المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مناظرة حكاها بعض العلماء جرت بينه وبين بعض النصارى - منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب - جـ ١

[عبد العزيز بن حمد آل معمر]

الفصل: ‌ مناظرة حكاها بعض العلماء جرت بينه وبين بعض النصارى

فصل

ولا بأس بذكر‌

‌ مناظرة حكاها بعض العلماء جرت بينه وبين بعض النصارى

ممن يدعي التحقيق والتعمق في مذهبه.

قال: قال لي النصراني: ما الدليل على نبوة محمد؟

فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم[فإن رددنا التواتر أو قبلناه، لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف قطعا بنبوته ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول] .

فقال النصراني:

إني لا أقول في عيسى: إنه كان نبيا، بل أقول: كان إلها.

ص: 393

فقلت له:

هذا الذي تقوله باطل، لأن الإله هو واجب الوجود لذاته، وعيسى هو هذا الشخص البشري الذي وجد بعد أن كان معدوما، قتل -على قولك- بعد أن كان حيا، فكان أولا طفلا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ.

وقد تقرر في بداية العقول أن المحدث لا يكون قديما، والمحتاج لا يكون غنيا، والممكن لا يكون واجبا، والمتغير لا يكون دائما.

هذا وجه.

والوجه الثاني:

في إبطال هذه المقالة: أنكم معترفون بأن اليهود أخذوه، وصلبوه، وتركوه حيا على الخشبة، وفعلوا معه من الإهانة والأذى ما تدعونه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فلو كان إلها، أو كان الإله حالا فيه، أو كان جزءا من الإله حالا فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع والاحتيال في الفرار منهم؟.

الوجه الثالث:

وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه.

والأقسام الثلاثة باطلة:

ص: 394

أما الأول - فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتلته اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك بغير إله؟.

ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإله الذي يقتله اليهود إله في غاية العجز!.

وأما الثاني - وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم - فهو -أيضا- فاسد، لأن الإله إن لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم.

وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في الجسم عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم. وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله.

وإن كان عرضا كان محتاجا إلى غيره. وذلك محال في حق الإله.

وأما الثالث - وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه - فذلك -أيضا- محال، لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلها، وإن لم يكن معتبرا في تحقيق الإلهية لم يكن جزءا من الإله.

فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا.

ص: 395

الوجه الرابع:

في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله -تعالى-. فلو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه.

فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم. انتهى.

وبالجملة، فالأمر كما قال أبو عبد الله ابن القيم: إن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، بل قبله بنحو من ثلاثمائة سنة مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة.

أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد؟

فيا عجبا! كيف يرضى العاقل أن يكون هذا مبلغ علمه ومنتهى عقله؟ أترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه، فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم كتشبيه

ص: 396

بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل بعضهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن

إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارتا حقيقة أخرى، تعالى الله عن كذبهم وإفكهم.

ولم يقنعهم هذا القول في رب السماوات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، وأن اليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه، وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره.

هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا فيا للعقول! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر السماوات والأرض؟ ومن الذي خلف الرب -سبحانه- في هذه المدة، ومن كان الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره؟.

ويا عجبا! هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه؟، فإن

ص: 397

كانت فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح، وإنما هو كغيره من آحاد الناس، وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ ! وأين ذهب الاتحاد والامتزاج؟، وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه؟.

ويا عجبا! أي قبر يسع إله السماوات والأرض؟.

هذا وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون!.

أعباد المسيح لنا سؤال

نريد جوابه ممن وعاه

إذا مات الإله بفعل قوم

أماتوه فما هذا الإله؟

وهل أرضاه ما نالوه منه

فبشراهم إذا نالوا رضاه

وإن سخط الذي فعلوه فيه

فقوتهم إذا أوهت قواه

وهل بقي الوجود بلا إله

سميع يستجيب لمن دعاه؟

وهل خلت الطباق السبع لما

ثوى تحت التراب وقد علاه

وهل خلت العوالم من إله

يدبرها وقد شدت يداه؟

وكيف تخلت الأملاك عنه

بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟

وكيف أطاقت الأخشاب حمل

إله الحق مشدودا قفاه؟

ص: 398

وكيف دنا الحديد إليه حتى

يخالطه ويلحقه أذاه؟

وكيف تمكنت أيدي عداه

وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟

وهل عاد المسيح إلى حياة

أم المحيي له رب سواه؟

ويا عجبا لقبر ضم ربا

وأعجب منه بطن قد حواه!

أقام هناك تسعا من شهور

لدى الظلمات من حيض غذاه

وشق الفرج مولودا صغيرا

ضعيفا فاتحا للثدي فاه

ويأكل ثم يشرب ثم يأتي

بلازم ذاك هل هذا إله؟

تعالى الله عن إفك النصارى

سيسأل كلهم عما افتراه

فيا عبد المسيح أفق فهذي

بدايته وهذا منتهاه

ص: 399

فصل

وأما قول النصراني:

"وكان يشوع ذا صلاح تام في سيرته حتى لم يطعن في عرضه بشيء.

أما محمد فهو صاحب الغزاة والقتال، مغرما بالنساء، وكثير النكاح ".

فالجواب -وبالله التوفيق-:

أما عيسى عليه السلام فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو أحد الخمسة أولي العزم من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -صلى الله عليهم وسلم تسليما-.

وحاشا رسل الله وأنبيائه أن يطعن عليهم في أعراضهم بشيء، كيف وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، وجعلهم سفراء بينه وبين عباده، فاعتقاد المسلمين في المسيح كغيره من الرسل هو ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، فلا يغلون غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود. فـ

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

ص: 401

وأما فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصلاح سيرته وعظم أخلاقه وزهادته في الدنيا وإعراضه عن زهرتها فقد قدمنا إشارة يسيرة إلى ذلك، وهو غيض من فيض، ونقطة من بحر، لأنا قد بنينا كتابنا هذا على الاختصار، والتنبيه على مقاصده بأدنى إشارة، فلو تتبعت فضائله، وفصلت شمائله، وشرحت أخلاقه لكان ذلك في مجلدات كثيرة -فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه دائما إلى يوم الدين وأبد الآبدين-.

وقوله: "فهو صاحب الغزاة

" إلى آخره.

جوابه: أما النكاح ومحبة النساء فقد قدمنا فيها ما يكفي، وبينا أن ذلك من الفضائل لا من الرذائل، ومن المناقب لا من المثالب، وأنه من سنن الأنبياء والمرسلين، ومن طريق عباد الله الصالحين، فلا يتأتى الطعن بالنكاح وملابسة النساء إلا بتنقص الأنبياء والمرسلين كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وكفى بذلك عماية قلب وسخافة عقل وسمة ضلالة وقبيح جهالة.

ص: 402

وأما اعتراضه بالغزو والقتال فهو اعتراض باطل من وجوه:

الأول:

أن الغزو والقتال للأعداء فضيلة متنافس فيها على الجملة، دالة على شرف النفس، وعلو الهمة، ولم يزل التمادح به مشهورا في القديم والحديث.

وإنما يذم ما كان منه ظلما وعدوانا، وليس كذلك قتال نبينا صلى الله عليه وسلم لما نبينه في الوجه الثاني.

وهو أن قتاله صلى الله عليه وسلم إنما هو عن أمر الله -تعالى- وشرعه لإقامة دين لله وإبطال عبادة من سواه من الأنداد والأصنام.

وهذا من أعظم الفضائل، وأكبر المناقب، وأرفع الرتب، وهو قتال الأنبياء وأتباعهم، ولنبينا صلى الله عليه وسلم وأتباعه من هذه الفضيلة أوفر حظ، وأكمل نصيب.

الوجه الثالث:

أن قتاله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته، وأدلة رسالته، لأنه مطابق لما جاء من نعته في كتب الأنبياء عليهم السلام كما قدمنا من نص الزبور في قوله:

(تقلد - أيها الجبار - بالسيف، فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة) .

ص: 403

وفي النص الآخر في صفته صلى الله عليه وسلم، وصفة أمته:(بأيديهم سيوف ذات شفرتين) .

إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أنه يبعث بالسيف والقتال.

وتقدم في قصة ابن الهيبان الحبر في وصيته لليهود باتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تسبقن عليه يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه) .

الوجه الرابع:

أن القتال ليس مختصا بشريعته صلى الله عليه وسلم، فقد قاتل كثير من الأنبياء عليه السلام بإذن الله لهم في ذلك وأمره، وقد أمر الله بني إسرائيل بقتال الجبارين، ودخول الأرض المقدسة مع موسى عليه السلام. فلما عصوا أمر الله عاقبهم بالتيه أربعين سنة، وبعد خروجهم منه توجهوا لقتال الجبارين مع يوشع بن نون عليه السلام، ففتح الله عليهم، ولم يزل الجهاد والقتال مشهورا في بني إسرائيل، ومعهم الأنبياء، كما قال الله -تعالى-:

ص: 404

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .

وأما كون القتال غير مشروع لعيسى عليه السلام فذلك لا يدل على أن تركه أفضل مطلقا، بل هذا من اختلاف الشرائع، كما قال -تعالى-:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .

الوجه الخامس:

أن في الجهاد من المصالح العظيمة، والحكم الباهرة فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة ما لا يحصى:

فمنها ما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله، وإقامة دينه، وعزة أنصاره، وإنفاذ أحكامه، وقد حصل به من ذلك على يد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه ما شتت شمل الكفر وفرق كلمة الإشراك، وأرغم أنف الشيطان اللعين.

ومنها: إنقاذ الهالكين في الكفر، والضلالة، وعبادة الأصنام، والأنداد، وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن طريق النار إلى سبيل الجنان، ومن رق الشيطان إلى عبادة الرحمن.

وقد أنقذ بهذه الأمة، وجهادها من شاء الله من الأمم الهالكين.

ص: 405

وفي هذا المعنى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام.

ومنها ابتلاء الله -تعالى- عباده، واختبارهم بتكليفهم القتال، وبذلهم - في طاعته - النفوس والأموال، كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال -تعالى-: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ، وقال -تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

ومنها ما يترتب على ذلك من عظيم المثوبات ورفعة الدرجات بما بذلوا من مهجهم وأموالهم في طاعة الله ونصرة دينه، فالمجاهدون أرفع الناس درجة في الدنيا والآخرة.

ص: 406

الوجه السادس:

أنه إذا كان قتاله صلى الله عليه وسلم عن أمر الله لثبوت رسالته، فالاعتراض عليه في شيء من أمره اعتراض على الله، لأنه الذي شرع وأمر.

وهذا نظير اعتراض من يعترض من المكذبين للرسل على ذبح الحيوان للأكل بأن هذا تعذيب للحيوان لا يأذن الله فيه.

وإذا كانت شرائع الأنبياء جاءت بذبح بعض الحيوانات للأكل وقتل بعضها دفعا للأذى، مع أنه لا تكليف عليها ولا ذنب لها، فكيف يكون الأمر في قتال أعداء الله الكافرين به المكذبين رسله العابدين معه آلهة أخرى؟. لا جرم أن قتالهم وغزوهم وجهادهم حتى يؤمنوا بالله، ويتابعوا رسوله لفي غاية الصلاح ونهاية السداد وتمام الحكمة.

وبالجملة، ففضائل الجهاد في سبيل الله أكثر من أن يأتي عليها الوصف، وما كان هذا شأنه فلا شك أن المتصف به قد حاز فضلا عظيما، واقتنى خيرا كثيرا، وأن مشروعيته في هذه الملة من محاسنها ومحاسن من جاء بها، وفضائل أتباعه الذين هم خير أمة أخرجت للناس.

ص: 407

فصل

وأما قول النصراني:

" وكان يشوع قد ارتفع إلى السماء، وأما محمد فهو بقي محبوسا في القبر ".

فجوابه أن الله -تعالى- خص من شاء من رسله بما شاء من الخصائص، وخص نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء، وشارك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في خصائص كثيرة. بل قال بعض العلماء:" إنه ما خص نبي بشيء إلا كان لنبينا صلى الله عليه وسلم مثله زيادة ما اختص به عن جميعهم ".

وقد بسط العلماء ذلك بما يبين للمتأمل صحته، ولسنا بصدد تفصيل ذلك خوف الإطالة، فمن ذلك ما ذكر من رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أعطى ذلك ليلة المعراج إلى السماوات، وزاد في الترقي لمزيد الدرجات، وحظي بسماع المناجات، ومشاهدة الكبرى من الآيات، والوصول إلى

ص: 409

ذلك المقام الذي سمع فيه صريف الأقلام، وفرضت عليه هناك الصلوات، وخلعت عليه خلع الكرامات.

وهذه فضيلة لم تجئ لأحد من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. وأيضا فلو لم تجئ هذه الفضيلة لنبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن عدمها دالا على تفضيل عيسى عليه السلام عليه، لأن لنبينا صلى الله عليه وسلم من الفضائل والخصائص ما هو مقتضى سيادته لولد آدم، فتخصيص المفضول بخصيصة ليست للفاضل أمر معلوم، كما خص داود عليه السلام بإلانة الحديد، وتأويب الجبال والطير معه، وسليمان بتسخير الجن والشياطين، وتسخير الريح، غدوها شهر، ورواحها شهر، والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وكرفع إدريس عليه السلام إلى السماء. وأمثال ذلك، وكل هذا لا يدل على تفضيل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام على الخمسة أولي العزم الذين هم أفضل الرسل، وإن لم تكن لهم تلك الخصائص، فإن الذي أوتوه من الفضائل والخصائص من وجوه أخر أعظم وأفضل.

وقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وأعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا»

ص: 410

«وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة»

أخرجه البخاري وغيره. وفي رواية:

«وبعثت إلى الناس كافة» .

وليس المراد حصر خصائصه صلى الله عليه وسلم في هذه الخمس المذكورة، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر، وزاد خصلتين، وهما:«أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون» .

وله صلى الله عليه وسلم من مشاهير الخصائص غير هذا كتخصيص أمته بوضع الآصار، وحط الأثقال التي كانت على من قبلهم، ورفع تحميلهم ما لا يطاق، ورفع الخطأ والنسيان عنهم، وتسميته صلى الله عليه وسلم أحمد، وإعطائه مفاتيح خزائن الأرض، وجعل أمته خير الأمم، وغفران ذنبه ما تقدم وما تأخر، وبقاء معجزة القرآن الذي أنزل عليه إلى يوم القيامة، وإعطائه الكوثر، وإعطائه لواء الحمد يوم القيامة، وأن آدم ومن دونه تحت لوائه.

ص: 411

وبعض العلماء عد خصائصه ستين خصلة، وليس غرضنا استقصاء ذلك؛ فاكتفينا بالتنبيه عليه ردا لكلام المبطل، ونقضا لاعتراضه، وطريق إثبات هذه الخصائص هو طريق إثبات المعجزات كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

ص: 412

فصل

وأما قول النصراني:

" فمن ذا الذي لا ينظر أيهما أولى أن يتبع ".

فالجواب:

أن من نظر لنفسه، ونصحها، ونظر بعين البصيرة والعقل الصحيح - في دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكثرة فضائله وظهور معجزاته، وشواهد نبوته، وشهادة الله له بالصدق، بما أيده به من عظيم الآيات - لا يعتريه شك، ولا يخالجه ريب، ولا يقف أدنى وقفة في وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، والدخول في دينه، والسلوك على منهاجه، وذلك هو حقيقة اتباع المسيح عليه السلام، والإيمان به، لأنه بشر به، وعهد إلى اتباعه بالإيمان به ونصرته، كما أخذ الميثاق بذلك على النبيين، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

ص: 413

قال علي بن أبي طالب، وابن عمه عبد الله بن العباس:" ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق: لئن بعث محمدا وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه ".

وأيضا فالنظر في أيهما أولى أن يتبع فاسد بعد ظهور دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ظهورا أظهر من شمس الظهيرة.

وقد دعا الناس جميعا إلى اتباعه، وأخبر أنه رسول الله إليهم جميعا، وأن شرائع الأنبياء منسوخة بشرعه، وأن من سمع به من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن به فهو من أهل النار.

وقد قال الله -تعالى-: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فأجيبوا عن هذه الدعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الجواب مع اختصاره قد تضمن المنع والمعارضة:

أما المنع فما تضمنه حرف " بل " من الإضراب، أي: ليس الأمر كما قالوا.

وأما المعارضة ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، أي: نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا.

ص: 414

وفي ضمن هذه المعارضة إقامة الحجة على أنها أولى بالصواب مما دعوتم إليه من اليهودية أو النصرانية، لأن وصف صاحب الملة بأنه حنيف غير مشرك، ومن كانت ملته الحنيفية والتوحيد فهو أولى بأن يتبع ممن ملته اليهودية أو النصرانية، فإن الحنيفية والتوحيد دين جميع الرسل الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وهو الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فمن كان عليها فهو المهتدي لا من كان يهوديا أو نصرانيا، فإن الحنيفية تتضمن الإقبال على الله بالعبادة، والإجلال، والتعظيم، والمحبة، والذل. والتوحيد يتضمن إفراده بهذا الإقبال دون غيره، فيعبد وحده، ويحب وحده، ويطاع وحده، ولا يجعل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؟ صاحب هذه الملة أو ملة اليهودية والنصرانية؟ ولم يبق بعد هذا للخصوم إلا أن يقولوا: فنحن على ملته -أيضا- لم نخرج عنها، وإبراهيم وبنوه كانوا هودا أو نصارى. فأجيبوا عن هذا السؤال بأنهم كاذبون فيه، وأن الله -تعالى- قد علم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، فقال:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

وقرر -تعالى- هذا الجواب في سورة آل عمران في قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} .

ص: 415

أو أن يقولوا: نحن وإن انتحلنا هذا الاسم فنحن على ملته، فأجيبوا عن هذا بقوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، فهذه للمؤمنين.

ثم قال -تعالى-: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: فإن أتوا من الإيمان بمثل ما أتيتم به فهم على ملة إبراهيم، وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمان مثل إيمانكم فليسوا من إبراهيم وملته في شيء، وإنما هم في شقاق وعداوة، لأن ملة إبراهيم الإيمان بالله وكتبه ورسله، وألا يفرق بين أحد منهم، فيؤمن ببعضهم، ويكفر ببعضهم، فإذا لم يأت بهذا الإيمان فهم بريئون من ملة إبراهيم مشاقون لمن هو على ملته.

ثم قال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، فهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإنه أخبر بكفاية الله له شقاق اليهود والنصارى وعداوتهم، فوقع كما أخبر، ومكنه الله من ديارهم وأموالهم حتى صاروا أذلاء تحت أمره وأمر أتباعه، فلله الحمد كما هو أهله.

ص: 416