الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُلاحَظ أن عمليات التهويد والتوسع أخذت في التسارع قبل حلول مناقشات الوضع النهائي التي كان من المفترض إجراؤها في منتصف عام 1996، بهدف تغيير وضع القدس من الناحية البنيوية. وكما قال أحد المسئولين الإسرائيليين:"سيستحيل على السيد عرفات أن يَزعُم أن القدس الشرقية عاصمته. قد ينجح في القيام بعمل رمزي، غير أن عمليات البناء التي قمنا بها ستجعل تقسيم المدينة من جديد أمراً مستحيلاً".
وقد جرت محاولة التباحث مع الطرف الفلسطيني بصورة غير رسمية لاختبار نياته، وهو ما كشفته الصحف الإسرائيلية أخيراً، وينص على إشراف فلسطيني على المسجد الأقصى والقبول بجعل ثلاث قرى من منطقة القدس هي أبو ديس والعيزرية والسلوان عاصمة للضفة الغربية وقطاع غزة التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية وطبقاً لمخطط العمل فإن هذه القرى الثلاث ستحمل اسم «القدس» أما بقية القدس الشرقية والغربية فستحمل اسم «أورشليم» .
وفقد دخل نتنياهو في حلبة المزايدات، وتجلت هذه المزايدات في تزييف تاريخ القدس. وتحرك بمزيد من الإثارة في مسألة النفق ومنطقة رأس العامود التي هدف منها منع التواصل بين القرى الثلاث المذكورة والمسجد الأقصى.
بيت المقدس
Jerusalem
انظر: «القدس» .
أورشليم
Jerusalem
«أورشليم» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى القدس باعتبارها فكرة دينية. (انظر: «القدس» ) .
الباب الثامن: عصر الآباء
عصر الآباء (المرحلة البطريركية)(2100 - 1200 ق. م)
Patriarchs
يُشار للآباء أحياناً بأنهم «البطارقة» وهي من الكلمة الإنجليزية «باتريارك» ، وهي من اليونانية «باترياركا» ) «باتر» بمعنى «أب» ، و «باتريا» بمعنى «عائلة» ، و «أركين» بمعنى «يحكم» ) .
وتشير كلمة «الآباء» في الكتب اليهودية إلى آباء اليهود: إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهم الذين تلقوا وعوداً إلهية بأن تكون أرض فلسطين من نصيبهم، كما تشمل الكلمة أحياناً موسى وهارون، بل آدم ونوحاً. وهؤلاء، رغم تلقِّيهم هذه الوعود، لا يُعَدُّون أنبياء بعكس الحال في التراث الإسلامي. ولقب «آباء» يعني أنهم كانوا بمنزلة رؤساء وشيوخ لقبائلهم وعشائرهم يرتبطون بها برباط الدم والنسب والعرْق. وفي العهد الجديد، تنطبق الكلمة على إبراهيم، وعلى أبناء يعقوب الاثنى عشر، وعلى داود. ويُعَدُّ يعقوب أهمهم في التراث اليهودي، ذلك أن إبراهيم وإسحق قد أنجبا ابنين شريرين هما إسماعيل وعيسو، أما يعقوب (يسرائيل) فلم ينجب سوى الأخيار.
وتبدأ فترة الآباء مع ظهور أول شخص يُوصَف بأنه عبراني، أي إبراهيم. ويذهب بعض الدارسين الغربيين إلى أن من الصعب إطلاق مصطلح «فترة» على هذه المسافة الزمنية، إذ لا تُوجَد وثائق تاريخية أو دلائل قاطعة تساند الرواية التوراتية. كما أن هذه المسافة حسب هذا الرأي، تبدأ في عالم شبه أسطوري وفي مكان غير محدَّد، ذلك أن أور الكلدانية لم تكن كلدانية في أيام إبراهيم، ولذا يُقال إنه جاء من حران، وهي منطقة بين الأناضول وسوريا. بل يذهب بعض المؤرخين الغربيين إلى أن الآباء ليسوا أشخاصاً محددين، فهم رموز لفترات مختلفة في تَطوُّر القبائل العبرانية. ولكن هناك من الدارسين من يؤكد الوجود التاريخي للآباء ويشير إلى وثائق تاريخية تدعم وجهة نظره.
وعلى أية حال، يمكن تحديد بعض السمات الأساسية لهذه الفترة، ويبدو أن العبرانيين كانوا أساساً شعباً رعوياً متجولاً من مكان إلى آخر، يضرب خيامه على حواف المدن الكنعانية (تكوين 12/6، 33/18، 35/21، 26/25، 14/18 - 20) ويتمتع برعاية الملوك الكنعانيين. وثمة نظرية أخرى تقول إنهم لم يكونوا رعاة وإنما كانوا يعيشون من الأرباح التي يحققونها من التجارة، وأنهم كانوا يوجدون على طرق القوافل، وأنهم باعتبارهم شعباً متجولاً لم يكونوا منعزلين إثنياً. وهؤلاء يرون أن أصول الآباء ترجع إلى الآراميين، بل إن قبيلتين من القبائل العبرانية كانتا تريان أن دماء مصرية تجري في عروقهما، فقبيلتا إفرايم ومنَسَّى، تنتسبان إلى ابنى يوسف من زوجته المصرية حيث لم يكن التزوج من الأجنبيات أمراً مُحرَّماً بعد، فإبراهيم يتزوَّج هاجر المصرية ويهودا يتزوج كنعانية. وكما تقدَّم، فقد تزوَّج يوسف مصرية، وتزوَّج موسى مَدْيَنية.
والخلفية الحضارية لفترة الآباء خلفية سامية سديمية، فمن أور الكلدانية أو حران انتقل إبراهيم إلى كنعان لشراء مقبرة، ثم استقر في مصر بعض الوقت، ثم خرج منها. وكذا خرج يعقوب إلى مصر واستقرّ فيها هو وأبناؤه، ثم خرجوا مرة أخرى إلى كنعان واستقرُّوا مع القبائل العبرانية التي لم تكن قد غادرتها. وثمة روابط كثيرة تربط الآباء بالآراميين والمصريين.
ولم تكن حضارة العبرانيين في تلك الفترة بدائية، ولكنها لم تكن قط أصيلة أو فريدة. ولأنهم شعب متجوِّل، لم تكن لهم هوية حضارية محدَّدة بعد، إذ لم يكونوا يخضعون لأطر سياسية أو كهنوتية ثابتة، ولا ينتمون لتراث حضاري مركب كما كان الحال مع شعوب المنطقة. لكن كان في مقدورهم استيعاب جوانب من حضارات المنطقة بسهولة ويسر، وخصوصاً أن بنية التجمُّع العبراني في ذلك الوقت كانت تشبه في كثير من الوجوه البناء القبلي للشعوب السامية الأخرى.
وبعد موسى، تصل فترة الآباء إلى نهايتها مع تَوقُّف الشخصيات الأسطورية التي تجسد فترة زمنية غير محدَّدة المعالم عن الظهور. ومع وصول التغلغل العبراني في أرض كنعان إلى نهايته، استقر العبرانيون على شكل جيوب غير متصلة جغرافياً تحيط بها الشعوب الأصلية. فظل الكنعانيون في الأودية مزارعين كما كانوا، وشغلت الشعوب الأخرى أماكن مختلفة. وقد ظلت القدس، على سبيل المثال، يبوسية حتى عهد داود، وتَزامَن استيطان العبرانيين في فلسطين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد مع حركات استيطانية أخرى، إذ استقر العموريون في شرق الأردن، والآراميون في سوريا، وشعوب البحر (الفلستيون) في ساحل فلسطين الجنوبي.
ولقد كانت عبادة الآباء مختلفة بشكل جوهوي عن العبادة اليسرائيلية واليهودية من بعدها. فالتوراة لا تُصوِّر الآباء كمبدعين من الناحية الدينية، فهم لا يشنُّون أية حرب على الوثنية ولا على عبادة الأصنام التي تصبح موضوعاً أساسياً في الفترة الموسوية. وتضم قصص الآباء أحداثاً تتنافى والقيم الأخلاقية التي وردت بعد ذلك في كتب العهد القديم الأخرى. فقد تزوَّج يعقوب من أختين في وقت واحد (لاويين 18/181) ، وقام إبراهيم ومن بعده إسحق بادعاء أن زوجته الحسناء هي أخته حتى يتكسب من ورائها. ويستغل يعقوب حاجة أخيه عيسو إلى الطعام في الحصول على بكورته، أي أسبقيته في الولادة، ويغتصب التركة من أخيه غشاً وخداعاً. وزرع إبراهيم شجرة مقدَّسة (تكوين21/33، وتثنية 16/21) ، وأقام يعقوب أعمدة حجرية مقدَّسة (تكوين 28/18 و22، و31/13 و45 ـ 52، و35/14، وخروج 23/24) الأمر الذي يدل على وجود عناصر وثنية في عبادتهم. ولا يوجد أي ذكر لأية أعياد. ويُقدِّم الآباء التضحية والقرابين دون وجود كهنة أو معبد. ويُلاحَظ أن عبادة الآباء لا تدور في الإطار القومي الإقليمي الذي اتَّسمت به اليهودية بعد ذلك، فالآباء ينتقلون بحرية من مكان إلى آخر يعبدون الإله في أي مكان. ولا يُشار إلى الخالق باعتباره يهوه وإنما يشار إليه بأسماء أعلام بعضها لا يرد ذكره إلا بالإشارة إلى فترة الآباء مثل:«إيل عليون» أو «الإله العلي» (تكوين 14/18، 22) و «إيل عولام» أي «الإله السرمدي» (تكوين 21/33) ، وأكثر هذه الأسماء شيوعاً هو «شدَّاي» أي «الإله القدير» (تكوين 17/1، 28/3، 35/11) .
ورغم انفتاح العبرانيين النسبي في فترة الآباء، واستفادتهم من الشعوب الأخرى، فإنه يُلاحَظ أن ثمة موضوعين أساسيين يؤكدهما محررو الأسفار بإلحاح، وهما أن هذا الشعب المنحدر من هؤلاء الآباء سيصبح شعباً عظيماً (الشعب المختار) ، وأن أرض كنعان (فلسطين ـ إرتس يسرائيل) هي أرضه (الأرض المقدَّسة) . ويمكن تصوُّر أن هذه المفاهيم الدينية قد تطوَّرت في فترة لاحقة ولكن محرري التوراة نسبوها إلى الآباء لفرض نوع من الوحدة الفكرية على العهد القديم، وحتى يصبح التاريخ وحدة متكاملة يرعاه إله يسرائيل.
ويُشار في التراث اليهودي إلى «الأمهات» أو «ماتريارك» (سارة وربيكا وراحيل) بأنهن «عاقرات» إلى أن يشاء الإله أن يحملن ويلدن. وتؤكد حركات التمركز حول الأنثى في الغرب دور الأمهات.
إبراهيم
Abraham
«إبراهيم» هو «أبرام» بالعبرية وتعني «الأب الرفيع» أو «الأب المتكرم» . أما كلمة «إبراهيم» ويقابلها «أبورهام» فتعني «أبو الجمهور» (من الأمم)(تكوين 17/5) . وقد تغيَّر اسمه من أبرام إلى إبراهيم بعد أن رُزق ذرية. وإبراهيم أول الآباء: أبو إسماعيل وإسحق. وهو أيضاً، حسب الرواية التوراتية، أبو الشعب اليهودي. ويُستَدل من قصص التوراة، ومن بعض الوثائق التاريخية، على أن إبراهيم ظهر نحو عام 1850 ق. م ولكن بعض المؤرخين يرون أنه عاش فيما بعد ذلك التاريخ وأنه دخل مصر في عهد الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة (في القرنين السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد، أي في عصر الهكسوس) . ومن ناحية أخرى، يُقال إن موطنه الأصلي مدينة حران في مملكة ميتاني الحورانية. وفي بعض الروايات الأخرى أنه نشأ في أور الكلدانية. ويُقال كذلك إنه وُلد في أور ثم انتقلت أسرته إلى حران. وحسب الرواية التوراتية، تلَّقى إبراهيم في حران أول وعد إلهي بأن يخرج من صلبه شعب قوي وأن يُورَّث هذا الشعب أرض كنعان، وهذا ما يُشار إليه بالعهد. ويعود الاختلاف في العهد القديم إلى تَعدُّد المصادر، فالمصدر الكهنوتي يجعل أور مكان ولادته في حين يجعلها المصدر اليهودي حران.
وتدل الروايات على أن إبراهيم كان يعيش مع أهله في الخيام حياة البدو الرعاة، وينتقل من مكان إلى آخر في أعقاب قبائل العموريين وغيرهم من الأقوام السامية التي هاجرت في تلك العصور من بلاد الرافدين وجزيرة العرب إلى سوريا وفلسطين. وتَذكُر النقوش الكتابية التي عُثر عليها في بابل أسماء تشبه اسم إبراهيم كانت شائعة في صيغ مثل: إبراموه وإبمرام وإبراما. كما ترد في نصوص مدينة ماري أسماء عمورية معروفة مثل يعقوب وإسحق وإسماعيل ويوسف وبنيامين وهم من ذرية إبراهيم. ويُعَدُّ ظهور إبراهيم بداية فترة الآباء في تاريخ اليهودية وكذا في تاريخ العبرانيين.
رحل إبراهيم مع زوجته سارة وأبيه تارح وابن أخيه لوط من أور إلى كنعان (فلسطين) عن طريق تَدمُر فدمشق حتى وصل إلى شكيم حيث تلقَّى الوعد الإلهي للمرة الثانية حسب الرواية التوراتية ثم إلى بيت إيل.
وقد انتقل إبراهيم بعد ذلك إلى مصر بسبب المجاعة، ولكنه عاد إلى كنعان حيث تركه لوط بسبب الخلاف الذي نشب بينهما على أرض المراعي. وقد أعقب هذه الواقعة تأكيد الوعد الإلهي للمرة الثالثة. ثم تحوَّل إبراهيم بعد ذلك إلى قائد عسكري فأنقذ لوطاً (ابن أخيه) ، وهزم أربعة ملوك. وعند عودته، باركه الملك الكاهن ملكي صادق (ملك القدس) .
ولما كانت سارة عاقراً، فقد استحثَّت زوجها على الزواج من هاجر المصرية التي أنجبت له إسماعيل. عندئذ، أكد الإله وعده مرة أخرى لإبراهيم بأن إبراهيم وسارة سيَخرُج من صلبهما عدة أمم وملوك (تكوين 17/1ـ 8) وقد تغيَّر اسماهما من أبرام وساراي إلى إبراهيم وسارة ثم فُرضت شعيرة الختان علامة دائمة على ميثاق الإله مع إبراهيم. ووعد الإله سارة بابن اسمه إسحق، وقام إبراهيم بتختين نفسه وبتختين إسماعيل وكل الذكور في أسرته. ثم جاءت البشرى لسارة بأنها ستلد إسحق. وذهب إبراهيم وأسرته إلى مدينة جرار. ثم أنجبت سارة إسحق. وقد دفعتها الغيرة إلى التخلص من هاجر وابنها، فانصرفت هاجر مع إسماعيل وهو لا يزال بعد صبياً. وقد أراد الرب امتحان إبراهيم فأمره في الرؤيا بأن يضحي بولده، فلم يتردد في الامتثال للأمر. ولكن الإله افتدى الولد في اللحظة الأخيرة بكبش عظيم. وتلَّقى إبراهيم الوعد الإلهي للمرة الأخيرة. واختلفت الآراء حول الذبيح: هل هو إسحق أم هو إسماعيل. وقد اتبع الطبري رواية التوراة التي تقول «خذ ابنك وحيدك الذي تحبُّه إسحق» (تكوين22/2) . إلا أن المفسرين المحدثين يذهبون إلى أن اسم إسحق قد أُقحم هنا فيما بعد، لأن أمر التضحية قد جاء في وقت لم يكن فيه لإبراهيم سوى ولد واحد هو إسماعيل. وبالتالي، لا تنطبق على إسحق صفة «الوحيد» . وقد ماتت سارة في قريات أربع (حبرون أو الخليل) ، فاشترى إبراهيم من أحد الحيثيين الحقل الذي تقع فيه مغارة المكفيلة حيث دفن زوجته سارة (وهو نفسه المكان الذي دُفن هو أيضاً فيه بعد أن بلغ عمره مائة وخمسين عاماً) . ثم طلب إبراهيم إلى خادمه أن يذهب إلى حران ليجد زوجة لإسحق لأنه لم يكن يرضى أن يتزوج ابنه من امرأة كنعانية، فتزوج إسحق من رفقة وتزوج إبراهيم نفسه مرة أخرى من قطورة وأنجب منها عدة أبناء. ولكنه أوصى بكل أملاكه لإسحق، واكتفى بإعطاء أبنائه الآخرين هدايا، حسب الرواية التوراتية.
وتنسب التوراة إلى إبراهيم أخلاقيات نفعية. فقد ذكرت على لسان إبراهيم بمناسبة اعتزامه التوجه هو وزوجته سارة إلى مصر، هرباً من القحط، أنه قال: «
…
إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختى ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك» (تكوين 12/11 ـ 13) وأضافت التوراة أن ذلك قد حدث فعلاً:«فأُخذت المرأة [أي سارة] إلى بيت فرعون، فصنع إلى أبرام خيراً بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمَال» (تكوين 12/15 ـ 16) . ثم أعادت التوراة هذه القصة ذاتها مرة أخرى حين نزل إبراهيم وامرأته مغتربين في أرض جرار إذ أخذها الحاكم، ولكنه حينما اكتشف الحقيقة عنَّف إبراهيم على خداعه له، ولكنه في الوقت نفسه أعطاه غنماً وبقراً وعبيداً وإماء وألفاً من الفضة ورد إليه امرأته (تكوين 20) . وقد حدثت نفس القصة مع ابنه إسحق. وثمة تفسير جديد لهذه الواقعة يذهب إلى أن الرجل في الحضارة الحورانية، كان إن اعتز بزوجته وأراد أن يعبِّر لها عن حبه، جعلها بمنزلة أخته وصار يشير إليها بذلك. ولكن العبرانيين القدامى نسوا، كما هو واضح، المغزى الأصلي للقصة وجعلوا من التسمية اتجاراً بالعرض للحصول على الثروة!
ورغم أن الدارسين يتحدثون عن إبراهيم باعتباره مُحطِّم الأوثان بعد أن توصل إلى عبادة الإله الواحد، فإن عبادة إبراهيم ـ كما جاء في العهد القديم ـ لم تكن هي نفسها عبادة يهوه، ذلك على الرغم من الميثاق الذي عقد بينه وبين الرب. فالإله يُعرَف في ديانة إبراهيم باسم «إيل شدَّاي» (أي «الرب القديم» ) ، أما يهوه فلم يظهر إلا في عهد موسى. ويُلاحَظ أن الميثاق أو العهد بين الرب وإبراهيم يختلف عن العهد بين الرب وبين موسى، فالأول يشبه منحة ملكية لا تُلقي أية التزامات أو أعباء على الشعب بينما نجد أن العهد مع موسى تتبعه أعباء معينة.
ويُصوَّر إبراهيم، في الفلكلور اليهودي، جالساً على أبواب جهنم ليحمي أي يهودي مُختَّن من دخولها. وترى الأجاداه أن إبراهيم اتبع الوصايا العشر وكل الوصايا والنواهي ومتطلبات الشريعة الشفوية رغم أنها لم تكن قد أُنزلت بعد. وهو الذي فرض صلاة الصباح والأهداب (تسيت تسيت) وتمائم الصلاة (تيفلين) . وقد كان يتَّسم بالتقوى وطاعة الإله والشجاعة والوفاء، وكان يشفع للمذنبين. وهو من أعظم الأنبياء حسب الرؤية التوراتية، إذ كان يتحدث الإله معه لا من خلال الأحلام أو الرؤى وإنما مباشرة. ولذا، فهو تجسيد للمقدرة الخارقة للحوار مع الرب. وتروي الأجاداه قصة إبراهيم ابن صانع الأوثان الذي يهرب إلى كهف في الصحراء حيث يتأمل في فكرة الخالق، وحينما يرى الشمس تصعد إلى كبد السماء يرى أن الشمس هى ربه. ولكنها تَغرُب فيظن أن القمر هو إلهه، ولكن النهار يأتي بالشمس مرة أخرى. ولذا، يتوصل إبراهيم إلى أنه لا الشمس ولا القمر إلهه. وترد في كتب المدراش والتلمود قصته. وقد ذاعت شهرته في رأي الأجاداه بسبب نقود سُكَّت باسمه عليها صورته. وكان يُعلِّق على رقبته حجراً كريماً اجتذب إليه الجماهير لأن كل من كان ينظر إليه كان يشفى من الأمراض. وقد كان إبراهيم سخياً يخدم ضيوفه بنفسه ويعلِّمهم أن يحمدوا الإله بعد كل وجبة. ولذا، كان يُعَد من أوائل المبشِّرين. ويقرِّر التلمود أن إبراهيم قد عوقب في مصر، كما استُعبد أبناؤه لأنه سمح بتجنيد العلماء في الخدمة العسكرية وتردَّد في تختين نفسه. أما في الكتب الخفية، فهو مُؤسِّس مدن على طريقة اليونانيين.
ولبعض الفلاسفة اليهود رؤيتهم الخاصة لإبراهيم، ففي رأي موسى بن ميمون أن إبراهيم قد وصل إلى أعلى درجات النبوَّة (مع استثناء موسى) ، وهو أول من توصَّل إلى فكرة الخلق من العدم من خلال التأمل، وأول من توصَّل إلى الإيمان بالإله من خلال التفكير العقلي. أما يهودا اللاوي، فيرى أن إبراهيم علامة على أن أعضاء جماعة يسرائيل لهم قوة إلهية خاصة تُمكِّنهم من الدخول في حوار مع الرب، وأنها مقدرة يتَّسم بها آدم وورثها عنه إبراهيم وانتقلت إلى موسى ثم إلى الأنبياء ومنهم إلى الشعب اليهودي كله. وفي التراث القبَّالي، يُعَدُّ إبراهيم التجلي النوراني الرابع أو الحسيد أو الرحمة.
إسماعيل
Ishmael
اسم «إسماعيل» من عبارة عبرية تعني «الإله يسمع» . وإسماعيل، أكبر أبناء إبراهيم من هاجر المصرية جارية سارة، سُمِّي بهذا الاسم بأمر من الإله، وتم تختينه وعمره ثلاثة عشر عاماً. وعد الإله إبراهيم بأن يجعل من نسل إسماعيل أمة كبيرة من اثنى عشر أميراً (تكوين 17/20) . ورغم أن إسماعيل كان الابن البكر لإبراهيم، فإن سارة اضطهدت هاجر، حسب الرواية التوراتية، فهربت الأم وابنها في برّية بئر سبع جنوبي فلسطين. وكانا على وشك الهلاك من الظمأ حين أرى الإله هاجر بئر ماء ووعدها بأن ابنها إسماعيل سيصير أباً لأمة كبيرة. ثم طرد إبراهيم هاجر بسبب غيرة سارة، فتزوج إسماعيل امرأة من أرض مصر، فأنجب اثنى عشر ابناً هم الذين أصبحوا آباء القبائل العربية. وتزوجت ابنته محلة أو بسمة من عيسو الذي اشترك مع إسحق في دفن أبيهما.
ويركز العهد القديم على عدم نقاء دم إسماعيل، فهو أولاً من أم مصرية، ثم إنه تزوج هو نفسه من مصرية، واندمج نسله مع المَدْيَنيين والمؤابيين، الأمر الذي جعلهم خصوماً للعبرانيين على الدوام. وقد تم استبعاده من الميثاق الذي عُقد بين إبراهيم والخالق والذي ورث بموجبه نسل إبراهيم أرض كنعان. ويشير سفر التكوين (16/12) إلى أن إسماعيل «يكون إنساناً وحشياً. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه» ، أي أنه سيكون ضد كل الناس وكل الناس ضده. وتُصوِّر الأجاداه إسماعيل شخصيةً شريرة فشل إبراهيم في تربيته، فهو يفسد النساء ويعبد الأوثان ويحاول قتل إسحق، ولكنه ماهر في استخدام السهم والقوس. تزوج من امرأة مؤابية، وحينما زارهما إبراهيم كان إسماعيل غائباً. ولم تكرم الزوجة المؤابية وفادته، فترك إبراهيم له رسالة بأن علىه، أي إسماعيل، أن يُغيِّر وتد خيمته. ففهم إسماعيل مضمون الرسالة، وطلق زوجته وتزوج كنعانية تُسمَّى فاطمة (!) . وقد ندم إسماعيل في نهاية حياته على كل المعاصي والآثام، وتنحَّى جانباً في جنازة إبراهيم احتراماً لأخيه إسحق. ويُعتبَر إسماعيل أبا العرب وقد كان يُشار إلى العرب في الكتب الدينية اليهودية في العصور الوسطى باسم «الإسماعيليين» . والآن، يُطلق سكان الكيبوتسات على العاملات العربيات اللائي يعملن فيها اسم «كومبينه فاطمة»
والواقع أن صورة إسماعيل كرجل وحشي مُستبعَد من الميثاق هي الصورة الكامنة وراء كثير من الادعاءات العنصرية الصهيونية تجاه العرب، والكامنة أيضاً وراء الموقف الصهيوني منهم.
إسحق
Isaac
«إسحق» هو ابن إبراهيم، وثاني الآباء. والتسمية من كلمة «صحَق» العبرية بمعنى «ضحك» . وقد جاء في العهد القديم أن إبراهيم وسارة ضحكا حينما أخبرهما ملاك الرب بأنهما سيُرزَقان طفلاً في شيخوختهما. وحسب الموروث الديني اليهودي، ورث إسحق (وليس شقيقه البكر إسماعيل) العهد الإلهي. وكانت محنته الكبرى حينما أمر الإله إبراهيم بأن يضحي به (وليس إسماعيل) . وقد ورد في سفر التكوين العبارة التالية:"خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق"(22/2) . ومن الواضح أن كلمة «إسحق» تم إقحامها، لأن إسحق لم يكن في وقت من الأوقات ابناً وحيداً لإبراهيم (على عكس إسماعيل فقد ظل الابن الوحيد إبراهيم لمدة ثلاثة عشرة عاماً إلى أن رُزق بإسحق) .
وقد أرسل إبراهيم خادمه إلى حُرَّان ليأتي لإسحق بزوج من أهله وعشيرته حتى لا يتزوج من كنعانية، فتزوج إسحق من رفقة التي ظلت عاقراً لمدة عشرين عاماً ثم ولدت له توأمين هما عيسو ويعقوب. وانتقل إسحق إلى جرار بسبب المجاعة. وقد تَشبَّه بأبيه في إظهار زوجته (حسنة المنظر) باعتبارها أخته، وذلك لكي ينجي نفسه وينال من وراء ذلك رزقاً. وظهر الإله لإسحق في بئر سبع ووعد بأن يباركه. وبنى إسحق مذبحاً للرب هناك.
ويظهر إسحق شخصيةً سلبيةً ساذجةً بسيطةً لا يدرك نوايا الآخرين الشريرة. وقد أحب ابنه عيسو في حين أحبت رفقة يعقوب. وفقد إسحق بصره في شيخوخته. وحين أراد أن يبارك ابنهما عيسو وطلب إليه أن يُعدَّ له طعاماً من صيده، استغلت رفقة علَّة زوجها وتآمرت مع يعقوب على أن ينتحل شخصية أخيه ويتقدم إلى أبيه بطعام تُعدُّه هي باعتباره طعام الصيد الذي جاء به أخوه، معتمدة في ذلك على كلال بصر إسحق لشيخوخته. ونال يعقوب بذلك البركة التي كانت من حق أخيه (تكوين 27/1 - 29) . وقد مات إسحق في حبرون (الخليل) ودفنه ابناه في مغارة المكفيلة بجوار زوجته.
وليس لإسحق أهمية كبيرة في التراث الديني اليهودي على عكس أبيه إبراهيم وابنه يعقوب، فيما عدا ارتباطه بفكرة التضحية. ويرى بعض دارسي العهد القديم أن أهميته كانت أكثر بروزاً في نسخ العهد القديم التي فُقدت.
وجاء في الأجاداه أن إسحق وُلد يوم عيد الفصح وأن كثيراً من النساء العاقرات قد حَملن في يوم مولده حيث سطعت الشمس بشكل غير عادي. وهو الأب الوحيد الذي لم يتغيَّر اسمه لأن الإله هو الذي اختار له هذا الاسم. وقد جرى تفسير فقدانه البصر بأن الملائكة التي أمسكت بيد إبراهيم قد بكت وسقطت دموعها على عينيه فكُفّ بصره. ويُقال أيضاً أنه فقد بصره لأنه نظر ذات مرة إلى الشخيناه. وقد فسَّر بعض الحاخامات فقدانه البصر بأنه أطال النظر في ابنه عيسو الشرير.
عيسو
Essau
اسم «عيسو» ليس له اشتقاق في العبرية وهو في الغالب اسم أدومي. وكان عيسو أيضاً يُدعى «أدوم» أي «الأحمر» ، وسُمِّي بذلك لأنه وُلد أحمر كفروة الشَعر، وهو الابن الأكبر لإسحق من رفقة، وتوأم يعقوب. وكان عيسو صياداً ماهراً. وقد عاد ذات يوم من الصيد جائعاً ووجد أخاه يعقوب يطبخ عدساً، فباعه يعقوب صحن العدس ببكورته (أي حق الإرث باعتباره البكر) . ولما شاخ إسحق، أراد أن يبارك عيسو ابنه المفضَّل. ولكن رفقة ساعدت يعقوب على خداع أبيه، حيث استغلا عاهة الرجل العجوز، ونال يعقوب البركة ثم فرَّ خوفاً من عيسو. وعند عودته غفر له عيسو وعرض عليه أن يعيش معه. تزوج عيسو من امرأتين حيثيتين ثم تزوج محلة ابنه إسماعيل. وقد ركز سفر التكوين على هذه الوقائع التي تدل على أن نسله فَقَد نقاءه العرْقي.
ويُعَدُّ يعقوب وريثاً للعهد الذي مُنح لإبراهيم وإسحق بدلاً من عيسو. واستوطن عيسو سعير التي سُمِّيت «بلاد أدوم» ويُسمَّى جبل سعير «جبل أدوم» أيضاً. ويُعَدُّ عيسو أبا الأدوميين، وهو شعب كان يخافه العبرانيون ويحتقرونه في آن واحد، وعلاقة العبرانيين بهم تشبه علاقة يعقوب بعيسو.
ويُشار إلى عيسو في الأجاداه بأنه شقيق يعقوب وعلى اعتبار أنه أدوم وروما التي كانت تُقرَن دائماً بأدوم. وترى الأجاداه أن عيسو، من حيث هو توأم يعقوب، كان شخصاً شريراً يَعبُد الأوثان ويرتكب الزنى والقتل. أما عيسو من حيث هو أدوم، فقد جاءت من صلبه بعض الشخصيات الشريرة مثل هامان. أما عيسو، من حيث هو روما، فإنه يرتكب العديد من الجرائم فيخدع إسحق بأن يعطيه لحم كلاب ليأكله، وهو لا يغفر ليعقوب، كما جاء في الرواية التوراتية، ولا يقبله وإنما يعضُّه. ولكن رقبة يعقوب أصبحت صلبة كالعاج، فتساقطت أسنان عيسو. وبحسب الأجاداه، قُتل عيسو أثناء جنازة يعقوب وهو يقاتل على الميراث.
يعقوب
Jacob
«يعقوب» اسم عبري معناه «يعقب» أو «يمسك العقب» أو «يحل محل» . ويعقوب هو ثالث آباء اليهود، وهو ابن إسحق وجَدّ اليهود الأعلى وتوأم عيسو الأصغر. أمسك بكعب قدمه (بالعبرية: عقب) ، ومن هنا كان اسمه (تكوين 25/26) . وتوجد قصتان أساسيتان في حياة يعقوب أولاهما أنه حينما عاد عيسو من الصيد جائعاً متعباً وجد أخاه يعقوب قد أعد طعاماً فسأله شيئاً مما أُعدّ فانتهز يعقوب الفرصة وباعه طعاماً نظير بكورته (أي أسبقيته في الولادة) ، وبحكم الشريعة كان الأكبر هو الذي يرث الزعامة بعد الأب.
أما القصة الثانية، فهي قصة البركة التي اغتصبها يعقوب، إذ لما كبر إسحق وضَعُف بصره، اتفق يعقوب مع أمه رفقة على مغافلة الأب لكي يدعو له بدلاً من أخيه عيسو، فتم له ذلك بأن انتحل شخصية أخيه، ونال بركة ليست من حقه، إذ أن إسحق دعا له بأن يكون الأنبياء من ذريته. ولما أحسّ إسحق بالأمر، طلب إلى يعقوب الخروج فخرج فاراً من غضب أخيه إلى بيت أسلافه الآراميين، وقيل إن أمه هي التي طلبت إليه أن يلحق بخاله مخافة أن يقتله أخوه عيسو. وقد حصلت أمه على موافقة إسحق على سفره بحجة أنه قد يتزوج بإحدى بنات الحيثيين (ويُلاحَظ أن يعقوب يظهر دائماً بوصفه راعياً، أما عيسو فهو صياد بدوي مغير) .
ورغم أخطائه وخداعه، فقد أراه الإله رؤيا مجيدة إذ رأى ملائكة يصعدون ويهبطون على سلم، ووعده الرب بأن يعطيه الأرض التي كان متغرباً فيها، وحين استيقظ يعقوب سمَّى المكان «بيت إيل» . خرج يعقوب إلى آرام من أرض العراق. وقد جاء على لسانه:«إن كان الإله معي وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه، وأعطاني خبزاً لآكل وثياباً لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً» (تكوين 28/20 ـ 21) ، وهو قول يعني ضمناً أن الإله، إن لم يقبل الصفقة لن يقبله يعقوب رباً. ووجد يعقوب راحيل عند البئر فأحبها، وخدم أباها لابان سبع سنين مهراً لها حتى إذا ما حان وقت الزواج احتال عليه لابان وزوّجه ليئة، فاضطر إلى خدمته سبع سنين أخرى وتزوج من راحيل، وتزوج أيضاً من خادمتيهما، ثم خدم ست سنين أخرى نظير أجر ولكنه خدع لابان في هذه الفترة حتى فاق ثراؤه ثراء سيده ثم فرَّ إلى كنعان، وقد انتهزت راحيل الفرصة وسرقت الأصنام (الترافيم) من أبيها.
ارتحل يعقوب نحو كنعان (فلسطين) . وفي الطريق، صارعه شخص حتى طلوع الفجر وانخلعت فخذه. وقبل أن يطلقه باركه وقال له:«لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت» . ودعا يعقوب المكان فنيئيل أي «وجه الإله» لأنه قال: «إني نظرت الإله وجهاً لوجه ونجَّيت نفسي» (تكوين 32/22 ـ 32) . والقصة تشبه من بعض الوجوه قصصاً مماثلة في الحضارات الوثنية مثل الحضارة اليونانية. ففي إلياذة هوميروس يجرح ديوميدس الرب آريس بمساعدة أثينا، ولكن يعقوب يهزم ربه دون عون أو مساعدة.
ثم طلب يعقوب العفو من أخيه عيسو الذي انطلق إلى أراضيه في جبل سعير (أدوم) . أما يعقوب، فإنه بعد أن اتجه إلى أرض كنعان، اشترى أرضاً عند شكيم. وعند هذه النقطة، يروي العهد القديم قصة دينة ابنة يعقوب من زوجته ليئة التي أحبها شكيم بن حمور الحوي وأقام معها الصلة الجنسية، وقد أبدى أبوه رغبة ابنه في الزواج منها أياً كان صداقها معلناً بهذا رغبته في أن يصاهر قومه قوم يعقوب، فوافق بنو يعقوب على ذلك بشرط اختتان الذكور من أبناء المنطقة قائلين: «
…
إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر، نعطكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم، ونسكن معكم ونصير شعباً واحداً، وإن لم تسمعوا لنا أن تختتنوا نأخذ ابنتنا ونمضي» (تكوين 34/15 ـ 17) . وقبل الحويون (وهم من الأقوام الكنعانية) الشرط ونفذوه بأمانة. وتم الزواج وأفسحوا ليعقوب وأهله المقام بينهم. وفي اليوم الثالث، وكانوا متوجعين بعد الختان، يُذكَر أن ابني يعقوب (شمعون ولاوي) أخوي دينة أخذا سيفيهما وأتيا على المدينة لأن أهلها نجسوا أختهم، وقتلا كل ذكر، وقتلا حمور وابنه شكيم بحد السيف وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب ونهبوا المدينة:«غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه. سبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت» (تكوين 34/25 ـ 29) . وغضب يعقوب مما حدث لا لأنه ينطوي على الغدر وإنما لأنه «نفر قليل فيخشى أن يجتمع عليه الكنعانيون والفرزيون ويضربوه فيبيد هو وبيته» (تكوين 34/30) .
ثم ظهر الإله ثانية ليعقوب مؤكداً له تغيير اسمه إلى يسرائيل ومجدداً العهد الذي أقامه مع إبراهيم. ولقد وُلد ليعقوب اثنا عشر ولداً منهم أحد عشر في آرام أصبحوا القبائل العبرانية الاثنتي عشرة، وبذلك يكون يعقوب هو أبا اليهود الحقيقي الذي يتسمَّون باسمه.
وعندما حلَّت المجاعة أرض كنعان، خرج يعقوب إلى مصر (هو وأولاده حسب إحدى الروايات) حيث كان يوسف قد هاجر من قبل، فعاشوا حياة تتسم بالمعاناة، ربما تكفيراً عن خداع يعقوب لأبيه وسرقته حق الوراثة من أخيه، ولكنه يظل مُعذباً قلقاً بشأن مصير أبنائه حتى وفاته. وتحضره الوفاة في مصر فيستأذن يوسف الفرعون في الخروج إلى كنعان ليدفنه في كنعان في مدينة حبرون (الخليل) ويعود مرة أخرى.
وقد عمَّقت الأجاداه الصراع بين عيسو ويعقوب، وحوَّلت عيسو إلى شر محض على عكس الرؤية التوراتية التي تنظر إليه بشيء من التعاطف. ويبدأ الصراع حسبما جاء في الأجاداه منذ كانا في الرحم. فكلما كانت رفقة تمر على معبد يهودي كان يعقوب يحاول أن يخرج، في حين كان عيسو يحاول أن يخرج إن مرت على معبد وثني. وبذا تَحوَّل التناقض بين اليهود والأغيار إلى صراع أزلي. وقد وُلد يعقوب نظيفاً ناعماً أنيقاً مختناً، أما عيسو فقد كان مغطى بالشعر، أحمر الذقن، نابت الأسنان، وهذه صور تبين الفرق بين جمال يسرائيل الروحي وقبح عالم الأغيار.
وقد مجَّد الحاخامات يعقوب ووضعوه في مكانة تفوق حتى مكانة إبراهيم وإسحق، فكلاهما أنجب أشراراً (إسماعيل وعيسو) . بل إن الإله قد نجَّى إبراهيم من نار نمرود من أجل يعقوب. وأكثر من ذلك، فإن العالم كله قد خلق من أجل يعقوب. وقد فسرت الهاجاداه خدع يعقوب بطريقة تجعلها مقبولة، فقد وُلد عيسو قبل يعقوب لأنه هدَّد بأن يقتل أمه، ووافق يعقوب على ذلك لينقذ أمه. ثم حاول يعقوب أن يسترد بكورته حتى يمكنه تقديم القرابين وهو أمر مقصور على الابن البكر أي أنه سرق البكورة بسبب ديني. بل جاء في الأجاداه أن إسحق قد تردد في إعطاء عيسو بركته. وحينما أخبر إسحق عيسو أن أخاه قد جاء «بمكر وأخذ بركته» (تكوين 27/35) ، فإنه كان يعني في واقع الأمر أن أخاه قد جاء «بحكمة وأخذ بركته» !
يوسف
Joseph
«يوسف» اسم عبري معناه «يزيد» وربما كان اختصاراً لـ «يوسف إيل» . ويوسف هو ابن يعقوب من راحيل وأحب أولاده إليه. وردت قصته في سفر التكوين (37 - 50) . ويُطلَق اسمه على إحدى القبائل العبرانية. حسده إخوته بسبب رؤيا بشرته بسيادته عليهم، حيث كان يرى إخوته ساجدين له، فتآمروا عليه وألقوه في جُبّ، وحمله بعض أهل َمْدَين إلى مصر وباعوه بيع الرقيق. فاشتراه رئيس شرطة فرعون ووكله على بيته. وقد اتهمته زوجته ظلماً فأُلقي في السجن سنوات. وهناك اكتسب ثقة السجان، فولاه على جميع المسجونين. وذاعت شهرة يوسف مفسراً للأحلام
. استوزره فرعون مصر بعد أن أوَّل له حلماً رآه عن سبع سنين شبع وسبع سنين جوع واقترح عليه تخزين الحبوب في سنين الشبع لتحاشي المجاعة، فعينه رئيساً لمخازنه وهو منصب يماثل منصب وزير التموين في العهد الحاضر. تزوج يوسف أسنات ابنة كاهن أون (عين شمس) فوطيفارع (أي: عطية رع إله الشمس) فأنجب منها منَسَّى وإفرايم. ثم حضر أبوه وكل إخوته من فلسطين هرباً من المجاعة فأكرم وفادتهم ووطنهم أرض جاسان أثناء حكم الهكسوس. وبذلك تكونت الجماعة العبرانية التي قادها موسى فيما بعد عبر سيناء إلى أرض كنعان. وتُفسِّر الأجاداه قصة يوسف باعتبارها قصة جماعة يسرائيل، حيث إن رحلته إلى مصر وحظه فيها يشبه خروج العبرانيين من فلسطين وتقلُّب حظوظهم بين الأمم. أما زوجة رئيس الشرطة فهي مثل أنثى الأغيار (شيكسا) التي تحاول أن تجتذب الذكر اليهودي إليها.
هجرة العبرانيين من مصر (الخروج)
(Emigration of the Hebrews from Egypt (Exodus
يُشار إلي هجرة العبرانيين في المصطلح الديني بكلمة «الخروج» . ومن هنا، فإن هجرة العبرانيين من مصر تعني «خروج» العبرانيين من مصر «بعد أن ظهر ملك جديد لا يعرف يوسف» (خروج 1/8) . ومن العسير تحديد تاريخ محدَّد لعدم وجود وثائق تشير إلى هذا الحدث باستثناء العهد القديم.
ويختلف العلماء حول تاريخ هجرة العبرانيين من مصر، فهناك رأي يذهب إلى أنه كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وأن العبرانيين طُردوا من مصر مع الهكسوس، وهذا رأي مانيتو المؤرخ المصري اليوناني الذي عاش حوالي عام 250 ق. م.
أما الرأي الثاني، فيذهب إلى أن هجرة العبرانيين حدثت في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد وأنها كانت في زمن تحتمس الثالث أو في زمن أمنوفيس الثاني، ويتفق هذا مع ماجاء في سفر القضاة، ومع ما ورد في لوحات تل العمارنة عن الخابيرو. ويعتقد العلماء أن هؤلاء هم العبرانيون الذين جاءوا إلى أرض كنعان في هذا التاريخ تقريبًا.
أما الرأي الثالث فيرى أن تاريخ الهجرة يقع في الفترة 1275 ـ 1250 ق. م، وأنها تمت أثناء حكم رمسيس الثاني إذ يذكر سفر الخروج أن العبرانيين بنوا «مدينتي مخازن» وهما: فيثوم ورعمسيس، وأن «رعمسيس» هو اسم الفرعون الذي حدث الخروج في عصره. وهذا دليل واهٍ، ذلك لأن اسم «رعمسيس» استُخدم في عصر سابق لعصر رمسيس الثاني بزمن طويل.
ويقول علماء آخرون إن الهجرة قد تمت في عصر مرنبتاح، أي نحو عام 1230 ق. م، فقد جاء على نصب تذكاري أنه انتصر على يسرائيل وغيره من الأقوام وأنه قضى على نسله. وقد استدلوا على أن هذه إشارة إلى هجرة العبرانيين من مصر، مع أن هذه الإشارة يُستَدل منها على أن العبرانيين كانوا قد خرجوا من مصر قبل ذلك التاريخ وأنهم قضوا سنى التيه في سيناء، وتسللوا إلى كنعان واستقروا فيها، الأمر الذي يتناقض والروايات الأخرى وبعض الحقائق التاريخية، ولذا يذهب بعض المؤرخين إلى أن اسم «يسرائيل» الذي ظهر على هذا النصب إنما هو اسم لمدينة أو قبيلة كنعانية. كما قام أحد العلماء المصريين (د. أحمد يوسف) بترجمة النص كما يلي:"كان إسرائيل بوراً (أو عقيماً) لا بذرة له". وهي جملة لا تدل بالضرورة على حرب أو قتال.
والخروج عملية هجرة من مصر إلى أرض كنعان (فلسطين) . وبالتالي يمكن النظر إليه في إطار آليات الهجرة باعتبارها حركة طرد من مصر، وحركة جذب إلى كنعان، شأنه شأن أية حركة هجرة أخرى. ومع هذا، يجب التحفظ بشأن ما سنورده من أسباب وتفسيرات، فهذه مراحل تاريخية كثير من جوانبها ظلت سديمية، لا نعرف الكثير عنها.
وفي محاولة تفسير حركة الطرد من مصر يمكننا القول بأنه عند تحرير مصر من الهكسوس طُرد معهم حلفاؤهم العبرانيون. أما من بقوا منهم، فقد اعتُبروا أجانب وتحوَّلوا إلى أرقاء وعبيد سُخِّروا في أعمال البناء والمشاريع الإنشائية التي كان يقوم بها الفراعنة، ومن هنا أصبحت مصر، بالنسبة إليهم أرض العبودية.
ويضاف إلى هذا العامل الحضاري أنه تم في القرن الثالث عشر قبل الميلاد اكتشاف الحديد، وهو ما أدَّى إلى بدء تَدهوُّر الوضع الاقتصادي في مصر. فقد كانت مصر غنية بمناجم النحاس، وتسيطر سيطرة شبه كاملة على تجارته مع بلدان غربي آسيا، ولذا، فقد كانت تمارس تأثيراً لا يُستهان به في المنطقة. إلا أن اكتشاف الحديد قلب الأوضاع القائمة حيث حل التعامل بالمعدن الجديد محل التعامل بالنحاس في العالم القديم. ولم تقتصر آثار ذلك على الشعب المصري وحده وإنما شملت الحالة المعيشية لجميع الأجانب القاطنين مصر ومنهم العبرانيون، الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في الانتقال إلى موقع آخر أفضل.
وعلاوة على هذا، شهدت منطقة البحر الأبيض المتوسط في الحقبة التاريخية 1400 ـ 1100 ق. م حركة هجرة هائلة امتدت من أواسط آسيا متجهة نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط وأوربا، إلى جانب حركة سكان جزر المتوسط نحو السهول الساحلية (ومن بينها السواحل الشرقية) مثل شعوب البحر ومنهم الفلستيون.
أما حركة الجذب إلى كنعان، فقد كانت تعود إلى جملة أسباب، أولها أن كنعان كانت دوماً عرضة للغزو الخارجي، ولكنها كانت تقع خارج حدود إمبراطوريتين عظميين: بلاد الرافدين، ووادي النيل. وهذا يعني أن الأقوام التي كانت تعيش فيها كانت تتمتع إلى حدٍّ ما بنوع من الاستقلال النسبي. كما أنها كانت قد بلغت مرحلة متقدمة في الصناعة والتجارة والرفاهية الاقتصادية. وكان هذا يشكل عامل جذب قوي بالنسبة إلى العبرانيين، ويحمل في تضاعيفه أمل التغلغل في هذا المجال، وبالتالي السيطرة عليه. وإضافة إلى هذا، كان العبرانيون قد أقاموا في كنعان في زمن مضى، الأمر الذي كان يهيئهم نفسياً للتفكير في الهجرة إليها مرة أخرى، وخصوصاً أنها على مقربة من مصر. وأخيراً كان التشكيل السياسي السائد في كنعان يتكون من دويلات/مدن ضعيفة لم يكن من الصعب على العبرانيين أن يغزوها ويبسطوا سيطرتهم عليها.
ويختلف العلماء في تحديد الطريق الذي سلكه العبرانيون في خروجهم من مصر. فيحاول بعضهم تحديده بدراسة نصوص العهد القديم وتحليل تضاريس شبه جزيرة سيناء. بل يثير بعض العلماء قضية أن المكان الذي خرج منه العبرانيون «متسراييم» لم يكن «مصر» ، فقد أشار هيوجو ونكلر إلى أن متسراييم التوراتية ليست مصر وإنما موزري وهي مقاطعة جنوبي البحر الميت تضم مرتفعات سعير ومدينة البتراء وتضم أرض مَدْيَن والأدوميين والنبطيين وأنه حدث خلط بين موزري ومصر. ويرى كمال الصليبي أن متسراييم هي أرض عسير في جنوب المملكة العربية السعودية. وقد رفضت أغلبية العلماء كلا الرأيين.
ونحن نستخدم كلمة «الخروج» للإشارة إلى هجرة العبرانيين (جماعة يسرائيل) من مصر، وسيرهم في سيناء، من الناحية الدينية. ونستخدم كلمة «هجرة» للإشارة إلى الواقعة التاريخية ذاتها، أما عبارة «التسلل العبراني في أرض كنعان» ، فنستخدمها للإشارة إلى دخول العبرانيين أرض كنعان.
الخروج (مفهوم ديني)
Exodus (Religious Concept)
كلمة «الخروج هي الترجمة العربية للعبارة العبرية «يتسيآت متسراييم» ، ويُقال لها باليونانية «إكزوداس» . وتُستخدَم الكلمة بمنطوقها اليوناني في معظم اللغات الأوربية.
والخروج هو خروج جماعة يسرائيل من مصر بعد أن ظهر ملك جديد لا يعرف يوسف (خروج 1/8) . وهي واقعة تحتل مكانة مركزية في الوجدان الديني اليهودي ثم الصهيوني. وتذهب المصادر الدينية إلى تفسير الخروج بأنه يرجع إلى تَزامُن اضطهاد فرعون مصر لأعضاء جماعة يسرائيل وإلى أنهم سئموا حياة الترف والدعة في مصر التي يُشار إليها بعبارة «قدور لحم مصر» .
ومهما يكن السبب، فقد أصبح أعضاء جماعة يسرائيل، حسب الرواية التوراتية، شعباً وأمة مقدَّسة بعد خروجهم من مصر «أرض العبودية» . وتُعتبَر هذه الواقعة، تقليدياً، النقطة التي يبدأ فيها التاريخ المستقل لليهود ويظهر الشعب اليهودي للوجود. فقبل ذلك التاريخ كانت الإشارات دائماً إلى أفراد أو أسر (مثل يعقوب وأولاده) تتنقل من مكان إلى آخر وليست لهم هوية إثنية محدَّدة.
ويرمز الخروج في الوجدان اليهودي إلى التدخل الإلهي في التاريخ لصالح الشعب المختار. ويدل على تَحوُّل إله العالم أو الكون أو الطبيعة إلى إله التاريخ اليهودي الذي لا يمكن فَهْم أفعاله بالمنطق الإنساني العادي. وخروج جماعة يسرائيل من مصر علامة على اختيارهم حسب التراث الديني اليهودي، وهو أيضاً علامة على الاستعداد الدائم عند الإله للتدخل في التاريخ ليأخذ بيدهم ولينصرهم على أعدائهم.
وتركز هذه المناسبة على مصر باعتبارها نموذج أرض العبودية التي يُمتهَن فيها الشعب المقدَّس، تماماً كما أصبحت بابل نموذجاً لأرض السبي والنفي. والتراث اليهودي يُذكِّر اليهود بالخروج في أهم المناسبات، فالوصايا العشر تعرّف الإله بأنه «الذي أخرج اليهود من دار العبودية» ، ويرد ذكر الخروج في صلاة الشماع، وعلى كل يهودي في عيد الفصح أن يستشعر الخروج وكأنه يمارسه بشكل شخصي مباشر. وسيُحتَفل بالخروج حتى في العصر المشيحاني، ذلك لأن العصر المشيحاني، مثل الخروج، يقع خارج نطاق التاريخ: في دائرة المطلق. فهما نقطتان متوازيتان، فالخروج بداية التاريخ وعودة الماشيَّح نهايته.
وهذا التاريخ المقدَّس ليس له علاقة كبيرة بالتاريخ الحقيقي، فحادثة الخروج هذه لم تمثل حدثاً يثير الاهتمام الفكري لدى المصريين، ولذا لم يأت لها ذكر في الآثار الفرعونية. كما أن تجربة العبرانيين الفعلية لم تكن سيئة دوماً مع الإمبراطورية المصرية القديمة، وإن لم تكن طيّبة طوال الوقت. ومع هذا، فإن التاريخ المقدَّس أو التوراتي هو الذي صاغ رؤية اليهود لمصر بل وربما رؤية العالم (الغربي) المسيحي لها. ونفس هذه الرؤية، في العلاقة بين عبودية شعب وتحرُّره من إمبراطورية كبرى مثل مصر، تتمثل في رؤية داود وجوليات، فهي عبودية الشاب الصغير الذي لا يحمل سوى المقلاع وتحرُّره من سطوة جوليات المدجَّج بالسلاح.
وتُستخدَم كلمة «خروج» للإشارة إلى هجرة اليهود من أي بلد، فيُشار مثلاً إلى خروج يهود البلاد العربية منها إلى الدولة الصهيونية وإلى خروج يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل. ولكن، وبعد هجرة ما يزيد على نصف مليون مُستوطن صهيوني من فلسطين المحتلة إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول، أشار أحدهم إلى «خروج صهيون» أو «الخروج من صهيون» . وفي هذا مفارقة عميقة إذ أن الخروج يكون دائماً إلى صهيون وليس منها. ويتناول أحد أسفار موسى الخمسة أحداث واقعة الخروج، وهو «سفر الخروج» .
موسى
Moses
«موسى» هو المقابل العربي لكلمة «موشيه» العبرية، وموسى هو مؤسس الديانة اليهودية. وبخروجه أو هجرته من مصر، يبدأ تاريخ العبرانيين.
وقد لاحظ فرويد أن شخصية موسى مزيج من مفاهيم البطولة عند الساميين والمصريين، فشخصية البطل عند الساميين تتميَّز بأنها من أب غير معروف، أو بأن يكون البطل يتيماً، أو تكون ولادته محفوفة بالمخاطر والمشاكل، أو يكون البطل ممن أحبوا العزلة في الصحاري والجبال. أما عند المصريين، فهو من بيئة أرستقراطية، قوي البنية شديد البأس، يعيش في الحضر بين قوم مُتمدينين. وتضم شخصية موسى مزيجاً فريداً من المفهومين.
شبَّ موسى، حسب الرواية التوراتية، في بيت فرعون بعد أن ألقته أمه رضيعاً في النهر، لأن فرعون كان قد شدَّد الأمر بقتل صبيان العبرانيين. ولكنه عرف هويته الحقيقية. وتدخَّل في شجار وقع بين مصري وعبراني فصرع الأول. لكن أحد العبرانيين وشى به، فاضطر إلى الخروج من مصر إلى أرض مديَن في شبه جزيرة سيناء والجزء الشمالي من الجزيرة العربية. وعمل خادماً لدى يثرون كاهن الإله المديَني «يهوه» الذي علمه الديانة الجديدة وزوجه ابنته صفورة. وأثناء رعيه أغنام يثرون، حدثت له معجزة الشجرة المشتعلة التي لا تهلكها النيران، فلما دنا لينظر نودي من وسطها، وظهر له رب إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي أصبح اسمه منذ ذلك الحين يهوه (وموسى ـ حسب الرواية التوراتية - هو النبي الوحيد الذي رأى الإله وجهاً لوجه) . وطلب إليه يهوه أن يعود إلى مصر ليكون قائداً لشعبه ويخرجه من هناك، فأخذ معه أخاه هارون لأنه كان يتلعثم في الكلام. وكما هو معروف، رفض فرعون مصر، وقد يكون رمسيس الثاني (1290 ـ 1237 ق. م) ، ما طلبه موسى، واستمر في استعباد جماعة يسرائيل، فحلَّت بمصر الأوبئة العشرة حتى اضطر فرعون إلى أن يُطلق سراحهم. لكنه غيَّر رأيه ولحق بهم أثناء عبورهم البحر الأحمر، فغرق هو وجيشه. وعند جبل سيناء ظهر يهوه مرة أخرى لموسى، وجدَّد الميثاق بينه وبين جماعة يسرائيل، وأعطى موسى الوصايا العشر والتوراة. وبدأ موسى في سَن التشريعات، وهو ـ حسب التراث الديني اليهودي ـ المصدر الأساسي للشريعة الشفوية. وبنى أيضاً خيمة الاجتماع.
وقد تسبَّب اليهود في الكثير من العناء لموسى أثناء عبور الصحراء، إذ عبدوا العجل الذهبي في غيابه، ثم ظلوا في الصحراء مدة أربعين عاماً حتى نجحوا في اجتياز سيناء. واتخذ موسى لنفسه زوجة ثانية رغم معارضة أخته مريم وأخيه هارون. وحينما حاول عبور نهر الأردن، رفضت مملكتا مؤاب وأدوم السماح له بعبور أراضيهما، الأمر الذي اضطره إلى التسلل شرقاً والاتجاه شمالاً.
وتذكر التوراة أن الرب غضب من موسى وأخيه هارون لخيانتهما له «إذ لم تقدساني وسط بني إسرائيل» (تثنية 32/51) . وكان عقاب موسى النظر إلى أرض كنعان من على جبل نبو لكنه لم يدخلها. ثم مات موسى، وتولى مهمة إدخال جماعة يسرائيل إلى أرض كنعان خادمه يشوع بن نون.
ورغم أن له هذه الأهمية، فإننا لا نجد ذكراً له على لسان عاموس أو أشعيا، ولا يأتي له أيضاً ذكر في الأسفار المقدَّسة إلا فيما ندر. وربما يعود هذا إلى فقدان اليهود لأسفار موسى الخمسة لمئات من السنين. والواقع أن هذه الأسفار تنسب إلى موسى كثيراً من الأوامر الخاصة التي تحرِّض على النهب والسلب والحرق (عدد31/18) . ونظراً لأهمية موسى في الوجدان اليهودي، فإن اليهود والصهاينة يخلعون لقب «موسى الثاني» على كل قائد يهودي. وقد اكتسب هذا اللقب كلٌّ من موسى بن ميمون في الأندلس، وموشيه ديان في فلسطين المحتلة.
وجاء في الأجاداه أن السماء والأرض خُلقتا من أجل موسى، وأن ابنة فرعون حينما فتحت السلة التي فيها موسى وجدت الشخيناه إلى جواره. وقد رفض موسى أن يرضع من ثدي المصريات لأن الفم الذي سيتحدث مع الشخيناه لا ينبغي أن يلوثه لبن النساء المدنَّسات. وقد ظهر الإله له داخل الشجرة المشتعلة حتى يبين له أن اليهود لا يمكن تحطيمهم ـ تماماً مثل الشجرة التي لم تقض عليها ألسنة اللهب. وقد فُسِّر تردده في قبول الرسالة الإلهية بعدة أسباب، من بينها أنه أراد أن يكون الإله ذاته هو مخلِّص جماعة يسرائيل، كما أنه كان غاضباً من الإله لأنه هجر جماعة يسرائيل لمدة مائتين وعشرة أعوام وسمح بأن يقوم المصريون بذبح كثير من أتقيائهم. وفي القبَّالاه، يُعَدُّ موسى وهارون التجلّيين النورانيين: نيتسح (التحمل والأزلية) وهود (الجلالة والمجد) .
هارون
Aaron
«هارون» هو المقابل العربي للاسم العبري «أهرون» ، وهو شقيق موسى، وهو أيضاً من أحفاد لاوي. اعتُبر منذ شبابه قائداً لجماعته وكاهن بيته وسُمِّي باسم «اللاوي» . ويُعَدُّ هارون شخصية أساسية في أحداث الخروج من مصر، فهو الذي تحدَّث باسم موسى حينما ذهب إلى فرعون (وهذا ما يعطيه صفات النبوَّة) . واشترك مع موسى في قيادة جماعة يسرائيل إلى خارج مصر. ومع هذا، فحينما تأخر موسى وهو على الجبل مع الرب، ضج أعضاء جماعة يسرائيل، وارتدوا عن طاعة إله موسى وطلبوا إلى هارون أن يصنع لهم تماثيل آلهة ليعبدوها، فصنع هارون العجل الذهبي وبنى له مذبحاً. غير أن الإله، مع هذا، غفر له خطأه وأصبح هارون أول رئيس للكهنة.
وتُفسِّر الأجاداه تَورُّطه في حادثة العجل الذهبي على أساس حبه لجماعة يسرائيل. فبدلاً من أن يقتل من اشتركوا في هذه العبادة الوثنية، كما فعل موسى، اشترك هو معهم بل صنع العجل بنفسه. وفي رواية أخرى أنه صنع العجل الذهبي خوفاً على حياته من جماعة يسرائيل.
وثمة رأي يذهب إلى أن ثمة اختلاف بين الهارونيين (ذرية هارون) واللاويين، وأن ذرية هارون تشكِّل نخبة خاصة داخل قبيلة لاوي، ولذا فقد كان منهم كبير الكهنة في حين كان يتبع صغار الكهنة قبيلة لاوي. ويُلاحَظ أن ثمة صراعاً بين اللاويين والهارونيين يظهر في ثورة أبناء قورح على هارون، وفي رفض قبيلة اللاويين ممارسة عبادة العجل الذهبي. ويرى بعض العلماء أن قبيلة هارون كانت عشيرة كهنوتية موجودة في مصر قبل عصر موسى واعتنقت عقيدة موسى قبل اللاويين، وأنها هي التي نشرت الدين الجديد بسبب مكانتها، وأن العشيرة الهارونية اندمجت في قبيلة اللاويين.