الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- صلى الله عليه وسلم، كما قال -تعالى- في خطابه له:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمى الدين خلقا، لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة، وإرادة زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها.
وهذه كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة من القرآن، وهذا من أعظم آيات نبوته، وأدلة رسالته.
«ولما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن
خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
- قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} » .
فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، علومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره.
فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها:«كان خلقه القرآن» . وفهم السائل عنها هذا المعنى، فاكتفى به، واشتفى.
فهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين.
وقد خرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت لأتمم صالح الأخلاق» .
واعلم أن خصال الفضل والكمال في البشر نوعان، كما قال بعض العلماء:
أحدهما: ضروري دنيوي، اقتضته الجبلة وضرورة الحياة الدنيا.
والثاني: مكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله ويقرب إلى الله زلفى.
ثم هي على قسمين:
منها ما يتخلص لأحد الوصفين.
ومنها ما يتداخل ويتمازج.
فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار، ولا اكتساب ككمال الخلقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس والأعضاء، واعتدال الحركات، وشرف النسب، وعزة العشيرة، وكرم الأرض.
ويلحق بذلك ما تدعو ضرورة الحياة إليه من غذائه، ونومه، وملبسه، وسكنه، ومنكحه، وماله، وجاهه.
وقد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى، ومعونة البدن على طريقها، وكانت على قوانين الشريعة.
وأما الخصال المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، والآداب الشرعية من الدين، والعلم، والحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن الأدب والمعاشرة، ونحوها من الخصال التي جماعها حسن الخلق.
وتكون هذه الأخلاق دنيوية إذا لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة، ولكنها كلها محاسن وفضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة.
وإذا نظرت في جميع هذه الخصال بنوعيها وجدت نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حائزا لجميعها محيطا بشتات محاسنها من غير خلاف بين نقلة الأخبار بل قد بلغ مبلغ القطع من طرق التواتر الذي لا يمكن القدح فيه.
كما نقلت -أيضا- معجزاته صلى الله عليه وسلم النقل المتواتر الذي هو الطريق الذي علمت به نبوة موسى وعيسى ومعجزاتهما، وما كان من أخبارهما.
فالذي عند المسلمين من العلم بنبيهم صلى الله عليه وسلم،
وشمائله ومعجزاته وسيرته قد حصل عندهم من طريق القطع، فلا يمكن المعارض أن يقدح في ذلك إلا بالقدح في جميع ما جاء عن الأنبياء عليهم السلام.
وأما ما فضله الله به من الفضائل التي لا تنال بالاكتساب، ولا تحصل إلا بتخصص منزل الكتاب من فضيلة ختم الأنبياء، ومن الخلة، والمحبة، والاصطفاء، والإسراء، والرؤية، والقرب، والدنو، والوحي والشفاعة، والوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة، والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والأمانة، والهداية، وكونه رحمة للعالمين، وإعطاء الرضى والسؤال والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والعفو عما تقدم وتأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع المثاني والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله والملائكة، والحكم بين الناس بما أراده الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم
…
إلى ما لا يحويه كتاب، ولا يحيط به إلا مانحه ذلك ومفضله به - لا إله غيره -، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة ودرجات القدس ومراتب السعادة والحسنى والزيادة.
فكل ذلك إنما علمناه من طريقه، حيث بلغه عن الله مخبرا ومؤديا لأمانته لا مفتخرا.
وطريق إثباته أدلة الرسالة وأعلام النبوة، إذ هو من علم الغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي على ألسنة الرسل.
ولولا خوف الإطالة لذكرنا من تفاصيل ما أجملناه من أخلاقه الزاكية ما تنشرح به صدور أهل الإيمان، وترغم به أنوف عبدة الصلبان.
ولكنا قد بنينا هذا الكتاب على الاختصار، وقصدنا به تحصيل المراد من غير إكثار، فمن أراد التفصيل لهذه الخصال السنية فعليه بمظانها من كتب الشمائل والسير النبوية.
ولكنا نذكر من ذلك ما يختص وما تدعو ضرورة الحياة إليه مما يقال: إنه من باب اللذات البدنية، ليتبين أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب - كما هو في غيره - على وفق الكمال البشري المرضي من جميع الوجوه.
فاعلم أن الذي تدعو ضرورة الحياة إليه مما أشرنا إليه قبل ثلاثة أقسام:
قسم الفضل في قلته.
وقسم الفضل في كثرته.
وقسم تختلف الأحوال فيه.
فاما ما المدح والكمال في قلته اتفاقا عادة وشريعة، كالغذاء،
والنوم، فلم تزل العلماء والحكماء والعرب تتمادح بقلتهما، وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النهم والحرص والشره وغلبة الشهوة، وسبب لمضار في الدنيا والدين. وقلته دليل على القناعة وملك النفس، وقمع الشهوة سبب لحفظ الصحة، وصفاء الخاطر وحدة الذهن.
كما أن كثرة النوم دليل على الضعف، وقلة الذكاء والفطنة، سبب للكسل والعجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب وغفلته وموته.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أخذ من هذين الفنين بالأقل.
هذا ما لا يدفع من سيرته وهو الذي أمر به، وحض عليه، وعلى ذلك كان أصحابه رضي الله عنهم والصدر الأول من أمته.
ولهذا قال العلماء: " إن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخلف بعد القرون الفاضلة من أمته بأنه يظهر فيهم السمن ".
وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وصححه الحاكم، من حديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. فإن كان فاعلا لا محالة: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» . وقال الترمذي: " حديث حسن ".
قال القرطبي: " لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة ".
وروى الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض» . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء. إلا أن نؤتى باللحيم» .
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي رواية: «ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله» .
وفي أخرى: «ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر» .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: «ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء بطنه» . أخرجه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: «مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة. ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر، ولا صاع حب، وإن عنده يومئذ»
«لتسع نسوة» أخرجه البخاري والنسائي والترمذي.
وفي الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت: «إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قال: فقلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» .
وقال أنس - خادمه -: «ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق بالله» . رواه البخاري.
وعن عائشة - أم المؤمنين - قالت: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف»
«لي فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني» . رواه البخاري ومسلم.
ولهما أيضا عنها، قالت:«توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير» .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وهي تدل دلالة واضحة على تقلله صلى الله عليه وسلم من تناول الطعام سوى ما تدعو إليه ضرورة البشرية.
وكذلك نومه صلى الله عليه وسلم كان قليلا، شهدت بذلك الآثار الصحيحة.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل، ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويتوضأ.
ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه تشريعا للأمة، ليقتدوا به، ولا يكلفوا من العمل ما لا يطيقونه، أو يشق عليهم مشقة تحملهم على السآمة من العمل.
وكان يحب من العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، وعلى ذلك حث أمته.
وكان ينهاهم عن التشديد على أنفسهم.
وفي السنن والمساند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» .
وكان يقول: «يسروا ولا تعسروا» .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنكم أمة أريد بكم»
«اليسر» . أخرجه الإمام أحمد. وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
«وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من عزم على التبتل، والاختصاء، وقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن كل ليلة، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، والمقداد وغيرهم.
وقال: لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
وأما لباسه صلى الله عليه وسلم فهو كما قال القاضي عياض: "كان قد اقتصر منه ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه. فكان يلبس ما وجد، فيلبس في غالب أحواله الشملة
والكساء والأردية والإزار، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر.
إذ المباهاة في الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، بل هي من سمات النساء.
والمحمود منها نقاوة الثوب، والمتوسط في جنسه، وكون لبس مثله غير مسقط لمروءة جنسه". انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الفراش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة.
وفي الصحيحين: «أنه كان فراشه أدما حشوه ليف» .
وفي الصحيح: «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل»
فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئا لغد.
وخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على رمال حصير وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله: لو اتخذنا لك وطاء»
فكان حاله صلى الله عليه وسلم في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا، ولا يلتفت إلى فضولها.
وحسبك من تقلله منها وإعراضه عن زهرتها وقد سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها أن «توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله» كما تقدم الحديث بذلك، وتقدم -أيضا- قول عائشة رضي الله عنها:«لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي» . وقالت أيضا: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا» .
القسم الثاني:
ما اتفق على التمدح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه.
أما النكاح فمتفق عليه شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال، وصحة الذكورية. ولم يزل التفاخر عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية.
وأما في الشرع فسنة مأثورة من سنن المرسلين، معلومة من سيرتهم عند المتقدمين والمتأخرين من الموافقين والمخالفين.
وله مصالح عديدة لأجلها شرعه الله -تعالى-، ومقاصده الأصلية ثلاثة:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل المدة التي قدر الله تعالى - بروزها إلى هذا العالم.
وهذه مصلحة عظيمة دالة على فضيلة النكاح، والشرائع جاءت بتحصيل المصالح.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتقانه واحتباسه بجملة البدن وهذا فيه من حفظ الصحة ما تقتضي الحكمة مشروعيته، واستحسانه من أجله.
الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة.
وهذه هي الفائدة التي في الجنة؛ إذ لا تناسل هناك يستفرغه الإنزال.
لكن النصارى ينكرون النعيم الجسماني في الجنة، وما أخبرت به الأنبياء من المآكل والمشارب والملابس والمناكح.
فحقيقة قولهم إنكار المعاد الذي أخبرت به الرسل، فقد كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر.
والمقصود: التنبيه على فضيلة النكاح، وكان فضلاء الأطباء يرون أن الجماع أحد أسباب حفظ الصحة، وقد قالوا: إن المني إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة، منها: الوسواس، والجنون، والصرع وغير ذلك، وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسه فسد، واستحال إلى كيفية رديئة توجب أمراضا رديئة، ولذلك تدفعه الطبيعة إذا كثر عندها من غير جماع.
وقال محمد بن زكريا:
" من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعصابه، واستدت مجاريها، وتقلص ذكره "، قال:" ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبردت أبدانهم، وعسرت حركاتهم، ووقعت عليهم كآبة بلا سبب، وقلت شهواتهم وهضمهم " انتهى.
ومن منافعه غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وآخرته،
وينفع المرأة، فمشروعيته للأنبياء ومحبتهم له يحمل المقتدي بهم على تحصيله، فيترتب عليه ما ذكرنا من المصالح وغيرها.
فقد ظهر بما قررناه أن النكاح فضيلة يرغب فيها الأفاضل، ولا يقدح في فضله إلا غبي جاهل، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهده، ويحبه، ويقول:«حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
وحث على التزويج أمته فقال: «تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم» .
«وقال لعثمان بن مظعون: أرغبة عن سنتي؟ قال: لا والله، يا رسول»
فحب النساء والنكاح من كمال الإنسان، ولو كان نقيصة أو قدحا في الفضيلة لصان الله عنه أنبياءه ورسله الذين اصطفاهم على العالمين.
هذا خليل الله إبراهيم - إمام الحنفاء - كانت عنده سارة أجمل نساء العالمين، وأحب هاجر، وتسرى بها.
وهذا داود عليه السلام على زهده وأكله من عمل يده - كان عنده تسع وتسعون امرأة، فأحب تلك المرأة، وتزوج بها، فكمل المائة.
وهذا سليمان ابنه عليه السلام كان يطوف في الليلة على تسعين امرأة.
قال ابن عباس: " كان في ظهر سليمان مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة وثلاث مائة سرية ".
وحكى النقاش وغيره: " سبع مائة امرأة وثلاث مائة سرية ". ذكره القاضي.
ولكون النكاح بهذه المثابة من الفضيلة، وقال بعض العلماء: إن ثناء الله على يحيى عليه السلام بأنه حصور ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوبا، لا ذكر معه.
قال عياض: " أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء. وإنما معناه أنه معصوم
من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حصر عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليس له شهوة في النساء ". انتهى.
وأما ما أشار إليه النصراني من ترك عيسى عليه السلام للتزويج فليس فيه دلالة على أن ذلك أفضل، لأنا قد بينا بالأدلة الواضحة شرعا وعقلا أفضلية التزويج، وأن عدم القدرة على النكاح ليس فضيلة، فالفضل في كونها موجودة.
ثم يختلف حال الشخص فمن يتسع وقته للقيام بحقوق الزوجية فقمع نفسه إما بالمجاهدة كعيسى عليه السلام أو بكفاية من الله -تعالى- كيحيى بن زكريا عليهما السلام فذلك فضيلة من هذا الوجه، لكون التزويج شاغلا في كثير من الأوقات حاطا إلى الدنيا، أو معرضا لتضييع الحقوق الواجبة فيه.
ثم هو في حق من قدر عليه وقام بالواجب فيه ولم يشغله عن ربه درجة عليها وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله كثرة النساء عن عبادة ربه عز وجل، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن، وقيامه بحقوقهن، واكتسابه لهن، وهدايته إياهن، ونقلهن للأمة محاسنه الباطنة، بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال:
«حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
فدل على أن حبه للنساء والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره، واستعماله لذلك ليس لدنياه بل لآخرته، للفوائد التي ذكرناها في التزويج، وللقاء الملائكة في الطيب، ولغير ذلك.
وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدة جبروت مولاه، ومناجاته، ولذلك ميز بين الحبين، وفصل بين الحالتين، فقال:«وجعلت قرة عيني في الصلاة» . فقد ساوى يحيى وعيسى في كفايته فتنتهن، وزاد فضيلة في القيام بهن.
وأما الجاه - فهو كما قال القاضي أبو الفضل - " محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه تكون عظمته في القلوب، لكن آفاته كثيرة، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة، فلذلك ذمه من ذمه، ومدح ضده، وورد في الشرع مدح الخمول، وذم العلو في الأرض.
وكان صلى الله عليه وسلم قد رزق من الحشمة والمكانة في القلوب والعظمة قبل النبوة عند أهل الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه
ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته، وأخباره في ذلك معروفة.
وقد كان يبهت، ويفرق لرؤيته من لم يره، كما «روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق، فقال: يا مسكينة، عليك السكينة» .
وفي حديث ابن مسعود: «أن رجلا قام بين يديه فأرعد، فقال صلى الله عليه وسلم: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» .
وأما عظيم قدره بالنبوة، وشريف منزلته بالرسالة، وأنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا، فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم ". انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من الجاه العريض، ونفوذ الكلمة، وعلو المنصب، ورفعة الرتبة في غاية التواضع لربه -تعالى-.
وكن ينهى أصحابه أن يقوموا له، ويقول:«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» .
وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس.
وعن عائشة والحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يزيد على بعض:
" «كان في بيته في مهنة أهله: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق» ".
وستأتي الإشارة إلى حمله واحتماله، وعفوه بعد القدرة - فيما بعد إن شاء الله -.
القسم الثالث:
وهو ما تختلف الحال في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله.
ككثرة المال: فمتى كان صاحبه منفقا له في مهماته، مشتريا به المعالي والثناء الحسن والمنزلة في القلوب، كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا.
وإذا صرفه في وجوه البر وقصد به وجه الله والدار الآخرة كان فضيلة عند الكل.
ومتى كان صاحبه ممسكا له عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، يشبه خازن المال ولا مال له.
فانظر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلت له الغنائم، وفتح عليه صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجبي إليه من جزيتها وأخماسها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين.
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين» .
وبالجملة، فتفاصيل أخلاقه الكريمة وأوصافه العظيمة تقصر دونها الأفهام، وتكل عن تدوينها الأقلام، وإنما أثبتنا في هذا الفصل ما اقتضاه الحال على سبيل الاختصار في المقال جوابا عن قول المعترض:"وأكبر علاماتك اطراح اللذات البدنية" بما فيه مقنع لذوي الفطن والعقول الزكية.
فصل
وأما قول النصراني: "إن يشوع هو على ما يعترف به المسلمون المسيح الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، ويسميه محمد بكلمة الله وروحه، ويقول: إنه لم يكن له أب من البشر، وأما محمد فهو مولود على الطريق المعتاد في الطبيعة".
فالجواب عنه -ومن الله التأييد- أن نقول:
أما الثناء على عيسى عليه السلام وتنزيهه وتنزيه أمه عليهما السلام عن فرية المفترين وكذب الكاذبين فقد جاء بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك تصديق نص الإنجيل الذي قدمنا ذكره في وصف الفارقليط، حيث قال:"وهو يمجدني".
فلم يمجده تمجيده الحق إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بتنزيه أخيه المسيح عن فرية المكذبين له وفرية المغالين فيه، وأتى فيه بالقول الحق والمذهب الوسط بين غلو النصارى وإطرائهم، وبين تكذيب اليهود وجفائهم.
وقال -تعالى-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله»
فهذا ما يعترف به المسلمون من أمر المسيح عليه السلام.
وأما كون ذلك يقتضي تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم فكلا ولما. ولكنه آية من آيات الله الدالة على قدرته على ما يشاء، حيث أوجده من أم بلا أب، بل خلقه بكلمة "كن" كما قال -تعالى-:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
فالله -تعالى- خلق البشر على أربعة أنواع من الخلق: فخلق آدم عليه السلام من تراب من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب لا أم، حيث خلقها من ضلع آدم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، وخلق سائر البشر من بين الأم والأب -فتبارك الله أحسن الخالقين-.
وهذا التنويع في الخلق دال على قدرة الخلاق وكمال ربوبيته، وأنه ما شاء كان، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، وألا يجعل له ند من خلقه -تعالى الله عما يشركون-.
وليس في خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب ما يقتضي
تفضيله على إبراهيم -إمام الحنفاء وخليل الرحمن-، ولا على موسى -كليم الله ونجيه-، فضلا عن أن يدل على تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد الخلق في الدنيا والآخرة.
وكما أن تخصيص آدم من تراب لا يقتضي تفضيله على غيره، فكذلك عيسى عليه السلام.
وأيضا فخلق حواء عليها السلام من غير أم لا يقتضي تفضيلها على مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، وأمها خديجة،
وعائشة، وآسية امرأة فرعون، فقد جاءت الأحاديث بفضلهن على سائر النساء.
فعرفت أنه ليس في ولادة محمد صلى الله عليه وسلم على الطريق المعتاد في الطبيعة ما يحط رتبته أو يقدح في فضيلته أو يقتضي تفضيل مخلوق عليه، فإن الكل اشتركوا في أن الله -تعالى- أوجدهم من العدم، وخلقهم بعد أن لم يكونوا على ما اقتضته حكمته، ثم اختص من شاء منهم بما شاء، وفضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات على وفق ما قضاه في الأزل، وجرى به قلم التقدير، واقتضاه اختيار الرب -تعالى- اصطفاءه. كما قال -تعالى-:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وأيضا فعيسى عليه السلام حملت به أمه، وتقلب في رحمها، ووضعته على الطريق المعتاد في حمل النساء وولادتهن، فهل كان ذلك نقصا في حقه وحطا لرتبته؟ !.
وإذا لم يكن كذلك تحقق أن ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم بين أبوين لا نقص فيه، إذ خصائص البشرية من خلقته من ضعف، ثم حاجته إلى الطعام والشراب أمر لا ينفك منه بشر.
وهذا برهان قاطع على بطلان ربوبية المسيح وأمه، كما نبه -تعالى- على ذلك في قوله:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
فليس من تعظيم الأنبياء الغلو فيهم ومجاوزة الحد برفعهم عن منزلة العبودية إلى منزلة الألوهية والربوبية، كما هو مذهب النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، بل غلوا في أتباعه، وادعوا فيهم العصمة، اتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صدقا أو كذبا، ولهذا قال -تعالى-:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم عبادتهم
إياهم: بأنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه.
وقال الله -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الآية.
ومعنى الآية: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا ابن مريم حتى تبالغوا في تعظيمه، حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، وأن يصنعوا مثل صنيعهم، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله» .
ولفظ البخاري: «فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» .
وقال الإمام أحمد: ثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس:«أن رجلا قال: يا محمد،»
«يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم:
يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» .
فصل
وأما ما وصف الله به المسيح في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فمعناه: إنما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، قال له: كن فيكون، فكان رسولا من رسله.
ومعنى قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرئيل عليه السلام، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت الفرج، فكانت بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله عز وجل.
ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال الله بها: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرئيل.
قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} هو قوله: "كن" فكان.
وعن بعض السلف قال: "ليست الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى ".
قال ابن كثير: "وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: علمها بها، كما زعمه في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} ، أي: يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبرئيل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى عليه السلام" انتهى.
فإن قيل: الكون بكلمة "كن" ليس مختصا بعيسى، بل هو عام في كل مخلوق، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
أجيب بأنه لما كان السبب المتعارف مفقودا في حق عيسى -وهو الأب- كان اتصاف حدوثه بالكلمة أكمل وأتم، فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة.
كما أن من ظهر عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة: إنه نفس الجود، ومحض الكرم، وصريح الإقبال، فكذا هاهنا.
وأما "من": في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} فليست للتبعيض كما تقوله النصارى، بل لابتداء الغاية، كما في قوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، أي: من خلقه ومن عنده، فهو مخلوق من روح مخلوق.
وأضيفت الروح إلى الله عز وجل على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} ، وفي قوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} .
وكما في الحديث الصحيح: «وأدخل على ربي في داره» ، أضافها إليه إضافة تشريف لها.
وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد، قاله ابن كثير.
وقال غيره: قد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون عن نطفة الأب، وإنما تكون عن نفخة جبرئيل، لا جرم وصف بأنه روح.
وقيل: صف بأنه روح؛ لأنه كان سببا لإحياء الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح، كما قال -تعالى- في صفة القرآن:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .
وقيل: روح منه، أي: رحمة منه، كما قيل في تفسير قوله -تعالى-:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ، أي: رحمة منه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما أنا رحمة مهداة» .
فلما كان عيسى عليه السلام رحمة من الله على الخلق من حيث إنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سماه روحا منه.
قال ابن كثير: والأول أظهر، يعني أنه مخلوق من روح مخلوق، وأن الإضافة للتشريف، وتقدمت شواهده.
فهذا مذهب الحق واعتقاد المسلمين في وصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه.
وأما مذهب النصارى المبدلين فقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر.
وقال -تعالى- في خطاب أهل الكتاب: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} .
وقال -تعالى-: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} في آيات معلومة في هذا المعنى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس:
واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله -تعالى- عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة:
" اليعقوبية " - وهم شرهم - وهم السودان من الحبشة والقبط.
ثم " الملكية " وهم أهل الشمال من الشام والروم.
ثم " النسطورية " وهم نشؤوا في دولة الإسلام في زمن المأمون وهم قليل.
فاليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا، وامتزجا كامتزاج الماء واللبن، فهما جوهر واحد، وأقنوم واحد، وطبيعة واحدة، فصار عين الناسوت عين اللاهوت، وأن المصلوب هو عين اللاهوت.
والملكية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا، له أقنومان، وقيل: أقنوم واحد، له جوهران.
والنسطورية يقولون: هما جوهران أقنومان، وإنما اتحدا في المشيئة، وهذا قول من يقول بالاتحاد.
وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف فيه عن فرقهم الثلاث.
وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول، لكن الاتحاد بالمسيح، والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد، له ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، وذكروا اختلافا بينهم. ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية.
قال الناقلون عنهم: واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء
في اللبن، فيمازجه، ويخالطه، وقالت طائفة منهم: إنما حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.
وزعمت طائفة أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى فيه شيء إلا أثر فيه. ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون، فقالوا: قد اختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا:
فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج.
وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد.
وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر.
وقال قوم منهم: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة.
وقالت الملكية: الاتحاد هو الاثنين صارا واحدا، وصارت الكثرة قلة.
فزعم بعض الناس أن الذين قالوا: هو المسيح ابن مريم هم الذين قالوا: اتحدا حتى صارا شيئا واحدا، والذين قالوا: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: هو وولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا: بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا: ثالث ثلاثة.
وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء، فإن الله أخبر أن النصارى يقولون: إنه ثالث ثلاثة، وأنهم يقولون: إنه الله، وأنهم يقولون: إنه ابن الله. وقال لهم: لا تقولوا ثلاثة.
مع إخباره أن النصارى افترقوا، وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
وقد ذكر هذا إخبارا بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك.
وقد أخبر -سبحانه- عقب قولهم: ثالث ثلاثة بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوا له ولدا، فقال:{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} .
وقد ذكر - أيضا - ما يقتضي أن قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم من الشرك، فقال -تعالى-:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم لا يخصونه بالمسيح، بل يثبتون أن له موجدا وهو الأب، وليس هو الكلمة التي في المسيح، فعبادتهم إياه معه إشراك، وذلك مضموم إلى قولهم: إنه ولده.
وقد نزه الله -تعالى- نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، كما قال -تعالى- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} .
وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون: إنهما اتحدوا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا: إنما اتحد به الكلمة التي هي الابن. والذين يقولون: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: إن المسيح إله وأنه الله، والذين يقولون: إنه حل فيه يقولون: حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله -أيضا- بوجه آخر كما سنذكره.
وأيضا فقولهم: ثالث ثلاثة ليس المراد به الله، واللاهوت الذي في
المسيح، وجسد المسيح، فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين، ويفصل الناسوت عن اللاهوت، بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت.
وأيضا فقوله -تعالى- عن النصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} ، و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} .
قد قيل: إن المراد به قول النصارى: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له ثلاثة أقانيم، أي ثلاث صفات وخواص.
وقولهم: إنه هو الله، وابن الله، هو الاتحاد والحلول.
فعلى هذا تكون تلك الآية على قولهم بتثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد.
فالقرآن على هذا القول رد في كل آية بعض قولهم: كما أنه على القول رد في كل آية على صنف منهم.
وقيل: إن المراد بذلك جعلهم المسيح إلها وأمه إلها مع الله كما ذكر الله ذلك في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} .
فقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} عقب قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ومريم إلهين.
وهذا واضح على قول من حكى عن النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم.
وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله في أقوالهم تعم جميع طوائفهم، وتعم -أيضا- قولهم بتثليث الأقانيم، والاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية بصنف، كما قال من يزعم ذلك.
ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو -سبحانه- ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات، وكل صفة تستلزم الأخرى، إنهم يقولون:
المسيح هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذا بالحلول.
ويبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم، وذلك يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم.
وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا وتارة صفات وخواص، فيقولون: الوجود الذي هو الآب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم. لكن يقولون - أيضا -: إن الوجود الذي هو الآب جوهر، والكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس - أيضا - جوهر، وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس، وهذا مما لا نزاع بينهم فيه.
قلت: وبيان هذا الاعتقاد بعبارة أخرى من كرم بعض المحققين أن النصارى اعتقدوا أن معبودهم جوهر - أي: أصل للأقانيم -، وذلك أن له عندهم ثلاثة أقانيم:
أقنوم الوجود، ويعبرون عنه بالآب.
وأقنوم العلم، ويعبرون عنه بالابن والكلمة.
وأقنوم الحياة، ويعبرون عنه بالروح القدس.
ثم قالوا: مجموع الثلاثة إله واحد.
والأقنوم: كلمة يونانية، والمراد بها في تلك اللغة أصل الشيء، ويعني بها النصارى: الأصل الذي كانت عليه حقيقة إلههم.
وقد طولبوا في دليل الحصر في الثلاثة، فقالوا: لأن الخلق والإبداع لا يتأتى إلا بها، فقيل لهم: والإرادة، والقدرة لا يتأتى الخلق إلا بهما، فيلزم الحكم بأن الأقانيم خمسة، وهو باطل، فكذا التثليث
…
والله أعلم.
قال أبو العباس: ومن هاهنا قالوا كلهم: المسيح هو الله، وقالوا كلهم: هو ابن الله، لأنه من حيث إن الآب والابن وروح القدس إله واحد، وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث إن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر، والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة كان المسيح هو ابن الله عندهم.
ولا ريب أن هذين القولين وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم - كما ذكره الله - فإنهما متناقضان، إذ كونه هو ينافي كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره، فإن الأقانيم إذا كانت صفات أو خواص، وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه يفارق بعضا، فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا، ولا مفارقة شيء منها للموصوف، حتى يقال:
المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك - أيضا -، بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم لنفسه: فإن لم يكن جوهرا إلا جوهر الآب كان جوهر الآب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان، وهم لا يقولون بذلك.
والموصوف -أيضا- لا يفارق صفاته كما لا تفارقه فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لا زمان للذات لا يتصور أن تفارقهما الذات، ولا أن يفارقها واحد منهما، ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، وهو قولهم: الواحد ثلاثة.
وأما قول بعضهم: " أحدي الذات ثلاثي الصفات " فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم، بل يقولون: الثلاثة جواهر، والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر.
وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على وجه يعقل فقد قال الباطل كقول المتكايسين منهم: هذا كما تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات. فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا، أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الحاسب الكاتب.
قلت: ونظير هذا المثل ما قاله بعضهم: إنك إذا فرضت مثلثا متساوي الأضلاع، كانت الأضلاع ثلاثة والمثلث واحد، وكان للمثلث الواحد ثلاثة أضلاع.
وهذا من نمط ما قبله في الفساد، وذلك أن كل واحد من الأضلاع على انفراده ليس هو المثلث المفروض، بل إن اعتبرت الأضلاع الثلاثة شيئا واحدا انتفى التثليث، لأن الواحد لا يكون ثلاثة، وإن اعتبر أحد الأضلاع على انفراد انتفت الوحدة، فالجمع بينهما جمع بين النقيضين. والله أعلم.
قال: والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم: إن المتحد هو الواحد، فيجعلون المسيح هو الله، لأنهم يقولون الموصوف اتحد به، ويجعلون المسيح هو ابن الله، لأنهم يقولون: إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الآب الذي هو الوجود، ودون روح القدس، وهما -أيضا- جوهران.
فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو من أفسد شيء في بداية العقول وكل منهما كفر، كما كفرهم الله.
وأما قولهم: " ثالث ثلاثة " فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح. فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما. انتهى.
فصل
وقد أقام الله -تعالى- أنواع الأدلة والبراهين على بطلان دعوى هؤلاء الجهلة الضلال واعتقادهم في المسيح، وبين ذلك في كتابه العزيز في مواضع كثيرة بطرق عقلية، وحجج واضحة جلية، فنذكر منها أنموذجا يدل على ما وراءه.
فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
فاشتملت هاتان الآيتان على الرد عليهم دعواهم الولد له، ونزه نفسه عنه، فقال: سُبْحَانَهُ أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك، ثم ذكر عدة حجج على استحالة اتخاذه الولد:
إحداها:
كون ما في السماوات والأرض ملكا له، وهذا ينافي أن يكون فيهما ولد له، لأن الولد بعض الوالد وشريكه، فلا يكون مخلوقا له مملوكا، لأن المملوك مربوب عبد من العبيد، والابن نظير الأب، فكيف يكون عبده ومخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره؟ فهذا من أبطل الباطل.
وأكد مضمون هذه الحجة بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، فهذا تقرير
لعبوديتهم له، وأنهم مملوكين مربوبون، ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد، فإثبات الولد له من أعظم الإشراك به.
فإن المشرك به جعل له شريكا من مخلوقاته مع اعترافه بأنه مملوكه، كما كان المشركون من العرب يقولون في تلبيتهم:" لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ". فكانوا يجعلون ما أشركوا به مملوكا له عبدا مخلوقا.
والنصارى جعلوا له شريكا هو نظير وجزء من أجزائه، كما جعل بعض المشركين الملائكة بناته، فقال -تعالى-:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} ، فإذا كان له ما في السماوات وما في الأرض وهم عبيده قانتون مملوكون استحال أن يكون له منهم شريكا.
وكل من أقر بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يلزمه أن يقر بالتوحيد ولا بد.
الحجة الثانية:
قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وهذه من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه، ولهذا قال في سورة الأنعام:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}
أي: من أين يكون لبديع السماوات والأرض ولد؟ !
ووجه هذه الحجة أن من اخترع السماوات والأرض مع عظمهما وآياتهما وفطرهما وابتداعهما، فهو قادر على اختراع ما هو دونهما ولا نسبة له إليهما البتة.
فكيف يخرجون هذا الشخص عن قدرته وإبداعه، ويجعلونه نظيرا وشريكا وجزءا من الله بديع العالم العلوي والسفلي فاطره ومخترعه وباريه!!، فكيف يعجزه أن يوجد هذا الشخص من غير أب حتى يقولوا: إنه ولده؟
فمن نسب الولد لله فما عرف الرب ولا آمن به ولا عبده.
فظهر أن هذه الحجة من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه. وبهذا الوجه قرر الاستدلال بهذه الحجة غير واحد من المفسرين، قال ابن القيم:
وإن شئت تقرير الاستدلال بوجه آخر، وهو أن يقال: إذا كان نسبة السماوات والأرض وما فيهما إليه إنما هي بالاختراع والخلق والإبداع، أنشأ ذلك وأبدعه من العدم إلى الوجود. فكيف يصح نسبة شيء من ذلك إليه بالنبوة، وقدرته على اختراع العالم وما فيه لم يزل، ولم يحتج فيه إلى معاون ولا صاحب ولا شريك؟ !
وإن شئت أن تقريرها بوجه آخر، فتقول: النسبة إليه بالنبوة مستلزمة حاجته وفقره إلى محل الولادة، وذلك ينافي غناه وإفراده بإبداع السماوات والأرض.
وقد أشار -تعالى- إلى هذا المعنى بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
فكمال قدرته وكمال غناه وكمال ربوبيته يحيل نسبة الولد إليه، ونسبته إليه يقدح في كمال ربوبيته، وكمال غناه، وكمال قدرته.
ولهذا كان نسبة الولد إليه مسبة له تبارك وتعالى كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«قال الله -تعالى-: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» . أخرجه في الصحيحين، واللفظ للبخاري.
وقال عمر بن الخطاب في النصارى: " أذلوهم، ولا تظلموهم؛ فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياه أحد من البشر ".
وأخبر -تعالى- أن السماوات كادت تنفطر من قولهم، وتنشق الأرض منه، وتخر الجبال هدا، وما ذاك إلا لتضمنه شتم الرب -تعالى- والتنقص به، ونسبة ما يمنع كمال ربوبيته وقدرته وغناه إليه.
الحجة الثالثة:
قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وتفسير هذه الحجة: أن من كانت قدرته كافية في الإيجاد بمجرد أمره وقوله: " كن " فأي حاجة به إلى وهو لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة، ولا يستعين به من عجز، وإنما يحتاج إلى الولد من لا يخلق، ولا إذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون، وهو المخلوق العاجز المحتاج الذي لا يقدر على تكوين ما أراد.
ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ففي هذه الآية أربع حجج تدل على استحالة نسبة الولد إليه، ومنافاتها كماله المقدس.
الحجة الأولى:
ما تضمنه قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وتقدم تقريرها قريبا.
الثانية:
قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ، والمعنى أنه يلزم من نسبة الولد إليه نسبة الصاحبة إليه -أيضا-، وهو محال؛ فنسبة الولد كذلك.
ووجه التلازم ظاهر؛ لأن الولد إنما يتولد من أصلين: فاعل، ومحل قابل، يتصلان اتصالا خاصا، فينفصل عن أحدهما جزء في الآخر يكون منه الولد. والله -تعالى- ليس له صاحبة، فكيف يكون له ولد؟
قال ابن القيم: ولذلك لما فهم عوام النصارى أن الابن يستلزم الصاحبة لم يستنكفوا من دعوى كون مريم إلها، وأنها والدة الإله عيسى، فيقول عوامهم: يا والدة الإله، اغفري لي، ويصرح بعضهم بأنها زوجة الرب. ولا ريب أن القول بالإيلاد يستلزم ذلك إثبات إيلاد لا يعقل، ولا يتوهم محال.
فخواص النصارى في حيرة وضلال، وعوامهم لا يستنكفون أن يقولوا بالزوجة والإيلاد، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
والقوم في هذا المذهب الخبيث أضل خلق الله، فهم كما وصفهم الله بأنهم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل.
وقال غيره: إن النصارى يقولون: إن الآب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت، فاتحد الناسوت باللاهوت، فكان المسيح.
فالمسيح عندهم إله تام، وإنسان تام، فلاهوته من الله وناسوته من مريم، فهو من أصلين لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه، والآخر أمه؛ فلم لا تكون أمه زوجة أبيه؟، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة؟، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت فلأي شيء لا تجعل صاحبة وزوجة للاهوت!.
تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
الحجة الثالثة:
قوله -تعالى-: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وتقرير الحجة أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة أنه -تعالى- خلق كل شيء، فنسبة الولد إليه تنافي عموم خلقه، فإنه لو كان له ولد لم يكن مخلوقا له، بل جزءا منه. وهذا ينافي كونه خالق كل شيء.
وبهذا يعلم أن الفلاسفة الذين قالوا بتولد العقول والنفوس عنه بواسطة أو بغير واسطة شر من النصارى.
وأن من زعم أن العالم قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله. والنصارى لم يصل كفرهم إلى هذا الحد، قاله ابن القيم.
الحجة الرابعة:
قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وتقرير الدلالة أنه -تعالى- لا يعلم له ولدا، فيستحيل نسبته إليه، فإنه لو كان له ولد لعلمه، لأنه بكل شيء عليم، ونظير هذا قوله -تعالى-:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
فهذا نفي لما ادعوه من الشفعاء ينفي علم الرب بهم المستلزم لنفي المعلوم.
وهاتان الآيتان ذكرهما الله -تعالى- بعد إكفاره النصارى في
قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، وقولهم:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} .
وأبطل فيهما قولهم بعدة من الأدلة:
الأول: التنبيه على أن المسيح عليه السلام رسول الله من جنس الرسل الذين خلوا من قبل، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإن الذي أبرأ الأكمة والأبرص، وأحيا الموتى على يده هو الذي هو الذي أحيا العصا، وجعلها حية تسعى، وفلق البحر على يد موسى، إلى غير ذلك من آياته، وهو الذي أخرج الناقة لصالح من صخرة صماء.
والذي خلق المسيح من غير ذكر هو الذي خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكما لم يكن إتيانهم بالآيات دالا على آلهتهم فكذلك عيسى.
الثاني: أن من له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا، والمخلوق لا يكون إلها.
الثالث: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا يحتاجان إلى الطعام والشراب أشد الحاجة. والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون المسيح إلها مع حاجته؟.
الرابع: قال بعض العلماء إن قوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} كناية عن الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بد أن يحدث، فهذا أبلغ في إبطال إلهيته.
الخامس: أن الإله لا بد أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد، فلو كان المسيح إلها لقدر على دفع الجوع عن نفسه بغير الطعام، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين؟.
ولما كانت هذه الحجج في غاية الجلاء ونهاية الظهور قال -تعالى-: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} ، أي: نظهرها {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي شيء يتمسكون؟.
السادس: أن اليهود كانوا يعادون المسيح، ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، وكان أنصاره يحتاجون إلى النفع، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يجوز أن يكون إلها؟.
ولهذا قال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .
السابع: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه، ومزقوا أضلاعه.... إلى غير ذلك من زعمهم. ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟ !.
الثامن: إن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، وكل ما
سواه يكون محتاجا إليه، فلو كان إلها لامتنع أن يكون مشغولا بعبادة الله، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله.
فلما عرف بالتواتر كون عيسى مواظبا على الطاعات والعبادات، دل على أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا إلى تحصيل المنافع ودفع المضار، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: فلم عدلتم عن السميع لأقوال العباد العليم بكل شيء إلى عبادة عبد من العباد لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا؟ !.
وقد كان المسيح عليه السلام لم يسمع أقوال الذين تمالؤوا عليه، ولم يعلم بهم حتى وصلوا إليه فكيف تجعلونه إلها مع الله - تعالى الله عما يشركون؟ -.
ومن ذلك ما تضمنه صدر سورة آل عمران فإنه كان سبب نزوله في وفد نجران النصارى حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله -تعالى- صدر السورة إلى آية المباهلة
ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، فنذكر طرفا من قصتهم، ثم نتبعه ببعض ما تضمنه صدر السورة من الحجة -إن شاء الله تعالى-.
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره:
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل -، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم.
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا له الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها، وإلى جنبه أخ
له - يقال له: كوز بن علقمة -، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد - يريد رسوا الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حارثة: بل أنت تعست. قال: ولم يا أخي؟ قال: والله، إنه للنبي الذي كنا ننتظر.
فقال له كوز: وما منعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا عوامنا كما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك. فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني.
قال: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" دعوهم "، فصلوا إلى المشرق.
قال ابن إسحاق: وكان من دين النصرانية على دين الملك مع الاختلاف من أمرهم: يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم: هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى، وليجعله آية للناس.
ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله بأنهم يقولون: إنه لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون في قولهم: إنه ثالث ثلاثة بقول الله: فعلنا، وأمرنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت. ولكنه هو عيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها، إلى أن قال:
«فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك. فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.
ثم انصرفوا عنه، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله - يا معشر النصارى -، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط، فنما كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم. فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فواعدوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية، أبعث معكم القوي الأمين.
»
وقد رويت هذه القصة بالأسانيد من وجوه أخر بأطول من هذا السياق، أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن حذيفة رضي الله عنه قال: «جاء العاقب والسيد - صاحبا نجران - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله، إن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا»
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه.
رجعنا إلى ما وعدنا من التنبيه على بعض ما في صدر سورة آل عمران من الحجة على بطلان قول النصارى، وما في ضمنه من تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما استنبطه العلماء من بعض أسرار هذه الآيات وما فيها من العلم.
وبسط الكلام على المواضع الدالة يستدعي طولا، فلنقتصر على بعض ما في فاتحة السورة وخاتمة القصة.
ففي مطلع هذه السورة الكريمة من إقامة البرهان على وحدانية الله -تعالى- ونفي الولد عنه، وعلى بطلان ربوبية المسيح، وعلى تحقيق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو من الحجج القواطع لشبه المبطلين والأدلة المنادية بجهالة المجادلين، وذلك أن أولئك النصارى الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم: إما أن تجادلوه في معرفة الإله أو في النبوة:
فإن كان النزاع في معرفة الإله، وتقولون: إن المسيح ابن الله، وتقولون: إنه الله، وتقولون: إن الله ثالث فالحق معه بالدلائل القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل نسبة الولد والشريك إليه، لأن ذلك يقدح في حياته وقيوميته.
وإن كان النزاع في النبوة فهذا -أيضا- باطل، لأن الطريق الذي عرفتم به أن الله أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى هو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلم.
وما ذاك إلا ما اقترن به من الدلائل والمعجزات، وهو حاصل هاهنا، فكيف يمكن منازعته في صحة نبوته؟!
والحاصل أن هذه الآيات الكريمات تضمنت إقامة الحجة في أصلين:
الأول: في الإلهيات.
والثاني: في النبوات.
وتقرير الأول: أنه حي قيوم، وما كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد أو مشارك، لأن الحي القيوم هو واجب الوجود لذاته، وحياته وقيوميته لا ابتداء لها ولا انتهاء، فهو الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده.
وأما ما عداه فإنه ممكن الوجود لذاته، حدث بتخليق الحي القيوم وإيجاده وتكوينه، وما كان محدثا مخلوقا لا يكون إلها.
وأيضا فنسبة الولد إليه تنافي كمال حياته وقيوميته، وذلك لأن الولد جزء الوالد، وفرع عنه، والولد حادث بعد أن لم يكن، لأنه -بالضرورة- لا بد أن يكون مسبوقا بالأب، فيلزم من ذلك حدوث الأب -أيضا- بالضرورة، للارتباط الذي بين الأب والابن من المشابهة، وهذا هو التعطيل الصرف، فثبت أن دعوى الولد لله تنافي ربوبيته للعالمين.
وأيضا لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى لم يكن حيا قيوما، لأنه ولد، وكان يأكل، ويشرب، ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وصلب، وما قدر على الدفع عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها.
فهذه الكلمة، وهي قوله -تعالى-:{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث.
وأما الأصل الثاني: وهو إثبات النبوة، فقد ذكر الله -تعالى- تقريره هاهنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك أنه قال:{أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه -تعالى- أتبع ذلك بأدلة تدل على صحتها.
الدليل الأول:
ما دل عليه قوله: {بِالْحَقِّ} ، وقد قال المفسرون فيه أقوالا، كلها مطابقة لوصف القرآن دالة على المقصود.
فقيل: وصفه بقوله بالحق، لأنه يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك طريق الباطل.
وقيل: لأنه قول فصل، وليس بالهزل.
وقيل: لأنه -تعالى- أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات، ولأنه أنزله يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض. كما قال -تعالى-:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
وهذا كله من صفات القرآن فدل على أنه من عند الله.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، والمعنى أنه مصدق لكتب
الأنبياء عليهم السلام فيما أخبروا به عن الله -تعالى-، فدل على أنه من عند الله من وجهين:
الأول الذي جاء به رجل أمي لم يقرأ شيئا من الكتب، ولا أخذ عن أحد من العلماء، ومع ذلك جاءت أخباره مطابقة لأخبار الأنبياء فيما تضمنه من القصص، ومن الخبر عن الله، وهذا برهان قاطع على أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله -تعالى-.
الوجه الثاني:
أن الله -تعالى- لم يبعث نبيا قط إلا بدعوة إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان.
والقرآن جاء بهذه المطالب على أكمل الوجوه وأحسنها، فهو مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، فدل على أنه من عند الله.
الدليل الثالث:
قوله -تعالى-: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} وتقرير الدلالة أن يقال: وافقتمونا - أيها اليهود والنصارى - على أنه -تعالى- أنزل التوراة والإنجيل كتابين إلهيين، وأنه -تعالى- قرن بإنزالهما المعجزة والدلالات الدالة على الفرق بينهما وبين أقوال الكاذبين، فإنه لولا المعجزة لما حصل الفرق بين قول المحق وقول المبطل.
التثليث بقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أتبع ذلك بإبطال شبههم.
فالشبهة الأولى - تتعلق بالعلم:
وهو أن المسيح عليه السلام كان يخبر بالغيوب، قالوا: فوجب أن يكون إلها، فأجاب الله -تعالى- عنه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها، لأن ذلك إنما كان بوحي من الله إليه وإطلاعه على ذلك دلالة على نبوته، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات دليل قاطع على أنه ليس بإله، لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فإن الإله هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد أن يكون عالما بمخلوقه، وما ذاك إلا الله وحده، كما قال -تعالى-:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
ومن المعلوم -بالضرورة- أن عيسى ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، كيف والنصارى يزعمون أنه أظهر الجزع من الموت، فلو كان عالما بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك، ويتألم، وكان يفر منهم قبل وصولهم، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات.
والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى ما كان إلها.
الشبهة الثانية:
قالوا: لما ثبت أنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا وجب أن يكون إلها.
فأجاب الله -تعالى- عنها بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قول عيسى في بعض الأحوال لا يدل على كونه إلها، لأنا نقول إن ذلك وقع بإذن الله -تعالى- معجزة دالة على نبوته، لكن عجزه عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم إلهيته.
وذلك أن الإله هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادرا على خلق الإحياء والإماتة على هذا الوجه.
كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين زعم النصارى أنهم أخذوه، وقتلوه، فظهر أن حصول الإحياء والإماتة في بعض الصور على وفق قوله لا يدل على كونه إلها
وأيضا فعيسى عليه السلام صور في الأرحام، وتقلب فيها كسنة الله في غيره من ذرية آدم، فعلم أنه معلوم كسائر الخليقة، فبطل أن يكون إلها.
الشبهة الثالثة:
أن النصارى يقولون إنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا لله -تعالى عن قولهم علوا كبيرا-.
فأجاب الله -تعالى- عنها أيضا بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} لأن هذا التصوير لما كان من الله -تعالى-: فإن شاء صوره من نطفة الأب، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب. كيف وقد خلق -تعالى- آدم من تراب من غير أب ولا أم، فلما كان مقتدرا على ما شاء من التصوير بطل ما تعلقوا به في ذلك.
الشبهة الرابعة:
أنه ورد في بعض الروايات أن أولئك النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تقول: إن عيسى كلمة الله وروحه؟، فهذا يدل على أنه ابن الله، وفي بعض الروايات: أنهم احتجوا على التثليث بقول الله -تعالى-: قضينا، وأمرنا ونحوه. فأجاب الله
والمعنى -كما قال محمد بن إسحاق - {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام أن لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق.
يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميل عن الحق إلى الهوى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: ما تصرف ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ليكون لهم حجة ولهم على ما قالوا شبهة {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: اللبس {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} على ما ركبوا من الضلالة في قوله: خلقن وقضينا. يقول الله -تعالى-: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد؟ !.
ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمات التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق
بعضه بعضا، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وانزاح به الباطل، ودمغ به الكفر، يقول الله -تعالى-:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
وهذا الكلام من ابن إسحاق من أحسن ما قيل في الآية وأبينه.
وحاصل الجواب عن الشبهة أن النصارى تعلقوا بظاهر لفظ من القرآن يحتمل عدة معان من الحقيقة والمجاز، فهو من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد، فتعلقوا بقوله:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، وغفلوا عن قوله في عيسى:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} ، وقوله:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ، وقوله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
فأخبر الله -تعالى- أن ذلك لما في قلوبهم من الزيغ.
وهكذا من شابههم من هذه الأمة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه
الآية قال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» . هذا لفظ البخاري.
وقد كان الذين أنكروا الحلول والاتحاد من النصارى الذين يصدقون بلفظ الآب والابن وروح القدس، وأن تلك العبارة مأخوذة عن إنجيل المسيح يقولون -مع ذلك-: إن المسيح عبد مرسل كسائر الرسل، فوافقوهم على اللفظ، ولم يفسروا ذلك بما يقوله منازعوهم من الحلول والاتحاد.
كما أن النسطورية يوافقونهم -أيضا- على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية.
فلما كانوا متفقين على اللفظ، متنازعين في معناه علم أنهم صدقوا باللفظ أولا لأجل اعتقادهم مجيء الشرع، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسيره، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام.
وكل ما صح عنهم أنهم قالوه فهو حق، لأنهم لا يقولون إلا الحق، ولا بد له -إذا كان صحيحا عنهم- من معنى صحيح يوافق اللفظ المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد.
فظهر بما قرر من قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن للإله، وأن قوله:{لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فيجب أن يكون ابنا لله، وأن قوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن من الألفاظ المحتملة لعدة من المعاني.
ومن تأمل ما ذكرناه علم أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت عليه هذه الآيات، فالحمد لله الذي أغنى عباده المؤمنين بكتابه، وما أودعه من حججه، وبيناته عن شقائق المتكلمين، وهذيانات المنهوكين، فلقد عظمت نعمة الله على عبد أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
ثم ذكر -تعالى- أنواعا من الحجج، وشرح قصة مريم وعيسى -
عليهما السلام - شرحا جليا متضمنا لأنواع من الأدلة على بطلان قول النصارى بما لا يتسع هذا المختصر لشرحه إلى أن قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وفي هذه الآية إبطال شبهة النصارى في قولهم: لما لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله -تعالى -.
فبين -تعالى- أنه خلق آدم من تراب، ولم يكن له أب ولا أم، ولم يلزم من ذلك أن يكون ابنا لله، فكذا القول في عيسى.
وأيضا فلما جاز أن يخلق الله آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم المرأة أقرب من تولده من التراب اليابس.
ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه في تنويع التخليق، فيعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.
وبعد أن بين -تعالى- أنواع الأدلة القاطعة في صدر السورة، وأجاب عن شبه النصارى على أكمل الوجوه وأحسنها، وكان من أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ الغاية القصوى لا جرم، قال -تعالى- بعد ذلك -:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .
يعني فبعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الجواب معهم وعاملهم بها بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إليها، فنكصوا، ورجعوا إلى الصلح، وأقروا بالصغار، وبذلوا الجزية، كما تقدم في القصة. فكان ذلك دليلا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجهين:
أحدهما:
أنه عليه الصلاة والسلام خوفهم بنزول العذاب. فلو لم يكن واثقا بذلك لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه، لأنه بتقدير أن يرغبوا في المباهلة، ثم لا ينزل العذاب يكون ذلك تكذيبا له.
ومعلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم من أعقل الناس، بل هو أعقلهم على الإطلاق، ولا يليق بالعاقل أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم لو فعلوا.
الثاني:
أن القوم تركوا المباهلة، وأعطوا الصغار من أنفسهم. فلولا أنهم علموا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته ورضوا لأنفسهم بالذل والصغار، بل قد تقدم في القصة ما يدل صريحا على معرفتهم به، وأنه النبي المبشر به في كتب الأنبياء.