المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه - نظام الإثبات في الفقه الإسلامي - ٦٣ - ٦٤

[عوض عبد الله أبو بكر]

الفصل: وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه

وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه لم يوقع وليس هذا توقيعه فوجب على المدعي إثبات الإقرار بطريق آخر غير الورقة العرفية.

نخلص من هذا أنه يجوز الإثبات بالكتابة عموما، فإن كان المستند صادرا من جهة رسمية فهو حجة، وعلى مُدعي خلاف ما في السند إثبات بطلان هذا السند بالتزوير. أما إن كان السند عرفيا، فهو دليل على الحق غير أنه يجوز لمن كان السند حجة عليه أن ينكر دلالة هذا السند العرفي على الحق لكون الفقهاء عاملوا الورقة العرفية معاملة الإقرار، والإقرار يجوز الرجوع فيه، ولذا يمكن الطعن في هذه الورقة العرفية بإنكارها أو تزويرها.

1 صحيح البخاري 3/ 139. (كتاب الفرائض- باب القائف) .

ص: 118

‌شهادة الخبراء:

ومن الوسائل التي تُعين على إظهار الحق وكشف وجه الدعوى قول الخبراء. والخبراء هم الذين لهم المعرفة والخبرة بالمسائل الفنية إذا كان موضوع النزاع فيه مسألة فنية أو عدمية تغيب على القاضي، ومن ذلك قول الطبيب الشرعي في سبب الوفاة، وغير ذلك مما يختص بمعرفته الطبيب. وكذلك قول المهندسين والفاحصين والمختصين بمعرفة الخطوط والبصمات، كلٌ فيما يتعلق ويتصل بمجال تخصصه، وكذلك قول البيطار في عيوب الحيوان ودائه.

ويمكن القول بأن الشريعة الإسلامية قد اعتدت بقول أهل الخبرة، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول القائف وسرّ عليه الصلاة والسلام حينما أثبت نسب أسامة- رضي الله عنه من زيد- رضي الله عنه بمقارنة الشبه في أقدامهما1.

وقد أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . (القيامة: 4) . إلى اختلاف بصمات الأصابع من شخص لآخر. فلا حرج إذن إذا استدل القاضي على المتهم بقول الخبراء الذين قارنوا بصمات المتهم مع البصمات التي وجدت في مكان الجريمة واتضحت المطابقة. ولما كان قول الخبير ليس شهادة مباشرة في موضوع النزاع إنما هو تقرير فني يتعلق فقط بالمسألة الفنية القائمة في الدعوى جاز للقاضي أن يحكم بمقتضاه إذا وافق الأدلة الأخرى القائمة في الدعوى، كما يجوز له تركه أوترك بعضه إذا رأى عدم سلامته أو عدم سلامة بعضه لكونه يخالف أدلة أخرى مقنعة وواضحة في الدعوى، ذلك لأن القاضي لا يحكم إلا بما تطمئن إليه نفسه حسب الأدلة المقدمة في الدعوى. وليس هذا إنكارا للفائدة العلمية لتقرير الخبير ولكن قد توجد أدلة أخرى أكثر دلالة ووضوحا في

ص: 118

محل النزاع، فوجود بصمة الشخص في محل الجريمة مثلا لا تعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا للقتيل أو كان حاملا له بقصد إسعافه، أو كان مدافعا عن نفسه وغير هذا من الاحتمالات.

ثم إنه لما كان قول الخبير شهادة يستعين به القاضي في الدعوى القائمة كما أسلفت، وجب أن يراعى في هذا المقال الشبُه التي تردّ الشهادة فيجب ألا يكون الخبير الذي قدم تقريره في الدعوى قريبا لأحد الخصوم أو قريبا لزوجته أو صهرا لأحد الخصوم أو وكيلا له أو لزوجته في أعماله أو وصيا أو قيما أو مظنونا وراثته بعد موته، كما يجب ألا تكون بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو خصومة ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت بعد الدعوى يقصد منعه من الإدلاء بقوله أو تقريره1.

وبانتهاء الكلام عن شهادة أهل الخبرة نكون قد فرغنا من عرض أهم وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، وقد رأينا أن هناك قسما قد اتفق الفقهاء على حجيته وهو الإقرار والشهادة، وقسما اختلفوا فيه وعرضنا فيه اليمين النكول عنه، وعلم القاضي، والقرائن والفراسة، والكتابة وشهادة الخبراء، وقبل أن أختم هذا البحث أرى أن أقرر بعض الحقائق المهمة:

الأولى: إن هذه الأدلة التي سقناها تدل على الحق غالبا، ولا يخلو دليل منها- متفق عليه أو مختلف فيه- من احتمال، ولكن هذا الاحتمال لا يمنع غالبا دلالتها على الحق، ولذا جعلها الشارع وسائل للإثبات لأن الحكم للكثير الغالب لا للقيل النادر.

الثانية: إنه لا يجوز التوصل إلى هذه الوسائل بطريق غير مشروع، ولابد للقاضي من التأكد من سلامة إجراءات حصوله على أي من هذه الأدلة ويظهر تقرير الفقه الإسلامي لقواعد سلامة إجراءات الوصول إلى الأدلة في أمرين:

(أ) عدم جواز تعذيب المتهمين للحصول على إقرارهم:

يرى ابن حزم أن الامتحان في الحدود وغيرها من الجرائم بالضرب وبالسجن أو التهديد لا يحل شرعا لأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم

1 أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي فقرة 365.

ص: 119

حرام" 1. ولا يجوز ضرب المسلم إلا إذا ثبت عليه حق فمنعه فيكون ظالما في هذه الحالة فوجب ضربه لإخراج الحق منه.

ويرى ابن حزم تأسيسا على ذلك أنه لو ضرب المتهم حتى أقر فإن إقراره لا يعمل به، لأنه قد أخذ بصفة لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع2.

بيد أننا نجد الجمهور من الفقهاء قد قسموا الناس في الدعوى على طوائف ثلاث. طائفة لا يجوز حبسهم ولا ضربهم ولا يضيق عليهم بشيء بل ذهب بعض الفقهاء إلى تعزير من اتهمهم لأن التهمة لا تليق بأمثالهم لكونهم من أهل الورع والتقوى ومعروفين بالدين والصلاح، وطائفة مجهول حالها لم تعرف بصلاح أو فسق، فهذه قالوا لا يضرب المتهم منها ولكن يحبس حتى ينكشف أمره، وطائفة المشتهرين بالفساد والفجور ونقب الدور والسرقات، فهذا لا مانع من ضربه لمناسبة التهمة له ولكونه لوترك لضاعت الحقوق وعمت الفوضى3.

(ب) ألا يكون في الحصول على الدليل اعتداء على الحرية الشخصية:

وفي نظري أن الحصول على الدليل إذا كان باعتداء على الحرية الشخصية للفرد فإن ذلك سبب كاف في منع الاحتجاج به، إذ أن الشريعة الإسلامية تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة، فيقول تعالى:{وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . (الحجرات: 12) . كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس في بيوتهم، ولذا فإن الدليل المأخوذ بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه.

ونستدل لذلك بما رواه البيهقي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهب سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقام عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال:"أتدري بيت من هذا؟ " قلت: "لا". قال: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ " قال عبد

1 صحيح البخاري (كتاب الحدود) 4/ 105.

2 المحلى 11/135.

3 الفتاوى الكبرى ابن تيميه 4/ 190 وما بعدها، معين الحكام للطرابلسي ص 217، والحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار مؤلفه سعد الدين بن الديري الحنفي ص16.

ص: 120

الرحمن: "أرى قد أتينا ما نهى الله عنه {وَلا تَجَسَّسُوا} فقد تجسسنا" فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم1.

وفى رواية أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما، فتسلق المنزل وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة ومعهما زق خمر فقال:"يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية"، وأراد أن يقيم عليه الحد فقال الرجل:"لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست. وقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) . وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت. وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . (النور: 27) . وأنت لم تسلم". فخجل عمر وبكى وقال للرجل: "هل عندك من خير إن عفوت عنك" قال: "نعم". فقال: "اذهب فقد عفوت عنك"2.

معنى ذلك أن صاحب الدار دفع بعدم مشروعية الدليل. فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة، وهو التجسس وتسور الحائط وعدم السلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليست المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك، لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه أنه وليد إجراءات غير مشروعة.

الثالثة: "الأصل في الذمة البراءة"3 معنى ذلك أنه ما لم يثبت بطريق من طرق الإثبات أن الشخص معتد أو غاصب فالأصل براءته، فهذه قاعدة وأصل مقرر في الفقه الإسلامي.

والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد حتى يرضى

1 السنن الكبرى 8/ 333، ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 377. قال الذهبي في تلخيص المستدرك صحيح.

2 تاريخ الطبري 5/ 20 المطبعة الحسينية: مصر.

3 الأشباه والنظائر لابن نجيم وشرح الحمدي على الأشباه 1/ 89 والمادة "8" من محلة الأحكام العدلية، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء 1/648.

ص: 121