الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب"1.
رابعا: إجماع أهل الحديث على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده وجواز التحديث به، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشذوذ2.
خامسا: اعتماد فقهاء هذه الأمة وأئمتها على الكتابة في حفظ السنة والفقه، وقد تقدم قول ابن القيم في ذلك.
وفي نظري أن هذا القول هو الصواب وهو الأرفق بالناس في معاملاتهم وأقضيتهم ولأن الكتابة تدل على المقصود كدلالة الألفاظ، ولأن هذا القول هو الذي أختاره حذاق الأئمة كما هو ظاهر من النقول.
1 صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) .
2 الطرق الحكمية ص 301، وأنظر المستصفى للغزالي 1/166.
كيفية الإِثبات بالكتابة:
إن كنا قد انتهينا إلى جواز الإثبات بالكتابة بناء على القول الغالب عند الفقهاء وتسهيلا على الناس، فإن هذا الجواز لم يجعل من الكتابة دليلا يمنع أو يحد من قوة غيرها من الأدلة كما ذهب بعض القانونيين. فرجال القانون الوضعي قد انتهوا إلى وجوب الإثبات بالكتابة في بعض الحقوق، ولا يجوز الإثبات إلا عن طريقها، ومنعوا الإثبات بشهادة الشهود في هذه الحقوق، مقيدين بذلك طريق الإثبات بالشهادة، وجعلوا حجية الكتابة أقوى من حجية الشهادة. ورجال القانون إن كانوا قَد عذروا أنفسهم في هذا المسلك بدعوى انتشار شهادة الزور مما أدى إلى الفوضى في ساحات العدالة، فإن الفقه الإسلامي لم يكن بحاجة لمثل هذا التصرف وهذا التقييد مادام منهجه تربية الفرد، وغرس روح الأمانة والمراقبة لله عز وجل بحيث تندرج هذه المراقبة على أفعاله كلها فيكون بذلك بعيدا عن تهمة التزوير. ثم إن هذا المحذور الذي أدى تقييد الشهادة عند القانونيين لا يؤمن دخوله في الكتابة والمستندات الخطية، وما كان إنكار المانعين للإثبات بالكتابة إلا لتخوفهم من الغش والتزوير.
بقي لنا الآن أن نرى كيف يكون اعتداد الفقهاء بالمستندات المكتوبة في الإثبات.
فإذا نظرنا إلى كتابات الفقهاء- المتقدمين منهم والمعاصرين- في الأدلة الكتابية نجدهم يقسمونها إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: المستندات الصادرة من دائرة رسمية:
وهي تلك التي يثبت بها موظف عام أو شخص مكلَّف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقا للقواعد المرعية وفي حدود سلطته أو ولايته أو اختصاصه. ولذلك فإن أهم ما يشترط للسند الرسمي ما يلي:
(1)
أن يكون تحريره بمعرفة موظف عمومي أو جهة رسمية.
(2)
أن يكون ذلك الموظفة أو تلك الجهة الرسمية مختصة بتحرير مثل هذا السند وفي حدود سلطتها أو ولايتها.
(3)
أن يكون تحرير هذا السند قد تم بحسب القواعد الموضوعة له1.
ومثال المستندات الرسمية: صور الأحكام التي تستخرجها المحكمة ممهورة بإمضاء القاضي وختم المحكمة، وثائق الزواج والطلاق، شهادات الميلاد، صكوك الأراضي وعقودها المستخرجة من سجلات مصلحة الأراضي، مخالصات مصلحة الضرائب وصندوق الزكاة وغير ذلك من المستندات التي تستخرج من الجهات المختصة معتمدة بختمها وإمضائها.
والورقة الرسمية حجة على ما تضمنته من حقوق وبيانات مادامت قد استوفت الشروط المتقدمة، ولذلك لا يقبل إنكار ما جاء فيها إذ أن الجهة الرسمية لا تستخرج هذا السند إلا إذا توثقت من صحة بياناته بالتحري الدقيق أو بشهادة الشهود أو بالرجوع إلى سجلاتها.
ونستدل لهذا القول من كتب السابقين ما ورد عنهم في كلامهم عن كتاب القاضي إلى القاضي أو الحاكم إلى عماله فإنه يكون حجّة وكذلك يكون حجّة ما يصدره القضاة من أوراق للخصوم تتضمن الحكم الذي أصدروه في قضاياهم وغير ذلك. ومن هذه الأقوال:
يقول البخاري في صحيحه "باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق منه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي". وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود، قال: وإن كان القتل، فالخطأ والعمد واحد، لأنه مال بزعمه وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت.
1 أصول المرافعات الشرعية أنور العمروسي فقره 318، علم القضاء. أحمد الحصري 1/48.
وقال إبراهيم كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عُرِف الكتاب والخاتم. وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي، ويروى عن ابن عمر نحوه. وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي شهدت عبد الملك بن يعلى قاضى البصرة وإياس بن معاوية والحسن وثَمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد الله بن بريدة الأسلمي وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كُتُب القضاة بغير محضر الشهود، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور قيل له اذهب فالتمس المخرج من ذلك"1
ويقول ابن القيم: "وقال أبو يوسف/ محمد: ما وجد القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق، والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره فإنه ينفذ ذلك ويقضي به إذا كانت تحت خاتمه محفوظا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه"2.
هذا، وقد عقد صاحب جامع الفضولين فصلا في حجية المحاضر الرسمية للقضاة والصور المستخرجة منها إذا كانت موقعة بختم القاضي وامضائه، وبين أن محاضر القضاة وما دون فيها من أقوال الخصوم وسماع الشهود ومنطوق الحكم تكون حجة، وكذلك الصورة التي يستخرجها القاضي من سجلات المحكمة تتضمن حكم قاض آخر في دعوى من الدعاوى3.
يظهر من كلام الفقهاء أن إنكار الورقة الرسمية لا يقبل، غير أنه إذا طعن في الورقة الرسمية بالتزوير، وقال إنهم قد زوروا توقيعه أو توقيع القاضي أو ختم جهة الاختصاص، فللقاضي أن يحيل الأوراق إلى جهة الاختصاص أو أهل الخبرة للمضاهاة والإفادة بصحة الورقة أو التزوير، وهل يحكم القاضي بقول أهل الخبرة أن المستند صحيح؟ قيل لا يحكم لكون شهادتهم ليست شهادة على الحق، وقيل يحكم بذلك4. وعندي أن السير في الدعوى يتوقف على مدى اقتناع القاضي بصحة السند استئناسا بقول أهل الخبرة، ومدى قوة السند وأثره على الدعوى.
القسم الثاني: المستندات العرفية:
والمستندات العرفية هي الأوراق والمستندات التي لم تصدر من دائرة رسمية أو موظف
1صحيح البخاري 4/237 (كتاب الأحكام) .
2 الطرق الحكمية ص 299.
3جامع الفضولين 1/325 وما بعدها.
4 علم القضاء: أحمد الحصرى 1/48 وما بعدها.
مختص، وهي ككتابة المُقِر بخط يده أن لفلان عليه كذا، أو كتابة الوصية بخط الموصي من غير أن يُشهد على وصيته، وكذلك هبته لآخر من غير أن يقوم بتسجيل الهبة، ومن ذلك أيضا أن يجد الوارث في دفتر مورثه أن له عند فلان كذا، ومنه أيضا دفاتر التجار التي تبين تعاملهم ودائنيهم ومدينيهم.
والورقة العرفية حجة فيما تضمنته، ويجوز للقاضي أن يحكم بمقتضاها، فهي كالإقرار بالكتابة، والإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان عند الفقهاء. فمتى ما أقر الشخص بتوقيعه أو بخطه، أو أقر الوارث بأن هذاَ خط مورثه أو توقيعه أو كان ذلك الخط أو التوقيع معروفا ومشهورا فعلى القاضي أن يعمل بمقتضى هذا السند.
يقول ابن القيم: "والحديث المتقدم- أي حديث الوصية- كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي، وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ولأن الكتابة تدل على المقصود فهي كاللفظ ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي: "وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة، لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".
وقول الإمام أحمد وإن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها، يرد على ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصوله العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ واللفظ دال على القصد والإرادة "1.
ويقول في موضع آخر"وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه أن لي عند فلان كذا، جاز له أن يحلف على استحقاقه وأظنه منصوصا عليها، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ماله عليّ جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته"2.
غير أننا نلاحظ اختلاف معاملة الفقهاء للورقة العرفية عن معاملة المستند الرسمي، إذ أنهم لم يقبلوا إنكار من كان السند الرسمي حجة عليه أما الورقة العرفية فقد جعلوا كتابته
1 الطرق الحكمية ص 302.
2 المرجع السابق ص 303.