المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2- مناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود: - مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

الفصل: ‌2- مناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود:

‌2- مناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود:

عني شيخ الإسلام بمناظرات أهل الاتحاد ووحدة الوجود عناية ظاهرة، كما امتحن وأوذي بسببهم، فحكى مناظراته المتعددة لهم، وأوردها مختصرة في مواطن، وبسطها في مواطن أخرى، وسنورد - بعد التتبع والاستقراء - جملة من تلك المناظرات كما صاغها شيخ الإسلام، وذلك على النحو الآتي:

أ) المناظرة الأولى: يقول شيخ الإسلام: "وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهداً ومعرفة، وكان أصحابه يعتقدون فيه أنه الله، وأنه - أعنى ابن هود (1) - هو المسيح بن مريم، ويقولون: إن أمه كان اسمها مريم، وكانت نصرانية، ويعتقدون أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "ينزل فيكم ابن مريم " (2) هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه.

وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم

(1) . ابن هود هو حسن بن علي المغربي الأندلسي، متصوف فيلسوف، له صلة باليهود، صاحب شطح وذهول، هلك سنة 699هـ.

انظر، شذرات الذهب 5/446، والأعلام 2/203.

(2)

. أخرجه البخاري ك الأنبياء ح (3448، ومسلم ك الإيمان ح (242) .

ص: 25

الفلسفية وغيرها، مع دخوله في الزهد والتصوف، وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم، حتى بيّنت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا، وبيّنت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة، حتى ظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذه لا يكون ولا يتم، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ، فأبر الله تلك الأقسام، والحمد لله رب العالمين، هذا مع تعظيمهم لي بمعرفتي عندهم، وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم، حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بيّنت له حقيقة قولهم، فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم، وقال: هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فقلت له: هب أن الفقهاء كذلك أبالله أهذا القول موافق لدين الإسلام؟

وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الاتحادية ثم رجع عن ذلك، فكان من أفضل الناس وأكابرهم، ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الدجال " إنه أعور (1) ، وإن ربكم ليس بأعور " فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له.. فبيّنت له امتناع ذلك من وجوه، وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به، لستُ أضبطه الآن، حتى تبيّن له بطلان ذلك، وذكرتُ له أن هذا الحديث

(1) . أخرجه البخاري ك الفتن ح (7127) ، ومسلم ك الإيمان ح (2933) .

ص: 26

لا حجة فيه، والله سبحانه قد بيّن عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية (1) .

ب) المناظرة الثانية: وسطّر شيخ الإسلام مناظرة أخرى مع أهل وحدة الوجود فقال: "ولما اجتمع بي بعض حذّاقهم، وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق، ولا يفهمه إلا خواصهم، وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق. قلت له: فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية، ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً، بل لا يوجد إلا معيناً، فلا يكون الوجود المطلق موجوداً في الخارج، فبُهت، ثم أخذ يفتش لعلّه يظفر بجواب، فقال: نستثني الوجود المطلق من الكليات، فقلت له: غُلبت، وضحكتُ لظهور فساد كلامه.

وذلك أن القانون المذكور لو فرّق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون، ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم، ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه، وهو يعم كل مطلق (2) .

"وقال لي رجل من أعيانهم: بلغنا أنك ترد على الشيخ عبد الحق (3) ، نحن نقول إن الناس ما يفهمون كلامه، فإن كنت تشرحه

(1) . السبعينية (بغية المرتاد) ص 520، 521 = باختصار

(2)

. الصفدية 1/296.

(3)

. وهو ابن سبعين.

ص: 27

لنا وبيّن فساده قبلناه وإلا فلا.

فقلت له: نعم، أنا أبيّن لك مراده من كتبه كالبُد والإحاطة والفقرية (1) وغير ذلك.

فقال: عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى "لوح الأصالة" وهو سر السر، وهو الذي نطلب بيانه، ولم أكن رأيته، فذهب وجاء به، ففسرته له حتى تبين مراده، وكتب أسئلة سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم، وقول ابن عربي وابن سيناء ومن ضاهى هؤلاء، وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق، ثم بيّنت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، وكان له فضيلة، فلما تبيّن له ذلك أخذ يصنف في الرّد عليهم، وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له: بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام، قال: نعم، قال: أي شيء قال لك؟ قال: فقال لي: آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق، قال: جيد، قال: بأي شيء يرد ذلك؟ قال: المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان، فقال: أخرب بيوتنا وقلع أصولنا " (2)

(1) . كتاب البدُ وهو كتاب بد العارف لابن سبعين، وهو مطبوع بتحقيق د. جورج، كما حققه عبد الرحمن بدوي، والإحاطة إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين بتحقيق عبد الرحمن بدوي، والرسالة الفقرية ولوح الأصالة من رسائل ابن سبعين أيضاً.

انظر: النبوات لابن تيمية 1/ 399، الوحدة المطلقة عند ابن سبعين لمحمد ياسر شرف ص 35-38.

(2)

. الصفدية 1/ 302، 303، وانظر: النبوات 1/ 398 - 401

ص: 28

وأضاف شيخ الإسلام - في مصنف آخر - قائلاً: (1)

"وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل (2) ، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا أعرف فأحببتُ أن أعرف وغير ذلك؟ فكتبتُ جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة (3) "

جـ) المناظرة الثالثة: ومن مناظراته ومخاطباته لشيوخ تلك الطائفة ما حكاه قائلاً:

" وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء، وكان ممن يظن أن الحلاّج (4)

قال: "أنا الحق " لكونه كان في هذا التوحيد، فقال: الفرق بين فرعون والحلاّج أن فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (سورة النازعات: 24) وهو يشير إلى نفسه، وأما الحلاج فكان فانياً عن نفسه، والحق نطق على لسانه، فقلت له: أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه، كما ينطق الجني على لسان المصروع.

وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات، فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق؟ ثم الجنّي يدخل في جسد الإنسان، لا يكون الجني في قلبه فقط، فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من

(1) . يعنى الحديث الموضوع: "أول ما خلق الله العقل.. الخ " وانظر تفصيل الكلام عن هذا الحديث في السبعينية ص 171 - 182، والصفدية 1/233.

(2)

. النبوات 1/ 402.

(3)

. هو الحسين بن منصور الحلاّج، نشأ بتستر وخالط الصوفية وزعم أن الله حل فيه، فأمر الخليفة المقتدر بصلبه وقتله سنة 309 هـ.

انظر: تاريخ بغداد 8/112-141، سير أعلام النبلاء 14/313 - 354.

(4)

ص: 29

الأعراض، ليس شيئاً موجوداً قائماً بنفسه..

وهؤلاء قد يدّعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط، فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله؟ (1) .

د) المناظرة الرابعة: ودّون شيخ الإسلام مناظرة رابعة مع الاتحادية فقال: "وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار آخر قدماتهم، وكنت أحرض الناس على جهادهم، فقال لي هذا الشيخ: أقاتل الله؟ فقلت له: هؤلاء التتار هم الله، وهم من شر الخلق؟ هؤلاء خارجون عن دين الله، وإن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله؟ وقول هذا الشيخ لازم هذا وأمثاله (2) ".

بالنظر إلى تلك المناظرات وملابسات وقوعها وما يلحق بها، تظهر الأمور الآتية:

1-

اهتم شيخ الإسلام بمناظرة أهل وحدة الوجود، وقرر بطلان مذهبهم في عدة مصنفات، نظراً لعظم محنتهم، وتفاقم شأنهم، كما أوضحه بقوله:

"ولهذا لما وقعت محنة هؤلاء بمصر والشام، وأظهروا مذهب الجهمية الذي هو شعارهم في الظاهر، وكتموا مذهب الاتحادية الذي هو حقيقة تجهمهم، وأضلوا بعض ولاة الأمور حتى يرفعوا

(1) . منهاج السنة النبوية 5/378، 379 = باختصار يسير

(2)

. الرد على البكري ص 191، وانظر مجموع الفتاوى 2/309.

ص: 30

إخوانهم، ويهينوا من خالفهم، وصار كل من كان إلى الإسلام أقرب، أقصوه وعزلوه وخفضوه، وكل من كان عن الإسلام أبعد رفعوه، حتى رفعوا شخصاً كان نصرانياً وصّيروه بعد الإسلام سبعينياً" (1) فرفعوا درجته حتى جعلوا لا يصل إلى أحد رزق، ولا ولاية إلا بخطه، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، حتى أزال الله كلمتهم عن المسلمين، وأذلهم بعد العز، وأهلك من أهلك منهم، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم (2) .

وذكر شيخ الإسلام - في موضع آخر - أن ما جرى للمؤمنين مع أولئك الاتحادية هي أشهر المحن الواقعة في الإسلام (3) .

2-

بيّن ابن تيمية شناعة كفرهم، وكشف عن زندقتهم - في مواطن كثيرة - فكان مما قاله: "وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمتُ أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه

(1) . على طريقة ابن سبعين، وهو عبد الحق الرقوطي، اشتغل بالفلسفة فأصابه إلحاد، وجاور بغار حراء راجياً النبوة، هلك عام 669هـ انظر البداية والنهاية 13/61، وشذرات الذهب 5/ 329.

(2)

. الصفدية 1/ 271، 272 = باختصار يسير

(3)

. انظر السبعينية ص 527

ص: 31

رب العالمين.. " (1) .

إلى أن قال: " وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون. "(2) .

وقال في موضع آخر: " فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء، فلو عدمت السموات والأرض لما يكن ثمّ شيء موجود، ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني، وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقاً له، ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور، وكان لا يحرّم الفواحش ولا المنكرات، ولا الكفر والفسوق والعصيان.

وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشفت له أسرارهم أنه قرأ عليه، "فصوص الحكم " لابن عربي، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن. فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا (3) .

ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة، أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهذا غاية التعطيل، وأما الإيمان باليوم الآخر، فادعى

(1) . مجموع الفتاوى 2/ 466

(2)

. مجموع الفتاوى 2/ 468

(3)

. انظر: مجموع الفتاوى 2/ 127

ص: 32

ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة، وأنه يسمى عذاباً من عذوبة طعامه.

ولهذا قال بعض أصحابنا لهؤلاء الملاحدة: الله يذيقكم هذه العذوبة.

وأما الإيمان بالرسل فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء " (1) .

3-

مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتحن بسببهم، فشكوه إلى الدولة (2) ، إلا أنه ظل شديد الإنكار عليهم مباشراً الاحتساب بنفسه، وأكّد على أهمية الاحتساب عليهم، وأن القيام عليهم من آكد الواجبات، فقال:" إن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان، على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله "(3)

وقال في موضع آخر: " إن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لاسيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى

(1) . الصفدية 1/ 244 - 247 = باختصار

(2)

. انظر: العقود الدرية ص 178، البداية والنهاية 14/45، والدرء 5/ 170

(3)

. مجموع الفتاوى 2/ 132.

ص: 33

وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين.

وليس لهذه المقالات وجه سائغ.. فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم.. فهؤلاء يسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهو في الباطن من المحاربين لله ورسوله " (1) .

كما تحدث عن نفاقهم وتلونهم، وإنكاره عليهم فقال:" فإن أحد هؤلاء إن أمكن أن يدّعي الإلهية أو النبوة، ولو بعبارة غريبة لا ينفر عنه الناس فعل، حتى كان في زماننا غير واحد ممن اجتمع بي وأنكرت عليه، وجرى لنا في القيام عليهم فصول ممن يدّعي الرسالة ظاناً أن هذا يسلم له، إذا لم تسلّم له النبوة، فيدّعون الرسالة، فإذا جاء من يخاف منه من العلماء، ادّعى أحدهم الإرسال العام الكوني كإرسال الرياح وإرسال الشياطين "(2) .

ومن وقائع احتسابه عليهم ما كتبه قائلاً: "وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله.

ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوّبهم، فجاء من

(1) . مجموع الفتاوى 2/ 359، 360 = باختصار

(2)

. السبعينية ص 391، 392

ص: 34

كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكن أن يقوله لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره.

وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، وكان من أعيان شيوخهم ومحققيهم (1) "

4-

تضمنت هذه المناظرات الرحمة بالخلق والإشفاق عليهم، والحرص على هدايتهم، فقد أظهر شيخ الإسلام الحق وأبانه لأولئك لاتحادية، فاهتدى منهم أقوام، وصاروا دعاة للحق.

فلم تكن هذه المناظرات مجرد إقامة حجة وكشف شبهة، بل كانت سبيلاً إلى التزام السنة والجماعة، لما تحلّى به شيخ الإسلام من أدب المناظرة، وظهور الحجة، ودرايته العميقة بمذاهب القوم، وتنزّله معهم.

يقول شيخ الإسلام - في هذا المقام - " فلما يسّر الله أني بينت لهم حقائقهم، وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم، وتبيّن لهم بطلانه بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم، ويردونهم إلى الحق (2) "

(1) . الدرء 6/ 172

(2)

. منهاج السنة النبوية 8/ 26.

ص: 35

ويقول أيضا: "وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض هذا الكتاب. (1) فقال: هذا كفر، وقال لي في مجلس آخر: "هذا الكتاب عندنا من أربعين سنة نعظمه، ونعظم صاحبه، ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت (2) .

ومن أجل هداية أولئك، ودعوتهم إلى الحق، كان الشيخ يتنزل معهم لعلهم يرجعون، كما في المناظرة الأولى، وكما جاء في إحدى مخاطباته لهم قائلاً: "وقلت لبعض حذاقهم: هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج، وأنه عين الموجودات المشهودة، فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السموات والأرض وكل شيء؟

فاعترف بذلك، قال: هذا ما فيه حيلة (3) "

ومن باب الإشفاق على المغترين بالاتحادية، حكى شيخ الإسلام لهم هذا المثال، فقال: " ولقد ضربتُ لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم، فذهبوا بهم إلى قبرص لينصّروهم، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم، لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى، وهؤلاء كانوا يجعلوننا شراً من النصارى.

(1) . يعنى: كتاب الفصوص لابن عربي.

(2)

. السبعينية ص 488.

(3)

. الجواب الصحيح 3/81.

ص: 36

والأمر كما قال هذا القائل (1) "

ومع أن شيخ الإسلام كشف عن مقالات ابن عربي (2) وما تحويه من أنواع الكفر البواح (3) ، والردة المغلظة، إلا أنه قال عنه:"والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والأحياء منهم والأموات "(4) .

5-

إذا كان ابن تيمية يقرر أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله (5) ، فإنه قد حقق ذلك وطبّقه في ردّه على أهل الاتحاد ووحدة الوجود.

ومن ذلك احتجاجهم بحديث الرؤية (6) على ظهور الله تعالى في

(1) . مجموع الفتاوى 2/ 361

(2)

. هو أبو بكر محمد بن علي الطائي، ارتحل وطاف البلدان، نطق بوحدة الوجود كما في كتابه " الفصوص" وكان يقول بقدم العالم، هلك سنة 638هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء 23/48، شذرات الذهب 5/190.

(3)

. انظر: مجموع الفتاوى 2/ 122 - 133

(4)

. مجموع الفتاوى 2/ 469

(5)

. انظر: الدرء 1/ 374، مجموع الفتاوى 8/ 29، حادي الأرواح لابن القيم ص 208.

(6)

. يعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك.. الحديث أخرجه البخاري ك التوحيد ح (7437) ومسلم ك الإيمان ح (302) .

ص: 37

كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة، حيث بيّن شيخ الإسلام أن الحديث حجة عليهم (1)، ودليل على فساد مذهبهم من وجوه:

أ) "أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يرون ربهم يوم القيامة؟ ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا، فإن هذا كان معلوماً عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك "(2) .

إلى أن قال: " فلا أحد من الناس يرى الله في الدنيا بعينه، لا في صورة ولا في غير صورة، وأن الحديث الذي احتج به الاتحادية على تجليه لهم من الصور في الدنيا يدل على نقيض ذلك "(3) .

ب) "لو كانت الرؤية هي تجليه في صور المخلوقات كلها كما يقوله الاتحادية لقال لهم: إنكم ترون ربكم في هذه الصور "(4) .

جـ) "إنه قال " لا تضامون في رؤيته، و " لا تضارون في رؤيته " أي لا يلحقكم ضير ولا ضيم. وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور، وبحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم، كما يلحق عند رؤية الشيء الخفي والبعيد.

(1) . انظر السبعينية ص 451.

(2)

. السبعينية ص 466.

(3)

. السبعينية ص 528 = بتصرف يسير.

(4)

. السبعينية ص 529.

ص: 38

وعلى قول هؤلاء الأمر العكس، فإنهم إذا قالوا يتجلى في كل صورة، من صورة الذباب والبعوض ونحو ذلك من الأجسام الصغيرة، فمعلوم ما يلحق في رؤيتها من الضيم. (1) .

6 -

تميّز شيخ الإسلام بقوة الحجة وحضورها، فقد كشف عن شبهات القوم، كما في نقضه لما في "لوح الأصالة " مع أنه لم يطلع عليه إلا أنذاك - كما سبق آنفاً -

كما عني ابن تيمية بنقض أصول الاتحادية وأهل وحدة الوجود ومصادرهم، فلا يمكن قطع دابر تلك الشبه إلى بملاحقة أصولها (2) ، ومن ذلك تقريره - في غير موضع - أن المطلق في الأذهان لا في الأعيان، فاعترفوا عندئذ بأن هذا التقرير يقلع أصولهم ويخرب بيوتهم، كما جاء في المناظرة الثانية.

ومن ذلك أنه أبطل مقالة الاتحادية من خلال نقض دعواهم بالكشف، وهو من مصادرهم التي عوّلوا عليها، حيث قال: " لكن هؤلاء يقولون: إن لم تترك العقل والنقل لم يحصل لك التحقيق الذي حصل لنا، ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل.

فقلت لبعضهم: إن الأنبياء صلوات الله عليهم أكمل الناس كشفاً،

(1) . السبعينية ص 530

(2)

. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 226

ص: 39

وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما تعرف عقولهم أنه باطل، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.

فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف، يعلم بصريح العقل بطلانه، علم أن كشفه باطل (1) "

7-

حرر شيخ الإسلام القواسم المشتركة بين أرباب وحدة الوجود، وبين الفلاسفة، فمن أوجه الشبه بين الفريقين دعواهم أن الله تعالى هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وزعم الفلاسفة أن النبوة مكتسبة، وكذا أهل وحدة الوجود، فقط طلب النبوة أمثال السهروردي المقتول (2) وابن سبعين، وإذا كان بعض الفلاسفة كالفارابي يجعل الفيلسوف أعظم النبي، فإن ابن عربي يفضّل الولي على النبي (3) .

ثم بيّن أهمية معرفة هذا التشابه، فقال:"ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال، حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم، أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم، وبيّن ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات "(4) .

(1) . الجواب الصحيح 3/ 79.

(2)

949. يحيى بن حبش السهروردي، فيلسوف قليل الدين، له مؤلفات ليست من علوم الإسلام، قتل سنة 587 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء 21/207، شذرات الذهب 4/290.

(3)

. انظر: مجموع الفتاوى 7 / 587، 588، والحموية ص 282، والدرء 1/9

(4)

. مجموع الفتاوى 7/ 593

ص: 40

ومع تحريره لتلك الأوجه من التشابه، إلا أنه يقرر أوجه التباين والاختلاف بين الطوائف، وتفاوت الانحراف بين أصحابها، ويؤكد على أهمية معرفة مراتب الانحراف والشرور، تحقيقاً للعدل ومراعاة لقاعدة المصالح والمفاسد، حيث فال:"والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة، مراتبها في الكتاب والسنة، فيقدم ما هو أكثر خيراً، وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده "(1) .

ويقول - في موضع آخر: " فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شراً وأقرب إلى الخير.. فالاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق، متى تاب الرجل منهم من هذا، وصار يسكِّن نفسه بعشق بعض الصور، وهو لا يعبد إلا الله وحده، كانت هذه الحال خيراً من تلك الحال "(2) .

ومن تلك تقريره أن مقالة الاتحادية وأهل وحدة الوجود شرٌّ من مقالة اليهود والنصارى. فهم يعظّمون فرعون، ويدّعون أنه خير من موسى عليه السلام (3) ، كما بيّن شيخ الإسلام أن أهل وحدة الوجود متفاوتون،

(1) . جامع الرسائل 2/ 305

(2)

. الاستقامة 1/ 464، 466 = بتصرف يسير

(3)

. انظر مجموع الفتاوى 2/359

ص: 41

فمنهم العارف ببطن المذهب، ومنهم الجاهل، فإن من كان أعرف بحقيقة المذهب كان أظهر كفراً وإلحاداً، وأما الجهال فيحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه " (1) .

بل إن رؤوس المذهب ليسوا سواءً، فابن عربي أقربهم إلى الإسلام، والصدر الرومي كان متفلسفاً فهو أبعد عن الإسلام، وأما الفاجر التلسماني (2) فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر (3) .

(1) . مجموع الفتاوى 2/366

(2)

. أبو الربيع سليمان بن علي العابدي، شاعر النحوي، نسب إليه حلول واتحاد وزندقة، له مؤلفات، هلك سنة 690هـ.

وانظر: البداية والنهاية 13/226، شذرات الذهب 5/ 412.

(3)

. مجموع الفتاوى 2/470-472.

ص: 42