلة خزانة ذات طراز غير محدد فوقها ساعة ومزهريتان للزهور الطبيعية، وفي الطرف الآخر من الغرفة كان سرير من الطراز نفسه تقريباً.

كان ذلك كله في مجموعه لطيفاً ونظيفاً، وبدا لي بَهيّاً حينما أضيئ بنور قنديل من البترول، فالمنزل لم تكن قد دخلته الكهرباء بعد.

لقد كان استقبال عمي وزوجه لطيفاً فلم أشعر بذلك الضغط الذي كان يمارسه والدي عند كل هفوة، ولا بذلك الخجل الذي يفرض على الأطفال في العائلات المسلمة بحضور الآباء. ففي تبسة كنا نلهو أخواتي وأنا عند غياب والدي عن البيت.

ولذا فعند المساء أخذت أتحدث مع عمي وزوجه أثناء العشاء. وعندما حانت ساعة النوم وأويت إلى فراش أعدته خالتي لي على الأرض واعتقدت أنني نمت، سمعتها تقول لعمي:((ألا ترى أن ابن أخيك يتحدث جيداً بالقياس إلى من هم في سنه؟))؛ وأخذني بعد ذلك النوم وفي قلبي نفحة من الفخر والاعتزاز. ذلك كان الإطار الجديد الذي فيه جرت أحداث مرحلتي الجديدة.

كان استيقاظي في الصباح أخاذاً. وخالتي أعدت لي فطوري بوصفي ضيفاً كبيراً، فقد قدمت لي المكرود (1) مع القهوة باللبن، وبينما كان عمي يغسل وجهه

(1) المكرود: حلوى جزائرية تصنع من السميد والتمر والسمن أو الزيت، يضاف إليها العسل بعد نضجها. (ترجمة قنواتي)

ص: 45

ويديه في إناء صنع من النحاس المطلي بالقصدير يدعى (الليان)، استرعى انتباهي أن النافذة مزودة بمنخل قضبان من الحديد المطلي باللون الأخضر من طراز (المريسك)، وضع فيها إبريقان يرشحان من مسامهما، وأنها تطل على حي الرمل وعلى المحطة وكذلك غابات الصنوبر البعيدة.

كان علي أن أرافق عمي إلى المدرسة ليقدمني إلى معلم المرحلة التكميلية مسيو (مارتان martin)، الذي كان أيضاً معلمه القديم ومعلم والدي. مررنا أولاً بكشك جدي حيث اعتاد عمي أن يأخذ جريدة الصباح، ثم اجتزنا شارع (كارامان Caraman) الذي بدا لي أجمل من قبل.

كان الشبان يتخذون من المكان الذي يقوم فيه اليوم سوق الخضار مرتعاً لنزهاتهم، وذلك قبل أن تبنى السقيفة الحالية سنة 1925؛ أما المتقدمون في السن فكانوا يقصدون لنزهاتهم ساحة (بريش Brèche) التي كانت أكثر اتساعاً قبل أن تطرأ عليها التغيرات. ويعد شارع (فرانس France) المركز الرئيسي والمختلط للمدينة، إذ هو صلة الوصل بين الأحياء العربية والفرنسية واليهودية. ومن هذا الشارع بالذات كانت تنطلق في كل مرة شرارة الاصمطدامات كما حدث في الخامس من آب (أغسطس) سنة 1934 بين العرب واليهود.

واتخذ عمي طريقاً ينزل بنا نحو سوق رباط الصوف. اجتزنا الساحة ومشينا في ذلك الطريق الذي يمتد منها حتى مدرسة سيدي الجلي. وخلال سيرنا عرَّج عمي على مصنع (بن القريشي) للتبغ حيث كان فيه رئيس محاسبته.

وسرعان ما اندمجت بجو ذلك المصنع، فقد كان على ما أعتقد منزلاً جميلاً للسكن ذا طراز موريسكي وحيطانه مطلية (بالزليدخ)، أما الدار فقد كانت من الرخام الأبيض.

رائحة التبغ تأخذ لك منذ ولوجك المصنع، وهذا لم يكن شيئاً مزعجاً في

ص: 46

باحة فضاء سماوية. وحول طاولات قليلة الارتفاع مغطاة بطبقة من التوتياء كان بعض جماعات من عمال التغليف يعملون. وكانت علب الدخان، بعد أن تأتيهم من المسؤول عن الأوزان، تمر بين أيديهم المرنة التي تتولى لصق إشارة المصنع المزخرفة حول كل علبة بواسطة مادة لزجة مصنوعة محلياً من الدقيق.

وكان صاحب العمل المعلم يرتدي ملابس ذات طراز قسنطيني قديم يجلس وراء مكتبه ليدير العمل، وقد مر به عمّي محيياً ودخل إلى قسم المحاسبة، ولست أدري أي شيء من التعليمات أعطى زملاءه.

خرجنا من المصنع وما هي غير خطوات يسيرة حتى كنا عند مدرسة سيدي الجلي.

لقد عرف (مسيومارتان Martin) فوراً عمي تلميذه القديم. وعند تقدمي إليه كان يبدو سعيداً برؤيتي تلميذاً له بعد أبي وعمي، وقد عبر عن ذلك حينما دخلنا الصف.

ولعل حضوري جعل ذلك المعلم الشيخ يقدر قيمة جهوده في جيلين من العدول والمعلمين ومساعدي الأطباء. وهكذا وضعت معه في ذلك الصف أول قدم في المرحلة الثانية من دراستي.

التوجيه الذي أرادته عائلتي لي والذي تحدثت عنه فترة الصيف هو أن أكون عدلاً في الشرع الإسلامي. لقد اضطرني ذلك مع زميل لي تبسي نجح مثلي في امتحان المنحة أن أسجل نفسي في دروس الشيخ عبد المجيد، الذي كان أستاذاً في المدرسة يعدّ فيها التلاميذ الذين يختارون هذا الاتجاه. هذا الشيخ من ناحية و (مسيو مارتان Martin) من ناحية أخرى كوَّنا في عقلي خطين حدّدا فيما بعد ميولي الفكرية.

والشيخ عبد المجيد كان يعطي دروسه في النحو كل صباح في الساعة السابعة في المسجد، ولذا كان علي أن أستيقظ باكراً للذهاب إلى هناك؛ كان يجلس داخل المحراب ونتحلق نحن من حوله.

ص: 47

وسرعان ما أدركنا عداءه لبعض التقاليد السائدة في المجتمع الإسلامي كالطرق الصوفية، وكراهيته لتجاوزات الإدارة الفرنسية في تصرفاتها. وإذا اتفق أن وجدت مناسبة في هذا المجال كان يحلو لنا أن نستدرجه لصرف الساعة في شتم العادات الاجتماعية أو في الهجاء السياسي، وكنا نفضل ذلك على البحث في الفعل الثلاثي وتصريفاته.

وعندما كنا ننصرف من درسه في الثامنة إلا ربعاً، كانت هذه تماماً ساعة تناولنا لقطعة من زلابية فطيرة، أو كوب من ماء الحمص والذهاب بسرعة إلى مدرسة سيدي الجيلي حيث (مسيو مارتان Martin)، وكان هذا المعلم يثري تلاميذه بالمفردات ويطبع في نفوسهم الذوق وفن الكتابة. وكان يقرأ لنا أحياناً القطع الجيدة التي كتبها من هم أكبر منا والذين قضوا في مدرسته أكثر من سنة.

لقد طبع في نفسي هذا الأستاذ تذوق القراءة، ففي مساء كل سبت كان يعير الكتب للتلاميذ. وقد أتاح لي ذلك أن أقرأ كل كتب (جول فيرن Jules Verne) وبعضاً من روايات (الرداء والسيف).

ومع عمي محمود تعلمت أشياء أخرى، فقد كان رجلاً محباً للحياة تدربت معه على العزف على آلته الموسيقية، وكنت أعزف قطعة لم أعد أذكر أهي من مقام (الزيدان) أو مقام (السيكا). وحينما كنت وحدي كنت أتناغم مع ألحانها.

ولكن الذي أثار تطلعي إليه هو الضرب على (النقارات). وهي عبارة عن قطعة موسيقية مؤلفة من طبلين صغيرين مركزين على قطعة خشبية يضرب عليهما بعصا صغيرة، وكانت هذه القطعة تستعمل في مجالس رجال الطريقة العيسوية في قسنطينة والقادرية في تبسة على السواء.

كان عمي يحسن الضرب على تلك الآلة، وكانوا في الزاوية العيسوية حيث كنت أرافقه مساء كل سبت يعدونه اختصاصياً ممتازاً بها. وشيئاً فشيئاً ألفت

ص: 48

وجوه رجال تلك الطريقة، وأصبحت أذهب معهم في كل مرة تقام فيها خارج الزاوية في منزل أو عائلة، وكنت أجلس معهم في الحلقة المؤلفة من الجوقة والعازفين، ولأنني كنت في الرابعة عشرة من عمري فقد كان صوتي كصوت ديك أزغب الحواصل يثقب الآذان.

كان الإخوان ينتظمون في الحضرة وبينهم (الشاوش) وهو الشخص الذي يتولى إدارة الحلقة، فيدعو كلاً بدوره ليدخل في الجذب حالة الوجد فينتصب واقفاً، ويبدأ في حركات الذكر التي تتناغم مع إيقاع الشاوش إذ يضرب على يديه فيشير إلى مراحل الذكر.

أما المقدم سيدي (علي بن الفول) فكان يجلس في ركنه من المجلس محاطاً باحترام الجميع كأب روحي. وهو دائماً معهم في شؤونهم صغيرها وكبيرها، معهم في حفلات زواجهم وختان أبنائهم وكذلك المآتم.

وكانت الطريقة العيسوية ذات رعاية من أهل المدينة وخاصة التجار؛ أما جماعة العمارية فكان مريدوها من الباعة المتجولين وسائقي العربات والخيول ورماة الجيش المقيمين في ثكنة المدينة.

ولكن صداقات أخرى كانت لي في المدرسة، فرفيقي التبسي (صالح حليمية) يقيم في غرفة متواضعة مع شقيقه الذي أنهى السنة الرابعة، وكان يزورني غالباً في بيت عمي؛ ولكن كانت تلذ لي زيارة رفيقي (حمزة بوشوشة) الذي كان يسكن غرفة صغيرة ولكنها غرفة في فندق الصحراء، وأظن أنه الوحيد في قسنطينة الذي يقبل بين نزلائه مواطنين عرباً. كن يسمى فندق (العوراء)، وربما كان ذلك نسبة إلى صاحبته القديمة التي أورثته أبناءها، وهم ولد عجوز وابنة عانس كنت أعرفها.

كنت أحب أن أدرس مع (بوشوشة) في تلك الغرفة الصغيرة فنجلس على

ص: 49

السرير. وكان ذلك على ما أعتقد لحرية ألمسها في جو الفندق تبعد عني وصاية العائلة.

كنت أسارع إلى كل ما يعبر عن استقلالي. والذهاب إلى الفندق كان بالنسبة لي شيئاً من ذلك الاستقلال. أما عمي محمود فكان من ناحية أخرى ينظر إلى ذلك بامتعاض عندما أعود متأخراً قليلاً في المساء.

وفي الآحاد غالباً ما أقضي اليوم عند أمي بهيجة التي كانت تصرف في العناية بي. وأذهب أيضاً إلى السينما بفضل الثلاثين فرنكاً التي أتقاضاها شهرياً من المنحة، أما عمي فكان يحتفظ بحصة والدي في ريع كشك (بابا الخضير).

وعند خالتي بهية تعلمت صنع ذلك المغزل من الورق المطلي بالعطوس، والذي كنت أضعه مثلها في أنفي. كانت تتولى بصورة دائمة إدارة مخزن شقيقها (علاوة) المخصص لبيع الفحم، أما شقيقها الآخر صالح فقليلاً ما كنت أراه.

كان يسكن في (شاتودان رومل Chateau d'un Rhumel) ويبعث في نفسي القلق حينما يأتي مرتدياً رداءً كبيراً من جلد الماعز ظاهره الشعر، كذلك الرداء الذي كان يلبسه سائقو السيارات في بداية عهدها، وعلى عيونهم نظارات كبيرة وقاية لهم من السرعة، فقد كانت السيارات في ذلك العصر تسجل أربعين كيلومتراً في الساعة.

لقد كان هذا اللباس الضمحك يلبسه قديماً (حما بلا أعقاب)(1) Hamma sansTalons، حينما كان يقود السيارة الوحيدة في تبسة إذ كنا نتبعه مع الأطفال في طرق المدينة.

أضيف الآن شيء جديد إلى قيافتي، فقد وضعت نظارات؛ ذلك لأنه خلال السنوات الأخيرة من المدرسة في تبسة كانت ساعة القراءة التي تمر مرة أومرتين في

(1) أي محمد.

ص: 50

الأسبوع بالنسبة لي ساعة من العذاب. فمنذ السطرين الأولين أو الثلاثة يصبح نظري ضبابياً لا أستبين معه الأحرف. وكان يزعجني أن أضطر لقراءة مهجاة أمام رفاقي وأنا أفرك عيني عند كل مقطع، دون أن أصرح للمعلم بأنني لا أستطيع القراءة. أخاف أن يكون ذلك عيباً يلغي انتسابي للمدرسة ويمنعني من متابعة دروسي.

أخيراً لم أجد بداً من أن أطلع أقاربي على آلامي. لقد قرروا أن أعرض على اختصاصي في قسنطينة كان صديقاً لجدي، وهكذا منذ ذلك الوقت بدأت أضع نظارات على عيني.

لقد كان ذلك أول الأمر مبعث إزعاج لي من الشباب الأوربي الذين يقذفونني كلما رأوني بقولهم: ((إيه! أبو أربع عيون)) أنا الذي كنت أُعرف بالشاشية (1) الحمراء.

كان هؤلاء الأوربيون يستقطبون تفكيري وخاصة طلاب المدارس الثانوية منهم، حين كنت أراهم أيام الآحاد يتنزهون تحت إشراف ناظر مدرستهم، مرتدين زيهم من الجوخ الأخضر الغامق، وكان الخيال ينطلق بي معهم، فهؤلاء سيصبحون محامين أو أطباء أو أساتذة، أما أنا فقد حكم علي بأن أكون عدلاً.

ومرة وجدت الفرصة سانحة للدخول في المدرسة الثانوية. فقد كان علي أن أدخل امتحاناً خاصاً، ولكن سني- بسبب التحاقي في المدرسة الابتدائية متأخراً- أصبحت تمنعني من القبول.

في هذه السنة 1920 تلقيت مع الشيخ عبد المجيد أول أسس الثقافة العربية.

لقد تعلمت تصاريف الأفعال والتمييز بينها وحفظت شيئاً من الشعر. كان ذلك أيضاً في البلاد نقطة تَحوّل. ففي قسنطينة تأسست جريدة ناطقة بالعربية

(1) الشاشية في لغة الشام: الطربوش.

ص: 51

تدعى (النجاح)، أنشأها قبل عام شاب قسنطيني (سامي اسماعيل) عاد من الزيتونة في تونس بشرف العلم، تدل عليه تلك العمامة فوق رأسه، لقد كان يقدم لعقول القراء زاده الأسبوعي، ولكنه زاد هزيل بدون شك، فاحتفالات الزواج والوفاة تأخذ المقام الأهم من الصحيفة، ولكنها جريدة تكتب بأحرف عربية. وذلك كان نوعاً من التحدي للإدارة الاستعمارية التي أرست سياستها على (فَرْنَسَة البلاد).

لقد وجد الآن القراء القدامى للجريدة التونسية الزهراء غذاءهم الروحي. فالعدد من جريدة (النجاح) الذي يصل إلى تبسة تتناقله الأيدي هنا وهناك.

وعمي يونس كان يرسلني بانتظام لكي أطلبه من صديق له قديم. كنت ألفظ ذلك بكسر النون لاعتقادي أنه أكثر انطباقاً على قواعد النطق العربي. وبفضل الشيخ عبد المجيد تعلمت على الأقل أن ألفظ (النجاح) بشكلها الصحيح أي بفتح النون، لأنني لعدم انتظامي في دروس الشيخ لم أستطع أن أحقق تقدماً أكبر في العربية.

في صف مسيو (مارتان Martin) هناك أقسام ثلاثة، لكني على الرغم من ذلك كله كنت أنتسب إلى فريق المدرسة بأجمعه، ولم أكن أدرك حقيقة الشعور الذي يشكله الخط الفاصل بين التلاميذ الذين سيصبحون في المستقبل معلمين، والذين سيصبحون مساعدي أطباء، وبين أولئك الذين يعدون ليصبحوا عدولاً؛ بينما كان يدرك كل فريق من هؤلاء بوضوح ذلك الخط الفاصل.

وكان فريق المدرسيين الذين يعدون أنفسهم لدراسة القضاء الشرعي - وكنت أحدهم - يشعرون بأنهم حملة رسالة قومية.

لقد كان للتربية البيتية دور في تحديد هذه الفرق، فمربو المستقبل كانوا لدى مسيو (مارتان Martin) أمناء لروح العلمانية التي طبعت فيما بعد حركتهم،

ص: 52

عندما أسس (طهرات) صحيفة (صوت المساكين La voix des humbles) تحدثوا فيها عن فولتير وفضائل ثورة 1789 الفرنسية.

لقد جعلوا عقليتهم حتى تعابيرهم تسهم في تكوين فريق من التلاميذ الأطفال من أبناء الجزائريين، الذين امتازوا عن سواهم بفضل ثرائهم أو اتصال آبائهم بالإدارة، وسهل عليهم أن يلتحقوا بالمدرسة الثانوية كعباس فرحات مثلاً.

وكان في هذه الفئة ذات الامتياز حالات نموذجية أمثال الدكتور موسى الذي خاض أولى معاركه السياسية مع (مورينو Morinaud) عمدة قسنطينة المستبد، والذي ابتدع طريقة في وضع الشاشية (الطربوش)، اقتفى أثره فيها أبناء جيلي حتى عرفت هذه البدعة باسمه ( la Moussa). وكذلك الدكتور (موسلي) صاحب البنية القوية الذي وشم نفسه بوصفه محكوماً بالأشغال الشاقة، ثم راح يزوج بناته للضباط الفرنسيين ويضع في صيدليته شراباً سماه باسمه ( Le sirop Mosly).

أما فريق الأطباء والمساعدين فكانوا أكثر رصانة، وتكاد لا تسمع صوتهم في الصف وهم في كل حال لا شخصية لهم. كنا نحس فيهم الشخصية الهادئة لمساعدي طبيب الإدارة الاستعمارية.

على كل حال فأنا أعتقد أن فريق المدرسيين عند مسيو (مارتان Martin) يميزهم خصوصاً شعور ديني يأخذ بهم في قليل أو كثير.

وأحسب لو رجعت بالذاكرة إلى الماضي فإن جدتي الحاجة زليخة قد أدخلت في روعي (الشعور المدرسي). وكلما مررت أمام دارها البيضاء ذات الطراز (الموريسكي) التي تطل على وادي الرمل، تستقطب تفكيري وتحاكي روحي، لكنها تذكرني أيضاً بقصوري مع الشيخ عبد المجيد، فيحدث ذلك في نفسي خوفاً شديداً.

ص: 53

على أنه كان لفكري ألف فرصة يهرب بها من ذلك العذاب. فقسنطينة قدمت لي كل شيء؛ كنت أتنزه مع رفاقي في (رامبليه Ramblais) في هذا المكان الذي أقيم فيه فيما بعد، أول مدينة من أكواخ التنك في قسنطينة، كان نوعاً من السوق الدائم تباع فيه الأشياء القديمة غير الصالحة للاستعمال من مفاتيح قديمة وملابس مستعملة وأشياء أخرى.

كنا نختلط بتلك الجماعة المؤلفة من مزارعين فقدوا صنعتهم، فلم يعد لهم مكان في حقولهم بعد أن طردهم الاستعمار واستولى على أراضيهم، ثم إن المدينة لم تؤوهم بعد فيها. كان يندس في صفوفهم عدد لا بأس به من النشالين. وفي يوم كنت بين ذلك الجمع واقفاً أمام آلة لليانصيب توزع جوائز متنوعة من الأشياء المستعملة، فقدت محفظتي وفيها ثلاثون فرنكاً قيمة منحتي.

أما قسنطينة المدينة فكانت تقدم صوراً أخرى: فمع عمي تابعت الاتصال بذلك الجانب الفاتن: العيسوية العلية والموسيقا، وأيضاً جانبها البطولي. ففي ذلك العصر كان الحديث كثيراً عن مآثر شاب خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرات وادي الرمل. كان يدعى (بوشلوح)، لقد كان بطلاً يملأ خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جندت له الإدارة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطولية، غير أن (بوشلوح) كان دائماً يحبط خططهم، إذ حوصر مرة في فندق فتسلل هارباً من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرمل، ومن هناك اختفى بأعجوبة. كانت هذه الأسطورة تذكي خيالي وتغذيه، كما كانت تفعل أسطورة (بن زلمة) التي يتناقلها الناس في جبال أوراس، وأعمال (بو مصران) التي صجت بها منطقة عين مليلة.

وفي يوم تلقينا بأسى أن (بوشلوح) وقع جريحاً في يد الإدارة، إنما الذي كان يعزينا أن المفتش (بوناب) الذي جرحه قد دفع ثمنا لذلك حياته؛ لقد أثارت محاكمة (بوشلوح) الشعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس

ص: 54

المحكمة الذي نطق بحكم الإعدام ((إنكم تحكمون على المقعد الذي أجلس عليه، أما أنا فإنكم لا تستطيعون أن تحكموا علي)).

وهناك شيء أكيد هو أن بوشلوح الذي كان موقوفاً- كما أوقف بعد ذلك بأربعين سنة (بن بولعيد) - قد حاول الهرب، ولكنهم للأسف لم يلبثوا أن قبضوا عليه على سطح السجن، ولعل ذلك قد عجل بإعدامه قبل موعده.

في ذلك اليوم فإن كلا من العرب واليهود والفرنسيين أطلق الزفرات وكان لكلٍ أسبابه.

في أثناء ذلك كانت أمي قد حضرت إلى قسنطينة لاستشارة أحد الأطباء. فقد اضطرها مرض أقضّ مضجع العائلة أن تراجع أحد الاختصاصيين. لست أدري ما الذي قاله لها، إنما أذكر تلك اللحظات الأخيرة التي قضيتها معها وأنا أرافقها إلى السيارة التي ستعود بها إلى تِبِسَّة. وقد كان في المودعين مربيتي بهيجة، وعلى بعد خطوات من المحطة تلفتت أمي إلى مربيتي وقالت لها:

((عزيزتي بهيجة إني أترك الصديق في عهدتنا)).

وبشيء من الاحتجاج أجابتها مربيتي:

((آزهيرة عزيزتي وهل أنت بحاجة لمثل هذه الوصية؟)).

والآن أدرك أن هاتين السيدتين الفاضلتين ملأتا نفسي حباً ووداعة.

لقد أوشكت السنة الدراسية على النهاية. وأصبحنا في خضم الفصل الدراسي الثالث وعلى أبواب الامتحانات السنوية.

كنت أخشى الحالات الشاذة في القواعد العربية وخصوصاً الحالات التي لا تستند إلى قاعدة، ولذلك وجدت في زملائي الذين كانوا أكثر انتظاماً مني، معيناً على الإجابة في بعض المشاكل اللغوية التي كانت تقلقني.

ص: 55

ذات صباح اجتزت باب المدرسة حاملاً بيدي ريشة ومحبرة؛ إنه يوم الامتحان. تعرفت هناك على (الشاوش) وهو رجل يقوم بوظيفة الحاجب والبواب وموزع المنح وكان يقيم في المدرسة مع عائلته.

وتعرفت أيضاً على زملائي المتقدمين للامتحان، وكان بينهم ولدا قاضي البرج سي (مصطفاوي)، ولا أزال أذكر صورته إذ كان يرتدي البرنص والعمامة. وانتهيت أخيراً بالتعرف على المدير (دورنون Dournon) وكان يتولى توزيع الأسئلة ومراقبة الامتحانات.

في المساء في باحة المدرسة المبلطة بالموزاييك والمجهزة ببركة ماء، كان المدير يقف ليعلن النتيجة بصوته، الذي لاحظت فيه لُكْنَةً خاصة في اللفظ وكنت من الفائرين الأوائل.

وعندما علمنا بقبولنا في المدرسة أنا وزميلي (صالح حليمية) تشابكت أيدينا من الابتهاج، في ذلك المساء عند العتبة التي اجتزتها صباحاً، والتي أصبح لي الآن بعد نجاحي الحق بالوقوف أمامها، تحلق حولنا بعض من هم أقدم منا في المدرسة يوجهوننا ويعرفوننا بها. في هذه اللحظة كان تفكيري يتجه إلى مكان آخر

كنت أريد العودة إلى تِبِسَّة إلى أولئك الرفاف القدامى أحمل لقبي الجديد. فلم أعد تلميذاً، لقد أصبحت طالباً في المدرسة. فالألفاظ أيضاً لها تأثير على الاتجاه.

اشتريت بعض الملابس لتكون عودتي إلى تبسة بما يليق من احتفال. وأخيراً أخذت الأوتوبيس الذي قادني لتسعة أشهر خلت إلى قسنطينة، وسارت العربة متثاقلة طيلة النهار، وأخيراً عند المساء بدأت تننزل منحدرات حلوفة، ولاح لي عند أحد المنعطفات قمة قرص السكر ( Le Pain de sucre) التي تمتد حتى الأفق. وكان سكان تبسة يطلقون عليها اسم قمة (سيدي عبد الله). إنها قمة تبسة وهي

ص: 56

- لأبناء تبسة العائدين من عنابة أو قسنطينة أو الجزائر- بشارة الوصول إلى الحظيرة. وهي سوف تؤذن لي كثيراً فيما بعد بالوصول إلى تبسة. حوالي الساعة الخامسة أو السادسة عبرت السيارة جسر (وادي الناقوس)، واجتا زت الحي السكني الأوربي مارة أمام مدرستي القديمة، ثم عبرت بعد ذلك باب قسنطينة لتدخل المدينة.

أثناء دخولنا تعرّفت إلى بعض الوجوه، وواحد من رفاق اللعب عرفني فأطلق صرخة من الفرح ثم أطلق ساقيه وراء السيارة ليلقاني ويحمل حقيبتي إلى المنزل. ولكن المنزل كان خالياً

فأمي إثر عودتها من قسنطينة نقلت إلى تونس وأدخلت مستشفى صديقياً، وهناك أجريت لها جراحة غير ناجحة عرضت حياتها للخطر، وقد رافقتها شقيقتاي إلى تونس: الكبرى لتعالج بدورها، والصغرى لمرافقة أمها والعناية بها. أما أبي فقد صحبها ليكون بالقرب منها.

وحللت في منزل عمي القريب منا غير عابئ بما يخبئه القدر لي حتى يوم عودة أمي إلى البيت يحملها على سجادة أربعة رجال. حينئذ بكيت بمرارة لاعتقادي بأن أمي صائرة إلى الموت.

قضيت عطلتي ذلك الصيف تارة مع أصدقائي وطوراً بقرب أمي المريضة. لقد كانت على الرغم من مرضها الخطير تدير المنزل، وقد رتبت عودتي إلى قسنطينة، فمن سريرها تولت الاهتمام بأدق تفاصيل الرحلة، خاصة أنني سأكون هذه المرة طالباً داخلياً. وهذا يفرض على طلاب المدرسة أن يحضروا معهم أغطيتهم ووساداتهم.

لقد حضّرت أمي ذلك كله وهيأته. غير أنها في صباح الرحيل لم تتمكن من إفراغ (ماء العودة) عند قدمي فتولت شقيقتي الكبرى ذلك عندما ولجت عتبة الباب.

***

ص: 57

عودتي إلى قسنطينة وضعتني وجهاً لوجه أمام الظرف الجديد وآفاقه؛ فعلى عتبة ذلك الباب الضخم من خشب الأرز ذي المسامير الكبيرة والمدقة البرونزية، والذي لا يفتح إلا في المناسبات الكبرى ويُكتفى في الأيام العادية بفتح باب صغير فيه، على عتبة ذلك الباب استقبلني رجل له سمت ينبئ عن اتصال وثيق بوسطي الجديد، كانت السنين قد أحنت ظهره، وكان يرتدي عادة قميصاً من الكاكي أثناء العمل، أما في ساعات الراحة فيرتدي البرنص. استقبلني ببرنصه وعليه ابتسامة ساخرة كانت أعرفها فيه أثناء دراستي في المدرسة.

سمة لؤم وعينان خبيثتان وراء نظارتين بذراعين معدنيتين وشارب وخطه الشيب، كانت هذه كلها قسمات ذلك الرجل الذي يدعونه عمي، والذي سوف أناديه بهذا الاسم سنوات أربعاً. إنه الشاوش ذو الشخصية الغامضة التي لا تستقر على حال. فهو لطيف اليوم وربما كان في الغد سمجاً ثقيلاً. كان حاجب المدرسة وبواب المدير (دورنون Dournon) وأحياناً يعمل مخبراً عنده. وكما كان مع التلاميذ كان مع الأساتذة يحسن لبعضهم ويسيء للآخرين. وعند نهاية العطلة الصيفية يقف عند الباب الصغير المفتوح ينتظر زبائنه من الطلاب الجدد ليبادر كل قادم جديد بهذا السؤال:((من أنت؟ ومن أين أتيت؟))

لقد سألني بدوري عند وصولي إليه حاملاً حقيبتي، بينما وضع حمال على عتبة الباب طرداً فيه فراشي والغطاء ملفوفين بكيس من القماش. وأجبته:((إنني من تِبِسَّة)).

ألقى نظرة على ورقة كان يمسكها بيده وقال:

- حليمية، صدّيق.

- أنا أدعى صدّيق.

ص: 58

- حسناً اتبعني إذن.

تبعت ذلك الرجل بينما رفع الحمال حمله وتبعني.

واجتزنا الجناح المخصص لغرف النوم. ثم تسلقنا درجاً، في أعلاه فتح الشاوش باباً لغرفة صغيرة تضم أربعة أسرة: واحد منها فقط مجهَّز بينما الأسرة الثلاثة فارغة، وبين كل سريرين متقابلين مكان لطاولة صغيرة يستعملها شاغلاً السريرين.

وضعت فراشي على السرير المقابل لذلك السرير المجهَّز. كان في السقف مصباح عادي بسيط للإنارة، وفي مواجهة باب الغرفة نافذة ذات زجاج شفاف تطل على شارع (بيريغو Perrégaux).

في هذا المكان سوف أقضي سنتي الأولى في المدرسة. كان في الجهة المقابلة طالب (قلماوي) ولست أدري إذا كان اليوم قاضي شرع أو قاضياً مدنياً. أما السريران الآخران فكان أحدهما لطالب من (باتنه Batna) من عائلة تنتمني لطبقة التجار، يدعى (فضلي)، والثاني يدعى (قاواو) ابن أحد رجال الدرك. كان الأول ناضجاً أما الثاني فكانت لديه عادات طفل لم ينضج بعد. على كل كنت ألاحظ فيهما خلقاً مرهفاً أو شيئاً مما يسمى البراءة.

انهمكت في ترتيب سريري عندما جاء (فضلي وقاواو)؛ وبسرعة أصبحنا أصدقاء وقررنا أن نذهب للعشاء سوية، في مطعم رخيص للطلاب قريب من دار المحافظة كنا اهتدينا إليه.

عند خروجنا من الغرفة ألقينا نظرة استطلاعية على المكان. فالغرف الأربع التي نشغل إحداها تقع على ممر يطل على منحدر الرمل على منظر ذي جمال موحش. أما في نهاية الممر فكانت مغسلة ذات حنفيات ثلاث وبجانبها دورة مياه.

ص: 59

عند خروجنا نبهنا الشاوش بقوله: ((إنني سوف أقفل الباب في الساعة العاشرة)).

لقد بدت لي قسنطينة أجمل وأبها في ذلك المساء؛ وحول طاولة مصنوعة من الرخام فوق هيكل حديدي جلسنا وكان العشاء تسوده الصداقة الحميمة.

كان صوت خادم المطعم يرتفع بالطلبات واحدة تلو الأخرى، وكانت صحون الطعام تخرج من كوة صغيرة في الحائط متصلة بالمطبخ. وكان ذلك الخادم يضع صدّارة زرقاء ثم يرفع أكمام قميصه، ثم يضع صحون الطعام أمام زبائنه ومعها الملاعق والسكاكين والشوكات وقطع الخبز.

وأعتقد أنها كانت المرة الأولى في حياتي أستعمل فيها الشوكة والسكين. فالوضع في عائلاتنا كان مختلفاً؛ فالمجيع يأكلون من صحن واحد مشترك، والملعقة تستعمل فقط للشوربا والكسكسي، والأصابع لباقي الأطعمة.

خرجنا نستكمل أحاديثنا في مقهى (بوعربيط)، فمنذ أن انتقلت المدرسة من سوق العصر- حيث كانت ملاصقة لمسجد سيدي الكتاني- إلى مكانها الحالي في أوائل القرن الحاضر، ترددت إلى ذلك المقهى أجيال عديدة من طلاب المدرسة، يتلاقون في صالتها الأمامية أو صالتها الخلفية في الصباح والظهر والمساء.

ومن الجدير بالذكر أن انتقال المدرسة إلى مكانها الجديد كان في ظل حاكمية (جونارت Jonnart) للمدينة، ذلك الذي أعطى اسمه لطراز خاص من البناء في تلك الفترة.

ولم يكن (بوعربيط) هذا مالكاً لمقهى المدرسة، إنما كان قائماً على شؤونه، فزبائنه جميعاً كانوا من الطلاب، ولكنه كان يقدم خدمات لزبائن له في الخارج، يعملون في الحوانيت والمعامل المجاورة أو في منشرة قريبة من المطعم.

ص: 60

كان مجمل ما يطلبه الزبائن في الخارج ثم يعود وهو يقرقع بأباريق القهوة، وهذه عادة قسنطينية، وكان يحسن ذلك ببراعة أثارت إعجابي إذ كنت طفلاً.

لقد كان (بوعربيط) وجهاً من وجوه قسنطينة القديمة. إنه وجه شعبي يسهم في ذكريات القسنطينيين الشيوخ، التي تتحدث عن تقاليد المدينة؛ ما هو حي منها وما اعتراه الأفول.

فحينما كان هؤلاء الشيوخ شباباً كانوا في أيام العيد الصغير والعيد الكبير ينظمون موكب (بوعربيط). ففي ذلك اليوم يلبس (بوعربيط) أجمل ما لديه من ملابس ويسير يتبعه موكب من الأطفال، فيعزف على الناي ألحاناً تتفق والمناسبة، بينما يصاحبه آخر في الضرب على الطبل، ثم يتجهون أمام منزل المفتي ثم منزل القاضي تحية منهم لهاتين الشخصيتين الكبيرتين في المدينة.

فذلك هو مفهوم التسلسل في رجال الدين صبيحة يوم العيد، وسط جو عابق برائحة الكعك والمكرود العائد من الفرق والقماش الجديد للأطفال والحنة في أيدي الفتيات.

وحينما يحين دور زواج واحد من هؤلاء الفتيان القسنطينيين، فإن (بوعربيط) يأتي هذه المرة بعد الشفق، ليقود إلا منزل الزوجية عروسه محمولة على كرسي مغطى بالديباج يدعى (الحدوة)، يرافقهما موكب من الأهل والأصدقاء يحملون مصابيح متعددة الألوان، تنشر في شوارع قسنطينة القديمة أنواراً باهتة.

وعندما وصلت إلى قسنطينة سنة 1920 لم يكن للحدوة من وجود فقد حلت محلها السيارة أو العربة المستعارة؛ إلا أنه في أيام العيدين الصغير والكبير لم يكن طلاب المدرسة يجدون (بوعربيط) أمام وجاقه في مقهى المدرسة، إذ كان يذهب في ذلك الوقت إلى منزل المفتي والقاضي يحيي عادة قديمة سرعان ما اندثرت بموته.

ص: 61

كانت له شخصية حالمة على طريقة (ديستوفسكي)، فعندما ينتهي (بوعربيط) من خدمة زبونه داخل المقهى أو خارجه، ويضرم النار ويغسل ويرتب فناجين القهوة، فإنه كان يقف بجانب الوجاق ساهماً لا يتكلم، إنه يحلم.

كان زبائنه من الطلبة فئتين: رواد الصالة الرئيسية، وزبائن الصالة الخلفية؛ فأصحاب الطبقة الأولى هم أولئك الذين عرفوا بالرزانة يهتمون بالحديث والمناقشة، قلقون منعزلون أو رومانطيقيون من قراء الشعر قديمه وحديثه، هؤلاء يمثلون الصالون الأدبي للمقهى.

أما الصالة الخلفية فكان يجتمع فيها لاعبو الدومينو مثيرو الضجيج والصراخ والرياضيون. ففي تلك الفترة كان الناس في الوسط الجزائري يتحدثون عن الرياضة ويهتمون بتكوين الفرق والنوادي الرياضية. كانت هذه الجهة تمثل وجه المقهى العربي.

لقد ذهبنا إلى هذا المقهى أنا وفضلي وقاواو لنتابع الحديث. ولم يكن الحديث إلا ليزيدنا معرفة بعضنا ببعض. وكانت كل كلمة تسهم في تكوين ذلك الثلاثي الذي تشكل خلال تلك السنة.

كانت ساعة المقهى تذكرنا بنظام المدرسة. فإنه ينبغي الرجوع قبل العاشرة كما قال الشاوش. عند رجوعنا كان رفيقنا الرابع نائماً، وهناك تابعنا حديثنا حتى الحادية عشرة موعد إطفاء النور.

وكان ذلك يعد أول صعوبة تعترض الطالب عند دخوله (المدرسة)، إذ لكي يتمكن من الدراسة أو التحدث مع رفاقه أو قراءة القصص كان عليه أن يحصل على وسيلة للإنارة خاصة به.

***

ص: 62

السنة الدراسية 1921 - 1922 كانت هذه سنتي الأولى في المدرسة، وكذلك بداية لمرحلة جديدة في العالم تدعى (ما بعد الحرب).

وبما أن طلبة المدرسة كانوا يبنون علاقاتهم على أساس الانسجام الفكري والخلقي، فقد انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول يضم طلاب السنتين الأولى والثانية، والفريق الثاني يتألف من طلبة السنتين الثالثة والرابعة.

وفي الصالون الأدبي من مقهى (بوعربيط) كان للفريقين أن يجلسا معاً ليتناقشوا في موضوع سياسي أو حول أهم حدث في ذلك اليوم.

وكان طلبة السنتين الأخيرتين يتحدثون أحياناً عن مأثرة أحد قدماء الطلبة يدعى (خَطَّاب)، إذ غرس الرعب في نفوس ممثلي المعمرين في المجلس الاستشاري العام لقسنطينة.

ففي يوم كان أحد المنتخبين الأوربيين يقدم تقريراً للمجلس حول سرقة بقرة تخص أحد المعمرين الفرنسيين، ويختم تقريره بقوله. ((بالطبع فإن السارق أحد سكان البلاد الأصليين ( Indigène)، فانبرى خَطَّاب الطالب في السنة الرابعة، وكان يجلس في مقاعد المستمعين في المجلس وصرخ:، ((ولم لا يكون السارق فرنسياً؟)).

في ذلك اليوم امتلأت آذان الإدارة بالطنين لأن كلام خطّاب بقي بغير جواب. أما آذاننا فكان يلذّ لها أن تسستذكر هذا الجواب العفوي الذي ينطوي على مغزى بعيد.

كان يُذكر أيضاً ابن رحال وأعماله الخارقة كما كنا نتحدث عن الدكتور موسى؛ إنما كان يستأثر بحديثنا على الأخص (الأمير خالد) ليس بصفته حفيد الأمير عبد القادر ولكن لأنه ينطق باسم الشعب الجزائري. فكانت الألسنة تتناقل حكايته مع زوج أحد الضباط الفرنسيين، فقد نزعت هذه الأخيرة من بين أصابعه سيكارة كان يدخنها في إحدى عربات الدرجة الأولى من القطار،

ص: 63

وألقت بها من النافذة، وتضيف الإشاعة أنه انتقم منها بأن ألقى بكلبها من النافذة نفسها حين أخذ ينبح داخل العربة.

وكان من الأحاديث أنباء (مصطفى كمال) الذي تحدّى القوى المستعمرة.

لقد أخذت صوره تنتشر انتشار صور سيدنا علي، أو كأنها تلك (الرسائل) التي كانت تأتي إلى الجزائر مع الحجاج العائدين من مكة كل عام والتي لا يعرف مؤلفوها. كانت مكتبة النجاح توزع هذه الصور فيأخذها بعض الطلاب ويضعونها فوف الأسرة داخل غرف المنامة في (المدرسة).

لقد كانت أسطورة (الغازي وعصمة إينونو) في ضمائرنا مرادفة للخلاص والانعتاق، وأصبح الميل لتركيا شائعاً في البلاد كلها وخاصة طلبة المدرسة. ولذا فقد بدأ المدير (دورنون) يلاحق (الشبان الترك) بين الطلبة.

في هذا الوقت بدأت على ما أعتقد أقرأ المؤلفات. لقد قرأت (بييرلود Pierre Loti) و (كلود فارير Claude Farrère) وقد قرأت ( L’Azyade) و (فاقدات السعادة Les Desenchantées) و ( L’homme qui assasina الرجل الذي اغتال).

لقد بدأ الشرق القديم منه والحديث يستهويني بأمجاده ومآسيه. وكان الحديث عنه يبكيني أو يبهرني، إنما في الحالات جميعها يشدني إلى شيء خبيء في نفسي بدأت أدركه في شيء من الصعوبة.

وقد استطاعت الدروس ذاتها خاصة مع أساتدتنا العرب أن تنمّي فينا هذه الروح وتغذيها. وكنا نجد شيئاً ما أكثر لدى الشيخ (مولود بن موهوب) الأستاذ في المدرسة ومفتي المدينة. لقد احتفظ الشيخ في ذهنه بذلك الأثر الذي غرسته في نفسه دراسته على يد معلمه الشيخ (عبد القادر المجاوي)، وقد تولى هو نقل هذه الغرسة إلى تلك الأجيال من المدرسيين وكانت منهم، وقد أينعت ثمارها في الحركة الإصلاحية الناشئة في الجزائر.

ص: 64

كان هناك اتجاه عام لرد هذه الحركة إلى أصول شرقية حديثة كالتي أبدعها جمال الدين ومحمد عبده. ولكن كان يعيبها أنها لا تأخذ باعتبارها التقاليد المحلية.

في الواقع إن (الحركة الإصلاحية) في الجزائر قد اتصفت بصفة الدوام والاستمرار، وربما كان ذلك في العالم الإسلامي كله أيضاً، فقد كان الداعون للتجديد يتعاقبوق ابتداء من (ابن تيمية) في القرن الثامن الهجري؛ وكان محمد بن عبد الوهاب- مؤسس أول إمبراطورية وهابية قوّض أركانها بعد ذلك محمد علي- في الحقيقة استمراراً لابن تيمية في الجزيرة العربية.

وجَدُّ الملك الحالي لليبيا (1) كان أيضاً استمراراً لهذا الاتجاه، وأخيراً لعل أقرب من نشير إليهما في الزمان والمكان: الشيخ (بن مهنا) وتلميذه (المجاوي) اللذان حملا في نهاية القرن الماضي في قسنطينة لواء هذه الحركة.

وقد تولى الشيخ (مولود بن موهوب) جذب أفكارنا وعقولنا إلى خط تلك الحركة التقليدية القديمة، ولكنها وجدت في أرواحنا عناصر جديدة أضيفت إلى بنائها.

فمن جهة عامة كان أساتذتنا الفرنسيون يصبون في نفوسنا محتوى ديكارتياً، يبدد ذلك الضباب الذي نمت فيه العقلية الميثولوجية التي تتعاطف مع الخرافات النامية في الجزائر؛ ومن جهتي أنا فقد كان الأستاذ (بوبريتي Bohreiter) قد فتح لي آفاقاً جديدة. ولم يكن ذلك بفضل دروسه المقررة علينا كتاريخ الأزمنة القديمة والأدب الفرنسي- وإن تكن هذه قد تركت أثراً لا ينكر- إنما بفضل توجيهاته فيما نقرأ من كتب.

(1) يلاحظ هنا زمن وضع الكتاب عام 1966 قبل قيام النظام الجماهيري عام 1969م. (المصحح).

ص: 65

في الواقع فقد قرأت هذه السنة (التلميذ Le Disciple) لـ (بيار بورجي). وهذه القصة فتحت أمامي عالم النفس الذي أتاح لعقل فتيّ كعقلي أن يتخلى عن شيء من أوهامه وسذاجته.

وكان لهذا الاتجاه أن يأخذ بي أبعد من ذلك، لولا دروس الشيخ (مولود بن موهوب) في التوحيد وسيرة النبي وتلك التي للشيخ (بن العابد) في الفقه؛ فقد كانت هذه مذكّراً قوياً يعود بروحي إلى الطريق الصحيح. ومن جهة أخرى كان الشيخ (عبد المجيد) يحلل في دروسه بعض نظراته في انحراف المجتمع وتجاوزات الإدارة، وقد أذكى ذلك في نفوسنا تأييداً وحماسة.

وكان آخر هذه المؤثرات كتابان عثرت عليهما في مكتبة النجاح أعدهما الينابيع البعيدة والمحددة لاتجاهي الفكري. أعني بذلك كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا و (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده. وقد تولى الشيخ مصطفى عبد الرزاق ومستشرق فرنسي ترجمته للفرنسية.

هذان المؤلَّفان أثّرا على ما أعتقد في أبناء جيلي من المدرسيين. أنا مدين لهما على كل حال بذلك التحول في فكري منذ تلك الفترة. لقد رسم لي كتاب أحمد رضا مزوداً بالشواهد الكثيرة بهاء المجتمع الإسلامي في ذروة حضارته، وكان ذلك معياراً صحيحاً نقيس به بؤسه الاجتماعي في العصر الحاضر. أما كتاب محمد عبده - وهنا أتحدث عن المقدمة الهامة المترجمة حول غنى الفكر الإسلامي عبر العصور- فقد أعطاني مستنَداً للحكم على فقره المحزن اليوم.

كانت هذه الكتب تصحح مزاجي؛ ذلك الحنين إلى الشرق تركه في نفسي كتب (فارير ولوتي Farrère،Loti) وحتى لامارتين أو شاتوبريان، فعرفت تاريخ الشرق وواقعه وأدركت بذلك ظروفه البائسة الحاضرة.

هذه القراءات شكلت بالنسبة لي قوة أخرى من التنبيه في المجال الفكري،

ص: 66

إذ حالت دون انجرافي في الرومانطيقية التي كانت شائعة في ذلك الجيل من المثقفين الجزائريين.

لقد أصبت هكذا عدداً لابأس به من المؤثرات الموجهة والمعدلة أو المحركة، وينبغي أن ألاحظ من بين هؤلاء واحدة تبدو فريدة، أعني أثر صديقي (محمد بن الساعي).

لم أكن قد عرفته بعد، فمنذ عام ترك المدرسة قبل أن ينهي دروسه، ولكنه ترك وراءه أثراً. فصديقي فضلي وهو مثله من أبناء (باتنه Batna) كان يحدثني عنه. كنت أضفي على ما أسمعه منه شيئاً من المثالية. فـ (بن الساعي) الذي كان يكبرني لم يكن مخلصاً ذكياً ومثقفاً بالعربية والفرنسية فحسب، بل هو شخص مثال وقدوة.

ولعله مما يُدهِش أن نقرأ بعد ربع قرن من الزمن كتاباً ذكر فيه مؤلفه (بن الساعي) على أنه (معلمي) ولهذه الدهشة سببان: الأول أنه ليس مألوفاً في الجزائر أن نرى مثقفاً يعترف بشرف واحترام لمثقف آخر بما يعتقد أنه مدين له، والثاني لأن (معلمي) و (شيخي) الذي سقط إبان دراسته لأسباب نفسية واجتماعية، لم يقدم لمواطنيه الصورة نفسها التي كنت أراه فيها وأنا في السادسة عشرة من العمر.

ومع ذلك فقد ترك في نفسي أثراً خاصاً حينما تعرفت عليه شخصياً بعد عدة أشهر. ففي نزهاتنا معه أنا وفضلي بين غابات الصنوبر، كنت أستمع إلى طريقته في توجيهه الآيات القرآنية لتتخذ تفسيراً اجتماعياً لحالة المجتمع الإسلامي الحاضرة، وكان ذلك يؤثر في نفسي كثيراً.

ومن ناحية أخرى كان صالوننا الأدبي في مقهى (بوعربيط) يزودنا بفرص كثيرة من المشاركة في الحديث حول الأدب العربي. لقد اكتشفت بهاءه القديم

ص: 67

وإمكاناته الحاضرة. وقد استطعت بفضل الشروح حول النصوص أن أقدر وأفهم العبقرية الشعرية للجاهلية وأولئك الشعراء في بني أمية والعباس. وقد استرعى اهتمامي امرؤ القيس ولَذَّ لي استماع الشنفرى، واسترسل لي عنترة في أحلام البطولات. أما الفرزدق والأخطل وأبو نواس فقد مارس كل منهم إغراءه في نفسي.

وفي جمع آخر من زملائي كنا نخوض في شعراء المدرسة الحديثة مع حافظ إبراهيم والرصافي، وقد اكتشفنا يوماً شعراء العربية في المهجر كجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي.

وترجمة رائعة لامارتين (البحيرة) جعلتنا نتعرف إلى لون جديد من الأدب الفرنسي تولى ترجمته أساتذة الأدب العربي المعاصرين. كان المنفلوطي سيد هذه المدرسة في ذلك الحين. وكتاباه (النظرات) و (العبرات) أثارا فينا الكثير من التنهيدات.

لقد أهملت قليلاً دروسي عدا دروس الأستاذ (بوبريتي Bobreiter)، ولكنني كنت أقرأ كثيراً حتى قصص (الرداء والسيف). وكان (ميشال زيفاكو) يستأثر باهتمامي، وقد قرأت سلسلته حول أسرة (باردييان Pardaillans).

كنت أستسلم للتأملات واضعاً نفسي أمام بعض التساؤلات. ففي تلك الفترة حسبتني اكتشفت أن الأرض لا تدور وصحت:، ((أوريكا!

أوريكا!)). أي وجدتها وجدتها.

بدأ زملائي ينظرون إلي بشيء من الخوف

فربما أخذ عقلي ينقلب رأساً على عقب فذلك ما كنت أقرؤه في عيونهم.

حاولت أن أشرح لهم فكرتي قائلاً: ((لو كانت الأرض تدور فإنما بألوناً نطلقه من الأرض إلى الجو لابد أن يسقط في نقطة تبعد عن نقطة انطلاقه بعداً يتناسب مع سعة دوران الأرض)).

ص: 68

ربما لم أكن أعبر عما يجول في ذهني بذلك الشرح، إنما هذا ما كنت أفكر به؛ ولم يكن زملائي يرغبون في المغاعرة بذلك التفكير لذلك آثروا النظر إلي دهشين. أما أنا فقد نسيت هذا الموضوع مع الزمن ولم أعد للتفكير فيه أبداً.

في تلك الفترة أيضاً بدأت أعالج مشكلة أخرى صغيرة غير أنها سببت لي بعض الارتباك. في السنة المدرسية التي قضيتها في القسم التكميلي تعلمت وضع (الشاشية) حسب الطريقة المعروفة باسم (موسى à la Moussa).

ولم يكن من العسير أن أجد في شارع يؤدي إلى (رحبة الصوف) شاشية من النوع المناسب القابل للثني حسب الطريقة المذكورة.

وجاء بعد ذلك وقت وضع ربطة العنق، وقد اعترض ذلك بعض الصعوبات الصغيرة، فكان علي أن أغير صدارتي ذات الطراز القديم التي تخلو من تلك الفتحة وتسمح بظهور الربطة. وكذلك فإن ياقة قمصاني لم تكن معدة إعداداً يحمل الربطة الجديدة. لم تكن فقط مشكلة مالية، فإنه من أجل شراء قميص حديث مع ياقتين كان لابد من الذهاب إلى شارع (كارامان Caraman) وإلى متجر فرنسي. ليس هذا كل شيء، بل ينبغي التحدث إلى البائع. وقد يكون يهودياً قادراً على السخرية أو فرنسياً يتصنع الأهمية أمام زبون من أبناء المستعمرات ( Indigène) لقد كان هذا بالفعل أمراً صعباً.

أخيراً وجدت من يساعدني على شراء ذلك اللباس. ولكن تبع ذلك أن (فضلي) و (قاواو) أمضيا الوقت بعد ظهر جمعة أو أحد- لم أعد أذكر جيداً- واقفين على عتبة المدرسة ليعلّماني طريقة عقد الربطة. وليس ضرورياً أن أذكر صعوبة كيِّ القبة وترتيبها، بطريقة لا يبقى معها فراغ بينها وبين القميص يسمح برؤية الرقبة.

وليس سهلاً أن نتصور أهمية هذه الصعوبات في وقت كانت أخواتنا يمارسن

ص: 69

أولى خطواتهن في تعلم طريقة استعمال المكواة. وعلى كل فقد تمكنت من حل هذه المشكلة الصغيرة.

في المدينة حافظت على صِلاتي القديمة، عدا علاقتي بعمي محمود فقد اعتراها فتور لخلاف عائليّ، وعلى كل فقد توفي في تلك السنة: بعضهم قال إن سبب وفاته ما أظهره في إحدى حلقات العيسوية من همة وحماسة أدّتا به إلى ثقب أمعائه أثناء قيامه ببعض الخوارق، وآخرون ذكروا سبب موته بأنه لإهال في معالجة التهاب الزائدة الدودية أدى به إلى تلك النهاية.

عرفت بخبر وفاته من (بوعربيط) إذ كان يقدم لي ذات صباح القهوة، ولم يكن يدري هل نحن أقرباء أم أن علاقتي به تقتصر على أننا نحمل كنية واحدة.

وكنت من آن لآخر أتردد على خالتي بهية أرملة المرحوم جدي. كانت ورقة العطوس لا تفارق أنفها، وشقيقها (عَلاوة) يجلس إلى قربها كولد وديع. وأحياناً تطلب إليه أن يحك لها ظهرها. وكان هذا يستجيب لها بشيء من العاطفة البنوية.

لم تكن أعمالها في متجر الفحم على شيء من الازدهار، وكنت أحسّ بالارتباك والعوز اللذين يسودان المنزل، وزاده أن أصبح العامل في مصنع (بن القريشي) للدخان الذي كان يستأجر الطابق الأول مستأجراً في مكان آخر، وأضحى الطابق الثاني بموت عمي خالياً.

أما الرايا حيث كان يقيم فيه السي علي، فلم تعد بنته المطلقة تقيم معه، فقد يئست على ما يبدو من انتظار زوج فذهبت يوماً إلى الحمام ولم تعد إلى المنزل. كل ذلك أوقع خالتي في فاقة سيطرت على منزلها. أما خالتي بهيجة فكان عليها هي أيضاً أن تتأثر بالنتائج المتخلفة عن تغير الأوضاع الاقتصادية لعائلات قسنطينة العريقة. فالحمام الذي كانت تشتغل فيه وظيفة أمين صندوق يخص

ص: 70

عائلة (بن شريف) قد طرأ عليه التحول، إذ بدأت هذه العائلة دون شك تعيد النظر في إدارة ممتلكاتها. ورأى واحد منها لأول مرة في تاريخ قسنطينة أن يفتح محلاً للعطارة في (الشارع الوطني National). ورأى الناس أيضاً (بن القريشي) يتخلى عن مصنع الدخان الذي كان يمتلكه لأحد اليهود، وذلك بعد أن أشرفت أعماله على الخراب وخاصة بعد وفاة عمي.

إن عائلة (الباكتاشي Les Bachtazi) لم يعد لها وجود. وأفراد عائلة (صالح باي) بدؤوا يهاجرون إلى تونس فيها انطوت عائلة (اللفغوني Lefgun) على نفسها.

لم يعد الناس يرون كبير عائلة اللفغوني يترأس جمعاً من أصدقائه أمام منزل العائلة، يجلس على تلك المصطبة التي بناها أحد أجداده منذ عدة أجيال يتجاذبون الحديث بعد العصر حتى صلاة المغرب.

لقد هبت ريح من الذعر على تلك العائلات العريقة التي تمكنت من إنقاذ ثرواتها من أحداث عام 1837 عام دخول الفرنسيين، لقد بدأت اليوم تذهب ضحية التطورات الاقتصادية.

كانت أمي بهيجة إحدى الضحايا، إذ عمدت عائلة (بن شريف) لتسليم إدارة الحمام إلى امرأة عجوز من أقاربهم، ولذا فقد كان عليها بعد أن أصبحت دون عمل ودون مورد مالي أن تدهب إلى تِبِسَّة لتلجأ إلى منزل العائلة.

وفي محيط (المدرسة) حدثت تغيرات ذات مغزى كبير أدت إلى شيء من الانحطاط المعنوي. منذ أجيال كان محيط المدرسة يشكل مجموعة لها أهميتها في المدينة (مقهى المدرسة) و (مطعم المدرسة).

لقد بدأ الطلبة يترددون على مقاهي أخرى، فبوعربيط احتفظ لمقهاه بمستوى معين إذ لم يكن ليسمح في الصالة الرئيسية بوضع الحصر على الأرض،

ص: 71

وكانت طاولاته مستديرة الشكل ذات سطح رخامي وحولها الكراسي والمقاعد ذات السندات الخلفية.

كان ذلك يعطي المقهى جواً خاصاً. والشارع الذي يقع فيه يسيطر عليه جو من الهدوء، كذلك الهدوء الذي يلقاه الباريسي في بعض زوايا مدينته على أرصفة مقهى صغير ذي طابع قروي، أو في مكان لا يزال يحتفظ بتقاليد قديمة.

لقد بدأ المدرسيون يهجرون مقهى بوعربيط ليذهبوا إلى آخر يفترشون فيه الحصير، وبدأت آثار تلك الهجرة تظهر في ذلك المقهى فيسوده شىء من البؤس شبيه بذلك المسيطر في بيت خالتي بهية.

وهناك هجرة أخرى بدأت تصيب محيط المدرسة. فأحد الطلاب اكتشف ذات يوم حانوتاً خشبياً قذراً، يمكن ارتياده في ساعة متأخرة من الليل بعد الخروج من حانة يملكها أحد اليهود، وهو يتجشأ النبيذ أو اليانسون، فيأكل فيه قطعة من الخبز مغموسة في قدح من الحمص المقلي، أو شيئاً من الفلفل الحار مغلياً بالزيت، أو قليلاً من البطاطا المقلية وبعض أمعاء مسلوقة بالماء.

صاحب ذلك المطعم يدعى (بوكاميه)، والطالب الذي كان أول زبائنه حمل آخر إليه وذلك قاد ثالثاً. وبسرعة كبيرة أصبح جميع الطلبة يقفون أمام محله صفاً طويلاً بانتظار دورهم عندى الظهر. فمنذ الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين لم يعد أحد من الطلبة يستمع لما يقال في الصف. فكل واحد منهم يستعد ليكون في أول النسق وصعولاً إلى حانوت (بوكاميه) الذي يحوي ستة أو سبعة كراسي للجلوس.

كنت أشعر بشيء من الأسى حين أمر أمام المقهى القديم، فأرى (بوعربيط) واقفاً عند مدخله، فلم يكن لديه ما يفعله في الداخل. وأحياناً كانت تتقزز نفسي عند دخولي لمطعم (بوكاميه).

ص: 72

كان انحطاط وسطي يزعجني ويحزنني كثيراً، ولم أكن أفهم الأسباب الاجتماعية لذلك ولا نتائجه المعنوية.

وسط هذه البيئة المتغيرة بدأت تظهر بعض السمات الرئيسية في طبعي. كنت أجاهر بأفكاري مجاهرة صريحة وفظة، ولا أزال أذكر ذلك الطالب من (خنشلة) الذي كان زميلاً لي في السنة الأولى، كانت فيه بلادة واضحة تبدو في تصرفاته وأقواله لقد كان يبطئ في كل شيء.

ولم أكن أتورع أحياناً كثيرة عن أن أصرخ فيه بفظاظة قائلاً: ((ما بك؟ تحرك)).

لم تكن مشاعري نحوه سيئة، إنما كل ما كنت أريد له هو تغيير ما كان يؤذيني من تصرفاته البليدة. ولم يكن زميلي وهو ابن العائلة العريقة والخلق الرفيع ليبدي أية إشارة تدل على فراغ صبره، بل كان يبتسم ابتسامة يحاول أن يخفي وراءها ارتباكه.

إنني أدرك الآن أن هذه الصفة تعد أساسية في نفسيتي وخصالي، وعلى أساسها يمكن تفسير الكثير من تصرفاتي في الحياة فيما بعد، وخاصة افتقاري للمرونة وهو ما كان ينتقدني من أجله أقرب الأصدقاء. كنت أحب المناقشة خاصة إذا كان الموضوع علمياً أو دينياً.

وكنا لذلك نتردد أحياناً على إحدى البعثات التبشيرية الإنجيلية لنتناقش في بعض الموضوعات، وهناك تعرفت لأول مرة على الإنجيل. كان النقاش يدور حول ألوهية السيد المسيح، وكان يشاركني فيه طالب علم في الشريعة قديم حفظ القرآن كله في زاوية (بن سعيد)، ثم اعتنق فيما بعد البروتستانتية على يد امرأة إنكليزية يدعوها أهالي تِبِسَّة (السيدة Bina). وهناك أيضاً تعرفت إلى بعض تلامذة الشيخ (بن باديس) الذين جاؤوا أيضاً ليدافعوا عن الإسلام.

ص: 73

لقد شعرت بأنني وهؤلاء في اتجاه فكري واحد، وهذا ما لم أكن أشعر به مع من كنت أعاشرهم من طلبة المدارس الثانوية الملسمين. كان اسم الشيخ قد بدأ يتردد في المدينة. وتعرّفي على بعض تلامذته جعلني أدرك أننا ننتمي إلى عائلة فكرية واحدة ستسمى فيها بعد في الجزائر (حركة الإصلاح).

في هذا الوقت وقع خلاف بين الفرنسيين واليهود أثار ضجة في قسنطينة، وقد أثارت إحدى الصحف الأسبوعية حملة ضد الإسرائيلية. وفي نطاق ذلك أعلنت تلك الجريدة عن مسابقة في الجواب على هذا السؤال:((لماذا لا يضع عصفور اللقلق في قسنطينة عشه على سقوف منازل اليهود؟)).

لقد وردت أجوبة من كل نوع من بينها رسائل من بعض طلبة المدرسة.

وقد تطور الخلاف حتى بلغ درجة سار معها اليهود في تظاهرة لمعاقبة تلك الصحيفة، فهاجموها وألقوا بأدواتها في وادي الرمل.

كانت أخبار عائلتي تصلني بصورة متقطعة، فإن والدي لم يكن يعرف كيف يسخر قلمه لذلك الواجب الأساسي، الذي يقضي عليه بأن يضع ولده في أحداث العائلة. لم أكن أذهب إلى تبسة في عطلتي عيد الميلاد وعيد الفصح. فكنت لذلك أنتظر عودة (حليمية) لأحصل منه على شيء من أنباء مدينتي.

لقد ازداد فريق تبسة واحداً هذه السنة فقد انضم إلينا (عبد الحميد نسيب)، وانتسب إلى الصف التكميلي ليحضر نفسه لدخول المدرسة في العام القادم. وعن طريق هذين الصديقين وصلتني بعض الأخبار المفصلة عن أبي وأمي وعن الأب (آدم Adam) وعن مدرستي والزملاء الذين تركتهم هناك، والذين حصلوا على عمل في المدينة بعد أن نالوا شهادة الدراسة الابتدائية أو تفرغوا لتعلُّم إحدى الحرف.

فالحياة هناك كانت تتابع سيرها واضعة كل واحد في الطريق الذي سيتحقق فيه مصيره.

ص: 74

شأن المدرسة كشأن جميع المعاهد، فقد كانت العودة من عطلة الفصح تعني نقطة فاصلة في السنة الدراسية يبدأ عندها الاستعداد للامتحانات القريبة. والقليل الذين بقوا أمناء على عادتهم في التردد على مقهى (بوعربيط) وأنا منهم، انقطعوا هذه الفترة عن ارتياده، ولم يعد أكثر الطلبة بقادرين على لعب الدومينو على حصر المقاهي التي استبدلوها بمقهى بوعربيط.

والنسق من الطلبة الذي يقف ظهر كل يوم أمام مطعم (بوكاميه) لم يعد طويلاً كالسابق، فالطلبة لم يعد لديهم الوقت للانتظار من أجل الحصول على المقعد اللماع في المطعم لكثرة ما عليه من الشحم. وفي المساء لم يكن على الشاوش أن ينتظر المتأخرين فالجميع يأوون باكراً.

وعندما تطفأ الأنوار في الساعة المعتادة دون أي رحمة كان المارة يرون عند منحدر (شارع بريغو)، أنواراً حمراء تشع عبر زجاج النوافذ في الطوابق الثلاثة لجناح المنامة، فكل طالب أشعل قنديله أو مصباحه ليتسنى له مذاكرة دروسه. فكنت ترى الأوراق الصفراء التي تضم مؤلفات قواعد اللغة العربية والفقه تعلو الأنوف، إذ من عادة هؤلاء أن يقرؤوا وهم مستلقون في الفراش كأنهم نيام.

ومتى حل موعد الامتحان تجد الجميع وقد علت الصفرة وجوههم، وشابهم الهزال وطالت شعورهم وتشعثت وكثفت لحاهم وتجعدت ياقات قمصانهم واتسخت، فلم يكن أحد منهم يجد متسعاً من الوقت لغسل قميصه في مغسلة الجناح، أو ليمرّ على الحلاق يقص شعره أو يذهب إلى الحمام ليستحم، ولم يكن بالطبع بقادر على مسح حذائه أو رفو جواربه.

وذات صباح وقف السيد (دورنون Dournon) في باحة المدرسة يقرأ أسماء أولئك الطلبة، الذين تحولوا إلى كتل من اللحم كريهة الرائحة لزجة الملمس، لكثرة ما تجمع عليها من عرق كان يتصبب في ليالي الدراسة الطويلة، ملفوفة

ص: 75

بالبرانص التي امتصت مرق (بوكاميه) أثناء العام الدراسي. لقد قسم الطلبة إلى فرق أربع، وكان كل فريق يتألف من طلبة صف واحد يسيرون سوية إلا قاعة الامتحان المعينة لهم بوداعة واستسلام، كقطيع من المواشي يساق إلى المسلخ.

لقد بدأ أسبوع الرعب، فكل ما تلقاه الطالب أثناء العام الدراسي عليه أن يفرغه على الورق المرقم والموضموع على المقعد المخصص له.

كل طالب كان يتجشأ ما عنده من معلومات طرأ عليها التغير، أو ربما فسدت خلال أيام الامتحان الخمسة أو الستة التي قضوها تحت مراقبة السيد (دورنون) الساهر اليقظ.

ولكي يتمكن الطالب من فتح كتاب أو دفتر فإنه يجب أن يكون ولداً اختصاصياً في هذا الفن، فمن الصعوبة بمكان فتح ذلك الكتاب وهو موضوع على الركبتين على الصفحة المطلوبة والقراءة عبر القندورة التي تغطيه في شبه ظلمة. فمن كانت لديهم الموهبة ينقلون صفحات بكاملها تحت نظرات المدير اليقظة.

كان الأستاذ (بوبريتي Bobreiter) يبدي منتهى القساوة مع هؤلاء (الاختصاصيين) عندما يخطئون فينقلون له صفحة عن (فنلون Fenelon) بينما يكون هو قد وضع سؤاله عن (بومارشه Beaumarchais) مثلاً.

وكان (دورنوق Dournon) يبدي بعض اللين والتساهل حيال أولئك الذين عرفوا بممارستهم للصلاة والذين يضعون العمامة و ( gandoura)، فقد كان في أعماقه- وكنا نعرف ذلك جيداً- يفضل بلادة هؤلاء على طيش من يسمون (الأتراك الشبان).

بعد انتهاء هذه الأيام المحمومة تمر المدرسة بمرحلة أخرى، تلك هي القلق. لم يكن أحد ليغير هيئته أو ملابسه انتظاراً لتلك الورقة الصغيرة الموقعة من

ص: 76

السيد (دورنون Dournon) والتي يعلقها الشاوش وراء الباب الموصل بين جناح الدراسة وجناح المنامة والذي لم يعد له الآن وجود.

خلال هذا الانتطار المؤلم يصبح الشاوش كـ (عرّافة ديلفس Delphes)، وكان الطالب القلق الذي فرغ صبره وخاصة في ربع الساعة الأخيرة قبل إعلان النتائج يسأله:((عميمي- هل نجحت؟)) وكان عميمي هذا يتصنع الغموض ويجيب باستهزاء: ((هي

هي

هي

))

ما معنى هذا .. ؟ وإذا لم يكن أحد يتجرأ على تفسير كلمات العراف فمن الأفضل التسليم بالمقدور.

وكان عميمي صاحب طريقة خاصة في تعليق وريقة النتائج، إذ كان ينتظر الساعة التي لا يكون فيها أحد ويعلقها خلف ذلك الباب الشبيه بالمطهر.

وأخيراً فإن أول مدرسيّ يكتشف الورقة في ذلك المكان يطلق صرخة الخطر. فإذا الأربعون في الصفوف الأربعة يتزاحمون ويتدافعون؛ إنها لحظة مخيفة. فلكي يتمكن أي طالب من الاحتفاظ بمكان له في المدرسة يؤهله الوصول إلى مركز العدل في القضاء الشرعي، كان عليه أن يحافظ على منحته الدراسية. وذلك متوقف عل نتيجة الامتحان وهكذا نرى أنها بالنسبة لـ (المدرسي) مسألة حياة أو موت.

وحينما يكون هناك صف أو تدافع حول شيء ما، فإن (حليمية) يعرف كيف يكون في المكان الأفضل متهماً من حوله بأنهم يدوسون على قدمه. كان يرفع رأسه لقصر قامته الذي كان يزعجه، ويقف على رؤوس أصابع قدميه أمام ورقة (دورنون) بالذات. وبقفزة واحدة يلوح رأسه بين الرؤوس المحيطة به، ويصرخ كما اعتاد أن يفعل كلما كان لديه ما يريد أن يفاجئني به وقال: ((صديق

نجحنا)). وهكذا حافظنا هو وأنا على المنحة الدراسية.

ص: 77

بعد ذلك اجتاحت الجميع حمى أخرى. فقد هرع كل طالب إلى حلاقه والحمام العربي، ثم بدأ بتغيير القميص والياقة، وربطة العنق كما بدأ بتنطيف حذائه .... وأخيراً تحضير الحقائب. وبذلك تتحول المدرسة إلى ورشة يستعد فيها الطلبة للرحيل.

كل واحد منا بدأ يفكر بالهدية التي سوف يحملها لعائلته

لأنه يشعر بأنه كبر، أليس كذلك؟

أما (بن عبد الرحمن) ذو الوجه اللماع بفضل زيت القبيل الذي ربما تغذى به في ظل عائلة فقيرة، والذي تعود أن ينفجر باكياً عندما كان الشيخ (بن العابد) يذكر اسم النبي، فقد حمل معه سريراً من الحديد يعلوه الصدأ كان قدى اشتراه بعشرة أو بخمسة عشر فرنكاً من سوق البراغيث سوق الأشياء القديمة في قسنطينة ( Marché aux Puces).

في تِبِسَّة كانت أمي على سرير المرض وحولها تلك المجموعة من المساند رتّبتها شقيقتي الصغرى، لتحول دون أي تماس بين الجرح الموجود عند أسفل العمود الفقري والفراش.

كان الدكتور (فيكا ريلا Figarella) يزورها مرات ثلاثاً أو أربعاً في اليوم دون أن يقدم كشفاً للحساب. وقد زايل العائلة خشية في أن يبهظها المبلغ عند المطالبة به. وعندما قدم الدكتور كشف الحساب بعد ثلاث أو أربع سنوات من علاج أمي قبيل وفاتها، كان هذا الكشف لا يزيد عن ثلاثمائة فرنك، وقد اتفق الجميع في المنزل أن هذا الكافر ربما أمكنه دخول الجنة.

كانت أمي تعتمد على علم (فيكاريلا Figarella)، ولكنها كانت أيضاً تعتقد في بركة الإمام (الشيخ سليمان). هذا الشيخ الذي جاء تِبِسَّة عندما كانت تلميذاً في مدرسة المديرية.

ص: 78

لقد خلف إماماً آخر كنت أحتفظ له بذكرى غامضة. إنني أذكر فقط أنه كان عازباً يعيش وحيداً في منزل صغير في شارع سمي فيما بعد شارع الرسول. لقد كانت له هواية خاصة به. فغالباً ما أجده في شارع الرسول بين الصلاتين مهتماً بتحريض ديكين على المبارزة، لقد ربّاهما ودرّبهما على هذه المهمة.

وأعتقد أنه لم يكن لديه اهتمام بمسؤوليته الروحية. وما كان نصيب أرواح التبسيين من اهتمامه يعادل اهتمامه بحالة العرفين الداميين لديكيه عندما يطلقهما في معركة أمام ناظريه، تسلية لنفسه ولناظري الأطفال المشدوهين مثلي ونحن نحيط بهما.

جاء الشيخ (سليمان) مدينتنا في أواخر الحرب. وسرعان ما اكتسب ثقة الناس به، فكانت الخلافات في العائلة أو بين الأفراد تجد حلها على يديه. ولم تكن أحكامه النزيهة لترضي دائماً القلوب، ولكنها كانت بكل حال مقبولة. فعمي إسماعيل الذي كان مشهوراً ببخله رضي بأن تأخذ مطلقته أحد أولاده معها، كل شيء لأن الشيخ سليمان حكم بذلك عندما قال:

((الشاهد عندنا! ينبغي أن نترك هذه المرأة المسكينة تحمل كامل جهازها)).

أصبح المسجد قلب المدينة النابض. وتولى الشيخ (سليمان) تأسيس أول جمعية خيرية فيها.

كان يحضر حفلات الزواج ومجالس الطلاق ومراسم الدفن وكان قراره هو الأخير في سائر المشاكل الناجمة.

بعض العادات التي هي على شيء من البربرية بدأت تتغير. فقد كان يدعو في خطب الجمعة إلى نبذ الندب والعويل في الجنازات، والإقلاع عن الصخب والضجيج في احتفالات الزواج. وقد جعل ذلك عجائز تبسة يلعنّ هذا الشيخ

ص: 79

الواعظ. لذا فلم تعد السيدة (دوننسان Denoncin) ترى النساء تمر أمام متجرها نادبة بصوت مرتفع في المواكب.

في الواقع لم تكن لدى الشيخ سليمان خطط إصلاحية لكنه كان يصلح بالفعل. ولم يكن يعي أنه يرسي بذلك أسس الإصلاح في الروح التِبِسّية. كان في تِبِسَّة تكاثر في الأفكار يغذيه ذلك الرهط من العلماء الذين بدؤوا يعودون من الشرق. يتابعون تقليداً قديماً أوجده شيخ من (نفطة Nafta) الواقعة على الحدود الجزائرية التونسية، وتشكل مركزا ثقافياً يذهب إليه الطلاب الذين يحفظون القرآن في زاوية سيدي (بن سعيد) أو سيدي (عبد الرحمن)، ولم تكن لديهم وسائل المال لإتمام دراستهم في جامع الزيتونة في تونس.

كان هذا المركز يشع بالثقافة الإسلامية على منطقة الجنوب القسنطيني. وفي مطلع القرن الحالي كان يديره شيخ جليل هو الشيخ سيدي (محمد بن إبراهيم)، كان هذا الشيخ يقضي بانتظام عطلة الصيف في تِبِسَّة لدى صديقه (القائد الصديق) في زمن يمكن فيه القائد أن يكون صديقاً للأدب والعلم. إن النظام الاستعماري لم يكن حتى ذلك الحين قد أفرغ كل ما يحمله من انحطاط اجتماعي ومعنوي.

فنشأ ذلك التقليد الذي تولى رعايته الشيخ (الصدوق بن خليل) والشيخ (عسول) وقد جاء بعدهما الشيخ (العربي التبسي)، فأدخل هذا التقليد في (الحركة الإصلاحية) في زمن كنت فرغت فيه من عامي الأول في المدرسة.

في ذلك الوقت كان الشيخ (سليمان) يستلم دور القيادة الروحية ليس لعلومه الدينية فحسب وإنما أيضاً بسبب تقاه وبركته؛ فقد كانت تعرض عليه الأحلام ليفسرها، ويأتي البيوت ليكون بالقرب من المرضى والمحتضرين، وكان حضوره يحمل الارتياح والعزاء. كان يأتي غالباً لزيارة أمي حين لا تجد في عناية الدكتور (فيكاريلا Figarella) ما يخفف عنها مرضها المزمن.

ص: 80

كان هناك إذن تحول لاشعوري للعادات والتقاليد التبسية، فقصاصو ألف ليلة وليلة لم تعد أعمالهم مزدهرة، جمهورهم تحول بشكل محسوس عن المقاهي العربية حيث يقيمون حلقاتهم، إلى المسجد ليستمعوا إلى دروس الشيخ سليمان بعد صلاة العشاء، أو إلى مكان آخر يستمعون فيه إلى أحاديث الشيخ الصدوق والشيخ عسول.

وتعرضت تبسة لتحول في منظرها العادي أيضاً، لقد ازداد فيها الأوربيون، خصوصاً بعد أن جاء عمال السكك الحديدية وعائلاتهم مع افتتاح الخط الحديدي لعين البيضاء وإنشاء مركز لإصلاح القطارات.

كان هؤلاء الأوربيون يقيمون حفلات 14 تموز (يوليو) الراقصة في ساحة (كارنو Carnot)، يرقصون حول كشك الموسيقا الذي يعتليه الأب (كابولا Capolla) رئيس فرقة تِبِسَّة الموسيقية، يزن بقدمه إيقاع رقصة ( Polka) أو رقصة من أصل بولوني (مازوركا Mazurka) من المساء حتى الفجر.

كان صدى الطبول والآلات النحاسية الموسيقية والصندوق الموسيقي ينتشر في ليل تبسة الصائف الرائع فيعم المدينة. وجدتي التي كانت لا تزال حية حين تسمع ذلك تتمتم: ((داش به سوادهم)). وتعني هذه العبارة ((ما هذه البربرية!))، ثم تأخذ إبريقها وتذهب لتغسل وجهها ويديها في الشرفة وهي تصب لعناتها على الشيطان. وكانت ابنتها خالتي (مليحة) عندما ترى موكب جنازة يتقدمها الأب (كابولا Capolla) وفرقته في طريقها إلى المقبرة الأوربية تفعل مثل ما تفعل أمها. فتلك العربة السوداء وما تتزين به هي إبليس يمر أمامها.

لقد بدأ اليهود في هذه المرحلة يتقدمون، وأوضاعهم الاجتماعية تطورت نحو الأفضل، كان ذلك واضحاً في سكناهم، فمن عادة اليهود أن يسكنوا في أطراف المدينة داخل الأسوار لأسباب تقليدية وفوائد يجنونها.

ص: 81

فحينما تقطن العائلة اليهودية بقرب السور كان ذلك يسمح لها بالاستفادة من المجال الواقع بين الدار والسور، لقضاء بعض حوائجها بعيداً عن طريق المارة كغسل الملابس مثلاً ونشرها.

بالإضافة إلى ذلك ثمة عادة قديمة تقضي بألا يقبل في قلب المدينة إلا من كان معروفاً باستقامة صحيحة. ولذلك فإن السلطة الفرنسية وضعت أول بيت للدعارة من أجل الجيش في طرف المدينة. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ اليهود التبسيون يهجرون حرفتهم وهي الصياغة وصب المعادن، لينطلقوا في التحارة وخاصة السمسرة. لقد تركوا أيضاً بيوتهم القديمة وبدؤوا يستقرون في الحي الأوربي.

وأصبحت ترى شبابهم يبادر إلى الحفلات الراقصة التبسية مثيراً هنا وهناك بعض الصدام مع الشباب الأوربي، حينما تكون مناقشة من أجل عيون (مارجريت أو جاكلين).

والذي يتجرأ من الجزائريين فيغامر في هذه المجالات- وهو عامة من الشباب الخارج على مجتمعه- كان لا يجد ترحيباً. لذلك عمد الشباب إلى حل ظاهري للمشكلة بأن تراقصوا فيما بينهم، كل يراقص زميله، إنما لم يمنع ذلك من وقوع بعض الحوادث. أما أنا فكانت المشكلة الكبرى لدى وصولي تبسة ذلك الصيف ربطة العنق، فلم أجرؤ على إظهارها. ومن أجل اجتياز الساحة والمرور بطريق مكتظ بالناس كان علي انتظار الليل.

كان محكوماً علي أن أمضي عطلتي متسربلاً ببرنص، وألا أسرح وأمرح إلا خارج المدينة أو في الشارع عند أطرافها. وقد بلغ عذابي قمته يوماً حينما دعاني والدي لزيارة مجاملة لرئيسه حاكم تبسة. لاشك أنه كان يباهي بولده المتعلم. لكنه كان شيئاً مخيفاً في نفسي ولست أدري كيف اجتزت تلك التجربة أو تمكنت من العيش بعدها.

ص: 82

أعتقد أنه في تلك الفترة تعرفت على صحيفة (الإقدام) التي كان يصدرها الأمير خالد. كما تعرفت على صحيفة (الراية L'étendard) التي كان يصدرها (دندان)، وكان أبي يتلقاها باستمرار. وكانت صحيفة تونسية تكتب بالعربية هي (العصر الجديد) قد بدأت تصل إلى تبسة لأنها تخصصت بشؤون العالم الإسلامي، فقد كان الاهتمام بها أكبر من زميلتها التونسية القديمة (الزهرة) التي كانت تولي عنايتها بالشؤون التونسية.

وعندما كنت أخرج مع ابن خالي (صالح) لنقوم بتلك النزهة التي يقوم بها سائر الشبان التبسيين، في كل مساء من أمسيات الصيف انطلاقاً من بوابة قسنطينة حتى وادي الناقوس، كنت أجد محمّص القهوة العجوز الذي يتولى تحميص القهوة لسائر مقاهي البلدة يجلس في مكانه المعتاد، ثم يقرأ بصوت شبه مرتفع جريدة (الزهرة)، على نور باهت يشعه قنديل وضع على الباب الأثري (باب قسنطسينة).

كان يجلس على أحد ذلك الصفين من الحجارة الموضوعة لجلوس المتنزهين، من التبسيين الذين لا يرغبون في التوغل بعيداً في نزهاتهم يتنشقون عليها الهواء. وها هو ذا قد أصبح الآن يقرأ جريدة (العصر الجديد) بدلاً من جريدة (الزهرة).

مرة أخرى كان علي ذات صباح أن أتلقى (ماء العودة) على عتبة البيت وقد صبته أختي على قدمي.

فاجأتْ عودتي لقسنطينة الجميع كما فوجئت أنا، فقد نما جسدي كثيراً خلالا العطلة، فأصبح جسد رجل على الرغم من أن الكتفين بقيتا على شيء من الضيق.

والشاوش الذي وقف يرقب على عتبة المدرسة زبونه الجديد تساءل لدى رؤيته لي بسخريته المعتادة: ((هي/ هي/ هي/ صديق؟

كم كبرت!))

ص: 83

إنه أمر مغضب، فلم يعد شيء في الواقع يناسب جسدي. الحذاء الأبيض الجميل الذي أوصيت عليه قبل أشهر ثلاثة لأدهش الفتيات الأوربيات في تبسة أصبح يؤلم قدمي. والبرنص بات قصيراً، لقد أصبحت ملابسي جميعها ضيقة. السروال لم يعد يجاوز ركبتي، أما الحزام فكان يشد وسطي.

وكان هذا الأمر مغضباً لصالح حليمية إذ ما فتئت قامته القصيرة مصدر تعاسته في الحياة. وأضحى نموي الجديد يذكي تعاسته. وعندما نكون معاً على رصيف بصحبة (عبد الحميد نسيب) الذي جاء ينضم إلينا في المدرسة، ويمر شخص ذو قامة معتدلة أمامنا، كان يتعمد السير بالقرب منه ثم يعود إلينا ليقنعنا بقوله:((انظروا، إن لي قامة هذا الرجل)).

كان الطلبة العائدون من العطلة متعطشين لملذات المدينة الكبيرة: السينما وحصيرة المقهى العربية.

(بوكاميه) بدأ يتتابع زبائنه المدرسيون يقصدونه كلما فرغ واحدهم مما حمله من زاد، والحياة في المدرسة عادت لنظامها، والمستجدون من الطلبة بدؤوا يندمجون فيها بعد أن كانوا لأيامهم الأولى دهشين مرتبكين. قمت بزياراتي المعتادة لخالتي (بهية) فوجدتها هذه المرة أكثر شيخوخة وأفقر، وبدا لي منزلها أبلغ تهدماً من قبل. وكان خالي (علاوة) يجلس في هدوء بالقرب منها ويحك لها ظهرها من آن لآخر.

في ذلك البيت المتواضع استعدت ذكريات قديمة فيها شيء من الورع. فداخل هذا المنزل القسنطيني مع محتوياته المادية التي لا قيمة لها يتحدث مع ذلك عن روح ثقافة بروح حضارة. حضارة لاشك متهدمة كمنزل خالتي بهية، إنما هذه الأشياء تحمل على الرغم من بلاها شهادة تثير الحنين إلى ماضٍ وَلَّى ووعد غامض يتجه نحو المستقبل.

ص: 84

كانت أحاسيسي في تبسة تختلف عنها في قسنطينة، فهناك الحياة الطبيعية والرجل البسيط الجاف، كان هؤلاء جميعاً يحاورون روحي. أما قسنطينة فالتاريخ والمجتمع ومأساته الواضحة الماثلة بشكل ظاهر، تسائلني دون أن أدري في الغالب تساؤلاتها ولكنني مع ذلك أشعر بها.

ولكن هناك أيضاً في قسنطينة جانب (المدرسة) الذي كان يحدثني عن المستقبل. خاصة عندما بات الاتصال بين المدرسيين وتلاميذ الشيخ (بن باديس) أقرب في مقهى بن يمينة. لقد ورث بن يمينة والده بعد أن مات منذ فترة يسيرة فأدخل على المقهى بعض التجديد. لقد ألقى بالحصر جانباً، ورأيت لأول مرة في مقهى عربي آلة كبيرة لغلي القهوة ( Percolateur)، كان ذلك ثورة. وقد أحدثت من ناحية أخرى ضجة في وسط المعمرين الأوربيين الذين كانوا يريدون المحافظة على خصائصنا (نحن أبناء المستعمرات Indigène)؛ أي المحافظة على الحصيرة التي تستعمل في الوقت نفسه للبصاق حينما يستدير لاعب الدومينو ويرفع طرفها ليبصق تحتها، ثم يتنحنح بصوت مرتفع ليريح حنجرته ورئته.

في النهاية أصبح مقهى بن يمينة الحي العام للمدرسيين. وعلى بعد خطوات منها كان مكتب الشيخ (بن باديس). كان يستقبل فيه أصدقاءه وتلاميذه ويدير مؤسسته الصغيرة، التي اتخذت شكل شركة ذات أسهم تصدر مجلة (الشهاب)، التي جاءت في أعقاب احتجاب (المنتقد)، ولم تكن قد ظهرت إلا لفترة قصيرة ثم منعت الإدارة المحلية صدورها.

إذن كان حي الطلبة العام مجاوراً لذلك المكان الذي سوف يصبح مهد (حركة الإصلاح)، وكان مرور تلاميذ الشيخ بن باديس أمام مقهى بن يمينة يوثق عرا الصلات بيننا وبينهم.

ص: 85

في تلك الفترة- على ما أذكر- تعرفت على الشيخ (حَمّ العيد) شاعرنا الكبير فيما بعد، الذي ترك حلقة أستاذه مزوَّداً ببضاعة تقليدية مسيَّسة politisé بشعور عالمٍ وطني هو عبد الحميد بن باديس.

هذا العلم ذوالنفحة السياسية جاء مع بعض الباديسيين أمثال (حَمّ العيد) و (الهادي السنوسي) مؤلف كتاب (مختارات من الشعر الجزائري) و (خباش) وآخرين، ليتصل في مقهى بن يمينة بالتيار الناشئ في المدرسة نفسها. وأعتقد أن هذا اللقاء قد شكل تمهيداً تاريخياً إن لم يكن رسمياً للذي أضحى حركة تجديد من ناحية وحركة وطنية من ناحية أخرى.

كان في المدرسة مجدّون لا يهمهم غير دروسهم، هؤلاء عدول المستقبل أو أي شيء آخر، يلمحون من بعيد وظيفتهم في الإدارة. وكان كذلك الحالمون يبنون قصوراً في إسبانيا، وآخرون يهتمون بقص شعورهم على آخر طراز؛ أما صالح حليمية فكان فريقاً وحده، كان شرهاً شراهة جعلته يعاني بصورة مستمرة آلام الأمعاء وسوء الهضم.

وكنت من الفريق الذي يقرأ كل شيء إلا محاضرات المدرسة، وأذكر أنه في تلك السنة كانت لي هوايتان: فمحاضرات الشيخ (بن العابد) أستاذ الشريعة الإسلامية تأتي بانتظام من الساعة الحادية عشرة حتى الظهر. وكنت أثناءها أرسم بانتظام رأس الشيخ إلى أن يأتي جرس عميمي الشاوش في باحة المدرسة، فيؤذننا بساعة الانصراف والإسراع إلى مطعم (بوكاميه) الذي بدأ يتخذ شكلاً حسناً، بفضل الدراهم التي تدخل إليه في نهاية كل شهر من المدرسة.

أما هوايتي الأخرى خلال الفرصة بين الدروس فهي أن أبقى في الصف، هناك خارطة حائط كبيرة للصحراء، كنت أتسلق كرسياً وأتابع الخارطة باحثاً عن طريق للوصول إلى (تمبوكتو). كانت هذه الهواية بوحي من

ص: 86

كتاب (أنتينيا Antinéa) الذي ظهر في تلك الفترة فمنحني هذه الهواية. لقد سيطرت على نفسي طويلاً حتى بعد السنة الثانية من المدرسة التي كانت من وجوه عديدة فاصلة في تحديد اتجاهي.

(تمي Timmi) و (تميمون Timimoun) و (عين صالح): هذه الأسماء استهوتني واستوقفتني مراراً أمام خريطة الصف؛ فالصحراء كانت تفتنني، وقد ظل سحرها يلف روحي طويلاً حين استفاقت إلى آفاق بعيدة، وسوف أدرك فيما بعد واقعها الساحر الذي مارسته في روح نشيطة كروح (ارنست بسيكاري Ernest psicare)، كما وعيت في ذلك الوقت الدسم اللذيذ الذي صبته فيّ روح ايزابيل ابرهارت ( Ysabelle Ebrhardt)، وقد تولى (فيكتور بروكان Victor Berucand) تعريف العالم بكتابها الرائع الجذاب.

لقد قرأت مراراً كتاب تلك المرأة المغامرة التي أنهت حياتها في (عين صفرا) في ظروف مشؤومة مؤسفة. كنت أبكي وأنا أقرأ ذلك الكتاب المسمى ( A l’ombre chaude de l’islam في ظلال الإسلام الدافئة) والذي عرفت فيه شاعرية الإسلام وحنين الصحراء.

كان رهطنا يقرأ قراءات مشتركة وكان لكل واحد منا ما يرغب فيه من قراءات خاصة به، وفي ذلك الزمن عثر مدرسيّ من (باتنه Batna) يدعى أحمد المعلم على كتاب (أم القرى)، ولست أدري كيف عثر عليه، وقد قرأناه كله في ليلة.

هذا الكتاب ترك فينا بسبب خصائصه الخيالية تأثيراً عجيباً، لقد استشعرت صدمة أكملت ما تركه في نفسي كتاب (في ظلال الإسلام الدافئة). فالكتاب الأخير (في ظلال الإسلام الدافئة) وضع أمامي إسلاماً شاعرياً، ولكنه إسلام غير مبال يبحث عن النسيان في المخدرات. أما كتاب (أم القرى)

ص: 87

فقد عرفني بإسلام بدأ ينظم صفوفه ليدافع عن نفسه ويقوم بحركة بعث جديد. إنه كتاب خيالي لكنه مُعَبِّر يحمل شعوراً بدأ يعتمل في العالم الإسلامي على الأقل في بعض الأنفس كالكواكبي.

لم أكن أشك بأنه كتاب خيال ولكن أثره في نفسي كان عميقاً. وعندما أعدت قراءة كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) كما اعتدت أن أفعل، كان تأثير تلك المطالعات البناءة يزداد في نفسي رسوخاً.

كنا نلقي بما نقرؤه في أتون تلك المناقشات الحادة والمثيرة التي اعتدنا أن نجريها في مقهى بن يمينة، يغذيها من ناحية التيار الفكري الباديسي، ومن ناحية أخرى تيار المدرسة الفكري.

كان ذلك العصر على ما أعتقد مسرح الحدث المفاجئ الذي قلب حياتي.

كان أمام المدرسة كشك لبيع الصحف، ولست أدري إذا كان موجوداً الآن، وكان المساء لطيفاً والشمس تنشر دفئاً في الجو، وأشعتها المتأهبة للرحيل ترسم على كتل الغيوم ألواناً حمراء باهتة، وتُرسي تاجها الذهبي على قمة (سيدي المجيد) الخضراء، فيما تهرع مضايق الرمل إلى العتمة.

لا أعرف بالضبط لِمَ اخترت هذه اللحظة بالذات للخروج والتوجه إلى حيث تباع الصحف، والحصول على (صحيفة الشؤون العامة لقسنطينة Dépêché de Constantine) والعودة بها لأقرأها على باب المدرسة.

قرأت هذا الخبر: لقد جرح في مصر ضابط بريطاني (السردار)، وإثر ذلك أمرت الحكومة البريطانية بنفي الزعيم الوفدي زغلول باشا إلى جزر السيشل. لقد أوردت هذه الصحيفة الخبر وأرفقته بتعليقات منتظرة من صحيفة تتولى الدفاع في قسنطينة عن مصالح الاستعمار الكبرى.

ص: 88

في (الشارع الوطني National) بين المدرسة وثانوية البنات المقابلة كانت الحركة خفيفة والهدوء مسيطراً حولي. وقد سمح لي ذلك بقراءة صحيفتي، وبعبارة أدق المقال الذي يروي أحداث القاهرة. فما إن فرغت من القراءة حتى بقيت ساهماً دون شيء محدد في ذهني، وفجأة استعدت فكري، ولو كان في تلك اللحظه بقربي شخص يراقبني لأدرك في نظراتي وميضاً غير مألوف.

كان الذي استبدّ بي شعور جديد، شعور لم يفارقني مدى الحياة قد اعتمل بحدة في وجودي:(كنت وطنياً J'était nationaliste)، ومنذ تلك اللحظة أصبحت قارئاً مثابراً لسائر الصحف التي أشتريها من كشك المرحوم جدي.

ثم اخترت بين قراءاتي السياسية صحيفة شيوعية (الإنسانية L'Humanité) كانت تروي أكثر ظمئي الوطني. فمقالات (كاشان Cachin) و (فايان كوتوريه Vaillant Couturier) تثير في نفسي ثورة الغضب أو تصب في قلبي أطيب العزاء. قرأت أيضاً (الكفاح الاجماعي La lutte sociale) التي يصدرها (فيكتور سبولمان Victor Spulmun) وكانت تأتينا إلى الجزائر بصورة متقطعة.

لقد اتخذت أفكاري منعطفاً جديداً، فالأشياء قد أصبح لها معنى جديد في نفسي، وحينما كنت أذهب إلى خالتي بهية كان يخالجني شعور بالضيق، وحينما كنت أتنزه مع صديقي (شوات Chaouatt) الذي كان والده مترجماً في مراكش، كان ثمة عمليات غريبة تعتمل في نفسي في تلك الشوارع الأوربية في قسنطينة، فقد كانت الدور المترفة تفضح أمام ناظري بؤس خالتي بهية.

كنت أختار من تلك المنازل المترفة المنزل الذي سوف أسكنه في المستقبل، وكان صديقي يفعل ما أفعل فيختار منها لنفسه أيضاً.

بالإجمال لم تكن فكرة (الممتلكات الخالية Bien vacant) فكرة جديدة، فقد راودت في ذلك الزمن روح شابين مدرسيين، وهما في طريقهما ليتناولا كوباً

ص: 89

من الحمص أو قطعة من كلب البحر لدى (بوكاميه). بالطبع فإن ذلك كله كانت له نتائجه في حياتنا في المدرسة، فقد أصبحتُ بسرعة في عيني (دورنون Dournon)( الفتى التركي) الأخطر.

كانت قراءاتي مراقبة، وكانت أعرف أنني حينما أذهب إلى الدرس يأتي الشاوش ودورلون ليفتشا تحت فراشي، حيث كنت أخبئ صحيفة (الإنسانية L’Humanité).

وأصبحت هكذا سلفاً المسؤول عن كل ما يحدث من شر في المدرسة. وحين يكتشف المدير اختفاء شيء ما أو حدوث كسر أو عطل كان يقول فوراً: ((طبعاً- طبعاً. لابد أنه الصدّيق فعل ذلك)). وهذه الشكوك المنتظمة أورثت بعض الأعمال السيئة وقد ارتكبت الكثير منها. فذات يوم أفرغت أنا وصالح حليمية كل ما في علبة تبغ العطوس في بركة المدرسة، فمات ما فيها من أسماك حمر جميلة كان يربيها المدير. وكان تعليق المدير:((طبعاً- طبعاً. إنه الصدّيق أيضاً)). لقد طفح الكيل وهكذا قدمت أنا وصالح حليمية استقالتنا إلى المدير بصفتنا موظفين.

لقد انزعج المدير لأنه كان لدينا ما نتهمه به من أمور لها مساس بإدارته للمدرسة. ولكن هذا الرجل كان طيبا في أعماقه، فأنذر والدي بالوضع فحضر وسوّى القضية.

وهكذا استمرت بي هواية رسم رأس الشيخ (بن العابد)، وفي تخيل المسالك إلى بلاد (أنتينيا Antinéa) و (تمبو كتو). ولم يكن يستأثر باهتمامي غير دروس (بوبريتي Bobreiter) التي أفادتني بما حققت مع الأستاذ كثيراً من التقدم.

كان يعطيني كل أسبوع تشجيعاً لي عدده من مجلة (الأخبار الأدبية Nouvelle Littéraire)، فأسرع إلى قراءته بنهم. وقد كان يعيرني على

ص: 90

ما أظن مجلة (كونفيرانسيا Conferencia)، وفي أحد أعداد هذه المجلة اكتشفث في ذلك العصر (رابندرانت طاغور). لقد كان لذلك الأدب القادم من بعيد أثر في نفسي، إذ أضاف أبعاداً جديدة في عالمي الفكري. فرابليه وفيكتور هوجو وامرؤ القيس وحافظ إبراهيم هؤلاء أعطوا عالمي الفكري أبعاد اللغة الفرنسية والعربية، أما اكتشافي لطاغور فقد أضاف بعداً ثالثاً ذلك هو (الفيدا Des Védas).

وهناك شيء آخر؛ ففي ذلك العصر كان أبناء جيلي يبحثون دون أن يدركوا عن الهروب أو التحرر، وقد فتح لي طاغور باب ذلك الهروب فلم تعد أفكاري تسرح نحو تمبوكتو، فقد بدأت الرياح أيضاً تسوقها إلى الهند الغامضة.

كانت تشدني إليها على الرغم من أني لا أعرف عنها شيئاً غير أنها مستعمرة إنكليزية.

كان انجرافي نحو شاعرها الكبير مظهراً من مظاهر التحرر في نفسي. فالعبقرية لا تولد فقط على ضفاف (السين Seine) أو ضفاف (التاميز Tamise)، إنها يمكن أن تولد أيضاً على ضفاف (الغانج)، فمع طاغور وجدت هذا الموقف المدعوم لرجل مُستعمَر. لقد حررتني هن عبودية ذاتِ وقعٍ أثقلت أو ما تزال تثقل غالباً، فكر المثقفين العرب تجاه عبقرية أوروبا وثقافتها. لم أعد أذكر على وجه الدقة ما هو أول كتاب قرأته لطاغور، إنما هذا الشاعر حررني من إفريقيتي بعض الشيء وأطلق ذهني من قيود فرضها الاستعمار.

فقد كانت في روحي قوة منبّهة تقود كل ما يقع أمام بصري إلى اهتمام مركزي عميق. وكان الإسلام هو ذلك الاهتمام. فربما لم يكن لطاغور ذلك الشغف في نفسي لو لم يرتبط بذلك الألم المفترس، الألم الذي حمله جدي حين لجأ إلى طرابلس الغرب قبل الحرب العالمية الأولى، والذي حملته جدتي (الحاجة بايا) حينما تدلى بها الحبل من فوق السور هاربة من قسنطينة، يوم دخلها الجنود

ص: 91

الفرنسيون. فالأجيال تتناقل رسالة ذات طابع سري لكنها لا تقرأ بطريقة واحدة، لأن شبكة رموزها التي يعطيها التاريخ لكل جيل كيما يقرأ هذه الرسالة ليست هي ذاتها.

في تلك الفترة اكتشف أبناء جيلي من المدرسيين (أوجين يونغ Eugène Yung)، وقد تعرفت عليه من خلال كتابه (الإسلام بين الحوت والدب L’Islam entre la baleine et L’Ours). لقد مات مؤلف هذا الكتاب بعد عشرين عاماً في غرفة صغيرة في باريس مجهولاً من الناس منسياً من الجميع، ولست أدري إن كان قد دفن في مقبرة عامة.

ومع ذلك فقد رفع كتابه حرارة التيار المعادي للاستعمار في أبناء جيلي، وإني لأتساءل اليوم عما إذا كان الوطنيون والإصلاحيون يخامرهم شك في أنهم يحملون في عروقهم، آراء وأفكار ومشاعر جاءتهم من آفاق مختلفة.

ومع ذلك فهذه الأفكار والمشاعر كانت تجتمع في مقهى بن يمينة لتتلأقى هناك مع تلك التي تولد على بعد خطوات من المقهى. أعني ذلك المكتب الصغير الذي يشغله (الشيخ بن باديس). لم أكن قد عرفته بعد، إنما كنت أشاهده يمر أمام المقهى.

كان الحديث في مقهى (بن يمينة) بالعربية والفرنسية، أما في مكتب الشيخ فمن الطبيعي أن يكون الحديث بعربية فصيحة. أما في المدينة فلم تكن اللغة عربية ولا فرنسية، إنما لغة محلية، وهذه الحال كانت في الجزائر جميعها وخاصة في العاصمة، إذ أضاف القوم هناك إلى عاميتهم لهجة غير مستحبة.

وفي علمي أن تبسة هي المدينة الوحيدة التي يتكلم أهلها لغة عربية، ربما ليست أدبية. إنما هي بكل حال على درجة من الصفاء والأصالة في مفرداتها وطريقة نطقها.

ص: 92

وكان لي في هذا الجو المدرسي المحموم جانب شخصي. كانت هناك أمي المريضة تشغل ذهني وكذلك الحنين للصحراء لا يفارق فكري.

وكانت هناك جريدة (الإنسانية L’Humanité) تحمل إلي غضبتها ومهدئاتها. وكانت لذلك تثأر لي من ذلك الوضع الذي سوف نسميه (النظام الاستعماري)، الذي عبّأَنا ضده في تلك الفترة- من غير أن نشعر- تلك القوة التي انصبت فيها بعد في الاتجاه الإصلاحي والتيار الوطني.

لقد بدأ الحوار الصحفي بين رئيس بلدية قسنطينة القوي (مورينو Morinaud) والأمير خالد، كنا ننتظر مجلتي (الإقدام) و (الجهوري Le Républicain) كل أسبوع، لنتابع حوارهما كجمع من الأنصار حول حلبة يتبارز فيها بطلان.

كان لقلم بطلنا الوزن الذي يزن، وأظن أنه كان متفوقاً على خصمه، إنما الشيء الأكيد أنه أثار العواصف في أفكارنا ومشاعرنا.

فـ (الإقدام) وضعت في فكري الحدود السياسية الدقيقة، فكانت تكشف عمليات استغلال الفلاح الجزائري وقد بلغت درجة لا توصف في تلك الفترة. فقد ضاقت بالمستعمرين في الشمال مزارع الكرمة والحمضيات والزيتون والتبغ فأخذت تتجه نحو الجنوب حيث أراضي الحبوب. فقد بدأ عدد من المعمرين يستقرون في (خنشلة) و (باتنه) و (عين البيضاء) حتى إن واحداً منهم استقر في (مسكيانا) قريباً من تبسَّة.

فكانت مجلة (الإقدام) تفضح رجعية الإدارة المستعمرة وسوء استغلالها للسلطة. فالأرقام التي كانت تنشرها عن مساحة الأراضي الممنوحة للمعمرين، وعن عدد الأولاد الجزائريين الذين لا يذهبون إلى المدارس تثيرنا وتوجهنا.

وقد أتيح لي من خلال تلك الصحيفة أن أسمع لأول مرة عن (الشركة

ص: 93

الجنوية Geneuoise) في سطيف وعن الشركة الجزائرية في (قالما Guelma). ثمة صوت ارتفع وانضم إلى أصداء (الإقدام)، ففي عنابة جاء المقدم (دندان Denden) ينشئ صحيفة الراية، وهكذا غدا الصراع مثيراً في الحلبة الجزائرية.

في أوروبا كانت جمهورية (ويمر) تلفظ أنفاسها تحت طعنات القديسة (سانت وين Sainte Wehn)، هذه المنظمة الوطنية الإرهابية الألمانية التي كانت تسعى لتخليص ألمانيا، من الحكم الذي فرضته عليها معاهدة فرساي.

وفي قرية صغيرة في هولندا كان الامبراطور (غليوم الثاني) الهارب من بلاده يمضي أيامه في نشر الخشب، بينما السلطان (عبد المجيد) آخر خلفاء بني عثمان، يقضي أيامه مستشفياً من مرض الروماتيزم في المدن الأوربية ذات الينابيع الحارة، بعد أن طرده من استانبول الغازي (مصطفى كمال). أما الإمبراطورة (زيتا Zita) فكانت تقيم على ضفاف بحيرة ليمان تفكر في مأساة آل هابسبورغ. وفي هذا الوقت كان دوقات وأرشيدقات روسيا المقدسة قد تحولوا إلى سائقين لسيارات الأجرة في باريس.

كان (لينين) يثبت دعائم نظامه في موسكو، بينما كان (ويغان) يعود لفرنسا. في جنيف كانوا يحتفلون بتأسيس عصبة الأمم، وفي باريس وضعوا الحجر الأساسي لذلك المسجد الذي سيصبح فيما بعد إقطاعاً لـ (بن غبريط) الذي قام بجولة في بلدان العالم الإسلامي جامعاً الأموال الضرورية لبنائه.

وكانت تصل مقهى (بن يمينه) أخبار من أماكن أبعد. فكانت صحيفة (الشؤون العامة لقسنطسينة La Dépêché de constantine) تتحدث عن أنباء الصين. لم تكن تدرك حقيقة ما يحدث غير أن أسماء جديدة أخذت تطرق آذاننا (كانتون وشنغهاي وكومنتانغ وتشانغ كاي تشيك).

لم يكن الحديث يجري حول (ماوتسي تونغ)، إلا أن الخطر الأصفر كان حديث الساعة، وكان أكثر الأخبار حول أميركا. لم يكن بالطبع أخبار الحقوق

ص: 94

التي أراد رئيسها أن يمنحها الشعوب عقب الحرب لتقرير مصيرها، إنما هي أحاديث حول الأفلام السينمائية وموسيقا الجاز والدولار والسائح الأميركي، الذي تمكن واحد من أبناء (بيسكرا) أن يبيعه مزماراً من القصب لا يساوي قرشين بخمسة أو ستة دولارات.

لم يكن فندق (سيرتا Cirta) في قسنطينة ليخلو من أولئك السواح الأميركيين، الذين كانوا يتجهون بعد ذلك إلى الواحات الجنوبية مع ما يحملون من رزمات الدولارات، وما يظهرونه من تصرفات مستغربة.

وإذا كانت أوربا في تلك الفترة تتوق لأن تحكم بإدارة أميركية فإن باعة الجنوب الجزائري تمنوا أن تصبح الجزائر مستعمرة أميركية، ليأخذوا من أبنائها ستة دولارات ثمناً للمزمار المصنوع من القصب.

في ذلك العصر كانت تشغلني بصورة خاصة مشكلة: إنها الأب (زويمر)، ذلك الأب الأنجليكاني الذي وضع في فكري قضية جديدة؛ إنها تنصير المسلمين.

لقد عولج هذا الموضوع في كتاب لم أعد أذكر عنوانه، إلا أنه كان متداولاً بين أيدينا يثير فينا مناقشات جادة.

كان الحديث شائعاً في محيطنا عن (لافيجاري Lavigerie) الكاردينال الفرنسي الذي عاش بين سنتي 1825 و 1892، وأسس أخويّة الآباء البيض، وعن الوسائل النافعة لتنصير أطفال (بيسكرا والقبائل).

غير أن هذه المشكلة بدت أمامي بوجهها الحقيقي مع الأب (زويمر)، فقد اتخذت حلبة الصراع في ذهني أبعاداً جديدة. فهذه المرة ثمة أبطال وحلبة أخرى. أما الحلبة فإفريقيا وآسيا والبطلان المتصارعان هنا الإسلام والمسيحية.

فلو قيل لي إن (مورينو) انتصر على الأمير خالد، لما ترك هذا المعنى في نفسي أثراً كالأثر الذي يتركه قولهم لي ((انهزم الإسلام)).

ص: 95

لم أكن أعلم في ذلك الحين طبيعة موقفي إن كان صحيحاً أم خاطئاً على الصعيد السياسي، ولكنه على كل حال منبثق من ضرورات تسمو على عقلي وتفكيري، فتلك غريزة متأصلة في كياني. اليوم أدرك أن الغريزة لا تخطئ.

لقد اتخذ تفكيرنا في ذلك الحين ومع الأب (زويمر) اتجاهاً جديداً يهدف للبحث في مرامي مستقبل ذلك الصراع.

وقد أدى بنا هذا البحث لاكتشاف (ايديان E. Dinet) وهو رسام كبير بل أكبر مصوري الصحراء، غير أن واحدة من لوحاته لا تعرض في متحف اللوفر. وقد كان لهذا الرسام قلم قوي وضعه في خدمة الإسلام بعد أن اعتنقه. وجاءنا شاهد آخر من باريس حيث (غرنييه Grenier) نائب ( Jura) يثير ضجة فيها، إذ يذهب أمام قصر البوربون ليتوضأ من نهر السين ويصلي على رصيفه.

وصدى من مكان آخر تناهى إلينا، فقد سمعنا لأول مرة بالسيد أمير علي وكتاب (روح الإسلام Spirit of Islam)، هذا الكتاب الذي لم نتمكن من الحصول على نسخة واحدة منه من مكتبة النجاح إن بالعربية أو الفرنسية، باختصار كانت الجولة تجري في جو طبيعي .. فالأب (زويمر) يمكنه الانتظار

هذا ما كنا نفكر فيه في مقهى (بن يمينه).

لقد كنا ننفعل بالأحداث كما لو كنا أنفسنا فوق الحلبة، في عصر لم يكن الأدب فيه قد أوجد تلك المفردات التي تتحدث عن المالتزام والملتزمين.

ولأننا أصبحنا مرة أخرى في فترة ليالي الامتحان فعلى كل طالب في المدرسة أن يحتفظ بمنحته المدرسية. وهكذا استعادت المدرسة جمهورها، وعاد هؤلاء لوضع وريقاتهم الصفراء فوق أنوفهم، كما استعادوا الأرق والنظرات المحمومة وهيئاتهم الهزيلة المهملة وقمصانهم المجعدة وياقاتهم المتسخة.

ص: 96

أما (بوبريتي Bobreiter،) فكان ينظر إلى هذه التحولات نظرة يصعب تحديدها، فقد كنت أعرفه ساخراً دوماً. والشيخ (عبد المجيد) يرسل التهديد والوعيد، ويفجر غضبه خاصة ضد أولئك الذين لم يحفظوا ما ورد في كتاب (قطر الندى وبل الصدى)؛ وهو كتاب (قواعد اللغة العربية) المقرر لطلاب السنة الثانية. أما الشيخ (بن العابد) فكان يُعِدّ لنا تسامحه، وكان كل منا يأخذ ذلك باعتباره.

ولم يكن الشيخ (مولود) يقول شيئاً أو يتفوه بكلمة تظهر من خلالها رابطة شخصية أو عاطفية تربطه بالطالب، كان ينظر إلينا نظرة متعالية، والمدير (دورنون Dournon) يبدو أقسى، والشاوش البواب يتهكم ((هي

هي

هي)). تلك كانت إجابته مع ضحكته الساخرة يلقيها على أي سؤال يوجهه إليه طالب. وكانت هذه الإجابة تثير الرعب، إذ كان يظن بأن الشاوش على علم بنيات المدير وأنه يعاون في تدبير مؤامرات نهاية العام ضد الطلبة المساكين. وهكذا يصبح تعبيره الساخر ((هي

هي

هي)) أحجية تجعل العرق البارد يتصبب على ظهر الطالب، الذي يتلقاه ليستنتج منه جازماً أنه سيفقد منحته الدراسية.

وفي هذا الامتحان نجحت أيضاً كما نجح (حليمية). وكان ذلك بمثابة المعجزة.

أعتقد أنني إثر هذا الامتحان قررت أن أستبدل بالسروال البنطال الأوربي، لم أكن أجرؤ على ذلك في المدرسة. فالشيخ عبد المجيد والشيخ مولود يرفضان هذه الملابس الكافرة. وكان ارتداء البنطال الطويل في المدرسة يعني فقدان المنحة عن طريق سؤال في قواعد اللغة العربية يختار بعناية. ولم يكن أحد يتجرأ لتعريض نفسه لهذه المخاطرة. وبما أني مسافر لتِبِسَّة فقد تركت حل المشكلة لما بعد.

***

ص: 97

لاحت لي قمة (قرص السكر Le Pain de Sucre) في منعطف منحدر (حلوفة). وقد بدت لي المنطقة جرداء أكثر من قبل.

كنت أحب الأمسية الأولى التي أقضيها في تبسة بعد عودتي من قسنطينة، ولذّ لي كثيراً أول طعام أتناوله بعد غياب طويل مع عائلتي.

وكنت ذلك المساء مسروراً خاصة، فقد تبددت مخاوفي من البنطال ولبسه، بسرورِ أمي به. فحين رأتني قادماً إليها قالت بعد أن قبلت يدها:((حسناً فعل بخلعه ذلك السروال الثقيل الذي كان يتأرجح بين رجليه، وهو الآن أرشق)).

وشقيقتاي اللتان أصبحتا الآن متزوجتين وجّهتا نظرات تنم عن الرضى، أما جدتي فقد تلقت مني قبلة على جبينها، ثم خفضت رأسها ترقب حبات سُبحة كانت في يدها.

أما والدي فقد كنت أعرف أنه يتبنى كما هي العادة آراء أمي. لقد تحسنت صحتها دون أن يكتب لها الشفاء التام. وكان الحديث تلك الليلة طليّاً والمائدة شيقة.

وعند خروجي ذلك المساء بعد تناولنا العشاء الأول تمتعت بلقاء أصدقائي القدماء؛ ابن خالي (صالح) والخياط (شريف سنوسي) و (محمود أزميرلي) الذي كان يدير مقهى في (حمام عباس) اعتدنا أن نشرب فيه القهوة ونكسر له الفناجين لنثير حنقه.

كان ذلك جمعي في تِبِسّة، وقد وجدتهم عندما خرجت؛ وكانت الآراء حول البنطال مختلفة، غير أن صديقي صاحب المقهى أبدى وحده شيئاً من التحفظ، لقد علق قائلاً: ((هل يسمحون لك في المدرسة حيث تتلقى العلم بارتداء زي

ص: 98

كافر؟)) إنه لم يكن يستطيع أن يفرق بين نظرته إلى العلم ونظرته إلى اللباس. فبالنسبة له كان واضحاً أن الثوب يصنع الراهب.

وحينما نجتاز بوابة (سيدي سعيد) ونحن في طريقنا إلى الكاتدرائية، أو نعبر بوابة قسنطينة إذا قررنا المسير إلى (وادي الناقوس)، فإن الليل في صيف تِبِسَّة ينشر سحره الفاتن أمام أبصارنا.

وكنا نحن بصورة عامة نختار الطريق الأول في نزهاتنا، فيبعدنا ذلك عن جمهور المتنزهين الذين يؤثرون الطريق الآخر؛ فهو لعله يغري الشبان بالمرور في الحي الأوربي، لرؤية الحسناوات الأوربيات بينما المتقدمون في السن تقودهم العادة إلى سلوكه.

وحين يكون القمر بدراً يطل علينا قرصُه الأحمر في طريقنا، فيبدو بارزاً بين (بورمان) الذي يحد الأفق في الجنوب والدير الذي يحده من الشرق.

وكنا نرى أشعته الأولى تسقط على مقام الوالي المرابطي سيدي (محمد بن شريف) الناصع البياض فيحدث انعكاسات باهتة. وهذا المقام يعلو قليلاً (عين مغوطة)، وهناك في أيام السوق كان الذين يقصدون تبسة لبيع غنمهم يتوقفون قليلاً عند هذه العين يسقون منها أو يتوضؤون بمائها.

كانت الأشياء تبدو سامجة في عتمة خفيفة فتحيي صورتها ذكريات قديمة مشتركة، حينما كنا نسطو على تلك الحدائق التي بدت الآن مهملة، فشاد فيها الناس بعد ذلك بناءً وغدت اليوم حياً يعرف بحي الكاتدرائية.

وفي الكاتدرائية هناك كان يستخفنا اللعب، فنسرع إلى اللهو بين حجارتها الكبيرة لنقبض على الجرذان الخضر التي تختبئ عادة فيها، فيعرضنا ذلك أحياناً لعقص الدبابير التي كانت تكثر فيها.

ص: 99

ومع ارتفاع القمر في الأفق كانت السماء تُبذل شيئاً فشيئاً لونها حتى يبدو كأساً من الفضة تسبح تحته الطبيعة، والأشياء في جو لبني اللون ساحر ( Opaline). وفي سيرنا أو جلوسنا على حافة ندلي فيها أرجلنا كنا نتجاذب الحديث، فآخذ منه طرفه الأكبر، لأن الحياة في تِبسَّة لم تكن قد تطورت والأحداث لم تكن قد أخذت تلك السرعة والغزارة التي جاءتها بعد ذلك لسنوات عدة.

على كل حال فلقد كان الشيخ (سليمان) يتابع رسالته الإصلاحية في البلدة، بينما الشيخ (الصدوق بن خليل) والشيخ (عسول) يتنافسان على استمالة المستمعين من شباب تبسة، هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد، وحينما عاد (الشيخ العربي التبسي) من الأزهر في القاهرة، روّاد مواعظه وتوجيهاته.

أما أنا فقد كنت أقصّ على أصدقائي ما أعرفه من أخبار الشيخ (بن باديس) وأخبار (الطواطي) الذي ينتمي إلى سيدي (بن سعيد)، وكان من طلبة العلم ثم اعتنق البروتستانتية فأصبح مدير البعثة الإنجيلية في قسنطينة.

كانوا يعرفونه جميعاً، وصديقي (شريف سنوسي) الخياط يبدي كما سمع خبراً مستغرباً دهشة فيها شيء من براءة الأطفال، فكلما تحدثت عن (الطواطي) كان يقول مستغرباً: ((آه

هو الآن كافر! من كان يقول: إن ذلك الطالب الذي يحفظ ستين سورة من القرآن يصبح هكذا؟))

كنا نتحدث عن أشياء أخرى ويلذّ لي أن أتكبر على صديقي (شريف). فقد كنت أعرف أنه مولع بفتاة يهودية من تبِسَّة، ولكنه لا يتجرأ أن يقول لها كلمة واحدة. وهكذا يكتفي بالمرور مساء كل يوم تحت شرفة حبيبته موجهاً إليها نظرات خجولة حيِيَّة. ولا أظن تلك اليهودية قد بادلته النظرات، غير أنه كان يضع دائماً عواطفه ومشاعره خارج الزمان والمكان.

ص: 100

وحينما نمر أمام منزل صديقي صاحب المقهى. لا ينسى أن يأخذ منه الجرن والمدقة (الهاون)، فنجلس في ضوء القمر الذي كان يضفي على الكاتدرائية جواً شاعرياً رائعاً.

بين تلك الحجارة التي تعود لألفي سنة مضت كنا نقضي الوقت بسحق السكر مع فستق العبيد أو (الزغولي) والصنوبر، وهي حبوب زيتية يستخرجها حطابو تبسة من ثمار شجر الصنوبر ويبيعونها في المدينة لزيادة مداخيلهم الهزيلة. تلك التسليات البريئة كانت تدخل البهجة في قلوبنا كما لو كنا أطفالاً.

في تلك الفترة كان صاحب مقهى جزائري يقع في حي البلدية، قد أدخل تجديداً على مقهاه باستيراده أسطوانة مصرية. وكان هذا يحدث لأول مرة في الجزائر.

والواقع أن الأسطوانة المصرية سوف تلعب فيما بعد دوراً بارزاً في تطور البلاد الفني والسياسي.

وكان الفضل في إدخال ذلك العنصر على الحياة الجزائرية يعود لتبسة. ففي قسنطينة كان الناس لا يزالون مع (المالوف malouf)(1) ، أما في مدينة الجزائر فلم يكن هناك شيء محدد من الموسيقا

وقد هزت أول أسطوانة مصرية أسمعها كياني بأنغام القانون الذي سمعته لأول مرة بكلمات وصوت سلامة حجازي.

كانت تلك مرحلة بطولية تمكنت فيها هذه الألحان الجديدة من أن تعيد للموسيقا العربية في نفوسنا مكانتها، فتثأر لنا من موسيقا الجاز وسيطرتها. خاصة أن ظهور تلك الموسيقا في المدينة كان من آثاره أن أصبح شاب يهودي يأخذ في المدينة مكان الأب (كابولا Capolla) ، على كشك ساحة (كارنو Carnot) الموسيقي في حفلة ليلة الرابع عشر من تموز (يوليو).

(1) نوع من الموشحات التقليدية الجزائرية ((ترجمة قنواتي)).

ص: 101

وفي الوقت الذي كان فيه الذوق الأوربي (يتأمرك) أخذ ذوقنا نحن الجزائريين (يتمصَّر)، ولعل من ميزات ذلك الزمن أن الأسطوانة المصرية لم تكن قد بدأت بعد في خلق المشاكل أمام الإدارة المستعمرة.

وميزة أخرى في ذلك العصر كانت طواف السيارات في المدينة. لقد عفّى الزمن على تلك السيارة الطويلة المكشوفة ( Corpédo) من إنتاج مؤسسة ( Buriali)، التي كانت تجمع وراءها حشداً من الأولاد وكنت أحدهم، والتي كان صاحبها يتجول فيها أحياناً ولكن دون أن يضع على عينيه النظارات الكبيرة التي تغطي نصف وجهه، والرداء المصنوع من جلد الماعز الذي يعطيه شكلاً ضخماً.

لقد عفّى الزمن على تلك السيارات وأضحى الَان اسم (سيتروين) يشغل بأحرف منيرة أعلى برج إيفل في باريس، وأخذت تؤمن الاتصال بين تبسة والمناطق المحيطة شاحنات صغيرة من إنتاج (سيتروين) ومن (طراز ب 12). أما العربات التي كانت تتولى نقل البضائع من المدينة إلى أسواق الشريعة والقلعة والجرداء فلم يعد لها وجود. ذلك أن أصحابها قد انسحبوا من ميدان النقل وخلوا مكانهم لأصحاب السيارات من إنتاج (سيتروين) و (رينو) أيضاً.

وقد تولى السلطة في الوحدة المختلطة ( La commune misete) حاكم إداري جديد. فقد رغبت الإدارة في تعيين رجل يهتم بشؤون الحكم. إن (ريجاس Reygasse) كان رجل علم أكثر منه رجل إدارة. وقد استدعي إلى جامعة الجزائر ليشغل فيها كرسي مادة (ما قبل التاريخ) وقد أثارت تعابيره الفنية يوماً جدلاً صحافياً لأن تعبير ( Libyco) اختلط مع ( Bicot).

ذلك عصر جديد قد بدأ. وفي الفسحات الداخلية لدور تبسة، كثيراً ما كانت النساء يتوقفن عن صنع الكسكوسي أو عجين الخبز أو غسل الغسيل لينظرن إلى أعلى، يتابعن طائرة تمر فوق المنازل بينما الأطفال يأخذون في الصياح. ((الطيارة

الطيارة

الطيارة .. !))

ص: 102

كان السباق في تبسة ذا شهرة كبيرة في منطقة قسنطينة بفضل الخيول الأصيلة التي كانت في المنطقة. وفي يوم السباق بالذات يتجمع حول بوابة قسنطينة عدد كبير من الخيول ذات الدماء النقية، وجمع من مختلف القبائل على تلك الأرض التي كانت تستعمل أثناء الحرب العالمية ساحة للمناورات. فهناك كثيراً ما كنا خلال الحرب العالمية الأولى نرى أثناء ذهابنا إلى المدرسة جنود الرماة يتدربون على القتال قبل إرسالهم إلى جبهة (فردان).

وهناك تعرفت لأول مرة إلى المدفع الرشاش الذي كان يقذف كالغاضب الحانق لهيباً صغيراً، واحداً تلو الآخر بقدر ما في المشط المتصل به من قذائف.

كان موعد السباق يأتي عقب انتهاء الناس من الحصاد والدرس في الحقول. وقليلاً ما كان يتهيأ لي أن أشاهد هذا المهرجان لأنه بمثابة إنذار بقرب انتهاء العطلة الصيفية.

ما زالت أمي مريضة ولكنها كانت تحقق بعض التحسن بفضل وصفات الدكتور (فيكاريلا Figarella) وبركات (الشيخ سليمان). وأحيانا كان خالي (أحمد الشاوش) يعتني بها سراً. إذ كانوا يحرصون على أن يخفوا عن الدكتور (فيكاريلا Figarella) أمر طبيب من أهل البلاد مجبِّر يعتني بها في الوقت نفسه. وحين كان الطبيب يقابل وهو في طريقه إلى غرفة أمي خالي أحمد المجبِّر كان يبادره قائلاً: ((ماذا أنت تفعل هنا؟)).

وكانت أمي توضح له بسرعة أنه قادم لزيارتها فقط. لقد أصبحت الآن جيدة بفضل ما قدمه لها كل من الطب والبركة والتجبير.

ومرة أخرى أيضاً صباح يوم من الأيام الأخيرة في شهر أيلول (سبتمبر) تولت شقيقتي الكبرى صب (ماء العودة) بين قدمي عند عتبة دارنا.

***

ص: 103

في قسنطينة كان (بن يمينة) الابن قد أدخل المزيد من التغييرات في مقهاه. فقد امتدت الطاولات الجديدة على الرصيف كله، بل اجتاحت الرصيف المقابل في (الشارع الوطني National) وأوجدت هكذا اتساعاً لرصيفها هناك على حافة (وادي الرمل).

لقد أصبح المقهى الجزائري الأول في المدينة، فأضحى مثالاً تحتذي به باقي المقاهي التي أخذت تنزع حصرها من الأرض لتستبدل بها الكراسي والطاولات الحديثة، مجبرة زبائنها القدماء على الانكفاء نحو مقاهٍ متخلّفة، يجدون فيها بغيتهم من الدومينو والبصاق تحت الحصر.

لقد كان ذلك بداية لمرحلة من التغيرات النفسية والاجتماعية التي ستسمى فيما بعد (النهضة).

(بوكاميه) أدخل أيضاً على حانوته بعض التحسينات بفضل الأموال التي تدخله عن طريق طلبة (المدرسة)، فقد انخفضت كمية الشحوم التي كانت تغطي المقاعد والقدور. والمأكولات المقلية أو المسلوقة التي كان يعرضها للزبائن على طاولة موضوعة أمام باب الحانوت، دون أن يكون فوقها ما يحميها من الذباب والغبار، أصبحت الآن تحفظ داخل غطاء من الشريط المعدني الأحمر ذي القرشين للمتر، والذي كان يغطي (الدف) الأسمر الممتلئ بقطع الكبد وكلب البحر المعروضة للزبائن.

(بوكاميه) نفسه اتخذ مظهراً أفضل. لقد تحضر قليلاً فلم يعد يُرى لابساً ذلك القميص الذي كان أكثر تشحّماً من (طناجره)، فهو اليوم بعد ساعات العمل أعني بعد الانتهاء من ذلك النسق من المدرسيين، نراه مرتدياً برنصه

ص: 104

يتجاذب الحديث مع صديقه الحميم الشاوش (بواب المدرسة) وهي صداقة وثقتها المصلحة.

ويمكن ملاحظة هذه الصداقة قبل ابتداء العطل، فالشاوش عميمي يكون نوعاً ما مساعداً لـ (بوكاميه). وعشية توزيع المنح كنا نرى الرجلين يتحادثان أمام باب المدرسة أو أمام الحانوت، وربما كان الحديث حول الطلبة الذين يتأخرون عن تسديد ما عليهم لـ (بوكاميه). وطلبة المدرسة من هذه الناحية يشكلون في كل مكان طبقة من الزبائن غير مأمونين.

فالذي يدفع نقداً ثمن طعامه لا يسبب معضلة. أما الطالب الذي يريد أن يدفع في نهاية الشهر فهناك مشكلة مهمة. (بوكاميه) رجل أمي ولذا فالزبون هو الذي يتولى تسجيل ما عليه في دفتره، والطالب يستطيع أن يسجل بأمانة وصدق أو أن يعمد إلى القسمة فيختزل قسماً مما عليه.

وليس هذا كل شيء، فبعد عملية الاختزال يستطيع أن يفكر بما عليه من مصاريف أخرى؛ ربطة عنق أو قميص أو رداء أو حذاء.

وكان (بوكاميه) تقريباً على ثقة من أن زبائنه لن يسددوا حساب الشهر الأخير من السنة الدراسية، ولذا فقد شعر بحاجة للمساعدة. وليس هناك من يساعده أكثر من الشاوش الذي يمسك بزمام المنح المدرسية ولأنه يتولى توزيعها في نهاية الشهر. من هنا كان لنا أن نتفهم أسس الصداقة التي تربط الرجلين:(بوكاميه والشاوش).

في هذه السنة ظهرت صحيفة جديدة باللغة العربية. لقد عاد الشيخ (الطيب العقبي) من الشرق حيث كان يدير في مكة صحيفة (أم القرى)، التي كانت هناك العنصر الوحيد للصحافة في المملكة العربية، كما كان الزورق الذي أعطي للملك حسين في نهاية الحرب هو أسطوله كله. لقد جاء يؤسس هنا مع (السيد اللمودي) في مدينة (بيسكرا) صحيفة (صدى الصحراء).

ص: 105

وقد ضمت هذه الصحيفة صوتها إلى صوت جريدة (الشهاب)، ليس هذا فقط بل كانت تطبع على تلك المطبعة الصغيرة التي كان يتولى إدارتها (بوشنال) والواقعة في شارع (بن شريف).

وقد كنت أرافق قديماً المرحوم جدي حين كان يذهب ليلعب الداما مع بعض أصدقائه. ذلك الشارع الذي يضم في طرفٍ مقهى بن يمينة وفي طرفٍ آخر مطبعة الشهاب، ويتوسطه مكتب الشيخ (بن باديس)، قد أضحى للمدينة شارع الفكر فيها كما كان لها شوارع أخرى للتجارة.

لقد أخذ يكثر في ذلك الشارع مرور أولئك الذين يرتدون ملابس بيضاء، وعلى رؤوسهم عمامة ذات طرف مرخى إلى الوراء يشير إلى أن صاحبها من أنصار (الحركة الإصلاحية)، في محيط لم تكن فيه تلك الحركة قد أصبح لها عقيدتها المحددة وتنظيماتها.

وكان يُرى قوم منهم يأتون من الداخل كما يأتي التجار إلى سوق المدينة ليحملوا إلى مراكزهم بضاعة تموينهم. فكانت هذه العمائم البيضاء تأتي إلى شارع (بن شريف) لتمون الداخل بالأفكار الجديدة.

هذه الأفكار المتداولة في شارع (بن شريف) كانت كمنشار يقوم بعملية تقسيم غامض لطبقات هذا الوسط، وقد كان قبل منسجماً موحَّداً في الجزائر.

كان هذا التقسيم يحدث في الأشخاص والأفكار مرة واحدة. فكثير من المعتقدات الباطلة والأوهام التي تعبر عن جهل بالعالم بدأت تُحتَضَر. فالجهل عادة يحمل احتراماً وثنياً لكل ما هو مكتوب. والجزائر بقابليتها للاستعمار وبالاستعمار كان لديها اعتقاد بخرافة الورقة المكتوبة، فقيمتها السحرية لا تمارسها فقط في النساء العجائز اللواتي يضعن لأطفالهن (حروزاً) يقينهم بها من العين الشريرة،

ص: 106

بل إنها تمارس قيمتها السحرية أيضاً في ذلك الوسط الذي تكوّن في الزوايا الصوفية، إذ تستعمل فيه حجة لا جواب عليها في المناقشات.

((إنه كتبي)) يقولها واحد للتأكيد إذا آنس في وجه مستمعه بعض الشك. ((إنه كتبي))، أي إنه في (كتاب)، يقولها وهكذا يسقط الشك وتنحني الرؤوس أمام الحجة الدامغة.

لقد فقد الفكر النقاد الذي توقف بتلك الكلمة السحرية كل حقل. وقد ظل متوقفاً بهذه الطريقة خلال أجيال. أما الآن فقد بدأ (الكتبي) يفقد سلطانه الساحر في العقول، ويفقد شيئاً فشيئاً أنصاره. والانقسام الذي مارس عمله في الأفكار بدأ في الواقع آلياً يمارسه في عالم الأشخاص.

لقد بدأت الآن عناصر جديدة تختلط مع الطلبة المدرسيين وتلاميذ الشيخ (بن باديس) في مقهى (بن يمينة)، وبذلك تتبلور الأفكار التي نسميها اليوم تقدمية. وكل ذلك يحدث يإسهام أولئك المواطنين العاديين من سائر طبقات المدينة الذين يأتون ليأخذوا حصتهم من الجدال والمناقشة. وواحد من الوجوه التي أضيفت إلى هذه الصورة كان حقاً فاتناً.

الشيخ (محمد طاهر العنيزي) كان قد غادر قديماً الجزائر مع والده سيدي (حمدان) أحد الوجوه الجميلة للعالم التقليدي، ويحتمل أنه عاصر الشيخ (عبد القادر المجاوي) والشيخ (بن مهنا) في قسنطينة. وربما كان هذا الشيخ المحترم ذا يد في تلك الاضطرابات التي سادت فترة من الزمن في منطقة (سيرتا) القديمة، فقد بذر فيها هؤلاء العلماء في نهاية القرن الماضي تلك الأفكار التي- إن جاز التعبير- نسميها (الإصلاح المحلي). ولعل المسنين من رجال قسنطينة يذكرون أي الوسائل استعملتها الإدارة الفرنسية لاستعادة سلطتها ولإعادة النظام والقانون.

ص: 107

لقد ترك سيدي (حمدان) الجزائر وذهب إلى المدينة المنورة ورافقه في هجرته هذه الشيخ (محمد طاهر العنيزي) وقد كان فتياً آنذاك.

وهناك قام والد الفتى بتدريس الحديث تحت قبة مسجد الرسول ثم مات. أما ابنه الذي لم يستطع التكيف مع عادات تلك البلاد، فقد قفل راجعاً إلى الجزائر تصحبه والدته العجوز في الفترة التي نتحدث عنها الآن.

ولكنه هنا في قسنطينة لم يستطع الاندماج في العادات والتقاليد، فكان يفاجئ الناس بلباسه الغريب ومواقفه وتصرفاته.

وغدت هذه الشخصية الطريفة من زبائن مقهى (بن يمينة). فكان يتحدث بلهجة البدوي القادم من الجزيرة العربية. لقد كانت ثقافته عربية ويضع على رأسه بصورة دائمة الكوفية والعقال، ولذلك كله أضحى مقبولاً في وسطنا.

لقد كانت هذه الغرابة لا تأتلف مطلقاً مع تلك الخصائص التي تتوافر لتلك الشخصية الثائرة على بعض الانحرافات، والتي سميت فيما بعد (العالم الإصلاحي).

لقد كان ثائراً على كل شيء، ولم أره يوماً يمدح أحداً أو شيئاً من الأشياء، كان ينتقد الناس جميعاً والأشياء كلها. وكان ذلك نوعه، ولم يكن هذا النوع يثير مشكلة في مجتمع لم يتمكن بعد من تكوين عقيدة له خاصة، لذا فقد وضع كثيراً من القضايا موضع بحث وتدقيق، إنما هو لم يوفق في بعض الأحيان للوصول بنهاية تفكيره إلى نتائج اجتماعية حاسمة.

هكذا كان نسق ثورته، يضع قشاً على الجمرة المشتعلة في النفوس التي تلتقي في مقهى (بن يمينة)، وفصاحته العربية كانت تمارس تأثيرها في العقول التي تفكر أو تتكلم الفرنسية.

ص: 108

أما حكاياته ومغامراته- وهي في غالبها من نتاج مخيلته، إذ كنت في ذلك العصر أعرف حبه للخرافات- فقد كان يقصها علينا فتجد لدينا آذاناً صاغية.

بل كنا ندفع عنه ثمن القهوة لنسمعه يتحدث كما يتحدث. وفي زيارة لمكتبة (النجاح) وقد اعتدنا أن نتردد من آنٍ لآخر نتعرف على ما جدّ من نتاج الأدب العربي، تعرفنا على شخصية لا تقل غرابة وقد لعبت أيضاً بطريقة لا شعورية دوراً مؤلِّفاً لأفكارنا واندفاعها في اتجاه معين.

إنه (يونس البحري) وكان آنذاك شاباً بين العشرين والثلاثين. ولم نكن نعلم كيف وصل من بغداد وحل في مدينتنا ضيفاً على عمي إسماعيل وتعرفنا عليه.

لقد شرح لنا مدير مكتبة النجاح بطريقة غامضة حكاية ضيفه الذي وصل من مكان غير معروف عبر طنجة. وكان يظهر مرتدياً الجلابية المغربية، وقد أثار وجوده في قسنطينة انتباه المسؤولين عن الأمن والنظام. فاستشعروا (خطراً) وراء ذلك اللباس المغربي.

ولكن ذلك العصر لم يكن بعد العصر الذي بات فيه من الضروري مراقبة الأشخاص الذين تفوح منهم رائحة الخطر، فكان إذن على (يونس البحري) أن يكون له كفيل من أبناء البلد.

تقدم عمي إسماعيل من السلطات ليكون مسؤولاً عن (يونس البحري)، وهكذا أُخِذ إلى مطبعته ذلك الشخص (غير المرغوب فيه) فسنحت لنا فرصة التعرف عليه.

حين عرفناه لم يكن يرتدي الجلابية، بل كان قد تخلى عنها وتزيّا بالزي الحديث، الطربوش وربطة العنق والبنطال. وكان بناؤه الرياضي يعطيه مظهراً جميلاً بالإضافة إلى أنه يملك ناصية اللغة العربية. وقد جعلت له هذه

ص: 109

الملكة تأثيراً عميقاً في جماهير شمالي إفريقيا، حين أخذ يتحدث إليها من مذياع برلين أثناء الحرب العالمية الثانية، بعدما وضع نفسه في خدمة دوائر الدعاية الألمانية التي كان يشرف عليها (غوبلز).

إذن كان الرجل يملك ما تتعطش إليه تلك العقول المجتمعة في مقهى (بن يمينة)، الباحثة عن الجديد سواء كان في السياسة أو الأدب أو الأخبار العادية.

وكانت لديه أقاصيصه الشخصية، وسواء كانت صحيحة أم مُخْتَلَقة فقد داعبت أحلامنا. وكان يبدو لي خاصة أحد الرحالة أو الباحثين عن الآفاق الجديدة. وحينما حدثني عن رحلته إلى أستراليا وهي في الغالب خيالية فتح لنزعتي إلى التنقل والتشرد بعداً جديداً.

وفي المدرسة منذ عودتي من تبسة واجهت مشكلة ملابسي الجديدة، فلم يكن الشيخ (عبد المجيد) يسمح لي بحضور دروسه مرتدياً البنطال. وأعتقد أنه قد ينبهني إلى ذلك بالفعل، أما الشيخ (مولود) فإن نظرته القاسية إليه كانت تفصح عن رأيه حول هذا الموضوع. ولما كانت علاقتي بالمدير (دورنون) سيئة، فقد فضلت ألا أحمل على كاهلي أعداء جدداً. ولذا فقد أخذت أدخل قاعات الدرس مرتدياً سروال صديقي (عبد الحميد نسيب) الطالب الذي كان في السنة الثانية في ذلك الوقت، وعماد الحركة الرياضية في (المدرسة)، وعزاء الأستاذ (بوبريتي Bobreiter).

لقد كانت رفقة صديقي نسيب مغرقة في تخلّفها. فهي تضم على ما أظن أكثر النفوس قذارة وكسلاً والذين لم تنتج المدرسة مثلهم من قبل. ولم يكن واحد منهم يرتاد مقهى بن يمينة. وحبهم للدومينو والتحلق في دوائر يتحدثون فيها اضطرهم لارتياد المقاهي التي لا تزال تحافظ على الحصر والوجاق. كانت لأحدهم على ما أذكر ميزة تميزه: ((الضحك بلا سبب)).

ص: 110

وكانت لهم جميعاً خاصة واحدة هي: أنهم لا يفعلون شيئاً. لقد كانوا سواء في الوسط المدرسي، يختلطون برفاق السوء من شارع (ايشيل Echelle)، وحينما كان الأستاذ (بوبريتي Bobreiter) يدخل إليهم ليلقي دروسه في تلك الفرقة التي اختارتها الصدفة لتمثل العدم، لم يكن يجد أمامه من يستحق اسم (طالب) غير (عبد الحميد نسيب).

وفيما يتعلق بالمدينة كنت أذهب نادراً إلى خالتي (بهية). فقد تابعت المأساة القسنطينية فصولها. فلم يعد التحدث عن العيسوية إلا قليلاً. وحينما يتاح لي المرور أمام الزاوية المغلقة كان شيء ما يعصر قلبي.

ففي الطور الذي يحدث فيه التغيير يصبح فيه الإنسان متناقضاً. فهو من جهة يهدم الماضي بيديه ومن جهة أخرى يستشعر في ذاته ضغط ذلك الماضي وأتره. ولست أدري إنما كان ذلك صحيحاً أم لا، إنما على كل حال كان هذا هو الوضع بالنسبة لي.

في مقهى بن يمينة شعرت في الواقع بالانقسام الايديولوجي، الذي أوجد انطلاقاً من باب المدرسة أو من باب المقهى، حدوداً أخلاقية فاصلة بين أولئك الذين كانوا يعملون في البحث عن طريق أفضل، وأولئك الذين لا يزالون مدمنين على قراءة (ألف ليلة وليلة).

ولكن في شوارع قسنطينة بدأت أستشعر ذلك الانقسام الاقتصادي الذي بدأ تأثيره منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. فالنظام الاجتماعي القديم بدأ يتفسخ بوضوح؛ وفي ساحة سوق العصر بين أكوام الملابس الرخيصة الثمن تكونت طبقة بورجوازية جيدة.

أما البورجوارية القديمة فكانت تعرض آخر ما تبقى لديها، من مجوهرات وحلي للبيع كما واجهتها مصاريف طارئة لمرض أو حادث غير مرتقب.

ص: 111

وأعمال يهود قسنطينة بدت في ازدهار كبير يدر عليهم الذهب في تلك الظروف المضطربة، فكانوا يقرضون الأموال بفوائد تصل إلى 50% أو 60% سنوياً، وكثيراً ما كان (سيدي المسلم) يوقع على بياض السندات والأوراق التي يقدمها تجار شارع فرنسا.

وفي الفترة بين عامي 1920 و 1925 تمت في تلك الحوانيت تصفية ما تبقى من ثروات لدى عائلات قسنطينة العريقة في بورجوازيتها. وفي تلك الحوانيت أيضاً كان الفلاحون يتخلون عن آخر قطعة من أراضيهم في مقاطعة (سطيف) أو (قالما) أو (عنابة). والطريقة كانت واحدة، إنها التوقيع على سندات بيضاء.

وهذه الإجراءات فرضت حصاراً مخيفاً حول ملكية الجزائريين أبناء البلاد. وقد أصبحت حوانيت اليهود عبارة عن واسطة لانتقال الملكية من أيدي الجزائريين إلى أيدي المعمرين، وكان ذلك سهلاً؛ فالبورجوازي من أجل أن يقيم حفلة زواج، والفلاح من أجل أن يشتري سيارة (سيترون) ليأتي بها ويقضي سهرة في شارع (ايشيل Echelle) في قسنطينة كان بحاجة للمال. واليهودي كان مستعداً دائماً ليقرضه بفائدة 60%، والفائدة المتجمعة بهذه النسبة تنقل آلياً بعد عام أو عامين ملكيتهم من أيديهم إلى أيدي المعمرين.

(وسيدي المسلم) لا يحسب الفائدة مطلقاً، عندما يقدم له الدائن اليهودي الشاي والنعناع أو قهوة تركية جيدة الصنع، في الساعة التي يحين فيها توقيع السندات. ولم يكن ليدرك حقيقة ما فعل إلا حين يطرق حاجب المحكمة بابه.

الانقسام الاقتصادي تابع هكذا سيره بتأثير مزدوج. فمن ناحية حَوَّل الملكية من أيدي الجرائريين إلى أيدي اليهود والأوربيين، ومن ناحية أخرى فقد نقلها من أيدٍ بورجوازية توارثت الثروة والجاه إلى أيدٍ بورجوازية أثْرَت من تعاطي التجارة. ذلك كله من وجهة نظرية لا يترجم سائر المأساة الإنسانية لتلك الفترة.

ص: 112

كنت أشعر بالمأساة في كل مرة أذهب فيها لزيارة خالتي بهية، فأرى خالي (علاوة) جالساً بقربها كولد صغير أو بتعبير أصح كصورة للبؤس البشري.

وكنت أحسّ بالمأساة بصورة قوية في تِبِسَّة أيضاً وخاصة في زيارتي الأخيرة في عطلة الصيف، حينما رأيت آخر واحد من عائلة (بن شريف) العريقة - وهي تحمل الاسم نفسه لعائلة شريفة أخرى في قسنطينة- يغادر دار العائلة القديم في ساحة (الكنيسة)، ليستأجر غرفة صغيرة في حي المسلخ القذر، يطل بابها على الشارع فيتخد قسماً منها لتعليم القرآن لأطفال الحي وآخر لسكنه. أما دار العائلة عائلة (بن شريف) المهجورة المهدمة فكانت تحكي للمارة ببابها المغلق نهائياً مأساة أمةٍ وبلد. وكان هذا الشعور يزايلني أيضاً حين أمر أمام الدور التي كانت تقطنها في الماضي الفروع المختلفة لعائلة الشاوش العريقة في شارع (بريزون Prison).

في ذلك العام وقع حادث صغير، إلا أن نتائجه على تفكيري كانت كبيرة للغاية. ففي مكتبة المدرسة كان (دورنون Dournon) يتولى إعارة الكتب للطلبة؛ وقد استعرت يوماً كتاب ابن خلدون في ترجمة فرنسية قام بها (سلفستر ساسي) و (مروج الذهب للمسعودي) في ترجمة فرنسية لم أعد أذكر صاحبها.

وكانت إعارة الكتب تحدث مرة في الأسبوع. وفي إحدى المرات وضعت الصدف بين يدي كتاباً للفيلسوف الفرنسي (كونديلا Condillae) الذي عاش في القرن الثامن عشر والذي يمكن أن يعد إلى حد ما أستاذاً لمدرسة علم النفس الفرنسية.

وقد أسرني هذا الكتاب على الرغم من ضخامته وصعوبة فهمه بالقياس إلى طالب مثلي.

لم أعد في فترات الاستراحة التي تتخلل الدروس أفكر في تلك الرحلات الخيالية إلى تمبوكتو، كما لم أعد أجد لذة في رسم رأس الشيخ (بن العابد) أثناء

ص: 113

إلقاء محاضراته، فقد أسرني الكتاب فقضيت الوقت كله حتى موعد الذهاب إلى مطعم (بوكاميه) في قراءته.

وفي بعض الأحيان كان يصاحبني إلى غرفة النوم، فأقرأ مع (شريف زرعين) قاضي تبسة الحالي بعض فصوله، أما (صالح حليمية) فكان منصرفاً عن ذلك كله إلى شراهته أو معالجة أمعائه. و (عبد الحميد نسيب) استأثرت به كرة القدم، وقد كان وباؤها منتشراً في الجزائر في الوقت الذي انتشرت فيه النزلة الوافدة الإسبانية.

لقد تسبب لي ذلك الوباء بكثير من المشاكل مع المدير الفرنسي، الذي كان يريدني بأي تمن أن أشارك الآخرين من الطلبة لعبهم في الوقت المخصص للرياضة. وكنت شخصياً أفضل مطالعاتي الخاصة على ذلك. ولذا أصبح كتاب (كونديلا Condillae) رفيقي حتى على الوسادة.

هل هذه هي الفلسفة؟ أعني توجيه الفكر من معطيات فكرة إلى أخرى مستنتجة. ومهما يكن من أمر فقد اعتاد فكري هذه الرياضة كما نعتاد رياضة كرة المضرب.

لست أدري أي كسب علمي حصلت عليه مع (كونديلا Condillae)، إنما هذا الكتاب وضع عقلي وأفكاري وفضولي أو بالأحرى ثقافتي باتجاه محدد.

منذ ذلك الحين لم أعد أتردد على مكتبة النجاح باحثاً عن الجديد في الأدب العربي. فقد كان في الشارع الصغير الممتد من ساحة (الثلمة) إلى الساحة الصغيرة مقابل دار المحافظة مكتبة فرنسية صغيرة. وقد أثار دهشتي أن صاحبها الفرنسي لم يكن متعالياً ساخراً من ذلك الجزائري (ابن البلد indigène) الذي اجتاز عتبته.

وقد وقفت مبهوراً ذات يوم أمام رفوفه، حينما اكتشفت (جون ديوي

ص: 114

John Dewey) الذي كان كتابه الكبير (كيف نفكر) قد ظهرت ترجمته الفرنسية.

كنت أعرف أن أميركا لديها (دوجلاس فيربانك) و ( Cow-boys رعاة البقر) والجاز والدولار، ولكني لم أكن أعلم من ثقافتها سوى أديسون. فـ (جون ديوي) كان إذن بالنسبة لي كشفاً أكثر منه عنواناً.

بالطبع كنت أحافط على الاتصال بوسطي، بالمدرسة ومقهى بن يمينة، كنت أقرأ دائماً صحيفة (الإنسانية L’Humanité) و (النضال الاجتماعي Lutte social) و (الإقدام، والراية، وأوجين يونغ، والأخبار الأدبية) وغير ذلك من الصحف الأخرى. كنت دائماً وَطَنيّ النزعة. ومع صديقي (شوات) لم أكن بعد قد اتخذت قراراً باختيار المسكن الذي سوف أقيم فيه عند رحيل الفرنسيين؛ فقد ترددت بين شقة تطل نوافذها على ذلك المجتمع المنتخب في شارع (كارامان Caraman) والذي لم أكن أجرؤ على الاحتكاك به، وبين دارة أنيقة كتلك التي كان يبنيها في إحدى الضواحي السكنية (فراندو Ferrando). وهذا الرجل الأوربي كان يسيطر على تجارة الخردة في أنحاء مقاطعة قسنطينة.

باختصار كان هؤلاء الأشخاص جميعاً يعملون على تحديد شخصيتي في ذلك العصر. يونس البحري ومحمد طاهر العنيزي وبوكاميه وبن يمينة وكاندياك وجون ديوي.

لقد كانت الحياة تتابع نسيجها من حولنا وفي داخلنا بخيوط من كل نوع ومن كل لون، من الابتسامات ومن الزفرات.

لقد بدأت السنة الدراسية تقترب من الامتحان مرة أخرى، والقلق على المنحة الدراسيه اقتحم من جديد كل طالب. وكما أنه ليس لأحد أن يتخلى عن غريزة البقاء، كذلك لم يكن أحد في المدرسة حتى من بين زملاء (عبد الحميد نسيب) ليشذ عن قاعدة السعي للمحافظة على المنحة الدراسية.

ص: 115

وحتى أولئك الذين يعتمدون في امتحاناتهم على الغش والنقل، فقد كان عليهم أن يعملوا بجدية لتحضير أنفسهم لأيام الامتحان الصعبة. فكان على هؤلاء إذن قبل كل شيء أن يحلوا مشكلتهم الأساسية. هل يدخلون معهم إلى قاعة الامتحان كتاباً يستعينون به في النقل، أم يحضرون نسخاً مكتوبة عن الدروس والمحاضرات.

وفي فرقة عبد الحميد نسيب كانت هناك مناقشة خاصة حول هذا الموضوع. فالذين تبنوا النظرية الأولى أخذوا يدرسون أفضل الوسائل لوضع الكتاب على ركبهم، وتحديد كيفية إيصال النور إلى الكتاب عبر فتحة القميص (قندورة).

أما أنصار الحل الثاني فقد أخذوا يدرسون إمكانية كل موضوع يطرح في الامتحان. ولذلك فرضوا على أنفسهم إمكانية فقدانهم المنحة الدراسية إذا لم يكن السؤال من بين المواضيع المختارة.

لقد عادت كلمة الشاوش (هي

هي

هي) تمارس أثرها في أعصاب الجميع. وذات صباح قرأ (دورنون) أسماء الطلبة في باحة المدرسة أمام ذلك الجمع المتصبب عرقاً من عناء الليلة الأخيره من ليالي المذاكرة.

وفي أيام الامتحانات هذه كانت تصدر عني حركات وتصرفات أذكر أنني قمت بها في امتحانات السنوات السابقة. لقد كنت أرى بشكل غامض أن لهذه الحركات قوة سحرية. وقد تكون غالباً أموراً تافهة، فمثلاً لقد غسلت قميصاً من قبل في ذلك الوقت، وإذا بي هذا العام أعود لأفعل ذلك في اللحظة ذاتها تقريباً وبالحركات نفسها. لقد كان المهم الحصول على هذه الفكرة المؤملة.

وفي السنة الماضية فعلت مثل هذا ونجحت وتلك الأفكار الصبيانية كانت توجهني دون شك بمعزل عن سيطرة قواي العقلية.

ص: 116

ومرة أخرى نتيجة مزورة للامتحان علقت على باب المنامة. فقد كان هناك طالب يقلد بعناية توقيع (دورنون). وفي ذلك العام، وبعد أن أفقد الآخرين منحتهم بتزويره من أجل التسلية، فقد منحته حقاً حينما ظهرت النتيجة الرسمية.

لقد استعاد مقهى بن يمينة نشاطه بعد ظهور النتائج، أما الطلبة فقد تفرغ قسم منهم لشراء حاجياته من الملبس استعداداً للعطلة الصيفية، بينما الآخرون استعادوا نشاطهم ومناقشتهم التي أوقفتها الامتحانات، أما صراع خالد ومورينو فقد تابع فصوله.

لقد بدأ القوم يتحدثون عن الأمير عبد الكريم وانتصاره الساحق على الجنرال (سلفستر) في مليلية.

أما في ألمانيا فقد تسلم السلطة أو ربما سُلِّم إياها الماريشال (هندنبرغ)، واستدعي (بوانكاريه) في فرنسا من عزلته ليعالج الوضع الاقتصادي المخيف في البلاد.

وفي إيطاليا كانت الجماهير تصفق (للدوتشي) وهو يسير نحو روما. لقد نشر في فرنسا (رومان رولاند) كتابه (الهند الفتية) وبدأ اسم غاندي ينتشر في العالم.

في هذا الوقت كان صديقي صالح حليمية يصر على صانع الأحذية أن يصنع لحذائه أعلى كعب ممكن، استعداداً للعطلة الصيفية. فقد كانت عقدة قصر قامته تشغله كما تشغله أمعاؤه المريضة دوماً بسبب الشراهة، فأخذ يعالجها باستعمال حشيشة (ست الحسن)(1) وقد وصفها له الدكتور موسلي الذي كان يتولى تدريسنا علم الصحة في المدرسة.

(1) ست الحسن Belladon من فصيلة الباذنجان (قاموس المنهل).

ص: 117

رجوعي إلى تبِسَّة كان كسابقه لم يحمل الجديد. وعلى طول الطريق كان يترجرج بنا (أوتوبيس) مهلهل عتيق. لم يكن يقال له ( Car)، فالتأمرك في المنطقة لم يفرض بعد هذه الكلمة. وأراضي المعمرين من (الخروب) حتى (مسكيانا) تستعرض أمام أنظارنا امتدادها الأخضر الأشقر أو القاتم طيلة النهار. فالمزارع التي تستغل هذه الأراضي تحدد لنا معالم السير، بتجمعها الضخم تارة تأوي إلى واد ينخفض عن الطريق، أو تُنِيفُ علينا ربوة تجثم عليها تلك المزارع تارة أخرى.

وقد رأيت على مسافة قريبة من (الخروب) تلك المزرعة الكبيرة التي أقيمت مبانيها على جانبي الطريق؛ والقطيع من الأبقار الذي يُمدّ محلات الألبان الكبيرة في قسنطينة بالحليب ومشتقاته، يجتاز الطريق أمام سيارتنا، ولعله كان ينتقل من البناء الذي تتم فيه عملية الاحتلاب إلى حيث يقوم الاصطبل. وكانت مطالعاتي حول الاستعمار الأبيض في كندا وغرب الولايات المتحدة قد زرعت في نفسي حب المغامرات، التي تتيح لرجل أن يصنع تاريخاً صغيراً على بقعة من الأرض تمنحها له الطبيعة، أو يستولي عليها من مالك قديم لا يعرف ولا يقدر على الاحتفاظ بها.

كانت هذه المشاهد تعيد لخاطري حكايات سمعتها في طفولتي من أفراد العائلة، فتثير ذكريات مؤلمة عن ماضٍ زائل. فجدي كان يملك كما قيل لي في طفولتي مساحات واسعة في مقاطعة قسنطينة.

كنت أريد أن تكون لي أرضي ومزرعتي وأبقاري وأغنامي، وأن أشم رائحة الاصطبل والزرائب. ذلك هو الحلم الذي داعب مخيلتي في تلك الفترة من حياتي. وإذا كانت أرض الجزائر ترفض أن تحقق لي أمنياتي فدون ذلك تمبوكتو وأوستراليا أذهب إليهما.

ص: 118

وكثيراً ما كانت أراضي المعمرين الفرنسيين تحملني على التساؤل: ((أين هي أرض أجدادي؟)).

والواقع أن صحيفة (الإقدام) للأمير خالد و (الراية) لدندن قد أوجدتا في ذهني حساسية خاصة نحو هذا النوع من المشكلات.

وعلى حافتي الطريق كنا نصادف من آن لآخر جزائرياً يسوق أمامه حماره، ذاهباً على الأرجح إلى كوخه. وكنت أدرك بشيء من الغموض كيف يعمل هذا المعمر الفرنسي على محو تاريخ هذا الرجل عن الأرض ليصنع عليها تاريخه.

بعد أن اجتزنا منحدرات (حلوفة) بدت أمامي سهول تِبِسَّة قفراء أكثر من قبل. وعندما لاح من بعيد (قرص السكر) لاح عارياً بصخور بيضاء كلسية بفضل شمس تمور.

والرجل الذي كان يسير هنا مع حماره على حافة الطريق بدا لي أكثر انسجاماً مع الجو المحيط به. فتحت تلك السماء يتابع فصول تاريخه إنما لا يصنع تاريخ الآخرين.

واليوم أدرك كيف أن منطقة السهول المرتفعة قد حافظت في ضمير السكان عبر قرن من الاستعمار، على تلك الشعلة التي لم تمت كما ماتت في سكان شقيقتها منطقة التل، الذين أضحوا أكثر ألفةً وإيناساً، فشكلوا بذلك جرءاً من آلة الاستعمار.

وهنا نجد انقساماً تاريخياً يبدو للعيان: جنوب الجزائر وشمالها (زناتة) و (صنهاجة).

فمنذ القرطاجيين كانت كل مقاومة تُطِلُّ من الجنوب. ولعل غنى التربة يبدو عبر التاريخ مصاحباً للضعف في الخلال الحسنة.

ص: 119

وأخيراً وضعني (الأوتوبيس) في محطة شركة النقل للدخان، وفي المكان نفسه الذي كان الناس يركبون منه عربة البريد قبل عشر سنوات.

عند أعلى درج الدار كانت أمي تنتظرني لتفاجئني واقفة على عكازين استُحضرا لها من مدينة الجرائر. منظر جميل من الماضي عاد إلَيَّ. أمي تقف على قدميها.

لقد أظهر أبي اغتباطه بوصولي. أما جدتي فقد رفعت عينيها عن سُبحتها لترحب بي، وتبتسم ابتسامة خاصة بالمسنين الذين يصعب التعبير بشيء معين على وجوههم. وعلى كل فلا أذكر أني رأيتها يوماً تضحك أو تبكي في مناسبة ما. ولم أرها مضطربة إلا يوم وفاة ابنها خالي (يونس). وقد تحول عشاء تلك الليلة إلى عيد عائلي صغير شاركتنا فيه شقيقتاي وأولاد أختي الكبرى وزوجها. أما الصغرى فإن زوجها لم يحاول أبداً أن يجعل نفسه من أفراد العائلة.

وعند الانتهاء خرج والدي كعادته للقاء أصدقائه. سي (بغدادي) كان أول رجل من أبناء تِبِسَّة يضع الطربوش على رأسه، ويرتدي القميص ذا الياقة المقواة، في وقت كانت فيه حُمّى الحماسة لتركيا تسيطر على الجزائر منذ أيام (عباس بن حمانة).

سي (الحبيب) حارس المقبرة كان متخصصاً في السخرية والضحك، ويختار ضحاياه خاصة من رجال الصوفي والجريدي الذين كانوا يؤمون سوق المدينة في ذلك الفصل من السنة.

الخباز سي (بلقاسم) لم يكن لديه ما يمتاز به إلى جانب مهنته. هؤلاء كانوا أصدقاء والدي وجلاسه.

وخرجت أنا بعدُ للقاء رفاقي. إن سحر ليالي الصيف في تِبِسَّة ينتظر الجميع عند باب قسنطينة أو باب كراكلا.

ص: 120

وكان لتبسة أنماطها وهي وجوه ترسخت في لوحتها الإنسانية.

ففي ساحة القصبة حيث تمتد المقاهي الأوربية المكشوفة، يمكن في تلك الساعة مقابلة (جمعة) منهمكاً ينادي بصوت مرتفع ليبيع رئيس البلدية. و (جمعة) هذا من (القَبِيل) رمته تقلبات الأحوال خلال الحرب العالمية الأولى بين سنتي 1914 - 1918 في شوارع تبسة، فقد كان في النهار يبيع الملابس القديمة وينادي عليها، وفي الليل وبعد أن يخرج من حانة رجل يدعى (فاسلو Vassalo) يتردد عليها سكارى المدينة، يعود إلى ممارسة مهنته فينادي:((من يشتري رئيس البلدية بعشرة فرنكات)

كان رئيس البلدية (بلفيسي Belvisi) يبتسم لذلك. وإذا شاء سوء طالع جمعة أن يقابل في طريقه (أنطونيني Antonini) رئيس الشرطة العجوز، فإن عليه أن يقضي تلك الليلة يداعب قضبان سجن الشرطة ليستأنف صراخه في الصباح، غير أن الذي كان يشغل الشرطي العجوز أكثر من ذلك سكير آخر يدعى (بنيني) ليس له مأوى أو دار.

فما إن ينتهي الرجل من عمله اليومي بوصفه حمالاً حتى يذهب إلى حانة (فاسلو Vassalo)، وحين يخرج يجد (أنطونيني) بانتظاره ليقبض عليه ويلقي به وراء القضبان حيث أصبح سكنه المعتاد.

وقد اعتاد أبناء تبسة على هذا المشهد اعتياداً، جعلهم يجدون صعوبة في الإجابة إذا سئلوا إذا كان (أنطونيني) و (بنيني) صديقين، أم أنهما شخصان تجمع أحدهما بالآخر ظروف أو عمل.

وكان هناك (بيريلا Birella) المستخدم في حانوت (عميمي إسماعيل) في الشريعة. فحين كان يأتي إلى تبسة يقصد مباشرة حانوت صديقه شَوَّاء اللحم

ص: 121

(الأفندي). وقد سمي كذلك لأنه قضى عدة سنوات في القاهرة، وهناك اعتاد لبس الطربوش ووضع ياقة مقواة كما فعل سي (بغدادي).

وحينما كان يخرج من ذلك الحانوت يخرج مخموراً، ويسير بمحاذاة حائط الثكنة الواقعة عند ساحة كارنو ليحادث الملائكة. أما صديقه (الأفندي) فيغلق في ذلك الوقت حانوته، ويذهب إلى المقهى الواقع في ساحة البلدية، ليطرح على زبائنه هذا السؤال الفلسفي الدائم الذي ربما حمله معه من القاهرة:

((هل العادة أغلب أم الطبيعة؟))

وكان من عادته أن يتبنى دوماً الرأي المعاكس للجواب الذي يتلقاه على سؤاله. هكذا يكون لتبسة وجهها يتكامل مع سيدي (طاهر حما) الذي كان معلماً، وهو اليوم يقضي نهاره متجولاً في شوارع المدينة يحادث الملائكة ويوزع سجائره على الأولاد، وكنت من المستفيدين من عطاياه، وأحياناً يسدد إلى هؤلاء ضربات محكمة بقدمه. ونضيف إلى هؤلاء سيدي (بن نجا) الذي كان يرتدي ملابس رعاة الإبل من سكان جنوب وهران، واعتاد الناس أن يستفزّوه ويطلقوا لسانه باختطاف عصاه.

وبانتهاء الحرب العالمية الأولى استعادت المدينة بعض الرماة المُسرَّحين، وقد عادوا من الخدمة الإجبارية العسكرية.

وقد حمل (باهي) معه من الجيش هواية الضرب على الطبل، بينما زميله (صدوق شتوكا) حمل عادة ارتداء ثياب الميدان مع منظار عُلِّق بحمالة من الجلد.

وحمل الاثنان معهما حكاياتها الكثيرة- الصحيح منها والخيالي- عن فرقهم في الجيش، وفي الاستعراضات التي تجري في المدينة بمناسبة الرابع عشر من تموز (يوليو) كان الاثنان يعيدان أنفسهما للخدمة، فيجوبان شوارع المدينة،

ص: 122

وأحدهما (صدوق شتوكا) يتصرف وكأنه ذاهب على رأس فرقته لإلقاء حصار ما، و (باهي) يضرب طبله بقوة كأنما هو أصم لا يسمع.

وكان (صدوق) قد حصل على مركز قائد

فكان يزعج السكان بتصرفاته الغريبة إذ كان يعاملهم كأنما هم جنود رماة في فرقته.

أما (باهي) فكان يرضي هوايته في الزاوية القادرية حيث نال شهرة بوصفه أمهر ضارب، إلا أن الطريقة القادرية في تبسة كمثيلتها العيسوية في قسنطينة كانت في طور انحطاطها في ذلك العصر. فالتجديد قد بدأ يعم البلاد عملياً حتى قبل أن تذكر كلمة (الإصلاح)، ولذا فبحكم التطور لم يعد (باهي) عمل في (القادرية) كما لم يعد له عمل في الجيش بحكم انتهاء الجيش فأضحى هكذا في الاستيداع.

لقد قرر فتح مقهى فازدهر بفضل حكاياته وحكايات زميله (صدوق شتوكا) وثالث كان يستدعى في حفلات الزواج لأنه بارع في شؤون المطبخ، وأضحى المقهى المفضل أو بعبارة أصح النادي الليلي لشبيبة تبسة، إذ يتاح لهم إلى جانب هؤلاء سماع الأسطوانات المصرية. وكنا نقضي أنا وصالح وإزميرلي وصديقنا صاحب المقهى في حمام عباس، بقية سهرنا إذا عدنا من نزهتنا المعتادة خارج أسوار المدينة القديمة.

وهناك كانت حكايات (صدوق شتوكا) الذي كان يترك قريته ويأتي إلى المقهى ليقصها علينا فتثير فينا الضحك العاصف.

وكنت أنا قد عدت ذلك الصيف متعطشاً لسماع الأسطوانات المصرية، إذ كان في نفسي شغف خاص لسماعها حين فشلت في جعل رفاقي في مقهى بن يمينة في قسنطينة يشاركونني تذوقها، وقد استنكف صاحب المقهى عن إدخال هذا النوع من الأغاني.

ص: 123

ففي مقهى (باهي) كنت أروي تعطشي إذن لسماع تلك الأغاني، في وقت ينصرف فيه رفاقي لسماع حكايات صاحب المقهى، وكنت أستغرق في سماعها، فقد سيطرت علي أغاني أم كلثوم التي كانت قد بدأت بالانتشار.

في ذلك الوقت على الأرجح عاد الشيخ (العربي التبسي) من القاهرة، ليضيف إلى علماء تبسة الذين يفاخرون بدراستهم الأزهرية عالماً آخر.

فحتى ذلك الزمن لم يكن هناك من أبناء الجيل الذي تنتمي إليه والدتي غير عالم واحد، يمكنه أن يفاخر بالانتماء إلى الجامعة الإسلامية الكبرى، إنه الشيخ (مصطفى بن كحولة).

ولكن علم الأزهر قد أفقده شيئاً من عقله، وحين عرفته- وكنت لا أزال ولداً ضغيراً- كنت أراه صباح كل جمعة يتنقل أمام أبواب دور المدينة يقرأ سورة من القرآن تارة، ويطلق السباب والشتائم تارة أخرى على الأطفال الذين كانوا يتحلقون حوله.

ولكن قانوناً يبدو خاصاً بالعالم الإسلامي- يعود لأسباب عميقة لا ينبغي شرحها هنا- يجعل الوحدة إذا أضيفت لعدد لا تزيد قوته وإنما تنقص منها.

وقد أدى وصولي (العربي التبسي) إلى مثل هذه النتيجة. هكذا رأينا في المدينة فريقين: فريق يتبع الشيخ سليمان وآخر الشيخ العربي. أما الشيخ (عسول) والشيخ (الصدوق بن خليل) فقد فضّلا ترك حلبة الصراع للاهتمام بأعمالهما الخاصة.

إذن كان في تبسة في ذلك العصر خلاف واسع في الرأي. وقد شاءت عائلتي أن تحتفظ ببركة الشيخ سليمان وتستفيد من علم الشيخ العربي التبسي، نظراً لما للعلوم الأزهرية في نظر الناس من قيمة تاريخية قديمة.

ص: 124

أما أنا فقد وقفت ببساطة إلى جانب الشيخ (الصدوق بن خليل)، الذي كان رجلاً بسيطاً يهتم فقط بالعمل على كسب العيش عن طريق ممارسته فن كتابة الخطوط الجميلة. وكان يعمل في كتابة الإعلانات والإشارات العربية. ولكنه لم يلبث أن تدهور عمله في هذا المجال، فلم يعد في المدينة سوى مصنعين أو ثلاثة للدخان يكتب لها الإشارات التي تلصق عادة على التبغ. وهكذا اتجه إلى مورد جديد للرزق، إذ أخذ يكتب الحروز للفتيات الأوربيات اللواتي يقعن في متاعب عاطفية، فيبادر لنجدتهن بالعلم لكي يوفق بينهن وبين (فينوس).

وفي ظني أنه كتب حرزاً لصديقي (شريف سنوسي) الخياط الذي كان مولهاً بحب فتاته اليهودية.

ومن ناحية أخرى كان خروجي إلى المدينة على العموم في المساء. وكنت أقضي النهمار كله في المطالعة والحديث مع أمي. وقد قضيت العطلة بعيداً عن ذلك الضجيج السائد في المدينة مهتماً بقراءة صحيفة (العصر الجديد). وقد قرأت أيضاً الأجزاء الضخمة الثلاثة أو الأربعة من كتاب (تاريخ الإنسانية الاجتماعي) الذي كان والدي قد أضافه مؤخراً إلى مكتبته الصغيرة.

كانت حياة المدينة تسير في طريقها العادي. وبتنا نرى (المحفل) يتناقص ظهوره شيئاً فشيئاً. ومدام (دوننسان) لم تعد ترى أمام محلها في شارع قسنطينة مواكب المغنيات من النساء وراء الدابة التي تحمل العروس، فيترك مرورهن رائحة العنبر الجميلة. فالنساء يضعن في أعناقهن عقوداً تتألف من حبات أُدخِل في تركيبها العنبر والمسك، فكان ذلك يعطي المجتمع النسائي الجزائري رائحة خاصة مميزة.

وحتى مواكب الجنازات أضحت في أغلب الأحيان صامتة. فلم يعد الناس ينشدون قصيدة البردة وراء نعش الميت. لقد أضحت تصرفات الناس لهذه الجهة ترتبط بموقفين عقائديين من جهة ومن جهة أخرى برجلين.

ص: 125

فالعائلات التي تجري احتفالات زواجها ومواكب دفن موتاها وفق الطريقة القديمة، تبدو صواباً أو خطأ وكأنها من أنصار الشيخ (سليمان). أما العائلات التي تتبع العادات الجديدة في تلك المناسبات فهذه تعد من مؤيدي الشيخ (العربي).

لقد بدأ الناس يأخذون بشكل غامض منحى العودة إلى تلك الطريقة الصحيحة التي يمثلها الشيخ، والتي سيطلق عليها فيما بعد اسم (الإصلاح) أو (السلفية).

أما الشيخ سليمان فقد كان مرناً يوفق بين تلك الطريقة الصحيحة والعادات السائدة لكنه مع ذلك يمارس عليها تأثيراً مصححاً.

وذات صباح تركت تبسة غارقة في اضطرابها الفكري وتلقيت مرة أخرى على رجلي (ماء العودة).

في قسنطينة عدت للاتصال بالحقيقة الجزائرية عن طريق وجهها الآخر أعني المواجهة الأقسى للنظام الاستعماري.

فالجالية الأوربية المتزايدة يوماً بعد يوم، وزينة الناس وملابسهم ومظهر الشوارع الرئيسية وثكنة القصبة وأولى عربات (التروللي باس)، هذه كلها مظاهر تطبع في النفس الوجود الاستعماري.

ومن ناحية أخرى فقد تركت فيّ النفس التبسية ألماً أورثه إياها امتياز بمنح سبعة آلاف هكتار في (دوار المريج)، أي نصف مساحة الدوار لرجل أوربي، بالإضافة إلى حق في الري يستنزف ثلاثة أرباع احتياطي المياه. فقد كان هذا الأوربي صهر صاحب متجر ( Bazar de globe) الذي يمتاز بشهرة كبرى في قسنطينة.

ص: 126

وفي مدينة (سيرتا) القديمة ظهر الوجود الاستعماري ظهوراً أعنف مما كان في تبسة.

وفي مقهى بن يمينة كان الناس يعلقون على آخر مراحل الصراع بين خالد ومورينو، وهو حوار بلغ ذروته في جريدة (الجهوري Le Républicain) التي أخذت تنكر على خالد لقب الإمارة.

أما الحديث في صحيفة (الشؤون العامة لقسنطينة Depêche de Constantine) فقد كان يجري الحوار بصورة مكشوفة حول حرب الريف، وأضحى اسم الأمير عبد الكريم يشار إليه بوضوح.

والشرطة الفرنسية بدأت تزعج أولئك الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في الطريق، من حلوى الفطير المقلي الذي يسمونه (الخفاف) أو (الاسفنج)، في ساعة مبكرة من الصباح ينادون عليه بصوت تقليدي:((يا كريم)). وبدأت الإدارة تستنفر الفرسان من قبائل العرب للتجنيد.

لقد أصبحت هذه الحرب الحديث الرئيسي في مقهى بن يمينة. وغدا الناس يرون في منامهم أحداثاً ومشاهد فيفسرونها بما يتلاءم مع نهاية ظافرة للأمير عبد الكريم.

لقد كانت لي أحلامي أيضاً. وكنت أفسرها وفقاً لرمز خاص يمكن لي أن أنسبه إلى تربيتي البيتية الدينية. وكان تفسيرها في غير صالح (الريفيين).

ولكن الحلم ما كان له أن يغير الحقيقة في ناظري، فـ (الريفيون) كانوا أسوداً يكافحون وحشاً يفترسنا جميعاً. وبطولة (الريفيين) كانت تثار لشعب لا يستطيع أن يثار لنفسه.

وبعد عام من انتهاء تلك الحرب كتب أحد الصحفيين الأمريكيين معلقاً

ص: 127

على النتيجة: ((لقد خرجت فرنسا منتصرة إلا أن المجد الحقيقي بقي في الريف)). وفي الصحافة العالمية كان الحديث باستمرار حول الجمهورية الريفية. وكان ذلك يثير حنق وغضب مؤيدي أسرة (لويس بيرتران Louis Bertrant) في فرنسا وفي ( Navarre) وخاصة في الجزائر.

على كل حال فأحداث الريف كانت تملأ نفوسنا في مقهى بن يمينة. وتثير فينا مشاعر يأخذ بي عنفها.

كانت صحيفة (الإنسانية L’Humanité) بالنسبة لي المهدّئ الوحيد، إذ كان (كاشان وفايان كوتورييه Cachin et Vaillant Couturier) يصبان فيها دائماً هجومهما ولعناتهما التي تخفف عن نفسي.

وبدأت فكرة غير واضحة في ذهني وذهن صديقي (شوات) إذ كان شريكي في هذه الانفعالات؛ الفكرة هي المالتحاق بصفوف (الريفيين). وهكذا بدأنا نرسم الخطط لاجتياز الحدود عبر الشمال من وهران، إلا أن مشاريعنا كانت تفشل لسبب أو لآخر.

إني لا أعلم إذا كان للاستعمار طالع في برج السماء، إلا أني أعلم أنه في تلك السنة 1924 - 1925 كنا نعيش في ظل طالع الاستعمار.

لقد زعزعت حرب الريف مواقف حديدية في فرساي 1919. فقد أثبت الأمير عبد الكريم أن امبراطورية استعمارية يمكن النيل منها. لذا كان لابد من رأب الصدع المعنوي الذي أحدثه (الأمير الريفي) مع حفنة من الرجال في هيبة الأمم الاستعمارية. لقد فكر بذلك السياسيون في باريس وربما في لندن أيضاً.

كانت هناك الجولة الصفراء والجولة السوداء. وكلا الجولتين خرجتا من باريس: واحدة نحو طهران بغية الوصول إلى شنغهاي عبر آسيا، والثانية نحو الجزائر وصولاً إلى الكاب أي عبر إفريقيا بأكملها.

ص: 128

أعتقد أن مؤسسة (سيتروين Citroëne) هي التي نظمت كلتا الرحلتين. لكنه من الواضح أن الدولة الفرنسية كانت وراءها، لأن الأمر يتعلق بأن تثبت لأولئك الأقزام والمثيري الشغب من أهل الشمال الأفريقي أن إفريقيا وآسيا في قبضتها.

ثم كانت هناك زاوية استطلاعية ورياضية معاً في تلك المغامرات الآلية ذات المدى الطويل.

فللمرة الأولى أخضعت السيارة لتجربة المسافة الموحشة التي لم تطرقها من قبل طريق معبدة منظمة. (الرحلة السوداء) استحوذت على اهتمامي، اهتمام يثيره في نفسي بدون شك الحنين إلى الصحراء ونداء تمبوكتو. لكن سروري قد شابه شيء من الامتعاض. إذ أصبحت أشعر وأفكر على طريقتين: أمام ناظري حدث رياضي خارق يدعو للإعجاب لكنه هو أيضاً حدث استعماري. وإذ فهمت دلالته هذه فقد أفسد عليّ سوري وإعجابي به.

في تلك الفترة بدأ فكري ينشغل بالمستقبل، فسائر المدرسيين الذين يبلغون السنة الرابعة لا يفكرون بغير ذلك. ((ما العمل بعد التخرج من المدرسة؟)) لدي فرصة أن أكون عدلاً وترجماناً مساعداً وشاوش محام، وبشيء من (الواسطة) ربما كنت موظفاً في الإدارة المختلطة.

لكنني ما كنت أملك أن أذهب لقضاء سنتين في قسم (التعليم العالي) فهناك سببان يجعلانني لا أطمع في ذلك:

فقد كان عملي من أجل المقررات دون الوسط دائماً وكانت منازعاتي مع (دورنون Dournon) فوق الوسط دائماً: فأنا أقرأ صحيفة (الإنسانية L’Humanité) وألبس البنطال، ولا أشارك في (التمارين)، الاسم الذي كان يطلق على ساعة الرياضة الأسبوعية.

ص: 129

آه لو أني أصبح مزارعاً! ولكن أين الأرض؟ إنها لا تُعطى إلا للمستعمر. تمبوكتو؟

أوستراليا؟ إنهما خارج طاقتي بالتأكليد.

تاجر؟

أفتح مخزناً صغيراً في قرية الشريعة؟

إنه أفق مقبول.

كنت أدور حول تلك الأسئلة التي يطرحها علي مستقبلي. ولم أكن أجد ما يصرفني عن هذا الذي يثقل رأسي سوى مقهى بن يمينة.

كان شارع (بن شريف) يزداد حركة وحيوية. الذين يرتدون الملابس البيضاء ويضعون على رؤوسهم عمة ذات طرف يتدلى على الظهر إشارة لعالم الإصلاح، كانوا يمرون إلى مكتب إدارة (الشهاب) الصغير أو مطبعة (صدى الصحراء) التي أطلق فيها الشيخ العقبي عبارة أصبحت شعار الإصلاح، إنها آية قرآنية تتصل بمهمة النبي {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود 11/ 87].

كان منظر الشيخ (بن باديس) عند مروره أمام مقهى بن يمينة في طريقه إلى مكتبه قد بدأ يثير اهتمامنا. فكثير من أفكارنا وآرائنا تتصل بشخصيته أكثر من اتصالها بالشيخ (بن موهوب) الذي كان أول من زرعها في نفوسنا. وربما كان ذلك لأن الشيخ بن باديس قد بدا في ناظرينا خارج الإطار الاستعماري. فقد قطع صلته بعائلته وخاصة والده وهو تاجر كبير وبشقيقه المحامي وزوجه البورجوازية المترفة، هكذا بدا لنا أقرب إلى نفوسنا.

في تلك الفترة التي كنت أفكر فيها بتمبوكتو وأوستراليا أو مخزن في قرية الشريعة، كنت أفكر أيضاً بتأليف كتاب تحت عنوان (الكتاب المنفي) لماذا هذا العنوان وماذا سيكون محتوى الكتاب؟ ..

تلك أسئلة تحرجني لو أن أحداً سألنيها. ولكن الفكرة استهوتني فأخذت أتحدث مع بعض زملائي من المدرسيين كالأخوين (مشاي) القلماويين، وكان

ص: 130

يلذ لي أن أحدثهما عن جولاتي الفكرية لأنهما ينصتان إليّ بجدية يظهران معها كأنهما حديثا العهد بديانة ويستمعان لمرشد هام فيها.

وكانت الفكرة تجعلني أكثر استلطافاً للشيخ بن باديس الذي يمثل بنظري الرجل المنفي بسبب وضعه العائلي. فكانت نظراتي تتبعه بعطف وحنان كلما مر أمام مقهى بن يمينة أو توقف في الشارع ليحادث أحد المارة، فهذا الرجل الأنيق المرفه ذو المنبت الصنهاجي كان يحسن معاملة الناس. وكثيراً ما يوقف أحد معارفه ليستطلعه أخبار قريب له مريض أو مسافر.

لقد كانت لديه إنسانية الشيخ سليمان ونظرات الشيخ العربي القاسية. فكانت الأولى تحدُّ من تطرف الثانية في نفسه، وهكذا بات أقرب للنفوس وأبلغ فعالية من معاصريه التبسيين.

لم أكن حتى ذلك الحين قد جالسته في حديث. وإذا عدت إلى أعماق نفسي ففي ذلك العصر كان في نظري لا يمثل الإصلاح، إنما يمثله الشيخ العقبي.

ولم أعترف بخطئي حول هذه النقطة إلا بعد ربع قرن من الزمان. حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع. حينئذ تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة وفي تنشئة غير كافية في الروح الإسلامي.

فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة، التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها. أما الخطأ في حكمي فمرده على ما أعتقد أثر البيئة التبسية في نفسي. فتبسة بسبب حياتها الخشنة منحتني نوعاً من التعالي على كل شكل من الحياة المرفهة.

وكنت أعتقد أنني أكون أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وَسَط متحضر.

ص: 131

وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري بدوياً بينما يبدو الشيخ بن باديس بلدياً. وحين بدأت فيما بعد معركة (الإصلاح) وكنت أحد المشتركين فيها، بقيت أحمل في أعماقي شيئاً من التحفظ تجاه بن باديس وبعض الأسى لكون الشيخ العقبي لا يقود تلك الحركة ولا يرأس جمعية العلماء.

وقد دارت مناقشات طويلة حول هذه النقطة بيني وبين صديقي (محمد بن سعيد) فيما بعد حينما التقيت به في باريس 1931.

ولم أبدأ بالتعرف على خطئي هذا إلا عام 1939، وفي عام 1947 وصلت إلى الاعتراف الكامل بهذا الخطأ، وقد فهمت لماذا كان الشرع الإسلامي يفضل تقديم ابن المدينة ليؤم الصلاة على ابن القبيلة.

وفي عام 1925 كانت أطلق شتائمي ضد جميع (البلديين) في العالم كلما حدث تأخر بسيط في صدور صحيفة (صدى الصحراء)، وكانت هذه الشتائم تصيب بالطبع الشيخ بن باديس.

على كل فالحياة في قسنطينة منعتنا من أن نجمد على موضوع واحد. فإن كل يوم كان يحمل معه عنصراً جديداً يصرف تفكيرنا نحو اهتمامات أخرى أو قلق جديد.

حتى الملاكمة التي جرت بين (دمبسي وكاربنتيه Dampsey - Carpentier) والتي كانت الأولى على ما أعتقد ولفتت أنظار العالم كله، قد شدت إليها أنظارنا في مقهى بن يمينة. وكانت عواطف المدرسيين متجهة منذ البدء نحو الأميركي (دمبسي)، وما كنت أعطي القضية أي اهتمام رياضي، ولكنها أثارت اهتهامي من الزاوية السياسية. فانهزام (كاربنتيه) يحمل شيئاً من تواضع المستعمِر. وكان هذا على ما أعتقد ما جعلني أتمنى انتصار خصمه عليه.

وهناك حدثان آخران جاءا يزيدان أثرهما الخاص في الغليان الذي ساد

ص: 132

وسطنا. ففي يوم دخل علينا مقهى بن يمينة برفقة طالبين، شاب أخضر العينين رقيق المظهر أنيق الملبس، ينبئ عن عائلة فرنسية كريمة المحتد.

وأعتقد أنه كان حاسر الرأس يرد إلى الوراء شعراً أشقر متموجاً ناعماً وجبهة عريضة لا تَغَضُّن فيها. لقد قدم إلينا محباً للإسلام غير جازم فيه إذ ما يزال يبحث عن حقيقته.

لقد نسيت اسمه إنما هو من عائلة فرنسية بورجوازية في قسنطينة، فقد كان والده يتمتع بمركز ممتاز في عالم الأعمال.

لقد سرد علينا قصته، كان رجل إدارة في إفريقيا الفرنسية الغربية، تزوج امرأة مسلمة من الزنوج خلال (المرحلة السوداء la croisière noir). ويمكن لنا أن نفهم ماذا تشكل مبادرة كهذه في أعين زملاء صديقنا ورؤسائه، فاعتزله قومه. ولم يجرؤ على أن يحمل معه إلى أهله زوجه الزنجية والطفل الذي أنجبه منها.

لكنه حمل إليها موضوعاً مقلقاً أخطر. فالمرأة الزنجية وضعته دون أن تقصد على طريق دينها، لقد عاد إلى قسنطينة؛ وإذا لم يكن قد اعتنق الإسلام فإنه على الأقل قد ابتعد أكثر عن معتقدات عائلته.

هذه القصة شدتني إلى هذا الرجل، لأن فكرة الأب (زويمر) لم تغادر بعد ذهني. فقد أثبتت عبث الجهود التي تهدف إلى تعرية إفريقيا من الإسلام. فهذه إفريقيا قد أدخلت في الإسلام أولئك الذين اقتحموا أرضها.

لكن شيئاً من ذلك قرّبني من ذلك المؤمن الجديد حينما امتزج في وَسَطنا، لقد وجدت فيه حليفاً كان يؤيد طروحاتي العملية، في ذلك الوسط الذي كان يعتريه شيء من عدم الجدوى حيال النتائج التي يريدها، إذ لم يكن يحدد الأسباب التي تؤدي إليها. إنني أذكر مناقشة مع بعض الطلبة شارك فيها تلك الليلة.

ص: 133

كنا على رصيف (الشارع الوطني National)، وقد حاولت عبر صورة ما تحديد فكرة الفعالية التي تبدو لي حتى الآن تنقص العالم الإسلامي، وفي فورة من الحماسة قلت:((إذا كنا في هذه اللحظة قررنا الصعود إلى القمر، فإن علينا فوراً أن نضع على هذا الحائط سلماً ونبدأ في التسلق)). وأيدني صديقي فوراً: ((نعم! هذا ما يجب أن يُعْمَل)).

ربما أو على الأصح من المؤكد أنني لم أفهم كل ما تعنيه هذه الملاحظة في ذلك الوقت، لكنني اليوم أعرف أنها صدرت من رجل ذي حضارة.

لم يبق هذا الرجل بيننا في قسنطينة إلا الوقت الكافي لتوضيح ما كان يعتمل في عميق نفسه ثم اعتنق الإسلام. ومنذ ذلك الوقت سيطرت عليه فكرة: كان يريد التوجه إلى الشرق. ولست أدري من رتّب له مقابلة مع الشيخ بن باديس كي يحمله توصية إلى الشيخ (رشيد رضا) في القاهرة.

منذ ذلك التاريخ لم يترك هذا الصديق ما ينبئ عن وجوده على قيد الحياة. وأنا نفسي بعد ثلاثين عاماً لم أعثر له على أثر في القاهرة.

هناك حدث آخر ترك بصماته في وسطنا خلال تلك الفترة، ليس في جانبه الأدبي والفكري بل لأنه حمل لبعض منا فرصة تبنّي موقف مقاومة.

فذات يوم استضاف عمي إسماعيل مدير صحيفة (النجاح)(توفيق المدني) المُبْعَد من تونس. بعدما منع نشاط الحزب الدستوري ونفي رئيسه الشيخ (الثعالبي). كان أكثر أعوان هذا الأخير من أصل جزائري كـ (عبد الرحمن اليعلاوي) و (توفيق المدني). وهكذا اتجه الثعالبي نحو (عنّابة) حيث كانت طريقة (بن عليوة) مزدهرة فيها، فسلك الطريق وأضحى على ما أعتقد أحد شيوخها. أما توفيق المدني فقد توجه إلى الجزائر وتوقف في طريقه عند عمي إسماعيل، في قسنطينة حيث تعرفنا عليه.

ص: 134

من الطبيعي أن يكون التعرف على رجل منفي يعني التعرف على قصته، وعلى البوليس الذي كانت له أعين.

لست أذكر قصته جيداً لكنني أذكر أنني وصديقي (شوات) واثنين من المدرسيين رافقناه إلى المحطة ليستقل القطار إلى الجزائر.

على الرصيف كان الأمن، كما يقولون في ذلك الزمان، وقد راقبنا وسجل أسماء أولئك الذين جاؤوا لتوديع ذلك المنفي.

في تلك الفترة كانت الأمور تجري بكل براءة، حتى البوليس كانت له براءته. وأحد رجال البوليس سأل عمي إسماعيل عن أسمائنا وسجلها في مفكرته أمام أبصارنا.

أذكر أنني قفلت من المحطة بعد أن غادرت القطار فخوراً بما صنعت وحالماً بكتابي (الكتاب المنفي Le livre proscrit).

لكن سائر الأحداث التي عشناها مع رفاقي في المدرسة، لم تكن قادرة على أن تحل مشكلتنا الرئيسية:((ماذا نفعل بعد التخرج من المدرسة؟)).

كل منا فكر في حل لهذه المشكلة المقلقة عدا (صالح حليمية) على ما أعتقد، فقد كانت لديه مناعة ضد ذلك الوسواس لما يشغله من أوجاع معدته وقامته القصيرة.

فهذه سنتنا الدراسية إذن بدأت تتخذ منعطف الامتحانات المضجر، والقضية أضحت أكثر إلحاحاً بالنسبة لي، فقد واجهتها بحلول عديدة. فكرت بالهرب إلى (الريف) مع (شوات)، بل ما هو أسوأ أن أنسف مستودع البارود في قسنطينة دون أن أعلم من أين يمكن التسلل إليه.

ص: 135

ومع حليمية كنت أتهيأ لأعمل مساعد مترجم في تبسة، دون أن نأخذ باعتبارنا بأن طلبينا سوف يبطل أحدهما مفعول الآخر.

ومع (قاواو) فكرنا بالسفر إلى فرنسا، بعد أن سبقنا إليها في السنة الماضية ثلاثة مدرسيين (شوات ترزي) و (ماريمش) و (أكتوف)، وقد نجحوا في المالتحاق بوظائف كتابية في مختلف المؤسسات التجارية في باريس.

إنه ذلك العصر الذي كانت فيه الغانيات الباريسيات يرددن هذه الأغنية: ((باريس شقراء)((باريس ملكة الكون)). وينبغي القول إن كثيراً من الشبان الجزائريين كانوا يتنهدون خلف تلك الشقراء، التي كان القناص (باهي) وصديقه (صدوق شتوكا) يرويان عنها أشياء تبرم رأس الشاب التبسي.

وأخيراً وبيني وبين نفسي كنت أتطلع إلى مشاريع أخرى، (تمبوكتو) أسرتني دائماً. آه حبذا أوستراليا، آه حبذا مزرعة غنم وبقر قرب (الخروب)، بل حتى مخزن في قرية (الشريعة) يصبح مع الزمن مخزناً كبيراً كمخزن عمي إسماعيل، يمكن لي أن أستخدم فيه (بيريلا) لأستمع إلى أقاصيصه.

هذا الشريط مع فصوله كان يتردد في فكري في أيامي الأخيرة في المدرسة. ولكن سآخذ بالانتظار فإن المثل يقول: ((ما في يدنا أفضل مما نجري وراءه)) فقد نشرت صحيفة (الشؤون العامة لقسنطينة La Dépêché de Constantine) عرضاً لعمل صغير في نادي (ورقلة العسكري).

فكرت بأن (ورقلة) هذه تقع على طريق تمبكتو، لذا قدمت طلبي مرفَقاً به الصور المطلوبة. الامتحان حلّ قبل أن يأتيني الجواب. وكان يجب أن أنجح فيه، بصورة أو بأخرى، لأن (دورنون Doumon) ليس لديه أية نية لإبقائي سنة إضافية.

وحينما أعلنت النتائج استولى على نفسي حزن غامض. كنت دائماً

ص: 136

متناقضاً، وأستطيع منذ تلك الفترة أن أُعَرَّفَ بنفسي ثورياً من الوجهة السياسية محافظاً من الوجهة النفسية. وفي كل مرة كان الماضي ينتقم من الضربات التي أكيلها له. فثوري محافظ ذلك تعريف لا يعطي كل تفسير لذاتي فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك. فأنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ.

ومرة في حزيران (يونيو) من عام 1940 وفي كهف لجأنا إليه في ( Dreux) حين دخل الجيش الألماني، تواريت حتى أخفي دموعي. لقد بكيت هزيمة الجيش الفرنسي. وفي ذلك اليوم رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم.

في حزيران عام 1925. وحينما أعلن (دورنون Dournon) النتيجة لم أبكِ، إنما اقتحم نفسي حزن كبير وبقيت ساهماً على باب المدرسة أَصِيلَ ذلك اليوم.

هذه المدرسة التي كنت أعدها سجناً نتعلم فيه تحرير واقعة زواج أو طلاق، كما يتعلم نزلاء السجون صنع الفراش، ها هي ذي تطلق سراحي.

والآن، فإنني أشعر بأنها تركتني وأسلمتني إلى الشارع، إلى الحياة التي تضع أمامي علامات استفهام لا أجد لها الجواب.

على مدخل المدرسة لم أجد في ذهني أي جواب على سؤال (ما العمل)؟ هناك فكرة خطرت لي ودخلت غرفتي لتنفيذها حيث لا يوجد أحد. فغرف المنامة أضحت فارغة حين ذهب الجميع بعد إعلان النتائج بين مبتهج بنجاحه، أو من يُسَرّي عن نفسه عناء الألم.

ولقد أوحى إلي بفكرتي ذلك الحنين إلى الآفاق البعيدة. فقد كتبت لرجل

ص: 137

يدعى (بن خلاف) وكان أحد كبار تجار (جيجلي) ومستشاراً عاماً لهذه المدينة.

ولأنه كان صديق الدكتور موسى ومن الأنصار العلنيين للأمير خالد فقد كان له في هذا الوقت هالة في أعين المدرسيين.

ونشير هنا بان الإدارة الفرنسية في تلك الفترة قد وضعت حداً للجدل بإن خالد ومورينو، إذ عمدت إلى نفي الأول. وهذه النهاية تركت في بعض النفوس من أبناء جيلي ذكرى بعض الخيانات.

وواحدة من هذه الخيانات على وجه الخصوص، بقيت في ذهني حتى الآن السمة التي وسمت هذه الطبقة من المثقفين الجزائريين الذين بدؤوا يسعون للحصول على مراكز إدارية، يشترون بالخيانة حظوة ومركزاً.

ففي تلك الفترة قبل أيام من نفي الأمير خالد، نشر مورينو في جريدة (الجمهوري) رسالة تأييد وردت من باريس من طالب تبسّي في الحقوق.

وبعد ثلاث أو أربع سنين فإن هذا السافل أصبح مديراً لمكتب نائب قسنطينة، حينما أصبح هذا الأخير مساعداً لأمين سر الدولة للشؤون الرياضية.

في ذلك اليوم كانت حالتي هي الأمر المهم، وليس الأمير خالد الذي خانه مُدَّعٍ للثقافة، ولا الأمير عبد الكريم الذي باعته الطريقة المرابطية.

كتبت إذن إلى (بن خلاف). وأعتقد أن المستشار العام (جيجلي) قد استلقى على قفاه حين قرأ رسالتي.

لقد طلبت منه نوعاً من المشاركة في تأسيس شركة تجارية من نوع التوصية في مدينة (زندر Zinder) في السودان على ما أعتقد.

كيف كان رأي التاجر المرموق في (جيجلي) في رسالتي؟ لعلي الآن أعرفه

ص: 138

على وجه التخمين. لقد كان الأمر كما لو أنني طلبت منه أن يرسل لي دراهمه لأؤسس محلاّ تجارياً على سطح القمر. إنني أفهم لماذا لم يرسل لي دراهمه. ولكنني اليوم أسأل نفسي لماذا لم يتسلح بشيء من الدعاية أو الحس الاجتماعي ليجيبني على رسالتي، على الرغم من الدهشة التي سببتها له أو بسبب تلك الدهشة.

(بوكاميه) لم يعد لديه من الزبائن غير السكارى. مقهى بن يمينة أضحى فارغاً يتردد عليه زبائن الحي فقط، حتى (محمد طاهر السنوسي) لم يعد يأتي إليه لأنه لم يعد يجد فيه مستمعه المدرسي المألوف.

(شوات) ذهب إلى المغرب، وبقيت أنا و (قاواو) وقد أمسكت به بوصفه آخر ما في الجعبة دون أن أصارحه بذلك مصارحة تامة.

(الشاوش) تعجل خروجنا ليطلق لنسائه الحرية في داخل المدرسة. أما (دورنون) فقد كان يظهر العداوة لنا بشكل واضح.

وحين مللت انتظار الجواب سواء على رسالتي إلى (ورقلة) أو إلى (جيجلي) عزمت على إقناع (قاواو) بمشروعي إلى فرنسا.

كان هناك أمر أكيد هو أنني لا أريد العودة إلى تبسة بأي ثمن. ماذا أفعل بها؟ هكذا كنت أسأل نفسي لأقنعها. ولكن من أجل الذهاب إلى فرنسا، وإذا افترضنا أنه سمح لاثنين من أبناء المستعمرات بالنزول من الباخرة إلى البر الفرنسي، فإن الأمر يتطلب شيئاً من المال. ومنحتنا الأخيرة من المدرسة لا تكفي لهذه الرحلة.

لقد قررنا أن نبيع أدوات النوم التي نمتلكها. وكسب منا (بوكاميه) فِراشَينا وغطاءينا الجميلين بسعر منخفض. كان ذلك بكل بساطة باباً قد انفتح أمامنا على العالم. ففي الجزائر كانت الأبواب موصدة.

ص: 139

كان تفكيرنا الأساسي أن نمر فقط بباريس لنذهب مباشرة لاكتشاف عالم آخر. كانت آفاق كل من الاكتشافات والمغامرات الباعثة على الحماسة ترتسم أمامنا. وقد عزمنا على أن نتدرب عصر يوم بأن نهبط إلى قعر وادي الرمل من جانبه الشديد الانحدار، أي جانب الطريق المنحوتة من الصخر تجاه طاحونة (كاوكي). والواقع أن ذلك كان مغامرة مهلكة حقاً أكثر مما كنا نظن، فالحجارة والحصى كانت تنزلق تحت أقدامنا وتزحلقنا وتهددنا بدفننا في ركامها المتهافت، الذي تثيره أقدامنا إثارة لا تحفُّظ فيها ولا حيطة.

وأذكر أني كنت أرتجف كل الارتجاف حين بلوغنا قعر الوادي. ثم شرحت لصديقي من جانب آخر أنه ينبغي أن نعد أنفسنا لمقامنا في فرنسا، أياً كانت مدته، قبل أن نولي شطر المغامرة الكبرى.

فعزمنا في النتيجة أن نذهب لنأكل وجباتنا الأخيرة لدى مطعم أكثر أناقة من (بوكاميه)، لنتعود على السكين والشوكة حتى لا نظهر بمظهر مضحك أمام الفرنسيات الجميلات.

من ناحية الملبس فقد كنت مجهَّزاً تجهيراً كافياً، وكانت ملابس صديقي مجهَّزة نوعاً ما عدا غطاء الرأس. فقررنا ليلة رحيلنا أن نذهب ونشتري قبعتين من مخزن (المالطي الصغير Le Petit Maltais).

وهكذا أصبحنا جاهزين للسفر.

كنت في العشرين من عمري حين رأيت البحر لأول مرة، وقد تراءى لي ونحن نطل على (سكيكدة philippeville) ذلك الصباح. لقد عرفته من قبل عبر شاشة سينما قبل اختراع الفيلم الملون؛ لكنني الآن وأنا أراه أمامي على بعد في نهاية الشارع الذي دلفنا إليه في المدينة، يبدو لي أجمل بكثير مما تخيلته. لقد بدا

ص: 140

لي في أفقه البعيد حجراً أزرق مترامي الأبعاد، كأنما اقتطع منه الجوهريون الملايين من حجارة الفيروز الثمينة.

لست أدري فلعل تأثري بذلك المنظر الأخاذ يعود إلى أنني كنت أراه للمرة الأولى، لكنها الطبيعة لم أرها في يوم من الأيام أجمل مما رأيت تلك اللحظة.

عند ركوبنا البحر لم تكن ثمة صعوبات أمامنا في إدارة المرفأ أو في مكاتب الشركة البحرية (شركة عابرات الأطسي Compagnie Trans Atlantique)، مما يحدث في تلك الفترة. فقد كان الملاحون يدسون العمال الجزائريين في عنابر السفن هرباً من أعين المسؤولين بوصفهم بضاعة ممنوعة، بعد أن يتقاضوا منهم أجوراً باهظة، وكانت تتقطع أنفاس بعضهم فيموتون بالعشرات كما حدث في سفينة (سيدي فرج).

هكذا أخيراً أصبحنا على ظهر السفينة، وحين رأيت القبطان (ليبين Lepine) يأمر برفع مراسيها زايلني حينئد شعور بالعالم كله ينفتح أمامي.

وقفت بجانب حقائبي مستنداً إلى المتَّكَأ ( Bastaingage) أعبّ في صدري هواء البحر البارد المشبع باليود. فالصيف الجميل يسعف دريهماتنا القليلة في سفرنا هذا على ظهر السفينة.

لم أكن أدري بعد في تلك اللحظة أن إرادة القدر ستخبئ لي الرحلات العديدة على ظهور السفن. ولم أكن بكل حال لأعتقد أنني مجرد عابر يعبر البحر إلى فرنسا، بل كان في نفسي شعور بأنها رحلة عظيمة كتلك التي قام بها كولومبس وهو يكتشف العالم الجديد.

في اليوم الأول كنا نمخر عباب البحر، واليابسة أمام ناظرينا. فالسفينة يتجه خط سيرها بمحاذاة الشاطئ إلى (عنابة) لتحمل عدداً آخر من المسافرين،

ص: 141

لذا قضينا الليل في مدينة (القديس أوغسطنن) ولم تأخذ الباخرة طريقها شطر مرسيليا إلا ظهيرة اليوم التالي.

وها هو ذا البحر الذي حمل على أمواجه الغزاة والمغامرين يحملنا أنا وصديقي (قاواو) مثقلين بما يعمر نفوسنا من آمال وأوهام وقلق. وكلما ابتعدت الشواطئ الجزائرية عن أعيننا فقدنا شيئاً من ذلك الاطمئنان وتلك الثقة. ولكن حماستنا للسفر ورغبتنا فيه كانت أقوى من تلك الطوارئ.

كان كل شيء يثير فينا الانتباه، حتى تلك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالبحر أو بالسفينة. وأضحى البحارة بالنسبة لنا قاموساً نستفسر منهم عما يكون قد عصي علينا فهمه. فكلما صادفنا بحاراً بادرناه بأسئلتنا عن حالة الجو المتوقعة، وحتى عن حياته الخاصة على ظهر السفينة. وحين أخبرونا بأهوال العواصف التي قد تعترضنا عند خليج ليون، خُيِّل إلينا أننا سوف نلاقي هناك ما لاقاه البحارة البرتغاليون حينما داروا حول رأس الرجاء الصالح لأول مرة.

وحينما أبلغونا أن سفينتنا ستصل جزر (الباليار) عند منتصف الليل، أخذنا نستعد سلفاً لذلك الحدث وكأنه امتياز مُنحته لا يحصل عليه إلا القلائل. كانت مخيلتنا المحدودة هذه التي تشبه مخيلة تلميذ هارب من مدرسته، تعطي المزيد من الأهمية لكل حدث جديد. لقد كنا في الواقع أولاداً صغاراً، وكلما أوغلت بنا المرحلة تناقص اطمئناننا إلى الأمور. كنا حين انطلقنا من الجزائر واثقين بأننا سنلاقي عملاً حال نزولنا مرسيليا، إلا أن هذا اليقين أخذ يتضاءل بين لفظتي (إذا - ولكن).

تعرفنا على ظهر السفينة إلى يهودي من الجزائر كان هو أيضاً يقصد فرنسا بحثاً عن عمل. وكان يرافقه شاب أوربي ترك عمله في الحافلات الكهربائية واتجه نحو فرنسا ليبحث عن عمل هو الآخر. ويبدو أن الاثنين الأوربي واليهودي قد

ص: 142

تعافا على ظهر السفينة، ثم اتفقا على أن يذهبا سوية للعمل في مصانع (برلييه Berliet) بمدينة (ليون).

ولم يبطئ بنا الأمر حتى انضممنا إليهما وشكلنا جماعة واحدة، سرعان ما تولى رئاستها الشاب اليهودي.

فقد اتفقنا على أن نؤلف نوعاً من جمعية عمالية يضع كل واحد من أعضائها أجره الأسبوعي بيد اليهودي، ليتمكن هذا الأخير من تأسيس محل لبيع الفواكه في أحد أسواق (ليون).

كنت أشعر أن لدي ثقة بخبرة هذا الرجل ونزاهته. غير أن ما كان يثير قلقي ألا أجد أنا و (قاواو) عملاً في ليون، فنخسر بذلك إمكانية الإسهام في (الشركة) ذات المسؤولية المحدودة، لكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في تلك الأحلام التي تصورناها في مدينة قسنطينة.

نزولنا إلى مرسيليا استحوذ علينا فألهانا عن التفكير في مشاكلنا، وقد ذكرني قصر (إيف If) براوية (الكسندر دوماس Dumas) حين مررنا به. فعجائب شريط (الكونت دو مونت كريستو Conte de Monte Cristo) فعلت في صباي فعل السحر.

هكذا أصبحنا أنا وقاواو أمام واقع مغامرتنا الآن. فقد فاجأنا ذلك المظهر البائس للجزائريين الذين كنا نصادفهم في الطريق. ولا أدري من الذي فسر لنا ذلك البؤس بأنه خاص بمرسيليا وحدها، فتكاثر المهاجرين الجزائريين فيها قد جعل أوضاعهم تسوء.

وهكذا فحين طرحت علينا مسألة الاختيار بإن البقاء في مرسيليا- المدينة التي بناها اليونانيون من سكان إيونيا قبل آلاف السنين- وبين مرافقة زميلنا

ص: 143

اليهودي لم نتردد في قبول الحل الثاني، لكن نفقات السفر من مرسيليا إلى ليون لم تكن ضمن ترتيباتنا المالية، فبدت هذه مشكلة أمامنا لابد أن نحلها.

ومن عادة اليهودي أن يعرف كل شيء. فهو خبير بمسالك الحياة البائسة حين يكون فقيراً وحين يكون من أصحاب الملايين مثل (ستافيسكي Stavesky)، يعرف تماماً كيف يلج أبواب القصور الكبيرة.

لذا أخذنا هذا اليهودي إلى شارع يبيعون فيه الأشياء القديمة المستعملة، وهناك تخليت عن معطفي الجديد لقاء ثلث ثمنه وكان ذلك كافياً حتى نتابع سفرنا إلى ليون.

كانت ساعات بعد الظهر كلها نقضيها في مرسيليا قبل أن نسافر، إلا أن القلق أخذ يسيطر علينا- أنا وصديقي- كلما تكشفت لنا حقيقة الفرص التي تمنحها المدينة (للجزائريين) القادمين إلى فرنسا.

لم تكن بعد قد ابتكرت كلمة ( Monzami) للإشارة إليهم. إذ كان الناس لا يزالون يعيشون تحت تأثير اللياقات التي سادت زمن الحرب العالمية الأولى، حين كان الفرنسيون يطلقون لفظة (سيدي) على كل جزائري. لكنه مع نهاية الحرب أخذت هذه الكلمة تفقد معناها الأصلي، وغدت تعبيراً عن ازدراء السكان الفرنسيين للعمال الآتين من منطقة التل أو الهابطين من الهضاب المرتفعة.

كان هؤلاء الجزائريون يفدون إلى فرنسا بصورة غير مشروعة بالمئات والآلاف، فيؤدي بهم ذلك إلى مزيد من البطالة. وهكذا يؤلفون الرصيد الاحتياطي لسوق العمل في الحاجات القذرة أو الموسمية.

ذلك أن كبار المعمرين الأوربيين في الجزائر الذين كانوا يخططون للسياسة الفرنسية في هذا الحقل، قد أدركوا الخطر الذي يتهدد مصالحهم من جراء هجرة اليد العاملة الوطنية إلى فرنسا.

ص: 144

ثم هناك سببان نضيفهما يجعلان الحكومة الفرنسية تتشدد في مراقبتها لأبناء المستعمرات:

أولهما حرب الريف وكانت لا تزال مستعرة، وقد بدأت تهز الرأي العام الفرنسي تحت تأثير المقالات التي كان ينشرها كل من (فايان كوتوريه وكاشان Vaillan couturier، Cachan) في صحافة حزبهما، أو الخطب التي يلقيانها في البرلمان الفرنسي.

ثم إنه كاد في هذه السنة أن يدخل جزائري يدعى (عبد القادر) يقيم في ضواحي باريس البرلمان الفرنسي، ويكتسب بهذه الطريقة الحق في أن يشرع في (قصر بوربون) لأربعين مليونا من الفرنسيين.

ومن ناحية أخرى فإن الأمير خالد لم يكن قد أخذ طريق دمشق كما فعل جده منذ مئة عام بعد أن نفي من الجزائر، وإنما توقف في باريس ليواصل جهوده المعادية للسياسة الفرنسية، بين السكان الجزائريين المقيمين حول باريس الذين كان عددهم كبيراً في ذلك الوقت.

وقد تولى مع بعض الجزائريين من سكان ضواحي باريس الذين سيخونون ذكراه فيما بعد، تأسيس جمعية (نجم شمال إفريقيا) وإصدار صحيفة (الأمة) الناطقة باسمها.

هكذا يتضح أن المعمرين قد كانت لديهم أسباب جوهرية تجعلهم يقلقون من تزايد هجرة الجزائريين لفرنسا، وهذه الأسباب تضاف إلى أسباب اقتصادية تعد بكل حال أساسية.

وهنا يمكننا أن نفهم الأسباب التي جعلت الصناعيين والمتعهدين والتجار يتخذون موقفاً عدائياً موحداً من اليد العاملة الجزائرية، بل أكثر من هذا فإن مستشاراً بلدياً باريزياً عرفه كثير من أبناء جيلي قد اقترح إنشاء حزام وقائي

ص: 145

حول باريس، يحميها من غزو أبناء المستعمرات. وكانت الصحافة اليمينية تشن الحملات العنيفة ضد من أسمتهم (الغزاة الجدد).

والإدارة التي لم يمض غير قليل على تدشينها جامع باريس قرب ساحة (مونج place Monge) ذلك الصيف، دشّنت على بضع خطوات الدائرة المختلطة الشهيرة ( Commune mixte) التي عرفت باسم الشارع الذي تقوم به شارع (لوكونت Rue le conte).

وهكذا اجتازت فكرة (المستعمرين Indigenat) البحر المتوسط بسهولة أكثر مما اجتازه (أبناء المستعمرات indigené)، أولئك الذين أصبحوا تابعين منذ ذلك الوقت لتلك الإدارة المختلطة.

من المؤكد أننا عند نزولنا في فرنسا كنا أنا وصديقي (قاواو) نجهل هذه الأمور، ولكنني الآن أعرف أن ذلك كله قد أثر فعلياً في مجرى مغامرة مدرسيين فارين من الجزائر.

(كان ذلك قد كُتب علينا)، فحين وصولنا إلى ليون وجد رئيس فريقنا اليهودي منذ الغداة العمل لدى (برلييه Berliet)، ووجد رفيقه الأوربي العامل في الحافلات الكهربائية عملاً لدى (زنيث Zenith)، بينما بقينا كلانا في الشارع.

كنا نتنادى فيما بيننا هو (أندريه André) وأنا (جول Jules)، وقد أوحى إلينا بذلك مستشارنا اليهودي. يضع كل منا على رأسه قبعة من النوع الجيد ونتحدث بفرنسية أصح بقليل من زميلينا الأوربي واليهودي، ولم يشفع ذلك بنا كله فبقينا في أكوام العاطلين عن العمل.

نعم (إنه قد كُتب علينا) وبحروف بارزة على بطاقة هويتنا.

وهكذا بعد أيام ثلاثة أو أربعة تبخرت مشاريعنا المتعلقة بشركة الفواكه

ص: 146

ذات المسؤولية المحدودة في ليون. وبتنا نأوي في المساء وقد أنهكنا التعب وأربكتنا الحيرة بعد يوم ممتلئ بالانتظار أمام مكاتب العمل.

وفي اليوم الخامس أو السادس أصبحنا خالِيَيْ الوفاض. فما ادخرناه وما حصلنا عليه من ثمن معطفي الجديد الذي بعته في مرسيليا قد استنفدناه عن آخره.

زميلنا اليهودي تكفل بنا، فكان يأخذنا إلى مطعم شعبي يتناول كل واحد منا نصيبه من الطعام من شباك، بعد أن يكون قد استحصل على بطاقة مقابل ثلاثة قروش أو أربعة.

لقد بات وضعنا المادي والمعنوي لا يُحتمل. وفي أخلاط هذا المحيط الصغير لا تدري أهو محيط عمال أم عاطلين عن العمل، عرفنا أن مصنعاً اسمه مصنع (شنيدر) التابع لمجموعة مصانع ( Creusot) يحتاج إلى عمال، وهذا الصنع يقع في (نوتردام دولورت Notre dame de Lorette) على طريق مدينة (سانت ايتيين Saint Etiénne).

كان علينا أن نتدبر عشرة فرنكات لنذهب نحن الاثنان إلى المصنع. ولم يكن قد بقي عندي ما أبيعه سوى شاشيتي البيضاء (الطربوش) وكانت جديدة من نوع فاخر، لكن من يشتريها في ليون؟

تعرفنا على شارع يكثر فيه السكان من (السيدي Sidi) الجزائريين حيث صادفنا اثنين أو ثلاثة منهم، كان أحدهم على ما يظهر يستعد للعودة. لم ندخل في مساومة حول الموضوع فقد تحدثت دون مواربة. إننا نحتاج تماماً إلى عشرة فرنكات. وهكذا وضع الشاب الجزائري شاشيتي على رأسه ووضعت عشرة فرنكاته في جيبي.

تركت لزميلي اليهودي كتبي التي حملتها من قسنطينة كيما أطالعها في

ص: 147

مزرعتي المقبلة في السودان أو أوستراليا، واتجهنا مباشرة نحو المحطة لنأخذ قطار الساعة العاشرة مساء بينما كانت ساعتنا تكاد تشير إلى الرابعة.

وإنه ليصعب تصور ساعات ست من الانتظار على مقعد محطة بعد سبعة أيام أو ثمانية من سوء التغذية والقلق، أمام مكاتب الاستخدام والانتقال على الأقدام من مكتب للعمل إلى آخر.

لكنها كانت ساعات من الحرية المستعادة، فيها شيء من الطمائينة حيال وعد بأفق جديد. فالأمر لا يحتاج لغير القليل حتى ينتقل المرء معنوياً من السواد إلى البياض.

كانت الشمس المرسلة بأشعتها على ساحة المحطة، قد عادت بناظري إلى ذلك اللون الذي كنت أحب اللعب فيه وأنا طفل في تِبِسَّة، إذا ما صُرفنا من مدرشة القرآن في تلك الأوقات، تبدو ذهبية اللون بعد ظهر كل أربعاء من الأسبوع وقبل صلاة العصر حين كنا نلعب وفي القلب كل وعد بكر في صبيحة الخميس.

أظن أنه تبقى لنا خمسون سانتيماً من عشرة الفرنكات ثمن شاشيتي بعد أن دفعت قيمة تذكرتين في القطار. وكان ذلك يكفي لشراء قطعة من الخبز وأخرى من الجبنة لكل منا.

وأزفت ساعة الانطلاق في النهاية فاتخذنا مقعدينا في قطار بطيء وفي غرفة سيئة الإضاءة كنا فيها وحدنا أنا و (قاواو).

ربما قاومنا النعاس أول الأمر لربع ساعة، إلا أن تعب الأسبوع المنصرم وإرهاقه فضلاً عن المقاعد الفارغة، كل ذلك قد غلب علينا فاستسلمنا للرقاد بعد أن أوصى كل منا الآخر بقوله:

((توقظني في نوتردام دولورت - Notre Dame de Lorette))

ص: 148

استيقظنا في الفجر حين وقف القطار في (سانت ايتيين Saint Etiénne)، أراد كل منا أن بلقي اللوم على الآخر. ثم عزمنا على الخروج إلا أننا توقفنا عندما سد علينا الطريق العامل القائم على الدوار ( Tourniquet)، الذي لا يسمح بالمرور دفعة واحدة إلا لشخص واحد قائلاً:((آه إني أعرفكم يا عصافيري، إنكم تسرقون الشركة وسوف أنادي الدرك)).

بدا الهلع على وجه زميلي (قاواو)، ربما لأنه كان ابن أحد رجال الدرك، أما أنا فعلى العكس من ذلك وجدت فيه حلاً للمشكلة.

بالطبع لم تخطر في ذهني في تلك اللحظة تمبوكتو أو أوستراليا أو شقراوات باريس، لقد اعتراني الملل. ولا ريب أن رجال الدرك قد كانوا الأقل سؤاً من ذلك الذي كنا فيه.

لكن موظفاً آخر متأثراً بمشاعر العطف وربما بدافع الشفقة لما رآه على وجه (قاواو) قد بدد ذلك الأمل بقوله: ((دعهما يعودا إلى (لورت Lorette))).

ثم أشار إلى قطار من عربة واحدة يهم بالتحرك كيما نلحق به، فاتخذنا مكاننا فيه ووصلنا في الثامنة من الصباح.

كان الجو بارداً في تلك الصبيحة من شهر تموز (يوليو) يحيط به جو من الكآبة مشبع بالدخان.

لم يكن وارداً في حسابنا تناولنا لفنجان من القهوة ندفئ به جوفنا، فجعبتنا فارغة من النقود. وهكذا توجهنا مباشرة إلى مصنع (شنيدر schneider) الذي قادنا إلى مكتب الاستخدام في ليون.

وقفنا في الصف بين جمع من المرشحين الآخرين للعمل تحت رذاذ خفيف من المطر. كان في الصف فرنسيون وإسبانيون وإيطاليون ومثلنا من (السيدي Sidi).

ص: 149

مررنا أولاً أمام طبيب شاب ذي معطف أبيض وقد لفت نظره بشكل واضح ثوبي وصحتي. قال لي: ((إن قماشك من النوع الجيد)). بينما كان يتأمل ويجس طرفه بين إبهامه وسبابته.

حقاً كنت قد خطته عند أفضل خياط في قسنطينة.

في نهاية سلسلة من الإجراءات كانت النتيجة إيجابية بالنسبة لي وسلبية بالنسبة لـ (قاواو).

نصف نتيجة أفضل من لا شيء على الإطلاق. سوف نأكل خبزنا سوية ولكن بانتظار ذلك فإن المعدة خاوية. ولأنه لا وسيلة لنا في ملئها فلتنم على الأقل. ولكن أين؟ فالسماء بدأت تتوهج بشمس تموز (يوليو) التي ارتفعت فوق رؤوسنا. لاحظنا عند أسفل المصنع ثمة حقلاً صغيراً يخترقه جدول ماء. أوينا إليه وفيما نحن نهم بالاستلقاء إذا بشاب أو بالأحرى ولد ينتصب فوق رأسنا. لم نكن نعرفه، إنما كان يبدو من مخايل وجهه أنه يعرفنا.

خاطبنا بالعربية:

- أنتما من قسنطينة؟.

- وأنت من أين؟.

- كنت أمسح الأحذية في ساحة (بريش la Brèche) في قسنطينة. ثم ركبت الباخرة من (سكيكدة philippeville) حتى وصلت إلى مرسيليا فبقيت فيها عدة أيام، ثم في ليون، ولما لم أجد عملاً أتيت إلى هذه البلدة، ولكنهم رفضوا إعطائي عملاً هنا لأنني ما أزال صغيراً.

كان أمامنا بالفعل واحد من أبناء الشوارع الجزائرية مع ما في نظراته من عزم وصراحة يمتاز بها أولاد قسنطينة والجزائر.

ص: 150

ودون أن يتوقف عن الحديث بادرنا قائلاً:

- بقيت معي سبعة فرنكات سأذهب لأشتري بها خبزاً وشوكولا.

- لا .. لا .. احتفظ بفلوسك.

لم يبتعد الولد عنا إلا ليعود بعد لحظات يحمل تحت إبطه قرصاً من الخبز. هناك أناس لا يؤمنون بحكمة الله، ولو لم أكن مؤمناً بها لآمنت بها ذلك اليوم، فالصبي قد حمل إلينا فوق خبزه وشوكولاه معلومات مفيدة.

لقد أخبرنا أن ثمة مصنعاً للإسمنت فيه فرص للعمل، فقررنا أن نقف على أبوابه بعد الظهر.

أنا و (قاواو) قُبلنا لنبدأ فعلياً العمل في اليوم التالي، أما الصغير فسوف يعيش معنا طالما لم يجد له عملاً ولكن أين نقضي الليل؟

تهنا في شوارع (لورت Lorette) فمررنا أمام مقهى جزائري لم نجرؤ بادئ الأمر على دخوله لأننا لا نملك نقوداً. ولكن كيف لا نجرؤ على الجلوس على أحد مقاعده على الأقل؟ هكذا دخلنا بالصيغة التي اعتادتها البلاد الإسلامية: ((السلام عليكم)).

ردّ بعض الجالسين حول الطاولات من (السيدي Sidi) الذين كانوا يتحادثون أو يلعبون الدومينو: ((وعليكم السلام)).

جلسنا في زاوية دون أن نطلب شيئاً. وبسرعة وضع أمامنا صبي المقهى (براداً) من الشاي وأقداحاً ثلاثة.

على الرغم من كل ما أصاب المجتمع الإسلامي من انحطاط منذ أمد طويل، فالإسلام قد حفظ فيه الشعور الإنساني في مستوى لم يصل إليه العديد من البلاد (المتحضرة).

ص: 151

- من أين جاء الإخوان؟ قال ذلك صوت ربما كان هو الذي دفع عنا ثمن الشاي.

هكذا بدأ الحديث يمتد من طاولة إلى أخرى في ذلك المقهى العربي الذي توزعت فيه دعامات مربعة من الخشب ربما دعمت سقف خان من قبل.

جاء صاحب المقهى يجلس بيننا وقد اتكأ بمرفقيه على الطاولة ورأسه بين يديه. سألنا: ما هي أخبار الريف؟. كنت مهتماً بالموضوع ولذا فإن كل من في القاعة توقف عن اللعب وعن الكلام كيما يصغي إلي.

وإنني أتساءل اليوم ما إذا كان الزعاء الجزائريون من أبناء جيلي وأولئك المثقفون الذين يدعون (المالتزام)، عرفوا حقاً الشعب الجزائري وأدركوا عواطفه وأفكاره في أحاديثه المختلفة حتى في دقائق صمته.

إنهم بالتأكيد يعرفون كيف يستخدمونه وهم يستغلونه بكلمات وأقوال، كانت السلطة الفرنسية تعرف كيف تزيد من تأثيرها ومفعولها في الناس بأساليب شيطانية يدركها أولئك الزعماء أنفسهم.

لكن قليلاً منهم من التزم خدمته وعاش مأساته، يأكل خبزه الأسود ويذوق لسعات القمل الذي يعشعش في أكواخه وبيوته المصنوعة من الصفيح.

لقد كان أولئك الزعماء وأولئك (الملتزمون) يعيشون وَهْماً صيغ بكلمات ملفقة بمفردات أجنبية، بعضهم يقول إنه وارث (فولتير Voltaire) والآخر يقول إنه وارث (تروتسكي). هذا الوهم كان هو (الجزائر) وهو الشعب الجزائري في أذهانهم.

أما الجزائر الحقيقية وشعبها فهما غريبان عنهما تماماً. لقد كانوا كالدودة الغريبة عن الثمرة لكنها تدخل إلى لبها لتتغذى منها.

ص: 152

في تلك الأمسية لم أفكر في ذلك كله. كان همي وأنا أتحدث عن حرب الريف أن أعلم أين أنام ..

صاحب المقهى حل المشكلة والحمد لله، فقد دعانا ننام في مقهاه كيما نتابع الحديث بعد إقفال المقهى.

في صبيحة اليوم التالي، كنا أنا وقاواو والولد في السابعة أمام باب مصنع الإسمنت. كان رئيس الورشة شهماً، في سيماه جمال العامل الفرنسي، فسرعان ما أقنعته بأن ولداً لا يستطيع العيش بغير عمل لا ينبغي أن نتركه بحجة أنه دون السن المطلوب، وهكذا أصبح لرفيقنا عمل مثلنا لكنه أقل وطأة. بيد أن رئيس الورشة قد وضعنا أنا وقاواو في مركز نغبط عليه نسبياً.

كان عملنا يقضي بأن ننقل أكياس الترابة متسلقين سقالة إلى كوة تعلو أربعة أمتار أو خمسة، فكان عليّ أن أحفظ توازني وأنا أحمل على ظهري كيساً يزن خمسين كيلو غراماً.

كنت أترك شيئاً من الترابة يدلف من الكيس على كلتا يدي من علٍ فأتذوق نعومة الإسمنت على جلدي، وهذا ما كان علي اجتنابه على وجه الدقة. فالإسمنت يفتك بالجلد كالأحماض كما تفسد نعومة الحياة الروح.

في المساء لم أكن قادراً على الوقوف، فكان علي أن أغيّر عملي. في اليوم التالي كلفت بنقل قطع من القرميد تزيد الواحدة منها على خمسين كيلو غراماً، أضع أربعة منها في عربة صغيرة لأنقلها من مكان إلى آخر. كنت ناقلاً سيئاً على مثل هذا النوع من العربات، فالصينيون قد نسوا أن يضعوا لهذا النوع من العربات دولابين بدلاً من دولاب واحد، فعربتي ذات الدولاب الواحد كانت تميل مرة يميناً ومرة شمالاً. رئيس الورشة الحاذق حل هذه المشكلة بأن ربط

ص: 153

ذراعي العربة برسن كالذي يوضع للحيوانات صنع من قماش الأكياس، وهكذا أضحى توازن العربة لا يستقر على كلتا يدى بل على رقبتي.

الآن وبعد أن قبضنا أجرنا، بدأنا نقف على أرض صلبة وبات علينا أن نفتش عن غرفة نسكنها، وجدنا واحدة بسريرين. أما الولد فقد حصل على مسكن له بفضل رئيس الورشة.

بعد يوم من العمل المضني ارتمينا كقطعة من الرصاص على سريرنا. ومع ذلك فإنني أنا وقاواو استيقظنا عند منتصف الليل. لقد أكلتنا عقصات البق وبالطبع لم نكن قادرين على التخلص بسهولة من تلك الحشرات لوفرة عددها، فنام قاواو ما تبقى من الليل على طاولة صغيرة فيها افترشت أنا أرض الغرفة. لقد كان ذلك لا يطاق.

سألت قاواو عند الصباح: ((هل تريد أن تذهب إلى باريس؟)).

لم يكن لدينا المال لنسافر إلى باريس. وإلى أن ندخر من أجورنا ثمن تذكرة السفر فإن حشرات البق تكون قد صضت علينا وهضمتنا.

ثمة تبسي سافر هو أيضاً لفتح العالم قبل عام من قيامنا بهذه المغامرة وكان مديناً لي بشيء من المال. تذكرت عنوانه وأبرقت إليه من أجل مبلغ يكفي لمقعدين إلى باريس. فأرسل ثمن تذكرة واحدة؛ فكتب علي أن أسافر وحدي تاركاً قاواو الذي كان عليه أن يلحق بي عندما يتجمع لديه المال للسفر أو عندما يمكنني أن أبعث إليه به، لأنني كنت ما أزال أومن بحسن طالعي.

في باريس كأنما كل شيء قد أُعِدَّ من قبل، فصديقي التبسي الذي يعمل في مصانع (نيكولا Nicolas) للبيرة قدّمني فور وصولي إلى رئيس الورشة الذي أعطاني عملاً على الرصيف الفارغ ( Quai - vide)،

ص: 154

كان ثمة غموض في ذهني، إذ لم أكن أعرف ماذا يكون معمل البيرة. ففي مصنع الجعة يعد الرصيف الفارغ بمثابة جهنم، بينما تعد الأرصفة الممتلئة بمثابة المطهر. والعمال الجدد يوضعون عادة في جهنم ليكفروا عن خطاياهم قبل أن ينتقلوا إلى المطهر مثل زميلي التبسي.

لقد كان العمل مضنياً بالفعل. فجميع الزجاجات التي تخرج ممتلئة من المصنع لتطفئ ظمأ سكان باريس في هذا الموسم كانت تعود فارغة في سيارات كبيرة من مختلف مناطق العاصمة. وهكذا تتجمع عشرات الآلاف من صناديق زجاجات الجعة الفارغة على الرصيف، حيث يتولى العمال ترتيبها في صفوف بسرعة تلائم سرعة الآلة التي تتولى نقلها إلى داخل المصنع.

وفي ربع الساعة المخصصة للراحة وعندما يتوقف الرصيف اللفاف النقال والآلة التي كانت تقوم بوظيفة رئيس ورشة الرصيف، كنت أُلقي وأنا تحت سقيفة العنبر الشاسعة نظرة غبطةٍ إلى رصيف (الزجاجات المملوءة)، حيث كان العمل بطبيعته يتم بطيئاً حتى لا تتعرض البضاعة للكسر. ولكن متى أُقبَل في المطهر؟. كان صديقي التبسي يجيبني مداورة على سؤالي هذا كلما ألقيته عليه.

وبانتظار ذلك كان كل عطش باريس في شهر آب (أغسطس) يمر من فوق ظهري فأحس بثقله الساحق.

وفي فترات الراحة كان (نيكولا) يتلطف بإطفاء عطش آلاته البشرية بالبيرة الشقراء أو السمراء حسب الاختيار. لكن ثمة سؤال كان في ذهني يتجاوز شقراوات باريس: ((متى أُقبَل في المطهر؟)) ذلك هو السؤال الذي كنت أردده في فترة الراحة.

ص: 155

ربما عملت عند (نيكولا Nicolas) أسبوعاً واحداً. ثم لم أعد أستطيع صبراً فأرسلت بنداء الاستغاثة ( s.o.s):

- أرسلوا دراهم للعودة.

كانت هذه رسالتي الأولى مع أهلي منذ أن تركت قسنطينة.

لم أعرف من باريس غير الأرصفة الفارغة والممتلئة من معمل (نيكولا Nicolas)، ومن بعيد كنت أرى برج (ايفل) وعليه اسم (سيتروين Citroên) بحروف مضيئة، حتى أني لم أزر جامع باريس الذي دُشِّن حديثاً، ولكي أستطيع أن أحدث أصدقائي في تبسة عن باريس فقد عزمت ليلة رحيلي عنها أن أذهب إلى ساحة (الأوبرا) بالمترو. عدت إلى الجزائر حاملاً معي السؤال: ما العمل؟. ذلك السؤال الذي دفعني إلى المغامرة البائسة التي عشتها مع (قاواو).

كنت خائفاً من تلك العودة، إلا أن عائلتي باستقبالها لي استقبال (الولد المتفوق) قد بددت تلك المخاوف. واستقبلني رفاقي كأني بطل ملحمة إلا أنني لم أقص عليهم تفاصيلها حتى لا أثير اشمئزازهم.

وباستعادتي لمألوف ما درجت عليه من التردد على مقهى (باهي) مع أصدقائي، فقد نسيت سريعاً مغامرتي التي تشبه ملحمة الأوديسة الشهيرة.

كانت حرب (الريف) قد بلغت أوج احتدامها في الصحافة وفي النفوس. الإدارة كانت مستمرة في التجنيد. لقد حركت حتى منابر المساجد من أجل النداء للحرب ضد الثائرين. وكنا أنا ورفاقي نتابع هذه التطورات بمزيد من الاهتهام.

ذات يوم وأعتقد أنه في نهاية شهر آب (أغسطس) من عام 1925 أطلق نداء للحرب من منبر تبسة.

ص: 156

لم نعد نملك أنفسنا، واجتمعنا أنا وصالح حواس وصانع الأحذية حما الصغير وإزميرلي محمود ومحمود الغلالي على جسر وادي الناقوس نبيّت أمر الرد على السلطة ونحن نتكئ على سوره في العتمة، ونقشر الفستق السوداني. وأعتقد أن واحداً منهم هو محمود الغلالي ما يزال على قيد الحياة.

كلفني هؤلاء المتآمرون أن أكتب نداء نعلقه على باب الجامع ليلة الغد.

اجتهدت في تجويد خطي وتقديم أفضل ما زودتني به عربيتي الضعيفة من تعابير، لذلك فقد قضيت سحابة نهار اليوم التالي في الكتابة والتجويد فيها.

وهكذا كان الشكل والمحتوى مما أثلج صدر أصدقائي، حينما شرعنا في قراءة التبيان ونحن نقوم بنزهتنا المعتادة خارج المدينة. وليلة تعليقنا ذلك البيان لم نغير من عاداتنا المسائية. فبعد جولتنا المعتادة نحو الكنيسة ووادي الناقوس جذبتنا أقاصيص (باهي) وأسطواناته، واسترسلنا معها ذلك المساء فبقينا إلى موعد إغلاق المقهى.

في تبسة لم تكن الرقابة الليلية في ذلك الزمن الذي انعدم فيه العمل السياسي مما يشغل بال الإدارة. فبعد إقفال المقاهي تبدو شوارع المدينة شبه خالية.

ابن خالي (صالح حواس) هيأ هن مصنع التبغ الذي يملكه شقيقه علبة صمغ ووضعها قرب باب منزلهم فذهبنا لإحضارها. وفي الدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل اتجهنا نحو المسجد جميعاً وعلقنا النداء في مكان بارز من الباب الرئيسي للمسجد ثم تفرقنا كل في اتجاه.

وفي اليوم التالي لم أخرج من المنزل كعادتي إلا في المساء. وحما الصغير وصالح حواس أبلغاني ما جرى في النهار. فقد كان دويّ الورقة في ضمير الإدارة الفرنسية أكثر مما كان في ضمير مواطنينا.

ص: 157

كان بوليس تبسة في نظر الإدارة غير كاف لكشف الفاعلين فاستدعي لواء (قلما).

لم يكن من الممكن في ذلك الزمن أن تتجه الشكوك نحو ذلك الفريق الذي كنت الوحيد فيه أستطيع أن أكتب جملة بعربية ركيكة. وعلاوة على ذلك فمنذ بيع شاشيتي في ليون حتى هذا النهار لم ألبس شاشية، وكنت أسير عاري الرأس قبل أن يصبح هذا الأمر زياً شائعاً.

ولعل هذا قد أبعد عنا جميعاً الشكوك التي اتجهت إلى زاوية أخرى، فسائر طلبة العلم والعلماء وأنصاف العلماء في المدينة استُجوِبوا.

وكان الذي اتجهت نحوه أكثر الشكوك هو الذي كان أبرأ الناس من هذا الصنيع، وقد أضحى بعد حوالي عشرين عاماً إمام المدينة ومخبر البوليس، ولكنه في ذلك اليوم لم يكن بعد في عداد المتعاملين معه فأشبع منه ضرباً.

انطوى الحادث دون ذيول. وقضينا ذلك المساء نلعب لعبة (الطاس تقول)، وهي لعبة تبسية كانت تثير حماستنا تلك الفترة، وكانت القاعدة فيها أن يعين اللاعب من بين أحد عشر كأساً الكأس التي تغطي قطعة من النقد.

وبين الفريقين اللذين تباريا على حصيرة (حمام عباس) كان بعض اللاعبين من رجال البوليس، الذين شاركوا ذلك الصباح في جلد ذلك العالم خريج جامعة الزيتونة.

تلك كانت أياماً جميلة على وجه العموم. لكن مشكلتي التي بقيت مأساوية مطروحة في ذهني:

- ((ماذا أعمل؟))

كان عليّ أن أحُدَّ من مطامحي على الأقل من الوجهة (التكتيكية) كما يقال

ص: 158

اليوم. فقررت أن أقبل عن طيب خاطر وظيفة عدل في المحكمة الشرعية ريثما تتحقق (تجارتي الكبرى) في السودان أو (مزرعتي في أوستراليا)، لكن كان عليّ أن أسعى للحصول على هذه الوظيفة. والنائب العام الذي كانت تتبع له سائر المؤسسات القضائية الإسلامية قد حدّ من مطمحي في هذا الخصوص. لقد أُجِبْتُ بأن عدلاً في المحكمة لا يمكن أن يُعَيَّن قبل أن يبلغ الاثنين والعشرين عاماً.

ومما زاد قيَّ الأسى أنني أُعفيت من الخدمة العسكرية بسحبي رقماً جيداً في تلك القرعة، التي كانت تجري بين المدعوين إلى الخدمة العسكرية من أبناء المستعمرات.

إذ كان ترتيب متاع الجندي في الصباح، وعمل السخرة الصغير أو الكبير في المطابخ، أو حيث يفرغ جنود الرماة فضلات طعامهم، أفضل عندي من بقائي عالة على أهلي. وكان يبدو لي غريباً أن أبقى هكذا وأنا في سن العشرين.

هكذا عادت مشاريعي نحو المغامرة تخامر ذهني. وكان سعاة البريد في تبسة يرونني يومياً أنسخ عناوين من الدليل التجاري. ومع ابن خالي (صالح حواس) الذي أطلعته على همومي أغرقت شمالي فرنسا وجنوبيها بطلبات الاستخدام.

أكثر العناوين التجارية التي كانت لها أعمال في إفريقيا إذا لم نقل سائرها، تلقت هذه الطلبات، لكنها لم تجب عليها.

وفي هذه الآونة تلقيت جواباً سلبياً من (ورقلة) حيث أُعيدت صورتي الفوتوكرافية.

كنت إذن محكوماً بأن أبقى على مائدة العائلة وتحت سقفها وفي خارج المنزل رهن أسطوانات وقصص (باهي). أما قضية الريف فبدأت تعود القهقرى مبددة آخر أوهامنا.

ص: 159

كان اليهود يبسطون نجاحهم في تِبِسَّة. فوكالة سيارات (سيتروين Citroên)، والشركات التجارية الكبرى لتصدير الحبوب والصوف وكذلك البنوك هذه كلها قد أضحت بين أيديهم. ومقاهي المدينة الكبرى التي كان يديرها فرنسيون حتى تلك اللحظة غدت تحت رقابتهم.

هذا النجاح قد غضّ من بهاء (كانبون Canbon) الذي كان في تبسة (قارون) الفرنسي في أعين المسلمين.

وقد وضع هذا النجاح في ذهني في تلك الفترة أول مشكلة سياسية ذات أبعاد عالمية. وأصبحت أعبر عن هذا الانطباع أمام أصدقائي قائلاً لهم: ((إنه عصر المرأة واليهود والدولار)).

ربما لم يكن في ذلك الوقت غير انطباع. لكنني أعلم اليوم أنه كان عنصراً أساسياً في توجيه فكري الذي أمسك وربما بصورة غامضة بمشكلة حضارة تندرج تحتها سائر هذه الظواهر.

وأنا اليوم أرى المرأة واليهود والدولار يشكلون الأقانيم الثلاثة للقرن العشرين.

لم تكن المشكلة تطرق ذهني في ذلك الوقت من زاويتها العالمية، ولكنها انطلقت من وضع شخصي معين. كنت عاطلاً عن العمل بداعي صغر سني. أما يهود تبِسَّة فكان لكل منهم مكان في السوق حتى أولئك الذين هم أصغر مني سناً.

وفيما كنت أوالي إرسال طلباتي إلى الشركات الفرنسية في إفريقيا، كنت ألح من حين لآخر على النائب العام لعَلَّ الأسابيع أو الأشهر الماضية قد جعلتني كفئاً لوظيفة (العدل).

لكن النائب العام ظل متمسكاً بالطبع بموقفه الواضح الصريح. فالجزائري لا يحق له قبل الثانية والعشرين أن يدخل الإدارة.

ص: 160

وفيما كنت أهيئ نفسي للوقت الذي أستطيع الحصول فيه على حق التوظف، كان يزعجني أن أقضي أيامي في البيت وفي المساء عند (باهي) أستمع إلى أقاصيصه وأسطواناته، وفي (حمام عباس) حيث نلعب لعبة (الطاس تقول).

كان لي صديق في محكمة تبسة يشغل هو الآخر وظيفة (عدل)، وبما أنني لم أجد عملاً أتقاضى عليه أجراً فقد اتفقت مع صديقي العدل على أن أقوم بمساعدته بدون أجر، ففي هذا ما يشغل بعض وقتي أو على الأدق ينتشلني من العدم الذي كنت أشعر معه بأني غارق فيه منذ عودتي من فرفسا.

اعتمدتني المحكمة في نهاية الأمر معاوناً متطوعاً، فهم قد وجدوا في ذلك فائدة. وبالنسبة لي فقد كانت الفائدة مؤكدة؛ فبالإضافة إلى الخبرة المهنية فقد كنت أرافق أعضاء المحكمة لتنفيذ الأحكام. والخروج مع أعضاء المحكمة إلى الريف التبسي خصوصاً في الفصل الجميل يستحق أكثر من التطوع، فلو كنت أستطيع أن أدفع عليه مالاً لفعلت.

كانت الصلاحية القضائية لمحكمة تبسة كما يقال تمتد خصوصاً إلى (دواوير) أولاد سيدي (يحيى)، ثم لتجمعات المناجم في (الكويف والونزة).

وكانت تجولاتي في تلك (الدواوير) تجعلني على اتصال بالطبيعة والرجل البسيط الذي انصقل عبر القرون.

فإذا ما كانت الجولة في دائرة صغيرة حول تبسة فذلك أمر لا يثير الاهتمام، لأننا سرعان ما نعود في المساء إلى تبسة. لكن حينما تمتد جولتنا إلى دائرة أكثر اتساعاً فذلك ما يحتم علينا قضاء الليل خارجاً. وكان في هذا ما يسحرني على الرغم من أن السي (الجودي) باش عدل المحكمة كان يدبر أمر مبيته تحت سقف منزل وكنت أوثر الخيمة.

ص: 161

كان السفر على الرغم من ذلك يحتفظ بمتعته في سائر الوجوه. وأظن أن البلاد الإسلامية وخصوصاً الجزائر هي من دون البلاد الأخرى، قد بقيت فيها حياة الفلاح التي اكتسبت نمطها عبر القرون سالمة من الاضطراب، لم تفقد قيمتها في أي ظرف من الظروف.

فالرجل الذي نأتي لننفذ فيه حكماً يلمح قدومنا من بعيد. وهو يعلم لأي سبب أتينا إليه، لكنه سرعان ما يطلب إلى زوجه أن تعد القهوة (للضياف). فنحن ضيوفه ونزلاؤه، وحينما نصل يكون ضباب الصباح قد انقشع في الفصل الغائم، أو تكون الشمس ما تزال باردة إذا كان الجو صيفياً، فكنا نفضل البقاء خارجاً في كلا الحالين.

لكن الرجل يلحق بنا ويصر أولاً على تشريفه في خيمته أو كوخه.

وإذ كان السي (الجودي) يعلم أن الزوج الفلاحة تروح وتجيء في أشغالها، فقد كان يشرح لزوجها أنه يفضل التنفس في الهواء الطلق رغبة منه في عدم إزعاجها. وكنت أنا نفسي قد حفظت بتأثير ساعات الرياضة التي أكرهني عليها (دورنون) بعض حركات الشهيق والزفير.

تنشقت ملء رئتي الأوكسيجين، وشهيقي وزفيري أضحكا السي (الجودي)، كما ضحكت جدتي زليخة حينما رأتني أعقد ربطة العنق أو أشد حزام وسطي وهي تقول:((إنك تحزم نفسك كالبغل)). فهذا الجيل القديم الذي لبس الثياب الواسعة يتنشق ويأكل ببساطة ولا يحب التصنع.

حمل الرجل القهوة وشرعنا نتحدث بهدوء حول أسعار الغنم والمواسم المقبلة. وبعد احتساء القهوة بدأنا الحديث عن مهمتنا في تنفيذ الحكم.

الرجل لم يغير لهجته ولا تعامله معنا. وإنني الآن أعلم أن المسلم قد احتفظ

ص: 162

بقيمه في سائر محن الحياة. وأعلم أنه حتى في ظروف حياة الفلاح الخشنة سواء كان (يحياوياً أو ليموشياً) من نواحي تبسة، فالإسلام قد صقل الإنسان في شروط أقرب ما تكون إلى أخلاق حضارة.

وحينما تكون هناك حقيبة جلدية تحفظ مستندات المحكمة يخرج منها سي (الجودي) الحكم، فالرجل بوجه عام يحمل إلينا في هذه اللحظة شيئاً من الحليب الطازج يفوح منه عطر (العبيتران) الذي يميزه عن ذلك الحليب الذي نشربه في المدن.

وحينما تنتهي الإجراءات القضائية فمن النادر أن يتركنا الرجل نذهب فهو ينسحب قليلاً. وحين نُهمُّ بالرحيل يقول: ((لا والله! لن تذهبوا قبل الغداء)). فتنفيذ الحكم لم يكن غير حادث عابر ثم يستأنف الحديث شجونه دون إشارة إلى الإجراءات القضائية.

وإن هذا هو الذي حدا ببعض المراقبين السطحيين من الغربيين وبعض تلاميذهم في بلادنا أن يقولوا: ((إن ابن المستعمرات ( indigène) - وهم يقصدون بصورة خاصة الفلاح الجزائري- هو جامد أوسلبي تجاه ما يصيبه)) وفق التعبير الأدبي الذي يستعمله كل منهم.

والعلماء والمطّلعون والمدّعون (صدفة كل شيء) في مادة السياسة الاستعمارية يفسرون ذلك كله بكلمة واحدة (مكتوب)، أي: كتب علينا بقدر الله، والمستعمر الجزائري بالنسبة إليهم فقير أمي في شروط بائسة لأنه (قدري) و (يؤمن بالمكتوب) كما يقولون.

الحديث إذن مع مضيفنا استأنف طريقه حول الشؤون العادية للحياة واهتمامات الريف. ولأنه منغمس في تلك الاهتمامات فإنه لم يكوّن فكرة عن ذلك الذي بدأ يثير الرأي العام في المدن في ذلك الزمن. فالموجة الإصلاحية والسياسية التي بدأت تحرك تِبِسَّة لم تقتحم بعد حدوده.

ص: 163

في الدواوير المحيطة لم تزل التقاليد القديمة بعد حية. فالناس في (الدواوير) يدفعون فوق ضرائبهم الزمنية لسيدي الحاكم الحصة السنوية للشيخ، فكانت الزوايا تستلم زكاة المنطقة بأسرها.

تمادى بنا الحديث إذن في هذا الإطار التقليدي الذي تجري في داخله حياة الفلاح النشيطة، ويميزها من وقت لآخر حدث بارز يصبح تاريخاً في ذاكرته.

فالفلاح يؤرخ لأحداثه في دويرته أو في قبيلته بهذه الطريقة: إنه يقول مثلاً: ((عام الرز- سنة الجليد- سنة الجراد- عام وفاة أو زواج فلان أو زيارة الشيخ فلان)). أما المعمرون منهم فيقولون (عام المحلة)؛ ذلك الجيش المستعمر الذي أُرسل عام 1881 ضد باي تونس، وعام (الماشينة)؛ حينما وفد أول قطار إلى تبسة.

هكذا يصبح تنفيذ الحكم نفسه حدثاً ثقافياً في هذا الإطار. والحديث يستأنف مجراه حول الذكريات والنوادر والملح والأسئلة، في الهواء الطلق ورائحة الفطر تنفتح لها شهيتنا حين تدير زوج مضيفنا في (طاجنها) ذلك النوع من طبق الفخار ينضج عليه الخبز.

سي (الجودي) كان يحمل معه فوق الحكم الذي ينفذه، علم الفقه المتعلق بشروط الزواج والطلاق والزكاة والحج، وشيئاً من السنن المؤكدة لأفعال الرسول. فالفلاحون يحبون أن يصححوا مواقفهم أمام ضميرهم وأمام الآخرين، بالرجوع إلى أقوال النبي التي نقلت إليهم بقليل أو كثير من الأمانة عبر المشايخ الذين يزورونهم، وقد حفظها الناس حفظاً يتفاوت في أمانته أيضاً.

فحينما يجد هؤلاء الناس فرصة الاغتراف من علم أوثق، فإنهم لا يترددون في الاستفادة منها. وهكذا يطرحون الأسئلة، وسي الجودي كان ضليعاً في هذه المواضيع.

ص: 164

وفي كثير من الأحيان كان عملنا يضطرنا لقضاء الليل خارجاً. وإذن فذلك هو العيد عندي على الرغم من بعض المزعجات العابرة. والمزعجات هذه تأتي من أني لم أكن يوماً فارساً. وإذا ما شاء فريقنا المؤلف مني ومن باش عدل سي (الجودي) وصديقي العدل ومعاون المحكمة، أن يحثوا سير الدواب لنبلغ مضرب الخيام قبل مغيب الشمس فقد كنت أجد نفسي في مأزق.

فركوب الدابة يتطلب شيئاً من التعلم حتى في سيرها العادي. وكنت في هذا المضمار بالغ السوء. ومرة بينما كنت أحاول أن أسير بحذاء رفيقي الذي كان يسير الهوينى على دابته، ضربت بركابي جنبي الحصان- وكان في غالب الظن أصيلاً- فظن أني أستحثه للعدو. وحينما عدا بي ضربت جنبيه بركابي بقوة أكبر فأضحى مجنوناً واقترب بي بعدوه من القبر. وحينما توقف- بمعجزة- على حافة واد، بتنا والحصان نرتجف كورقة في مهب الريح.

وقبل مغيب الشمس كانت التقاليد تقضي بأن نخطر مضيفنا بقدومنا إليه للمبيت ليلاً. ومغ أجل ذلك كان سي (الجودي) يكلف واحداً منا ليسرع الخطا ويقوم بهذه المهمة، وذلك أمر مزعج حقاً. ولكن كم هو ساحر قدومنا إلى مضرب الخيام ساعة تتوافد قطعان المواشي إلى حظائرها.

مضيفنا الذي أُخطِر بقدومنا يبادر بصفة عامة ليرتب أمر طعامنا، ثم يخف لملاقاتنا في ظاهر الدوار وقد فرش أجمل بساط لديه أمام منزله أو أمام كوخه. وكنا نترك الجلوس عليه عادة ليجلس سي الجودي، أما كل واحد منا فكان يتمدد حيث يحلو له المكان. وإذا ما كان الربيع فإن الطبيعة تقدم بساطها الذي ينشر عطره الجميل في الفضاء، فيختلط برائحة خشب الصنوبر الذي يتقد تحت قدور طعامنا.

الكلاب تستقبلنا بنباح يهدئ أصحابها منه. إنه نباح يسهم بصورة كاملة في

ص: 165

عادات وتقاليد ريفنا. فالكلاب بلا شك حراس أمن الدوار. لكنها بنباحها تهدي المسافر الذي أدركه الليل يبحث عن مكان يأوي إليه في ليالي الشتاء الباردة.

إنها إذن نداء كرم الفلاح الجزائري.

القوم في الدوار قد خفوا لاستقبالنا أيضاً، فذلك من أدب التقاليد. وشيخ القوم الذي استضافنا للمبيت عنده يدعو على شرفنا سائر أهل الدوار.

الحلقة الكبيرة تلتف حول سي الجودي، وبعد العشاء على ضوء النجوم ينعقد المجلس، كلٌّ يطرح سؤالاً أو يروي قصته.

وعندما كانت أعود من تلك الرحلات كانت والدتي تجدني ناضر الوجه.

وكان ذلك يمنح صحتي ظماناً، إنما ليس ذلك الضمان الذي كنت أنشده لوضعي القلق، الذي يطرح أمامي ذلك السؤال الرهيب: ما العمل؟

تمبوكتو، أوستراليا عادتا تراودان مخيلتي. واستحوذت الصحراء على نفسي بما لا أستطيع دفعه. وكان ذلك حينما أعلنت بعثة علمية من جامعة الجزائر عن رحلة إلى (الحجارة (1)). لم يكن لدي أي تخصص بعلم ما قبل التاريخ الصحراوي، لكنني تعلقت بأمل غامض وتمنيت لو قبلت في البعثة على الأقل بصفة مترجم للغة العربية.

في ذلك العصر كان وصول ( indigène) من الجزائريين الأصليين إلى بعثة علمية يعني الوصول إلى السماء. لابد من سلم كي أرقى إلى تلك الغاية وأي سلم؟

فكرت في (دورنون Dournon) وأرسلت إليه على الأثر رسالة أعرض عليه فيها خدماتي المجانية. وعلى الرغم مما تركت لديه من أثر فقد اتخذ الخطوة الأولى،

(1) الحجارة: مقاطعة جبلية في جنوبي الجزائر يسكنها الطوارق.

ص: 166

لكن الجواب كان سلبياً. فالبعثة استكملت حاجاتها جميعاً سوى سائقين. وهكذا فاتني القطار رغم أنفي.

وكان من حسن الطالع أن فورة في الأفكار بدأت تسود تِبِسَّة. ففي ذلك الزمن أنشئ كما أعتقد أول نادٍ في تبسة، وكان ذلك بمبادرة صديقي العدل في المحكمة. وقد اتخذ له مكاناً في قسم من مقهى فرنسي يقع في ساحة القصبة وهو المقهى نفسه الذي يشغله بكامل مساحته.

ولقد أنشئ هذا النادي حين اقتضت حاجة ذلك الفريق من العلماء الذي بدأ يتحلق حول الشيخ (العربي التبسي) إلى مكان، يترددون إليه ولا تتعرض هيبتهم للقيل والقال، وما كان مقهى (باهي) يمنح علماءنا ضمانة كافية في هذا السبيل.

ويمكن أن نلاحظ منذ تلك الفترة أن عِلْمَنا لم يعد يذهب من تلقاء نفسه ليحمل أنواره حيث ينتشر الجهل. بل كان على الجهل أن يسعى إلى العلم ليغترف منه. وفكرة صديقي عدل المحكمة بإنشاء النادي قد حققت بالتالي تسوية بين جهلنا وعلم العلماء.

أما أنا فقد كنت في تلك الفترة آنيّ المقاصد. فقد سررت لأن النادي قد شغل مكاناً خُصِّص من قبل لإله الخمر (باخوس Bacchus).

ثم إن هذا النادي بصفته قائماً في ساحة القصبة، التي كانت المجال الخاص بالأوربي، أتاح للجزائري (ابن البلد Indigène) أن يثبت للأوربي أنه يستطيع أن ينشئ لنفسه مكاناً مخصصاً لاجتماعاته، وهذا ما منحني شيئاً من الاعتزاز.

لم أكن أعرف ماذا كان موقف الإدارة المحلية، ولكني أعترف أنه لم يكن هذا الأمر ليشغلني، إذ لم تكن أفكاري قد بلغت هذا الحد من الإدراك، وما عرفته فحسب هو أن مدام (دوننسان Denoncin) انتقدت الأمر في جمع من أصدقائها يتحلقون في مخزنها بعد ظهر كل يوم.

كان ثمة إحساس غامض استولى على شبان تبسة، إنه الانعتاق من وطأة

ص: 167

التصنيف الاستعماري لسكان البلاد الأصليين، ( Désindigénisation).

فثمة تطورات جديرة بالملاحظة تؤرخ لهذا التحول. فقد بدأت حلقات الرقص تشهد فراغاً من حولها، وكانت من قبل تستقطب في العادة الجزائريين ( Indigène) يتزاحمون بالمناكب حول الحلبة التي في داخلها، يرقص كل زوج من الأوربيين والأوربيات.

لقد أعطى عملنا ثماره. وأعتقد أن مدام (دوننسان Denoncin) نفسها رأته بأم عينها. إذ حين تقام حلبة الرقص في ساحة (كارنو) لا يرى حول الراقصين غير بعض الأطفال يدفعهم الفضول، وكنا نفرقهم بالتي هي أحسن.

وهناك تحول آخر ليس بأقل بروزاً، تم إحرازه على صعيد محاربة الخمر.

وكانت الخطة بسيطة فمنذ أن علقنا نداءنا لتأييد الأمير عبد الكريم وشعب الريف، أمكن استخدام باب المسجد لمثل هذه الأهداف. وفي صبيحة العيد الصغير مثلاً قبل طلوع الشمس تعلق قائمة بأولئك المفطرين في رمضان الذين شربوا الخمر، وقد كان ذلك حلاً جذرياً. ولم تعد مدام (دوننسان Denoncin) ترى المشهد التبسي اليومي حين يقتاد العريف (أنطونيني) صاحبه السكران (بنيني) إلى الحبس؛ وحتى (بنيني) نفسه أقلع عن شرب الخمر لفترة من الزمن على الأقل.

لقد بدأت الروح الاجتماعية تتجلى في تبسة. وها هو ذا المجتمع الجزائري الجديد قد ولد. فالمجتمع ليس كلمة تقال بل هو حقيقة ذات خصائص محددة، بها يكون المجتمع أو لا يكون. وأدعياء الثقافة الذين أطلقهم الاستعمار في السوق الجزائرية والذين احتكروا بفضله وسائل التعبير قد شوّهوا الأفكار الأكثر بداهة وبساطة.

فمع هؤلاء انتقلت البلاد خلال ثلاثين عاماً من الزوايا التي وضعت تحت قيادة (المقدم) والقبيلة الخاضعة لسلطة سيدي الحاكم عبر (القائد)، إلى جمهور

ص: 168

من الناخبين لا اتجاه لهم ولا لون يقودهم الزعيم، وإلى (عمال منظمين) كما يقولون عن أنفسهم؛ أي مجموعة يستغلها حفنة من اللصوص، وإلى جمعية طلاب يوحي إليهم ممثلوهم كيما يهرعوا زرافات إلى محاضرة ما ويقاطعوا أخرى وفق الحسابات الدقيقة لسفارة أجنبية.

وهكذا فإذا ما تأملنا جيداً في الأمر، نجد أن الخصائص التي تميز مجتمعاً ما إنما تكمن في شعوره الجماعي وذاتية قراراته.

وهاتان الخاصتان كانتا أوضح في الجزائر مما هي عليه اليوم.

ففي تبسة منذ عام 1925 بدأت الروح الجماعية في البروز في وقائع محددة. فإنشاء النادي كان أكثر تعبيراً في هذا الإطار من عشرة انتخابات يزورها الحاكم أو الزعيم.

لم يبق النادي طويلاً في مكانه الذي أنشئ فيه، فالناس قد قرروا تهيئة مقر جديد له وتأسيسه وفرشه لإعطائه استقلاله وطابعه الخاص.

وهاهم أولاء السكان منذ ذلك التاريخ يشرعون ببناء مسجد غير خاضع لرقابة الإدارة. وكانت هذه بالضبط خصائص ولادة المجتمع، وليست الكلمات التي أريد صبها في ضمير الشعب، كيما تعميه وتحرفه عن طريق النهضة الحقيقية. ففي تلك الفترة لم تنشغل تبسة بأمور الزعماء وانتخاباتهم، بل بأمور الشعب وتوجيهه نحو بناء المجتمع الجزائري.

فالشعب كان يعمل بنفسه على تأسيس نواديه وبناء المساجد والمدارس.

صديقي عدل المحكمة كان المحرك لكل مبادرة ذات طابع اجتماعي رأت النور في تبسة. فعيد المولد الذي تلا عودتي من فرنسا، كان هو نفسه مناسبة لإبراز أهميته ومغزاه الجماهيري.

ص: 169

ولما كانت الكهرباء وصلت المدينة فقد عزمنا على جمع تبرعات لإضاءة مئذنة المسجد، وأعطى الشيخ (الصدوق بن خليل) كل ما عنده من فن وبراعة لكتابة أربع لوحات خاصة لهذه المناسبة، علقت كل واحدة منها على جهة من جهات المئذنة. وفي ذلك المساء اعتقدت مدام (دوننسان Denoncin) أن شيئاً ما يتحول بالفعل عند هؤلاء الجزائريين المتخلفين ( Indigène).

في النادي اتخذت سائر هذه القرارات، فالأمور يأخذ بعضها برقاب بعض، والعمل يجر آخر سواه، وهكذا أضحى النادي الينبوع الذي تستمد منه الحياة الاجتماعية في المدينة قوتها. ففيه ولدت فكرة المدرسة وفكرة المسجد الجديد.

كانت الشهور تمضي ومشكلتي ما تزال تطرح السؤال: ما العمل؟

كتبت رسائل أكثر إلحاحاً إلى النيابة العامة. وكان لإلحاحي أن يحل مشكلتي على المدى الطويل، وهكذا جاءني الجواب أخيراً يعرض علي اختياراً بين ثلاث محاكم بوصفي عدلاً فيها. لم أعد أذكر غير محكمة (أفلو) التي اخترتها.

بدا لي مرتب العدل في المحكمتين الأخريين كافياً ليجلب الكثيرين من المزاحمين الجزائريين من السكان الأصليين أمثالي، على الرغم من أنه متواضع في الحقيقة تافه بالنسبة لمرتب أوربي.

لقد رغبت أن أصبح عدلاً على الفور. و (أفلو) بدت لي قادرة على أن تقدم هذه الإمكانية بفضل الراتب فيها وهو لا يتجاوز الستين فرنكاً في الشهر.

كنت متأكداً بأن وظيفة خالية كهذه لا تثير مزاحمة كبيرة وما تبقى فسوف يُرى. (بوكاميه) عوّدني على نظام للطعام يسمح لي بمواجهة ما يتصور من شظف العيش. ومن ناحية أخرى فقد قيل لي إن (أفلو) في الجنوب الوهراني

ص: 170

غير بعيدة عن (الأغواط). وحينما كنت أقضي أوقات فراغي في السنة الثانية من المدرسة في رسم مسالكي عبر الصحراء كان بعضها يمر بالأغواط.

(أفلو) كانت بالنسبة لي مرحلة نحو (تمبوكتو).

هذه كانت على وجه التقريب الأسباب التي دفعتني لاختيار هذه الوظيفة المتواضعة، لكن الإدارة من ناحية أخرى لم تكن على عجل من إلحاقي بالعمل، وقد تركتني في رهق الانتظار أشهراً قبل أن تلحقني بهذه الوظيفة الشاغرة.

وأخيراً، وذات يوم استدعاني قاضي تِبِسّة ليبلغني تعييني. كدت أطير من الفرح.

كان ذلك في شهر آذار (مارس) من عام 1937 حين وصلت إلى (أفلو). لم يسبق لي أن زرت منطقة وهران من قبل. وحين فصل بنا المسير إلى (إغيل إيزان) لنبدل القطار إلى (تيارت)، زايلني شعور بالاغتراب إذ بدأت لهجة الناس تتغير.

فالناس الذين استقلوا معي مركبة الدرجة الثالثة المتقشفة يقولون (واه) إذا أرادوا أن يقولوا (نعم)، وفي قسنطينة نقول (هيه) أو (نعم) حسب درجة الثقافة، فهذه الـ (واه) بدت لي غريبة كأن فيها شيئاً من اللغة (البربرية)، وغرابتها تشبه غرابة من يقول في فرنسا القرن العاشر ( oe) لرجل يقول ( oll).

لكن حسن تصرف الناس الذين استقبلوني في (أفلو) قد أشاع الطمائينة في نفسي والإعجاب أيضاً.

والشيء الوحيد الذي بدا لي مستغرباً من العشية الأولى في أفلو هو (الكسكسي) الذي قُدِّم إلينا عند القاضي الذي كنت ضيفه.

ص: 171

فأمام كل مدعو حيث توجد ملعقته التي يغترف بها من الإناء المشترك، وضع طبق فيه الزبد الطازج الممزوج بالعسل. والطبق الذي كان أمامي قد اختُصّ بقدر كبير لأنني كنت بالإجمال ضيف الشرف.

في ذلك المساء كان عليَّ أن أبذل كل مهارة تمكنني من ألاّ أتذوق العسل بلساني، لكنني عدت إلى تذوقه وتعودت طعمه، وإني اليوم أحلم بـ (كسكسي) أفلو كما كانوا يعدونه. لكن الذي أسرني أكثر من أي شيء آخر سيماء سيد القوم وقد بدت عليه الأصالة والنبل، كان القاضي شيخاً تلفه مسحة من الجمال؛ وجه مستدير يعتمر بعمامة من (الأغباني) يبين تحتها جبين محدودب شيئاً قليلاً، يبدي نظرات صافية تحت حاجبين غليظين أبيضين. كان رَبْعةً ويداه ممتلئتان كشيخ سليم البنية، أنيق الملبس، في برنصه نوع من النسيج الدقيق الناعم فوق قندورة من الجنس نفسه، تُبدي فتحتها من تحتها (غليلة) سترة و (بديلة) صدرية، زُرِّرت بأزرار صنعت من الخيوط وفق طراز عهد مضى.

بقي القاضي خلال المأدبة بعيداً عن ضيوفه. إنه يأكل عندما ينتهون من الإناء نفسه، فهذه سمة الضيافة سرت في دمه عبر الأجيال.

في بهو الضيوف حيث نأكل توجد سجادة مبسوطة على الأرض، وهي من تلك البسط الفاخرة في الجزائر ينتجها سكان جبل (عمور)، المنطة ذات الاسم والشهرة معاً.

على كرسي بجانب الصالة ثمة مصباح يضاء بالبترول. إنه بسيط غير ذي طراز لكن بساطته تنبئ عن النبل والعراقة.

ثمة شعور منذ تلك العشية تملّكني، لقد وجدت في ذلك الجو الجزائر المفقودة، والأيام التي تلت أكّدت في نفسي هذا الشعور، فهأنذا في الجزائر البكر

ص: 172

في زاوية لم يقتحمها الاستعمار بعد، كأنما قد لاذت بها البلاد لتضع في حرزها الأمين كنوزاً من لطف المعشر والكرم والإخلاص وحب الخيل والبراءة.

وبينما كنت في عالم أحلامي هذا منذ الليلة الأولى نسيت كلمة (واه) تتردد من حولي واسترسلت في حب هذا العالم.

وأعتقد أن هذا العالم قد أحبني بدوره على الرغم من أني كنت حاسر الرأس في سروال (رعاة البقر)، ينتهي عند الساق في حزامين من الجلد، وهو هندام تفرَّدتُ به بين الحاضرين الذين يضعون العمائم ويرتدون (البرانص) و (القندورات).

وقد اعتنيت عند مغادرتي تبسة بأن أحمل معي فراشاً وأغطية، لعلمي أنه بستين فرنكاً لا ينبغي أن أفكر بغرفة في فندق.

لكن (أفلو) تخلو من فندق، والمسافر الغريب قلما يقضي الليل بها، فهو يتابع سيره إما في اتجاه (الأغواط) أو الاتجاه الآخر نحو (تيارت).

وإذا اتفق لرجل من البلاد أن يبيت ليلة في (أفلو) فمنزل أيٍّ من معارفه هو فندقه، سواء أكان قريباً أم صديقاً.

ولذا فمنزل الشيخ (بن عزوز) هو بالتأكيد الفندق الأكثر رواجاً. قاعة الضيوف هي قاعة للطعام نهاراً وللنوم ليلاً، فيها يتمدد على السجادة الكبيرة ضيوف اليوم وأولاد العائلة غير المتزوجين.

ومنذ ليلتي الأولى في أفلو اتخذت جانباً فارغاً من المحكمة غرفةً لنومي فيها مددت فراشي، وفي يومي الثاني أصبحت بالتتابع ضيف سائر أعضاء المحكمة وبعض وجهاء المركز. وحين انتهت قائمة الدعوات، كان السي (عمر) الابن الأبَرّ بالقاضي يأتي إلى المحكمة ليأخذني ظهراً، أي في تلك الساعة التي أبدأ فيها البحث عن أية وسيلة أتبلغ فيها غذائي في مدينة لا فندق فيها ولا مطعم.

ص: 173

هكذا أصبحت واحداً من أعضاء مائدة الشيخ (بن عزوز)، ذلك الرجل الذي حمل على كاهله بكل اعتزاز تقاليد الضيافة، وقد جعل منها سبب وجوده حقاً.

وغدوت من ناحية أخرى الصديق الذي لا يفارق ولده سي (عمر)، وحين يحين وقت الطعام كنا نتوجه إلى منزله كما أتوجه إلى منزلي في تبسة. كانت هذه عظمة، إنما بغير حركات طنانة رنانة، لأنه لا منّة فيها ولا استكثار. فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذلك النبل الذي حفظته الطبيعة في عروق البدوي.

كانت (أفلو) بالنسبة لي مدرسة تعلمت فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري الذي لا يزال بكراً، وكانت هذه فضائله بالتأكليد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يُفسِد منها الاستعمار.

على وجه الخصوص كنت أجد نفسي بعض الشيء كأنني في متحف حفظت فيه تلك الفضائل، التي ضاعت في ناحية أخرى بسبب ذلك الاتصال المهين بالحدث الاستعماري، ولم أجد نفسي يوماً أفهم الآية الكريمة كما فهمتها ذلك اليوم {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل 27/ 33].

لست أدري إذا كنت قد فهمتها بهذا الوضوح تلك اللحظة. لكن الذي استولى على ذهني فوراً مع شيء من القلق، ذلك الخطر الذي يتهدد ما اؤتمنت عليه (أفلو) من فضائل دون أن يدرك السكان أنهم الأمناء عليها.

وبقدر ما كانت تزيدني إقامتي بين هؤلاء القوم معرفة بعاداتهم وتقاليدهم كان قلقي يتضاعف. وما دامت المنطقة حبتها الطبيعة البراري الخضراء الرائعة والمراعي الغزيرة، فإنها لن تكون قادرة بسبب الفقر على صدّ مطامع المستعمرين فيها.

ص: 174

وإذا ما وصل إليها الاستعمار، فتلك هي النهاية. المتحف سوف يفرغ من محتواه الذي أودعته فيه القرون كما حدث في النواحي الأخرى في الجزائر.

هذه الفكرة زادت من قلقي. وتملكتني الغيرة والشكوك كما يغار المرء على زوج جميلة. كنت أخاف من أولئك المسافرين الذين يمرون لبعض أعمالهم بـ (أفلو). كان كل وجه جديد يزعجني وأتساءل لماذا جاء إلى هنا؟

وما كانت كل جولة بين القبائل إلا لتؤكد في نفسي هذه الحالة من القلق.

ففي قسنطينة وتِبسَّة وأخيراً في فرنسا اكتسبت معرفة عملية بخطر الاستعمار، ولذا فقد كان لي أن أتوقع مفاسده بين أولئك الناس الذين يعيشون العصر الذهبي الذي عرفته جدتي الحاجة (بايا)، تسودهم البراءة في عاداتهم وقيمهم الأخلاقية وشروط حياتهم الاقتصادية.

والقوم في (أفلو) لم يكونوا في الوقت الذي وصلتُ فيه إليهم قد بلغوا المرحلة الزراعية. لقد كانوا ما يزالون رعاة، يمارسون تربية المواشي على نطاق ضيق أو واسع بدرجة غير معروفة في المناطق الأخرى.

وأضرب مثلاً رجلاً يدعى (أبّا Abba) يمتلك حوالي ثلاثين ألف رأس من الغنم، أما نصيبه من الإبل فكان لا يقل عن الألف وله عدد مماثل من الخيول والبقر.

في مثل هذه الشروط ليست الخيمة في قليل أو كثير دلالة بؤس يعمد إليها من لا قطيع له ولا كوخ، ويصنعها من أي قماش تصل إليه يده أو أي خرقة. إنها ضرورة يفرضها حَلّ الراعي وترحاله مع قطعانه، وهي لذلك ذات نسيج وحجم يتفق والثروة الحيوانية التي لصاحبها.

خيم منطقة (أفلو) تستطيع استقبال فارس على صهوة جواده، وهي تستضيف تحت قبتها الهرمية العشرات من المدعوين. وهؤلاء لا يُستَقبلون في

ص: 175

خيمة العائلة، إنما في خيمة الضيوف التي تبعد قليلاً عن مضربها، وهي مفتوحة لا يستأذن في الدخول إليها مسافر، إنما يكفي أن يربط دابته بجانبها ثم يأكل فيها وتعلف دابته طيلة إقامته.

ويمكن لمن يعيش في تلك المنطقة وتكون لديه فكرة عن ذلك الذي يجري في المناطق الأخرى، التي تلقت صدمة الواقع الاستعماري في الإطار الاقتصادي، يمكن له أن يدرك التحولات النفسية التي تميز الرجل الذي يعيش على الحيوان والآخر الذي يعيش على محراثه.

فقصة قابيل وهابيل تتكرر في كل مرة يتعايش معها في مجتمع ما، الواقع الرعوي والواقع الزراعي كما كان الأمر في الجزائر عام 1927.

فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي. لقد بدأت أدرك ذلك إدراكاً فيه بعض الغموض.

ففي دعوى أمام القضاء في تبسة، يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان لمجرد روح التعصب لفريق، وشهود كل من الطرفين سيحلفان إنهما يقولان الحقيقة.

أما في (أفلو) حينما كنت ترجماناً لمحكمتها فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف، ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح.

ومن ناحية أخرى فقد مكثت عاماً في (أفلو) دوك أن تحدث جريمة. وثمة نادرة كانت الأكثر تأثيراً في نفسي، تلك قصة راعٍ أودع قطيعه المؤلف من خمس مئة أو ست مئة جمل إلى من يرعاه. ثم افتقد الراعي ذلك المؤتَمَن ولم يعد يراه ويئس من رؤيته ثانية.

وبعد مضي عامين يرى فجأة قطيعه في مضرب الخيام وقد بلغ ضعفين: ذلك أن الذي أخذ القطيع ليرعاه تاه في الصحراء بحثاً عن المرعى والكلأ. وقاده

ص: 176

ذلك إلى حدود السودان. ومدة الذهاب والعودة التي حكمتها مسيرة القطيع بما يحفظ عليه صحته وإنتاجه، قد استغرقت عامين، وخلال ذلك فإن الراعي الأمين لم يأخذ من هذا القطيع غير ما جادت به أثداء النوق من لبن لغذائه.

والرعاة في (أفلو) لهم أيضاً ظواهر غريبة. إنهم يمضون الليل وقوفاً وسط القطيع. وتحسب أن الراعي لا ينام، لكنه وهو متكئ على عصاه ينام واقفاً. ومع ذلك فأقل حركة في محيط القطيع تنتقل إلى ساقيه انتقال الموج وتجعله يفتح عينيه. ذلك أنه من أجل اتقاء هجمات ابن آوى في الليل فأجيال الرعيان في (أفلو) تعلمت النوم هكذا وقوفاً.

لكن السمة الأبرز في أولئك القوم من الرعيان هي بلا جدال كرمهم. فالفلاح يعمل ويزرع ليخزن محصوله بعد ذلك، إنما الراعي يعمل وينام واقفاً وسط قطيعه كيما يستقبل بكل ترحاب ضيوفه. وكثيراً ما أضحت روح الضيافة عند بعضهم حالة مَرَضية.

وحين يكون أعضاء المحكمة في رفقة القاضي في جولة خارج (أفلو)، فالموكب بسائر أعضائه مجتاز البراري الخضراء والسهول المغطاة بالحلفاء: نتغدى في مكان، وفي مكان آخر يكون العشاء والنوم. وفي كل مكان نحطّ رحالنا فيه يكون طعامنا الحمل المشويّ، يُشوى بكامله على نار الحلفاء سواء كنا ضيوف الغداء أم ضيوف العشاء.

والفرصة سانحة حينئذ وخصوصاً في المساء لتعقد حلقة الساهرين تحت خيمة مضيفنا وجيه القوم.

فحين يفرغ الرعاة من طعامهم ذلك المساء وقد شاركونا أكل اللحم المشوي والكسكوسي، فإنهم ينسحبون بلباقة السادة ليأخذوا مواقعهم وسط قطعانهم، ويبقى الشيوخ والشباب يسامروننا وهم يقصون علينا النوادر.

ص: 177

كان كل منهم قاص جيد. وربما يتكلم العربية دون التزام بقواعد اللغة، لكنها الأصفى بلا ريب في سائر أنحاء الجزائر.

هكذا أصبحت الرحلات التي تقوم بها المحكمة بمثابة العيد عندي. وفي رحلة من تلك الرحلات كان ثمة ما هزني كما لم يهزني من قبل.

فلكي يتفادى موكبنا أحد المضارب فقد أمر القاضي أن يتخذ طريقاً متعرجاً. لم أفهم السبب، وفجأة أبصرنا فارساً من ذلك المضرب يعدو بسرعة ليلحق بنا. سلّم علينا وهو يتوجه نحو القاضي قائلاً:

- ياه! شيخ (بن عزوز)، مضربنا إذن مقبرة حتى ابتعدت عنه!

كان الرجل في الأربعين من العمر، عليه سيماء النبل وهو فوق جواده يمتطيه بغير سرج، لم نر في صورته السخط أو الغيظ، إنما كانت نبراته تنبئ عن شيء من العتاب. ورأيت الشيخ القاضي يجيبه محرَجاً:

- لا بل نحن في عجلة من أمرنا وقد تفادينا مضربك لا لأننا لا نرغب في زيارتك، ولكن لعلمنا بأنك ستمسك بنا.

أجاب الرجل بلهجة حازمة:

((أرجوكم أن ترجعوا لتمضوا الليل تحت خيمتي)).

أذعن الشيخ وتبعناه. وفي الطريق سألت معاون المحكمة الحاج (محداً) عن مغزى ما حدث وقد كان عندي المرجع في شؤون المنطقة ورجالها.

قال لي: ((هذا الرجل كان يملك ما يقرب من خمسة آلاف رأس من الغنم. ولكن منذ عامين أصابتها آفة قضت على معظم القطيع، ولذا فقد أراد القاضي أن يتفادى خيمته حتى لا يسبب له نفقات إضافية)).

استقبلنا الرجل بكرم الأمراء في خيمة تشهد بسابق غنى صاحبها. كلّ منا

ص: 178

أدلى في الحديث دلوه. ولأنني لا أرغب في أن أقضي العمر في المحاكم فقد عاد بي إلى الذاكرة مشروع السفر إلى أوستراليا. وهكذا تحدثت عن مشاريعي الخيالية هذه، ثم قضينا السهرة في الأقاصيص والنوادر.

في الصباح وكما جرت العادة في هذه الرحلات، يبدأ الشيخ بسرج حصانه استعداداً للرحيل.

تدخل مضيفنا قائلاً: ((أقسم بالله لن تذهبوا قبل أن تتناولوا طعام الغداء عندي)).

لم نبدِ أية معارضة أو احتجاج. وكانت شمس الصباح ساطعة في بقعة كثيرة الوهاد، فتاقت نفسي للتجول حول الخيمة والخروج إلى تلك البراري التي لم يطأها الاستعمار بعد، وما تزال بكراً لم يُقَلّبا المحراث تربتها.

ومن إمارة الحفاوة أن يصحب المضيف ضيفه في تجواله، ذلك أسلوب الضيافة في ريفنا. ولذا فقد خرج مضيفنا معي، تجولنا معاً بين أكوام الخلفاء نتجاذب أطراف الحديث. وفجأة قال لي مضيفنا:

- أتصحبني معك حينما ستذهب إلى أوستراليا؟

إنه يبحث هو الآخر عن أفق بعيد، وها هو ذا قد آمن بأوهامي. وأردف الحاج محمد موضحاً أنه لم يبق لديه غير عشرة خرفان وقد نحر اثنين منهما من أجلنا.

لقد فهمت إذن مأساته. ومأساة هذا المجتمع البريء الذي لا يعرف كيف يقابل الشر بالشر.

إلا أنه لا ريب ثمة آفة اجتماعية في (أفلو)؛ إنها البغاء الذي يقبله المجتمع بوصفه جزءاً لا يتجزأ من فولكلوره. إنه مقبول قبولاً تستطيع معه واحدة من

ص: 179

(القوّادات) أن ترسل براداً من الشاي، تقدمه لأعضاء المحكمة ويضعه صاحب المقهى أمام الشيخ (بن عزوز) بالذات.

كان ثمة فتيات من جبال (عمور) عيونهن لوزية، يأتين لا ريب من القبائل إلى سوق المركز يثرن بجمالهن العموري اضطراب الفتيان.

لكن فسادهن يبقى في حدود المناسبات. إنه عَرَضي لم يولد تلك النتائج الاجتماعية التي نجدها في المدن، كالجزائر، حيث البغاء ينظَّم تجارة ولّدت محيطاً خاصاً بتجارة الرقيق الأبيض.

ففي (أفلو) تقف الانحرافات عند هذا الحد: بنت تخلى عنها زوج طائش، أو كانت دون عائلة أو انجرفت بمثل سيئ أودى بها.

لكن هذا التردي يظل في حدوده الأخلاقية والاجتماعية، فقد بقي لهذه البنت أصالة من شرف تستطيع أن تعود بها إلي الطريق السليم، ومغامرتها لم تولّد تلك الأوبئة المخيفة التي يفرزها البغاء المنظم في أماكن أخرى، حيث أضحى تجارة وسوقاً وبضاعة مهربة وصناعة.

فالناس في الأعماق طاهرون ما تزال تسودهم البراءة، ولم يعرفوا بعد الرذيلة المتأصلة. ثم إن الضجة التي بدأت تحرك الأفكار في قسنطينة لم تكن قد امتدت بعد إلى منطقة وهران، فهناك لا تسمع أحداً يتكلم لا عن الإصلاح ولا عن الأسطوانات المصرية.

ولم يكن الشيخ (الإبراهيمي) قد وصل بعد إلى تلمسان. وأظن أني أنا الذي أدخلت العدد الأول من مجلة (الشهاب) إلى (أفلو) وكانت أقرؤها مع السيد عمر ابن القاضي، الذي لم يكن يقبل محتواها كله.

كان الناس ما يزالون خاضعين للروح (المرابطية)، ولذا فهم يقيمون الاستقبالات الحاشدة لممثليها حينما يأتون كل عام ليأخذوا حصتهم السنوية.

ص: 180

فالمرابطون يجمعون هكذا زكاة سائر المنطقة التي هي كثيرة الغنى والكرم معاً.

ومن الطبيعي أن استغلال سذاجة الناس ما تفسح المجال أمام حيل تضحك اليوم الطفل، لكنها في ذلك العصر تركت أثراً بعيداً في بساطة أولئك القوم.

هكذا كان الناس يشهدون كل عام موكب (القادرية) المهيب يأتي إلى (أفلو). راية ترفرف، وعلى رأسها ابن شيخ الطريقة (المقدّم) يلبس الثياب الخضراء من رأسه إلى قدميه، إنها ثياب أهل الجنة، وهو ذو ذكاء شيطاني يعرف كيف يبتزّ من السذاجة العامة للناس كل ما يريد.

لقد كان يملك في تلك الفترة في (وادي سوف) بستاناً للنخيل، مؤلفاً من حوالي ألف نخلة، وهو من هبات أولئك الذين يريدون أن يدخلوا الجنة في موكبه.

وهنالك مرابطي آخر يأتي من (الأغواط) حيث اختارها مقاماً. إنه يمثل الطريقة الرحمانية طريقة قاضينا الوقور، إنه مشعوذ أمكر. وهو يعرف كيف يستولي على مخيلة مريديه بأساليب جد بسيطة.

كان يحمل في حقيبةٍ ملابس ضابط في الجيش الفرنسي. وحينما يتسنى له أن ينفرد بنفسه ولو لبضعة دقائق فإنه يرتدي ذلك الزي الذي هو شعار السلطة والقدرة في عيون أتباعه. وحينما يراه القوم بعيون الأطفال الذين يرون الحياة عبر رموزها، فإنهم يعطونه سلطة أكبر مما يعْنِيه سمت ضابط فرنسي.

ويقال إنه يستطيع وهو جالس في (الأغواط) في غرفته ومن حلقته بين مريديه، أن يرى قافلة تأتي من بعيد إلى المدينة فيرسل إليها من يستقبلها.

وطبيعي أنه إذا ما كان ثمة منظار شبيه بذلك الذي تستخدمه الغواصات،

ص: 181

قد رُكّز عل شرفة أحسن إعدادها فإن المعجزة ممكنة الحدوث. ولكن علينا أن نفهم أثر معجزة كهذه في خيال قوم سذج.

وفي تبسة كان الشيخ المرابطي فى تلك الفترة يجلس في المقاهي يشرب خمرة اليانسون ( Anisétte)؛ ويسقي مريديه تواطؤاً مع صاحب المقهى شراب اللوز. أعني ذلك الشراب ذا اللون الحليبي نفسه الذي يتخذه خمر اليانسون إذا ما أضيف إليه الماء.

وكان المعلّق يقول: ((ألا ترى أن خمرة اليانسون تصبح في حلق سيدنا الشيخ شراباً؟)).

ومن أجل أن تدخل الإدارة في رأس مستعمَريها (أبناء البلاد) تلك الجرعات من السذاجة الضرورية لمصالحها الخاصة، كانت في تلك الفترة وخصوصاً في وهران، تعمد إلى حرق أكوام قمح أوربي مستعِمر رفض أن يعير أدواته ليحصد بها قمح (سيدي المرابط الفلاني).

وكان المعلق يقول:

- ((أترى أية كرامة لسيدي فلان؟ فالمستعمِر الذي رفض أن يعيره أدواته قد احترق موسمه)).

وأنا نفسي كدت أن أعامل بوصفي شيخاً مرابطياً في منطقة (أفلو). ففي يوم أثناء جولتنا جاء رجل من أبناء البلاد ( Indigène) ليقبل ركبتي. ربما كان ذلك بسبب هندامي الفريد الذي ميزني بسلطة ما في عينيه.

كان ذلك كله يتسرب إلى عميق نفسي فيتخذ له فيها شعوراً وفكرة.

لقد خفت أن يأتي المستعمر إلى هنا فيفسد تلك العجينة الإنسانية الطيبة التي احتوت بعض السذاجة وعظيماً من الفضائل.

ص: 182

وما كنت لأستطيع إصدار قانون يحرم جبل (عمور) على المستعمر، كما يمنع دخول متحف وضعت فيه أشياء ثمينة في منتصف الليل مثلاً.

ولما كانت خبرتي السياسية والاجتماعية قد تكونت شيئاً ما، فقد عزمت على أن أبذر الخوف في كل مكان أمر فيه خلال جولات المحكمة.

كنت أشرح نظريتي للمضيف الذي يستقبلنا. وكانت تلك النظرية بسيطة:

ينبغي أن تفلح أكبر قدر من المساحة حتى تنشئ حقك على الأرض، تلك الأرض التي لا تملك فيها سوى ما تنْبته الطبيعة من العشب اللازم لقطعانك.

قلت للمضيف: ((لابد إذن أن تنشئ حقك الاجتماعي في الأرض. ذلك الحق الذي يخولك أن تكون المالك الشخصي لها، وأن تكون لك الإرث الذي ينتقل إلى أبنائك)).

كان المضيف دهشاً عموماً من سماعه لحديث مثل هذا حول طبيعة حقه في أرض لم يجادل فيه أحد أجداده عبر الأجيال. هكذا تعمقت بنظريتي أكثر فأكثر. ثم أستمر قائلاً:

((وإلا فالمستعمر سيأتي ليحتل الأرض التي عليها خيمتك، وحينئذ أنت مضطر للرحيل من هنا لأنك في نظر القانون الفرنسي لست مالكاً للأرض)).

لا أعرف ما إذا كانت أطروحتي هذه تجد أساسها في القانون المدني. ولكن الذي كان يهمني إنما هو أثرها في مستمعي، وكنت ألحظ بسرور أمارات الرعب على وجهه.

هكذا كنت في الذهاب أغرس ذلك القلق فأرى نتائجه في الإياب عبر الرحلة الواحدة للمحكمة.

ص: 183

في الذهاب كنت أشرح نظريتي، وفي الإياب خلال أربعة أو خمسة أيام كنت أجد مضيفنا منهمكاً في الحرث.

لقد عاودني الحنين على الرغم من ذلك كله إلى تبسة. واستبدت بي حاجة إلى رؤية الأهل، وخصوصاً أمي.

ثم رأيتني أحن إلى الأسطوانة المصرية وباهي وأقاصيصه.

ربما كنا في شهر آذار (مارس) من عام 1928.

توقفت في قسنطينة قبل أن آخذ عربة تِبِسّة. لقد أردت أن ألتقي الشيخ بن باديس خاصة. فمجلة (الشهاب) قد جدَّدَتْ في نفسي خلال إقامتي في (أفلو) الأفكار التي كنت أروجها في مقهى بن يمينة والمدرسة.

مررت أولاً بمقهى بن يمينة، وكان يحتفظ بنشاطه الذي عهدته فيه. استقبلوني استقبال الأخ الاكبر. و (الأخوان مشاي) من قالما احتفلا بي كمن يحتفل بمرشده. فحين كنت مدرسياً كنا نقرأ وننقد سوية نصوصاً فرنسية وعربية.

وحينما مر الشيخ بن باديس في طريقه إلى مكتبه تبعته. كان معه بضعة أشخاص، ولربما كان يرى لأول مرة هذا الفتى ذا النظارتين والسروال والحزامين عند ساقه والرأس الحاسر؛ لذا لم يدعُني للجلوس. وتحدثت إليه واقفاً عن أشياء عديدة، وأذكر أني حدثته خاصة عن مشكلة الأرض في جبل عمور. وكان بادياً أن الشيخ لم يُعِر ذلك أي اهتمام، كان متملصاً ومهذباً معاً.

خرجت من عنده وفي نفسي شيء من خيبة الأمل. فَعَجِلْتُ إلى رؤية (باهي) في تبسة والاستماع إلى أسطواناته وقصصه.

وجدت تبسة تغلي بحمى الإصلاح. لقد بُني المسجد الجديد والمدرسة. وقد جُمعت التبرعات من الناس من أجل البناء.

ص: 184

وامرأة عجوز من الزاوية تبرعت بديك معتذرة بأن ذلك هو كل ما لديها. كُلٌّ قد أسهم بحسب قدرته. وكان هنالك من أسهم لكي يراهن على المستقبل. فالمستقبل حتى تلك اللحظة كان في اتجاه إرادة الشعب. فكان للمرء أن يصبح مكافحاً في سبيل الإصلاح لخدمة هذا الشعب أو لاستغلاله.

حتى (المقدم) الشريف الوقور مقدم الطريقة القادرية في تبسة، أقفل زاوية تبسة بمحض إرادته ووضع المفتاح تحت الباب ليصبح معلماً بسيطاً للقرآن في المدرسة.

و (باهي) لم يعد يستطيع أن يقذف (البندير (1)) في الفضاء بطريقة بهلوانية، وقد تعود أن يضرب عليه ضرباً يهدئ به الغضب الذي كان يحدث له مثيله وهو يضرب على الطبل قبل تسريحه من الجيش.

فهذا القَنَّاص العجوز أضحى إصلاحياً ومقهاه غدا مركزاً للدعاية الإصلاحية. الحديث حول الأفكار الجديدة بلغ مداه حتى في العائلات. فأمي أضحت ذات نزعة إصلاحية وأبي أيضاً، وجدتي الحاجة (زليخة) كانت تستمع إلى المناقشات ثم تتجه إلى التسبيح بسُبحتها. وصهري زوج أختي الكبرى بقي جامداً على حالاته المرابطية. وهذا ما أورث البرود بيني وبينه، بينما لم يكن لزوج أختي الصغرى مشاركة في هذه الأمور.

في المدينة أضحى النادي القلب الذي تنظم نبضاته جريان الأفكار وانتشارها. فالتبسيون كانوا يجتمعون فيه في الظروف التي تهم الناس جميعاً. وكان رجال القبائل اليحياوية والليموشية يترددون عليه أيضاً حين يؤمون سوق المدينة، وكانوا يحملون معهم الأفكار التي ينشرونها، ليبذروها في الدواوير خلال السهرات تحت الخيمة كما تنقل أسراب النحل رحيق الأزهار حين تمتصها.

(1) المزهر في بلادنا.

ص: 185

وفي هذه السنة ظهر في تبسة المسرح الجزائري لأول مرة، حين أمَّت المدينة فرقة (المزهر البوني) التي أسسها في عنابة سي (الجندي) وكان يعمل وكيلاً قضائياً.

كان مرور هذه الفرقة في المدينة حدثاً ثقافياً كما نقول نحن اليوم، لكنه حدث سياسي كذلك. ذلك أن سي (الجندي) كان يفكر في كل شيء عدا التمثيل؛ لكنه كان بإمكان هذا المسرح أن يساعد على إحياء اللغة العربية وأمجاد الماضي. وقد خلفت هذه الزيارة في رؤوس شباب المدينة فكرة تأسيس فرقة مسرحية تبسية.

كانت السيدة (دوننسان Denoncin) ترى جيداً التحولات في وسط سكان البلاد ( Indigène)، لكنها لم تكن تدرك مغزاها. والإدارة ذاتها لم تكن أكثر إدراكاً منها لحقيقة ما يجري. إذ كانت في مراقبتها للأمور ترى أنها تترك مستعمريها سكان البلاد لأعمالهم الصبيانية هذه.

لكنه في تلك الفترات بالذات وصل أول فيلم مصري إلى قسنطينة، إنه فيلم (الوردة البيضاء) وكان هذا حقاً إنتاجاً صبيانياً.

لقد أضاع (جورج أبيض) جهوده في مشاهد صبيانية، والمنتج المصري أنفق أمواله وهو لا يدري أن مخرجه الإيطالي قد هزّأ موضوع الفيلم بشطحة ساخرة من آلة تصويره.

وعلى الرغم من ذلك كله فإن جميع شباب المنطقة قد هبُّوا إلى قسنطينة لمشاهدة الفيلم، وكنت أنا بالطبع من بين أبناء تبسة الذين لم تفتهم هذه الفرصة.

لكن النظام الاستعماري استمر في توسيع سلطانه على الأرض والناس معاً.

ومنذ الحرائق الكبرى للغابات المحيطة بتبسة بدأ الريف يأخذ شيئاً فشيئاً

ص: 186

مظهر الصحراء. وسيارات (السيتروين والرينو) امتصت ميزانية الناس الهزيلة بالمحروقات. وهي تشق أرجاء هذا الريف بطرقاتها.

لقد وضعت هذه السيارات حداً لتلك الصيغ من صلات المودَّة التي نشأت بين الدوار والمدينة: إذ كان رجل الخيمة من أبناء الريف مضطراً أيام السوق أن يقضي الليل تحت سقف ابن المدينة، وكان هذا الأخير في الفصل الجميل يحب أن يقضي بضعة أيام تحت خيمة صديقه من أبناء الريف.

فالمواصلات السريعة كان لها الأثر الذي عمّ العالم كله: لقد ضاعفت من الاتصالات لكنها جعلتها سطحية. وهكذا فإن رسائل (مدام دو سافيني Madame de Savigné)، وصلات الأسفار التي حققها ابن بطوطة والمسعودي لم تعد ممكنة في عصر المحرك الانفجاري.

وبالنسبة لي فقد بقيت المشكلة المطروحة: ما العمل؟

فـ (أفلو) لم تكن غير مرحلة لا شك أنها استهوتني، لكنها تظل مرحلة في الحياة.

وبقدر ما أضحت تمبوكتو وأوستراليا بعيدتي المنال، فإن أفكاري بدأت تتجه نحو التجارة.

لقد وجدت في (أفلو) فرصة في هذا المجال: إنه (جذر القنطس pyrèthre) يباع غالياً في تبسة وقسنطينة، ثم يصدر منها إلى فرنسا لصناعة المواد القاتلة للحشرات في زمن لم يكن فيه قد عرف مبيد (د. د. ت D.D.T).

وكنت بالاتفاق مع السي (عمر) ابن القاضي أشتري هذه الجذور من جبل (عمور) بعشرة فرنكات للكيلو الواحد، وكنت أبيعه بحوالي عشرين فرنكاً في تبسة.

ص: 187

إنني أدلي هنا بهذا الاعتراف الصغير لأولئك الذين يتحدثون اليوم في الجزائر عن استغلال الإنسان للإنسان، حتى يتقنوا هذا الاستغلال بصورة أفضل.

وإليكم تفصيلاً مضحكاً. فحين مروري بقسنطينة تقابلت مع (دورنون)، الذي سألني عما أنوي فعله إذا كنت، أرغب في البقاء بـ (أفلو) فأجبته ببراءة:

- سأتاجر بالـ ( pyrèthre) يا سيدي المدير؛ وصرخ بشيء من الذعر:

- تتاجر بتهريب الأسلحة؟

وقد أدركلت على الفور بأنه قد خلط بين ( pyrèthre) ومركبات (كبريت الحديد pyrites)؛ فأوضحت له نواياي السلمية حتى يطمئن إلى مستقبل الاستعمار في الجزائر. ألم نكن في عام 1928 أليس كذلك؟.

اطمأن دورنون، ولعله كان يفكر في مهر بناته لذلك فقد عرض عليّ أن نفتح سوية (كشكاً) لبيع الدخان. وأجبته: إننا نستطيع سيدي المدير أن نهتم بتربية الخرفان فهذه تجارة أربح.

بدت له الفكرة مغرية، وهي قد أغرتني أكثر لكن المدير حققها في النهاية مع مدرس من تبسة. فقد عرف هذا الأخير أن يقنع المدير بأن مستقبل بناته في الزواج سيكون أضمن، حين يكون الأمر في يديه من أن يكون في يدي.

وهكذا بقيت أبحث عن مستقبلي. وفيما أنا أوزع وقتي بين أمي التي أحب صحبتها كثيراً، والنادي الذي كنت أحرك فيه مع أصدقائي الأفكار الجديدة، ومقهى (باهي) حيث كنت أستمع للأسطوانة المصرية، كان السؤال الدائم يُقلِّب في ذهني وجوهه:(ما العمل)؟

كنت أقرأ أيضاً أعداد (العصر الجديد) التي عادت الإدارة فسمحت بإصدارها. وكنت أغترف منها ذلك الغذاء الروحي الذي يروي تعطشي لمعرفة

ص: 188

أنباء العالم الإسلامي. فالصحافة الوطنية في تلك الفترة لم تكن بعد تملأ صفحاتها عن الحزب والمناضل.

ومن حين إلى آخر كنت أقرأ جريدة (صوت المساكين La Voix des humbles) وكنت أمُجُّ كثيراً هذا العنوان.

كان ثمة جديد في جبهة الإصلاح. فالشيخ (العقبي) استدعته بعض العائلات الميسورة في الجزائر، فقد أرادت بدون شك أن تمنح مدينتها عالماً كما كان لقسنطينة عالمها.

لقد أنشأ (العقبي) في الجزائر (نادي الترقي)، وقد بلغ الجدل بين الإصلاح والمرابطية أقصى العنف. وقد أسس المرابطيون صحيفة تنطق بلسانهم أعتقد أن اسمها (السنة).

الشيخ (مبارك الميلي) و (أبو يعلى الزواوي) كانا بَطَلَيَّ المفضلين في تلك المعركة. كان للأول عنف الاقتناع بالعقيدة وللثاني وضوح الأفكار.

حرارة الإصلاح بدأت تجتاح وهران. فالناس في بلدة (سان دوني دوسيج St Denis - du -Sig .. ) بنوا مدرسة دعوا من أجل إدارتها الشيخ (العريي التبسي). وكان (باش آغا) المنطقة (بوشيحا) يدلي بنصيبه من تلك المبادرة، إذ كان يغطّي من جيبه الخاص ميزانية المدرسة وإدارتها.

كانت هذه سمات ذلك العصر، فقد كان الناس يلتزمون بملء اختيارهم دون أن يدخلوا في حسابهم رأي الإدارة.

عطلتي شارفت على النهاية.

وفي محكمة تبسة وقد حافظت على صلاتي؛ أبلغت بأن وظيفة عدل فارغة في

ص: 189

(شاتودان Chateaudun) فتقدمت إليها. لكن عطلتي انتهت قبل أن يأتي جواب النائب العام في الجزائر.

وفي الصباح غادرت تبسة عائداً إلى (أفلو)، وأمي متكئة على عكازيها صبت بين قدمي (ماء العودة) عند سلم المنزل، إذ لم تكن تستطيع النزول لتشيعني حتى الباب.

حين وردت موافقة النائب العام كان رحيلي من (أفلو) مؤثراً. فالقاضي الهمام (بن عزوز) بكى لافتقاده نزيلاً يأكل على مائدته طيلة عام بالمجان. ابنه سي عمر انهار أيضاً واتهمني بالعقوق إذ طلبت نقلي من أفلو، حقاً فقد جُبِلْتُ لأعيش بين هؤلاء القوم أولي الشهامة في حياتهم البسيطة والنبيلة معاً.

لكنني كنت أحمل بين جوانحي عذاباً لا تخفف منه (أفلو). وهكذا كان رحيلي ضرورياً.

ولكن تصوروا لو أنكم تسكنون في بناء جميل في جناح تدخله الشمس من كل جانب، وتسرحون النظر في طيور السماء ونجومها، وفجأة ترون أنفسكم قد أودعتم في كهوف ذلك البناء لتسكنوها.

كنت تماماً في ذلك الوضع منذ وصولي إلى (شاتودان)، كانت هذه البلدة مركزاً كبيراً للمستعمرين، كل شيء فيها يخضع لقانون الاستعمار.

أما حياة السكان الأصليين فكانت نوعاً من الإقامة في أرض أجنبية، كانت فارغة من كل محتوى أصيل وصحيح، كإنتج مصطنع يمثل في ظاهره شيئاً ما لكنه ليس في حقيقته الشيء نفسه. لم يدعُ أحد من القوم ذلك العَدْلَ الشاب الذي وصل به الأمر إلى درجة لا يعرف معها أين يسكن. وفراشي أخرجني والحمد لله مرة أخرى من هذا المأزق. لقد مددته على مقعد قاعة محفوظات المحكمة. وكان في المدينة امرأة يهودية عجوز قد اتخذت من دارها لتعيش هي

ص: 190

وزوجها دائم السكر نوعاً من المكان، تقدم فيه طعاماً يومياً لصغار موظفي المنطقة، صغار حجاب ( Chaouch) المستعمِر أولئك الذين لا تسمح لهم إمكانياتهم بارتياد المطاعم الأوربية.

وبما أن هذه المرأة طباخة جيدة فقد أصبحت من زبائنها الدائمين. في المحكمة كان (الباش عدل) لا يفيق من سكره. أما العدل الآخر فكان يعد نفسه لبلوغ القمة: أن يصبح قاضياً.

كان ذلك موضوعه الوحيد في كل حديث.

أما القاضي فلم يكن لديه من هدف آخر إلا أن يزيد عدد الهكتارات التي يشتريها في منطقة (قلما)، موطنه الأصلي في كل عام، من الموارد التي تأتيه خارج مرتبه (الرشوات).

وحين شاءت الإدارة الفرنسية أن تمنحه وسام (جوقة الشرف) مكافأة له على أخلاقه العالية وفضائله، فقد قادوه إلى منزله في نهاية الاحتفال محمولاً على عربة وهو ثَمِل.

أما خارج عملي فقد وجدت صحبتي في وكيل قضائي ذي أصل قسنطيني، و (خجا) وحدة إدارية مختلطة، كان أولاده أسن مني، ومساعد طبيب وموظف في بنك.

كنت أجدهم كل مساء في مقهى يديره زوجان من أصل مالطي. كانت الزوجه فاتنة الجمال. والشباب المفتون بها يطلب من أجل عينيها الجميلتين كؤوس خمر اليانسون ( Anisétte)، يشربونها واحدة تلو الأخرى حتى التاسعة مساء ثم ينصرف كل منهم يتجشأ سكره.

أما كيف تمكنت من المحافظة على نفسي في هذا الوسط فالله وحده يعلم.

ص: 191

وأحياناً كنت أفرَ بنفسي إلى مقهى يديره (مستعمر) عربي مؤثراً الحصير والدومينو.

هنا كان لي صحبة آخرون يلعبون بالورق ( La ronda) حتى منتصف الليل. وكان ثمة ساعٍ للبريد يقص حكايات من نسج خيال كفيل بأن يُغْني أعمال الروائي الإنكليزي (كونن دويل Conan Doyle (1)) ويرفدها بالمزيد. كان ساعي البريد هذا ذا فن في حبك الروايات يتجاور التصور.

لقد كانت الحياة الثقافية في (شاتودان Chateaudin) تتلخص في تجشؤات (اليانسون) وحَلِف لاعبي الورق، وحكايات الأشباح.

كانت طباختي اليهودية وحدها تذكرني بشيء إنساني في هذا الوسط غير الإنساني. وأعتقد أنها استشفّت ما يدور في خلدي من أفكار. وكانت من حين إلى آخر تسألني عما أرغب فيه من طعام. وكان يحزنها عدم اكتراثي بشؤون ألوان الطعام وتذوقها حين أجيبها:

- آه تعلمين أن طبخك رائع، وأنا حيال ألوانه ليس لي شيء خاص. في خاتمة المطاف لم أستطع البقاء أكثر مما بقيت. وقد وقع لي حادث مع كاتب بمحكمة الصلح كورسيكي الأصل كان النقطة التي طفح بها الكأس.

كان يكيده أن (جزائرياً Indigène) لا يحييه وهو يلتقي به في الطريق. وكنت فعلاً لا أحييه لأنني لاحظت بأنه هو الآخر لا يرد التحية.

وهكذا سمح الكاتب لنفسه أن يستدعي إلى مكتبه سائر أعضاء المحكمة واحداً تلو الآخر، واستدعاني في آخرهم. وحين دخلت مكتبه وجدت القاضي والباش عدل واقفين أمام مكتبه. فاتخذت على الفور قراري: أستقيل ولكن بعد أن ألقِّنَ هذا الشخص درساً.

(1) قصاص روائي إنكليزي ولد سنة 1859 (ترجمة قنواتي).

ص: 192

اتخذ هذا الحادث مظهر التطاول على السيادة الوطنية. ونائب عام قسنطينة تدخل في الأمر. وهكذا قدمت فعلاً استقالتي.

وهنا انتهت مرحلة من حياتي.

كان صهري زوج أختي الكبرى يعمل على تأسيس مطحنة في منطقة تبسة. وقد اشترك مع (قساس) قائدى قرية (دوار) للعمل سوية في المطحنة.

وإذ عدت إلى تبسة أحمل معي السؤال (ما العمل؟) فقد انضم إلى الشركة عنصر ثالث وأضاف وتراً إلى تناغم نشاطها.

قررنا لاحتياجات المطحنة أن نحصل بالتقسيط على سيارة نقل صغيرة طراز (سيتروين)، ونستعملها كذلك في أعمال النقل العام فنحقق بذلك ربحاً مجزياً.

الناقلة الصغيرة والمطحنة أعطيانا مجتمعين ما سمح لنا بأن نسدد الأقساط في مواعيد استحقاقاتها. لقد كانت سنة خير وبركة.

لكن من أوتي خبرة في اتجاهات تجارة ( Indigène ابن المستعمرات) يعرف أن فيها شيئاً من العدوى. فإذا ما افتتح رجل مقهى ونجح، فإن الناس جميعاً يندفعون نحو هذه الصناعة. وإذا ما ازدهر صالون (جزائري Indigène) في الحلاقة الحديثة أضحى الناس جميعاً حلاقين.

هكذا انتشرت عدوى الناقلة الصغيرة والطاحونة في منطقة تبسة. وكان لدى مزاحمينا ميزة الخبرة المكتسبة، وبدلاً من أن يديروا المطحنة بالبنزين كان الأوفر لهم أن يجهزوها بالديزل الذي يعمل على المازوت.

وكان عام 1929 عام كساد التجارة العالمية. فالأسعار تدهورت خصوصاً في

ص: 193

إطار منتجات البلدان المستعمَرة: الأصواف والجلود والحبوب .. إلخ وكان من المحتم أن نتأثر بذلك كله.

وبقدر ما كان سعر البنزين محافظاً على مستواه كان ثمن الشعير أعني عملة الدفع في المطحنة لا يفي بثمن البنزين، فقد كان الناس وفقاً للعادات يدفعون أجرة الطحن حصة من المادة المطحونة.

طرحت المشكلة مع صهري، ولم يكن لها سوى أحد حلين اثنين: أن نسرق الزبون؛ أي أن نأخذ أكثر من العُشر المتعارف عليه من كمية الحبوب المطحونة، كيما نحقق ربحاً إضافياً كما تفعل غالبية المطاحن الأخرى، أو أن نترك مطحنتنا لمن سيكون أكثر انسجاماً مع هذا الواقع.

وأذكر تلك المحاورة كأنما جرت اليوم على كومة من أكياس الشعير تحت سقف المطحنة:

- لا أستطيع أن أسرق .....

- وأنا أيضاً لا أستطيع السرقة أبداً.

قررنا إذن ترك المطحنة لشريكنا الثالث القائد. واحتفظ صهري بالناقلة التي أضحى يحسن قيادتها مع مرور الزمن. ففي الوضع الذي كنا فيه كنت أفكر في صهري أكثر مما في نفسي لأنه كان صاحب عائلة وأولاد.

تبسة غدت خانقة، لقد سئمت النادي ومقهى (باهي) وحكاياته حتى نفسي أيضاً. وكنت أُسَرِّي عن نفسي أحياناً بالذهاب بضعة أيام إلى (دوار) الأرانب عند صديقي القائد (الأكحل).

كانت هذه الجولات تفعل في نفسي الكثير من الخير، لكنها لم تكن تحل مشكلتي. مرت الأسابيع كذلك الشهور وقد تسنى لي مع القائد (الاكحل) أن

ص: 194

أقوم برحلات أبعد في ذلك الجزء من المنطقة التبسية حيث تبدأ الصحراء. وكنت أعود منها أسود كالفحم. كان ذلك في صيف عام 1930.

في الجزائر كانت الإدارة تهيئ لأعياد مئة عام من استعمار الجزائر. وقد احتدم الجدل بين المندوبين الماليين حول استعمال الميزانية المخصصة لهذه الأعياد.

طالب الناس باستعمال هذه المبالغ لبناء المدارس لكن المستعمرين لم يعيروا أذناً لهذا الطلب. والمحافظ (بورد Bordes) الذي قالت ألسنة السوء إنه احتفظ لنفسه بجزء لا بأس به منها، قرر أن يستعمل الباقي في إعداد الملابس العسكرية التي تعود لعام 1830، للعرض الذي سيقام يوم الاحتفال المئوي بتلك الذكرى.

في ذلك اليوم قررت عدم الخروج من منزلي. سمعت الفرقة الموسيقية تجوب المدينة في الليل، بينما كانت جدتي لأمي تسبح بسُبحتها، وأمي مستلقية على ظهرها بسبب مرضها تتأمل كعادتها في نجوم سماء تبسة الصافية. لقد شاهدت من شرفة المنزل الشهب النارية التي كانوا يطلقونها من ساحة القصبة تلك الليلة.

لقد دخلت الجرائر القرن الثاني من الاستعمار. في ذلك الزمن كنا نقرأ كتاب (إنسان يعيش على ماضيه Un homme se penche sur son passé) ولم أعد أعرف اسم مؤلفه.

لقد نال جائزة (كونكور Gon court) لذلك العام. وقرأت أيضاً كتاب ( Partir، C'est mourir un peu السفر ضرب من الموت) فقررت إذن السفر. إنه هذه المرة ليس شغفاً بالبعيد ولكنه كان قراراً محدداً. لقد أخفيت مشروعي عن أمي، ولكن شيئاً لا يخفى على قلب الأم.

وعندما كنت عائداً إلى المنزل مساءً نادتني أمي إلى غرفتها. كانت مستلقية على سريرها ولم يكن بمقدورها سوى أن تنام أو أن تقف على عكازين.

ص: 195

كان والدي جالساً بقربها على كرسيه، قالت لي:

- صدّيق أتريد الرحيل؟

وبقيت صامتاً. فأردفَتْ:

- إذن اذهب إلى باريس لتتابع دروسك؛ وأكمل والدي فكرتها:

- إنك تعرف (بن ستيتي)، إنه بعد أن أنهى دراسته في المدرسة التحق لمدة عام بمدرسة (اللغات الشرقية)، وبذلك أُعفي من شهادة الدراسة الثانوية وسمح له بالتسجيل في كلية الحقوق. ثم أردف والدي قائلاً:

- سوف نرسل لك كل شهر ما تحتاجه.

وأقلّتني الباخرة بعد أيام ثلاثة إلى عنابة ( Bône) في طريقي إلى باريس.

ص: 196