المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصْلٌ إذا تبيَّنَ هذا فنقولُ: والجوابُ عَنْ هذهِ الحُجّةِ التي هيَ - مسألة في توحيد الفلاسفة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ ‌فصْلٌ إذا تبيَّنَ هذا فنقولُ: والجوابُ عَنْ هذهِ الحُجّةِ التي هيَ

‌فصْلٌ

إذا تبيَّنَ هذا فنقولُ: والجوابُ عَنْ هذهِ الحُجّةِ التي هيَ أصلُ كلامِهم، وقَد حرَّرَها السّائلُ وطوَّلها آخِذًا لذلكَ مِنْ كلامِ ابنِ سِينا في الإشاراتِ وشرَحَها الرّازي وغيرُهُ، أنّا نبيِّنُ فسادَ ما ذكروهُ مِنْ كُلِّ قِسمٍ مِنَ الأقسامِ الأربعةِ مِنْ وجوهٍ، وإن كانَ بيانُ فسادِ قِسمٍ واحدٍ بوجهٍ واحدٍ كافيًا في إبطالِها؛ إذِ الحُجّةُ لا تتمُّ إلّا بإبطالِ جميعِ اللَّوازمِ المقدَّرة، فمتى أمكنَ صحّةُ لازمٍ منها بَطَلَ قولُهم إنْ تبيَّنَ لزومُهُ، ونحنُ نبيِّنُ فسادَ ما ذكروهُ مِنَ اللَّوازمِ ومِنَ الملزومِ حتَّى يظهرَ بُطلانُ كُلٍّ مِنَ المقدِّمتينِ الشَّرطيّةِ والاستثنائيّة، وذلكَ مِنْ وجوهٍ:

أحدها: أنْ يُقالَ لهُ: ما الدَّليلُ أوَّلًا على الانحصارِ في هذهِ الأقسامِ الأربعةِ؛ فإنَّ القِسمةَ العقليّةَ توجِبُ أنْ يقالَ إمّا أنْ يكونَ لازمًا أو ملزومًا أو عارضًا أو معروضًا أو لا لازمًا ولا ملزومًا ولا عارضًا ولا معروضًا، فإنَّ العقلَ يقدِّرُ هذا القسمَ، وليسَ لهُ أنْ يقولَ: إنَّ انتفاءَهُ معلومٌ بضرورةِ العقلِ؛ فإنَّ انتفاءَ هذا غيرُ معلومٍ للنّاسِ بضرورةِ عقلِهم، وإنْ كانَ انتفاؤُهُ معلومًا بنظرِ العقلِ فإنَّ عليهِ بيانَهُ حتَّى يتمَّ الدَّليلُ.

فإنْ قالَ: كُلُّ أمرينِ اجتمَعا فلا بُدَّ فيهما مِنْ أحدِ هذهِ الأقسامِ الأربعة، كانَ الجوابُ عنْ هذا أنَّكَ إنْ عنيتَ الاجتماعَ في الخارجِ أو الاجتماعَ في

ص: 39

الذِّهنِ فالمجتمِعانِ قد يكونُ كُلٌّ منهما لازمًا للآخرِ وملزومًا لهُ، وعارضًا لهُ ومعروضًا لهُ في المجتمعات، فإنْ عنيتَ اجتماعَ ما في الذِّهنِ بما في الخارجِ فما في الذِّهنِ لا يجامعُ ما في الخارج، فلا يكونُ لازمًا لهُ ولا ملزومًا، ولا عارضًا ولا معروضًا، كيفَ وما في الذِّهنِ عرَضٌ قائمٌ بقَلبِ الإنسان، وما في الخارجِ جوهرٌ قائمٌ بنفسِه، والتي قد يكونُ موجودًا غيرَ معلومٍ لنا، وقد يُتصوَّرُ في أنفُسِنا ما لم يوجدْ في الخارج، فلا هذا لازمٌ لهذا، ولا هذا لازمٌ لهذا، ولا هذا أيضًا عارضٌ للآخر، ولا بالعكس، ولا الأعيانُ الموجودةُ في الخارجِ تعرضُ لِما في النَّفس، ولا تكونُ صفةً لهُ ولا متَّصلةً بهِ بوجهٍ مِنَ الوجوه، ولا العِلْمُ الذي في الذِّهنِ يعرضُ للأعيانِ الموجودة، ولا يكونُ صفةً لها ولا قائمًا بها، بل لا ينتقلُ عَنْ محلِّهِ؛ إذِ العرَضُ القائمُ بمَحلٍّ لا ينتقلُ عَنْ ذلكَ المحلِّ إلى غيرِه، وإيضاحُ هذا أنَّ الإنسانَينِ مثلًا إذا اشترَكا في الإنسانيّةِ والحيوانيّةِ والماهيّةِ والوجودِ ونحوِ ذلكَ مِنَ المُطلَقات، وامتازَ أحدُهما عَنِ الآخرِ بخصوصِ وجودِهِ وماهيَّتِهِ وإنسانيَّتِهِ وحيوانيَّتِهِ ونحوِ ذلكَ مِنَ المعيَّنات، فذلكَ الذي اشتَرَكا فيهِ إذا أُخِذَ مطلَقًا مشترَكًا لم يَكُنْ إلّا في الذِّهن، والمعيَّناتُ موجودةٌ في الخارج، وهذا المعيَّنُ الخارجيُّ ليسَ بلازمٍ لهذا المطلَقِ الذِّهنيّ، ولا ملزومٍ لهُ ولا عارضٍ لهُ ولا معروضٍ لهُ، بَلْ هذا وهذا بمنزلةِ العِلمِ والمعلوم، فالصُّورةُ العلميّةُ كالمطلَق، والأعيانُ الموجودةُ في الخارجِ هيَ المعلومُ، وقد يُعلمُ ما لم يوجَدْ، وقد يوجَدُ ما لم يُعلَمْ، والعِلمُ القائمُ بالعالمِ ليس هوَ مِنَ المعلومِ والموجودِ إلى الخارجِ في محلٍّ، ولا يكونُ أحدُهما عارضًا للآخرِ أيضًا.

وإذا قالَ القائلُ: الجنسُ لازمٌ للأنواع، فالجِنسُ كُلِّيٌّ، والأنواعُ كُلِّيّةٌ،

ص: 40

وهذا الكُلِّيُّ لازمٌ لهذهِ الكُلِّيّات، مع أنَّ التَّحقيقَ أنَّ الجِنسَ بشرطِ كونهِ أعمَّ مِنَ النَّوعِ ليسَ بلازمٍ لوجودِ النَّوع، وإنَّما يلزمُهُ وجودُ الجِنسِ المطلَق، وهوَ الذي لا يجبُ أنْ يكونَ أعمَّ مِنَ النَّوع، كما يلزمُ النَّوع الجِنسَ للشَّخص، وهذا اللّازم هوَ المطلَقُ، لا بشرطِ الإطلاق، وهوَ الذي يُقالُ فيهِ: حصّةُ الشَّخصِ مِنَ النَّوعِ وحصّةُ النَّوعِ مِنَ الجِنس، فوجودُ المعيَّنِ يَستلزِمُ وجودَ حصّةٍ مِنَ المطلَق، وهوَ المطلَقُ لا بشرطِ إطلاقِه، لا وجودَ ما هوَ أعمُّ منهُ.

وأمّا الأنواعُ الموجودةُ في الخارجِ فهيَ أشخاصٌ معيَّنةٌ لا يلزمُها جنسٌ مطلَقٌ أعمُّ منها، بَلْ ولا نوعٌ أعمُّ منها؛ إذِ الجِنسُ المطلَقُ والنَّوعُ المطلَقُ بشرطِ الإطلاقِ محلُّهُ الذِّهنُ، فلا يلزمُ مِنْ ثبوتِ المعيناتِ في الخارجِ ثبوتُ كُلِّيّاتٍ قائمةٍ بنفسِ عالمٍ، وإنَّما يلزمُ مِنْ وجودِ الشَّخصِ وجودُ مطلَقِ النَّوعِ والجِنس، لا بشرطِ الإطلاق، وذلكَ النَّوعُ والجِنسُ في الخارجِ لا يزيدُ على المعين، وإنْ كانتِ الأشياءُ معلومةً لله، وقد علمَ منها ما شاءَ لخلقِه، فعلمُهُ سبحانه وتعالى مِنْ لوازمِ ذاتِه، ليسَ مِنْ لوازمِ المعلومات، فهوَ عالمٌ بالأشياءِ قبلَ أنْ تُخلقَ، ونفسُ وجودِها دالٌّ على علمِهِ سبحانه وتعالى، ومستلزمٌ لعلمِهِ مِنْ جهةِ كونها مخلوقةً لهُ صادرةً عَنْ إرادتِهِ المستلزمةِ لتصوُّرِ المرادات، ومِنْ غيرِ ذلكَ مِنَ الجهاتِ؛ كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، لكِنْ هَبْ أنَّ وجودَ المعينات يَستلزمُ العِلمَ بها مِنْ هذا الوجه، لكِنَّ هذا اللُّزومَ لم ينشأ عنها ولا يلزمُ أيضًا مِنْ وجودِها أنْ تكونَ كُلِّيّةً، فحاصلُهُ أنَّ وجودَ الشَّخصِ أو النَّوعِ لا يستلزمُ وجودَ ما هوَ أعمُّ منهُ، ولكِنْ إذا وُجِدَ الشَّخصُ كالإنسانِ لزمَ وجودُ الإنسانِ المطلَقِ لا بشرطِ الإطلاقِ لا يستلزمُ وجودَ إنسانٍ أعمَّ مِنْ هذا الإنسانِ.

ص: 41

وإذا كانَ الوجودُ لشيءٍ لا يستلزمُ وجودَ ما هوَ أعمُّ منهُ لم يَجُزْ أنْ يُجعَلَ المعيَّنُ المختصُّ (1) مستلزِمًا للمشترَكِ المطلَقِ الذي هوَ أعمُّ منهُ، ولا يكونُ ما يشتركُ فيهِ الشَّيئانِ مِنَ الكُلِّيّاتِ المطلَقةِ لازمًا لِما يَختصُّ بهِ كُلُّ واحدٍ، ولكِنْ ما يختصُّ بهِ أحدُهما يَلزَمُهُ ما يخصُّ أحدَهما، فإنسانيَّتُهُ الخاصّةُ يَلزَمُها حيوانيَّتُهُ الخاصّةُ، وما يشتركانِ يلزمُهُ ما يشتركانِ فيه، فالإنسانيّةُ المشترَكةُ يلزمُها الحيوانيّةُ المشترَكةُ، بَلْ ولا يجوزُ أنْ يكونَ المشترَكُ المطلَقُ بشرطِ إطلاقِهِ لازمًا للمختصِّ المعيَّن، ولا ملزومًا لهُ ولا عارضًا ولا معروضًا لهُ، فبَطَلَ أصلُ الحُجّةِ.

وأمّا إذا قيلَ: إنَّ المختصَّ يَلزَمُهُ المختصُّ، فوجودُهُ المعيَّنُ يَلزَمُهُ وجوبُهُ المعيَّنُ، وماهيَّتُهُ المعيَّنةُ ونحوُ ذلكَ، فهذا لا يفيدُهُ؛ فإنَّ الحُجّةَ مبنيّةٌ على أنَّ بينَهما قَدْرًا مشترَكًا وقَدْرًا مميَّزًا، وأنَّ أحدَهما لا بُدَّ أنْ يكونَ مِنْ أحدِ هذهِ الأقسام، وهذا باطلٌ؛ فإنَّهُ لوِ استدلَّ على أنَّ المعيَّن لا يكونُ لازمًا للمعيَّنِ ولا ملزومًا لهُ كانَ ذلكَ نفْيًا لواجبِ الوجودِ بالكُلِّيّة، وهوَ باطلٌ ضرورةً، فإنَّ الوجودَ المشهودَ يَستلزِمُ واجبًا، وهوَ إنَّما استدلَّ على نفيِ تعدُّدِهِ لا على نفيِ وجودِه، وهذا الدَّليلُ لا يفيدُهُ مقصودُهُ.

الوجهُ الثّاني: أنْ يُقالَ: قولُ السّائلِ: لو كانَ لنا واجبا وجودٍ، فلا يخلو إمّا أنْ يمتازَ أحدُهما عَنِ الآخرِ أو لا.

يُقال لهُ: لا بُدَّ لهُ مِنْ الامتيازِ.

قولُهُ: وإنِ امتازَ أحدُهما عَنِ الآخرِ عادَتِ الأقسامُ الأربعةُ، فإمّا أنْ

(1) في المخطوط (المخلص) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 42

يكونَ ما يتَّفقُ فيهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما يختلفُ فيهِ أو بالعكس، أو عارضًا لهُ أو بالعكس، فيقالُ لهُ: هَبْ أنَّ ما اشترَكا فيهِ مِنْ نفسِ الأمرِ لما امتازَ بهِ كُلٌّ منهُما عَنِ الآخر، كما أنَّ الحيوانيّةَ لازمةٌ للإنسانيّة، والإنسانيّةَ لازمةٌ لهذا الإنسان، لكِنَّ الذي اشترَكا فيهِ لا يوجدُ في الخارجِ مشترَكًا مطلَقًا، وإمّا (1) يوجدُ في الذِّهنِ والعِلمِ كذلكَ، وإذا كانَ هذا المشترَكُ لازمًا للمُمَيَّزِ (2) لم يكُنْ في ذلكَ محذورٌ، ولو كانَ الملزومُ عِلّةً للَّازمِ فإنَّ وجودَهُ المعيَّنَ داخلٌ في المميَّزِ والمشترَكِ الذي في الذِّهن، ليسَ مقوّمًا للحقيقةِ الموجودةِ في الخارج، فلا يكونُ في حقيقتِهِ الموجودةِ شيءٌ هوَ معلولٌ، فضلًا عَنْ أنْ يكونَ وجودُهُ معلولًا، وإنَّما المعلولُ هوَ ما يوجدُ في الذِّهن، وذلكَ غيرُ داخلٍ في حقيقتِهِ الخارجيّةِ كونهُ معدومًا.

الوجهُ الثّالثُ: أنَّ ما جعلتَهُ أنتَ مُشترَكًا ومميَّزًا فكُلٌّ منهما لازمٌ للآخرِ وملزومٌ لهُ، وهذا قسمٌ أهملتَهُ، وكانَ عليكَ أنْ تقولَ: إِمَّا أنْ يكونَ لازمًا أو ملزومًا، أو لازمًا ملزومًا كالإنسانيّةِ والنّاطقيّةِ والضّاحكيّة، فإنَّ كُلًّا منهُما لازمٌ للآخرِ ملزومٌ لهُ، وإذا كنتَ قد أهملْتَ هذا القِسمَ كانَتِ الحُجّةُ غيرَ تامّةٍ ولا مفيدةٍ للمقصودِ.

الوجهُ الرّابعُ: قولُكَ بعدَ هذا: فأمّا الأوَّلُ مِنَ الأربعةِ وإنْ كانَ جائزًا لكِنْ لا يجوزُ هنا؛ لأنَّ اختلافَهُما في الوجودِ والوجوبِ معًا

إلى آخرِ الكلامِ.

(1) هكذا في المخطوط ولعل الصواب (وإنما).

(2)

في المخطوط (الميز) ولعل المثبت هو الصحيح.

ص: 43

فيُقالُ لكَ: هذا التَّقسيمُ منتشرٌ غيرُ منحصرٍ؛ فإنَّ قولَكَ إمّا أنْ يكونَ في الوجودِ والوجوب، أو في الماهيّاتِ ليسَ بحاصرٍ؛ إذْ هنا قسمٌ آخرُ وهوَ أنْ يكونَ اختلافُهما في الوجودِ والوجوبِ والماهيّاتِ؛ إذْ كُلٌّ منهُما يشاركُ الآخرَ في أنَّ لهُ ماهيّةً موجودةً واجبةً، فشاركَهُ في مطلَقِ الوجودِ والوجوبِ والماهيّة، ويفارقُهُ بما يخصُّهُ مِنْ وجودٍ ووجوبٍ وماهيّةٍ، واختلافُهما في الوجودِ والوجوبِ ليسَ المرادُ بهِ أنَّ أحدَهما يَكونُ موجودًا واجبًا دونَ الآخرِ كما قدَّرْتَهُ، بَلِ اختلافُهما هوَ أنْ يكونَ وجودُ هذا ووجوبُهُ ليسَ هوَ وجودَ الآخرِ ووجوبَهُ؛ فإنَّهما اشترَكا في شيءٍ وامتازَ كُلٌّ منهُما عَنِ الآخرِ بشيءٍ، فالامتيازُ هوَ الاختلافُ، وإذا امتازَ أحدُهما عَنِ الآخرِ بوجودِهِ ووجوبِهِ المختص بهِ فهوَ كامتيازِ عينِهِ بالماهيّةِ؛ أي: امتازَ عينُهُ لوجودِهِ الخاصِّ ووجوبِهِ الخاصِّ وماهيَّتِهِ الخاصّةِ.

وأمّا امتيازُ أحدِهما عَنِ الآخرِ بمطلَقِ الوجودِ والوجوب، فهذا ممتنِعٌ؛ إذْ هُما مشتركانِ فيهِ كما يشتركانِ في الماهيّة، فكُلُّ ما يشتركانِ فيهِ يمتازُ أحدُهما عَنِ الآخرِ في عينِهِ أصلًا، وإذ كان هذا التَّقسيمُ غيرَ منحصرٍ كانَتِ الحُجَّةُ باطلةً.

الوجه الخامسُ: قولُكَ: "الاتِّفاقُ في الوجودِ والوجوب، فلا يجوزُ لِما تقدَّمَ أنَّ الماهيّةَ لا يجوزُ أنْ تكونَ ولا صفةٌ مِنْ صفاتِها سببًا للوجودِ" قولٌ باطلٌ؛ وذلكَ أنَّ الاختلافَ في الماهيّةِ يرادُ بهِ أنَّ لهذا ماهيّةً تخصُّهُ كما أنَّ لهذا ماهيّةً تخصُّهُ، مَع كونهما مشترِكين في مسمَّى الماهيّة، كما أنَّ لهذا وجودًا أو وجوبًا يخصُّهُ، ولهذا وجودٌ ووجوبٌ يخصُّهُ، مَع كونهما

ص: 44

مشتركين في مسمَّى الوجودِ والوجوب، وحينئذٍ فالماهيّةُ المطلَقةُ بإزاءِ وجودِ الوجوبِ المطلَق، والماهيّةُ المعيَّنةُ بإزاءِ وجودِ الوجوبِ المعيَّنِ.

وحينئذٍ فقولكَ: لا يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ ولا صفةٌ مِنْ صفاتِها سببًا للوجودِ لِما تقدَّمَ إنَّما يصحُّ أنْ يكونَ دليلًا إذا بيَّنْتَ أنَّ هنا وجودًا وماهيّةً غيرَ الوجود، وأنَّ الماهيّةَ عِلّةٌ للوجود، وأنتَ لم تبيِّنْ شيئًا مِنْ ذلكَ، وإنَّما ظننْتَ هذا مثلَ كونِ الإنسانيّةِ علّةً للحيوانيّة، وقد ظهرَ أنَّ هذا الظَّنَّ خطأٌ، فتبيَّنَ أنَّ الحُجّةَ فاسدةٌ.

الوجهُ السّادسُ: أنْ يُقالَ: لِمَ لا يجوزُ أنْ تكونَ ماهيّةُ واجبِ الوجودِ هوَ الوجودَ الواجبَ نفسَهُ، لا غيرَهُ، كما يقولُ ذلكَ أهلُ السُّنّةِ وسائرُ متكلِّمةِ الصِّفاتيّةِ؛ كأبي محمَّدِ بنِ كُلَّابٍ، وأبي الحسَنِ الأَشْعَرِيِّ وأصحابِهما مِنْ أنَّ الوجودَ ليسَ لهُ وجودٌ يَزيدُ عَلى نفسِه، سواءٌ كانَ واجبًا أو ممكِنًا، وعلى هذا فلا عِلّةَ ولا معلولَ، أو لا لازمَ ولا ملزومَ؛ إذْ كُلٌّ منهُما هوَ ماهيّةٌ واجبةٌ بنفسِها، ونفسُ الوجودِ الواجبِ هوَ الماهيّة الواجبةُ، وإنَّما هما اسمانِ لمسمًّى واحدٍ، والشَّيءُ لا يجوزُ أنْ يقالَ: هوَ سببٌ لنفسِهِ.

الوجهُ السّابعُ: أنْ يُقالَ: هَبْ أنَّ ماهيّةَ الواجبِ مغايِرةٌ لوجودِهِ كما يقولُ بعضُ المعتزلةِ ويختارُهُ الرّازي في بعضِ كُتبِهِ؛ كالأربعينَ، فيُقالُ لهُ: لا تحتاجُ أنْ تجعلَ الماهيّةَ سببًا للوجود، بل يجوزُ أنْ تكونَ ملازمتَهُ للوجود، فتكونَ الماهيّةُ ووجودُها متلازِمَين، والملازِمُ للشَّيءِ لا يجبُ أنْ يكونَ عِلّةً لهُ وسببًا، وإذا لم تكُنِ الماهيّةُ سببًا للوجودِ اندفعَ ما ذكرتَهُ مِنَ الحُجَّةِ؛ فإنَّكَ قلتَ: لا يجوزُ أنْ تكونَ ماهيّةُ واجبِ الوجودِ ولا صفةٌ مِنْ

ص: 45

صفاتِها سببًا لوجودِهِ؛ لأنَّ العِلّة متقدِّمةٌ بالوجودِ على المعلول، فلو كانَتْ إحداهُما أو كلاهما سببًا للوجودِ لزِمَ أحدُ المحالين، وهوَ أنْ يكونَ الشَّيءُ متقدِّمًا بالوجودِ على نفسِه، أو موجودًا مرَّتين، وهوَ ظاهرُ البُطلان، فيقالُ لك: على تقديرِ أنْ تكونَ ماهيَّتُهُ غيرَ وجودِهِ كما يقتضيهِ هذا الكلامُ، فأنتَ إنَّما بيَّنْتَ أنَّ الماهيّةَ لا تكونُ سببًا للوجودِ.

والحُجّةُ مبنيّةٌ على الامتيازِ بالماهيّةِ والاشتراكِ في الوجودِ والوجوب، فقد بيَّنّا أنَّ الماهيّةَ تنقسمُ إلى مطلَقةٍ ومعيَّنةٍ، كما أنَّ الوجودَ والوجوبَ ينقسمُ إلى مطلَقٍ ومعيَّنٍ، وأنَّهما يشتركانِ في المطلَق منهما دونَ المعيَّن، فتكونُ الماهيّةُ والوجودُ متلازِمين، ومعلومٌ أنَّ المتلازِمينِ لا يجبُ أنْ يكونَ أحدُهما عِلّةً للآخر، ولا يجبُ أنْ يتقدَّما عليهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.

الثّامنُ: أنْ يقالَ: هَبْ أنَّ الوجودَ والوجوبَ مشترَكٌ عامٌّ، والماهيّةُ مختصّةٌ لا عمومَ فيها، وأنَّ العامَّ الذي اشترَكا فيهِ لازمٌ للخاصِّ الذي اختلَفا فيه، فغايةُ ما في هذا أنْ يكونَ الوجودُ لازمًا للماهيّة، فلا تكونُ الماهيّةُ إلّا موجودًا، وإذا كانَ لازمًا لها لم يجبْ أنْ يكونَ معلولًا لها متأخِّرًا عنها؛ لأنَّ اللَّازمَ أعمُّ مِنْ أنْ يكونَ معلولًا للملزومِ أو عِلّةً لهُ أو معلولَ عِلَّتِهِ أو ملازمًا لهُ، ومِنَ المعلومِ أنَّهُ إذا قدَّرَ ماهيّةَ واجبِ الوجودِ بنفسِها بحيثُ لا تقبلُ العدَمَ كانَتْ مستلزِمةً للوجودِ مِنْ غيرِ أنْ تحتاجَ أنْ تجعلَ لها تحقُّقًا قبلَ الوجود، ويكون مقتضيًا للوجود، بلْ لا تَحقُّقَ لها إلَّا بالوجودِ اللّازمِ لها، كما لا تَحقُّقَ للصِّفاتِ إلَّا بالموصوفِ اللّازمِ لها، وليسَتِ الصِّفةُ عِلّةً للموصوف، كما لا تَحقُّقَ لِتحيُّزِ الجوهرِ إلَّا بالجوهرِ

ص: 46