الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثانى: أشكال الإدارة الذاتية
الإدارة الذاتية للجماعات اليهودية
Autonomy of Jewish Communities
«الإدارة الذاتية للجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه بدلاً من المصطلح الإنجليزي ذي الأصل اللاتيني «أوتونومي autonomy» والذي يعني «الاستقلال أو الحكم الذاتي» ، وهو مصطلح شائع في الأدبيات الغربية عادةً ما يُستخدَم ليصف علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بالمجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وهو في تصورنا أبعد ما يكون عن وصف حقيقة هذه العلاقة. ولذا نفضل استخدام مصطلح «الإدارة الذاتية» لأن مقدرته التفسيرية أعلى. فمن المعروف أن الحضارات التقليدية تتسم بالفصل الحاد بين الطبقات والفئات والأقليات، فكان لكل فئة مؤسساتها الإدارية التي تمثل الأقلية أمام الدولة والحاكم، وكانت الدولة بدورها لا تتعامل مع الأفراد مباشرة وإنما مع الفئات والطبقات والأقليات المختلفة باعتبارها تجمعات لها مؤسساتها. فكانت هذه المؤسسات تتولى جمع الضرائب مثلاً، كما كانت تتولى الشئون التعليمية والقضائية الخاصة بأعضائها. وكان لكل فئة أو أقلية مدارسها التي تديرها وتشرف عليها، كما كان لها محاكمها التي تفصل في النزاعات التي تنشب داخلها. ولم يكن يُستثنَى من ذلك فئة أو طبقة أو أقلية. والواقع أن الهدف من هذا التقسيم والاستقلال الإداري النسبي كان، على المستوى المحلي، هو تسهيل عملية الإدارة وضبطها.
وكانت الجماعات الوظيفية (القتالية والمالية) تشكل حالة متطرفة من هذا الوضع العام، فهي جماعات كانت تضطلع بوظائف تتسم بأنها مصدر رهبة أعضاء المجتمع أو اشمئزازهم. ولذا، كان المجتمع يعزل أعضاء هذه الجماعات حتى يصبح لهم مؤسساتهم وأماكن إقامتهم المقصورة عليهم. وأعضاء الجماعات اليهودية في معظم الحضارات، وخصوصاً الحضارة الغربية، قاموا (حتى القرن التاسع عشر) بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، ومن ثم كانت عملية عزلهم تأخذ شكلاً حاداً. ففي بابل، بعد التهجير، كان لليهود مؤسساتهم المستقلة التي يترأسها رأس الجالوت (المنفى) ويساعده رؤساء الحلقات الدراسية. كما كان يهود الإسكندرية البطلمية، في القرن الثاني قبل الميلاد، يكوِّنون بوليتيوما (جماعة من الغرباء يحق لهم السكنى) ويترأسها رئيس القوم (إثنآرخ) الذي كانت له صلاحيات إدارية وقضائية واسعة، وكان يشاركه السلطة ويعلو عليه أحياناً مجلس الشيوخ (جيروسيا) . وقد سمح الرومان لليهود بأن تكون لهم محاكمهم ومؤسسات الإدارة الذاتية، وكان يترأسها أمير اليهود (ناسي أو بطريرك) الذي يعود تاريخه إلى عصر السلوقيين، وكان يتمتع بصلاحيات واسعة في الأمور الخاصة باليهود. ولم يكن تنظيم الجماعة في إسبانيا المسيحية، والذي كان موروثاً عن إسبانيا الإسلامية (الأندلس) ، يختلف كثيراً عن مؤسسات الإدارة الذاتية. ويمكن رؤية مجالس القهال التي كانت ممثلة في مجلس البلاد الأربعة في بولندا، أو اللانديودينشافت في وسط أوربا، أو الماهاماد في هولندا وغيرها من البلاد، أو نظام الملة في الإمبراطورية العثمانية، تعبيراً عن الوضع نفسه. ومؤسسة الجيتو بطبيعة الحال تعبير عن هذه الظاهرة.
ولكن هذه الإدارة الذاتية عادةً ما تختفي مع بداية عملية التحديث وظهور الدولة القومية العلمانية الحديثة ذات النظام التعليمي والاقتصادي الشامل والتي تضطلع بمعظم وظائف الجماعات الوظيفية مثل جمع الضرائب. ومن ثم، فإنها تتطلب ولاءً كاملاً من أعضائها، وترفض منافسة أية جيوب دينية أو إثنية فرعية منغلقة على نفسها. وقد بدأت هذه العملية في أوربا مع بداية القرن الثامن عشر، واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. ويمكن رؤية المسألة اليهودية كتعبير عن الفجوة الحضارية الناجمة عن هذا التحول السريع.
والمفهوم الذي طرحته حركة الانعتاق والاندماج للهوية اليهودية، هو أن اليهودي فرد ينتمي إلى مجتمعه ويكتسب هويته منه، شأنه شأن سائر أعضاء المجتمع، ولذا فلا توجد أية ضرورة إدارية أو حضارية لقيام مؤسسات الإدارة الذاتية.
وعلى العكس من هذا تحاول التواريخ التي تنطلق من المنطلقات الصهيونية إظهار أن مؤسسات الإدارة الذاتية مؤسسات حكم ذاتي ( «دولة داخل دولة» حسب التعبير الصهيوني والمعادي لليهود) مقصورة على اليهود وحدهم، وبالتالي فإنها تعبير عن هويتهم القومية الجمعية التي ترفض الاندماج، لتستخلص من ذلك أن اليهود يشكلون كلاًّ واحداً وأنهم تجمُّع قومي مستقل عبر التاريخ في كل زمان ومكان. ينطلق الفكر الصهيوني من هذا المفهوم الجمعي للهوية اليهودية الذي يضرب بجذوره في العصور الوسطى والجيتو، والذي يصل إلى تعبيره الحقيقي عن نفسه في الدولة الصهيونية؛ التجربة الكبرى في الإدارة الذاتية.
ولكن الدولة الصهيونية سبقتها تجارب أخرى في الإدارة الذاتية من أهمها تجربة سورينام في الاستعمار الاستيطاني اليهودي وتجربة جيتو وارسو ومستوطنة تيريس آينشتات اللتين حاول النازيون من خلالهما أن يبينوا أن الشعب اليهودي شعب عضوي له مكوناته الحضارية المستقلة.
وقد اختفت كل مؤسسات الإدارة الذاتية التقليدية (والنازية والصهيونية) وحلت محلها مؤسسات حديثة تختلف في وظيفتها تماماً عن مؤسسات الإدارة الذاتية التقليدية. فالهدف من مقاطعة بيروبيجان حل مشكلة الجماعة اليهودية في روسيا باعتبارها جماعة قومية ليست لها أرض خاصة بها (ولذا انخرط بعض أعضائها في الوظائف الطفيلية الهامشية) . أما مؤسسات القهال وروابط المهاجرين وحلقات العمال والنادي اليهودي في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وغيرها فهي لا تختلف عن مثيلتها من المؤسسات التي تجمع أعضاء الجماعات الإثنية والدينية المهاجرة في المجتمعات الحديثة وهي مؤسسات توفر لهم إطاراً يمكنهم من خلاله التواصل على مستوى أقل عمومية وأكثر خصوصية من تواصلهم في رقعة الحياة العامة وتفي ببعض حاجاتهم النفسية والمادية الخاصة. ومن ثم فهي ليست مؤسسات إدارة ذاتية رغم أن اسمها قد يوحي بذلك.
وتحاول بعض الكتابات الصهيونية أن تُقدِّم بعض الحوادث التاريخية الاستثنائية مثل مملكة حمير ومملكة حدياب ومملكة الخزر باعتبارها تعبيراً عن رغبة اليهود الأزلية في الاستقلال الذاتي. وغني عن القول أن الدراسة التاريخية تبيِّن أن هذه مجرد استثناءات يمكن تفسيرها لا في إطار التاريخ اليهودي وإنما في إطار التشكيلات الحضارية المختلفة التي ظهرت في إطارها.
قيادات الجماعات اليهودية
Leadership of the Jewish Communities
«قيادات الجماعات اليهودية» هي الشخصيات أو المجموعة التي تتولى قيادة الجماعات اليهودية وتوجيهها والتفاوض باسمها مع النخب الحاكمة. ومن المشاكل التي يواجهها أعضاء الجماعات اليهودية، عبر تواريخهم دائماً، مشكلة القيادة ومشكلة من يتحدث باسمهم أمام السلطة الحاكمة. ولم يواجه العبرانيون القدامى هذه المشكلة، ففي فترة الآباء كانت قيادتهم تتشكل من شيوخ القبيلة (القضاة) . وحسبما وصلنا من معلومات عن هذه الفترة السديمية، لم يكن هناك ما يميِّز العبرانيين عن سواهم من الأقوام المتجولة في الشرق الأدنى في العالم القديم من ناحية البناء السياسي والطبقي. وقد استمر الوضع على ذلك أثناء فترة القضاة حين ظهرت القيادة الكاريزمية القَبَلية التي لم تكن تختلف في جوهرها عن القيادة القَبَلية في عصر الآباء. وبعد ذلك، ظهرت مؤسسة الملكية تساندها طبقة الكهنة، فقد حكم العبرانيين ملوك ابتداء من 1020 حتى 586 ق. م. ولكن، وبطبيعة الحال، كانت ثمة صراعات على القيادة لازمت هذه الممالك. فبعد وفاة شاؤول، انقسمت المملكة إلى قسمين؛ الجنوبي (يهودا) وقد استولى عليه داود، والشمالي (يسرائيل) الذي استولى عليه إشبعل ابن شاؤول. وبعد سبع سنين ونصف السنة، اتحدت المملكتان ثانية تحت قيادة داود، ثم جاء سليمان وكانت أول خطوة قام بها أن قتل جميع منافسيه في الملك ليستريح من متاعبهم. ولكن المملكة الموحَّدة انقسمت بعد موته مباشرةً إلى مملكتين مستقلتين متخاصمتين ومتحاربتين: المملكة الشمالية وبقيت حتى عام 712 ق. م، والمملكة الجنوبية وبقيت حتى عام 586 ق. م. كما أن المملكتين كانتا بدورهما ميداناً لنزاعات داخلية مستمرة. كما كان هناك صراع دائم بين الكهنة والملوك (المؤسسة الحاكمة) من جهة والأنبياء من جهة أخرى.
وبعد هذا التاريخ، أخذت مشكلة القيادة في الظهور بكل أشكالها، إذ تحوَّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية. وتتسم الجماعة الوظيفية بأن قياداتها تهيمن على أعضائها لأنها عادةً جماعة صغيرة عددياً، كما أنها لابد أن تخضع لعملية ضبط اجتماعي هائلة حتى يتسنى لأعضائها القيام بوظائفهم وحتى يمكنهم توارث الخبرات من خلال الجماعة الوظيفية. وعادةً ما كانت النخبة الحاكمة تطلق يد قيادة الجماعة الوظيفية في تصريف أمور الجماعة كشكل من أشكال الإدارة الذاتية. ومع أن الوضع في فلسطين كان مختلفاً، بطبيعة الحال، إلا أنه يُلاحَظ أن الجماعة اليهودية على أرض فلسطين فقدت استقلالها السياسي (باستثناء فترة الحشمونيين القصيرة) وأصبحت دولة تابعة لإمبراطورية كبرى. ولكن علاقة النخبة الحاكمة الإمبراطورية بالقيادة اليهودية المحلية كانت لا تختلف كثيراً عن علاقة أية نخبة حاكمة بقيادات الجماعات اليهودية الوظيفية.
ومنذ فترة التهجير إلى بابل، قام أعضاء الجماعات اليهودية بتصريف أمورهم الدينية وبعض أمورهم الدنيوية المحلية ذات الطابع الإداري، مثل جمع الضرائب، بتصريح من السلطة الحاكمة وفي إطار الإدارة الذاتية المعمول بها في معظم الإمبراطوريات القديمة، شأنهم في هذا شأن كل الطوائف والجماعات الوظيفية في المجتمعات التقليدية وفي هذا الإطار تم تأسيس المجمع الكبير. وقد استمر هذا النمط وساد بين أعضاء الجماعات اليهودية حتى القرن التاسع عشر، ثم تقلص بعد ذلك التاريخ إلى تصريف الأمور الدينية وحدها. ولا يُستثنَى من هذا النمط إلا أعضاء التجمع الصهيوني. وقد تولي القيادة في غالب الأمر تحالف من رجال الدين وأثرياء اليهود وكانت التفرقة بينهم صعبة في معظم الأحيان. وبعد مرسوم قورش بالعودة من بابل (538 ق. م) ، آلت القيادة إلى طبقة الكهنوت المتركزة حول الهيكل، وتحالف معهم أثرياء اليهود الذين تأغرقوا، فقاومتهم العناصر العبرانية المحلية. ثم ظهر من بينهم، لفترة زمنية قصيرة، ملوك الحشمونيين (142 ـ 65 ق. م) الذين كانوا يحملون لقب الكاهن الأعظم، وقد تأغرق هؤلاء أيضاً وتعاونوا في نهاية الأمر مع السلطة السلوقية ثم الرومانية. أما حكم الهيروديين (ابتداءً من 37 ق. م) ، فكان تابعاً للرومان تماماً. ومن المعروف أن لقب «ملك روماني (دوكس) » الذي كان يحمله ملوكهم وبعض ملوك الحشمونيين من قبلهم، كان لقباً شرفياً وحسب إذ كانوا يدينون بالتبعية الكاملة لروما. وقد كان الملوك الهيروديون يعينون كاهناً أعظم يعمل موظفاً لديهم ويدين لهم بالولاء. وقد أصبح للجماعة اليهودية في بابل مركز سلطة مستقل يترأسه رأس الجالوت (المنفى) . وحين تعاظم عدد يهود مصر وتزايد نفوذهم، أصبح لهم، هم أيضاً، قيادتهم المستقلة بل هيكلهم المستقل. وفي نهاية القرن الأول قبل الميلاد، ظهرت داخل اليهودية تيارات متعددة كان من أهمها الصدوقيون والفريسيون والغيورون، طرح كلٌّ منهم
نفسه باعتباره قيادة اليهود الحقيقية، في فلسطين أساساً، وفي العالم ككل. ثم نشب التمردان اليهوديان الأول والثاني ضد الرومان واللذان انتهيا بتهديم الهيكل بيد الرومان، الأمر الذي وضع نهاية للمرحلة العبرانية اليهودية.
ويُلاحَظ أنه، بعد هدم الهيكل، لا يوجد شكل واحد محدَّد للقيادة يسود الجماعات اليهودية إذ كانت كل جماعة خاضعة للتشكيل الحضاري السياسي الذي توجد فيه. وعلى سبيل المثال، فإن قيادة يهود الفلاشاه التي استمرت حتى العصر الحديث كانت قَبَلية، واصطبغت قيادة يهود بني إسرائيل في الهند بطابع هندي واضح، وتأثرت قيادة يهود كايفنج بالحضارة الصينية. أما يهود الخزر، فقد سادت بينهم مؤسسة الملكية المزدوجة (التركية) . أما في الشرق الإسلامي، فقد ترأس الجماعات اليهودية رأس الجالوت (المنفى) ، وكان منصبه المركزي تعبيراً عن مركزية الإقطاع في العالم الإسلامي. وقد ظهر إلى جواره نخبة قائدة دنيوية تستند هيبتها إلى نجاحاتها التجارية وثرائها، وقد كانت هي التي تتحكم في النخبة الدينية. وهذا وضع يشبه الوضع في الولايات المتحدة في الوقت الحالي، إذ أن أثرياء اليهود قد أمسكوا بزمام قيادة الجماعة اليهودية فعلياً، وتضاءل دور المفكرين الدينيين والحاخامات.
وحين كانت الدولة المركزية قوية، كان اليهود يتبعون مركزاً واحداً وقيادة واحدة. وحينما كانت السلطة المركزية تضعف وتنقسم الدولة إلى دويلات، كانت الجماعات اليهودية ذاتها تنقسم إلى وحدات صغيرة تتبع كل منها الدولة التي تعيش فيها. في العالم الإسلامي على سبيل المثال، حينما كانت تحكمه سلطة مركزية قوية، كان منصب رأس الجالوت يتمتع بنفس القوة. ومع تفكُّك الدولة الإسلامية إلى دويلات أو مقاطعات شبه مستقلة، ظهر منصب رئيس اليهود (نجيد) في مصر وفي غيرها من البلاد الإسلامية.
ومع هذا، كانت الجماعات اليهودية، داخل الإطار القوي للدولة العثمانية، منقسمة فيما بينها متصارعة الواحدة مع الأخرى، واحتفظت كل جماعة باستقلالها. ولكن حدثت عملية اندماج فيما بينها مع مرور الزمن نظراً لسيادة العنصر السفاردي. ولذا، فقد عينت الدولة العثمانية الحاخام باشي (في القرن التاسع عشر) ليمثل نوعاً من القيادة المركزية ليهود الدولة العثمانية.
ومن ناحية ظهور المسألة اليهودية وتطوُّر الحركة الصهيونية، قد يكون من المفيد التركيز على أوربا وحدها. ويُلاحَظ أن الإقطاع الأوربي لم يكن ذا سلطة مركزية واحدة وإنما كان منقسماً إلى وحدات صغيرة. ومن الحقائق الأساسية التي تتعلق بالإقطاع الأوربي أن القيادات اليهودية انقسمت بانقسام الجماعات، فكان لكل جماعة يهودية وظيفية نخبتها القائدة التي كانت تتكون عادةً من كبار رجال الدين والمموِّلين وتستبعد صغار رجال الدين والتجار. ويظهر هذا في مؤسسة القهال التي كانت تتكون من تنظيمات صغيرة متصارعة فيما بينها، ثم أصبحت في نهاية الأمر مُمثَّلة في مجلس البلاد الأربعة الذي تم حٌله عام 1764، فعادت التوترات والصراعات بين منظمات القهال المختلفة مرة أخرى. وفي بداية القرن السابع عشر، ظهر يهود البلاط (وهم من كبار المموِّلين الذين كان يعتمد عليهم الحاكم) الذين كانوا يكتسبون هيبة خاصة وشرعية نتيجة ارتباطهم بالحاكم ويتحولون إلى قيادات للجماعة اليهودية ويتحدثون باسمها أمام الأمير. وكانت أهم وظيفة تُوكَل إلى القيادات وظيفة الوسيط (شتدلان) ، تلك الوظيفة التي كانت مهمتها التوسط بين الحاكم وأعضاء الجماعة. وكان هؤلاء الوسطاء، بسبب ثرائهم ونفوذهم، يقدمون الصدقات للفقراء من أعضاء الجماعة، الأمر الذي كان يعطيهم شرعية هائلة، فشرعية هذه القيادة كانت تستند إلى ثرائها وإلى نجاحها في عالم الأغيار، وإلى تقبُّل عالم الأغيار لها، وهي ليست قيادة دينية أو نابعة من داخل حركيات الجماعة
اليهودية.
ومع تدهور الجماعة اليهودية في شرق أوربا، في بولندا وروسيا اللتين كانتا تضمان معظم يهود أوربا والعالم، تدهورت هذه القيادات أيضاً وأصبحت فاسدة، وتحوَّل القهال من شكل للإدارة الذاتية إلى أداة استغلال وقمع. وكان منصب الحاخام يُباع ويُشتَرى وكذلك منصب القاضي، وهو ما كان يجعل الرشوة أمراً طبيعياً في المحاكم الشرعية اليهودية، وهكذا ازداد انفصال القيادات الدينية والدنيوية عن جماهيرها. وربما كان هذا الوضع المتردي أحد العناصر التي أدَّت إلى تفجُّر النزعات المشيحانية والحركات الشبتانية التي جاءت بعدها، والتي كانت تمثل، فيما كانت تمثله، ثورة ضد القيادة التقليدية المُكوَّنة من الحاخامات والأثرياء، فضمت عناصر كثيرة من بينها صغار المموِّلين وصغار الحاخامات، وكل من اهتز وضعه الاقتصادي نتيجة التحولات الاقتصادية، وكل من استبعدته أشكال التنظيم القديمة. وقد كان لهذه الحركات قيادتها الكاريزمية، يتبع كل قائد مريدوه وأتباعه وجماهيره. ولما كان لكل جماعة، مثل الدونمه والفرانكيين، طقوسها ومعتقداتها المتميزة عن طقوس ومعتقدات اليهودية الحاخامية، فقد شكلت مثل هذه الجماعات جيوباً مستقلة. وكثيراً ما كانت هذه الجماعات تطلب إلى الحاكم أن يحميها من اضطهاد القيادات الحاخامية والمالية. وقد كانت الحركة الحسيدية أكثر الحركات الصوفية (الشبتانية) انتشاراً وجماهيرية. وكان لكل جماعة حسيدية قائدها (تساديك) وهو زعيمها الديني الصوفي الذي كانت تقوم بينه وبين أتباعه علاقة مباشرة حميمة، فهو الصلة الوحيدة بينها وبين الإله حسب التصور القبَّالي. وقد حلَّ التساديك محل الحاخام بالنسبة إلى الحسيديين.
غير أن التحدي الأكبر للمؤسسة الحاخامية جاء من بين صفوف دعاة حركة التنوير (مسكليم) مع نهاية القرن الثامن عشر بتأييد من التجار اليهود الذين كانوا يشكلون جزءاً من الاقتصاد الرأسمالي الصناعي الجديد الذي جعل وجود الجماعات الوظيفية (اليهودية وغير اليهودية) غير ذي موضوع. وقد تلقَّى هؤلاء تعليمهم خارج المحيط اليهودي التقليدي. وكانوا قادرين على التعامل بكفاءة مع العالمين اليهودي والمسيحي والتقليدي والحديث، فطرحوا أنفسهم باعتبارهم القيادة المنطقية للجماعات اليهودية، والقادرين على التحدث باسمها، والعارفين بمصالحها، حتى ولو رفض السواد الأعظم من اليهود ذلك الرأي. وكانت الحكومات الغربية الحريصة على تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وعلى علمنتهم، تؤثر التعامل معهم، وهذا يعني أن دعاة التنوير كانوا، مثل يهود البلاط، يكتسبون شرعيتهم من عالم الأغيار.
وحينما ظهرت الحركة الصهيونية، كانت بعض أشكال القيادة التقليدية لا تزال سائدة برغم تَزايُد تحديث أعضاء الجماعات اليهودية ودمجهم في مجتمعاتهم. ولا يمكن فهم سلوك الزعامات الصهيونية في شرق أوربا إلا في ضوء هذه الحقيقة. وقد كانت منظمات أحباء صهيون منظمات حديثة تنطلق من مفاهيم حديثة مثل تطبيع الشخصية اليهودية وحل المسألة اليهودية عن طريق الاستعمار. ولكن، ورغم أن ليو بنسكر وموشيه ليلينبلوم تلقيا تعليماً علمانياً، فإنهما حينما بدآ في التحرك اتبعا النمط التقليدي فطلبا إلى الحاخام موهيليفر أن يتوجه إلى هيرش وروتشيلد (وهما من أثرياء الغرب اليهود) ليطلب منهما تقديم المساعدة لمشروعهما الاستيطاني، أي أنهما توجها للوسيط (شتدلان) التقليدي (الحاخام) الذي يتوجه إلى الثري حتى يتوسط لدى الحكومات المعنية وحتى يزودهما بالدعم المالي الذي يريدانه. وظلت الحركة الصهيونية قابعة داخل هذه الرؤية الضيقة، إلى أن جاء هرتزل وحدَّث الحل الصهيوني فخرج به من الإطار اليهودي التقليدي وتخطَّى الوسطاء التقليديين وطرح المسألة في إطار استعماري غربي لا علاقة له بأشكال القيادة التقليدية المألوفة لدى اليهود فتَوجَّه إلى الدول الغربية الاستعمارية. ولذا، فقد نجح هرتزل فيما فشل فيه أحباء صهيون ويهود شرق أوربا، فأسس المنظمة الصهيونية العالمية التي أصبحت الوسيط المباشر بين أعضاء الجماعات اليهودية والقوى الإمبريالية، وظل مهيمناً عليها تماماً حتى موته.
وقد ظن صهاينة الغرب أن هيمنتهم على المنظمة ستستمر وأن صهاينة الشرق سيستمرون في تلقِّي الأوامر والإذعان لها. لكن، بعد موت هرتزل بفترة قصيرة، استولى صهاينة شرق أوربا على المنظمة على أساس أن الكثافة السكانية اليهودية تتركز في بولندا وروسيا، وعلى أساس أنهم أولى بالتعبير عنها وعن مصالحها، وخصوصاً بعد أن تعلموا الدرس من هرتزل وتجاوزوا الإطار اليهودي المحض واتصلوا بالقوات الاستعمارية الغربية.
ويُعَدُّ وعد بلفور الشكل الجديد الذي يحدد العلاقة بين الجماعات اليهودية والحضارة الغربية حيث قامت الزعامة الصهيونية بدور الشتدلان أو الوسيط الحديث، فعرضت تهجير فائض أوربا من اليهود إلى فلسطين تخلُّصاً منهم، ولتأسيس قاعدة للاستعمار الغربي، على أن يقوم الغرب بحمايتهم في المقابل. وقد قبل الغرب هذه الرؤية، وتم توقيع وعد (عقد) بلفور في هذا الإطار، حيث يقوم اليهود تحت زعامة الحركة الصهيونية بتصريف أمورهم الدينية باستقلال كامل، وتصريف أمورهم الإدارية والسياسية المحلية في المُستوطَن الصهيوني، على أن يتحرك الجميع في إطار المصالح الإمبريالية الغربية. وهذا الوضع لا يختلف في أساسياته عن وضع الجماعات اليهودية داخل إطار الإمبراطوريات القديمة. ولذا، تم القضاء على المعارضة اليهودية للصهيونية أو كبح جماحها واستولت الصهيونية على الجماهير اليهودية من خلال الضغط «من فوق» أي من جهة الدولة الإمبريالية الراعية. ومن الأمور التي تستحق التأمل والدراسة أن معظم كبار المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية لا ينضمون إلى الحركة الصهيونية وهو ما يعني أن قيادة الجماعات اليهودية قد سقطت في يد صغار المفكرين الصهاينة الذين لا يتمتعون بأية آفاق فكرية فسيحة أو رؤى تاريخية عميقة.
ولم يتوقف الصراع على زعامة الجماعات اليهودية، بعد وعد بلفور، سواء على الصعيد العالمي أو داخل المُستوطَن الصهيوني. أما على الصعيد العالمي وداخل الحركة الصهيونية، فإن الصراع أصبح يدور بين أعضاء الجماعات اليهودية بما لهم من مصالح وارتباط بأوطان وهويات ثقافية متنوعة من جهة وبين المنظمة الصهيونية من جهة أخرى، فهي تريد أن توظف كل شيء لصالح المُستوطَن الصهيوني وترى أن الجماعات اليهودية ليست إلا وسيلة تخدم الغايات النهائية للصهيونية. وهذا الصراع مستمر حتى الآن وينعكس في حوادث متفرقة كما حدث عند اكتشاف نشاط بولارد، الجاسوس الأمريكي اليهودي.
كما نشب صراع جانبي آخر على قيادة الجماعات بين صهاينة الداخل المستوطنين (أي الإسرائيليين) وصهاينة الخارج التوطينيين (أي أعضاء المنظمة الصهيونية العالمية) . وقد حُسم الصراع إلى حدٍّ كبير لصالح الصهاينة المستوطنين، وتحولت المنظمة الصهيونية العالمية إلى أداة تابعة لحكومة المُستوطَن الصهيوني. ولا تزال هناك أصداء للصراع القديم على قيادة الجماعات بين الصهيونية وأعداء الصهيونية من اليهود. ولكن هذا الصراع، مثل كثير من الصراعات الشبيهة، تم حسمه لصالح الحركة الصهيونية.
ودار صراع ثالث حول القيادة داخل المُستوطَن الصهيوني، وهو صراع ذو أبعاد عديدة. وينبغي ملاحظة أنه لا يوجد تجانس كبير بين أعضاء النخبة الحاكمة في إسرائيل وزعاماتها، ولا داخل أعضاء المُستوطَن الصهيوني فيما بينهم، فأمثال بن جوريون وبيجين وبيريز وشامير جاءوا من بولندا، وأمثال حاييم وايزمان وجابوتنسكي وإشكول مهاجرون من روسيا، وآلون وشارون وإيتان ورابين ولدوا في فلسطين، وليفي وشاحل من الدول العربية، وجولدامائير وأرينز وكهانا وأبا إيبان من الدول الناطقة بالإنجليزية. ومعظم القادة المذكورين لادينيون ولا يؤمنون باليهودية كعقيدة وإنما يتخذونها انتماءً إثنياً وحسب. أما ليفنجر ويتسحاق بيريتس ومناحيم كوهين وأبراهام شابيرا، فيعيشون وفق الشريعة (هالاخاه) . ولذا، فقد نشب كثير من الصراعات بينهم حول تَوجُّه الدولة الصهيونية وقيادتها، فهناك صراع إثني بين الإشكناز وبقية أعضاء المُستوطَن من يهود سفارد وعرب وغيرهم. كما يوجد صراع بين المؤسسة العمالية الصهيونية من جهة وبعض كبار المموِّلين ودعاة الاقتصاد الحر ومن يتبعهم من قطاعات شعبية محبطة لا تجد وسيلة للإفصاح عن سخطها من جهة أخرى. وقد أخذ الصراع بين الدينيين واللادينيين في التصاعد، كما يُلاحَظ أن هناك صراع أجيال غير واضح على سطح الأحداث، ويطرح كل قطاع من أعضاء النخبة والزعامات نفسه باعتباره القيادة الأكثر كفاءة. بل يدور الآن صراع حاد بين القوى الدينية المختلفة: الصهاينة المتدينين والليتوانيين وحبد والسفارد
…
إلخ.
ومن الأمور المرتبطة بقضية القيادة ما يُسمَّى بمشكلة عجز اليهود بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة. وقد طرحت الصهيونية نفسها باعتبارها الحركة التي ستقوم بحلها وتستعيد السلطة والسيادة لليهود بحيث تصبح لهم سيادتهم القومية وقيادتهم المستقلة. وتثار الآن هذه القضية مرة أخرى في الصحافة الإسرائيلية، كما يثار مدى نجاح القيادة الصهيونية داخل إسرائيل في تحقيق هذا الهدف على ضوء الاعتماد المالي والعسكري والسياسي المتزايد على الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ضوء تَدخُّل الولايات المتحدة في كثير من القضايا التي لها علاقة بالسيادة القومية مثل إنتاج طائرة لافي.
ومع ظهور ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» ، الذي يجعل الهدف الأساسي من التاريخ اليهودي بقاء اليهود، طرح الحاخام ريتشارد روبنشتاين رؤية مفادها أن القيادة الحاخامية لليهود قيادة فرضها الرومان على اليهود بعد إخمادهم التمردات اليهودية، وأن هذه القيادة هي التي علَّمت اليهود الخنوع والخضوع وتَقبُّل العجز وأن هذا الوضع قد استمر حتى الحرب العالمية الثانية حين تعاونت المجالس اليهودية مع القوات النازية وسلمتهم أعضاء الجماعات اليهودية ليرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال. ومن ثم، فإن ظهور القيادة الصهيونية (العسكرية) هو تصحيح لمسار التاريخ اليهودي كتاريخ زمني.
رأس الجالوت (المنفى)
Exilarch; Resh Galuta....
«رأس الجالوت» ترجمة عربية للعبارة الآرامية «ريشي جالوتا» ، وهي بالعبرية «روش جولاه» ، وتعني حرفياً «رئيس المنفى» . وهو لقب أمير الجماعة اليهودية في بلاد الرافدين قبل الإسلام وبعده. وتبدأ القائمة عادةً بالملك يهوياقيم، ولكن أول ذكر تاريخي لرأس الجالوت يقع في القرن الثاني بعد الميلاد (في فترة حكم الفرثيين) . وكانت وظيفة رأس الجالوت وراثية، الأمر الذي أدَّى إلى الفساد والتآمر من أجل الاستيلاء عليها، ولكن كان لابد لمن يشغلها أن يكون من نسل داود. وقد فقد المنصب مكانته بعض الوقت، ولكنه استعادها بعد الفتح العربي عام 642م، إلى أن انشقَّ عنان بن داود، مؤسس فريق القرائين. وقد ساد الظن بأن المنصب استمر حتى عام 1040، ولكن العلماء يرون الآن أنه استمر (وإن كان ذلك بشكل اسمي) حتى القرن الثالث عشر أو حتى بعد ذلك، حينما قضى تيمورلنك على المنصب عام 1401، ثم حل محله منصب رئيس اليهود (في الدول الإسلامية) ومنصب الحاخام باشي (في الدولة العثمانية (.
وفي الواقع، فإن وظيفة رأس الجالوت كانت عملاً إدارياً مُعتَرفاً به من قبل الدولة وخاضعاً لسلطانها. وكانت الإمبراطوريات القديمة عادةً تلجأ إلى أسلوب إداري مبني على اللامركزية بحيث كانت كل جماعة (إثنية أو دينية أو مهنية) تتمتع بشيء من الاستقلال في أمورها الداخلية (الدينية أو الشرعية أو التربوية) وتسيِّرها بنفسها، على أن تقوم قيادة الجماعة بجمع الضرائب من الأعضاء وبمراقبة الأمن بينهم. وقد كان مورد رأس الجالوت يأتي من ضرائب خاصة يفرضها. وكان رأس الجالوت يشبه، في منصبه هذا، منصب الكاثوليكوس (رئيس الجماعة النسطورية) ، مع فارق أن رئيس الحلقات التلمودية الذي كان يُقال له «الجاءون» أو «رأس المثيبة» كان يشارك رأس الجالوت في السلطة، بحيث يختصُّ الأول بالأمور الدينية ويختصُّ الثاني بالأمور الدنيوية.
كان رأس الجالوت يقوم بجمع الضرائب من الجماعة ليقدمها إلى الدولة، كما كان يلعب دور القاضي في القضايا الخاصة بالجماعة اليهودية، وهو الذي كان يعيِّن القضاة الشرعيين (ديانيم) ، ويشاركه في ذلك رئيس الحلقة التلمودية (عادةً حلقة سورا) ، الذي كان ذا سلطات تنفيذية تشبه سلطة الشرطة، فكان على سبيل المثال يراقب التجارة والموازين والمقاييس والأسعار. وكان له حق توقيع العقوبات، بالضرب أو الغرامة أو السجن. وهذه هي أهم الوظائف التي كان يمكن أن يضطلع بها رئيس الجماعة الوظيفية الوسيطة.
ولقد كان نطاق سلطات رأس الجالوت يتفاوت من فترة زمنية إلى أخرى. وقد أدَّى ذلك إلى نشوب صراع دائم بينه وبين رئيسي الحلقتين التلموديتين في كلٍّ من سورا وبومبديثا وصل إلى درجة أن بعض اليهود كانوا يرسلون الضرائب المقررة عليهم إلى رأس الجالوت بينما البعض الآخر كانوا يرسلونها إلى رؤساء الحلقات. ومن أشهر هذه الصراعات، ذلك الصراع الذي دار بين داود بن زكاي وسعيد بن يوسف الفيومي. وقد كانت الكفة الراجحة للعلماء الذين كانوا يتحالفون مع التجار، فكانوا هم الذين يعينون رأس الجالوت، ثم يعتمد خليفة المسلمين تعيينهم. وقد أصبح اللقب شرفياً في القرن الحادي عشر. ومع القرن الثالث عشر، اندمج منصبا رأس الجالوت ورئيس الحلقة التلمودية.
وفي فترات معيَّنة، كان الخليفة يستقبل رأس الجالوت في قصره كل ثلاثاء ويطلب إلى كل الحاضرين) المسلمين وغير المسلمين) أن يقفوا في حضرته. وحينما يسير موكبه، كان يتقدمه مناد يرفع صوته بين الناس:«اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود» .
وفي حوار دار بين ابن نجريلة وابن حزم، حاول الأول أن يضخِّم من أهمية هذا المنصب، وحاول أن يبرهن على صدق آية وردت في سفر التكوين (49/8 ـ 11) تقول إن صولجان الحكم سيظل دائماً في يد يهودا (بالإشارة لهذا المنصب!) . وقد رفض ابن حزم ما ذهب إليه ابن نجريلة وبيَّن أن رأس الجالوت لا نفوذ له لا على اليهود ولا على غيرهم، كما بيَّن أنه يفتقر إلى سلطة، كما بيَّن أن لقبه شرفي محض، وخال من أي معنى حقيقي. والمنصب، في هذا، يشبه منصب بطريرك فلسطين تحت حكم الرومان.
المجمع الكبير
Great Synagogue
«المجمع الكبير» هو المقابل العربي للكلمة العبرية «كنيست هجدولا» وهو المجلس التشريعي الذي يُقال إن عزرا أسسه بعد عودته من بابل بعد صدور مرسوم قورش (538 ق. م) . ومعنى هذا أن المجمع الكبير يرجع إلى تلك الفترة الفارسية من تاريخ اليهود في فلسطين والتي لا يُعرف عنها الكثير. لكن هناك نظرية تذهب إلى أنه يعود إلى أيام العبرانيين الأوائل، وأنه استمر في فترة التهجير البابلي، وأن كل ما فعله عزرا هو دعوة المجلس للانعقاد. ولم تصلنا معلومات واضحة أو أكيدة عن هذه المؤسسة التشريعية، ولكن يبدو أنه كان مجلساً يضم ممثلين عن كل اليهود ومنهم الكهنة.
ويُقال إن عدد أعضاء المجمع الكبير كان مائة وعشرين، وهو عدد أعضاء البرلمان الإسرائيلي الذي يُقال له الكنيست. ويُقال أيضاً إن العدد كان خمسة وثمانين في بداية الأمر. ويبدو أن المجلس كان يعقد اجتماعات كلما ظهرت قضية خطيرة، واشترك في المجلس الأول الشيوخ والأنبياء الذين عادوا من بابل، من بينهم عزرا ونحميا وحجاي وزكريا. كما يبدو أن هذا هو المجلس الذي عيَّن شمعون الحشموني كاهناً أعظم وقائداً أعلى، واستمر المجلس حتى الفترة الهيلينية. وقد قرَّر هذا المجمع الثمانية عشر دعاء (شمونه عسره) ودعاء مقدم السبت (قيدوش) وكثيراً من الصلوات والبركات الأخرى. وهو أيضاً الذي قام بتقسيم الشريعة الشفوية إلى مدراش وهالاخاه وأجاداه. وهو أيضاً الذي ضم أسفار حزقيال ودانيال وإستير، وكذلك أسفار الأنبياء الصغار، إلى العهد القديم.
البوليتيوما
Politeuma
«بوليتيوما» كلمة يونانية تشير إلى الإطار الإداري الذي كان ينتظم الجماعة اليهودية في مدن مثل الإسكندرية. وقد اعترف اليونان، ومن بعدهم الرومان، باليهود كقوم (إثنوس) لهم تقاليدهم وعاداتهم وديانتهم. ولذا، فقد أُعفوا من العبادة الوثنية ومن تقديم القرابين إلى الأباطرة أو الاشتراك في الأعياد والمناسبات الوثنية. لكن هذا كان يعني أن اليهود أصبحوا غرباء لا مواطنين كاملي المواطنة، إذ كانت المواطنة في المدينة تعني الانتماء الكامل: اجتماعياً وسياسياً ودينياً أيضاً.
ومن هنا، لم يصبح اليهود، في الإسكندرية أو في غيرها من المدن، أعضاء في المدينة (بوليس) ، فهذا كان يعني بالضرورة الاشتراك في العبادة والجمنازيوم وتلقِّي التعليم اليوناني اللازم. ولذا، فقد مُنحوا مكانة غرباء لهم حق السكنى، كما كانت تنتظمهم مؤسسة البوليتيوما.
وبمقتضى تنظيم البوليتيوما، تمتع اليهود بشيء من الاستقلال الإداري الذاتي في الأمور الدينية والقضائىة، ولكن لم يكن لهم حق المشاركة في إدارة المدينة من الناحية السياسية. وكان لمؤسسة البوليتيوما (ومثلها القهال فيما بعد) موظفوها الإداريون المستقلون عن الجهاز الإداري للمدينة. وكان للبوليتيوما محاكمها الخاصة، كما كان يترأسها رئيس القوم (إثنآرخ) . ومن أشكال الاستقلال الإداري مجلس الشيوخ (جيروسيا) ، وهو المجلس الذي كان يمثل يهود الإسكندرية ويزاحم رئيس القوم السلطة.
وقد ظل وضع اليهود داخل البوليتيوما مستقراً ماداموا يقومون بدور الجماعة الوظيفية للبطالمة. ولكن، مع الغزو الروماني، اختل التوازن وتحوَّل اليونانيون أنفسهم إلى جماعة وظيفية للرومان تزاحم اليهود. وقد أثر هذا في وضع البوليتيوما. فألغى الحاكم الروماني فلاكوس وضع اليهود كغرباء لهم حق السكنى، فأصبحوا غرباء وحسب يمكن طردهم، فاشتكوا إلى الإمبراطور الروماني الذي أنصفهم وأكد وضعهم باعتبارهم بوليتيوما. وقد تزايدت التوترات إلى أن نشب التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م) والتمرد اليهودي الثاني (132 ـ 135م) وضعفت البوليتيوما بوصفها مؤسسة وإطاراً تنظيمياً (كما حدث للقهال فيما بعد) .
ولم تكن البوليتيوما مقصورة على اليهود وإنما كانت شكلاً من أشكال التنظيم الإداري العام. وكانت هناك بوليتيوما في الفيوم تضم الكريتيين.
الملك الروماني (دوكس (
Dux
«دوكس» كلمة لاتينية تعني «ملك» وهو لقب كان يخلعه الرومان على بعض من كانوا يمثلون مصالحهم من زعماء الأقوام (إثنوس) الذين كانوا يحكمونها. وهو لقب شرفي لا يعني أن حامله ملك بالمعنى الصحيح للكلمة، وهو لا يُعطي صاحبه سلطات الملك ولكنه كان يعطيه حق ارتداء تاج! وقد خُلع لقب «ملك» على سبيل المثال على كل من هيرود وأجريبا الأول وأجريبا الثاني. وكان بعض حكام سوريا من الرومان يحملون لقب «دوكس» .
الحاكم التابع (تترارخ (
Tetrarch
«الحاكم التابع» هي الترجمة العربية للكلمة اليونانية «تتراخ» وتعني حرفياً «رأس الأربعة» ولكنها فقدت معناها الأصلي وأصبحت بمعنى «حاكم تابع» ، وهو أقل مرتبة من الملك الروماني (دوكس) . وقد كان لقب «الحاكم التابع» يُمنَح في المرحلة الرومانية للحكام الذين يقلون أهمية عن حكام مقاطعات يهودا وسوريا. وكان الحاكم الروماني هو الذي يُعيِّن الحاكم التابع. وكانت المنطقة التي يحكمها الحاكم التابع تُسمَّى «التتراخية» . وكان للحاكم التابع، داخل مقاطعته، حقوق الملوك في الأمور الداخلية، كما كان له دخل سنوي ثابت، ولكنه كان خاضعاً تماماً لروما في الشئون الخارجية. وقد عُيِّن هيرود في منصب الحاكم التابع قبل أن يُعيَّن ملكاً رومانياً (دوكس) . وقد كانت المقاطعة التابعة شكلاً من أشكال الإدارة الذاتية.
رئيس القوم (إثنآرخ (
Ethnarch
«رئيس القوم» ترجمة عربية لعبارة «إثنآرخ» اليونانية المكونة من كلمتين: كلمة «إثنوس» ، التي يمكن ترجمتها بمعنى «قوم» أو «جماعة» (مقابل «بوبولوس» بمعنى «شعب» ) ، و «آرخ» أي «الرئيس» أو «الحاكم» . وقد صُنِّف اليهود في الدولتين اليونانية والرومانية باعتبارهم إثنوس أي قوم لهم قوانينهم التقليدية وديانتهم التوحيدية التي قرَّرت الدولة الاعتراف بها، وهو ما كان يعني إعطاءهم حقوقاً ومزايا معيَّنة، كما كان يعني حجب بعض الحقوق الأخرى عنهم، إذ لم يكن بمقدورهم أن يصبحوا مواطنين إلا بالتخلي عن انتمائهم لقومهم (إثنوس) وباعتناقهم الديانة الوثنية. وكان يترأس القوم (إثنوس) رئيس القوم وهو باليونانية «إثنآرخ» ، وهو اللقب الذي كان يُمنَح لرئيس الجماعة اليهودية في الإسكندرية. وكانت للإثنآرخ صلاحيات قضائية وإدارية واسعة من أهمها جمع الضرائب. ولكن يبدو أن مجلس الشيوخ (جيروسيا) ، كان يزاحمه في السلطة. وقد حل لقب «الأراباخيس (ألبارخ) » أي ملتزم الضرائب محل الإثنآرخ. وفي العصر الروماني، أحل أوغسطس (31 ـ 14 ق. م) مجلس الألبارخ محل رئيس القوم.
أما في فلسطين، فقد كان رؤساء الجماعة اليهودية يحملون لقب «إثنآرخ» . وكان من يحمل لقب «ملك روماني (دوكس) » أعلى ممن يحمل لقب «إثنآرخ» . وقد عين بومبي يوحنا هيركانوس الثاني في منصب إثنآرخ إلى جانب كونه كاهناً أعظم، ولكنه منعه من ارتداء تاج لأنه لم يكن ملكاً مثل هيرود الذي كان يحمل هذا اللقب. وحينما عُيِّن أرخيلاوس رئيساً للقوم، وعده أوغسطوس بأنه إذا أثبت جدارته فسيحصل على لقب «ملك روماني (دوكس) » وهو لقب شرفي وحسب ولكنه لا يعادل الملك بكل ما في الكلمة من معنى.
مجلس الشيوخ (جيروسيا (
Gerusia
«مجلس الشيوخ» ترجمة عربية لكلمة «جيروسيا» اليونانية والتي تعني أيضاً «مجلس الكبار» . والجيروسيا مؤسسة إدارية معروفة في العالم الهيليني كان يترأسها الكاهن الأعظم لليهود تقوم بإدارة شئون اليهود الداخلية. وقد وصف أنطيوخوس الثالث استقباله استقبالاً حافلاً من قبَل جيروسيا فلسطين وليس من قبَل كاهنها الأعظم. ونتيجة هذا الاستقبال، أعفى أعضاء الجيروسيا وكهنة الهيكل من الضرائب. وقد وجَّه أنطيوخوس الرابع رسائله إلى الجيروسيا لا إلى الكاهن الأعظم.
ويرى بعض المؤرخين أن الجيروسيا ليست المجمع الكبير. وهناك رأي يذهب إلى أن الجيروسيا هي التي أصبحت السنهدرين فيما بعد، وخصوصاً بعد أن اتَّسعت سلطاتها.
وكان يوجد جيروسيا في الإسكندرية، حيث أصبحت المؤسسة المسيطرة أثناء حكم الرومان، وكان يترأسها) الجيروسياآرخ) الذي حل هو والجيروسيا محل رئيس القوم (إثنآرخ (.
السنهدرين الأكبر
Great Sanhedrin
ويُشار إليه بلفظ» سنهدرين» فقط. و «السنهدرين» صيغة عبرية للكلمة اليونانية «سندريون» وتعني «مجلس» . وقد كان هذا الاسم يُطلق على الهيئة القضائية العليا المختصة بالنظر في القضايا السياسية والجنائية والدينية المهمة في المناطق التي كان يعيش فيها اليهود في فلسطين. وكان السنهدرين بمنزلة المحكمة (بيت دين) . ولذا، فإنه يُطلَق عليه بالعبرية اسم «بيت دين جادول» أي «المحكمة العليا» ، وهي محكمة تمارس تطبيق العدالة وإصدار الأحكام طبقاً للشريعة اليهودية في ذلك الوقت، وتشريع القوانين الخاصة بالعبادات ومحاكمة من ينتهك هذه القوانين، وكذلك الإشراف على الاحتفالات الكهنوتية في المعبد. وكان السنهدرين يقوم أيضاً بوظيفة محكمة الاستئناف. والسنهدرين أعلى سلطة قضائية لليهود وله الرأي النهائي في تفسير القوانين وإصدارها. وقد كانت أحكامه تَصدُر بموافقة أغلبية الأعضاء. وكان السنهدرين يشرف على المحاكم الصغرى، كما كان من صلاحياته تعيين القضاة في المحاكم الدنيا سواء في محاكم السنهدرين الأصغر أو في غيرها. وهو الذي كان يحاكم كبار الموظفين، مثل الكاهن الأعظم، ويتحرَّى مدى صدق أو كذب مدعي المشيحانية. وقد كان السنهدرين هو المجلس الذي جمع الحقائق وقدمها للحاكم الروماني حين اتهم اليهود المسيح (عيسى بن مريم) بأنه ليس الماشيَّح المنتظر. وقد حكم المجلس بصلبه. وكان يترأس السنهدرين، في مرحلة من المراحل، الكاهن الأعظم، ولكنه في مرحلة أخرى كان يترأسه الزوجوت، أي رئيسان أحدهما يحمل لقب «ناسي (أمير اليهود) » ويحمل الثاني لقب «آب بيت دين (رئيس المحكمة) » . ومن الرؤساء المشهورين للسنهدرين الكبير، شمعون بن شطح (حوالي عام 100 ق. م) وهليل (حوالي 30 ق. م) . وتختلط الآراء فيما يتعلق بتاريخ ظهور السنهدرين ووظائفه:
1 ـ يذهب بعض الباحثين إلى أن السنهدرين استمرار للمجمع الكبير. وهو هيئة تشريعية لا نعرف عنها الكثير ولا حتى متى ظهرت، إذ تختلف الآراء أيضاً بالنسبة إلى هذه المؤسسة ذاتها.
2 ـ ويرى البعض أنه ظهر أثناء حكم السلوقيين عام 300 ق. م.
3 ـ وثمة نظرية تذهب إلى أنه ظهر أثناء حكم الحشمونيين حين تم فصل المجال السياسي عن المجال الديني وفصل الطقوس الكهنوتية والتفسير الديني عن الحكم المطلق للدولة. وبالتالي، فإن تاريخ ظهور السنهدرين، حسب هذه النظرية، يعود إلى حكم شمعون الحشموني عام 142 ق. م، فيكون هو الذي أسس السنهدرين لتفسير الشريعة.
4 ـ وتناقض هذه النظرية تماماً وقائع التاريخ، فالملوك الحشمونيون كانوا ملوكاً كهنة (كان الملك الحشموني هو قائد الشعب والكاهن الأعظم) . وبذلك، يكون السنهدرين التعبير عن الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية لا الفصل بينهما.
5 ـ كما أن هناك نظرية تذهب إلى أنه يوجد مجلسان للسنهدرين لا مجلس واحد فقط كما سنبين فيما بعد.
وهكذا تختلط النظريات بشأن تاريخ السنهدرين ووظيفته. ولكننا نعرف أنه ظل قائماً حتى عام 66م، أي حتى نشوب التمرد اليهودي الأول ضد الرومان. ولم يكن السنهدرين مثل مجلس الشيوخ (جيروسيا) وإن كان قد حل محله. ولم يكن أيضاً له صلاحيات مجلس المدينة اليونانية (بوليس) ، كما لم يكن مثل المجمع الكبير الذي كان لا يجتمع إلا وقت الأزمات وفي الطوارئ. وكان السنهدرين يتكون من واحد وسبعين عضواً وكان مقرُّه القدس، وكان يجتمع في القاعة العظمى أو في قاعة الحجارة المنحوتة (بالعبرية: لشكت هجازيت) ، ويُقال لها أيضاً «قاعة القرارات» .
وبعد تحطيم الهيكل، انتقل السنهدرين إلى يفنه، ولكن لم تَعُد له السلطة ولا الصلاحية السابقة، بل يفضل بعض المؤرخين تسمية سنهدرين يفنه «البطريركية» التي اعترف الرومان بها كسلطة مركزية لكل اليهود لها الصوت المسموع في الأمور الدينية والقضائية وفي تحديد التقويم وتقرير رؤية القمر.
وباضمحلال أهمية الجماعة اليهودية في فلسطين، بدأ السنهدرين (أو البطريركية) يفقد أهميته، واختفى في نهاية الأمر عندما ألغى الرومان الشرقيون وظيفة أمير اليهود (ناسي ـ بطريرك) عام 415م.
وثمة رأي يقول إن السنهدرين كان هيئة سياسية يترأسها الكاهن الأعظم، وإن كان بعض الباحثين يرى أنه كان يوجد، منذ البداية، مجمعان للسنهدرين: واحد للأمور السياسية وآخر للأمور الدينية. ولم يكن السنهدرين السياسي، بحسب هذا الرأي، يضم رجال الدين ولكن كبار رجال الشعب والأرستقراطية. كما يذهب هذا الرأي إلى أن الرومان ألغوا المجمع الأول وأبقوا على الثاني وحسب. ولعل الهدف من هذه النظرية أنها تلقي مسئولية محاكمة المسيح والحكم بصلبه على السلطة الدنيوية اليهودية وحدها، وتعفي السلطة الدينية من ذلك. ومن الصعب حسم هذه القضية لأن رأي المصادر اليهودية فيها يختلف عن رأي المصادر الهيلينية، فالمصادر اليهودية تقصر مهمته على الأمور الدينية في حين ترى المصادر الهيلينية، ومن بينها يوسيفوس، أنه كان يختص بالأمور السياسية أيضاً. وقد اختفى السنهدرين تماماً في القرن الرابع الميلادي. وحاول بعض الحاخامات (جوزيف كارو وآخرون) بعث السنهدرين ولكنهم لم يُوفَّقوا. ويُدعى أحد كتب التلمود «السنهدرين» ويتناول تركيب المجلس ووظيفته. وقد سُمِّي الاجتماع اليهودي الذي عُقد عام 1807 بناء على طلب نابليون بونابرت «السنهدرين الأعظم» . تَكوَّن هذا الاجتماع من واحد وسبعين عضواً من اليهود ذوي النفوذ، وذلك ليضعوا الصياغات المناسبة للقرارات الخاصة بالحالة الاجتماعية لليهود. وفي العصر الحديث، لم تنجح الدولة الصهيونية في إعادة بعث تقاليد السنهدرين بسبب الصعوبات القانونية والدستورية التي كانت ستقف أمام مثل هذه الخطوة.
دار القضاء (بيت دين)
Beit Din
«دار القضاء» هي الترجمة العربية لكلمة «بيت دين» العبرية والتي تعني أيضاً «دار الحكم» . وهي محكمة يهودية كانت تعمل بهدي الشريعة، تجبي الضرائب وتتولى القضاء وتُصدر القرارات الخاصة بالطعام وبكل الأمور الدينية والمدنية. وكانت توجد ثلاثة أنواع من المحاكم، أدناها المحكمة المُشكَّلة من ثلاثة قضاة وسلطتها الحكم في القضايا المدنية. وكانت هناك سلطة قضائية أعلى تحكم في القضايا الجنائية وهي ما كان يُطلَق عليه السنهدرين الصغير وعدد قضاته ثلاثة وعشرون. أما أعلى سلطة قضائية، فكانت السنهدرين الذي كان يُطلَق عليه أيضاً اسم «بيت دين جادول» أي «دار القضاء الأكبر» أو «المحكمة العليا» .
وبعد انتشار اليهود خارج فلسطين، وبعد إخماد التمرد اليهودي الثاني (132 ـ 135م) ، أصبح لكل جماعة يهودية نظامها القضائي الخاص بها المتأثر بالبيئة المحيطة به. وقد كان النمط السائد عبارة عن نظام قضائي يترأسه الحاخام أو الديان (القاضي الشرعي) وهي وظيفة ظهرت في العالمين الإسلامي والمسيحي. والديان هو قاض متخصص تلقَّى تدريباً خاصاً يُمكِّنه من إصدار أحكام في القضايا الدينية، ولذا كان يُعَدُّ عالماً توراتياً من الناحية الأساسية، وأيضاً عالماً في القضايا الأخرى التي تخص الجماعة اليهودية ولا تخص السلطة المركزية غير اليهودية.
ويرى بعض المفكرين الصهاينة أن احتفاظ اليهود، بعد نفيهم، بنظم قضائية مستقلة (مثل: بيت دين والقهال ومجلس البلاد الأربعة) أكبر علامة على الاستمرار والاستقلال اليهوديين. ولكن معظم المجتمعات التقليدية تتَّسم بوجود محاكم خاصة لكل أقلية دينية بل لكل جماعة حرفية، كما هو الحال مع المحاكم الشرعية في البلاد الإسلامية في أيام الخلافة العثمانية. ولذلك، وبعد حركة عتق اليهود في القرن الثامن عشر، انحسرت مهمة المحاكم اليهودية وأصبحت مقصورة على المسائل الخاصة بالطقوس الدينية. وفي الوقت الحاضر، تشير عبارة «بيت دين» إلى المحكمة الحاخامية أو المحكمة الشرعية، وهي المحكمة المختصة رسمياً والمخولة من قبَل المؤسسة الدينية بأمور الأحوال الشخصية التي لا يحقُّ لأي محكمة أن تنظرها. كما أن الجماعات الأرثوذكسية في الولايات المتحدة أسست بيت دين أي محاكم شرعية لاستصدار أحكام في مسائل الزواج والطلاق والزواج المُختلَط.
بيت دين
Beit Din
» بيت دين» عبارة عبرية تعني «دار الحكم» أو «دار القضاء» ، وتعني «بيت دين» في الوقت الحاضر «المحكمة الشرعية «.
أمير اليهود (ناسي – بطريرك (
Nasi; Patriarch
» أمير اليهود» هي الترجمة العربية لكلمة «ناسي» العبرية، وهو لقب تلمودي يُستخدَم للإشارة إلى رئيس السنهدرين الذي كان يُعَدُّ قائداً روحياً لليهود في فلسطين وخارجها، وكانت له بعض الصلاحيات الدنيوية التي كانت تمنحه إيَّاها السلطة الحاكمة، ولذا فإننا نستخدم اصطلاح «أمير اليهود» . وكان يليه في السلطة رئيس المحكمة (آب بيت دين) وهما معاً يكونان الزوجوت اللذين أتى ذكرهما في المشناه. وثمة نظرية تذهب إلى أن أمير اليهود (ناسي) لم يكن رئيساً للسنهدرين، وأن الكاهن الأعظم هو الذي كان يضطلع بهذه الوظيفة. وقد اقتُرح حلاًّ لهذا التناقض تفسير يرى أنه كان هناك مجمعان للسنهدرين: أحدهما سياسي والآخر ديني، وأن أمير اليهود (ناسي) كان رئيساً للمجمع السياسي وحسب. وقد اعترفت السلطات الرومانية، ابتداءً من القرن الثاني الميلادي، بأمير اليهود كبطريرك لليهود. وقد كان أمير اليهود في العادة من نسل هليل أو من نسل داود، ثم أصبح موظفاً رومانياً يمثل الجماعة اليهودية في فلسطين أمام السلطات الرومانية، وذلك بعد سقوط كل أشكال الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي (عام 70 ميلادية) مع سقوط القدس وهدم الهيكل. وكان أمير اليهود أو البطريرك يُعَدُّ رجلاً مهماً متميِّزاً (باللاتينية: فير إلستريس vir illustris) في مقام القنصل أو كبار رجال الدولة العسكريين أو الوزراء المقربين إلى العرش، لا يعلوه في المرتبة إلا أعضاء الأسرة المالكة، وكان يعلو في مقامه الحاكم الإقليمي. وقد أعدم الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (الأعظم) أحد حكامه الإقليميين لأنه سبَّ أمير اليهود (بطريرك (.
وقد كان أمير اليهود يقوم بفرض الضرائب ويُعيِّن بعض الحاخامات ويعفيهم من الضرائب نظير اضطلاعهم بدور جهازه التنفيذي ومساهمتهم في حفظ الأمن، وهو ما يعني أن النخبة الدينية الحاكمة كانت أداةً في يد الحاكم الروماني أو كانت جماعة وظيفية وسيطة (من الملاحَظ أن منصبي رأس الجالوت [المنفى] ورئيس اليهود [نجيد] ، هما المنصبان المقابلان في الحضارة الإسلامية، ولكنهما لم يحملا هذا القدر من الأهمية قط) . ومع استقرار دعائم الإمبراطورية الرومانية، فقدت النخبة الدينية أهميتها، فألغى الرومان الضرائب التي كان يجمعها أمير اليهود، ثم أُلغي المنصب نفسه عام 425م.
وفيما بعد، استُخدم اللقب بين أعضاء الجماعات للإشارة إلى الرؤساء الدنيويين للجماعة كما هو الحال في إسبانيا. وفي نهاية الأمر، أصبح هذا اللقب مجرد اسم عائلة. وقد اتخذ بركوخبا لنفسه لقب «ناسي» .
البطريرك
Patriarch
انظر:» أمير اليهود (ناسي – بطريرك) »
الناسي
Nasi
انظر:» أمير اليهود (ناسي – بطريرك « (
البطريركية
Patriarchate
مصطلح «بطريركية» يُستخدَم للإشارة إلى المؤسسة التي يرأسها أمير اليهود (ناسي) ، وهي المؤسسة التي حلت محل السنهدرين.
النجيد (رئيس اليهود (Nagid
«نجيد» كلمة عبرية معناها «الزعيم» أو «الأمير» ، وجمعها «نجيديم» . و «نجيد» هو رئيس الجماعة اليهودية في الدويلات الإسلامية التي استقلت عن الخلافة العباسية ابتداءً من القرن العاشر في إسبانيا والقيروان ومصر واليمن. وكان هناك رؤساء في المغرب والجزائر وتونس ابتداءً من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر.
والواقع أن رئيس اليهود هو نفسه «البطريرك» (ناسي) تحت حكم الرومان، و «رأس الجالوت» تحت حكم العباسيين، و «الحاخام باشي» تحت حكم العثمانين. وقد كانت الدولة الإسلامية تُعيِّن رؤساء لكل الجماعات غير الإسلامية لإدارة الشئون الداخلية للجماعة، أي علاقة الأعضاء بعضهم ببعض وعلاقة الجماعة بالدولة. ولأن أهم الوظائف الخارجية هي جمع الضرائب وحفظ الأمن بين أعضاء الجماعة، فقد كان بطريرك الأقباط ونجيد اليهود أو رئيسهم يتم تعيينهم. وقد كان المنصب يتم توارثه أحياناً، وفي أحيان أخرى كان وجهاء الجماعة يرشحون رؤساء لها ثم تُصدِّق الدولة على ترشيحه وتعيينه. وفي مصر، صار المنصب وراثياً بين أولاد موسى بن ميمون إذ شغلوا هذا المنصب لمدة قرنين. وقد كان رئيس اليهود في مصر من الحاخاميين في العادة، ولكن كان عليه أن يعين رئيساً للقرائين وآخر للسامريين (ولكن رئيس السامريين كان يتلقى خطاب تعيينه من الحكومة مباشرة) . وعادةً ما كان رئيس اليهود بمنزلة وكيل يمثل مصالح التجار اليهود في الخارج، وكانت وظيفتا الوكيل التجاري والنجيد يشغلهما شخص واحد تقريباً.
وكان رئيس اليهود، مثل كبار الموظفين، يرتدي الخلعة. وكانت وظيفته تقتضي المحافظة على ترابط الجماعة، والحكم بين أعضائها حسب شريعتهم، والحكم في الأحوال الشخصية وحق الطرد من حظيرة الدين (حيريم) . كما كان من حقه أن يُوقِّع عقوبات مثل الجلد والسجن. وكان يشرف على إقرار تعاليم الدين حسب الشريعة وفتاوى الحاخامات، وعلى تحديد مستويات أعضاء الجماعة وثرواتهم (لتحديد الضرائب) ، كما كان يقوم بالحفاظ على الأمن بشكل عام، وتعيين قضاة شرعيين (ديانيم) في المحكمة الشرعية (بيت دين) . وكان مندوب رئيس اليهود هو المقدَّم.
وقد ظل المنصب قائماً حتى الفتح العثماني، ولكنه أُلغيَ في القرن التاسع عشر وحل محله منصب الحاخام الأعظم الذي كان يتبع الحاخام باشي في إستنبول.
مملكة حدياب اليهودية
Adiabene
«حدياب» إقليم في منطقة نهر دجلة العليا نشأت فيه إمارة تابعة للفرثيين في العصر الهيليني، وقد ذكرها يوسيفوس كما ذكر دولة الأخوين أسيناي وأنيلاي. وكانت هذه الإمارة تقع في منطقة حدودية بين تخوم الرومان والفرثيين وكانت عاصمتها أربيل. كان يحكم حدياب في الفترة بين سنتي 36 و60 الميلاديتين إيزاط وأمه الملكة هيلانة. وقد ازداد نفوذ إيزاط لأنه ساعد الملك الفرثي أرطبان الثالث على استعادة عرشه ولعب دوراً مهماً في الصراعات الدائرة بين أعضاء الأسرة المالكة بعد موت الملك.
ولقد شهدت هذه الفترة جهداً تبشيرياً يهودياً قوياً، وخصوصاً في حوض البحر الأبيض المتوسط ويبدو أنه وصل إلى بلاد الرافدين. فقد تَهوَّد إيزاط أمير حدياب كما تهوَّدت أمه، وتحوَّلت الإمارة إلى إمارة يهودية أو على الأقل إلى إمارة يحكمها أمير مُتهوِّد. ولكن هذا لا يعني بالضرورة تَحوُّل جماهير المملكة إلى اليهودية، وإن كان هناك رأي يذهب إلى أنه كان يوجد بالفعل أعداد كبيرة من اليهود في هذه المنطقة هم بقايا التهجير الآشوري. ويبدو أن بعض الأمراء عارضوا تَهوُّد الأسرة المالكة دون جدوى. وظلت السلالة اليهودية حاكمة نحو ثمانين عاماً حتى غزاها الرومان في عهد الإمبراطور تراجان سنة 115 ميلادية وقضوا عليها.
وقد حاربت قوات من حدياب إلى جانب المتمردين اليهود أثناء التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (68 - 70) . وتجب ملاحظة أن حدياب كانت تابعة للفرثيين وهم القوة العظمى الأخرى في الشرق الأدنى القديم والتي كانت تنافس الرومان وتهاجمهم في فلسطين بالذات. وقد حاول الفرثيون تجنيد اليهود إلى جانبهم ضد الرومان متبعين في ذلك سياسة الإمبراطورية الفارسية. وبرغم وجود علاقات دينية قوية بين الأسرة الحاكمة في حدياب والهيكل، إذ كانت الملكة هيلانة ترسل الصدقات إلى الفقراء في القدس، كما أنها شيَّدت مظلة في اللد بمناسبة عيد المظال وأرسلت هي وابنها العديد من الهدايا إلى الهيكل، رغم كل ذلك فإن ظهور مثل هذه الدويلة واكتسابها صبغة يهودية ورفض أبنائها الهجرة إلى فلسطين تدلُّ على أن الجماعات اليهودية كانت قد بدأت في تكوين مراكز سكانية وثقافية خارج فلسطين لها ثقافتها المستقلة عن الثقافة العبرية الآرامية هناك، كما تدل هذه الأشياء على قوة المركز البابلي لليهودية واستمراريته. وإذا ما وضعنا المركز السكندري (الهيليني) إلى جوار المركز البابلي، وذلك باعتبارهما مركزين للثقافات اليهودية المختلفة، فإنه يصعب الحديث عن فلسطين كمركز واحد. كما أن هدم الهيكل على يد تيتوس (70م) لم يكن سوى تتويج لهذا الاتجاه.
ورغم أن اليهودية كانت في القرن الثاني قد ازدادت انتشاراً في حدياب، فإن المسيحية انتشرت بين صفوف اليهود هناك واعتنقتها أعداد متزايدة منهم كما حدث في مصر وغيرها من الأماكن في حوض البحر الأبيض المتوسط حتى تحوَّلت الأغلبية العظمى إلى المسيحية.
ذو نواس (518-525) ومملكة حمير اليهودية
Dhu Nawas and the Jewish Himyarite Kingdom
يوسف ذو نواس، ويُقال له «المسروق» . وقد أورد المسعودي والطبري وقائع حياته. وذو النواس أحد ملوك حمْير (في جنوب الجزيرة العربية ـ اليمن حالياً) . ويُقال إنه تَهوَّد قبل أن يعتلي العرش (وأضاف اسم يوسف العبري إلى اسمه العربي) ونجح في توحيد أعضاء النخبة الحاكمة ورؤوس العائلات الأرستقراطية في حمْير، من أهمها عائلة ذي يزن. وقد حاول ذو نواس أن يضمن ولاء كل المدن والمناطق التابعة له. ويبدو أنه كان ثمة إحساس عام بأن هناك حرباً وشيكة ستقع بين الفرس والروم (القوتان العظميان آنذاك) وأن الحمْيريين يمكنهم الاستفادة منها. وكانت مملكة حمْير تضم أقلية من اليهود، وكانت تخشى مطامع الدولة البيزنطية والقوة المسيحية في إثيوبيا، كما كان ثمة إحساس بأن المسيحيين يتجهون بولائهم للقوى المسيحية. وبالفعل، استولى الثوار المسيحيون على العاصمة الحمْيرية عام 517. فجمع ذو نواس قواته وأنزل بهم هزيمة ساحقة وحطم كنيستهم كما ألحق الهزيمة بالقوات المسيحية الإثيوبية في العام التالي. وقد شك الملك في ولاء السكان المسيحيين في نجران حيث اندلعت فيها ثورة بالفعل، فهاجمها ونَكَّل بأهلها وذبح منهم المئات أو الألوف (لعل الإشارة في القرآن؛ ق/ 4: 5 هي لتلك الحادثة) . وبدأت حملة في العالم المسيحي ضد ذي نواس وحكمه. وبالفعل، جرد الإثيوبيون حملة عبرت البحر الأحمر (عام 525) . وفي هذه الأثناء، كان التحالف الذي كوَّنه ذو نواس قد تفكك، الأمر الذي أدَّى إلى هزيمته. وقيل إنه ركب فرسه واندفع إلى البحر فابتلعته الأمواج ولم يَعُد. ولكن بعثة ألمانية اكتشفت قبره عام 1931.
لكن وقائع تَهوُّد ذي نواس ليست واضحة تماماً، ولعلها تشبه من بعض الوجوه وقائع تَهوُّد النخبة الحاكمة في مملكة الخزر. ولعل الدافع وراء التَهوُّد هو تَبَنِّي أيديولوجيا مستقلة عن الوثنية العربية وعن أيديولوجيا المسيحية الغازية، وهي أيديولوجيا تستند إلى ديانة توحيدية مرسلة لها كتاب مقدَّس، وهو ما يضفي شيئاً من الهيبة على النخبة الحاكمة. ويبدو أن محاولة مملكة اليمن السيطرة على التجارة قد لعبت دوراً في ذلك، فلعل ذا نواس، ومن تَهوَّد من ملوك حمْير من قبله، كانوا يفكرون في شبكة التجارة اليهودية وكيفية الاستفادة منها. ولعل الحاخامات الذين جاءوا من طبرية للتبشير باليهودية في حمْير قد بينوا له بعض مزايا تَبَنِّي اليهودية من هذا المنظور. ويمكن أخيراً أن نشير إلى أن كلاًّ من مملكة الخزر ومملكة حمْير تتسمان بالحدودية، أي أن كلاًّ منهما تقع في مناطق تفصل بين تشكيلين مختلفين، وهما في حالة مملكة حمْير التشكيل الوثني العربي من جهة والتشكيل الإثيوبي المسيحي الذي كانت تقف وراءه الإمبراطورية البيزنطية من جهة أخرى، وهذه محاولة للتفسير وحسب.
ولكن الثابت تاريخياً أن عدد المتهودين في حمْير كان صغيراً للغاية حتى بين أعضاء النخبة، ومن ثم لم يحدث أي انتشار لليهودية في هذه المنطقة. ويكون من الشطط الحديث عن مملكة حمْير اليهودية، كما يفعل بعض المؤرخين، وخصوصاً أننا لا نعرف الكثير عن مدى عمق يهودية ذي نواس ولا شكل اليهودية التي تبناها، ولا عدد المتهودين من رعاياه، وهكذا. غير أن بعض المراجع اليهودية تتحدث عن مخطَّط طرحه ذو نواس وحاخامات طبرية للاستفادة من الحرب الوشيكة بين الفرس والروم لتأسيس إمبراطورية تمتد من الشام إلى حمْير، وهو مخطَّط ليس له ما يسنده من وثائق أو مصادر على الإطلاق. وفي الواقع، فإن الكثافة السكانية في الشام والجزيرة العربية وفي حمْير ذاتها لم تكن يهودية، ومن ثم فالأحلام الإمبراطورية هنا كانت ولا شك جزءاً من الأحلام المشيحانية. وقد وضع كثير من الكُتَّاب اليهود الدينيين واقعة ذي نواس في إطار قبائل العبرانيين العشر المفقودة.
مجالس يهود وسط أوربا) لاندزيودينشافت (
Landesjudenschaft
«لاندزيودينشافت» كلمة ألمانية تعني «الجماعة اليهودية في البلد» أو «يهود البلد» ، وهو الاسم الذي كان يُطلَق على الجماعات اليهودية ومجالسها الإدارية في وسط أوربا: مورافيا وبوهيميا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا والنمسا. وهي المجالس التي اضطلعت بكثير من الوظائف التي كان يضطلع بها القهال في بولندا والماهاماد في هولندا وغيرها من البلاد. وكان يُوجَد لهذه المجالس مجلس إقليمي في مورافيا وبوهيميا ثم انشق مجلس براغ عنه. ولأنه لم تكن هناك دولة ألمانية مركزية، حيث كانت ألمانيا مُقسَّمة إلى إمارات ودوقيات، فإن هذا الوضع انعكس على نظام الإدارة الذاتية الخاصة باليهود ولم يظهر مجلس إقليمي مركزي على غرار مجلس البلاد الأربعة. وقد كانت هناك مجامع مركزية تُعقَد من آونة إلى أخرى. ولكن بعد عام 1770، مع ضعف خلفاء إمبراطور ألمانيا تشارلز الخامس، قَلَّت هذه الاجتماعات وعُقد آخرها في فرانكفورت عام 1603 ومنذ ذلك التاريخ، أصبح لكل جماعة مجلسها، وأصبحت كل جماعة يهودية مستقلة تماماً عن غيرها حيث كانت شرعية مجلسها لا تتجاوز حدود الإمارة أو الدوقية، بل إن بعض الأمراء كان يمنع رعاياه اليهود من اللجوء إلى محاكم حاخامية خارج إمارته. وحيث إن عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعيشون داخل كل إمارة كان صغيراً، فقد كان اختيار أعضاء المجالس يتم بالتعيين. وقد سيطرت بعض الأسر اليهودية الثرية، وخصوصاً يهود البلاط، على الجماعات اليهودية ومجالسها، كما حدث في كليفس Cleves حين هيمنت أسرة جومبيريز على الجماعة اليهودية فيها زهاء قرن من الزمن. فكان منهم الرئيس (برناس) والوسيط (شتدلان) والحاخام وأمين الصندوق. وفي بعض الأحيان، كان يضطلع بكل هذه الوظائف فرد واحد. ومع هذا، كانت توجد جماعات كبيرة، مثلما كان في فيينا وبرلين وبراغ، يتم اختيار أعضائها بالانتخاب من بين أعضاء الأسر الثرية. وكثيراً ما كان ينشب صراع بين اللاندزيودينشافت
والماهاماد. وقد اختفت معظم هذه المجالس مع تَغيُّر وضع اليهود الطبقي والوظيفي وظهور الدولة القومية الحديثة.
الماهاماد أو الماماد
Mahamad; Maamad
«ماهاماد» كلمة معناها «أئمة المصلين» . من الكلمة العبرية «عماد» أي «وقف» . وهي تشير إلى المجلس الذي كان يتولى قيادة الجماعات اليهودية الإسبانية والبرتغالية السفاردية. ويقابل الماهاماد القهال عند الإشكناز (وإن كان يختلف عنه في أنه لم يكن يقوم بجمع الضرائب) ، كما يقابل مجلس يهود وسط أوربا. وكان عدد أعضاء المجلس سبعة، وأحياناً أربعة فقط، يقوم أحدهم بوظيفة أمين الصندوق.
وقد قامت مجالس الماهاماد في هولندا (أمستردام وروتردام ولاهاي) ، وفي إنجلترا (لندن) ، بل في المستعمرات الهولندية (في كوراساو وسورينام في البحر الكاريبي) . وكانت سلطات الماهاماد شاملة ومطلقة تشكل حكماً للأقلية الثرية التي كان أعضاء المجلس يُختارون من بينها. ففي أمستردام على سبيل المثال، كان أعضاء المجلس السبعة يقومون بتعيين خلفائهم من بين أعضاء الجماعة الذين كانوا يشكلون 20% منها وحسب. ولم يكن من حق العضو الذي يقع عليه الاختيار أن يرفض المنصب الذي يُعرَض عليه وإلا كان عليه دفع غرامة. وهذا ما حدث لإسرائيل دزرائيلي، والد بنيامين دزرائيلي، عندما رفض المنصب الذي رُشِّح له، فوُقِّعت عليه غرامة مقدارها أربعون جنيهاً، فقرر ألا يدفعها وترك الجماعة وتَنصَّر.
وكان لمجلس الماهاماد وزن وثقل وسيطرة كاملة على الحياة الدينية والدنيوية لأعضاء الجماعة اليهودية. فكان المجلس يدير مؤسسات الصدقة والرفاه الاجتماعي ومؤسسات التربية اليهودية. كما كان يمارس الرقابة على الكتب، فلم يكن من الممكن نشر كتاب عبري دون تصريح منه. وماهاماد أمستردام هو الذي منع كتب أورييل داكوستا من التداول، وهو الذي وقع على إسبينوزا العقوبة القاضية بطرده من حظيرة الدين. ومع هذا، كان الماهاماد أكثر اندماجاً في مجتمع الأغلبية من القهال من بعض النواحي. فكان السفارد يتحدثون البرتغالية والإسبانية ويتعلمونهما، وهما لغتان أوربيتان، على عكس الإشكناز الذين كانوا يتحدثون اليديشية، وهي رطانة ألمانية، ولا يجيدون القراءة بالألمانية. وقد أتاح هذا الفرصة أمام السفارد لقراءة الفكر الغربي. كما أنه بحلول القرن الثامن عشر الميلادي، كان معظم اليهود السفارد يعرفون الهولندية. كما سمح الماهاماد لليهود بحضور الحفلات الموسيقية والمسرحيات والأوبرا طيلة العام، على عكس القهال الذي لم يسمح بذلك إلا في مناسبة أو مناسبتين (مثل عيد النصيب) .
وكان الماهاماد يتدخل في كل دقائق الحياة الخاصة بأعضاء الجماعة، فكان يقرر نظام الجلوس في المعبد (حسب السلم الطبقي) . ولم يكن بمقدور الإشكناز أن يُصلّوا في المعبد اليهودي، ولا كان بوسع أي يهودي أن يشتري أو يستأجر بيتاً من يهودي آخر أو ينضم إلى الجماعة إلا بتصريح من الماهاماد. وحتى في الأمور الشخصية، لم يكن أي يهودي يستطيع الزواج أو الطلاق إلا بإذن خاص منه. كما كان المجلس يراقب السلوك الجنسي لأعضاء الجماعة، وكانت هذه قضية مهمة آخذة في التفاقم نظراً لازدحام الجيتو في معظم مدن أوربا ولتزايد العلمنة والتسامح في كثير من المناطق التي تركز فيها اليهود. وقد أدَّى وجود خادمات يهوديات ومسيحيات في منازل أثرياء اليهود وغير اليهود إلى زيادة نسبة الأطفال غير الشرعيين، فكان المجلس يبذل جهداً غير عادي للبحث عن أبى الطفل. وكان يشكل أحياناً لجنة خاصة لهذا الغرض. وقد كان المجلس يراقب أيضاً أزياء أعضاء الجماعة ويرى ما إذا كانت مترفة أكثر من اللازم أو فاضحة.
ولكن يجب إدراك أن هذه السلطة الشاملة لم تكن شيئاً غير عادي في القرن السابع عشر الميلادي، فالحكومات المطلقة مارست سلطات مماثلة على مواطنيها المسيحيين. ولكن الماهاماد مارس، مع هذا، سلطاته بقدر أكبر من التطرف. وربما يعود ذلك إلى سببين أساسيين:
1 ـ تعود أصول الماهاماد إلى شبه جزيرة أيبريا حيث تَشرَّب اليهود السفارد ثقافة إسبانيا والبرتغال رغم أنهم طُردوا منهما وتأثروا بنظام محاكم التفتيش.
2 ـ تجب ملاحظة أن الأقليات تخضع دائماً لملاحظة الأغلبية في الأحوال العادية، وفي كثير من أنحاء أوربا كانت الجماعات اليهودية تحظى بمستوى معيشي أعلى من مستوى الجماهير وهو ما كان يعني أنها كانت مثار حقدها. ولذا، كان على القيادة أن تحاول قدر طاقتها مراقبة أي سلوك استفزازي من جانب أيٍّ من أعضاء الجماعة اليهودية، كأن يُظهر ثروته بشكل مُبالَغ فيه مثلاً. ومن هنا ظهرت قوانين الترف التي تمنع المبالغة في إظهار الثروة، ومن هنا نجد أن ماهاماد هامبورج، على سبيل المثال، منع أعضاء الجماعة من استخدام الزلاقات على الثلج (ويبدو أن ذلك كان يُعدُّ شكلاً من أشكال الترف) حتى لا يستفزوا جيرانهم. وفي حالة الطوارئ، كان على أيٍّ من أعضاء الجماعة أن يحصل على تصريح خاص باستخدام الزلاقة، تماماً مثلما حاول القهال التدخل حتى لا يقع تنافس حاد بين كبار التجار في ليتوانيا وطبقة النبلاء على الامتيازات التجارية والمالية، وهو تَنافُس قد يضر بمصلحة الجماعة ككل. كما أن الجماعات اليهودية كانت، في معظم الأحيان، جماعات وظيفية لابد أن تخضع لعملية ضبط اجتماعي هائلة حتى يتسنى عزل الجماعة عن المجتمع وضمان أداء أعضائها.
وكان أهم ماهاماد هو ماهاماد أمستردام الذي كان يضم أهم جماعة سفاردية. وكان يليه في الأهمية ماهاماد هامبورج. وقد اختفى الماهاماد أو انكمشت سلطاته مع ظهور الدولة القومية وحركة الإعتاق، مثلما حدث للقهال ولكثير من المؤسسات الوسيطة. ولا يزال هناك مجالس ماهاماد بين يهود الولايات المتحدة وإنجلترا من (السفارد (، ولكنها لا تتمتع بسلطاتها القديمة.
القهال
Kahal or Kehillah
«قهال» كلمة عبرية بمعنى «جماعة» ، وهي تشير إلى أعضاء الجماعة اليهودية ككل، كما تشير الكلمة بالمعنى الضيق إلى الهيئة الإدارية أو المجلس الذي كان يدير شئون التجمعات اليهودية المختلفة. وكان ينتظم كل مجالس القهال مجلس البلاد الأربعة. وكانت بولندا مملكة متعددة الجنسيات والديانات، فقد كان ثلث سكانها من غير البولنديين وكانوا يدينون بديانات أخرى غير المسيحية الكاثوليكية. وكما هو الحال دائماً مع الممالك والإمبراطوريات التي تضم مجموعة سكانية غير متجانسة، نشأت أشكال من الإدارة الذاتية تُيسِّر للسلطة الحاكمة عملية جمع الضرائب من أعضاء الجماعات والأقليات وتضمن ولاءهم لها. وقد كان هناك تنظيمات إدارية ذاتية للأرمن والتتار ومختلف أعضاء الجماعات الأخرى. كما كان من حقهم أن يُطبِّقوا شرائعهم فيما يقوم بينهم من منازعات، فكان الأرمن مثلاً يحتكمون إلى الشريعة الخاصة بهم وتُدعَى «الداتاستانا جيرك» ، وقد تُرجمت إلى البولندية حتى تمكن الاستفادة منها أمام المحاكم.
ويستند القهال، كشكل من أشكال الإدارة الذاتية، إلى الميثاق الذي أصدره الملك سيجسموند الأول عام 1501 وتم بمقتضاه تشكيل تنظيم القهال. وكانت كل جماعة يهودية يديرها مجلس قهال يتكون من سبعة أعضاء يتم اختيارهم إما بالتعيين أو بالانتخاب. وكان لابد أن توافق الحكومة البولندية على الأعضاء المنتخبين قبل أن يصبح انتخابهم نهائياً. ولا شك في أن نظام انتخاب القهال كان متأثراً بكون بولندا جمهورية/ملكية. ولكن كلمة «انتخاب» هنا فضفاضة للغاية، فرغم أن أي يهودي كان من حقه أن يشارك في العملية الانتخابية (من الناحية النظرية على الأقل) إلا أن قلة قليلة من الناحية العملية هي التي كانت تشترك في الانتخابات. ففي كراكوف مثلاً، كان الانتخاب يتم بأن يجتمع مجلس إدارة القهال بمستشاريه فيلقي كل واحد منهم بقائمة من تسعة أسماء وتُختار إحدى القوائم بالقرعة، وكان يُطلَق على هؤلاء اسم «الناخبين المرحليين» (حرفياً «ما قبل الناخبين» ) ، ذلك لأنهم كانوا يقومون باختيار خمسة ناخبين هم الذين يقومون باختيار كل أعضاء القهال. وفي عام 1640، أصبح من حق كبار دافعي الضرائب أن يتقدموا بقوائمهم لاختيار الناخبين المرحليين، كما كانت توجد قهالات من حق الأسر الثرية أن ترسل إليها مرشحيها مباشرة ليشغلوا وظائفهم في مجالس القهال دون انتخاب أو قرعة.
وقد أدَّى ذلك في نهاية الأمر إلى سيطرة أقلية من المموِّلين والحاخامات على مجالس القهال والتحكم فيها، شأنهم في هذا شأن معظم المؤسسات السياسية في العصور الوسطى في الغرب، حتى تحولوا في نهاية الأمر إلى طبقة مسيطرة احتفظت بالسلطة في يدها. وبذلت هذه الطبقة جهداً منظماً، وناجحاً في معظم الوقت، في استبعاد العناصر المشاغبة والعوام والغوغاء من العملية التي كان يُقال لها «انتخابية» . وقد تم استبعاد معظم أرباب البيوت في المدن الكبرى وكل سكان المدن الصغيرة وكل سكان الريف رغم أنهم كانوا من دافعي الضرائب. كما استُبعدت كل الطبقات الفقيرة مثل الحرفيين الذين كانوا يمثلون واحداً من أكبر القطاعات المعارضة للقهال. وفي نهاية الأمر، لم يكن يزيد عدد اليهود الذين لهم حق التصويت على 5%، أو حتى 1% في بعض الأحيان، من أعضاء كل جماعة أو تَجمُّع.
وكانت مجالس القهال، في بداية الأمر، تتبع الملك مباشرة دون أن تكون بينهم سلطة وسيطة. ومع ضعف الملكية والحكومة المركزية في بولندا، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأ يسيطر على مجالس القهال كبار النبلاء كما بدأوا يتدخلون في تعيين أو انتخاب الممثلين في المدن التابعة لهم أو حتى في المدن الملكية، ويفرضون عملاءهم ويسيطرون على الجماعة اليهودية.
والقهال تعبير عن كون اليهود يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف معيَّنة (التجارة وجمع الضرائب والربا) يستخدمها الحاكم في استغلال جماعات الفلاحين وفي تحطيم القوى التجارية الصاعدة التي كانت تحقق أرباحاً لصالحها. وكانت مجالس القهال مستقلةً الواحدة عن الأخرى في بداية الأمر، فكان لكل قهال قوانينه ومصالحه وامتيازاته التي يدافع عنها ضد القهالات الأخرى. ثم تم ضمها كلها في إطار واحد هو مجلس البلاد الأربعة. وكانت مجالس القهال تقوم بتنظيم جميع جوانب الحياة اليهودية من الداخل، أي في علاقة اليهود بعضهم ببعض (كالإشراف على الزواج والطلاق والختان والطعام والتعليم وتعيين الحاخامات والقضاة وجباة الضرائب والذابحين الشرعيين) . وكان شيوخ الجماعة، مع الحاخامات، يُكوِّنون محكمة شرعية (بيت دين (يحكمون فيها بين اليهود بمقتضى القانون التلمودي، وكان لهذه المحاكم حق طرد اليهود من حظيرة الدين (حيريم) أو من الجماعة. وكانت مؤسسة القهال تنظم حياة اليهود كجماعة اقتصادية/دينية وسيطة في علاقتها بالعالم الخارجي. ولكن مهمتها الأساسية ظلت جمع الضرائب من المحكومين لصالح الحاكم.
وكان لكل قهال قواعده الخاصة (تاقانوت) وامتيازاته وحقوقه التي يدافع عنها ضد يهود المدن المجاورة، وخصوصاً حق حظر استيطان الأجانب (اليهود وغير اليهود) بينهم. ويمكن القول بأن القهال، بانقسامه واستقلاله، هو المؤسسة الإشكنازية التي تلائم النظام الإقطاعي الغربي غير المركزي، واستقلاله يشبه في تركيبه المقاطعة الخاضعة لسلطة حاكم أو قاض في المدن الألمانية في العصور الوسطى في الغرب. ولعل هذا التشابه يعود إلى أن يهود بولندا تعود أصولهم إلى المدن الألمانية، كما أن المدن البولندية قد تم تطبيق القانون الألماني عليها.
وكانت لجنة القهال تتكون من الموظفين التالين:
1 ـ الرؤوس أو رؤساء المجلس. باللاتينية: سنيوريس seniores. ومفردها «سنيور» ، وهي تساوي كلمة «بارناس» في العبرية، وجمعها «برناسيم» أو «روش» وجمعها «روشيم» . وكان يشكلها في البداية شيوخ الجماعة، ولكن الوظيفة أصبحت، فيما بعد، بالتناوب. وكان الرئيس يتمتع بنفوذ واسع لأنه كان بوسعه التأثير في المحاكم وفي حجم الضرائب وفي كل موظفي القهال. وهو الذي كان يقرر ميزانية القهال في فترة خدمته، ويقرر القروض، ويوقع على كل الوثائق الرسمية باسم الجماعة. وإذا كانت الجماعة توجد في مدينة، ويتعين تحديد عدد التجار اليهود المسموح لهم بالاتجار، فإن القهال كان يقدم قائمة باسم التجار الذين يحق لهم السكنى في المدينة والقيام بأعمالهم. وكثيراً ما كانت الصلاحيات تتحول إلى ديكتاتورية غير مقنعة. وكانت هناك حالات يرفض فيها السنيور أن يترك وظيفته حينما تنتهي مدة خدمته ويستمر يشغلها عدة سنوات بتشجيع من كبار الموظفين البولنديين المسئولين عن اليهود مثل الحاكم الملكي (فويفود) .
2 ـ الرجال الخيِّرون. باللاتينية: بوني فيري boni viri. وبالعبرية «طوفيم» (الطيبون) . وكان عددهم في العادة سبعة يشكلون مجلس إدارة القهال، كما أنهم كانوا مسئولين عن دفاتر القهال وخزانته.
3 ـ المستشارون أو أعضاء القهال. وكانوا يكوِّنون لجاناً، من أهمها: لجنة الإحسان، ولجنة المراقبين على الديون والحساب، ولجنة شيوخ السوق الخاصة بفحص الموازين، ولجنة نظافة شوارع الجيتو والشتتل وحراسته، ولجنة الذبح الشرعي، ولجنة النزاعات بين أصحاب العمل والموظفين، ولجنة المدرسة، ولجنة المعبد، ولجنة افتداء الأسرى (بعد انتفاضة شميلنكي) ، ولجنة الصدقات لفلسطين لتمويل إقامة اليهود الذين يستوطنون فلسطين للتعبد، ولجنة رؤساء نقابات الحرفيين اليهود.
4 ـ كان القهال يضم أيضاً بعض شاغلي الوظائف الأساسية مثل القضاة والمراقبين الذين كانوا يقررون مقدار الضرائب الواجب على كل فرد دفعه.
وكانت تتبع القهال مجموعة من الموظفين يتقاضون أجراً من أهمهم الحاخام. ورغم أن القانون البولندي منحه سلطات ضخمة، فقد كان المسئول (نظرياً) عن تنفيذ قرارات القهال وضمان سلامة الانتخابات، كما كان يترأس القضاة في اجتماعاتهم ويمنح الألقاب المختلفة مثل «حابير» و «مورينو» ، وهو أيضاً الذي يقرر متى ينبغي طرد شخص من حظيرة الدين، فإنه كان من الناحية الفعلية خاضعاً تماماً لرئيس القهال ومجلس إدارته. وكان يُوجَد، إلى جانب الحاخام، رئيس المدرسة التلمودية العليا (يشيفا) ، وواعظ الجماعة (درشان) والقاضي (ديان) ، وكثيراً ما كان يضطلع شخص واحد بكل هذه الوظائف.
وهناك أيضاً كاتب المدينة الذي كان يدير شئون القهال اليومية ويعمل بالتعاون مع كاتب اليهود وهو مسيحي بولندي كان يقوم بترجمة رسائل القهال للمدينة. وكان الكاتب هو أيضاً الوسيط (شتدلان) بين الجماعة والمدينة، وقد تطورت وظيفته فيما بعد وأصبحت من أهم الوظائف. وكان صغار موظفي القهال يسمون «سكولاي منيستر scholae minister» باللاتينية و «شكولنك szkolink» بالبولندية و «شماس» بالعبرية. وهؤلاء كانوا يضمون الممرضات وحرس البوابة وجامعي الضرائب وخادم (شماس) المعبد.
وكانت مصاريف القهال تتكون أساساً من المرتبات التي يدفعها لموظفيه. كما كان عليه أن يقدم الهدايا لكبار موظفي الحكومة البولندية حتى يمكن تسيير أمور الجماعة. فكانت الجماعة اليهودية في كراكوف على سبيل المثال تدفع هدية سنوية للحاكم الملكي، ولقاضي اليهود المسيحي المعيَّن من قبَل المدينة للحكم في المنازعات بين اليهود والمسيحيين، ولكاتب اليهود، ولرئيس شرطة المدينة. وكان علىهم أيضاً أن يطعموا الحيوانات في حديقة الملك. كما كان على بعض القهالات أن تدفع مبالغ من المال من قبيل المساعدة للكنيسة والطلبة وأن تزودهما أحياناً بالمؤن. وكان على القهال كذلك دفع ضريبة مقابل عدم قيام اليهود بالخدمة العسكرية أو تزويد الجنود بالمأوى. وكان على القهال أن يؤدي الضريبة المفروضة على الجماعة من قبَل الحكومة. ولذا، كان عليه أن يفرض ضرائب مباشرة على كل شخص (ضريبة الملكية وضريبة الرأس وضريبة القهال) . ومع تَدهور الوضع الاقتصادي للقهال، أخذت هذه الضرائب في التزايد حتى أصبحت تُفرَض على ضروريات الحياة (ويُطلَق عليها «ضرائب السلة» ) ، وكان يُمنَح امتياز جمعها من خلال مزاد عام الأمر الذي كان يعني تَزايُد الضرائب دائماً.
وقد بدأ تداعي القهال، كمؤسسة إدارة ذاتية، في أوائل القرن الثامن عشر بعد انتفاضة شميلنكي ضد الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا وهي الانتفاضة التي اكتسحت الجماعة اليهودية ومؤسساتها فيما اكتسحت من مؤسسات. وظهرت التوترات الاجتماعية داخله بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية الشاملة في بولندا، إذ أن أعضاء الأقلية المسيطرة على القهال كانوا، كما هو متوقع، يؤثرون مصالحهم على مصالح الجماهير، ويحاولون أن يهربوا من استغلال الحاكم عن طريق تحميل معظم العبء على من هم دونهم في السلم الطبقي والاجتماعي. وقد أصبح القهال، بعد قليل، وسيلة قهر فقراء الجماعة اليهودية بدلاً من كونه مؤسسة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وسادت المصالح الشخصية وسيطرت الشخصيات الطموحة الجشعة ذات النفوذ. وكثيراً ما كانت تباع وظيفة الحاخام ووظيفة القاضي. لذا، كان من المتوقع أن يتقبل القاضي الرشاوي. وأُهملت الإدارة تماماً، الأمر الذي أثر في موارد القهال المالية. وحتى منتصف القرن السابع عشر، كان بوسع مجالس القهال المختلفة أن تفي بالتزاماتها المالية، ولكن وضعها تدهور بتدهور بولندا مالياً، إذ كان على القهال أن يدفع الرشاوي العديدة ويقدم الهدايا لكبار الموظفين لضمان أمنه. وزادت ديون الجماعات اليهودية زيادة رهيبة في القرن الثامن عشر حتى أن بعض الجماعات فشلت في سد أصل الدين واكتفت بدفع الفوائد عليه وحسب. ومن هنا، ضعفت سلطة القهال وبالتالي سلطة مجلس البلاد الأربعة. وفي عام 1764، قرر البرلمان البولندي أن ضريبة الرؤوس المفروضة على اليهود لن تُجمَع من خلال مجلس البلاد الأربعة وإنما من خلال مجالس القهال الفردية، وهو ما كان يعني أن الإطار التنظيمي للقهالات قد انفرط تماماً وأن مجلس البلاد الأربعة أُلغي تماماً. ومع صدور مرسوم عام 1822، تم حل القهال تماماً وحلت محله مجالس التجمعات الدينية (الأبرشيات) لإدارة الأمور الدينية والخيرية. وكان كل مجلس مكوناً من الحاخام ومساعده أو ممثل عنه وثلاثة مديرين منتخبين. واستمر هذا الإطار حتى عام 1916 وتولت الدولة كل مهام القهال الأخرى.
وفي عام 1919، أُسست مجالس القهال مرة أخرى، ولكن أُعيد تعريفها كجماعة مستقلة يكون الانتماء إليها اختيارياً ويترأسها مجلس مركزي. ولم يكن للقهال أية سلطة من السلطات القديمة، وإنما كان تنظيماً ينسق بين كل الجماعات اليهودية في بولندا، شأنه شأن التنظيمات المماثلة في الدولة القومية الحديثة.
وقد سقط القهال، مثلما سقط الجيتو ومنطقة الاستيطان اليهودي والشتتل، وذلك بسبب التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي كانت تخوضها مجتمعات شرق أوربا، وبسبب ظهور حركيات اقتصادية جديدة تنحو نحو توحيد السوق القومية والاستغناء عن الجماعات الوظيفية الوسيطة. وكان سقوط القهال مرتبطاً أيضاً بالحركيات الخاصة بالمجتمع البولندي وأزمته السياسية والاقتصادية العامة، والتي تفاقمت ابتداءً من مستهل القرن السابع عشر، الأمر الذي أدَّى إلى تصفية كل الجيوب الإثنية والدينية التي كانت تتمتع بحق الإدارة الذاتية التي خلَّفها النظام الإقطاعي. ولكن المؤرخين الصهاينة يشيرون إلى القهال، والمؤسسات الإقطاعية الأخرى، باعتبار أن ذلك أكبر دليل على الاستقلال القومي لليهود عبْر تاريخهم، وهو استقلال عبَّر عن نفسه في أشكال مختلفة مثل السنهدرين والجيتو. ولكن تنظيم القهال لا يختلف كثيراً عن العديد من التنظيمات الحرفية والطبقية في العصور الوسطى، ذلك لأن المجتمع الزراعي يتسم بالجمود والهرمية الحادة في تنظيمه الاجتماعي والحضاري.
وقد أسس النازيون، بعد غزوهم بولندا، نظاماً يشبه في كثير من الوجوه مؤسسة القهال مثل جيتو وارسو (أو غيره من الجيتوات) التي كانت تتمتع بقسط وفير من الإدارة الذاتية والاستقلال الاقتصادي والثقافي. ولا شك في أن المفكرين الصهاينة، وقد جاء عدد كبير منهم من بولندا وروسيا، كانوا متأثرين بتجربتهم في الشتتل والقهال وهم يرسمون ملامح المجتمع الصهيوني.
مجلس البلاد الأربعة
Council of Four Lands
«مجلس البلاد الأربعة» ، ويُسمَّى بالعبرية «فاعد أربعا أراتسوت» ، هو الإطار الإداري ليهود بولندا الذي كان يضم كل مجالس القهال المحلية، وهو في الواقع أعلى أشكال الإدارة الذاتية التي تمتع بها اليهود في أوربا. وقد تم تأسيسه نحو عام 1580. والبلاد الأربعة هي أقاليم بولندا الأربعة: بولندا الكبرى (بوزنان) ، وبولندا الصغرى (كراكوف) ، وأوكرانيا (فولينيا) ، وروسيا الحمراء (جاليشيا) .
ومن المعروف أن تركيب الجماعات اليهودية في الغرب يشبه المجتمع الغربي الذي لم يعرف السلطة المركزية أو الدولة القومية منذ عصوره الوسطى. ولذا، كانت كل جماعة يهودية متمركزة حول المعبد داخل الجيتو الخاص بها. ولكن، مع نهاية القرن السادس عشر، حدثت بعض التطورات الاقتصادية، إذ أن النظام المالي الغربي كان قد بدأ يتوسع ويصل بأطرافه إلى العالم بأسره. ولم يكن هناك نظام مالي عالمي، كما أن بولندا كانت من أهم الدول المصدرة للأغذية إلى أوربا في ذلك الوقت، فنشأت شبكة مالية عالمية من النخب المالية اليهودية المختلفة كان يهود الأرندا واحدة من أهم حلقاتها. كما أن الفترة نفسها شهدت تَراجُع سلطة الملك في بولندا وقد توقَّف عن التدخل في عملية تعيين حاخام ليهود بولندا عام 1551. ثم توقَّف الملك عام 1569 عن تعيين رؤساء الجماعات اليهودية في لفوف، وأعطى اليهود حق انتخاب المجالس التي تحكمهم. ثم صدر مرسوم يمنع حكام المدن البولندية من إصدار أحكام أو فرض عقوبات على أعضاء الجماعات اليهودية. وتزايدت إلى جانب هذا أعداد أعضاء الجماعات اليهودية في بولندا. وقد أدَّت كل هذه العوامل إلى تأسيس المجلس عام 1581. وكان المجلس (فاعد) ينعقد بشكل غير رسمي وغير ثابت في بداية الأمر. ولكن اجتماعاته اتخذت صيغة ثابتة مع نهاية القرن السادس عشر.
وانضمت إليه فيما بعد قهالات ليتوانيا التي استقلت بعد ذلك (عام 1623) وانتظمها مجلس مستقل. ولم تكن العلاقة حميمة بين المجلسين دائماً، إذ ظهر بينهما الكثير من التوترات. فعلى سبيل المثال، كان مجلس بولندا يرى أن مجلس ليتوانيا لا يساهم بالقدر الكافي في الأعباء المالية. كما اختلف المجلسان حول المدن الصغيرة الموجودة على الحدود، وحول أحقية كل منهما في تمثيلها، وكذلك بشأن الحقوق التجارية لكل منهما. وأخيراً اختلفا حول قضية أساسية هي قضية الأرندا، فقد قرر مجلس البلاد الأربعة أن يمنع اليهود من شراء حق جمع ضرائب الجمرك واستغلال مناجم الملح، ذلك لأن النبلاء البولنديين أنفسهم كانوا يطمعون في تحصيل هذا الريع وإن حاول التجار اليهود منافستهم فإنهم قد يلحقون الأذى بالجماعة ككل. ولكن هذه التوصية لم تنفذ على الإطلاق. كما أن منطقة بولندا الكبرى، الممثلة في مجلس البلاد الأربعة، كان لها رأي مخالف. أما مجلس ليتوانيا، فقد أصر على ضرورة أن يظل جمع ضرائب الجمارك في أيد يهودية (ويبدو أن أعضاء المجلس قد تقاضوا مبلغاً من النقود من بعض المقاولين الذين كانوا يقومون بالحصول على امتياز جمع ضرائب الجمارك) .
والتنظيم الإداري للمجلس هرمي، توجد في قاعدته مختلف مجالس القهال في كل تجمُّع يهودي. وكانت كل مجموعة من القهالات تتبع مجالس المدن التي تتبع بدورها مجالس الأقاليم. وقد أصبحت هذه الأقاليم ثمانية ثم أصبحت اثنى عشر إقليماً فيما بعد، ومع هذا احتفظ المجلس باسمه. ولم يكن المجلس يضم مندوبي الأقاليم وحسب، وإنما كان يضم كذلك مندوبي بعض المدن المستقلة. وكان عدد المندوبين عشرين مندوباً في القرن السابع عشر وأربعين في القرن الثامن عشر. وكانت مجالس الأقاليم (مفرده بالعبرية: فاعد هاجليل) تشبه مجالس البرلمان (سييم) الإقليمية التي تُسمَّى «سييميك» ، وهي في علاقتها بمجلس البلاد الأربعة تشبه علاقة هذا الأخير بمجلس السييم أو البرلمان. وكان مجلس البلاد الأربعة يضم جهازين أو مجلسين: مجلس رؤوس المدن (بالعبرية: راشي هامدينوت) ، وهو مجلس شيوخ المناطق، ومجلس قضاة البلاد (بالعبرية: دياني هاأرتسوت) ويضم حاخامات الجماعات الأساسية. وكان المجلسان يجتمعان أحياناً معاً.
وكان بناء المجلس يتكون من:
1 ـ رئيس المجلس.
2 ـ أمين الصندوق والسكرتير الأول.
3 ـ الوسيط (شتدلان)
4 ـ كاتب المجلس.
5 ـ مقدِّري الضرائب.
وكان المجلس يجتمع مرتين كل عام في الأسواق السنوية أو في البلد الذي كان يقيم فيه وزير المالية البولندي. وكان اختيار أعضاء المجلس يتم بالانتخاب بالمعنى الفضفاض للكلمة، فلم تكن تشترك أغلبية يهود بولندا الساحقة في هذه الانتخابات. ويُقال إنه، في الفترة الأخيرة من تاريخ المجلس، لم يكن يزيد عدد المشتركين في الانتخابات على نسبة ضئيلة تصل إلى حوالي 1.1% (بل بلغت 0.7% في ليتوانيا) .
وكانت وظيفة المجلس الأساسية الإشراف على التجارة اليهودية، وتحديد نسبة الفوائد للمرابين اليهود، وتحديد السياسات المالية والاقتصادية لأعضاء الجماعة. وكان من أهم أنشطته في هذا المضمار محاولة تقليل حجم التنافس بين يهود الأرندا في محاولة الحصول على امتياز استئجار الضياع. فكان المجلس يؤيد حق أي يهودي استأجر ضيعة لمدة ثلاث سنوات في أن يجدد عقد استئجاره دون منافسة، بل كان المجلس يؤيد حق الأبناء في أن يرثوا العقد. وكان المجلس يقوم بجمع الضرائب من المناطق كافة باعتبار أن الجماعة اليهودية تشكل وحدة مالية مستقلة داخل الدولة البولندية، كما كان يسوي النزاعات بين اليهود. أما النزاعات بين اليهود وغير اليهود، فكانت تنظر فيها السلطات البولندية. وكان المجلس في منزلة محكمة استئناف وهيئة تشريعية وإدارية. كما كان المجلس يشرف على التعليم اليهودي والأمور الدينية، وكذلك على تعيين الحاخامات والقضاة وجباة الضرائب والمدرسين والذابحين الشرعيين.
وخلال القرن الثامن عشر بدأ هذا النظام في الضعف بتآكل النظام السياسي والاجتماعي في بولندا، وانهياره التام في نهاية الأمر. وبظهور طبقات جديدة من يهود بولندا، لم تَعُد هذه الطبقات تأخذ بالإطار القديم. وبازدياد الجماهير اليهودية فقراً، أصبح من الصعب جمع الضرائب منها. كما أن الأمراء البولنديين الإقطاعيين كانوا دائمي التدخل في شئون المجلس للدفاع عن محاسيبهم من اليهود. وقد تحوَّل مجلس القهالات إلى مؤسسة لابتزاز اليهود عن طريق اليهود أنفسهم، فكان أثرياء اليهود المتحكمون في هذه المؤسسة أداة طيعة في يد الحاكم البولندي، كما أن الجماعات اليهودية الكبيرة المهيمنة على المجلس كانت تحاول فرض نصيب أكبر من الضرائب على الجماعات الصغيرة. ولذا، فقد رفضت مجموعة من الجماعات في ليتوانيا عام 1721 دفع الضرائب التي فرضها المجلس بل اشتكت إلى الحكومة. وفي عام 1764، قررت الحكومة البولندية جمع الضرائب مباشرةً من كل جماعة يهودية حسب حجمها، وبالتالي سقط مجلس البلاد الأربعة وما تسميه الكيانات الصهيونية «الحكم الذاتي» ، والذي يمكن أن نسميه إطار الإدارة الذاتية للجماعة اليهودية في بولندا الإقطاعية. وقد استمرت مجالس القهال في نشاطها لبعض الوقت بدون إطار تنظيمي واحد إلى أن ُحلَّت هي الأخرى عام 1822.
سافاناه اليهود في سورينام
Joden Savanne in Surinam
«سورينام» جمهورية مستقلة، كانت تدعى في الماضي «جيانا الهولندية» حيث كانت تابعة لهولندا. وهي تقع، في أمريكا الجنوبية، بين جيانا البريطانية والبرازيل وجيانا الفرنسية، ويحدها من الشمال المحيط الأطلنطي.
وقد وصل إليها الأوربيون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما وصل إليها بعض أعضاء الجماعات اليهودية من البرازيل وهولندا عام 1639. ثم وصلت جماعة أخرى من اليهود من إنجلترا عام 1652 تحت رعاية أحد اللوردات الإنجليز، ووصلت مجموعة ثالثة تحت قيادة جوزيف نونيز دي فونسيكا. ويشكل الاستيطان اليهودي في سورينام أول هجرة يهودية إلى العالم الجديد. وكان معظم هؤلاء من اليهود المارانو (السفارد) . وقد أسسوا مزارع السكر التي تعتمد أساساً على العبيد السود المخطوفين من أفريقيا في سياق ما كان يُسمَّى «المثلث اللعين» إذ كانت السفن الأوربية تحمل البضائع، كالأسلحة والبارود والمشروبات الروحية الرخيصة والحلي، من أوربا إلى الساحل الأفريقي فتفرغها، ثم تحمل العبيد الذين كانوا يُنقلون إلى مزارع السكر في الولايات المتحدة وجزر الكاريبي ويباعون هناك، وكانت السفن الفارغة تحمل المنتوجات الاستوائية كالسكر والنيلة والصمغ والقهوة إلى أوربا، وهكذا. وكان يوجد مثلث آخر لم يكتسب الأهمية إلا في منتصف القرن الثامن عشر. فكان تجار نيو إنجلند يرسلون شراب الروم الكحولي إلى أفريقيا ويبادلونه بالعبيد ويبحرون إلى جزر الهند الغربية حيث كانوا يبيعون العبيد ويشترون عسل قصب السكر اللازم لصناعة الروم ثم يتجهون لبلادهم. وقد كانت مزارع السكر ذات أهمية كبرى بالنسبة لاقتصاد المستعمرة واقتصاد إنجلترا. ولذا، تم تشجيع اليهود على الاستيطان وكُفلت لهم حرية العبادة عام 1665، ثم مُنح كل المستوطنين اليهود في سورينام الجنسية الإنجليزية. ولكن الهولنديين قاموا بضم سورينام، عام 1667، بمقتضى معاهدة بريدا، مقابل تنازلهم عن حقوقهم في نيو أمستردام (نيويورك) لإنجلترا. ومع هذا، استمر المستوطنون اليهود في حياتهم، وفي امتلاك المزارع والعبيد. وحينما حاول بعضهم مغادرة سورينام، عام 1674، أرغمهم الهولنديون على البقاء بسبب نفعهم وأهميتهم الاقتصادية.
وكان من أهم مراكز اليهود في سورينام مستوطنة يودين سافانا، ومعناها «سافاناه اليهود» ، التي تأسَّست عام 1670 والتي كانت تقع على بعد عشرة أميال من باراماريبو أكبر مدن سورينام في بريزدنتس أيلاند (جزيرة بريزيدنت أو الرئيس) في وسط الغابات.
وكانت الجماعة الاستيطانية اليهودية في هذه الجزيرة شبه مستقلة. وقد استخدموا العبيد السود في شق الطرق وإزالة الغابات والأعشاب وفي العمل في المزارع، كما أسسوا مدينة محاطة بالطرق الجديدة. وقد بلغ عدد سكانها أقل من عشرة آلاف نسمة عام 1719، تسعة آلاف من العبيد المجلوبين من أفريقيا، و520 يهودياً (نصفهم من أصل ألماني إشكنازي والنصف الآخر من أصل برتغالي المبذول لإحباط ثورات العبيد ابتداءً من 1692، وانتشار مرض الملاريا، أديا في نهاية الأمر إلى انتصار السود عليهم عام 1774. ثم شب حريق فيما تبقَّى، فلم يبق من آثار اليهود سوى شواهد قبور عليها كتابات بالعبرية.
ومستوطنة يودين سافاناه مرحلة انتقالية بين الجماعة الوظيفية الاستيطانية (التي تتمتع بحق الإدارة الذاتية) والدولة الوظيفية الاستيطانية (التي تتمتع بالاستقلال السياسي) . ومع هذا ثمة نقاط تشابه عديدة بين تجربة سافاناه اليهود والمستوطنين الصهاينة، من بينها أن كلاًّ من المستوطنين الصهاينة وسافاناه اليهود استوطنوا خارج أوربا تحت رعاية أكثر من دولة أوربية واحدة: إنجلترا ثم هولندا في حالة سورينام، وإنجلترا ثم الولايات المتحدة في حالة فلسطين. كما أن كلتا الجماعتين الاستيطانيتين كانت منقسمة وبحدة إلى سفارد وإشكناز يتصارعون فيما بينهم، وكذلك كانت كلتا الجماعتين مرفوضة من قبَل أعضاء المجتمع المُستهدَف استغلاله: العبيد السود المُستجلَبين والسكان المحليين في سورينام، والفلسطينيين العرب في فلسطين. وقد انتصر السود على سافاناه اليهود، أما في فلسطين فإن المعركة مازالت دائرة بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال الإسرائيلي.
بيروبيجان
Birobidjan
«بيروبيجان» مقاطعة سوفيتية ذات حكم ذاتي خُصِّصت لليهود، وتقع في شرق سيبريا خلف نهر «مامو» الذي يفصل بين الاتحاد السوفيتي ومنشوريا، وتبلغ مساحتها 37 ألف كيلو م. تر مربع، وقد اشتُق اسمها من فرعي النهر «بيرو» (والتي تُنطَق أيضاً «بيرا» ) و «بيجان» . وهي تحوي منطقة سهلية صالحة للزراعة، ومنطقة جبلية تضم غابات كثيفة غير مستغلَة تتوافر فيها أنواع ثمينة من الأخشاب. كما توجد فيها حيوانات ذات فراء. وتضم المنطقة ثروات معدنية أبرزها الفحم والزئبق والنحاس والحديد والذهب والمرمر والأحجار شبه الكريمة. وفي المنطقة كميات وافرة من مياه الري، وفيها نحو مائتي نهر كبير وصغير بالإضافة إلى البحيرات.
وأكبر مدن المنطقة هي العاصمة. وقد كانت المنطقة تُسمَّى «كوخوتكايا» (وربما تعني «المكان الهادئ» ) وهي تُدعَى الآن «بيروبيجان» . وقد كانت عام 1928 محطة قطار صغيرة على سكة حديد سيبريا، وأصبحت عام 1931 قرية، ثم صارت مدينة.
وأقرب المدن الكبيرة (في الشرق الأقصى السوفيتي) إلى بيروبيجان هي خابازروفسك التي تبعد عنها 173 كيلومتراً، وهي عاصمة الإقليم الذي تتبعه بيروبيجان، أما المسافة بين موسكو وبيروبيجان فهي 8361 كيلومتراً. وقد وقع اختيار الحكومة السوفيتية على بيروبيجان عام 1928 لتشجيع التوطن اليهودي في الإقليم بهدف زيادة تَكيُّف اليهود مع النظام السوفيتي الجديد. وكذلك كان من بين أهداف السوفييت من المشروع اعتبارات إستراتيجية تتمثل في زيادة الكثافة السكانية في المنطقة المجاورة للحدود مع الصين واليابان، وتعمير كل أرجاء روسيا وخصوصاً الأطراف. لكن توطين السكان في هذه المنطقة كان إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجهها الحكومة المركزية الروسية سواء أثناء حكم القياصرة أو في حكم البلاشفة. كما كانت هناك اعتبارات سياسية تتمثل في إحباط دعايات العناصر اليهودية المعادية للسوفييت، وكسب تأييد اليهود في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة في ظل اتجاه سوفيتي عام لتحسين العلاقات مع الغرب في تلك الفترة.
ونظراً لكل هذه الاعتبارات، قررت القيادة السوفيتية أن تمنح اليهود إقليماً خاصاً بهم حيث يكون بمقدورهم أن يطوروا ثقافتهم وتقاليدهم الخاصة في إطار قومي ومحتوى اشتراكي، فيصبح مركزاً للثقافة اليهودية (اليديشية) ومجالاً لتحقيق هوية اليهود باعتبارهم أقلية قومية شرق أوربية، أو قومية يديشية، الأمر الذي يتفق مع صيغة البوند ودبنوف أكثر من اتفاقه مع أطروحات لينين. وقد تم تشكيل جهازين للإسراع في تنفيذ المشروع، وصدر مرسوم مارس 1928 متضمناً تخصيص جميع الأراضي في منطقة بيروبيجان للمستوطنات اليهودية مع منح المنطقة صفة «دائرة قومية يهودية» رغم أنها لم تكن تضم أي يهود آنذاك. كما نص المرسوم صراحة على أن المنطقة ستتحوَّل إلى مقاطعة يهودية ذات حكم ذاتي إذا ما سار التَوطُّن اليهودي بنجاح فيها.
وفي القانون السوفيتي، تُعتبَر المقاطعة ذات الحكم الذاتي وحدة إدارية تتمتع بشيء من الكيان الذاتي، والمفروض أنها تمثل كياناً مستقلاًّ لمنطقة معينة تحوي سكاناً من قومية واحدة لا يكفي عددهم لتأليف جمهورية مستقلة.
وقد شنت الحركة الصهيونية هجوماً مركزاً على المشروع منذ البداية. فأعلنت أن المكان غير مناسب، وأنه لا يحمل أية دلالة تاريخية يهودية، وأنه قد يصلح لمستوطنين ذوي تقاليد زراعية حيث إن اليهود لم يمارسوا الزراعة إلا حديثاً. ومن هنا، طالبت الحركة الصهيونية بالقرم أو أوكرانيا. ولكنها عادت وأكدت أن فلسطين هي المكان الوحيد المناسب لحل مشاكل اليهود السوفييت، وأن مشروع بيروبيجان محاولة سوفيتية لنسف أو إضعاف الفكرة الصهيونية والدينية لدى اليهود. هذا مع العلم بأن مساحة بيروبيجان تفوق مساحة فلسطين التي تبلغ 26.072 كيلو متراً مربعاً. وقد وصلت أول دفعة من اليهود السوفيت إلى بيروبيجان عام 1928. وكان عددهم 950 شخصاً عاد منهم 600 شخص. وقد بلغ عدد اليهود الذين هاجروا إلى المنطقة خلال خمس سنوات نحو عشرين ألف شخص، عاد منهم نحو اثنى عشر ألفاً، وبقي في المنطقة نحو ثمانية آلاف شخص فقط. ولم تكن هذه الأرقام تشير إلى درجة مشجعة من النجاح، بل كانت تشير إلى احتمال فشل المشروع.
وفي 7 مايو (آيار) عام 1934، أي بعد احتلال اليابان لمنشوريا عام 1931 ـ 1932، أعلنت السلطات السوفيتية منح منطقة بيروبيجان صفة «مقاطعة يهودية ذات حكم ذاتي» مع أن شروط منح هذه الصفة، وأبرزها وجود أغلبية من سكان قومية معيَّنة، بحسب الدستور السوفيتي، لم تكن متوافرة. وربما كان اتخاذ هذا القرار إحدى الوسائل التي لجأت إليها الحكومة السوفيتية لتشجيع اليهود على الهجرة إلى تلك المنطقة حيث وُضعت خطة جديدة لتوطين اليهود فيها تقوم على أساس اختيار الكفاءات بدل الهجرة الطوعية العشوائية. وكان مقدراً خلال السنوات 1934 ـ 1937 أن يبلغ عدد اليهود في بيروبيجان نحو 60 ألف نسمة. ومع ذلك، ومع حلول عام 1937، فإن عدد اليهود لم يتجاوز عشرين ألف نسمة كانوا يشكلون 24% من سكانها.
وقد تعرَّض تنفيذ مشروع التوطين لحالة من الجمود في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب حملة التطهير التي قادها ستالين وشملت العديد من القيادات ومن بينها القيادات اليهودية في الحزب والدولة. ثم إن ظروف الحرب (بعد ذلك) فرضت جموداً على تنفيذ المشروع، فلم يَعُد للبروز والنشاط إلا في نهاية الحرب العالمية الثانية وبالذات في النصف الثاني من عام 1946. وقد أظهر اليهود في تلك الفترة حماساً أشد للتَوطُّن في بيروبيجان، وتطوَّع للذهاب إليها فنانون وموسيقيون وأطباء. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد اليهود، في منتصف سنة 1948، بلغ نحو خمسة وثلاثين ألفاً جاء بعضهم ضمن الهجرة المنظمة، وجاء البعض الآخر هرباً من الجيوش النازية الزاحفة نحو موسكو، وجاء البعض الثالث ليفتش عن مكان جديد يبدأ فيه حياته. وقد تمت تنمية الطابع اليهودي اليديشي للمقاطعة في هذه المرحلة. فأُنشئت مزارع جماعية يهودية ومجالس فرعية، واستُخدمت اليديشية كلغة رسمية، وأُسِّس مسرح يديشي ومكتبة عامة سُمِّيت باسم الكاتب اليديشي شالوم عليخيم، كما أُقيمت مؤسسة طباعة عصرية وصُنعت آلات كاتبة بالحروف التي تُكتَب بها اللغة اليديشية.
ولكن القيادات السوفيتية، بعد هذه الفترة القصيرة من الهجرة، غيَّرت موقفها، وبدأ الفتور يسيطر على الحديث الرسمي عن بيروبيجان، وبرزت اتهامات بعلاقات تجسُّس مع الخارج. وفي عام 1948، توقف نشر الأخبار عن بيروبيجان. وإذا كانت حركة التطهير الأولى استهدفت بعض الأفراد، فإن الحملة الجديدة استهدفت المشروع ذاته (ويبدو أن ستالين اتهم زعماء الجماعة في بيروبيجان بالتآمر لفصل الإقليم عن الاتحاد السوفيتي وتسليمه لليابان) . وكانت النتيجة أن الهجرة اليهودية إلى الإقليم أخذت في التقلص تدريجياً إلى أن وصل عدد اليهود فيه سنة 1968 إلى نحو خمسة وعشرين ألف نسمة. وقد بلغ عدد السكان اليهود في عام 1989 نحو 8.887 مقابل 215 ألف روسي وكوري وصيني وغيرهم، أي 4% من عدد السكان، يقطن معظمهم في العاصمة التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة وثمانين ألفاً. وعدد المتحدثين باليديشية آخذ في التناقص، ووصلت نسبة الزواج المختلط بين اليهود 80%، وهي بذلك قد تكون أعلى نسبة في العالم. وغالبية اليهود في بيروبيجان ملحدون، كما أن الحاخام الذي يشرف على إقامة الشعائر يؤمن بالمسيح ويستخدم الإنجيل في الصلوات. ومع هذا، لا تزال هناك محاولة لأن تحتفظ بيروبيجان بطابعها اليهودي اليديشي إذ تَصدُر الطوابع باليديشية والروسية ولا تزال أسماء الشوارع تُكتَب باللغتين. وقد تم الاحتفال بعيدها الخمسيني عام 1984. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور الكومنولث الروسي، بدأت الحكومة الروسية في تحويل بيروبيجان إلى منطقة اقتصادية حرة. ويفكر بعض أثرياء إسرائيل في الذهاب إلى بيروبيجان للاستثمار فيها. ويبدو أن زراعة المخدرات قد انتشرت فيها مؤخراً.
وتجربة بيروبيجان، برغم أية نتائج انتهت إليها، تثير عدداً من الملاحظات حول الحركة الصهيونية في مجملها، أولاها أن الرفض الصهيوني لبيروبيجان انطلق من تبسيط مخل للحلول الممكنة للمسألة اليهودية يستهدف تبرير حتمية الهجرة إلى فلسطين، وهو ما يثبت أن الصهيونية لم تستهدف حل المشاكل الملحة عند اليهود بقدر ما استهدفت تحقيق أساطير بعضهم. ومن ناحية أخرى، فإن مشروع بيروبيجان كان امتداداً لأفكار البوند، أي التعبير عن الخصائص الذاتية اليهودية في إطار الدولة الاشتراكية. ومع هذا، فقد رفضته الحركة الصهيونية عامة والصهيونية الاشتراكية بصفة خاصة.
ومن جانب ثالث، فإن الحركة الصهيونية قد عارضت المشروع رغم أن السوفييت كانوا يهدفون منه إلى تحويل اليهود من طبقة بورجوازية منعزلة غير منتجة إلى طبقة عاملة مندمجة في المجتمع ومنتجة، وهو ما تحدَّث عنه الصهاينة الاشتراكيون دائماً. وأخيراً، فإن مشروع بيروبيجان قد أثار من جديد الخلاف القديم بين يهود العالم حول ما عُرف بقضية الصهيونية الإقليمية. ولهذا، فقد أيَّدت المشروع بعض الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة وغرب أوربا وأمريكا اللاتينية، وكان من بينها لجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة (جوينت) ، والمؤسسة الأمريكية اليهودية المشتركة للزراعة (أجروجوينت) ، والجمعية الأمريكية للتوطين اليهودي في الاتحاد السوفيتي (وقد عُرفت باسم «إيكور» أي فلاح بالعبرية) . في حين عارضته كل اتجاهات الحركة الصهيونية باعتباره تجسيداً لفكرة قومية الدياسبورا (القومية اليديشية) ولكن في ظل نظام اقتصادي مختلف.
روابط المهاجرين (لاندزمانشفتين)
Landsmannschaften
«روابط المهاجرين» هي جماعات أو روابط تضم مهاجرين من بلدة واحدة أو مقاطعة واحدة في الوطن الأصلي. وقد تأسَّست مثل هذه الروابط في إنجلترا وجنوب أفريقيا وأساساً في الولايات المتحدة (خصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) بين يهود اليديشية. وكان لكثير من هذه الروابط معبدها اليهودي المقصور عليها. وكانت لغة هذه الروابط، في معظم الأحيان، اليديشية. وهذه الروابط مؤسسات وسيطة تهدف إلى تزويد المهاجرين بشيء من الطمأنينة وتُسهِّل عليهم عملية الانخراط في المجتمع الجديد وتضع تحت تصرفهم خبرة من سبقهم من مهاجرين. ولهذا، ومع اندماج المهاجرين في بلادهم الجديدة، تختفي هذه الروابط أو تتحول إلى مؤسسات تضطلع بوظائف اجتماعية جديدة برغم احتفاظها بالاسم.
حلقة العمال
Workmen's Circle (Arbeiter Ring)
«حلقة العمال» عبارة مترجمة عن العبارة اليديشية «أربيتر رنج» . وحلقات العمال منظمات اجتماعية أسسها العمال المهاجرون من شرق أوربا (من يهود اليديشية) عام 1900. وبلغ عدد فروعها 660 فرعاً تضم سبعين ألف عضو. وقد ساهمت هذه الحلقات في تكوين اتحادات العمال في صناعة الإبر والنسيج التي تَركَّز فيها أعضاء الجماعة اليهودية. ومثل هذه المنظمات هي، في واقع الأمر، منظمات وسيطة تساهم في دمج أعضاء الجماعات المهاجرة بإنشاء مؤسسات تحافظ على هويتهم شكلاً واسماً ولكنها تقدِّم لهم في الحقيقة قيم المجتمع الجديد. وبهذه الطريقة، تتم تهدئة مخاوفهم من فقدان الهوية في مواجهة المجتمع الجديد. ومن هنا، فإننا نجد أن وظيفتها واللغة المستخدمة فيها تتغيَّر بتزايد معدلات الاندماج إلى أن يحدث الاندماج تماماً، فتنحل أو تكتسب مضموناً جديداً. وعلى سبيل المثال، كانت هناك حلقات للعمال تتبعها مؤسسات تعليمية، مثل المدارس والمعسكرات الصيفية، استخدمت اليديشية في الماضي ولكنها تستخدم الإنجليزية في الوقت الحاضر. ولا تزال حلقات العمال تمارس نشاطها.
جماعات الأصدقاء (حفوراه (
Havurah Fellowship
«جماعات الأصدقاء» جماعات صغيرة من يهود الولايات المتحدة تعود بداياتها إلى أواخر الستينيات (ويُقال إن أول جماعة تأسست في سومرفيل في ولاية ماساشوستس عام 1968) وانتشرت في السبعينيات حتى أصبحت جزءاً من حياة يهود الولايات المتحدة. وهي تعبير عن رغبة بعض قطاعات من يهود الولايات المتحدة (وخصوصاً من أعضاء الطبقة الوسطى) في أن تحتفظ بشيء من الخصوصية والهوية وفي أن تتحرك داخل جماعة صغيرة مألوفة لديها، وكل هذا احتجاج على تزايد معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع الأمريكي حيث تميل الحياة إلى العمومية والتنميط وتَضخُّم حجم المؤسسات وتمركزها (بما في ذلك المؤسسات الدينية اليهودية ذاتها) وهو ما يجعلها غير قادرة على التعامل مع الأفراد وعاجزة عن الوفاء بحاجاتهم الروحية، وهذه ظاهرة ليست مقصورة على أعضاء الجماعة اليهودية بأية حال وإنما هي ظاهرة عامة في المجتمع الأمريكي وتعود حركياتها إلى هذا المجتمع. ولذا، تكون محاولة الربط بين جماعات الأصدقاء (الحافوراه) وجماعات الأسينيين في مغارات قمران في القرن الأول قبل الميلاد (كما تفعل الموسوعة اليهودية) نوعاً من محاولة ربط ظاهرة حديثة بالظاهرة القديمة وإطلاق الاسم القديم على الظاهرة الحديثة، وهذا لا يساعد على تفسيرالظاهرة ولا على تصنيفها.
وتنقسم جماعات الأصدقاء إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ جماعات ذات توجه ديني واضح.
2 ـ جماعات تشبه الكومونات حيث يعيش الأعضاء معاً حياة جماعية ويعملون ويحتفلون بالأعياد بعضهم مع بعض.
3 ـ جماعات تُوجَد داخل المعابد اليهودية.
ويذهب عالم التلمود الأمريكي جيكوب نيوزنر إلى أن جماعات الأصدقاء تقوم بخمسة أنشطة جماعية: الصلاة، والاحتفال بشعائر السبت، والتعاون في إظهار الرحمة نحو الآخرين (الصدقات وزيارة المرضى) ، والدراسة، والاحتفاظ بسجل لنشاط الجماعة.
وتُوجَد لجنة قومية لجماعات الأصدقاء في الولايات المتحدة. كما توجد جماعات في كلٍّ من إنجلترا وأستراليا وإسرائيل. وتنشر اللجنة مجلة ونشرة دورية، كما أصدرت كتاباً عن كيفية إنشاء جماعة أصدقاء. وجماعات الأصدقاء قد تستخدم ديباجات دينية، ولكنها لا تعبِّر عن بعث ديني لأنها جماعات تنطلق من اغتراب الإنسان الأمريكي اليهودي وتحاول أن تساعده في التغلب على هذا الاغتراب لا من خلال الدين وإنما من خلال أصدقائه وجماعته. والواقع أن ما طرحوه من حل لا يختلف كثيراً عن الحل الذي طرحه الهيبيز وجماعات الأصدقاء والأخوة الأخرى.
القهال الحديث في أمريكا اللاتينية
Modern Kahal in Latin America
تُسيِّر الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية أمورها من خلال مؤسسات يُقال لها القهال، وهي ليست مؤسسات إدارة ذاتية، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية، وإنما هي رابطة تجمع أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية. وقد كوَّن الإشكناز من روسيا وبولندا قهالاً مشتركاً استبعد السفارد، وأصبح قهال الإشكناز المؤسسة الأساسية بين يهود المكسيك. ويُلاحَظ أن القهال في المجتمعات التقليدية كان في معظم الأحوال أساس تماسك الجماعات اليهودية، ولكنه هنا أصبح تعبيراً عن الصراع الدائر داخلها وعن الانقسامات التي تفتتها. واللجنة المركزية التي تضم كل هذه الجماعات تتكون من ثلاثين عضواً؛ منهم ستة عشر عضواً يتحدثون اليديشية (وهم الأغلبية) ، وخمسة أعضاء يتحدثون اللادينو، وثلاثة يهود ألمان، ومجريان، واثنان من سفارد دمشق، واثنان من سفارد حلب.
وقهال الأرجنتين ليس أحسن حالاً، فقد اختفى بعض الوقت ثم عاد إلى الظهور بعد أن اشترى مجلس إدارته قطعة أرض لدفن اليهود، وهذا هو النشاط الأساسي للقهال. كما أنه يُقدِّم الآن برنامجاً تليفزيونياً ويقوم بأنشطة شبابية. ومصدر التمويل الأساسي اشتراكات الأعضاء ورسوم الدفن التي يجأر اليهود بالشكوى منها (والواقع أن سيطرة القهال على المدافن تشبه سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الخلاص، فلا خلاص خارج الكنيسة ولا دفن خارج القهال) . وتسيطر الحاخامية الأرثوذكسية على القهال، ولذا فهي تأخذ موقفاً متشدداً من أمور مثل الزواج والطعام، والدفن بطبيعة الحال، الأمر الذي يعني استبعاد أعداد كبيرة من اليهود الذين تمت علمنتهم. وهي تحاول أيضاً أن تفرض تدريس اليديشية على المدارس اليهودية. ولم ينخرط السفارد في القهال، ولذا فلهم جمعية دفن خاصة بهم، ويسيطر كبار المموِّلين الذين يدفعون التبرعات على القهال وقراراته. ويتبع القهال عدد من الموظفين والحاخامات الذين لا يتمتعون بأية مكانة اجتماعية.
ولا يشارك القهال في السياسة القومية، وليس له موقف سياسي محدَّد. لكن هذا يزيد حدة التوترات داخله، فالطاقة السياسية التي لا تُفرَّغ في الخارج من خلال القنوات العامة تتسرب إلى داخل القهال وتُصعِّد حدة الصراعات. وتدار الانتخابات داخله على أساس برامج الأحزاب الإسرائيلية وهذا يجعلها غير ذات موضوع من منظور لاتيني، ولذا يزداد ابتعاد الشباب اليهودي عنها. فالقهال لا يتعامل مع الموضوعات الحية التي تهمهم كمواطنين في بلادهم. ومع هذا، تولَّى القهال عملية تطهير الشارع اليهودي من العناصر اليسارية المختلفة.
ومؤسسة القهال لا يمكنها ممارسة أي ضغط على الحكومات في أمريكا اللاتينية برغم تركز اليهود في المدن وبالذات في بيونس أيرس وريو دي جانيرو. وهذا يرجع إلى أن الجماعات اليهودية صغيرة للغاية بالنسبة لعدد السكان سواء في الجمهوريات المختلفة أم في العواصم. كما أنها جماعات منقسمة، وهو ما يزيدها تفتتاً. ولا يظهر صوت يهودي فعال. وعلى كلٍّ، لا تتمتع الانتخابات في أمريكا اللاتينية بالأهمية نفسها التي تتمتع بها في الولايات المتحدة. كما أن الانقلابات المتكررة تجعل الانتخابات مسألة محدودة الأهمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن جماعات الضغط الأساسية، مثل الجيش والكنيسة، لا يشارك فيها اليهود. ولذا، يحاول القهال التأثير في الحكومات من خلال المنظمات اليهودية الأمريكية ومن خلال الوكالات الأمريكية الرسمية، وهو تَدخُّل قد يأتي بنتيجة إيجابية مباشرة ولكنه يأتي بأثر عكسي على المدى الطويل إذ يُقوِّي الإدراك المحلي بأن يهود أمريكا اللاتينية يربطهم رباط خاص بالولايات المتحدة، الأمر الذي يزيد هامشية أعضاء الجماعات اليهودية ومن انصراف الشباب اليهودي عنها.
النادي اليهودي في أمريكا اللاتينية
Jweish Club in Latin America
مع تزايد معدلات العلمنة في مجتمعات أمريكا اللاتينية، بدأت تظهر مؤسسة جديدة أخذت تحل محل جمعيات الدفن والقهال أو المعبد، وهي النادي الرياضي (الاجتماعي) . والنادي الرياضي مؤسسة معروفة في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية تؤسسها الجماعات المهاجرة، فهناك النادي الإيطالي والنادي السويسري والنادي اللبناني. ومن هنا، ظهر النادي اليهودي (وأحياناً العبري) . ومثل هذه النوادي أُلحقت بها مكتبة ومطعم ودار حضانة ومكاتب الرعاية اليهودية، وهي مؤسسات بالغة الضخامة. فالنادي اليهودي في ساو باولو يضم ثماني قاعات رياضية وثلاثة عشر ملعب تنس وستة حمامات سباحة وستة مطاعم (يقدم واحد منها فقط الطعام اليهودي الشرعي) ومحل مصفف شعر سيدات وغرفة للعب الكوتشينة ومعرضاً للفنون وقاعة للديسكو ونادي كومبيوتر، وينظم النادي بالإضافة إلى كل هذا حلقة دراسات يهودية.
وقد نجحت هذه النوادي في جذب أعداد كبيرة أكثر من أي مؤسسة يهودية أخرى، فهي مؤسسة لاتينية أكثر من كونها يهودية، ويوصف أعضاء الجماعة اليهودية في ساو باولو بأنهم أعضاء في النادي العبري أو اليهودي. ولذا، فهي أول مؤسسة يهودية تتجاوز الانقسامات القديمة، وظهورها دليل على الاختفاء التدريجي لميراث المهاجرين، وكذلك ظهور هوية لاتينية بين من تبقَّى من يهود أمريكا اللاتينية. ولغة الحديث في هذه النوادي هي الإسبانية والبرتغالية باعتبار أن اللادينو واليديشية والعربية اختفت كلغات حديث. ويبلغ عدد المشتركين في النادي اليهودي في ساو باولو حوالي 30 ألفاً، أي حوالي ثلث أعضاء الجماعة اليهودية. ويُلاحَظ كذلك ارتفاع التزاوج المُختلَط بين السفارد والإشكناز. ولا تشتغل هذه النوادي بالسياسة ولا بالدين، ولا تحاول أن تغذي الإثنيات اليهودية المختلفة، فهي في واقع الأمر تعبير عن المراحل الأخيرة من ضعف الهوية اليهودية.