المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإيمان بالله تعالى - نبذة في العقيدة الإسلامية

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الإيمان بالله تعالى

‌أسس العقيدة الإسلامية

الدين الإسلامي: - كما سبق - عقيدة وشريعة، وقد أشرنا إلى شيء من شرائعه، وذكرنا أركانه التي تعتبر أساسًا لشرائعه.

أما العقيدة الإسلامية: فأسسها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره، وشره.

وقد دلَّ على هذه الأسس كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ففي كتاب الله- تعالى- يقول: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[سورة البقرة: 177] .

ويقول في القدر: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[سورة القمر: 49، 50] .

وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيبًا لجبريل حين سأله عن الإيمان: (الإيمان: أنْ تؤمنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر: خيره وشره)(1) .

‌الإيمان بالله تعالى

فأما الإيمان بالله فيتضمَّنُ أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجود الله- تعالى -:

وقد دلَّ على وجوده - تعالى -: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.

1-

أما دلالة الفطرة على وجوده - سبحانه-: فإنَّ كل مخلوق قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير، أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلَاّ من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود إلا ويولدُ على الفطرة، فأبواهُ يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)(2) .

2-

وأما دلالة العقل على وجود الله- تعالى - فلأن هذه المخلوقات: سابقها

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (93) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم (1319) .

ص: 34

ولاحقها، لابد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ ولا يمكن أن توجد صدفة.

لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلقُ نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا؟!

ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنعُ منعًا باتًّا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟!

وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة؛ تعيَّن أن يكون لها موجد هو الله رب العالمين.

وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي، والبرهان القطعي، حيث قال:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[سورة الطور: 35] . يعني: أنهم لم يُخْلَقُوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقُوا أنفسهم؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم t رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السموات وَالأرْضَ

بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ

الْمُصَيْطِرُونَ) [سورة الطور: 35-37] .

وكان جبير يومئذ مشركًا قال: (كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)(1) .

ولنضرب مثلاً يوضح ذلك: فإنه لو حدَّثك شخص عن قصرٍ مشيَّد، أحاطتْ به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومُلئ بالفرش والأسِرَّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إنَّ هذا القصر وما فيه من كمال قد أوْجد نفسه، أو وُجِد هكذا صدفة بدون مُوجد؛ لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهًا من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع: بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجَدَ نفسه، أو وُجد صدفة بدون موجد؟!

3-

وأما دلالة الشرع على وجود الله - تعالى-: فلأن الكتب السماوية كُلَّها تنطقُ بذلك، وما جاءت به من الأحكام العادلة المتضمنة لمصالح الخلق؛ دليل على

(1) رواه - البخاري - مفرقًا، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الطور، رقم (4573) .

ص: 35

أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها؛ دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.

4-

وأما أدلة الحس على وجود الله؛ فمن وجهين: أحدهما: أننا نسمعُ ونشاهدُ من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدلُ دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله سبحانه:(وَنُوحًا إِذ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[سورة الأنبياء: 76]، وقال تعالى:(إِذ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)[سورة الأنفال: 9] .

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك t قال: إنَّ أعرابيًّا دخل يوم الجمعة - والنبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ - فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاعَ العيال، فادع الله لنا؛ فرفع يديه ودعا؛ فثار السحاب أمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته. - وفي الجمعة الثانية، قام ذلك الأعرابي، أو غيره فقال: يا رسول الله - تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا؛ فرفع يديه، وقال:(اللهم حوَاليْنا ولا عَلَيْنَا، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت)(1) .

وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا؛ لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى، وأتى بشرائط الإجابة.

الوجه الثاني: أنَّ آيات الأنبياء التي تسمَّى المعجزات ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى؛ تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم.

مثال ذلك آية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه؛ فانفلَق اثنى عشر طريقًا يابسًا، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى:(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[سورة الشعراء: 63] .

ومثال ثانٍ: آية عيسى صلى الله عليه وسلم حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من

(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، رقم:(891) .

ص: 36

قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى عنه:(وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذنِ اللهِ)[سورة آل عمران: 49]، وقال:(وَإِذ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذنِي)[سورة المائدة: 110] .

ومثال ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر؛ فانفلق فرقتين، فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)[سورة القمر: 1-2] .

فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى؛ تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم، تدلُ دلالة قطعية على وجوده تعالى.

الأمر الثاني مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بربوبيَّته أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.

والرب: من له الخلق، والملك، والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا هو، ولا أمر إلا له، قال تعالى:(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)[سورة الأعراف: 54] وقال: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)[سورة فاطر: 13] .

ولم يعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله

سبحانه، إلا أن يكون مكابرًا غير معتقد بما يقول، كما حصل من فرعون، حين قال لقومه:(أَنَا ربُّكم الأَعلى)[سورة النازعات: 24] وقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[سورة القصص: 38] ، لكن ذلك ليس عن عقيدة، قال الله تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[سورة النمل: 14] . وقال موسى لفرعون، فيما حكى الله عنه:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلَاّ رَبُّ السموات وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا)[سورة الإسراء: 102] ولهذا

كان المشركون يقرُّون بربوبية الله تعالى، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى:(قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السموات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُم تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)[سورة المؤمنون: 84-89] .

وقال الله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ

ص: 37

الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [سورة الزخرف: 9] .

وقال سبحانه: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)[سورة الزخرف: 87] .

وأمر الله سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي، فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد، حسب ما تقتضيه حكمته، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادات، وأحكام المعاملات، حسبما تقتضيه حكمته، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرِّعًا في العبادات، أو حاكمًا في المعاملات؛ فقد أشرك به، ولم يحقق الإيمان.

الأمر الثالث مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بألوهيَّته أي: بأنه وحده الإله الحق لا شريك له، و (الإله) بمعنى:(المألوه) أي: (المعبود) حبًّا وتعظيمًا.

قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)[سورة البقرة: 163]، وقال تعالى:(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[سورة آل عمران: 18] ، وكل من اتخذ إلهًا مع الله، يعبد من دونه؛ فألوهيته باطلة، قال الله تعالى:(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[سورة الحج: 62] . وتسميتها آلهة؛ لا يعطيها حق الألوهية، قال الله تعالى في (اللات والعزى ومناة) :

(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)[سورة النجم: 23] .

وقال عن هود: إنه قال لقومه: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)[سورة الأعراف: 71] .

وقال عن يوسف عليه السلام أنه قال لصاحبي السجن: (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)[سورة يوسف: 39، 40]

ولهذا كانت الرسل - عليهم الصلاة والسلام -يقولون لأقوامهم: (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[سورة الأعراف: 59] ، ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم، ويستغيثون.

وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:

ص: 38

الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي اتخذوها شيء من خصائص الألوهية، فهي مخلوقة لا تخلقُ، ولا تجلب نفعًا لعابديها، ولا تدفع عنهم ضررًا، ولا تملك لهم حياة، ولا موتًا، ولا يملكون شيئًا من السموات، ولا يشاركون فيه.

قال الله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)[سورة الفرقان: 3] .

وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)[سورة سبأ: 22، 23] وقال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)[سورة الأعراف: 191، 192] .

وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة؛ فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه، وأبطل الباطل.

والثاني: أن هؤلاء المشركين، كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجيرُ ولا يُجارُ عليه، وهذا يستلزم أن يوحِّدوه بالألوهية، كما وحَّدوه بالربوبية، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ

تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة: 21، 22] .

وقال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)[سورة الزخرف: 87] .

وقال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[سورة يونس: 31، 32]

الأمر الرابع مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته:

أي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء، والصفات، على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، قال الله تعالى:(وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[سورة الأعراف: 180]، وقال تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي

ص: 39

السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة الروم: 27]، وقال تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[سورة الشورى: 11]

وقد ضلَّ في هذا الأمر طائفتان:

إحداهما: (المعطِّلة) الذين أنكروا الأسماء والصفات، أو بعضها، زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه، أي: تشبيه الله تعالى بخلقه، وهذا الزعم باطل؛ لوجوه، منها:

الأول: أنه يستلزم لوازم باطلة؛ كالتناقض في كلام الله سبحانه، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء، والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه؛ لزم التناقض في كلام الله، وتكذيب بعضه بعضًا.

الثاني: أنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في اسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلاًّ منهما إنسان سميع، بصير، متكلم، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية، والسمع، والبصر، والكلام، وترى الحيوانات لها أيدٍ، وأرجلٌ، وأعينٌ، ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها، وأرجلها، وأعينها متماثلة.

فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفقُ فيه

من أسماء، أو صفات؛ فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.

الطائفة الثانية: (المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء

والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه، زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص؛ لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون، وهذا الزعم باطل؛ لوجوه منها:

الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر يبطله العقل، والشرع، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرًا باطلاً.

الثاني: أن الله تعالى خاطبَ العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى، أما الحقيقة والكُنْه الذي عليه ذلك المعنى؛ فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته، وصفاته.

ص: 40

فإذا أثبت الله لنفسه أنه سميع؛ فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى، (وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة؛ لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات؛ فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.

وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه استوى على عرشه؛ فإن الاستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الاستواء التي هو عليها غير معلومة لنا بالنسبة إلى استواء الله على عرشه؛ لأن حقيقة الاستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الاستواء على كرسي مستقر كالاستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق؛ فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.

والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة، منها:

الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى، بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوف، ولا يعبد غيره.

الثانية: كمال محبة الله تعالى، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العليا.

الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.

ص: 41