المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة في توحيد الفلاسفة - مسألة في توحيد الفلاسفة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌مسألة في توحيد الفلاسفة

‌مَسألةٌ في توحيدِ الفلاسفةِ

أجابَ عنها شيخُنا الإمامُ العلّامةُ شيخُ الإسلامِ أبو العبّاسِ أحمدُ بن تَيميةَ قدَّسَ اللهُ رُوحَهُ، ونوَّرَ ضريحَهُ، آمينَ يا ربَّ العالمينَ:

بسم الله الرحمن الرحيم

ما يقولُ السّادةُ العُلماءُ رضي الله عنهم أجمعينَ في توحيدِ الفلاسفةِ وبُرهانِهم عليهِ الذي تحريرُهُ أنْ يُقالَ: الأشياءُ التي تختلفُ بأعيانِها، وتتَّفقُ في أمرٍ مُقوِّمٍ لها، فلا تخلو إمَّا أنْ يكونَ ما تتَّفقُ فيهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما تختلفُ به، أو بالعكسِ هوَ أنْ يكونَ ما تختلفُ بهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما تتَّفقُ فيه، أو يكونَ ما تتَّفقُ فيهِ عارضًا مفارِقًا لِما تختلفُ به، أو بالعكسِ هوَ أنْ يكونَ ما تختلفُ بهِ عارضًا مفارِقًا لِما تتَّفقُ فيهِ.

فأمّا الأوَّلُ فهوَ جائزٌ، كما أنَّ الأنواعَ مختلفةٌ بالحقيقةِ والجِنْسُ لازمٌ لها.

وأمّا الثّاني فهوَ غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ الطَّبيعةَ الواحدةَ لا تَقتضي أُمورًا مختلفةً، ألا تَرى أنَّ الجِنسَ لا يَقتضي لِذاتِهِ أُمورًا مختلفةً، لأنَّهُ لوِ اقتَضى أُمورًا مختلفةً، لكانَتْ حاصلةً أينما حصلَ، وليسَ الأمرُ كذلكَ.

وأمّا الثّالثُ فهوَ جائزٌ؛ لأنَّ المختلفاتِ بالحقائقِ قد تتَّفِقُ في أُمورٍ

ص: 15

عارضةٍ كاتِّفاقِ الإنسانِ والحيواناتِ في الغذاءِ والحرَكة، وما أشبهَ ذلكَ.

وأمّا الرَّابعُ فهوَ جائزٌ أيضًا، كما أنَّ أفرادَ النَّوعِ متَّفِقةٌ بالحقيقة، وتعرِضُ لها الأفعالُ المختلفةُ لكونِ أحدِها فَقيهًا والآخرِ كاتبًا.

المقدِّمةُ الثّانيةُ: فيما يُحتاجُ إليهِ مِنْ وحدانيّةِ الله تعالى هوَ أنْ يُقالَ: يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ سببًا لِصفةٍ، كما أنَّ الماهيّاتِ سببًا لقابليّةِ الوجودِ الثّاني يجوزُ أنْ تكونَ صفة الماهيّةِ سببًا لِصفةٍ أُخرى، كما أنَّ الفَصلَ علةٌ للخاصّةِ.

الثّالثُ: لا يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ ولا صِفةٌ مِنْ صِفاتِها سببًا للوجودِ؛ لأنَّ العِلّةَ متقدِّمةٌ بالوجودِ على المعلول، فلوْ كانَ أحدُهُما أو كِلاهُما عِلّةً للوجود، لزِمَ أحدُ المُحالين، وهوَ أنْ يكونَ الشَّيءُ متقدِّمًا بالوجودِ على نفسِهِ أو موجودًا مرَّتين، وهوَ ظاهرُ البُطلانِ.

فنقولُ: لو كانا واجِبي (1) وجودٍ، فلا يَخلو إمّا أنْ يمتازَ أحدُهُما عَنِ الآخر، أو لا، فإنْ لم يَمْتَزْ أحدُهُما عَنِ الآخر، فلا واجبي وجودٍ، وإنِ امتازَ أحدُهُما عَنِ الآخرِ عادَتِ الأربعةُ الأقسام، فإمّا أنْ يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا لازمًا مِنْ لوازمِ ما يُختلفُ به، أو بالعكس، أو يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا مفارِقًا لِما يُختلفُ به، أو بالعكسِ.

فأمّا الأوَّلُ مِنَ الأربعة، إنْ كانَ جائزًا لكنَّهُ لا يجوزُ هنا؛ لأنَّ اختلافَهما إمّا أنْ يكونَ في الوجودِ والوجوبِ معًا وإنِ اختلَفا في أحدِهِما،

(1) في المخطوط (واجبا) والمثبت هو الصحيح.

ص: 16

فيكونُ أحدُهُما موجودًا واجبًا، والآخرُ مَوجودًا فقَط، أو واجبًا فقَط، وهوَ المطلوبُ، فلا واجبَي وجودٍ.

وإنْ كانَ الاختلافُ في الماهيّاتِ والاتِّفاقُ في الوجودِ والوُجوب، فلا يجوزُ لِما تقدَّمَ مِنْ أنَّ الماهيّةَ لا يجوزُ أنْ تكونَ، ولا صِفةٌ مِنْ صِفاتِها سببًا للوجودِ للمُحالينِ المذكورَينِ.

الثَّاني: أنْ يكونَ ما يُختلفُ بهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما يُتَّفقُ فيه، فقَدْ مَرَّ إبطالُهُ؛ لأنَّ الطَّبيعةَ الواحدةَ لا يَلزمُها أُمورٌ مختلفةٌ.

الثّالث: إمّا أنْ يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا مِنْ عوارضِ ما يُختلَفُ بالوجودِ والوجوب ويعرض لهما أمرٌ آخرُ، ويختلفا بأمرٍ آخرَ، ويعرضَ لهما الوجودُ والوجوبُ، فإنِ اختلَفا بالوجودِ والوجوب، فلا واجبَي وجودٍ، والمفروضُ خلافُهُ، وإنِ اتَّفَقا في الوجودِ والوجوب، وعرضَ لهما أمرٌ آخرُ فعلتُهُ، إمّا أنْ تكونَ الوجودَ والوجوبَ أو أمرًا خارجًا عنهُما لا يجوزُ أنْ يكونَ للوجودِ عِلَّة الأمر العارض؛ لأنَّ الواحدَ لا يعرضُ عنهُ أُمورٌ مختلفةٌ، وإنَّما جازَ في أفرادِ الأنواعِ لِتَركُّبِها، ولا يجوزُ أنْ تكونَ عِلَّتُهُ الأمرَ العارضَ غيرَ الوجودِ والوجوب، لأنَّهُ يلزمُ أنْ يكونَ واجب مفتقرًا إلى غيرِه، وهوَ مُحالٌ؛ لأنَّ وجوبَ الوجودِ غيرُ مفتقِرٍ إلى غيرِهِ.

الرّابع: وهوَ أنْ يكونَ ما يختلفُ بهِ عارضًا مفارِقًا لِما يتَّفقُ فيه، فهوَ وإنْ كانَ جائزًا لكِنْ لا يجوزُ هُنا، لأنَّ العارضَ إمّا أنْ يكونَ الوجودَ والوجوبَ أو غيرَهما، فإنْ كانَ الوجود والوجوب عارضًا مفارِقًا فهوَ مُحالٌ؛ لأنَّ وجوبَ الوجودِ مغايِرٌ لهذا المعنى.

ص: 17

وإنِ اتَّفَقا في الوجودِ والوجوب، وعرَضَ لهما أمرٌ آخرُ فعلتهُ إمّا أنْ تكونَ داخلَهُ أو خارجَهُ أو لا داخلَهُ ولا خارجَهُ، فإنْ كانَتْ داخلَهُ فيكونُ لازمًا لوجودِ عِلَّتِه، والفرضُ أنَّهُ مفارِقٌ، وإنْ كانَ خارجًا، فيكونُ واجبُ الوجودِ مفتقِرًا إلى الغير، وهوَ مُحالٌ؛ وإنْ لم يكُنْ لا داخلَهُ ولا خارجَهُ، فلا ثبوتَ لِعلَّتِه، فلا يثبتُ، فعلى تقديرِ أنْ يكونَا واجبي (1) الوجود، يلزمُ المحالاتُ المذكورةُ، والمحالاتُ غيرُ لازمةٍ، فيَنتفي الملزومُ، وهوَ أنْ يكونا واجبي (2) وجودٍ، فلا واجبَي وجودٍ؟

أجابَ: الحمدُ لله رَبِّ العالَمينَ، بَل توحيدُ الفلاسفةِ هوَ في الحقيقةِ تعطيلُ الواجبِ الوجودِ؛ فإنَّهم أثبَتوا واجبَ الوجود، ونَفَوْا لوازمَهُ، ونَفيُ اللَّوازمِ يَقتضي نَفْيَ الملزوم، والحجَجُ التي يَذكرونَها على توحيدِهم سُوفسطائيّةٌ لا بُرهانيّةٌ، ومَقصودُهم بما يَزعمونَهُ مِنْ نفيِ التَّركيبِ والتَّعدُّدِ فيما يدخُلُ في مُسمَّى واجبِ الوجود، إنَّما هوَ تعطيلُ الصِّفاتِ والمعاني المستلزِمةِ لِتَعطيلِ ذاتِ واجبِ الوُجود، وإنْ كانوا هُم لا يَعلمونَ ما في كلامِهم مِنَ التَّناقُضِ والبُطلانِ.

ونحنُ نتكلَّمُ على هذهِ الحُجّةِ المذكورةِ في السُّؤال، ولا حَوْلَ ولا قُوّةَ إلّا بالله.

فنقولُ: قَولُهم: لو كانَ لنا واجبا وجودٍ، فلا يَخلو إمّا أنْ يمتازَ أحدُهُما عَنِ الآخر، وإمّا ألَّا يمتازَ، وإذا امتازَ فإمّا أنْ يكونَ ما يتَّفقُ فيهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما يختلفُ فيه، أو بالعكسِ أو عارضًا أو بالعكسِ.

(1) في المخطوط (فعل تقدير أن يكون واجبًا) ولعل المثبت هو الصحيح.

(2)

في المخطوط (واجبا) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 18

فيُقالُ: الجوابُ عَنْ هذهِ الحُجَّةِ مِنْ وجوهٍ كثيرةٍ، لكِنَّ المُستدِل بها قدَّمَ لنفسِهِ مقدِّمتينِ قبلَ الاحتجاجِ بها، ونحنُ نتكلَّمُ على مُقدِّمتيهِ أوَّلًا، ليكونَ الجوابُ مطابقًا للحُجّةِ؛ قيامًا بالقِسط، واتِّباعًا للحَقّ، فنَتكلَّمُ على المقدِّمةِ الأُولى أوَّلًا لنكونَ قدِ ابتدَأْنا الكلامَ على ما وضعَهُ في أوَّلِ الحُجَّة، مَع أنَّ عليهِ مؤاخذاتٍ تتعلَّقُ بصورةِ الحُجّةِ لا بمادتها؛ فلِهذا نؤخِّرُ الكلامَ عليها.

فنقولُ: قولُهُ: الأشياءُ التي تختلفُ بأعيانِها وتتَّفقُ في أمرٍ مقوِّمٍ لها، إمّا أنْ يكونَ ما بهِ الاتِّفاقُ لازمًا لِما بهِ الاختلافُ، أو بالعكس، أَو عارضًا لهُ أو بالعكس، فإنَّهُ يُقالُ: الأشياءُ الموجودةُ سواءٌ كانَتْ متماثلةً أو مختلفةً، وبينَها قَدرٌ مشترَكٌ كأعيانِ النَّوع، وأنواعِ الجِنس، ونحوِ ذلكَ، كإنسانَين، والإنسانِ والفَرس، والحبَّتين، والدِّرهمَين، ونحوِ ذلكَ ممّا يُقالُ: إنَّ بينَهما أمرًا اتَّفَقا فيه، وأمرًا اختلَفا فيه، كما إذا قيلَ: الإنسانانِ يتَّفقانِ في الإنسانيّة، ويمتازُ أحدُهُما عَنِ الآخرِ بِتَعَيُّنِهِ وبتَشَخُّصِه، أو قيلَ: إنَّ واجبَي الوجودِ يشتركانِ في وجودِ الوجود، ويمتازُ أحدُهما عَنِ الآخرِ بِتَعَيُّنِه، وأمثالُ هذهِ الأُمور، فإنَّهُ يُقالُ: ليسَ المرادُ باتِّفاقِهما في القَدرِ المشترَكِ كالإنسانيّةِ مَثلًا أنَّهُ في الخارجِ شيءٌ موجودٌ بعَينِه، هُما مشتركانِ فيه، فإنَّ هذا لا يقولُهُ عاقلٌ.

وهُم يَعلمونَ أنَّ هذا باطلٌ، وأنَّ الكُلِّيّاتِ الخمسةَ: الجِنسَ والنَّوعَ والفَصْلَ والخاصَّةَ والعَرَضَ العامَّ، لا يوجدُ في الخارجِ كُلِّيّةً مطلقةً بشرطِ الإطلاق، فليسَ في الخارجِ حيوانٌ مشترَكٌ كُلِّيٌّ مطلَقٌ بشرطِ

ص: 19

الإطلاق، ولا مشترَكٌ كُلِّيٌّ مطلَقٌ بشرطِ الإطلاق، ولكِنَّ الذِّهنَ يأخذُ مِنَ الأُمورِ المتشابهةِ قَدْرًا مشترَكًا، كما هوَ الكُلِّيُّ، وهوَ في الذِّهنِ يكونُ كُلِّيًّا بمعنى أنَّهُ صادقٌ على الجُزئيّاتِ المعيَّنةِ مطابقٌ لها مطابقةَ المعنى العامِّ لأَفرادِه، ولكِنْ في نفسِهِ جُزئِيٌّ؛ أي: هوَ في الذِّهنِ صِفةٌ لهُ وحالٌ فيه، والحالُ في المعيَّنِ الجُزئيِّ أَوْلى أنْ يكونَ معيَّنًا جُزئيًّا، لكنَّهُ كُلِّيٌّ باعتبارِ مطابَقةِ الأُمورِ الجُزئيّةِ المتشابهة، فإذا قِيلَ: إنسانٌ فلَهُ وجودٌ في الأعيان، ووجودٌ في الأذهان، ووجودٌ في اللِّسان، ووجودٌ في البَنَان، ووجودٌ عَينيٌّ وعِلميٌّ ولَفظيٌّ ورَسميٌّ، ففِي الذِّهنِ معنًى مطلَقٌ عامٌّ يتناولُ الأفرادَ، إمّا بطريقِ عُمومِ الجمع، وإمّا بطريقِ عُمومِ البدَل، وذلكَ المعنى لهُ لفظٌ يُعبِّرُ عنهُ، وهوَ لفظُ إنسانٍ، والخطّ، ولذلكَ اللَّفظِ خطٌّ يدلُّ عليه، وهوَ كتابةُ الإنسانِ والخطُّ، واللَّفظُ والمعنى.

إذا قيلَ: هيَ كُلُّهُ وعامُّهُ ومطلقُهُ ونحوُ ذلكَ، فبِاعتبارِ تناوُلِها للأفرادِ الموجودة، وشمولِها لها، ودَلالتِها عليها، وإلّا فهيَ أنفسُها خطٌّ معيَّنٌ جُزئيٌّ، ولفظٌ معيَّنٌ جُزئيٌّ، وبهذا البيانِ تزولُ الإشكالاتُ التي يُورِدُها أبو عبد الله الرّازي (1) ونحوُهُ في هذا المكانِ على أهلِ المنطِقِ.

والأفرادُ الموجودةُ في الخارجِ كالإنسانينِ بينَهما تشابهٌ وتماثلٌ في بعضِ الوجوه، فهُما متشابهانِ في الإنسانيّةِ؛ أي: الإنسانيّةُ التي في هذا

(1) هو: محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازيّ، إمام المتكلمين في عصره ومن أعيان أئمة أهل السنة، توفي سنة (606 هـ). من مصنفاته (مفاتيح الغيب)، و (معالم أصول الدين) و (المسائل الخمسون في أصول الكلام). انظر: الأعلام للزركلي (6/ 313).

ص: 20

تشابِهُ الإئسانيّةَ التي في هذا، فهذا معنى قولِنا: اتَّفَقا في الإنسانيّة، وهُما متَّفقانِ في الإنسانيّة، أو مشتركانِ في الإنسانيّة، فإنَّ التَّشابهَ والتَّماثلَ والاتِّفاقَ والاشتراكَ في هذا الموضعِ يُرادُ بها شيءٌ واحدٌ، فهذا الإنسانُ يوافِقُ هذا ويشابهُهُ ويُماثلُهُ (1)، ويشاركُهُ في أنَّهُ إنسانٌ، فهذهِ الإنسانيّةِ مثلُ هذه، ليسَ المرادُ أنَّ إنسانيّةَ زيدٍ الموجودةَ في الخارجِ هيَ بعينِها إنسانيّةُ عمرٍو الموجودةُ في الخارج، فإنَّ هذا مكابَرةٌ للحِسِّ لا يقولُهُ عاقلٌ؛ فإنَّ إنسانيّةَ كُلِّ إنسانٍ صفةٌ لهُ قائمةٌ به، وصِفةُ الموصوفِ لا تقومُ بغَيرِه، فكما أنَّ هذا الإنسانَ ليسَ هوَ هذا الإنسانَ، بَلْ هوَ نظيرُهُ، فكذلكَ هذهِ الإنسانيّةُ ليسَتْ هذهِ الإنسانيّةَ في العَينِ والشَّخص، بَلْ هيَ نظيرُها.

وكذلكَ إذا قيلَ: الإنسانُ والفرَسُ يَشتركانِ في الحيوانيّة، فالمرادُ بهِ أنَّ في هذا حيوانيّةً تناظِرُ الحيوانيّةَ التي في هذا، فهُما جِنسٌ واحدٌ يَجمعُهما الحِسُّ والحرَكةُ الإراديّةُ، ليسَتْ حيوانيّةُ الإنسانِ هيَ بعَينِها حيوانيّةَ الفرَس، ولا إحساسُهُ إحساسَ الفَرس، ولا حركتُهُ الإراديَّةُ حرَكةَ الفرَس، بَلْ ولا حيوانيّةُ فردٍ مِنْ أفرادِ الإنسانِ والفرَسِ هيَ بعينِها حيوانيّةَ الآخر، ولا إحساسُ هذا الإنسانِ هوَ إحساسَ هذا، ولا حرَكتُهُ هيَ بعينِها حركتَهُ، كما أنَّهُ هوَ في نفسِهِ ليسَ هوَ ذلكَ بعينِه، ولكنَّ الواحدَ يُقالُ على الواحدِ بالنَّوعِ والواحد بالعَين، فإذا قيلَ: الحيوانيّةُ واحدةٌ، والإنسانيّةُ واحدةٌ، وهذهِ الحيوانيّةُ هيَ هذه، وهذهِ الإنسانيّةُ هيَ هذهِ؛ كانَ المرادُ بذلكَ الواحدِ بالنَّوعِ والوحدةِ النَّوعيّةِ ليسَ المرادُ الواحدَ بالعينِ ولا الوحدة العَينيّةِ.

(1) في المخطوط تكررت كلمة (ويماثله).

ص: 21

وهذا الموضِعُ اشتبهَ على طوائفَ مِنَ الأُمَمِ؛ فلم يُميِّزوا بينَ هذا وهذا في مواضعَ، مَع ظهورِ التَّمييزِ بينَهما، وصارُوا يتكلَّمونَ بلفظِ الواحد، ويَظنُّونَ أنَّهُ واحدٌ بالعين، وإنَّما هوَ واحدٌ بالنَّوع، ولهذا قيلَ: أكثرُ اختلافِ العُقلاءِ مِنْ جهةِ اشتراكِ الأسماء، حتَّى آلَ الأمرُ بطوائفَ يَدَّعُونَ التَّحقيقَ والتَّوحيدَ والفُرقانَ، وأنَّهم بيَّنوا العِلمَ الذي رمزَ إليهِ هُرامسُ الدُّهورِ الأوليّة، ورامَتْ إفادتُهُ الهدايةَ النَّبويّةَ؛ إلى أنْ جَعلوا الوجودَ واحدًا بهذا الاعتبارِ؛ بناءً على أنَّ الموجوداتِ تشتركُ في مُسمَّى الوجودِ.

ولا ريبَ أنَّ الموجوداتِ مشترِكةٌ في مسمَّى الوجود، وأنَّ الوجودَ واحدٌ بهذا الاعتبار، ولكِنْ فرقٌ بينَ الواحدِ بالعَينِ والشَّخص، وبينَ الواحدِ بالنَّوعِ أو الجِنْسِ أو العرضِ العامّ، ونحوِ ذلكَ مِنِ اصطلاحِ المنطقيِّينَ التي يجمعُها كُلَّها اسمُ الجِنسِ في اصطلاحِ النُّحاة، فإنَّ هذهِ الكُلِّيَّاتِ الخمسةَ هيَ أسماءُ جنسٍ في اصطلاحِ النُّحاةِ؛ إذِ اسمُ (1) الجِنسِ عندَهم اسم لِما عُلِّقَ على الشَّيء، وعلى ما أشبهَهُ، بمنزلةِ ما يقولُ المنطقيُّونَ الكُلِّيّ، فاللَّفظُ يُسمِّيهِ هؤلاءِ كُلِّيًّا، أو يُسَمُّونَ معناهُ كُلِّيًّا يسمِّيهِ هؤلاء اسمَ جنسٍ.

فإذا قيلَ: الموجوداتُ مشترِكةٌ في مسمَّى الوجود، فهيَ بمنزلةِ أنْ يقالَ: الجواهرُ مشترِكةٌ في مسمَّى الجَوهر، والأجسامُ مشترِكةٌ في مسمَّى الجِسم، والحيواناتُ مشترِكةٌ في مسمَّى الحيوان، والأناسيُّ مشترِكةٌ في مسمَّى الإنسان، بَلْ والعربُ مشترِكةٌ في مسمَّى العربيّ، وأمثالُ ذلكَ ممّا لا يُحصى أمثلتُهُ.

(1) رسمت في المخطوط (اسمي) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 22

ومعلومٌ أنَّ اشتراكَ هذهِ الأُمورِ في هذا المسمَّى، لا تجعلُ أحدَهُما عينَ الآخر، فلا يُجعَلُ عينُ هذا الموجودِ (1) عين هذا الموجود، ولا عينُ هذا الجسمِ عينَ هذا الجسم، ولا عينُ هذا الحيوانِ أو هذا الإنسانِ عينَ الآخر، بَلْ كُلُّ موجودٍ مِنَ الإنسانِ وفرَسٍ وغيرِه، فلَهُ في نفسِهِ ما يتميَّزُ بهِ عمّا سِواهُ مِنَ الموجودات، فلِلإنسانِ المعيَّنِ إنسانيّةٌ تخصُّهُ، وحيوانيّةٌ تخصُّهُ، وجسميةٌ تخصُّهُ، ووجودٌ يخصُّهُ، والأُمورُ التي تخصُّهُ هيَ التي تميِّزُهُ عمّا سواهُ، فإذا قُدِّرَ عدمُهُ عدمَتْ هذهِ الأُمورُ المعنيّةُ القائمةُ به، ولم يجبْ أنْ يُعدمَ نظيرُهُ المشاركُ لهُ في تلكَ الأُمور، والواحدُ بالعينِ والشَّخصِ متى عدمَ في نفسِهِ لم يبقَ موجودًا.

وكُلُّ أحدٍ يعلمُ بالحسِّ وبعقلِهِ الضَّروريِّ أنَّهُ هوَ ليسَ هذا الإنسانَ الآخرَ، ولا أنَّ ما قامَ بهِ مِنَ الصِّفاتِ والأعراضِ هيَ عينُ ما قامَ بذلكَ الإنسانِ الآخرِ مِنَ الصِّفاتِ والأعراض، وإنْ كانَ هوَ وذلكَ الإنسانُ مشتركينِ في الإنسانيّةِ والنَّاطقيَّةِ والحيوانيّةِ والحساسيّةِ والجِسميّةِ والجوهريّةِ مشتركينِ في الوجودِ والماهيّةِ والحقيقة، وغيرِ ذلكَ ممّا يُقالُ: إنَّهما يشتركانِ فيهِ.

فمَع اشتراكِهما في هذهِ الأُمورِ ليسَ أحدُهُما هوَ الآخرَ، ولا شىءٌ مِنْ صفاتِ أحَدهما هيَ عينَ صفاتِ الآخر، فليسَ في الخارجِ شيءٌ معيَّنٌ اشتَركا فيه، ولكِنْ تشابَها وتماثَلا واتَّفَقا واشتركا في تلك الأُمورِ؛ فهذا أصلٌ يَنبغي للفاضلِ أنْ يعرِفَهُ ويُتقِنَهُ؛ فإنَّهُ مَع وضوحِهِ وظهورِهِ وكونِهِ مِنَ العلومِ الضَّروريّةِ اليقينية التي لا تقبلُ الشَّكَّ، التبسَ على طوائفَ مِنَ الفُضلاءِ حتَّى لَم يُفرِّقوا بينَ هذا وهذا.

(1) بعدها (واو) ولعل الأولى إسقاطها.

ص: 23

وحُجّةُ الفلاسفةِ في التَّوحيدِ مبنيّةٌ على هذا الاشتباهِ والالتباس، فقولُ السّائلِ: الأشياءُ التي تختلفُ بأعيانِها، وتتَّفقُ في أمرٍ مقوّمٍ لها لا يخلو إمّا أنْ يكونَ ما اتَّفقَتْ فيهِ لازمًا لِما اختلفَتْ فيهِ أو بالعكسِ أو عارضًا لهُ أو بالعكسِ هوَ مِنْ هذا الباب، وقد مُثِّلَ الأوَّلُ بالأنواعِ المختلِفة، فالحقيقةُ والجِنسُ لازمٌ لها كالإنسانِ والفَرَسِ وغيرِهما؛ فإنَّها أنواعٌ مختلفةٌ والحيوانُ لازمٌ لها.

فيُقالُ: الأعيانُ لا توجَدُ إلّا بأعيانِها أنواعًا؛ إذْ ليسَ في الخارجِ نوعُ الإنسانِ مطلَقًا، ونوعُ الفرَسِ مطلَقًا، وإنَّما يوجدُ أشخاصُ النَّوعِ كما يوجدُ هذا الفرَسُ، وهذا الإنسان، وحينئذٍ فأنتَ تقولُ: الإنسانُ والفرَسُ اختلَفا بأنواعِهما، واتَّفَقا في أمرٍ لازمٍ لهما كالحيوانيّةِ مثلًا.

فيُقالُ لك: تعني بقولِكَ: اختلَفا بأعيانِهما أعيانَ أشخاصِهما، أو أعيانَ نوعِهِما، فإنْ عنيتَ عَين (1) الشَّخصين، فالذي اتَّفَقا فيهِ - وهوَ الحيوانيّةُ - يمتازُ كُلٌّ مِنهُما فيهِ عَنِ الآخرِ بتعيُّنه أيضًا، فإنَّ حيوانيّةَ هذا الإنسانِ هيَ متميِّزةٌ في عينِها عَنْ حيوانيَّةِ هذهِ الفرَس، فليسَ عينُ هذهِ عينَ هذه، فكَما أنَّ إنسانيّةَ هذا الإنسانِ مغايرةٌ بالتَّعيينِ لفرسية (2) هذهِ الفرَسِ؛ فحيوانيَّةُ هذا الإنسانِ مغايرةٌ بالتَّعيينِ لحيوانيّةِ هذهِ الفرَس، لكنَّ الحيوانيَّةَ تماثلُ الحيوانيَّةَ، والفرَسيَّةَ تخالِفُ الإنسانيَّةَ، فكُلٌّ منهما يشبهُ الآخرَ مِنْ وجهٍ، ويخالِفُهُ مِنْ وجهٍ، وفي كُلٍّ منهُما صفةٌ يشابهُ بها الآخرَ، وفيهِ صفةٌ يخالفُ بها الآخرَ.

(1) رسمت في المخطوط (عن) ولعل المثبت هو الصحيح.

(2)

رسمت في المخطوط خطأ وقام مالك النسخة بتعديلها كما هو مثبت.

ص: 24

فقَولكَ: تختلفُ بأعيانِها وتتَّفِقُ في أمرٍ مقوّمٍ لها، لفظٌ فيهِ إجمالٌ واشتباهُ، بلْ فيهِ تلبيسٌ؛ فإنَّكَ إنْ عنيتَ أنَّ كُلًّا منهُما يخالفُ الآخرَ بتعيُّنِهِ ويوافُقِهِ في أمرٍ لا يتعيَّنُ لهُ فليسَ بصحيحٍ، بَلْ كُلٌّ منهُما يتعيَّنُ لهُ ما يخالفُ فيهِ الآخرَ، وما يوافِقُهُ فيه، والذي وافقَهُ كالحيوانيّةِ تخالفُهُ في تعيينِه، فلِهذا حيوانيّةٌ وتخصُّهُ، ولهذا حيوانيّةٌ تخصُّهُ، فلا فَرقَ في التَّعيينِ والإطلاقِ بينَ ما جَعلتَهما اختلَفا فيه، وبينَ ما جعلتَهما اتَّفَقا فيه، وإنَّما يَفترقانِ مِنْ جهةِ التَّماثلِ والاختلاف، لا مِنْ جهةِ التَّعيينِ والإطلاقِ.

وإنْ عنيتَ بقولِكَ: تختلفُ بأعيانِها؛ أي: بأعيانِ النَّوعِ؛ أي: تختلفُ بالإنسانيَّةِ والفرَسيَّة، وتتَّفقُ في لازمِ ذلكَ وهيَ الحيوانيّةُ قيلَ لكَ أيضًا: إنَّما اختلَفا بإنسانيَّةٍ وفرسيَّةٍ مطلَقةٍ نوعيَّةٍ، واتَّفَقا في حيوانيّةٍ مطلَقةٍ جِنسيّةٍ، فالذي اختَلفا فيهِ ليسَ بمعين (1)، والذي اتَّفَقا فيهِ ليسَ بمُعيَّنٍ، بلْ هذا كُلِّيٌّ مطلَقٌ، وهذا مطلَقٌ كُلِّيٌّ، فلَمْ يكُنِ الفَرقُ بينَ ما اختلَفا فيهِ واتَّفَقا فيهِ مِنْ جهةِ الإطلاقِ والتَّعيين، بَل مِنْ جهةِ التَّماثُلِ والاختلاف، فليَتدبَّرِ اللَّبيبُ الفاضلُ هذا الموضعَ؛ فإنَّهُ يفتحُ بابَ المعرفةِ والتَّحقيق، ويزيلُ الضَّلالَ الذي هوَ سببُ الاشتباهِ في هذا المضيق، فإنَّ هؤلاءِ عَمدُوا إلى صفاتٍ متساويةٍ في العمومِ والخُصوص، فجَعلوا بعضها معيَّنًا خاصًّا، وبعضَها مطلَقًا عامًّا بالتَّحكُّم، وهذا عينُ الغلَط، بلْ كُلُّ شيئينِ اشترَكا في شيءٍ، وافترَقا في شيءٍ، فالفَرقُ بينَ المشترَكِ والمميَّزِ مِنْ جهةِ التَّماثُلِ والاختلافِ والمشترك بَينهما متشابه متماثل يَقتضي الجمعَ، والمميّزُ بينَهما مختلف متباين يَقتضي الفرقَ، وأمّا مِنْ جهةِ التَّعيينِ والإطلاقِ والكُلِّيِّ والجُزئيِّ والعُمومِ والخصوصِ فلا

(1) في المخطوط (بمعنى) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 25

فرقَ؛ إذْ كُلٌّ منهُما لهُ صفاتٌ تخصُّهُ، إمّا مماثلةٌ لصفاتِ غيرِهِ وإمّا مخالِفةٌ لها، وهيَ متعيِّنةٌ، ليسَ لغيرِهِ فيها شركةٌ أصلًا، بَلْ لهُ فيها مشابَهةٌ أو مخالَفةٌ، وهذهِ الصِّفاتُ المعيّنة (1) لهُ إذا أُخِذَتْ مطلَقةً كلِّيّةً كانَ المماثلُ منها النَّوعَ مثلا، والمختلِفُ منها الجِنسَ مثلًا، فالمتماثلُ كالإنسانِ معَ الإنسان، والفرَسِ معَ الفرَس، والمختلفُ كالإنسانِ معَ الفرَس، فهذهِ الأشياءُ التي اختلفَتْ بأعيانِ أنواعِها، وهيَ الإنسانيّةُ مثلًا معَ الفرَس، واتَّفقَتْ في لازمِ ذلكَ، وهوَ الجِنسُ، كالحيوانيّة، كُلٌّ مِنَ المختلفِ فيهِ والمتَّفقِ عليهِ كُلِّيٌّ مطلَقٌ، ليسَ أحدُهما جزئِيًّا والآخرُ كُلِّيًّا، ولا أحدُهما واحدًا بالشَّخصِ والآخرُ واحدًا بالجِنسِ اللُّغويِّ المقابلِ للواحدِ بالشَّخص، ولِكُلٍّ منهُما إنسانيّةٌ تخصُّهُ معَ الحيوانيّةِ التي تخصُّهُ، كما لكُلِّ فرَسٍ فرسيّةٌ تخصُّهُ كالحيوانيّةِ التي تخصُّهُ، كالألوانِ التي تشتركُ في مُسمَّى اللونيّةِ (2).

ويمتازُ هذا عَنْ هذا بخصوصيّةٍ لكونهِ بياضًا وسوادًا؛ فإنَّ كُلَّ لونٍ معيَّنٍ لهُ لونيّةٌ تخصُّهُ وسواديّةٌ أو بياضيّةٌ تخصُّهُ، وإذا أُخِذَ لونٌ مطلَقٌ وقُسِمَ إلى بياضٍ مطلَقٍ وسوادٍ مطلَقٍ، فليسَ اللَّونُ المطلَقُ ولا السَّوادُ المطلَقُ أو البياضُ المطلَقُ موجودًا في الخارجِ مطلَقًا بشرطِ إطلاقِه، بَلْ لا يوجدُ إلّا معيَّنًا، وإذا عُيِّنَ هذا البياضُ وهذا البياضُ عُيِّنَ هذا اللَّونُ، فنَفسُ المسمَّى جِنْسًا إذا عُيِّنَ في الخارجِ كانَ هوَ المعيَّنَ في الخارجِ مِنَ النَّوع، فنفسُ هذا اللَّونِ هوَ نفسُ هذا السَّوادِ أو هذا البياض، ونفسُ هذا الحيوانِ هوَ ذا الإنسانُ وهذا الفرسُ.

(1) في المخطوط (المعنية) ولعل المثبت هو الصحيح.

(2)

في المخطوط (الكونية) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 26

إذا تبيَّنَ هذا فإذا قدَّرنا موجودينِ واجبَي الوجود، وقالَ القائلُ: هما مشتركانِ في الوجودِ والوجوب، ومختلِفانِ بالتَّعيينِ أو الماهيّةِ أو الذّاتِ أو الحقيقة، أو نحوِ ذلكَ مِنَ العباراتِ التي تُقالُ في هذا المقام، وقالَ: إنَّ ما اتَّفَقا فيهِ إمّا أنْ يكونَ لازمًا لِما اختلَفا فيهِ أو بالعكسِ أو عارضًا لهُ أو بالعكسِ قيلَ: قد فرقتَ بينَ ما اتَّفَقا فيهِ واختلَفا فيهِ مِنْ جهةِ الإطلاقِ والتَّعيين، وجعلتَ هنا قِسمينِ: أحدهما يصلحُ أنْ يكونَ لازمًا للآخرِ أو ملزومًا أو عارضًا أو معروضًا، وهذانِ القِسمانِ متَّفقانِ في العمومِ والخصوصِ والإطلاقِ والتَّعيين، وبينَهما تلازمٌ مِنَ الطَّرفينِ إذا كانا مُتعاندين، وأمّا إذا كانا متَّحدينِ فقد بَطَلَتِ الحُجّةُ بالكُلِّيّةِ.

ولكِنْ إذا قيلَ: هما مُتغايرانِ فَكُلٌّ لازمٌ للآخرِ وملزومٌ لهُ، لا يجوزُ أنْ يكونَ أحدُهما اللّازمَ مِنْ غيرِ عكسٍ؛ وذلكَ أنَّ الوجودَ والوجوبَ الذي جعلتَهُ مشترَكًا إنْ أردتَ بهِ وجودًا مطلَقًا ووجوبًا مطلَقًا، فخُذْ مِنَ الضَّربِ الآخرِ ماهيّةً مطلَقةً وذاتًا مطلَقةً وحقيقةً مطلَقةً وتَعَيُّنًا مطلَقًا، فإنَّهما كما اشترَكا في مسمَّى الوجودِ والواجبِ اشترَكا في مسمَّى الذّاتِ والماهيّةِ والحقيقةِ والمعيَّنِ.

وإنْ قلتَ: اشترَكا في الوجودِ والوجوبِ قيلَ لكَ: اشترَكا في التَّعَيُّنِ والذّاتيّةِ والتَّحقُّقِ ونحوِ ذلكَ، وإنْ أردتَ بالوجودِ والوجوبِ لِكُلٍّ مِنهما ما يخصُّهُ، فخُذْ بإزاءِ ذلكَ لِكُلٍّ مِنهُما ما يخصُّهُ مِنْ مسمَّى التَّعيينِ والحقيقةِ والماهيّةِ ونحوِ ذلكَ؛ فإنَّهُ مِنَ المعلومِ أنَّ كُلًّا منهُما يوافقُ الآخرَ في أنَّهُ موجودٌ وأنَّهُ واجبٌ، وأنَّهُ متعيِّنٌ، وأنَّهُ ذاتٌ، وأنَّهُ حقيقةٌ وماهيّةٌ، ويفارقُهُ في

ص: 27

أنَّهُ هوَ ليسَ عينَ الآخر، وإنْ كانَ هوَ إيَّاهُ باعتبارِ النَّوع، فليسَ هوَ إيّاهُ باعتبارِ الشَّخص، وكما أنَّهُ هوَ ليسَ عينَ الآخر، فليسَ في عينِ ماهيَّتِهِ أو حقيقتِهِ أو ذاتِهِ ولا عينِ وجوبِهِ أو وجودِهِ أو بعينِهِ عينَ وجودِ الآخرِ أو وجوده أو بعينِه، بَلْ لهذا تعينٌ يخصُّهُ، ولهذا تعينٌ يخصُّهُ، وهما مشتركانِ في مسمَّى التَّعيين، ولهذا وجودٌ يخصُّهُ، ولهذا وجودٌ يخصُّهُ، وهما مشتركانِ في مسمَّى الوجود، وكذلكَ القولُ في الوجوبِ وغيرِهِ كالماهيّةِ والحقيقة، فلهذا ماهيّةٌ تخصُّهُ، ولهذا ماهيّةٌ تخصُّهُ، وهما مشتركانِ في مسمَّى الماهيّةِ.

وإذا عُرِفَ أنَّ الضَّربينِ اللَّذينِ فرَّقْتَ فيهما في العمومِ والخصوصِ حتَّى جعلْتَ أحدَهما لازمًا للآخرِ أو بالعكسِ هما متساويانِ في العمومِ والخصوص، كُلٌّ منهما لازمٌ للآخرِ وملزومٌ لهُ إنْ لم يكُنْ هوَ إياهُ بَطَلَ جميعُ كلامِكَ، وكانَتْ هذهِ مِنَ الحُجَجِ المغالطيّةِ (1) السُّوفسطائيّة، بل (2) من أبينها فسادًا، حيثُما عمدتَ إلى ضربين متساويينِ في العمومِ والخُصوصِ والاتِّفاقِ والافتراقِ والاشتراكِ والامتياز، فجعلتَ أحدَهما عامًّا مُشترَكًا متَّفِقًا جامعًا، والآخرَ خاصًّا مميِّزًا مفترِقًا مفرَّقًا، وبنيتَ على ذلكَ [أن](3) ذلكَ العام المشترك، إمّا أنْ يكونَ لازمًا للخاصّ، أو ملزومًا لهُ، أو عارضًا، أو معروضًا لهُ، ومِنَ المعلومِ لمنْ يصوِّرُ هذا الموضعَ أنَّ العامَّ يجوزُ أنْ يكونَ لازمًا للخاصّ، كما يلزمُ الحيوانُ الإنسانَ، وأمّا العكسُ فمُمتنِعٌ، فإنَّ الخاصَّ لا يكونُ لازمًا للعامِّ كما لا يلزمُ الإنسانُ للحيوان، إذْ قد توجدُ

(1) في المخطوط (المغلطية) ولعل المثبت هو الصحيح.

(2)

رسمت في المخطوط (كل) ولعل المثبت هو الصحيح.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها المقام.

ص: 28

بعضُ أفرادِ العامِّ دونَ بعضٍ، وأمّا كونُ العامِّ يعرضُ للخاصِّ أو الخاصِّ يعرضُ لهُ، فهذا لا يَمتنِعُ.

وسنتكلَّمُ إنْ شاءَ اللهُ على ذلكَ، وإنَّما الكلامُ الآنَ في أصلِ ما وضعُوهُ في حُجَّتِهم؛ حيثُ جعَلُوا في الأشياءِ صِفَتين، وجَعلُوا إحداهُما عامّةً لا تكونُ خاصّةً، والأُخرى خاصّةً لا تكونُ عامّةً معَ العِلم، لأنَّ كُلًّا منهُما تكونُ عامّةً وتكونُ خاصّةً كالأُخرى سواءً، حتَّى بَنَوْا على ذلكَ أنَّ العامَّ إمّا أنْ يكونَ لازمًا أو ملزومًا، أو عارضًا أو معروضًا، وكانَ مَثَلُهُم في ذلكَ مَنْ جاءَ إلى إنسانينِ فقالَ لأحدِهما: هذا إنسانٌ، وقالَ للآخرِ: هذا حيوانٌ، ثمَّ قالَ: الإنسانُ أخصُّ مِنَ الحيوان، فيكونُ هذا أخصَّ مِنْ هذا، فحيثُ وُجِدَ هذا وُجِدَ الآخرُ مِنْ غيرِ عكسٍ، فيُقالُ لهُ: هذا وهذا مشتركانِ في أن كُلًّا مِنهما إنسانٌ وحيوانٌ.

فقولُكَ: الإنسانُ أخصُّ مِنَ الحيوانِ إنْ عنيتَ بهِ: الإنسانُ المعيَّنُ أخصُّ مِنَ الحيوانِ المعيَّن، فهذا باطلٌ، وإنْ عنيتَ بهِ أنَّ الإنسانَ أخصُّ مِنَ الحيوانِ المطلَق، فهُما مشتركانِ في الحيوانِ المطلَق، كما هما مشتركانِ في الإنسانِ المطلَق، وذلكَ لا يوجِبُ كونَ أحدِهما بشَخصِهِ أعمَّ مِنَ الآخر، بَلْ ليسَ جعْلُ هذا أعمَّ مِنَ الآخرِ بِأَولى مِنَ الآخر، فهَكذا الواجباتُ إذْ قيلَ: هما مشتركانِ في الوجودِ والوجوب، وكُلٌّ منهما يمتازُ عَنِ الآخرِ بخصوصِ ماهيَّتِهِ أو حقيقتِهِ أو بعَينِهِ أو نحوِ ذلكَ قيلَ لكَ: هذا وهذا مشتركانِ في أنَّ لهما ماهيّةً وحقيقةً وتعيينًا ووجوبًا ووجودًا، فإنْ أخذتَ المشترَكَ مطلَقًا فالجميعُ متلازمٌ، وإنْ أخذتَهُ موجودًا في الخارج، فالجميعُ متلازمٌ، فوجودُ

ص: 29

الوجوبِ المطلَقِ هوَ والماهيّةُ المطلَقةُ والواجبُ الوجودِ والتَّعيينُ المطلَقُ لواجبِ الوجودِ متلازماتٌ، وهذا الوجودُ المعيَّنُ وهذا الوجوبُ المعيَّنُ ملازمٌ لهذهِ الماهيّةِ الواجبةِ المعيَّنة، ولهذهِ الماهيّة الواجبةِ المعيَّنة، وتعينُ كُلٌّ منهُما متلازمٌ لذلكَ، بَلْ كُلُّ موجودٍ في الخارجِ بهذهِ المثابة، سواءٌ قُدِّرَ واجبًا بنفسِهِ أو بغيرِه، فهذا الإنسانُ المعيَّنُ لهُ إنسانيّةٌ تخصُّهُ، وحيوانيّةٌ تخصُّهُ، وحقيقةٌ تخصُّهُ، وماهيّةٌ تخصُّهُ، وتعيينٌ يخصُّهُ، وخصائصُهُ متلازمةٌ، وهوَ والإنسانُ الآخرُ مشتركانِ في الإنسانيّةِ والحيوانيّةِ والحقيقةِ والماهيّةِ والتَّعيين، وهذهِ المشترَكاتُ متلازمةٌ، وهذا أمرٌ بيِّنٌ ضروريٌّ لمنْ فهِمَهُ، ولا يَحتملُ النَّقيضَ.

وأمّا الكلامُ على المقدِّمةِ الثّانيةِ فإنَّهُ قالَ: يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ سببًا كما أنَّ الماهيّاتِ سببٌ لقابليّةِ الوجود، ويجوزُ أنْ تكونَ صفةُ الماهيّة سببًا لصفةٍ أُخرى، كما أنَّ الفصلَ عِلّةٌ للخاصّة، ولا يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ ولا صفةٌ مِنْ صِفاتِها سببًا للوجودِ؛ لأنَّ العِلّةَ متقدِّمةٌ بالوجودِ على المعلول (1)، فلو كانتْ إحداهُما أو كِلاهُما عِلّةً للوجودِ لزِمَ أحد المحالَين، وهوَ أنْ يكونَ الشَّيءُ متقدِّمًا بالوجودِ على نفسِهِ أو موجودًا مرَّتين، وهذا ظاهرُ البُطلانِ لهُ، هذا كلُّهُ مبنيٌّ على أنَّ الموجودَ المعيَّنَ كالإنسانِ مثلًا لهُ ماهيّةٌ مغايِرةٌ، وأنَّهُ إذا كانَ جوهرًا ففيهِ وجودُ جوهرٍ قائمٍ بنفسِه، وهوَ مغايِرٌ لماهيَّتِهِ الموجودةِ في الخارجِ القائمةِ بنفسِها، وإنْ كانَ عرضًا ففيهِ وجودٌ هوَ عرَضٌ قائمٌ بغيرِهِ وغير ماهيَّتِهِ القائمةِ بغيرِها، وهذهِ المسألةُ يُعبِّرونَ عنها بأنَّ وجودَ كلِّ موجودٍ

(1) في المخطوط (المعول) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 30

زائدٌ على ماهيَّتِهِ هوَ قولُ أبي هاشمٍ ونحوِهِ مِنَ المعتزلةِ الذينَ يقولونَ بأنَّ المعدومَ شيءٌ وأنَّ ثبوتَهُ غيرُ وجودِه، وقد وافقَهم على الفرقِ بينَ الوجودِ الماهيّةِ مَنْ لا يقولُ بأنَّ المعدومَ شيءٌ؛ كأبي عبد الله بنِ الخطيبِ ونحوِهِ ممَّنْ أخذَ بعضَ كلامِ المعتزلةِ وبعضَ كلامِ المتفلسِفةِ.

وأمّا القولُ بأنَّ وجودَ كُلِّ شيءٍ عينُ ماهيَّتِهِ فهوَ مذهَبُ أهلِ السُّنّةِ والجماعةِ وسائرِ متكلِّمةِ الصِّفاتيّةِ؛ كأبي محمَّدِ بنِ كُلَّابٍ (1)، وأبي الحسَنِ الأَشْعَرِيِّ (2)، وأبي عبد الله محمَّدِ بنِ كَرَّامٍ (3)، وأكثرِ أهلِ الكلامِ الذينَ يوافقونَ مَنْ قالَ مِنَ المعتزلةِ: إنَّ المعدومَ شيءٌ، ولا مَنْ قالَ مِنَ المتفلسفةِ: إنَّ لكُلِّ موجودٍ ماهيّةً في الخارجِ مغايرةً لوجودِهِ.

(1) هو: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب (بضم الكاف وتشديد اللام) القطان البصري، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، صاحب التصانيف في الرد على المعتزلة. أخذ عنه الكلام: داود الظاهري، وقيل: إن الحارث المحاسبي أخذ علم النظر والجدل عنه أيضًا. وأصحابه هم الكلابية. قال الذهبي: وقد كان باقيًا قبل الأربعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 174)، والأعلام للزركلي (4/ 90).

(2)

هو: علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن، من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري، كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين، وُلد في البصرة، وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم. وتوفي ببغداد سنة (324 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 85)، والأعلام للزركلي (4/ 263).

(3)

هو: محمد بن كرام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله، السجزيّ (نسبة إلى سِجِستان) إمام الفرقة الكرامية، وُلد ابن كرام في سجستان وجاور بمكة خمس سنين، وورد نيسابور، ثم انصرف إلى الشأم، وعاد إلى نيسابور، وخرج منها سنة (251 هـ) إلى القدس، فمات فيها، سنة (255 هـ). انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 108)، والأعلام للزركلي (7/ 14).

ص: 31

وقد صرَّحوا بذلكَ وقالوا: الموجودُ ليسَ هوَ موجودًا بوجودٍ زائدٍ على ذاتِه، وهُم لا يريدونَ بلفظِ الوجودِ مصدرَ وَجَدَ يَجِدُ وُجودًا؛ فإنَّ هذا المصدرَ قائمٌ بالواجدِ الذي يجدُ الأشياءَ، كما قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وقال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، وقال تعالى:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39]، وقال تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] ونحو ذلكَ؛ فإنَّ وجود العبد ربه هوَ مصدرٌ قائمٌ به، وليسَ مرادُهم هذا، وإنَّما غرضهُم بالوجودِ ما هوَ في الخارجِ متحقِّقٌ، سواءٌ وجدَهُ واجدٌ أو لم يجدْهُ.

وقولُهم: موجودٌ؛ أي: هوَ بحيثُ يجدُهُ الواجدُ.

وقولُهم: وجودٌ هوَ بمعنَى الموجود، ونزاعُهم في أنَّ هذهِ الأُمورَ المتحقِّقةَ في نفسِها التي توجدُ إمّا بالمشاهَدة، وإمّا بغيرِ المشاهَدة، وهيَ متحقِّقةٌ، سواءٌ وجدَها الإنسانُ أو لم يجدْها، كالإنسانِ الموجودِ مثلًا؛ هَلْ هوَ واحدٌ هوَ ماهيَّتُهُ وذاتُهُ، وهوَ وجودُهُ الموجودُ، أو هوَ شيئانِ؛ أحدُهما ماهيّةٌ وذاتٌ ثابتةٌ، والآخرُ وجودُ موجودِ تلكَ الماهيّةِ والذّات، وعلى هذا القولِ فهلْ يجوزُ أنْ تكونَ تلكَ الذّاتُ والماهيّةُ ثابتةً بلا وجودٍ، فقالَ طائفةٌ مِنَ المعتزِلةِ والشِّيعةِ: المعدومُ شيءٌ ثابتٌ قبلَ وجودِهِ في الخارج، وإنَّما بالوجودِ يصيرُ موجودًا، وقالَتِ المتفلسِفةُ المشّاؤونَ؛ كالأفلاطون (1)

(1) هو: أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس، من أثينية، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، معروف بالتوحيد والحكمة. كان تلميذًا لسقراط، ولما اغتيل سقراط بالسم ومات قام مقامه، وجلس على كرسيه. توفي سنة (347 ق. م). انظر: الملل والنحل (2/ 146).

ص: 32

وأرسطو (1) وشِيعتِهما: بلِ الماهيّةُ النَّوعيّةُ لكُلِّ شخصٍ غيرُ وجودِهِ المعيَّنِ.

ثمَّ تنازَعوا: هل تستقل تلكَ الماهيّاتُ عَنِ الأشخاصِ الموجودة، فزعمَ أفلاطونُ أنَّها تستقل، وقالَ بأن الماهيّاتِ أزليّةٌ أبديّةٌ، وهذا الذي يُقالُ لهُ: المُثُلُ الأفلاطونيّةُ والمُثُلُ العقليّةُ، وقولُهُ بهذا يشبهُهُ قولُهُ بأنَّ المادّةَ توجَدُ مستقلةً عَنِ الصُّوَر، وأنَّ الخلاءَ والدَّهرَ جوهرانِ قائمانِ بأنفُسِهِما غيرُ الأجسامِ الموجودةِ وأعراضِها، فقَولُهُ في المادّةِ التي هيَ الهُيولى الأوليّةُ، وفي المدّةِ والخلاءِ والحقائقِ النَّوعيّةِ مِنْ وادٍ واحدٍ، وقد تفطَّنَ صاحبُهُ أرسطو وشِيعتُهُ أنَّ هذا الذي قالَهُ خيالٌ في نفسِهِ أنواعًا مطلَقةً ومادّةً مطلَقةً وخلاءً مطلَقًا، ومنه اعتقدَ ثبوتَ ذلكَ في الخارج، وأنَّهُ موجودٌ بدونِ وجودِ هذهِ الأجسامِ وصفاتِها، كما كانَ أُستاذُهم الأقدمُ فيثاغورسُ (2) يعتقدُ أنَّ الأعدادَ موجودةٌ في الخارج، ولهذا وجودٌ في الخارجِ غير الحقائقِ المعدودةِ. وابنُ سينا (3) وأمثالُهُ مِنَ العرَب، وإن كانَ قد سلكوا طريقَ أهلِ الرِّدّةِ في اتِّباعِ هؤلاءِ الضَّالِّينَ، لكنهم أحَذقُ منهم وأصحُّ عقلًا ونظرًا؛ فإنَّ معَهم في الجملةِ مِنْ نورِ إسلامٍ ما أبصَروا بهِ كثيرًا مِنْ ضلالِ هؤلاءِ؛

(1) هو: أرسطو أو أرسطوطاليس؛ فيلسوف يوناني، تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، توفي سنة (322 ق. م). وانظر: الملل والنحل (2/ 178).

(2)

أو فيثاغورث: هو فيلسوف وعالم رياضيات يوناني، مؤسس الحركة الفيثاغورثية، ويُعرف بمعادلته الشهيرة (نظرية فيثاغورث). توفي سنة (495 ق. م).

(3)

هو: الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك، الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات. أصله من بلخ، ومولده في إحدى قرى بخارى، ونشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته. توفي سنة (428 هـ). انظر: الملل والنحل (3/ 3)، والأعلام للزركلي (2/ 241).

ص: 33

إذِ المسلمونَ هُم الشُّهداءُ على النّاسِ الذينَ يشهدونَ الحقائقَ على ما هيَ عليهِ بما أعطاهُم اللهُ مِنَ الهُدَى والنُّورِ والعِلم، وفضَّلَهم بهِ على سائرِ الأُممِ الذينَ اهتَدَوا بنورِ الكُتبِ الإلهيّة، فكيفَ بالأُممِ الذينَ لم يكُنْ عندَهم هذا النُّورُ، وأرسطو تفطن بخطأِ أسلافِهِ وبيَّنَ بطلانَ قولِ أفلاطونَ وفيثاغورسَ، واتَّبعَهُ ابنُ سينا وأمثالُهُ، وذكَروا أنَّ الفلسفةَ كانَتْ نِيَّةً غيرَ ناضجةٍ، وإنَّما كانَ مبدَؤُها النَّظرَ في الطَّبيعيّات، فصاروا يظنُّونَ أنَّ ما يعقلُهُ الإنسانُ مِنَ الكُلِّيّاتِ المجرَّدةِ الموجودةِ في الخارج، لكِنَّ أرسطو وأتباعَهُ لم يَتخلَّصوا مِنْ جميعِ هذا الضَّلال، بَلْ أثبَتوا المادّةَ في الخارج، لكِنْ قالوا: إنَّهُ لا يمكنُ وجودُ الماهيّةِ بدونِ الأشخاص، ولا وجودُ المادّةِ بدونِ الصُّورةِ.

وقد بسطَنْا الكلامَ على هذا كُلِّهِ في غيرِ هذا الموضع، وإنَّما المقصودُ هنا التَّنبيهُ على مادّةِ كلامِ هذا المحتَجّ، وأنَّ هذهِ المقدِّمةَ التي ذكرَها مبنيّةٌ على هذا الأصل، وإنْ كانَ كذلكَ فهوَ لم يُقِمْ دليلًا على هذهِ الحُجّةِ. ونحنُ في هذا المقامِ قد نَكْتفي بالمنعِ؛ فإنَّ مَنْ جاءَ بالدَّعوى لم يقابلْ إلّا بالمنع، فيُقالُ لهُ: لا نُسلِّمُ أنَّ لِشيءٍ مِنَ الموجوداتِ في الخارجِ ماهيّةً غيرَ هذا الموجودِ المحسوسِ في الخارج، فضلًا عَنْ أنْ يكونَ قابلًا لوجودِهِ أو سببًا لوجودِهِ أو تكونَ صفتُها سببًا لِصفةٍ أُخرى، بَلْ نحنُ نعلمُ بالاضطرارِ أنَّهُ ليسَ في الموجودِ المعيَّنِ القائمِ بنفسِهِ جوهرانِ قائمانِ بأنفُسِهما؛ أحدُهما حيوانٌ والثّاني ناطقٌ، بلِ الجوهرُ الموصوفُ بأنَّهُ حيوانٌ هوَ الجوهرُ الموصوفُ بأنَّهُ ناطقٌ، ولذلكَ كُلُّ موجودٍ بحقيقتِهِ التي هيَ ماهيَّتُهُ وذاتُهُ وإنِّيَّتُهُ هيَ هوَ ليسَتْ شيئًا غيرَهُ، وليسَ هوَ شيئًا غيرَ هذا الموجودِ المشخَّصِ المحسوس، وليسَ معَهُ حقيقةٌ غير هذا الموجودِ المشخَّصِ المحسوسِ لا كلِّيّة ولا جزئيّة.

ص: 34

ونحنُ في هذا المقامِ في مقامِ المنع، فلا يطولُ الكلامُ بالدَّليلِ على فسادِ قولِهم، لكِنْ يَنبغي أنْ نعلمَ أنَّ مادّةَ كلامِهم وأصلَ ضلالِهم هوَ مِنْ جِنسِ ضلالِ سَلَفِهم، حيثُ اشتبهَ عليهِم ما يكونُ في الذِّهنِ مِنْ تصوُّرِ ماهيّةِ الشَّيءِ وحقيقتِهِ بما يكونُ في الخارجِ مِنْ وجودِهِ الذي هوَ حقيقتُهُ وماهيَّتُهُ.

وهذا هوَ الأصلُ الذي ضَلَّ فيهِ أوَّلوهم، لكنَّ أولئكَ أثبتوا هذهِ المتصوّراتِ منفكَّةً عَنِ الموجوداتِ المشهورة، وهؤلاءِ لم يثبِتُوها منفصلةً عنها، بلْ ملازمةً لها، وهُم إذا احتَجُّوا بأنَّ حقيقةَ المثلَّثِ تُعقلُ قبلَ وجودِ المثلَّثِ ونحوَ ذلكَ مِنْ حُجَجِهم، فغايتُهُم أنْ يُثبِتوا أنَّهُ متصوَّرٌ في الذِّهنِ ما لا وجودَ لهُ في الخارج، وهذا لا نِزاعَ فيه، فنحنُ نعلَمُ أنَّ ما لا يُتصوَّرُ في الأذهانِ غيرُ ما يتحقَّقُ في الأعيان، ولو أرادوا باسمِ الماهيّةِ ما في الذِّهنِ وباسمِ الموجودِ ما في الخارجِ لم ننازعْهم في أنَّ وجودَ كُلِّ شيءٍ ليسَ هوَ ماهيَّتَهُ، لكنَّهم لا يَعنونَ هذا، وإنَّما يعنونَ أنَّ ماهيَّةَ كُلِّ شيءٍ الثّابتةَ في الخارجِ غيرُ وجودِهِ الثّابتِ في الخارج، كما أنَّ المعتزلةَ القائلينَ بأنَّ المعدومَ شيءٌ لو قالوا: إنَّهُ شيءٌ في العِلمِ وشيءٌ في الذِّهن، وأنَّهُ ثابتٌ في العِلمِ ومُتصوَّرٌ ومعلومٌ ومذكورٌ ومخبَرٌ عنهُ قبلَ وجودِه، لم ننازعْهم في ذلكَ، ولكنَّهم زَعموا أنَّهُ ثابتٌ في الخارجِ.

فهذانِ الأصلانِ المبنيُّ عليهما هاتانِ المقدِّمتانِ اللَّتانِ ذكرَهما المستدِلُّ هما مِنْ أُصولِ ضلالِ هؤلاءِ المتفلسِفةِ المشّائِينَ، ومَنِ اتَّبعَهم مِنْ مُرتدّةِ العرَب، ومَنْ سَلكَ سبيلَهم مِنْ متكلِّمٍ ومتفقِّهٍ ومتصوِّفٍ.

فالأوَّلُ يتعلَّقُ بكلامِهم في الكُلِّيّاتِ كالجِنسِ والفَصلِ والخاصّةِ

ص: 35

والعَرَضِ العامِّ والفرقِ بينَ المطلَقِ والمعيَّن، حيثُ عَمدوا إلى صفاتٍ متساويةٍ في العمومِ والخصوص، فجَعلوا بعضَها عامًّا وبعضَها خاصًّا.

والثّاني متعلِّقٌ بكلامِهم في الماهيّاتِ وصفاتِها الذّاتيّة، والفرقِ بينهما وبينَ العرضِيَّة اللَّازمةِ للماهيّة، والفرقِ بينَ الماهيّةِ والوجود، فهذا يتعلَّقُ بالسَّلْبِ والإيجاب، وذلكَ يتعلَّقُ بالخصوصِ والعُمومِ. وعلى هذا بَنَوْا عامّةَ كلامِهم الذي فارَقُوا بهِ أهلَ الفِطَرِ السَّليمةِ والعُقولِ المستقيمةِ وقَعُوا بسبَبِهِ في ضلالٍ وحيرةٍ حتَّى يبقى أحدُهم طولَ عُمرِهِ ناظرًا باحثًا ولم يتخامر عندَهُ ما يقوله في وجودِ واجبِ الوجودِ الذي هوَ أبيَنُ المعارفِ. وجهة الغلط الذي وقعَ فيهِ هؤلاءِ مَع ذكائِهم بالنِّسبةِ إلى أتباعهم أنَّ اسمَ الماهيّةِ في عُرفِهم غلبَ على ما في الذِّهن، ولفظَ الوجودِ غلبَ على ما في الخارجِ؛ لأنَّ الماهيّةَ مأخوذةٌ مِنْ قولِ القائلِ ما هوَ، والسّائلُ بما هوَ يطلبُ جوابَهُ، بقولِ المسؤولِ وهوَ المَقولُ في جوابِ ما هوَ، والمقولُ في جوابِ ما هوَ لا بُدَّ أنْ يتصوَّرَهُ الذِّهنُ، سواءٌ كانَ موجودًا في الخارجِ أو لم يكُنْ.

ومِنْ هنا جعلوا الماهيّةَ مغايِرةً لوجودِها كما يذكرونَهُ في المثلَّث، وأنَّ حقيقته مغايرة لوجودِ المثلَّثِ. وهذا صحيحٌ باعتبارِ أنَّ المثلَّثَ يمكنُ تصوُّرُهُ في الذِّهنِ بدونِ وجودِهِ في الخارج، وأمّا لفظُ الوجودِ فغلبَ على ما لَهُ وجودٌ في الخارجِ؛ إذْ ما تصوَّرَهُ الذِّهنُ إنْ لم يوجدْ في الخارجِ لا يكونُ موجودًا، فالفَرقُ بينَ الوجودِ والماهيّةِ فرقٌ بينَ ما في الوجودِ الذِّهنيِّ والوجودِ الخارجيّ، وهوَ فرقٌ صحيحٌ بهذا التَّفسيرِ؛ فإنَّ العقلَ الصَّريحَ يعلمُ أنَّ حقيقةَ الشَّيءِ الموجودةَ في الخارجِ ليسَتْ هيَ عينَ ما تصوَّرَهُ في

ص: 36

الذِّهنِ منهُ، لكِنْ هُمْ لا يُفسِّرُونَها بذلكَ، بَلْ يجعلونَ للشَّيءِ في الخارجِ ماهيّةً خارجيّةً تُغايِرُ الموجودَ في الخارج، كما جعلَ مَنْ جعلَ مِنَ المعتزلةِ في الخارجِ للشَّيءِ ثُبوتًا مغايرًا لوجودِهِ في الخارج، وجعلَ الموجودَ ثابتًا في الخارجِ قبلَ وجودِهِ.

وضلالُ هؤلاءِ المعتزلةِ مِنْ (1) جِنسِ ضلالِ هؤلاءِ المتفلسِفةِ؛ فإنَّ هؤلاءِ المعتزلةَ لَمّا رَأَوا أنَّ الشَّيءَ يُتصوَّرُ في الذِّهنِ فيُفرَّقُ بينَ المرادِ والمكروهِ والمأمورِ بهِ والمنهيِّ عنهُ، والامتياز في العدَمِ المحضِ محالٌ، قالوا: المعدومُ يتميَّزُ بعضُهُ عَنْ بعضٍ، ولا يكونُ الامتيازُ في العدَمِ المحض، فيكونُ بالمعدومِ ثابتًا. وما أمكَنَهم أنْ يجعلُوهُ موجودًا في الخارج، فقالُوا: هوَ ثابتٌ في الخارجِ وليسَ بموجودٍ، وفرَّقُوا بينَ ثبوتهِ ووجودِهِ كما فرَّقَ هؤلاءِ بينَ الماهيّةِ التي في الخارجِ وبينَ الوجودِ الذي في الخارج، وكُلُّ ذلكَ لكونِ أحدِ الاسمينِ غلبَ عليهِ الثُّبوتُ الذِّهنيُّ، والآخرِ غلبَ عليهِ الثُّبوتُ الخارجيُّ؛ فظَنُّوا الفَرقَ بينَهما لافتراقِ حقائقِ المسمَّيات، وليسَ كذلكَ، بَلِ الفَرقُ كانَ لأنَّهُ أخذَ في أحدِ المسمَّيَينِ وجودَهُ الذِّهنيَّ وأخذَ في الآخرِ وجودَهُ الخارجيَّ، فإذا عزلَ بينَ المسمَّياتِ وأخذَ لكُلِّ واحدٍ وجودَهُ الذِّهنيَّ والخارجيَّ فجَميعُها متكافئةٌ متعادلةٌ متلازمةٌ، فثُبوتُ الشَّيءِ في الذِّهنِ هوَ وجودُهُ في الذِّهن، ووجودُهُ في الخارجِ هوَ ثبوتُهُ في الخارج، وهوَ قبلَ وجودِهِ معدومٌ في الخارجِ ليسَ بثابتٍ ولا موجودٍ، وهوَ في الذِّهنِ ثابتٌ وموجودٌ بمعنى أنَّهُ معلومٌ لا أنَّ نفسَهُ حاصلةٌ في الذِّهنِ.

(1) في المخطوط تكررت (من).

ص: 37

وكذلكَ الماهيّة التي في الذِّهنِ هيَ وجودُهُ الذِّهنيُّ، والموجودُ الذي في الخارجِ هوَ الماهيّةُ التي في الخارج، وكما أنَّهُ ليسَ في الذِّهنِ موجودٌ غيرُ الماهيّةِ التي في الذِّهنِ فليسَ في الخارجِ ماهيّةٌ موجودةٌ غيرُ الموصوفِ بأنَّ الماهيّةَ ماهيّةٌ.

وكذلكَ ضلالُ أهلِ الحالِ هوَ مِنْ هذا الباب، وهذانِ النَّوعانِ مِنَ الضَّلالِ وقعَ فيهما طوائفُ مِنْ أذكياءِ الرِّجال، حيثُ عَمدوا إلى أسماءٍ متساويةٍ في الثُّبوتِ والانتفاء؛ إمّا في الذِّهنِ وإمّا في الخارج، فجَعلوا بعضها ثابتًا وبعضها مُنتفِيًا بالتَّحكُّم، وضلالُهم في الإثباتِ والنَّفيِ كضلالِهم في العُمومِ والخصوصِ.

ومِنَ المعلومِ أنَّ القضايا لا تختلفُ في الأصلِ بالسَّلبِ والإيجابِ والعُمومِ والخصوص، فغَلطوا في السَّلبِ والإيجابِ كما غَلطُوا في العمومِ والخصوصِ بسبَبِ الاشتراكِ الواقعِ في اللَّفظِ وكونِ أحدِ الاسمينِ يغلبُ عليهِ معنًى، والآخرِ يغلبُ عليهِ معنًى آخرُ، فإذا أردتَ ارتفاعَ الشُّبهةِ فانظُرْ إلى معاني الأسماء، ودَعِ المنازَعاتِ اللَّفظيّةَ التي لا طائلَ تحتَها، وخُذْ معنى هذا الاسمِ بحسَبِ عمومِهِ وخُصوصِهِ وثُبوتهِ وانتفائِهِ في الذِّهنِ والخارج، ومعنى هذا الاسمِ بحسَبِ عمومِهِ وخُصوصِهِ وثُبوتهِ وانتفائِهِ في الذِّهنِ والخارجِ تجدْهم قد فرَّقُوا بينَ المتماثلينِ. وأصلُ القياسِ البُرهانيِّ هوَ التَّسويةُ بينَ المتماثلين، فإذا كانوا في أصلِ قياسِهم الذي جعلُوهُ بُرهانَهم قد فرَّقُوا بينَ المتماثلينِ كانوا قد أسَّسوا بنيانَ عِلمِهم على شفا جرفٍ هارٍ فانهارَ بهم في نارِ جهنَّمَ، والله لا يهدي القومَ الظّالمينَ، فإنَّ التَّفريقَ بينَ المتماثلين أحد (1) الظلمِ.

(1) هكذا في المخطوط ولعل الصواب: (أشد)، والله أعلم.

ص: 38