الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
مخطوطات صنعاء القرآنية
وتخمينات المستشرقين المتجددة
سبق أن أشرنا إلى مخطوطات صنعاء القرآنية. (1) ففي سنة 1970م عثر على مجموعة من المخطوطات القرآنية القديمة في الدور العلوي للمسجد الجامع الكبير بصنعاء. وفي بداية الثمانينات دعا مدير إدارة الآثار في اليمن، القاضي إسماعيل الأكوع خبيرين ألمانيين هما الدكتور جيرد ر. بوين (Gerd R Puin) وهـ. س. غراف فون بوتمر (H.C. Graf Von Bothmer) لترميم المخطوطات وصيانتها وذلك بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية. وعمل بوين وبوتمر في صنعاء بضع سنين، ويبدو أنهما لم يعملا خبيرين للترميم فحسب بل استهدفا عملا إستشراقيا أيضا. فالتقط بوتمر صورا ميكروفلمية لأكثر من 000ر35 ورقة ورجع بها إلى ألمانيا، وفي 1987 كتب مقالة تحدث فيها عن هذه المخطوطات وأشار إلى أن أحدها، وهو ذو الرقم 23-1033 يرجع إلى الربع الأخير من القرن الأول الهجري (2) ، كما كتب بوين مقالة بعنوان "ملحوظات على المخطوطات القرآنية القديمة بصنعاء"(3) . وقد أثار خبر هذه المخطوطات اهتماما بالغا بين المستشرقين، فعقدوا ندوة في 1998 بليدن
(1) انظر ص 9
(2)
بوتمر، المصدر السابق
(3)
انظر: Gerd R. Puin: "Observation on Early Qur'an Manuscripts in San'a"، in Stefan Wilde (ed) ، The Qur’an as Text، E.J. Brill، Leiden، 1996، pp.107-111
(Leiden) عن "الدراسات القرآنية" حيث ألقى كل من بوين وبوتمر محاضرة في موضوع المخطوطات الصنعانية.
لم ينشر بعد مضمون محاضرتي بوين وبوتمر، غير أن بوين أشار في مقالته إلي اتجاهاته هو والمستشرقين عامة في هذا الصدد، إذ يشير أولا إلى الجهود المبذولة من قبل المستشرقين السابقين مثل أرثر جيفري (Arthur Jeffery) ، وأوتو برتزل (Otto Pretzel) ، وأنتون شبيتالر (Anton Spitaler) ، وأ. فشر (A. Fischer) لجمع المخطوطات القرآنية القديمة ثم إعداد نسخة منقحة للقرآن بعد مقارنة ما يجدونه من اختلافات في النصوص في جميع النسخ، ويقول: إن هذه الجهود لم تنجح لأن المخطوطات المقتناة بجامعة ميونخ (Munich) لهذا الغرض - وهي عدد هائل من المخطوطات - دمرتها قنبلة وقعت عليها أثناء الحرب العالمية الثانية. ثم يقول بوين: إن المخطوطات القرآنية بصنعاء تتيح الفرصة لتجديد الجهود في الاتجاه نفسه (1) .
ثانيا: يشير بوين إلى النقاط التي لاحظها في المخطوطات وذكر منها: (أ) طريقة غير صحيحة في كتابة "الألف"(همزة) في عدد من المواضع (ب) الاختلاف في إحصاء عدد الآيات بالنسبة إلى بعض السور (ج) الاختلاف في ترتيب السور في ورقتين أو ثلاث (2) .
ثالثا: يؤكد بوين أن هذه الاختلافات جدّ طفيفة وأنه إذا لم يتم جمعها بأكملها فإنه ربما لا يؤدي إلى اختراق أو تقدم مفاجئ في الدراسات القرآنية ولكنه يستطرد قائلا: " إن القرآن ليس بواضح (مع ادعائه أنه مبين) وإن
(1) المصدر السابق، ص 107
(2)
المصدر نفسه ص 108-110
وجود هذه الاختلافات يشير إلى أن السور القرآنية لم تكتب في شكلها النهائي أثناء حياة محمد (صلى الله عليه سلم) وأنه من المحتمل أن قرآنا ذا ترتيب مختلف للسور كان متداولا لزمن طويل (3) . (1)
ومما لا شك فيه أن كتابة بوين وبوتمر أثارت تخمينات واسعة في دوائر استشراقية، فقام أحد المستشرقين - واسمه توبي ليستر (Toby Lester) - باتصال هاتفي مع بوين (2) ثم حرَّر مقالة صحافية لها وزنها نشرتها مجلة The Atlantic Monthly في عدد ينابر، 1999 بعنوان "ما هو القرآن؟ ") (What is the Quran) 3) . تشتمل المقالة على ثلاثة أصناف من المواد:(أ) خبر عن المخطوطات الصنعانية والاستنتاجات التي توصلت إليها بوين وبوتمر (ب) مزاعم المستشرقين الآخرين مثل وانسبرة وكرون وكوك ونيفو وبيلامي (J.A. Bellamy) عن القرآن (ج) إشارة إلي ما يقوم به المستشرقون حاليا من الدراسات القرآنية أو ما ينوون القيام به في المستقبل القريب.
أما بالنسبة للمخطوطات الصنعانية وعمل بوين وبوتمر فيها فكرر توبي ليستر ما قاله بوين في مقالته المشار إليه آنفا وأضاف أن بوين يرى أن القرآن تطور عبر زمن طويل ولم يكن كتابا منزلا من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي، وأنه ليس بواضح و"مبين"، بل كل خمس آيات من القرآن تكون الآية الخامسة منها لا يمكن فهمها أو تفسيرها، وأن هناك علامات في المخطوطات تدل على إعادة كتابة بعض العبارات في
(1) المصدرنفسه ص 107 و111
(2)
انظر خطاب بوئن إلى القاضي الأكوع بتاريخ 14/2/1999م المنقول في Impact International، ج30، (ا) العدد لمارس 2000م، ص 27.
(3)
انظر: The Atlantic Monthly، January 1999، pp.43-56
بعض المواضع (palipmsests) . وأن المسؤولين في صنعاء غير حريصين على القيام بدراسات مفصلة لهذه المخطوطات حتى لا تحدث بلبلة في العالم الإسلامي ومع ذلك فإن المخطوطات الصنعانية ستساعد المستشرقين في إثبات أن للقرآن أيضاً تاريخاً كما أن هناك تاريخاً للكتاب المقدس. (1) وأما بالنسبة لأقوال وانسبرة والآخرين قفد تحدثنا عنهما من قبل إلا قول بيلامي الذي سنشير إليه فيما بعد. وأما بالنسبة لما ينوي المستشرقون عمله فسنشير إليه في الخاتمة إن شاء الله.
أثارت هذه المقالة لتوبي ليستر، أكثر من مقالتي بوين وبوتمر موجة من الاحتجاج والاغتياظ في الصحف اليمنية ضد المسؤولين في إدارة الآثار. فسارع بوين وبوتمر إلى توجيه خطابين إلى القاضي إسماعيل الأكوع وذلك لمنع تدهور العلاقة بينهما وبين المسؤولين اليمنيين. ودافع بوين عن نفسه وعن المجلة الأمريكية (The Atlantic Monthly) قائلا إنه ليؤسفه "ما يزعم أن مجلة أمريكية نشرت اكتشافات مزعومة لباحثين ألمانيين وأنه يوجد بين الرقوق التي تم ترميمها ضمن المشروع الألماني قرآن مختلف عن القرآن المتداول حاليا بين المسلمين - إن هذه الحملة الصحفية ليس لها أساس فيما نشرته المجلة الأمريكية وليس لها أساس فيما يخص المخطوطات الصنعانية ولا أساس لها بالنسبة إلى البحوث القرآنية التي نقوم بها أنا وزميلي الدكتور جراف فون بوتمر - أتأسف جدا لهذه الحملة التي تستهدف إلى الإضرار بالتعاون العملي بين اليمن وألمانيا "(2) .
(1) المصدر السابق، ص
(2)
انظر صورة خطاب بوئن في Impact International، ج30، عدد لمارس 2000، ص 27.
إن دفاع بوين لا يتفق وما تتضمنه مقالته ومقالة توبي ليستر. فهما شاهدان عليه، وقد قال ما أشرنا إليه آنفا على أساس هاتين المقالتين. كما كان أبدى رغبته في إثبات أن القرآن له تاريخ مشيرا إلى جهود المستشرقين السابقين في هذا الصدد. فينبغي أن نتحدث قليلا عن النقاط التي أثارها بوين.
أولا: إنه عندما يشير إلى المخطوطات القرآنية التي كانت قد جمعتها جامعة ميونخ في ألمانيا والتي دمرتها قنبلة أثناء الحرب العالمية الثانية، لا يشير إلى حقيقة هامة وهي أن المسؤولين عن هذه المخطوطات كانوا نشروا تقريرا أوليا عنها قبيل اندلاع الحرب قائلين: إنه قد تمت المقارنة بين عدد كبير من النسخ وإن لم تتم المقارنة بينها جميعاً، وإنه لم يوجد اختلاف في النص القرآني ما عدا أخطاء طفيفة في الإملاء أو النسخ هنا أو هناك والتي لا تمس بوحدة النص. (1) فالاختلاف الذي لاحظه بوين في المخطوطات الصنعانية طبيعي ولا يتعدى هذا النوع من الأخطاء الإملائية.
ثانيا: إن إعادة كتابة لفظ أو عبارة في مكان ما (Palimpsests) لا تدل إلا على أن الكاتب كان قد أخطأ في كتابة اللفظ أو الحروف في أول الأمر فصححها بعد طمس الكلمة، أو أن الكلمة كانت قد طمست لسبب ما فكان من الضروري إعادة كتابتها. على أية حال، فإنها لا تدل على تطوير أو تعديل النص إلا في حالة وجود نسخة أخرى توجد فيها في الموضع نفسه عبارة أو كلمة أخرى، وهذا لم يثبت من المخطوطات الصنعانية أو من مخطوطات أخرى.
(1) انظر: محمد حميد الله، خطبات بهاولبور (باللغة الأردية) ، تحقيقات إسلامي، إسلام آباد، 1985، ص 20-21، المنقول في Impact International، لندن، مارس 2000، ص 28.
رابعا: إن وجود سورة أو جزء منها وسورة أخرى أو جزء منها بترتيب مخالف للترتيب القرآني على ورقة واحدة لا يدل على وجود نسخة للقرآن بترتيب مختلف، لأنه كان من عادة المسلمين من البداية - ولا يزال - جمع سور مختارة في مؤلف صغير، وذلك للتحفيظ أو الدراسة أو التدريس في مختلف المراحل التعليمية، ومن الطبيعي أنه قبل ظهور فن الطباعة كان هذا النوع من المجموعات يعد عن طريق النسخ. فليس غريبا أن توجد مخطوطات فيها سور باختلاف الترتيب القرآني، خصوصا تلك التي توجد في المساجد التي كانت مدارس للتعليم بلا استثناء.
وحتى وجود نسخة كاملة للقرآن بترتيب مختلف للسور لا يدل البتة على أن قرآنا مختلفا كان بأيدي المسلمين في وقت ما، إلا إذا ثبت أن ذلك كان مقبولاً ومعمولا بها لديهم، وذلك نظرا لما يقوم به بعض الناس من حين إلى آخر لنشر القرآن بترتيب السور حسب أوقات أو ترتيب نزولها. فرودويل (A. Rodwell) - مثلا - قام بترجمة معاني القرآن إلى اللغة الإنجليزية، ورتَّب فيها السور حسب أوقات نزولها، وسمّاها: The Coran: Translation with Suras Arranged Chronologically، وفي 1911 تبعه رجل مسلم من البنغال فقام بترجمة جديدة لمعاني القرآن ورتَّب فيها السور حسب أوقات النزول (1) . كما قام ر. بيل (Richard Bell) بترجمة أخرى على المنهج نفسه في سنة 1937 (2) . وقد عرفنا أن من أهداف المستشرقين إعداد ما يسمونه
(1) انظر: Mirza Abu al-Fazl، The Qur'an، Arabic Text and English Translation، Arranged Chronologically، 1911، (British Library [British Museum] Catalogue Call mark 14512.d.15)
(2)
انظر: R. Bell: The Quran: Translated with a Critical Rearrangement with the Suras، T. & T. Clark< Edinburgh، 1937
في سنة 1937 (1) . وقد عرفنا أن من أهداف المستشرقين إعداد ما يسمونه نسخة منقحة للقرآن. وفي الآونة الأخيرة جاء ج. أ. بيلامي بهذا الاقتراح مجددا بزعم أن في القرآن أخطاء عديدة ينبغي تصحيحها، وأشار توبي ليستر في مقالته إلى كتابات بيلامي في هذا الصدد، فلننظر فيها.
(1) انظر: R. Bell: The Quran: Translated with a Critical Rearrangement with the Suras، T. & T. Clark< Edinburgh، 1937
5-
أخطاء بيلامي (J.A. Bellamy) الخطيرة
كتب بيلامي سلسلة من المقالات في "مجلة الجمعية الاستشراقية الأمريكية") (Journal of the American Oriental Society) 1) يتحدث فيها عن 22 كلمة وعبارة صعبة في القرآن يزعم أنها أخطاء من قبل النساخ أو أخطاء كانت في مصادر أو روايات اقتبس منها أجزاء من القرآن. ويقترح تصحيح هذه "الأخطاء" ويقول في مقالته الأخيرة: "إن علماء القرآن غير المسلمين متفقون على أن محمداً ألف القرآن بشكل أو آخر، ولذا ينسبون جميع المشكلات إليه (2) .
وإنه من الضروري بادي ذي بدء الإشارة إلى أن المسلمين لا يقبلون القول إن محمدا صلى الله عليه وسلم ألف القرآن بشكل أو آخر، وفي الحقيقة هذا هو موضوع النقاش، كما أن القول إنه قد تكون أخطاء في المصادر أو الروايات التي اقتبس منها القرآن مجرَّد ظنّ من قبل المستشرقين لا أساس له من الصحة. يأخذ بيلامي كلا الافتراضين ممن سبق من المستشرقين. أما الكلمات والعبارات التي يعالجها في مقالته فقد حللها وفسرها المفسرون والنحاة، قديما وحديثا، لكن بيلامي يستخف بهذه التحليلات والتفاسير ويستنتج على أساس
(1) انظر: J.A. Bellami: “Al-raqim or al-Ruqa?": A note on Surat 18:9”، Journal of American Oriental Society:، 1991، pp.115-117; “Fa-Ummuhu Hayiyyah: A Note on Surah 101:9”، ibid، 1992، pp.485-487; “Some proposed Emenuation to the Text of the Qur'an”، ibid، 1993، pp.562-573; and "More proposed Emenuations to the Text of the Koran"، ibid، 1996، pp.196-204
(2)
المصدر نفسه، ص 203
الظن وسوء الفهم فيقع في أخطاء فاضحة. وفي الواقع يعترف في إحدى مقالته بخطئه في تفسير الحروف المقطعات الذي كان قد قدمه من قبل قائلا: إنها اختصار البسملة، وتجدر الإشارة إلى أن المستشرق الشهير، ثيودور نولدكة (Theodore Noldeke) كان قد اقترح في القرن التاسع عشر الميلادي أن الحروف المقطعة قد تكون اختصارات لأسماء الرجال الذين ألفوا السور.
وسيتضح مدى أخطاء بيلامي لو نظرنا إلى بعض عينات مما يكتبه في هذا الشأن. فالكلمة الأولى التي يتحدث عنها في مقالته في المجلة لـ 1993، هي كلمة "حصب" في قوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) . فيقول إن معنى الكلمة "الحصاة" أو "البلور الصخري" وإن معنى "الوقود" الذي يعطيه إياها المفسرون والمعجميون مثل الزبيدي في "تاج العروس" أو لين (Lane) في معجمه ليس بصحيح، كما يرفض قول بعض المستشرقين إن الكلمة مأخوذة من كلمة "حصبه" العبرية والتي تعني "خشب" أو "قطع الخشب". ثم يذهب قائلا:"إنه ينبغي أن تكون الكلمة هنا "حطب"، فهي الكلمة التي تعني الخشب للنار والتي تستعمل في موضع آخر في القرآن - وإنه لسهل جدا التصور كيف حصل هذا الخطأ عند كتابة "الحطب" نسي الناسخ وضع الخط العمودي للطاء فأصبحت الطاء صادا"(1)
إن قول بيلامي هذا لظن فقط لا أساس له من الصحة، فهو يفترض بلا دليل أنه كانت هناك نسخة فيها كلمة "الحطب" ولكنه لم يشر إلى شيء مثل هذا ولم تكن النسخة المزعومة موجودة على الإطلاق. ثانيا: يتجاهل حقيقة أن القرآن كان كتابا مفتوحا ومنشورا منذ البداية، ولم يكن كتابا محجوباً عن
(1) Journal of the American Oriental Society، 1993، p.564
الناس في أي وقت، فلو أخطأ ناسخ في كتابة كلمة في نسخة ما لكشفه ألوف من الحفاظ والقراء وعامة المسلمين الذين كانوا يقرأون القرآن يوميا في صلاتهم ودراساتهم. ثالثا: كما يتجاهل أن في كل اللغات كلمات لكل واحدة منها عدة معان حسب السياق والموضوع، فيظن أن لكلمة "الحصب" معنى واحداً فقط فلا يمكن استعمالها بمعنى آخر، ومن هذا المنطلق يسفِّه جميع المفسرين والمعجميين القدماء والمحدثين من المسلمين والأوروبيين. رابعا: يذكر بيلامي أن القرآن يستعمل كلمة "الحطب" بمعنى خشب النار (72: 15 و 111: 4) ولكنه يغض النظر في الوقت نفسه عن أن القرآن يذكر بصراحة في موضعين أن "الحجارة" تكون وقودا للنار {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة: 24) . و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) . فلا غرابة أن يذكر القرآن "الحصب" وقودا لجهنم. خامسا: إذا كان بيلامي يظن أن الحجر والحصب ليسا قابلين للاشتعال والتوقد فلا يمكن أن يكونا وقودا للنار فهو مخطئ للغاية. لأن الحجر والمعادن تذوب وتتقد كما نرى في الحمم (Lava) التي تقذفها البراكين والتي تتحجر بعد أن تبرد. وفي الحقيقة فإن جميع الأشياء تتقد وذلك متوقف على درجة الحرارة. وعرف أن درجة حرارة الحمم 1150 (ألف مائة وخمسون) درجة مئوية، والألماس (Diamond) - وهو أشد المعادن المعروفة حتى الآن - يذوب ويتقد بدرجة حرارة 4000 (أربعة آلاف) درجة مئوية. وهذه الحقيقة العلمية الهامة تكمن في الآيات القرآنية المذكورة. عندما يقول القرآن إن الناس والحجارة (ومنها الأصنام) وقود النار فهو يشير إلى شدة حرارة النار من ناحية وشدة العذاب للكافرين والمشركين من ناحية أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الناس يستعمل الحصباء أو قطع الحجارة لتزيد حرارة السخانة لتسخن فتشع بدورها الحرارة المتولدة منها، وذلك لوقت طويل حتى بعد إطفاء السخانة نفسها. وعاين كاتب هذه السطور نفسه استخدام قطع الحجارة وقودا للطبخ. فقد زار بكين (Bejing، China) العام الماضي حيث دعي إلى حفل عشاء في مطعم، فجيء بسمك طازج في آنية خزفية فيها ماء بارد ثم جيء بقطعتين أو ثلاث من الحجارة مسخنة إلى درجة عالية ثم ألقيت قطعتان من الحجارة في الآنية فبدأ الماء يغلي لبضع دقائق حتى صار السمك مطبوخا فأكله الضيوف وكان السمك المطبوخ لذيذا جدا.
ونظرا لكل هذه الحقائق فإن العبارة "حصب جهنم" في الآية 21: 98 ملائمة وصحيحة، وما هي بخطإ من قبل الناسخ كما يظنه بيلامي.
والكلمة الثانية التي يتناولها بيلامي بالنقد في المقالة نفسها هي "الأمة" في الآية: 1-8 {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} (هود: 8) . {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ} (يوسف: 45) ، فيقول إن المفسرين يفسرونها "بالوقت" أو "المدة" نظرا للسياق فقط، ولكنه ليس معناه الصحيح. كما يختلف عن المترجمين الأوروبيين مثل باريت (R. Paret) وبلاشير (Blachere) اللذين يفسرانها التفسير نفسه في هاتين الآيتين. ثم يقول بيلامي إن المعنى هنا، خصوصا في الآية 11: 8، يلزم أن يكون وقتا أو مدة، لكن يمكننا إعطاء هذا المعنى هنا إذا بدلنا التاء المربوطة في "الأمة" بالدال وجعلناها "أمدا"، ثم يقول: إن الناسخ أخطأ في قراءته للنص في الأصل فقرأ "أمة" مكان "أمد" وأنث الصفة (معدود) فكتبها معدودة
وذلك إما بالسليقة أو من أجل تصحيحه العبارة. (1) إن ادعاء بيلامي هذا يعتريه ما يعتري زعمه بالنسبة لكلمة "حصب" السالفة الذكر، وهو أنه يفترض أصلا لا وجود لها ولا يستطيع الإشارة إليه، كما أنه يتغاضى عن حقيقة أن نشر القرآن لم يكن قط أمرا فرديا لا ينظر إليه الآخرون من المسلمين. وإضافة إلى ذلك، فهو يفترض هنا عيبين في الناسخ المزعوم وهما خطؤه في قراءة الأصل المزعوم وانتحاله تصحيح النص القرآني أو تعديله، وكلاهما بلا دليل إلا الظن وهو غير مقبول. لو كان الناسخ المزعوم قادرا على تأنيث الصفة لموصوف مؤنث كما يقول بيلامي لانتبه للغرابة في معنى العبارة التي يكتبها ولتأمل في الأمر ولقام بإعادة النظر فيه، وبما أنه لم يفعل شيئاً من ذلك فإنه لم يشعر بغرابة في معنى العبارة ولم يخطئ في القراءة أو في الكتابة.
وثانيا: يغفل بيلامي عن أن كلمة "أمة" جاءت في القرآن الكريم بعدة معان، منها بمعنى "المدة" أو "الحقبة من الزمان". (2) كما أنه يغفل عما يعطيها المعجميون الأوروبيون من المعاني، فمثلا يكتب هانزفير أن كلمة "أمة" تعني الجيل (Generation) بالإضافة إلى معان أخرى. (3) والجيل أو generation في الإنجليزية تعني جيلا من الناس أو زمانهم وهو المدة التي يترعرع فيها الأولاد
(1) انظر: Journal of the American Oriental Society، 1993، p.564
(2)
انظر: مجد الدين محمد يعقوب الفيروزابادي: "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"(تحرير محمد علي النجار) ، بيروت، دون تاريخ، ج2، ص 79-80، الحسين بن محمد الدامغاني: قاموس القرآن (تحرير عبد العزيز سيد الأهل) ، بيروت، 1985، ص 42-44
(3)
انظر: Hans Wehr: A Dictionary of Modern Written Arabic (ed.) :
من الطفولة إلى سن الرشد والإنجاب. (1) لو أن بيلامي راجع هذا النوع من المعاجم العربية الإنجليزية لوجد أن كلمة "أمة" في الآيتين المذكورتين صحيحة وليست بغريبة.
وكلمة أخرى يتناولها بيلامي في مقالته الأخيرة في هذه السلسلة (2) هي "لما" في الآية 111: هود "وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم". يرفض بيلامي التفاسير النحوية التي يقدمه المفسرون المسلمون والمستشرقون مثل ر. بيل (R. Bell) وج. برجشتراسر (G. Bargstrasser) لهذه الكلمة. هنا لم يذهب إلى القول إن هذه الكلمة خطأ وإنها ينبغي حذفها وتعديل الآية، ويضيف قائلا إن هذه الكلمة جاءت هنا بسبب خطأ من قبل النساخ. يقول إن الناسخ عندما فرغ من كتابة "وإن كلا" من الآية 111، رفع نظره من الورقة فلفت النظر إلى الآية 109 حيث تقع العبارة "وإنا لموفوهم" فبدأ الكتابة من "لموفوهم"، ولكن بعد أن فرغ من كتابة "ل" و "م" شعر بخطئه فألغى الحرفين بوضع خط عمودي عبر "م" واستأنف كتابة الآية من "ليوفينهم". وهذه النسخة اعتمد عليه ناسخ آخر فقرأ الخط العمودي عبر "م" ألفا فكتب هناك "لما" بين "كلا" و "ليوفينهم"، وهكذا دخلت "لما" في الآية. (3)
لا حاجة للإشارة إلى التفاسير النحوية لـ "لما" في هذا المكان، وتكفي الإشارة إلى غير منطقية الحجة التي جاء بها بيلامي. أولا، إنه ليس من الطبيعي أن يلفت الناسخ المزعوم نظره إلى الوراء قبل آية كاملة (الآية 110) وهي
(1) انظر: Oxford Advanced Learners Dictionary of Current English، ed. A.S. Hornby and others، third edition، 1974، eighteenth impression، 1983، p. 357
(2)
انظر: Journal of the American Oriental Society، 1996، pp.196-204
(3)
المصدر السابق ص 197
أطول من سطرين عاديين، ثم يبدأ بكتابة العبارة التي كان قد كتبها قبل قليل، ليس هناك أي تشابه بين العبارتين حيث إن الآية 111 تبدأ بـ "وإنَّ" وتليها "كلَاّ" والتي في آية 109 تبدأ بـ "إنا" وتليها "لموفوهم"، وإضافة إلى ذلك، فإن الناسخ المزعوم كان قد بدأ كتابة آية جديدة (أي آية 111) والعبارة "وإن" تقع في أولها في حين تقع العبارة "وإنا لموفوهم" في نهاية الآية 109، فالخطأ الذي يزعمه بيلامي أن الناسخ المزعوم كان قد ارتكبه بعيد كل البعد عن المنطق والاحتمال.
ثانيا: لو كان الناسخ المزعوم قد شعر بخطئه بعد كتابة حرفين وهما "اللام والميم"، لألغاهما بوضع خط أفقي عبر كليهما وليس بوضع خط عمودي عبر كليهما ولا بوضع خط عمودي عبر الميم فقط، كما يزعم بيلامي.
وثالثا: إن الظن أن ناسخا لاحقا قرأ الخط العمودي ألفا، فكتب "لما" في ذلك المكان ليس معقولاً على الإطلاق حيث إن الناسخ الثاني المزعوم كان بطبيعة الحال يعرف اللغة ويفهم معنى العبارة التي يكتبها، كما أنه من المستحيل أن نسخة واحدة فقط من القرآن والتي كان قد أعدها الناسخ الأول المزعوم كانت موجودة فاضطر الناسخ اللاحق المزعوم إلى اللجوء إليها لإعداد نسخته.
ونظرا لهذه الأمور فإن حجة بيلامي فاسدة ومضللة ولا تقنع أحدا ذا عقل سليم.
هذه هي بعض نماذج لما كتبه بيلامي في هذا الموضوع ولا حاجة للنظر هنا في بقية الكلمات التي يتناولها في مقالاته. إنه في كتابته عن هذه الكلمات الاثنتين والعشرين يرتكب في الحقيقة نفس العدد من الأخطاء الفاضحة.