الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قضية أخرى في الضمان]
حضر لدينا عبد الرحمن باسودان وادَّعى على الحاضر معه حسين عيسى العيسى بأنه ضمن له على السيد علي المداح
…
ريال، وقد تسلَّم منها
…
ريال وبقي
…
ريال، يطلب ضبطه بتسليمها.
أجاب المدعى عليه بأن هذه الدعوى قد أُقيمت لدى القاضي عبد الله العمودي وحكم فيها، وأبرز الحكمَ، ولفظه: بالمجلس الشرعي حضر السيد علي بن محمد الصعدي الحوثي الأصل، وحضر بحضوره الغرماء له: الشيخ أحمد عيسى هرملي، وحمد علي حسين، وعبد الرحمن باسودان، وسالم باعيسى. وصار الخطاب لهم في شأن كفالة حسين امعيسى على السيد علي لهم، إما بإطلاق السيد علي على كفالة السيد علي من حسين امعيسى، أو بقائه في الحبس وخروج حسين امعيسى عن الكفالة. فاختاروا بقاء السيد علي في الحبس. فأرجعنا السيد علي في الحبس، وبرئ حسين امعيسى من كفالته على السيد علي لرِضا الغرماء ببقائه في الحبس، فيتفرغ عن حسين امعيسى كلٌّ من حمدي علي حسين وغيره من الغرماء، لأن المكفول به قد سلمه الغرماء له من محل اللزوم
…
إلخ.
فوجدنا القاضي أولًا خيَّر الغرماء بين التزام الغريم أو التزام الضمين، ولا ريب أن هذا منه إفهام لهم بأنه لا يمكِّنهم الشرعُ من مطالبتهما معًا، ثم لما اختاروا بقاء الغريم في الحبس حكم للضمين بالبراءة من الضمان، وبنى ذلك على اختيارهم بقاءَ الغريم في الحبس. فظاهر ما ذكر أن القاضي توهَّم أنه ليس للمضمون له مطالبة الغريم والزعيم معًا، بل إذا اختار مطالبة الغريم برئ الضمين، لأنه كالنفي لضمانه، لظنِّه أن فائدة الضمان هي سقوط الطلب
عن الغريم.
وهذا باطل، بل لصاحب الحق مطالبة لهما اجتماعًا وانفرادًا وتوزيعًا، كما حرِّر ذلك في «مختصر أبي شجاع» فما فوقه.
ولذلك راجعنا القاضي، فأجاب علينا أنه وقع الإبراء من الغرماء والمدعي معهم، وأن هذه المسألة نظيرة العفو عن القصاص الممثَّل بها للقاعدة المشهورة: «ما لا يقبل التبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه
…
» إلخ. ففهمنا من فحوى هذا أن الإبراء صدر من بعض الغرماء دون هذا المطلب، وإنما حكم عليه تبعًا لهم، وذلك واضح البطلان.
فراجعناه مرةً أخرى، وسألناه هل نطق هذا المطالب حينئذٍ بالإبراء، فإن نطق فبأيّ صيغ الإبراء؟ عملًا منا بما قاله في «شرح الروض»
(1)
بعد قول المتن: «وإن قال وهو في محل ولايته: حكمتُ بطلاق نساء القرية، قُبل بلا حجة» : لقدرته على الإنشاء حينئذٍ، بخلاف ما لو قاله على سبيل الإخبار، فلا يقبل قوله. كذا صرَّح به البغوي، وهو مقتضى كلام الأصل. وينبغي أن يكون محله ما لو أسنده إلى ما قبل ولايته، قاله الأذرعي. وما قالوه من قبولِ قوله ظاهر في القاضي المجتهد مطلقًا أو في مذهب إمامه، أما غيرهما ففي قبول قوله وقفةٌ. وقد استخرت الله وأفتيتُ في من سُئل من قضاة العصر عن مستند قضائه: أنه يلزمه بيانه، لأنه قد يظن ما ليس بمستندٍ مستندًا كما هو كثير أو غالب.
وفي حاشيته على قول الأذرعي: قال الخادم: هذا إذا لم يسأل، فإن سأله
(1)
(4/ 292).
المحكوم عليه عن السبب فجزم صاحب «الحاوي» وتبعه الروياني بأنه يلزمه بيانه.
إلى أن قال: وخرج من هذا تخصيص قول الأصحاب إن الحاكم لا يسأل أيَّ سؤال اعتراض، أما سؤال في مطلب الدفع عن نفسه فيتعين على الحاكم الإبداء بسجن المحكوم عليه تخلُّصًا.
هذا في القاضي أثناء ولايته، فأما بعد عزله فأولى وأحرى.
فأجاب علينا بأن المطالب عند حضوره لديه تكلم كما تكلم الغرماء، ولزمه ما لزمهم، ولم يعين الصيغة، فارتبنا في شهادته هذه، حيث إن كلامه في ورقة الحكم صريح في أنه جعل اختيارهم حبس الغريم إبراءً للزعيم. وبعد أن راجعناه أفهم تنظيره بمسألة القصاص من القاعدة المذكورة آنفًا أنه لم تقع البراءة إلّا من بعض الغرماء، فألزمَ الحكمَ الجميعَ. وجوابه الأخير علينا يوافق ذلك، حيث قال: إن هذا المطالب تكلَّم كما تكلَّم الغرماء ولزمه ما لزمهم.
والقاضي ــ عافاه الله ــ غير بعيد عن الوهم، مع أنه الآن متهم، لأنه قد يدفع بهذه الشهادة عن نفسه عارَ الغلط الواضح، وقد قال في «الروضة»
(1)
في باب ما يُردّ به الشهادة: «السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإذا شهد فاسق وردَّ القاضي شهادته ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك. ولو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت لم تُقبل» .
(1)
روضة الطالبين (8/ 216) ط. دار عالم الكتب.
وأما كونه قاضيًا معزولًا يشهد بقضية وقعت لديه فليس هذا قادحًا في الشهادة، إلا إذا شهد بأنه حكم، أما إذا شهد بنحو إقرار وقع في مجلسه فإنها تُقبل. قال في «الروضة»
(1)
: إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنتُ حكمتُ لفلانٍ بكذا، لم يُقَبل إلا ببينة. وهل تُقبل شهادته بذلك مع آخر؟ وجهان: قال الإصطخري: نعم. والصحيح باتفاق الأصحاب المنعُ، لأنه شهد على فعلِ نفسه».
إلى أن قال: «ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، وأن فلانًا أقرَّه في مجلس حكمي بهذا، قُبِلَت» .
ولما لم يفسّر لنا هذا الإبراء الذي يذكره ولم يبيّن لنا صيغته، واشتدّت الريبة وتضافرت أسباب التُّهم، بحثنا عن حكم ذلك ونحوه، فعثرنا في «عماد الرضا» لشيخ الإسلام زكريا رحمه الله على ما لفظه
(2)
: «فائدة، هل يجوز للشاهد أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهمًا إذا عَرَف سببه، كأنْ أقرَّ له به، فشهد أن له عليه درهمًا؟ قال ابن الرفعة: قال ابن أبي الدم: فيه وجهان، أشهرهما: لا تُسمع شهادته وإن وافقه في مذهبه؛ لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سببًا، ولأنه ليس له أن يرتِّب الأحكام على أسبابها، بل وظيفته نقْلُ ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره، أو ما شاهده من الأفعال. ثم الحاكم ينظر فيه، فإن رآه سببًا رتَّب عليه مقتضاه. وهذا ظاهر نصّ «الأم» و «المختصر» . وقال صاحب «الشامل» وغيره: بعد اطلاعه على النصّ تُسمَع شهادتُه، وهو مقتضى كلام «الروضة» كأصلها».
(1)
(8/ 111).
(2)
(1/ 214 - 215) مع شرح المناوي.
قال المناوي في شرحه بعد الوجه الأول: وبذلك أفتى ابن الصلاح، واعتمده ابن الرفعة فقال: الذي أراه أنها لا تُسمَع، وعليه بيان السبب كيفما كان، سدًّا لباب الاحتمال ونفيًا للريب، كما في النفي المحصور المضاف إلى زمن مخصوص محصور، بعد أن فصَّل عن قضية كلام الماوردي تفصيلًا حسنًا، وهو أنه إن كان السبب مجمعًا عليه جاز له أن يشهد بالاستحقاق، وإلّا فلا.
وقال الشارح بعد الوجه الثاني: قال الأذرعي في «التوسط» : وهو أي سماعها ظاهر المذهب المنصوص، لكن المختار ما ذكره أبو عمرو من المنع، ولا شك أنه الأحوط وإن كان ظاهر المذهب خلافه.
ثم نقل عن صاحب «الغنية» وتلميذه الزركشي أن الأول هو القياس والراجح دليلًا والمختار، والأول هو المذهب المنقول.
وإذ قد صحَّ أن الأول هو منصوص «الأم» و «المختصر» فهو الأولى بأن يكون المذهب، وقد يُفصَّل بأن يقال: إن حدثتْ في القضية تُهَمٌ قوية فالأول، وإلّا فالثاني. وقضيتنا الحادثة قد سبق بيان التهم التي فيها، فتعيَّن الإبراء. والقاضي ــ عافاه الله ــ ممن يدّعي الاجتهاد ويَهِم كثيرًا، وهذه الشهادة والحكم ببقاء الضمان وعدم صحة
…
نعم لو فرضنا صدور الإبراء فهو بصريح ورقة الحكم، وإنما صدر بعد التخيير الذي يُفهِم الغرماء أنه ليس لهم مطالبة كلٍّ من الغريم والزعيم، بل يختارون أحدهما ويُبرِئون الآخر، وإلا لم يتوصَّلوا إلى الضبط بمالهم، فحينئذٍ يكون إبراؤهم مبنيًّا على ظنّهم أنه ليس لهم مطالبة الغريم إلّا بعد إبراء الزعيم.
وقد تعالى الخلاف الجاري في مسألة ما إذا أبرأ المطالبُ الغريمَ ظانًّا أن حقه قد انتقل إلى ذمة الزعيم يجرى في هذه، والذي رجحه ابن قاسم أن الإبراء لا يصح، فكذا في هذه.
فإن قيل: الفرق ظاهر، فإن الإبراء في تلك عن حق مظنونٍ سقوطُه بالضمان هناك، ولا كذلك هنا، فإن المطالب لا يجهل أن ذمة الضامن متعلقة بدينه.
قلنا: بل هو مظنون سقوطه باختيار بقاء الغريم، ولكن لا ينافي هذا إلا إذا كان الإبراء بعد اختيار بقاء الغريم في السجن.