الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الممتحنة
وتسمى سورة براءة والمبعثرة، والفاضحة، مدنية، ثلاث عشرة آية، ثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة، ألف وخمسمائة وعشرة أحرف
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي في الدين وَعَدُوَّكُمْ في القتل، وهم كفار مكة أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي توصلون المودة بينكم وبينهم.
روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم، ثم أرسله مع سار مولاة أبي عمرو بن صيفي، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة، فخرجت سائرة، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعث عليا، وعمارا، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تألوا روضة خاخ- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا- فإن فيها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها، واتركوها، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة، وسألوا عن ذلك فأنكرت وحلفت ما معها كتاب، فسل على سيفه وقال: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجته من عقاص شعرها، فخلوا سبيلها، فجاءوا بالكتاب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر رسول صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له:«هل تعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم، قال «ما حملك على هذا؟» «1» قال: إن لي بمكة أهلا ومالا، فأردت أن أتقرب منهم، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، وأن الله ناصرك عليهم، فصدقه، وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر» فقال لهم: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2»
(1) رواه النسائي في السنن (8: 240)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4: 79) ، وعبد الرزاق في المصنف (17932) ، وابن حجر في المطالب العالية (2206)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (5: 387) ، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (1: 107) .
(2)
رواه البخاري في الصحيح (6: 186) ، ومسلم في فضائل الصحابة 162، والسيوطي في الدر المنثور (6:
203) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين (7: 136) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (20193) .
ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم فنزلت هذه الآية.
وروي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر وأسلمت وحسن إسلامها، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الدين الحق. وقرئ «لما جاءكم» أي كفروا لأجل ما جاءكم من الرسول والقرآن، أي جعلوا ما هو سبب الإيمان سببا للكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة إلى المدينة، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وهذا تعليل للإخراج أن يخرجوكم لإيمانكم بالله إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ من مكة إلى المدينة جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي وهذا مرتبط بلا تتخذوا، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي بالنصيحة. وهذه الجملة بدل من «تلقون إليهم» بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرا وجهرا وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي والحال إني أعلم منكم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم، فأي فائدة لكم في إسرار النصيحة وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) أي ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار فقد أخطأ طريق الصواب، هذا كله معاتبة لحاطب، وهذا يدل على فضله وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب كما قال القائل من الوافر:
إذا ذهب العتاد فليس ود
…
ويبقى الود ما بقي العتاب
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي إن يغلب عليكم أهل مكة يظهروا ما في قلوبهم من غاية العداوة، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالشتم والطعن وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) ، أي وتمنوا كفركم بعد إيمانكم، فحينئذ لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين تتقربون إلى المشركين لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والظرف إن علق ب «يفصل» فالوقف على «أولادكم» وقف بيان، أو وقف تام عند أبي حاتم، والوقف على «بينكم» وإن علق ب «تنفعكم» فالوقف على «يوم القيامة» وهو وقف صالح. وقرأ ابن عامر «يفصل» بضم وفتح الفاء وتشديد الصاد مع فتحها، ونائب الفاعل ظرف مبني على الفتح وحمزة والكسائي كذلك، إلا أنهما يكسران الصاد، أي يفرق الله بينكم وبين أقاربكم وأولادكم، فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار، وعاصم بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الياء وسكون الفاء، وفتح الصاد.
وروي أن ابن كثير قرأ أيضا بالبناء للمفعول كعاصم. وقرئ «نفصل» و «نفصل» بالنون وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) فيجازيكم عليه، ولم يقل تعالى خبير مع أنه أبلغ في العلم، لأن البصير أظهر من خبير في العلم، لأنه تعالى يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر، قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة حسنة فِي إِبْراهِيمَ، أي في جميع أحواله من قول وفعل وَالَّذِينَ مَعَهُ من أصحابه المؤمنين.
وقرأ عاصم «أسوة» بضم الهمزة في الموضعين. والباقون بكسرها، إِذْ قالُوا بدل اشتمال من «إبراهيم والذين معه» ، لِقَوْمِهِمْ أي لقرابتهم الكفار، مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنا متبرئون من قرابتكم إيانا ومن معبودكم من الأوثان كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ أي ظهر بيننا وبينكم العداوة، وهي المباينة في الأفعال، وَالْبَغْضاءُ وهي المباينة بالقلوب أَبَداً أي على الدوام، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وتتركوا الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة، أمر الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك، لأنه لما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياها، لأنه ظن أنه أسلم، فلما مات على الكفر تبرأ منه وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وهذا حال من فاعل «لأستغفرن» ، أي لأستغفرن لك والحال أني لا أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أشركت به، أي وما علي إلا بذل الوسع في الاستغفار فوعده الاستغفار، رجاء الإسلام.
وقال ابن عباس: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أي في جميع أمورنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا بالتوبة عن المعصية وأقبلنا إلى طاعتك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي مفتونين بهم.
قال ابن عباس: لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) أي أنت الذي تغلب في ملكك الحكيم في صنعك، لَقَدْ كانَ لَكُمْ يا أمة محمد فِيهِمْ أي في إبراهيم والذين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله، وهذا هو الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه، لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة وقوله: لِمَنْ إلخ بدل من «لكم» بدل بعض من كل، وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن الائتساء بهم ويمل إلى مودة الكفار، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عنه وعن سائر خلقه، الْحَمِيدُ (6) أي المحمود في فعاله.
قال مقاتل: لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم، وجميع أقاربهم، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من كفار مكة مَوَدَّةً أي صلة بمخالطتهم مع أهل الإسلام، وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة فيقدر على تسهيل أسباب المودة، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) بهم إذا تابوا وأسلموا، ورجعوا إلى حضرة الله
تعالى، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت هي قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصّر وراودها على النصرانية، فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها عليه، وساق عنه إليها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه. والمراد بقوله تعالى: الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ نفر من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحرث، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
، أي لأجل دينكم وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي تصلوهم وهو بدل من «الذين لم يقاتلوكم» وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالصلة وغيرها، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) أي أهل البر والتواصل عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، فإن أمها فتيلة بنت عبد العزى، وهي مشركة قدمت عليها بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت هذه الآية فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتكرمها وتحسن إليها. وقيل: نزلت في خزاعة- قوم هلال بن عويمر- وخزيمة، وبني مدلج، فإنهم صالحوا النبي قبل عام الحديبية على أن لا يقاتلوه، ولا يخرجوه من مكة ولا يعينوا أحدا على إخراجه. وقيل: نزلت في قوم من بني هاشم أخرجوا يوم بدر كرها، وهذه الآية تدل على جواز الإحسان بين المشركين والمسلمين وإن كانت المناصرة منقطعة، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ أي لأجل دينكم، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وهم عتاة أهل مكة، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي عاونوا عليه من سائر أهل مكة، أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي أن تناصروهم.
هذا بدل اشتمال من «الذين قاتلوكم» وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ومن يحبهم ويناصرهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) لأنفسهم بإقبالها للعذاب لوضعهم المحبة في موضع العداوة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي المقرات بالله مُهاجِراتٍ من مكة من بين الكفار، فَامْتَحِنُوهُنَّ أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم بالتحليف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة:«بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله، ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله» . اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد الله بعلمه فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، أي فإن ظننتموهن بعد الامتحان مؤمنات بالعلائم فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ أي ليست المؤمنات حلا لأزواجهن الكفار، وهذا بيان لزوال النكاح الأول، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي وليس الكفار حلا للمؤمنات. وهذا بيان لامتناع النكاح الجديد وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور، فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتها المهاجرة فلا يجمع على الرجل خسارتان: الزوجية والمالية. وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من
جاءكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم، وكتبوا بذلك العهد كتابا وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طية الكتاب لم تجف، فنزلت هذه الآية لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، ثم تزوجها عمر رضي الله عنه وأخرج الطبراني عن عبد الله أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
وعن الزهري: كانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها: عمارة والوليد، فحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد أخويها. وأخرج بن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب أنها نزلت في أمية بنت بشر امرأة أبي حسان ابن الدحداحة. وعن مقاتل: أنها نزلت في سعيدة امرأة صيفي بن الواهب. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر المؤمنين أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ بعد الاستبراء إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي إذا التزمتم مهورهن، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم، إذا تزوجهن إذ المهر أجر البضع.
قال ابن عباس: أيما امرأة أسلمت وزوجها كافر فقد انقطع ما بينها وبين زوجها من عصمة ولا عدة عليها من زوجها الكافر وجاز لها أن تتزوج إذا استبرأت، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي لا تأخذوا بعقود الكافرات غير أهل الكتاب.
قال ابن عباس: أيما امرأة كفرت بالله فقد انقطع ما بينها وبين زوجها المؤمن من العصمة.
وقرئ في السبعة «تمسكوا» بضم التاء وسكون الميم وبفتح الميم وتشديد السين. وقرئ «تمسكوا» بفتح التاء والميم وتشديد السين، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي اطلبوا أيها المؤمنون من أهل مكة ما اتفقتم على أزواجكم من مهورهن إن دخلن في دينهم، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليطلبوا منكم ما أنفقوا على أزواجهم من المهور إن دخلن في دينكم ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) .
روي أنه لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي وإن انفلت منكم أحد من أزواجكم، ورجع إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فغنمتم من العدو، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار من الغنيمة قبل الخمس مثل ما أنفقوا عليهن من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تعطوه زوجها الكافر، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)، وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة: أخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية، وأم كلثوم
بنت جرول- وهما تحت عمر بن الخطاب- وأم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عباد بن شداد العمري، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان من بني مخزوم، وعبدة بنت عبد العزى، كانت تحت عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هاشم بن العاص، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهر نسائهم من الغنيمة. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ أي نساء أهل مكة بعد فتح مكة يُبايِعْنَكَ أي قاصدات المشارطة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً من الإشراك، وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.
وقرئ «ولا يقتلن» بتشديد التاء، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، كانت المرأة تلتقط المولود من الزنا فتقول لزوجها: هو ولدي منك كني عن هذا بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها، ومخرجه بين رجليها، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف، وهو ما عرف حسنه من جهة الشرع. وهذا تنبيه على نفي جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وذلك كترك النوح وجز الشعر، ونتفه، وحلق الرأس، وخمش الوجه، وشق الجيوب، وتمزيق الثياب، وأن لا يخلون مع رجل غير محرم وأن لا يسافرن مع غير ذي محرم، فَبايِعْهُنَّ أي فشارطهن على ذلك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ فيما سلف منهن في الجاهلية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ، أي مبالغ في المغفرة والرحمة.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح مكة جلس على الصفا، ومعه عمر أسفل منه، فجعل يبايع النساء، وكانت جملتهن إذ ذاك أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمسن يده فيه فغمس أيديهن فيه وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة، متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت: لقد عبدنا الأصنام وأنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا تسرقن» . قالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها:«وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فلما قال:«ولا تزنين» ، فقالت: أو تزني الحرة؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» . قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال:«ولا تأتين ببهتان» «1» إلخ قالت: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا
(1) رواه أحمد في (م 6/ ص 365)، والهيثمي في مجمع الزوائد (6: 38) ، وابن كثير في-
بالرشد ومكارم الأخلاق ولما قال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة
. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لا تحبوا اليهود فإنهم قوم غضب الله عليهم.
روي أن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم من إصابة ثمارهم، فنهوا عن ذلك بهذه الآية، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي قد حرموا من ثواب الآخرة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) أي كما حرم من ذلك الذين ماتوا منهم.
وقال أبو إسحاق: يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.
- التفسير (8: 123)، والسيوطي في الدر المنثور (6: 210) والمتقي الهندي في كنز العمال 473.