الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفجر
مقصودها الاستدلال على آخر الغاشية الإياب والحساب، وأدل ما فيها على هذا المقصود الفجر بانفجار الصبح عن النهار الماضي بالأمس من غير فرق في شيء من الذات وانبعاث النيام من الموت الأصغر وهو النوم بالانتشار يفي ضياء النهار لطلب المعايش للمجازاة في الحساب بالثواب والعقاب) بسم الله (جامع العباد بعد تمزيقهم بما له من العظمة) الرحمن (الذي عمهم بعد العموم بالإيجاد بالبيان المهيئ من شاء للإيمان) الرحيم (الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح الجنان.
لما ختمت تلك بأنه لا بد من الإياب والحساب، وكان تغيير الليل والنهار وتجديد كل منهما بعد إعدامه دالاًّ على القدرة على البعث، وكان الحج قد جعله الله في شرعه له على وجه التجرد عن المخيط ولزوم التلبية والسير إلى الأماكن المخصوصة آية مذكرة بذلك قال: {و
الفجر *}
أي الكامل في هذا الوصف لما له من العظمة حتى كأنه لا فجر غيره، وهو فجر يوم النحر الذي هو أول الأيام الآخذة في الإياب إلى
بيت الله الحرام بدخول حرمه والتحلل من محارمه وأكل ضيافته.
ولما ذكر هذا اليوم بما العبارة به عنه أدل على البعث لأنه ينفجر عن صبح قد أضاء، ونهار قد انبرم، وانقضى، لا فرق بينه وبين ما مضى، عم فقال معبراً بالمقابل:{وليال عشر *} هي أعظم ليالي العام. وهي آية الله على البعث بالقيام إلى إجابة داعي الله تعالى على هيئة الأموات {والشفع} أي لمن تعجل في يومين {والوتر *} أي لمن أتم - قاله ابن الزبير، وروى أحمد والبزار برجال الصحيح عن عياش بن عقبة وهو ثقة عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«العشر الأضحى، والشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة» .
ولما كان تعاقب الليل والنهار أدل على القدرة وأظهر في النعمة، قال رادّاً لآخر القسم على أوله، ومذكراً بالنعمة وكمال القدرة، لأن الليل أخفاهما سُرى وسراً، فهو أعظمهما في ذلك أمراً، لأن سير النهار ظاهر لسرايته بخلاف الليل فإنه محوى صرفه فكان أدل على القدرة {والّيل} أي من ليلة النفر {إذا يسر *} أي ينقضي كما
ينقضي ليل الدنيا وظلام ظلمها فيخلفه الفجر ويسرى فيه الذين آبوا إلى الله راجعين إلى ديارهم بعد حط أوزارهم، وقد رجع آخر القسم على أوله - وأثبت الياء في يسري ابن كثير ويعقوب وحذفها الباقون، وعلة حذفها قد سأل عنها المؤرج الأخفش فقال: اخدمني سنة، فسأله بعد سنة فقال: الليل يسرى فيه ولا يسري، فعدل به عن معناه فوجب أن يعدل عن لفظه كقوله تعالى:{وما كانت أمك بغيّاً} [مريم: 28] لما عدل عن «باغية» عدل لفظه فلم يقل: بغية - انتهى، وهو يرجع إلى اللفظ مع أنه يلزم منه رد روايات الإثبات، والحكمة المعنوية فيه - والله أعلم - من جهة الساري وما يقع السرى فيه، فأما من جهة الساري فانقسامهم ليلة النفر إلى مجاور وراجع إلى بلاده، فأشير إلى المجاورين بالحذف حثاً على ذلك لما فيه من جلالة المسالك، فكان ليل وصالهم ما انقضى كله، فهم يغتنمون حلوله ويلتذون طوله من تلك المشاهد والمشاعر والمعاهد، وإلى الراجعين بالإثبات لما سرى الليل بحذافيره عنهم آبوا راجعين إلى ديارهم فيما انكشف من نهارهم، وأما من جهة ما وقع فيه السرى فللاشارة إلى طوله تارة وقصره أخرى، فالحذف إشارة إلى القصير والإثبات إشارة إلى الطويل بما وقع من تمام سراه وما
وقع للسارين فيه من قيام وصف الأقدم بين يدي الملك العلام كما قال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى حيث قال مشيراً لذلك:
كم ليلة فيك وصلنا السرى
…
لا نعرف الغمض ولا نستريح
الأبيات المذكورة عنه في المزمل، فقد انقسم الليل إلى ذي طول وقصر، والساري فيه إلى ذي حضر وسفر، فدلت المفاوتة في ذلك وفي جميع أفراد القسم على أن فاعلها قادر مختار واحد قهار، ولذلك أتبعه الدلالة بقهر القهارين وإبارة الجبارين، وأما «بغي» فذكرت حكمته في مريم.
ولما كان هذا قسماً عظيماً في ذكر تلك الليالي المتضمن لذكر المشاعر وما فيها من الجموع والبكاء كما قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وليلة جمع والمنازل من منى
…
وهل فوقها من حرمة ومنازل
وفي تذكيره بالبعث ودلالته عليه دلالة عقلية واضحة بالإيجاد بعد الإعدام مع ما لهذه الأشياء في أنفسها وفي نفوس المخاطبين بها من الجلالة، نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله:{هل في ذلك} أي المذكور مع ما له من عليّ الأمر وواضح القدر {قسم} أي كاف مقنع {لذي} أي صاحب {حجر *} أي عقل فيحجره ويمنعه عن الهوى في
درك الهوى، فيعليه إلى أوج الهدى، في درج العلا، حتى يعلم أن الذي فعل ما تضمنه هذا القسم لا يتركه سدى، وأنه قادر على أن يحيى الموتى، قال ابن جرير: يقال للرجل إذا كان مالكاً نفسه قاهراً لها ضابطاً: إنه لذو حجر - انتهى، فمن بلغ أن يحجره عقله عن المآثم ويحمله على المكارم فهو ذو حجر.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ابتدأ سبحانه لمن تقدم ذكره وجهاً آخر من الاعتبار، وهو أن يتذكروا حال من تقدمهم من الأمم وما أعقبهم تكذيبهم واجترامهم فقال:{ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله: {إرم ذات العماد} إلى قوله: {إن ربك لبالمرصاد} أي لا يخفى عليه شيء من مرتكبات الخلائق ولا يغيب عنه ما أكنوه {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} [الرعد: 10] فهلا اعتبر هؤلاء بما يعاينونه ويشاهدونه من خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض، وكل ذلك لمصالحهم ومنافعهم، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم، والسماء لسقيهم وإظلالهم، والجبال لاختزان مياههم وأقلالهم، والأرض لحلهم وترحالهم، فلا بهذه الأمور كلها استبصروا، ولا بمن خلا من القرون اعتبروا، {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} على عظيم طغيانها وصميم بهتانها {إن ربك لبالمرصاد} فيتذكرون
حين لا ينفع التذكر {إذا دكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} - انتهى.
ولما كان التقدير كما هدى إليه السياق: ليبعثن كلهم صاغرين ثم ليحشرن ثم ليحاسبن فيجازى كل أحد بما عمل، فإن آمنوا بذلك نجوا وإلا عذبهم الذي ثبتت قدرته على العذاب الأكبر بعد العذاب الأدنى بسبب قدرته على البعث بسبب قدرته على ما رأيتم من خلق الإبل والسماء والجبال والأرض على ما في كل من العجائب بسبب قدرته على كل شيء، وهذا هو المقصود بالذات، حذف زيادة في تعظيمه واعتماداً على معرفته بما هدى إليه من السياق في جميع السورة وما قبلها. ولما طوى جواب القسم لإرشاد السياق إليه وتعويل المعنى عليه، وتهويلاً له مع العلم بأنه لا يكون قسم بغير مقسم عليه، وكان قد علمت القدرة عليه مما أشير إليه بالمقسم به، أوضح تلك القدرة بأمر العذاب الأدنى - للأمم الماضية، فقال مخاطباً لمن قال له في آخر تلك {فذكر إنما أنت مذكر} [الغاشية: 21] تسلية له صلى الله عليه وسلم وإشعاراً بأنه لا يتدبره حق تدبره غيره، وتهديداً لمن كذب من قومه:{ألم تر} أي تنظر بعين الفكر يا أشرف رسلنا فتعلم علماً هو في التيقن به كالمحسوس بالبصر، وعبر
بالاستفهام إشارة إلى أن ما ندبه إلى رؤيته مما يستحق أن يسأل عنه: {كيف فعل ربك} أي المحسن إليك بإرسالك ختاماً لجميع الأنبياء بالأمم الماضية بما شاركوا به هؤلاء من تكذيب الرسل وجعل محط نظرهم الدنيا، وعملوا أعمال من يظن الخلود، وبدأ بأشدهم في ذلك وأعتاهم الذين قالوا: من أشد منا قوة؟ فقال: {بعاد *} أي الذين بلغوا في الشدة أن قالوا: من أشد منا قوة؟ وقال لهم نبيهم هود صلى الله عليه وسلم: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} [الشعراء: 129] ودل على ذلك بناؤهم جنة في هذه الدنيا الفانية التي هي دار الزوال، والقلعة والارتحال، والنكد والبلاء والكدر، والمرض والبؤس والضرر، فقال مبيناً لهم على حذف مضاف:{إرم} أي أهلها وعمدتها، وأطلقها عليهم لشدة الملابسة لما لها من البناء العجيب والشأن الغريب، ثم بينها بقوله:{ذات} أي صاحبة {العماد *} أي البناء العالي الثابت بالأعمدة التي لم يكن في هذه الدار مثلها، ولذا قال:{التي لم يخلق} أي يقدر ويصنع - بناه للمفعول إرادة للتعميم {مثلها} يصح أن يعود الضمير على «عاد» باعتبار القبيلة، على «إرم» باعتبار البلدة، وأوضح هذا بقوله معمماً للأرض كلها:{في البلاد *} أي في بنائها ومرافقها
وثمارها، وتقسيم مياهها وأنهارها، وطيب أرضها وحسن أطيارها، وما اجتمع بها مما يفوت الحصر ويعجز القوى، ولا مثل أهلها الذين بنوها في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم وغير ذلك من أمورهم، وكان صاحبها شداد قد ملك المعمورة كلها فتحيزها فبناها في برية عدن في ثلاثمائة سنة يضاهي بها الجنة على ما زعم - قلوب ضلت وأضلت وأضلها باريها - قال أبو حيان: على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يكون في الأرض مثلها، فلما تمت على ما أراد قصدها للسكن وعمره إذ ذاك تسعمائة سنة، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فأهلكهم فكانوا كأمس الذاهب، وأخفى مدينتهم فلم يرها أحد إلا عبد الله بن قلابة، خرج في طلب إبل ضلت له على زمن معاوية رضي الله عنه فوقع عليها، ولما خرج منها وانفصل عنها خفيت عنه، وكان قد حمل معه بعض ما رأى فيها من اللؤلؤ والمسك والزعفران فباعه، وسمع به معاوية رضي الله عنه فأرسل إليه فحدثه، فأرسل، معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار فسأله عن ذلك فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أشقر أحمر قصير، على حاجبيه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم
التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذاك الرجل - ذكره شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف وقال: وآثار الوضع عليه لائحة، وقال جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما: الأوصاف كلها للقبيلة وهم عاد الأولى، واسمها إرم باسم جدهم، وكانوا عرباً سيارة يبنون بيوتهم على الأعمدة على عادة العرب، ولم يخلق مثلهم أمة من الأمم في جميع البلاد.
ولما بدأ بهؤلاء لأن أمرهم كان أعجب، وقصتهم أنزه وأغرب، ثنى بأقرب الأمم إليهم زماناً وأشبههم بهم شأناً لأنهم أترفوا بما حبوا به من جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، فجعلوا موضع ما لزمهم من الشكر الكفر، واستحبوا العمى على الهدى، مع ما في آيتهم، وهي الناقة، من عظيم الدلالة على القدرة فقال:{وثمود الذين جابوا} أي نقبوا وقطعوا قطعاً حقيقاً كأنه عندهم كالواجب {الصخر بالواد *} أي وادي الحجر أو وادي القرى، فجعلوا بيوتاً منقورة في الجبال فعل من يغتال الدهر ويفني الزمان، قال أبو حيان: قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة
كلها بالحجارة.
ولما ذكر القبيلتين من العرب، ذكر بعض من جاورهم من طغاة العجم لما في قصتهم من العتو والجبروت مع ما حوته من الغرائب وخوارق العجائب لا سيما في القدرة على البعث بقلب العصا حية وإعادتها جماداً مع التكرر، وبإيجاد الضفادع والقمل من كثبان الأرض وغير ذلك فقال:{وفرعون} أي وفعل بفرعون {ذي الأوتاد *} أي الذي ثبّت ملكه تثبيت من يظن أنه لا يزول بالعساكر والجنود وغيرهم من كل ما يظن أنه يشد أمره من الجنات والعيون والزروع والمقامات الكريمة، فصارت له اليد المبسوطة في الملك.
ولما كان المراد بفرعون هو وجنوده لآن الرأس يكنى به عن البدن، لأنه جماعة وبه قوامه، وصفه بوصف يجمع قومه وجميع من ذكر هنا فقال:{الذين} أي فرعون وجنوده وكل من ذكر هنا من الكفرة من عاد وثمود وأتباعهم {طغوا} أي تجاوزوا الحدود {في البلاد *} أي التي ملكوها بالفعل وغيرها بالقوة {فأكثروا} عقب طغيانهم وبسببه {فيها الفساد *} بما فعلوا من الكفر والظلم مما صار سنة لمن سمع به.
ولما كان ذلك موجباً للعذاب، سبب عنه قوله:{فصب}
أي أنزل إنزالاً هو في غاية القوة {عليهم} أي في الدنيا {ربك} أي المحسن إليك المدبر لأمرك الذي جعل ما مضى من أخبار الأمم وآثار الفرق موطئاً لهم {سوط عذاب *} أي جعل عذابهم من الإغراق والرجف وغيرهما في وقته وتمكنه وعلوه وإحاطته كالمصبوب في شدة ضربه ولصوقه بالمضروب وإسراعه إليه والتفافه به كالسوط وفي كونه منوّعاً إلى أنواع متشابكة، وأصله الخلط، وإنما سمي هذا الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، ولأنه يخلط اللحم والدم، وقيل: شبه بالسوط ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بالترديد والتكرير إلى أن يهلك المعذب به وإيذاناً بأنه بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى السيف، هذا سوط الدنيا وسيف الآخرة أشد وأحد وأمضى، ثم علل أخذه لكل ظالم وانتقامه من كل مفسد بأنه رقيب، فقال ممثلاً أن العصاة لا يفوتونه مؤكداً تنبيهاً على أن أعمال من ينكر ذلك أو لا يخطر بباله:{إن ربك} أي مولاك المدبر لأمر نبوتك {لبالمرصاد *} أي لا يفوته شيء، بل هو قادر ومطلع على كل شيء اطلاع من يريده بالإقامة في مكان
الرصد وزمانه مع غاية الحفظ والرعي وهو قادر على ما يريد.
ولما ذكر سبحانه أن عادة هؤلاء الفرق كانت الطغيان، وذكر أن عادة الرب سبحانه فيمن تولى وكفر أنه يعذبه كما هدد به آخر تلك، ودل على ذلك بما شوهد في الأمم، وعلل ذلك بأنه لا يغفل، ذكر عادة الإنسان من حيث هو من غير تقييد بهؤلاء الفرق عن الابتلاء في حالي السراء والضراء، فقال مشيراً إلى جواب ما كانت الكفار تقوله من أنهم آثر عند الله من المسلمين لا يساعد عليهم في الدنيا وتقلل الصحابة رضي الله عنهم من الدنيا مسبباً عما مضى عطفاً على ما تقديره: هذه كانت عادة هؤلاء الأمم وعادة الله فيهم: {فأما الإنسان} أي الذي أودع الحجر ليعقل هذه الأقسام وما يراد منه من اعتقاد المقسم عليه بها وجبل على النسيان والأنس بنفسه والمحبة لها والرضى عنها.
ولما كان المقصود التعريف بحاله عند الابتداء، قدم الظرف الدال على ذلك على الخبر فقال:{إذا} وأكد الأمر بالنافي فقال {ما ابتلاه} أي عامله معاملة المختبر بأن خالطه بما أراد مخالطة تميله وتحيله {ربه} أي الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر
شكره أو كفره {فأكرمه} أي بأن جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال {ونعمه *} أي بأن جعله متلذذاً مترفاً بما أعطاه غير تعبان - بسببه {فيقول} سروراً بذلك وافتخاراً: {ربي} أي الموجد لي والمدبر لأمري {أكرمن *} أي فيظن أن ذلك عن استحقاق فيرتفع به {وأما} هو {إذا} وأكد على نمط الأول فقال: {ما ابتلاه} أي ربه ليظهر صبره أو جزعه.
ولما كان قوله في الأول «فأكرمه ونعمه» كناية عن «فوسع عليه» قابله هنا بقوله: {فقدر} أي ضيق تضييق من يعمل الأمر بحساب وتقدير {عليه رزقه} فهو كناية عن الضيق كما أن العطاء بغير حساب كناية عن السعة، فجعله بمقدار ضرورته الذي لا يعيش عادة بدونه، ولم يجعله فيه فضلاً عن ذلك ولم يقل «فأهانه» موضع «قدر عليه» تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى وصوناً لأهل الله عن هذه العبارة لأن أكثرهم مضيق عليه في دنياه، ولأن ترك الإكرام لا ينحصر في كونه إهانة {فيقول} أي الإنسان
بسبب الضيق: {ربي} أي المربي لي {أهانن *} فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً، ويكون ذلك أكبر همه.
ولما كان نسبة هذا إليه توبيخاً وتقريعاً لقصور نظره فإن الإقتار قد يؤدي إلى سعادة الدارين، والتوسعة قد تؤدي إلى شقاوتهما، وهذا أكثر ما يوجد، قال ردعاً عن مثل هذا القول بأعظم أدوات الزجر معللاً للتوسعة والإقتار:{كلا} أي إني لا أكرم بتكثير الدنيا ولا أهين بتقليلها، لا التوسعة منحصرة في الإكرام ولا التضييق منحصر في الإهانة والصغار، وإنما أتتهم الإهانة من حيث إنهم لا يطيعون الله، وربما كان بالتوسعة، وربما كانت بالإقتار، فربما عصى فوسع عليه إهانة له، وهذا لمن يريد سبحانه به الشقاء فيعجل له طيباته في الدنيا استدراجاً، وربما عصى فضيق عليه إكراماً له لأن ذلك يكفر عنه، وفي الصحيح في حديث أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل شاهد عظيم لذلك.
ولما زجر عن اعتقاد أن التوسعة للاكرام والتضييق للاهانة، ذكر أن معيار من جبل على حب الطاعة ومن جبل على حب المعصية بغض الدنيا وحبها، فقال معرباً عن كلام الإنسان في الشقين
وأفرد أولاً لأنه أنص على التعميم وجمع ثانياً إعلاماً بأن المراد الجنس {بل} أي يستهينون بأمر الله بما عندهم من العصيان، فيوسع على بعض من جبل على الشقاء إهانة له بالاستدراج ويضيق على بعض من لم يجبل على ذلك إكراماً له وردعاً عن اتباع الهوى ورداً إلى الإحسان إلى الضعفاء، وترجم هذا العصيان الذي هو سبب الخذلان بقوله:{لا يكرمون} أي أكثر الناس {اليتيم *} بالإعطاء ونحوه شفقة عليه ورحمة له لأنه ضعيف لا يرجى من قبله نفع بثناء ولا غيره.
ولما كان الإنسان لا يمنعه من حث غره على الخير إلا حب الدنيا إن كان المحثوث أعظم منه فيدخره لحوائجه وإن كان مثله فإنه يخشى أن يقارضه بذلك فيحثه على مسكين آخر، وكان الإحسان بالحث على الإعطاء أعظم من الإعطاء لأنه يلزم منه الإعطاء بخلاف العكس، قال:{ولا يحضون} أي يحثون حثاً عظيماً لأهلهم ولا لغيرهم {على طعام المسكين *} أي بذله له سخاء وجوداً، فكانت إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغني في ماله بقدر الزكاة.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي، دل عليه بأمر في الإنسان فقال تعالى:{ويأكلون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {التراث} أي الميراث، أصله وراث أبدلت الواو تاء، وكأنه عبر عنه به دلالة على أخذ الظاهر الذي تشير إليه الواو، والتفتيش عن الباطن المشار إليه بمخرج التاء تفتيشاً ربما أدى إلى أخذ بعض مال الغير:{أكلاً لمّاً *} أي ذا لمٍّ أي جمع وخلط بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يؤرثون النساء ولا الصبيان ويأكلون ما جمعه المؤرث وإن كانوا يعلمون أنه حرام ويقولون: لا يستحق المال إلا من يقاتل ويحمي الحوزة.
ولما كان ذلك قد يفعل عن ضرورة مع الكراهة قال ما هو صريح في المقصود: {ويحبون} أي على سبيل الاستمرار {المال} أي هذا النوع من أي شيء كان، وأكده بالمصدر والوصف فقال:{حباً جماً *} أي كثيراً مع حرص وشره، فصار قصارى أمرهم النظر الدنيوي، ولم يصرفوا أنفسهم عن حبه إلى ما دعا إليه العقل الذي يعقل النفس عن الهوى، والحجر الذي يحجرها عن الحظوظ، والنهية التي تنهاها عن الشهوات إلى الإقبال على الله.
ولما كان السياق هادياً إلى أن التقدير: يحسبون أن ذلك يوفر أموالهم ويحسن أحوالهم ويصلح بالهم، زجر عنه بمجامع الزجر فقال:{كلا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، ثم استأنف ذكر ما يوجب ندمهم وينبههم من رقدتهم ويعرفهم أن حب المال لا يقتضي نموه، ولو اقتضى نموه ما اقتضى إيجابه للسعادة فقال:{إذ دكت الأرض} أي حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدة المط لا عوج فيها بوجه، وأشار بالبيناء للمفعول إلى سهولة ذلك لأن الأمر عظيم لعظمة الفاعل الحق، ولذلك قال:{دكاً دكاً *} أي مكرراً بالتوزيع على كل موضع ناتٍ فيها، فيكون لكل جبل وأكمة وثنية وعقبة دك يخصه على حدته ليفيد ذلك أنه دك مبالغ فيه فتصير جبالها وأكمامها هباءً منثوراً ثم تستوي حتى لا يكون فيها شيء من عوج، وهو كناية عن زلازل عظيمة لا تحملها الجبال الرواسي فيكف بغيرها.
ولما دلت التسسوية على مجيء أمر عظيم، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان، قال متلطفاً بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده، {وجاء ربك} أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد
بشفاعتك {والملك} أي هذا النوع حال كون الملائكة مصطفين {صفاً صفاً *} أي موزعاً اصطفافهم على أصنافهم كل، صنف صف على حدة، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس، وأهل كل سماء كذلك، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاؤوا إلى مكان، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته، لم يوصف بغيبة أصلاً أزلاً ولا أبداً، فحضوره في ذلك الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلاً ولم يتجدد شيء
غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجاً، ولو كان محتاجاً لكان عاجزاً، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للالهية - تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وفي تكرير «صفاً» تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل.
ولما كانت جهنم لا تأتي بنفسها لأنها لو أتت بنفسها لربما ظن أنها خارجة عن القدرة بل تقودها الملائكة، فكلما عالجوها ذهاباً وإياباً حصل للناس من ذلك من الهول ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان المهول نفس المجيء بها لا تعيين الفاعلين، لذلك بني للمفعول قوله:{وجاء} أي بأسهل أمر {يومئذ} أي إذ وقع ما ذكر {بجهنم} أي النار التي تتجهم من يصلاها، روي أنه يؤتى بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وهو كقوله تعالى:{وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 36] وأبدل من «إذا» توضيحاً لطول الفصل وتهويلاً قوله: {يومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور فرأى الإنسان ما أعد للشاكرين وما أعد للكافرين.
ولما قدم هذه الأمور الجليلة والقوارع المهولة اهتماماً بها
وتنبيهاً على أنها، لما لها من عظيم الموعظة، جديرة بأن يتعظ بها كل سامع، ذكر العامل في ظرفها وبدله فقال:{يتذكر الإنسان} أي على سبيل التجديد والاستمرار فيذكر كل ما كان ينفعه في الدنيا وما يضره فيعلم أن حبه للدنيا لم يفده إلا خساراً، لا زاد بحبها شيئاً لم يكتب له ولا كان ينقصه بذلها شيئاً كما كتب له أو بذلها، وإذا تذكر ذلك هان عليه البذل، وليست تلك الدار دار العمل، فلذلك قال:{وأنى} أي كيف ومن أي وجه {له الذكرى *} أي نفع التذكر العظيم فإنه في غير موضعه، فلا ينفعه أصلاً بوجه من الوجوه لفوات دار العمل، ولا يقع بذلك على شيء سوى الندم وتضاعف الغم والهم والآلام.
ولما كان الندم يقتضي أن يعمل الإنسان ما ينافيه، بين أنه ليس هناك عمل إلا إظهار الندم فاستأنف قوله:{يقول} أي متمنياً المحال على سبيل التجديد والاستمرار: {يا ليتني} وهل ينفع شيئاً «ليت» {قدمت} أي أوقعت التقديم لما ينفعني من الجد والعمل به {لحياتي *} أي أيام حياتي في الدنيا أو لأجل حياتي هذه الباقية التي لا موت بعدها، ويمكن أن يكون سبب تمنيه هذا علمه بأنه كان في الدنيا مختاراً، وأن الطاعات في نفسها كانت ممكنة لا مانع له منها في
الظاهر إلا صرف نفسه عنها وعدم تعليق ما أتاه الله من القوى بها.
ولما كان هذا غير نافع له، سبب عنه قوله:{فيومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور كلها {لا يعذب} أي يوقع {عذابه} أي عذاب الله، أي مثل عذابه المطلق المجرد فكيف بتعذيبه. ولما اشتد التشوف إلى الفاعل، أتى به على وجه لا أعم منه أصلاً فقال:{أحد *} .
ولما جرت العادة بأن المعذب يستوثق منه بسجن أو غيره، ويمنع من كل شيء يمكن أن يقتل به نفسه، خوفاً من أن يهرب أو يهلك نفسه قال:{ولا يوثق} أي يوجد {وثاقه} أي مثل وثاقه فكيف بإيثاقه {أحد *} والمعنى أنه لا يقع في خيال أحد لأجل انقطاع الأنساب والأسباب أن أحداً يقدر على مثل ما يقدر عليه سبحانه وتعالى من الضر ليخشى كما يقع في هذه الدنيا، بل يقع في الدنيا في أوهام كثيرة أن عذاب من يخشونه أعظم من عذاب الله - وأن عذاب الدنيا بأسره لو اجتمع على إنسان وحده لا يساوي رؤية جهنم بذلك المقام في ذلك المحفل المهول دون دخولها - ولذلك تقدم خوفه على الخوف من الله، وبنى الكسائي ويعقوب الفعلين للمفعول، والمعنى
على قراءة الجماعة ببنائها للفاعل: لا يعذب أحد عذاباً مثل عذاب الله أي لا يعذب أحد غير الله أحداً من الخلق مثل عذاب الله له، والحاصل أنه لا يخاف في القيامة من أحد غير الله، فإنه ثبت بهذا الكلام أن عذابه لا مثل له، ولم يذكر المعذب من هو فيرجع الأمر إلى أن المعنى: فيومئذ يخاف الإنسان من الله خوفاً لا مثل له، أي لا يخاف من أحد مثل خوفه منه سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون الضمير في «عذابه» للإنسان، أي لا يعذب أحد من الزبانية أحداً غير الإنسان مثل عذابه، وفي المبني للمفعول: لا يعذب عذاب الإنسان أحد لكن يبعده أنه يلزم عليه أن يكون عذاب الإنسان أعظم من عذاب إبليس - ويجوز أن يكون المعنى: إنه لا يحمل أحد ما يستحقه من العذاب كقوله تعالى:
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] .
ولما علم أن هذا الجزاء المذكور لا يكون إلا للهلوع الجزوع المضطرب النفس الطائش في حال السراء والضراء، الذي لا يكرم اليتيم ولا المسكين ويحب الدنيا، وكان من المعلوم أن من الناس من ليس هو كذلك، تشوفت النفس إلى جزائه فشفى عيّ هذا التشوف بقوله، إعلاماً بأنه يقال لنفوسهم عند النفخ في الصور وبعثرة ما في القبور للبعث والنشور:{يا أيتها النفس المطمئنة *} أي التي هي في غاية
السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي هي خير صرف {ارجعي} أي بالبعث {إلى ربك} أي موعد الذي أوجدك ورباك تربية الموفقين، أو إلى بدنك حال كونك {راضية} أي بما تعطينه. فلا كدر يلحقك بوجه من الوجوه أصلاً كما كنت في دار القلق والاضطراب مطمئنة ساكنة تحت القضاء والقدر سالكة سبيل الرضا إن حصل ابتلاء بالتكريم والتنعيم أو التضييق والتغريم وثوقاً بما عند الله {مرضية *} عند الله وسائر خلقه، فلا شيء يكرهك بسبب ما كنت مطمئنة تعملين الأعمال الصالحة تحت القضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره، ثم بيّن ما أجمل من الرجوع فقال سبحانه:{فادخلي} أي بسبب هذا الأمر {في عبادي *} أي في زمرة الصالحين الوافدين عليَّ، الذين هم أهل للإضافة إليَّ، أو في أجساد عبادي
التي خرجت في الدنيا منها، وقراءة «عبدي» بالتوحيد للجنس الشامل للقليل والكثير تدل على ذلك {وادخلي جنتي *} أي وهي جنة عدن وهي أعلى الجنان، قال البغوي: قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم نر على صورة خلقه، فدخل نعشه فلم نر خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر فلم ندر من تلاها، وهذا الآخر هو أولها على ما هو ظاهر المقسم عليه بالفجر من البعث المحتوم، الذي لولا هو لكان خلق الخلق من العبث المذموم، المنزه عنه الحي القيوم، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه، علت معانيه عن طعن وشرفت أعلامه، وغر في ذروة الإعجاز تركيبه ونظامه، «وأين الثريا من يد المتناول» .
سورة البلد
مقصودها الدلالة على نفي القدرة عن الإنسان، وإثباتها لخالقه الديان ن بذكر المخلص منها، الموصل إلى السعادة في الآخرة، وهو ما هدى إليه ربه سبحانه، وذلك هو معنى اسمها، فإن من تأمل أمان أهل الحرم وماهم فيه من الرزق والخير على قلة الرزق ببلدهم - مع ما فيه غيرهم ممن هم أكثر منهم وأقثوى - من الخوف والجوع علم ذلك) بسم الله (الملك الواحد القهار) الرحمن (الذي أسبغ نعمته على سائر بريته، وفاوت بينهم في عطيته، فكان كل ساخطا لحالته في كبد ما يهمه في خاصته وعامته لحكم تعجز الأفكار) الرحيم (الذي خص أهل ولايته بما يرضيه عنهم من أقضيته فيوصلهم إلى جنته وينجيهم من النار.
لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق، لا سيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان،
بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك:{لا أقسم} أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة، فيكون كقوله {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 86] {بهذا البلد *} أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين، فإن المراد هناك الكمالات.
ولما عظم البلد بالإقسام به، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن
شرف المكان بشرف السكان، وذلك في جملة حالية فقال:{وأنت} يعني وأنت خير كل حاضر وباد {حال} أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد *} فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك مما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة، أو معنى: يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد، ولكل جنس سيد، وهو انتهاؤه في الشرف، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة، فالحيوان سيد الأكوان، وسيده الإنسان، لما له من النطق والبيان، وسيد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان، وسيدهم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن، فسيد الخلق
محمد بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف - نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا - وهو ساجد، ووضع الشوك في طريقه، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال صلى الله عليه وسلم
«ما أوذي أحد في الله ما أوذيت» .
ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به صلى الله عليه وسلم، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال:{ووالد} ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذم أولي الأنفس الأمارة، وكانوا هم أكثر الناس، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال:{وما ولد *} أي من ذكر أو أنثى كائناً من كان، فدخل كما مضى النبي صلى الله عليه وسلم فصار مقسماً به مراراً، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل
عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الإرسال، وفاوت بين المتوالدين في الخصال، من النقص والكمال وسائر الأحوال، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتاً له على احتمال الأذى، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضي الله عنهم لعلو مقامه، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل؟ من المؤدب
والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقران، ومن يتسلط عليه من النسوان، مع أنه عرضة للأمراض، وسائر ما يكره من الأعراض والأغراض، والفاقات والنوائب والآفات، والمطالب والحاجات، لا يحظى بهواه، ولا يبلغ مناه، ولا يدرك ما اجتباه، ولا ينجو غالباً مما يخشاه، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى، ولا حد لها فتستقصى، إلى الموت وما بعده، فلذلك كان المقسم عليه قوله:{لقد خلقنا} أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى {الإنسان} أي هذا النوع {في كبد *} أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة، علم جميع ما في السورة، فعلم قطعاً إنكار ظنه
لتناهي قدرته وتعالي عظمته، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون، وثانياً إلى المأكل والمشرب، وثالثاً إلى ما يترتب عليهما إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد، وهي شهوتان: نفسية وحسية، والنفسية منحصرة في أربع: الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها {أيحسب}
أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد {أن لن يقدر} ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال: {عليه} أي خاصة {أحد *} أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم، ولات حين مطمع، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخر {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] فأشار تعالى إلى هذا بقوله {لقد خلقنا الإنسان في كبد} أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً} [الكهف: 57] فأعماهم بما
خلقهم فيه من الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [الكهف: 28] {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار {ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين} فهلا أخذ في خلاص نفسه، واعتبر بحاله وأمسه، {فلا اقتحم العقبة} ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له - انتهى.
ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث «» لو أن لابن آدم واد من ذهب «و» لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب «» علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه
ذلك وما تبعه بقوله: {يقول} أي مفتخراً بقدرته وشدته: {أهلكت مالاً لبدا *} ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي، قلدت به أعناق الرجال المنن، واستعبدت به الأحرار في كل زمن، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي، وإذا ناديت كثر المجيب، وإذا أمرت عظم الممتثل، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري.
ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات، أنكر عليه هذا الظن على تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به، بقوله مشيراً إلى شهوته النفسية الرابعة، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً:{أيحسب} أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن لم يره} أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي {أحد *}
أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره، فينقص جميع ما عمل إذا أراد، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع، وهو لا يزال فائتاً له، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه لتحصيله في المهالك، ولا يحصل منه على ما يرضيه أبداً، وهذا كناية عن أنه يعمل من المساوىء أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره.
ولما أنكر عليه سبحانه وتعالى هذه النقائص قرره على ما أوجب شهوته الحسية المتفرعة إلى أنواع بما يستلزم أن يكون فاعله له المانّ عليه به من بعض فيضه، عالماً بجميع أمره قادراً على نفعه وضره بنفسه وبمن أراد من جنده، فقال مشيراً إلى ما يترتب على نظر العين الباصرة الجائلة في العالم الحسي ونظر عين البصيرة الجائلة في العالم المعنوي من شهوته أن يحصل على كل ما يراه بعين باصرته ويعلمه بعين بصيرته من مليح، ويخلص من كل ما يراه من قبيح، ومذكراً له بما كان يجب عليه من الشكر باستعمال هذه المشاعر فيما شرع له
وكفها عما منع الله منه: {ألم نجعل} أي بما لنا من العظمة التي لا يمكن أحداً أن يضاهيها ولا يقرب منها {له عينين *} يبصر بهما وإلا لتعطل عليه أكثر ما يريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاثة على مقدار مناسب لا يزيد إحداهما على الأخرى شيئاً وقدرنا البياض والسواد أو الزرقة أو الشهلة أو غير ذلك على ما ترون، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها.
ولما قدره سبحانه على ما ينشأ عنه شهوتا تحصيل المليح ونفي القبيح، اتبع ذلك ما ينشأ عنه شهوتا الأمر والنهي وأنواع الكمالات الكمالية فقال:{ولساناً} أي يترجم به عما في ضميره {وشفتين *} أي يستران فاه ويعينانه على الأكل والشرب وعلى النطق بفصاحة وبلاغة على حد معلوم لا يبلغه غيره، فيجتمع له أمره ويصل إلى مقاصد جمة وأهوال مهمة، ولم يذكر السمع لأن الكلام يستلزمه، والمعنى: ألسنا قادرين بالقدرة التي جعلنا له بها ما ذكر على أن نجعل لغيره مثل ما جعلنا له وأكثر فيقاومه ويغلبه.
ولما كان لله تعالى على كل أحد في كل لمحة منة جديدة في إبقاء هذه الآلات الثلاث، عبر فيها بالمضارع، ولما كانت النعمة في العقل إنما هي بهبته أولاً ثم بحمله به على الخير ثانياً، وكان أمره خفياً، وكان من المعلوم أن كل أحد غير مهدي في كل حركاته وسكناته إلى ما يسعده، بل كان هذا المنكر عليه لم يؤهل لطريق الخير، اختير له لفظ الماضي لذلك تحقيقاً لكونه وجعله غريزة لا تتحول وطبيعة لا تتبدل، بل هي غالبة على صاحبها، قائدة إلى مضارة أو محابة ومسارة وإن كره، وهو السبب الذي يكون به الخلاص من شر تلك الأنكاد في دار الإسعاد فقال تعالى:{وهديناه} أي بما آتيناه من العقل {النجدين *} أي طريقي الخير والشر، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف، روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» قال المنذري: النجد هنا الطريق - انتهى.
وهو طريق في ارتفاع، عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة، والنجد لغة الموضع العالي، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى، أما صعوبة طريق الخير فبما حفه به من المكاره حتى صار العمل به، مع أن كل أحد يعشق اسمه ومعناه، أشد شيء وأصعبه، وأشقه وأتعبه، وأما صعوبة طريق الشر فواضحة جداً مع أن الله يلزمه لمن أراد بتسهيله وتحبيبه وتخفيفه وتقريبه مع أن كل أحد يكره اسمه وينفر من معناه، وجعل الله تعالى الفطرة الأولى السليمة التي فطر الناس عليها من الاستقامة بحيث تدرك الشر وتنهى عنه، وتدرك الخير وتأمر به، غير أن الشهوات والحظوظ تعالجها، والغالب من أعانه الله، وإلى ذلك يشير حديث «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» وحديث «البر ما اطمأنت إليه النفس
وانشرح له الصدر، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك» .
ولما كان معنى ما مضى أن هذا الإنسان عاجز وإن تناهت قوته، وبلغت الذروة قدرته، لسبق قوله تعالى:{وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 28] وأنه معلوم جميع أمره مفضوح في سره كما هو مفضوح في جهره، كما أشار إليه حديث جندب رضي الله تعالى عنه عند الطبراني «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها»
وحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عند أحمد وأبي يعلى «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة يخرج عمله للناس» فهو موصول إليه مقدور عليه، وأنه كان يجب عليه الشكر على ما جعل له سبحانه وتعالى من القوى التي جعلها لسوء كسبه آلات للكفر، سبب سبحانه وتعالى عنه قوله تفصيلاً للأشياء الموصلة إلى الراحة في العقبى نافياً لفعلها عنه على سبيل الحقيقة دلالة على عجزه:{فلا اقتحم} أي وثب ورمى بنفسه بسرعة وضغط وشدة حتى كان من شدة المحبة لما يراه فيما دخل فيه من الخير. كأنه أتاه من غير فكر ولا روية بل هجماً {العقبة *} وهي طريق النجاة، والمقرر في اللغة أنها الطريق الصاعد في الجبل المستعار اسمها لأفعال البر
المقرر في النفوس مريحة لا متعب، مع كونها أعظم فخراً وأعلى منقبة، لأنا حجبناه عنها بأيدينا وعظيم قوتنا وعجيب قدرتنا، وذلك أن الخير لما كان محبباً إلى القلوب معشوقاً للنفوس مرغوباً فيه لا يعدل عنه أحد، جعلناه في بادىء الأمر كريهاً وعلى النفوس مستصعباً ثقيلاً حتى صار لمخالفته الهوى كأنه عقبة كؤود، لا ينال ما فيه من مشقة الصعود، إلا بعزم شديد وهمة ماضية، ونية جازمة، ورياضة وتدريب، وتأديب وتهذيب، وشديد مجاهدة وعظيم مكابدة للنفس والهوى والشيطان، بحيث يكون متعاطيه في فعله له كالرامي بنفسه فيه بلا روية رمي العاشق له المتهالك عليه، فكان هذا سبباً لأن هذا الجاهل بنفسه المتعدي لطوره لم يختر لنفسه الخير بما أوتي من البصر الذي يبصر به صنائع الله، والبصيرة التي يعرف بها ما يضره وما ينفعه شكراً لربه سبحانه وتعالى ويكون ذلك لإحسانه إليه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهل جزاء النعمة إلا الشكر، بل اختار الشر وارتكب الضر مع أنا هيأناه لكل منهما فبانت لنا القدرة. واتضحت في صفاتنا العظمة، وتحقق له الضعف وظهر منه النقص والعجز، فوجب عليه لعزتنا الخضوع، وإجراء مصون
الدموع وإظهار الافتقار والذل والصغار، لنقحمه سبيل الجنة وننجيه من طريق النار، ومن اقتحم هذه العقبة التي هي للأعمال الصالحة اقتحم عقبة الصراط، فكانت سهولتها عليه بقدر مكابدته لهذه، واستراح من تلك المكابدات والأحزان والهموم وصار إلى حياة طيبة كما قال الله تعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97] الآية، واقتحامها بأن يرتحل من عالمه السافل إلى العالم العالي الكامل الذي ليس فيه إلا اللذة، وذلك هو الاعتراف بحق العبودية، وتلك هي الحرية لأن الحر من خرج من رق الشهوات إلى خدمة المولى، فصار طوع أمره في سره وجهره لا حظ لشهوة فيه ولا وصول لحظ إليه، وذلك يكون بشيئين: أحدهما جذب والآخر كسب، فالمجذوب محمول.
والكاسب في تعب المجاهدات بسيف الهمة العالية مصول.
ولما بين أنه لا خلاص من النكد إلا بهذا الاقتحام، شرع في تفسير العقبة بادئاً بتهويل أمرها لعظيم قدرها، فقال معبراً بالماضي الذي جرت عادة القرآن بأنه إذا عبر به شرح المستفهم عنه:{وما أدراك} أي أيها السامع لكلامنا، الراغب فيما عندنا {ما العقبة *} أي إنك لم تعرف كنه صعوبتها وعظمة ثوابها، فلما تفرغ القلب بالاستفهام عما لا يعرفه، وكان الإنسان أشهى ما إليه تعرف ما أشكل عليه، فتشوفت النفوس إلى علمها، قال مشييراً إلى الأولى التي هي العفة التي ثمرتها السخاء
وإصلاح قوة الشهوة معبراً بالفك الذي هو أدنى ما يكون من العتق لأنه الإعانة فيه ولو بما قل كما ورد في حديث البراء رضي الله عنه «أعتق النسمة وفك الرقبة» وعتقها أن تفرد بها، وفكها أن تعين في ثمنها، وفسر المراد بهذه العقبة بما دل على معادل لا كما يأتي تعيين تقديره فإنها لا تستعمل إلا مكررة قال:{فك} أي الإنسان {رقبة *} أي من الأسر أو الظلم أو الغرم أو السقم شكراً لمن أولاه الخير وتنفيساً للكربة حباً للمعالي والمكارم لا رياء وسمعة كما فعل هذا الظان الضال ولا لطمع في جزاء ولا لخوف من عناء {أو إطعام} أي أوقع الإطعام لشيء له قابلية ذلك {في يوم ذي مسغبة *} أي جوع عام في مكان جوع وزمان جوع - بما أفهمه الوصف والصيغة، فكان لذلك يحمل على الضنة بالموجود خوفاً من مثل ما فيه المطعم فخالف النفس وآثر عليها اعتماداً على الله {يتمياً} أي إنساناً صغيراً لا أب له يرجى أو يخاف {ذا مقربة *} لا يرجى بإطعامه إلا التودد لأقاربه للتكثير بهم مع أنه يجمع بذلك بين صدقة وصلة وإن كان غنياً {أو مسكيناً}
أي شخصاً لا كفاية له {ذا متربة *} أي حاجة مقعدة له على التراب، لا يقدر على سواه، فالآية من الاحتباك: ذكر القرب أولاً يدل على ضده ثانياً، وذكر المتربة ثانياً يدل على ضدها أولاً، وسر ذلك أنه ذكر في اليتيم القرب المعطف، وفي المسكين الوصف المرقق الملطف، فهو لا يقصد بإطعامه إلا سد فاقته، ودخل فيه اليتيم البعيد والفقير من باب الأولى وإن كان أجنبياً.
ولما كانت هذه الأفعال خيراً في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلالة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيراً إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية: {ثم كان} أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادىء إسلامه للدلالة على صفار جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله: {من الذين آمنوا} أي عند ما دعاه إليه الهادي، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس
على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء، {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه: 54، 128] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء، فلما سرب في رحيب مسربه، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتلعثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما
قال له النبي صلى الله عليه وسلم سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق، لا مطمع في مداناته، فكيف بلحاقه ومساواته، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء: والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي. وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان، أما إن كانت بعده فواضح، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال صلى الله عليه وسلم:
«أسلمت على ما سلف منك من خير» .
ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى:{وتواصوا}
أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً {بالصبر} في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة.
ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة، قال مؤكداً بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها:{وتواصوا بالمرحمة *} أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان، فصاروا في غاية النورانية والعرفان.
ولما كان ذلك من معالي الأخلاق، وموجبات الفواق والوفاق، كانت نتيجته لا محالة:{أولئك} أي العظماء الكبراء العالو المنزلة، ولم يأت بضمير الفصل كما يأتي لأضدادهم ليخلص الفعل له سبحانه وتعالى من غير نظر إلى ضمائرهم الدالة على جبلاتهم لأنه هو الذي جبلها، وأغنى عنه بالإشارة الدالة على علو مقامهم وبعد مرامهم
{أصحاب الميمنة *} أي الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة بقسميهم من السابقين المقربين وأصحاب اليمين الأبرار، كما مضى شرحه في سورة الواقعة. وهذا تعريض بذلك الذي أتلف ماله في المنافسة. والمشاققة والمعاكسة.
ولما أرشد السياق لمعادلة {فلا اقتحم العقبة} إلى أن التقدير: ولا أحجم عن المعطبة التي هي الأفعال الموجبة للمعتبة مع كونها متعبة، بل قطع من يستحق الوصل ووصل من يستأهل القطع، ثم كان من الذين كفروا وتواصوا بالملأمة واكتسبوا السيئات واتبعوا الشهوات وعاملوا بالقسوة، عطف عليه قوله:{والذين كفروا} أي ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم. ولما كان الكفر بالآيات من أسوأ أنواع الكفر لأنه كفر بما جعله الله علماً على غيب عهده، وهي جميع ما تدركه الحواس من الأقوال والأفعال الدالة على ذي الجلال لأنها دالة على الصفات الدالة على الموصوف بها الذي ظهر بأفعاله وبطن بعظيم جلاله، قال:{بآياتنا} أي ما لها من العظمة بالإضافة إلينا والظهور الذي لا يمكن خفاؤه {هم} أي خاصة لسوء ضمائرهم ولفساد جبلاتهم {أصحاب المشأمة *} أي الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان والهلكة فهؤلاء مشائيم على أنفسهم، وكفرهم دال على فساد جبلاتهم فهو
يشير إلى أن من كان كفره أخف لم يكن جبلياً، فيوشك أن يهدى فيكون من أصحاب الميمنة.
ولما كان معنى هذا أنهم في الجانب الذي فيه الشؤم والهلكة، والبعد من كل بركة، أنتج قوله:{عليهم} أي خاصة دون غيرهم {نار مؤصدة *} أي مطبقة الباب مع إحاطتها بهم من جميع الجوانب - بما أفهمته أداة الاستعلاء ومع الضيق والوعورة، وهذا لعمري أشد الضيق والكبد، والنصب والنكد فالملجأ منه إلى الله الأحد، الواحد الصمد، وقد علم أن أوله هو هذا الآخر، فكان التقاطر فيها مما تشد به الأيدي وتعقد عليه الخناصر - والله تعالى هو المرجو للهداية إلى خير السرائر، وهو الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب.
سورة الشمس
مقصودها إثبات تصرفه سبحانه وتعالى في النفوس التي هي سرج الأبدان، تقودها إلى سعادة أو كيد وهوان ونكد، كما أن الشمس سراج الفلك، يتصرف سبحانه في النفوس بالاختيار إضلالا وهداية نعيما وشقاوة
تصرفه سبحانه في الشمس بمثل ذلك من صحة واعتلال، وانتظام واختلال، وكذا في جميع الأكوان، بما له من عظيم الشأن، واسمها الشمس واضح الدلالة على ذلك بتأمل القسم والمقسم عليه بما أعلم به وأشار إليه) بسم الله (الذي هو الملك الأعظم فله التصرف العام) الرحمن (الذي وسعت رحمته كل شيء فإليه الإنعام) الرحيم (اللذي خص من شاء بالتوفيق فبنى إنعامه عليهمن على التمام.
لما أثبت في سورة البلد أن الإنسان في كبد، وختمها بأن من حاد عن سبيله كان في أنكد النكد، وهو النار المؤصدة، أقسم أول هذه على أن الفاعل لذلك أولاً وآخراً هو الله سبحانه لأنه يحول بين المرء وقلبه وبين القلب ولبه، فقال مقسماً بما يدل على تمام علمه
وشمول قدرته في الآفاق علويها وسفليها، والأنفس سعيدها وشقيها وبدأ بالعالم العلوي، فأفاد ذلك قطعاً العلم بأنه الفاعل المختار، وعلى العلم بوجوب ذاته وكمال صفاته، وذلك أقصى درجات القوى النظرية، تذكيراً بعظائم آلائه، ليحمل على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوى العملية، مع أن أول المقسم به مذكر بما ختم به آخر تلك من النار:{والشمس} أي الجامعة بين النفع والضر بالنور والحر، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت، ولا أظلم منها إذا بارت {وضحاها *} أي وضوئها الناشىء عن جرمها العظيم الشأن البديع التكوين المذكر بالنيران إذا أشرقت وقام سلطانها كإشراق أنوار العقول، والضحى - بالضم والقصر: صدر النهار حين ارتفاعه، وبالفتح والمد: شدة الحر بعد امتداد النهار، وشيء ضاح - إذا ظهر للشمس والحر.
ولما افتتح بذكر آية النهار، أتبعه ذكر آية الليل فقال:{والقمر} أي المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول {إذا تلاها *} أي تبعها في الاستدارة والنور بما دل على أن نوره من نورها من القرب الماحق لنوره والبعد المكتسب له في مقدار ما يقابلها من جرمه، ولا يزال يكثر إلى أن تتم المقابلة فيتم النور ليلة الإبدار
عند تقابلهما في أفق الشرق والغرب، ومن ثم يأخذ في المقاربة فينقص بقدر ما ينحرف عن المقابلة، ونسبة التبع إليه مجازية أطلقت بالنسبة إلى ما ينظر منه كذلك.
ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه، وبدا بهما لأنه لا صلاح له إلا بهما كما أنه لا صلاح للبدن إلا بالنفس والعقل فقال:{والنهار} أي الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار {إذا جلاها *} أي جلى الشمس بحلية عظيمة بعضها أعظم من بعض باعتبار الطول والقصر والصحو والغيم والضباب والصفاء والكدر كما أن الأبدان تارة تزكي القلوب والنفوس والعقول وتارة تدنسها، لأن العقل يكون في غاية الصفاء والدعاء إلى الخير في حال الصغر ثم لا يزال يزيد وينقص بحسب زكاء البدن في حسن الجبلة، أو نجاسته بسوء الجبلة، حتى يصير الشخص نوراً محضاً ملكاً ناطقاً إذا طابق البدن العقل فتعاونا على الخير، أو يصير ظلاماً بحتاً شيطاناً رجيماً إذ خالف البدن العقل بسوء الجبلة وشرارة الطبع.
ولما ذكر معدن الضياء، ذكر محل الظلام فقال:{والليل} أي الذي هو ضد النهار فهو محل السكون والانقباض والكمون
{إذا يغشاها *} أي يغطي الشمس فيذهب ضوءها حين تغيب فتمتد ظلال الأرض على وجهها المماس لنا، فيأخذ الأفق الشرقي في الإظلام، ويمتد ذلك الظلام بحسب طول الليل وقصره كما يغطي البدن نور العقل بواسطة طبعه بخبثه ورداءة عنصره، وذلك كله بمقادير معلومة، وموازين قسط محتومة، ليس فيها اختلال، ولا يعتريها انحلال، حتى يريد ذو الجلال، ولم يعبر بالماضي كما في النهار لأن الليل لا يذهب الضياء بمرة بل شيئاً فشيئاً، ولا ينفك عن نور بخلاف النهار، فإنه إذا أبدى الشمس ولم يكن غيم ولا كدر جلى الشمس في آن واحد، فلم يبق معه ظلام بوجه.
ولما ذكر الآيتين ومحل أثرهما، ذكر محل الكل فقال تعالى:{والسماء} أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس، والنفوس مركب العقول، ولما رقى الأفكار من أعظم المحسوسات المماسة إلى ما هو دونه في الحس وفوقه في الاحتياج إلى إعمال فكر، رقي إلى الباطن الأعلى المقصود بالذات وهو المبدع لذلك كله معبراً عنه بأداة ما لا يعقل، مع الدلالة بنفس الإقسام، على أن له العلم التام، والإحاطة الكبرى بالحكمة البالغة، تنبيهاً على أنهم وصفوه بالإشراك
وإنكار الحشر بتلك المنزلة السفلى والمساواة بالجمادات التي عبدوها مع ما له من صفات الكمال التي ليس لغيره ما يداني شيئاً منها، زجراً لهم بالإشارة والإيماء عن ذلك ومشيراً إلى شدة التعجيب منهم لكونها أداة التعجب فقال:{وما بناها *} أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف.
ولما ذكر البناء ذكر المهاد فقال: {والأرض} أي التي هي فراشكم بمنزلة محال تصرفاتكم بالعقل في المعاني المقصودة {وما طحاها *} أي بسطها على وجه هي فيه محيطة بالحيوان كله ومحاط بها في مقعر الأفلاك، وهي مع كونها ممسكة بالقدرة كأنها طائحة في تيار بحارها، وهي موضع البعد والهلاك ومحل الجمع - كل هذا بما يشير إليه التعبير بهذا اللفظ إشارة إلى ما في سعي الإنسان من أمثال هذا، قال أهل البصائر: وليس في العالم الآفاقي شيء إلا وفي العالم النفساني نظيره، وانشدوا في ذلك:
دواؤك فيك وما تشعر
…
وداؤك منك وتستنكر
وتحسب أنك جزء صغير
…
وفيك انطوى العالم الأكبر
فالسماوات سبع كطباق الرأس التي تتعلق بالقوى المعنوية والحسية
كالذاكرة والحافظة والواهمة والمخيلة والمفكرة والحس المشترك وما هو لمقاسم البصر في العين، ونظير الشمس الروح في إشراقه وحسنه، ونظير الليل الطبع فإن ما به من نور فإنما هو من الروح كما أن الليل كذلك لا يكون نوره إلا من الشمس بواسطة إفادتها للقمر المنير له والكواكب، ونظير النهار - الذي هو نير في أصله ومتكدر بما يخيل له من السحب ونحوه - القلب وسحبه الشكوك والأوهام النفسية، ونظير القمر في ظلمته بأصله وإنارته بالشمس النفس، فإذا أكسبها القلب المستفيد من الروح النور أنار جميع البدن، وإذا أظلمت أظلم كله، والأعضاء الباطنة كالكواكب يقوم بها البدن فينير له الوجود بواسطة الروح والنفس، والأمطار كالدمع، والحر كالحزن، والبرد كالسرور، والرعد كالنطق، والبرق كالملح، والرياح كالنفس - إلى غير ذلك من البدائع لمن تأمل، والعالم السفلي سبع طباق أيضاً، قال الملوي:«ونظيرها طبقة الجلد» وهي ثلاث، وطبقة اللحم وطبقة الشحم
وطبقة العروق وطبقة العصب، والجبال كالعظام والمعادن منها المياه وفيها العذب كالريق والملح كالدمع والمر كما في الأذن والمنتن منه كما في الأنف، ومنه ما هو جار كالبول، ومنه ما هو كالعيون وهو الدم، والسيل كالعرق، والمعادن المنطبعة كالحديد والرصاص هي وسخ الأرض وهي كالعذرة وما يخرج من الجلد من خبث، والنبات كالشعور تارة تحلق كالحصاد وتارة تقلع كالنتف، والحيوانات التي فيها كالقمل، وطيورها كالبراغيث، وعامر البدن ما أقبل منه، وخرابه ما أدبر.
ولما أتم الإشارة إلى النفوس لأهل البصائر، صرح بالعبارة لمن دونهم فقال تعالى:{ونفس} أي أيّ نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره. ولما كانت النفوس أعجب ما في الكون وأجمع، عبر فيها بالتسوية حثاً على تدبر أمرها للاستدلال على مبدعها للسعي في إصلاح شأنها فقال تعالى:{وما سواها *} أي عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وعجائب المزاج من الأخلاط المتنافرة التي لاءم بينها بالتسوية والتعديل فجعلها متمازجة
وقد أرشد السياق والسباق واللحاق إلى أن جواب القسم مقدر تقديره: لقد طبع سبحانه وتعالى نفوسكم على طبائع متباينة هيأها بها لما يريد من القلوب من تزكية وتدسية بما جعل لكم من القدرة والاختيار، وأبلغ في التقدم إليكم في تزكية نفوسكم وتطهير قلوبكم لاعتقاد الحشر بما هو أوضح من الشمس لا شبهة فيه ولا لبس لتنجو من عذاب الدنيا والآخرة بالاتصاف بالتقوى، والانخلاع من الفجور والطغوى.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من الكبد مع ما جعل له سبحانه من آلات النظر، وبسط له من الدلائل والعبر، وأظهر في صورة من ملك قياده، وميز رشده وعناده {وهديناه النجدين} [البلد: 10] {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3] وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التي حقيقتها اهتمام أو لم؟ وأنى بالاستبداد والاستقلال، ثم {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96] أقسم سبحانه وتعالى في هذه السورة على فلاح من اختار رشده واستعمل جهده وأنفق وجده {قد أفلح من زكاها} وخيبة من غاب هداه فاتبع هواه {وقد خاب من دساها} فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين - انتهى.
ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجور
أقبح القبيح، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن، وتذوق أن الفجور أشهى شهي، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه، وأثقله وأتعبه، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم:{فألهمها} أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى قبل {ألست بربكم} [الأعراف: 172]{فجورها} أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل {وتقواها *} أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة، فالآية من الاحتباك: ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده، وهو عدم الخوف أولاً، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس، فزالت
الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام. ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة.
ولما كان من المعلوم أن من سمع هذا الكلام يعلم أن التقوى لا يكون إلا مأموراً بها، والفجور لا يكون إلا منهياً عنه، فيتوقع ما يقال فيهما مما يتأثر عنهما، قال تعالى:{قد أفلح} أي ظفر بجميع المرادات {من زكاها *} أي نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذامّ الأخلاق لأن كلاًّ ميسر لما خلق له، والدين بني على التحلية والتخلية و «زكى» صالح للمعنيين {وقد خاب} أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً {من دساها *} أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوىء الأعمال، وقبائح النيات والأحوال، وأخفاها بالجهالة والفسوق، والجلافة والعقوق، وأصل «دسى» دسس، فالتزكية أن يحرص
الإنسان على شمسه أن لا تكسف، وقمره أن لا يخسف، ونهاره أن لا يتكدر، وليله ألا يطفى، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه، ويخسف قمره، ويتكدر نهاره، ويدوم ليله، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية، والنهار هو العرفان، واليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما جاء من عنده، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية، والعلماء العاملون هم أولياء الله، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما: إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس الله ولي - رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها، والتدسية خلاف ذلك، من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها
فأخفاها كما أن اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين، والأجواد ينزلون الروابي، ويوقدون النيران للطارقين، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل:
قوم على المحتاج سهل وصلهم
…
ومقامهم وعر على الفرسان
ولما كان السياق للترهيب بما دلت عليه سورة البلد وتقديم الفجور هنا، وكان الترهيب أحث على الزكاء، قال دالاًّ على خيبة المدسي ليعتبر به من سمع خبره لا سيما إن كان يعرف أثره:{كذبت ثمود} أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم، وما لهم بسفول الهمم وقباحة الشيم، وخصهم لأن آيتهم مع أنها كانت أوضح الآيات في نفسها هي أدلها على الساعة، وقريش وسائر العرب عارفون بهم لما يرون من آثارهم، ويتناقلون من أخبارهم {بطغواها *} أي أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى بسبب ما كان لنفوسهم من وصف الطغيان، وهو مجاوزة القدر وارتفاعه والغلو في الكفر والإسراف في المعاصي والظلم، أو بما توعدوا به من العذاب العاجل وهي الطاغية التي أهلكوا
بها، وطغى - واوي يائي يقال: طغى كدعا يطغو طغوى وطغواناً - بضمها كطغى يطغى، وطغي كرضي طغياً وطغياناً - بالكسر والضم، فالطغوى - بالفتح اسم، وبالضم مصدر، فقلبت الياء - على تقدير كونه يائياً - واواً للتفرقة بين الاسم والصفة، واختير التعبير به دون اليائي لقوة الواو، فأفهم أنهم بلغوا النهاية في تكذيبهم، فكانوا على الغاية من سوء تعذيبهم.
ولما ذكر تكذيبهم، دل عليه بقوله:{إذ} أي تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين {انبعث أشقاها *} أي أشد ثمود شقاء وهو عاقر الناقة للمشاركة في الكفر والزيادة بمباشرة العقر، وهو قدار بن سالف، أو هو ومن مالاه على عقرها، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف صلح للواحد والجمع {فقال لهم} أي بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى، وأظهر ولم يضمر وعين الإظهار بالجلالة إشارة إلى عظيم آيتهم وبديع بدايتهم ونهايتهم فقال:{رسول الله} أي الملك الذي له الأمر كله، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى، وزاد في التعظيم
بإعادة الجلالة: {ناقة الله} أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار، والعامل: دعوا أو احذروا - أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار {وسقياها *} أي الماء الذي جعله الله تعالى لها لسقيها وهو بئرها، فلا تذودوها عن بئرها في اليوم الذي تكون فيه نوبتها في الشرب ولا تمسوها بسوء، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم عنهم بعد مدة أنهم يريدون عقرها فكرر عليهم التحذير {فكذبوه} أي أوقعوا تكذيبه بسبب طغيانهم وعقب أمره هذا الأخير فيما حذر من حلول العذاب، أو تكون الفاء هي الفصيحة أي قال لهم ذلك فكانت بعده بينه وبينهم في أمرها أمور، فأوقعوا تكذيبه فيها كلها {فعقروها} أي بسبب ذلك التكذيب بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا به {فدمدم} أي عذب عذاباً تاماً مجلّلاً مغطياً مطبقاً مستأصلاً شدخ به رؤوسهم وأسرع في الإجهاز وطحنهم طحناً مع الغضب الشديد؛ قال الرازي: والدمدمة: تحريك البناء حتى ينقلب، ودل بأداة الاستعلاء على شدته وإحاطته فقال:{عليهم} ودل على شدة العذاب لشدة الغضب بلفت القول بذكر صفة الإحسان التي كفروها لأنه لا أشد غضباً ممن
كفر إحسانه فقال: {ربهم} أي الذي أحسن إليهم فغرَّهم إحسانه فقطعه عنهم فعادوا كأمس الدابر {بذنبهم} أي بسببه.
ولما استووا في الظلم والكفر بسبب عقر الناقة بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا والحث، قال مسبباً عن ذلك ومعقباً:{فسواها *} أي الدمدمة عليهم فجعلها كأنها أرض بولغ في تعديلها فلم يكن فيها شيء خارج عن شيء كما سوى الشمس المقسم بها وسوى بين الناس فيها، وكذا ما أقسم به بعدها، فكانت الدمدمة على قويهم كما كانت على ضعيفهم، فلم تدع منهم أحداً ولم يتقدم هلاك أحد منهم على أحد، بل كانوا كلهم كنفس واحدة من قوة الصعقة وشدة الرجفة كما أنهم استووا في الكفر والرضا بعقر الناقة وكل نفس هي عند صاحبها كالناقة قد أوصى الله صاحبها أن يرعى نعمته سبحانه فيها فيزكيها ولا يدسيها، فإن الناقة عبارة عن مطية يقطع عليها السير حساً أو معنى، وذلك صالح لأن يراد به النفس التي تقطع بها عقبات الأعمال، والسقيا ما يعيش المسقيّ به، وهو صالح لأن يراد به الذكر والعبادة، فمن لم يرع النعمة ويشكر المنعم فقد عقرها، فاستحق الدمدمة منه، وكما أنه سوى بينهم في الدمدمة سوى بين المهتدين في النجاة {ولا} أي والحال
أنه لا {يخاف} في وقت من الأوقات أي ربهم، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده قراءة أهل المدينة والشام بالفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية وكذلك هي في مصاحفهم {عقباها *} أي عاقبة هذه الدمدمة وتبعتها فإنه الملك الأعلى الذي كل شيء في قبضته لا كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء فعلم أنه سبحانه وتعالى يعلي أولياءه لأنهم على الحق، ويسفل أعداءه لأنهم على الباطل، فلا يضل بعد ذلك إلا هالك، بصيرته أشد ظلاماً من الليل الحالك، وقد رجع آخرها على أولها بالقسم وجوابه المحذوف الذي هو طبع النفوس على طبائع مختلفة والتقدم إليهم بالإنذار من الهلاك، ونفس القسم أيضاً فإن من له هذه الأفعال الهائلة التي سوى بين خلقه فيها وهذا التدبير المحكم هو بحيث لا يعجزه أمر ولا يخشى عاقبة - والله الموفق للصواب.
سورة الليل
مقصودها الدلالة على مقصود الشمس، وهو التصرف التام في النفوس بإثبات كمال القدرة بالاختيار باختلاف الناس في السعي مع اتحاد مقاصدهم، وزهي الوصول إلى الملاذ من شهوة البطن والفرج وما يتبع ذكلك من الراحة، واسمها الليل أوضح ما فيها على ذلك بتأمل القسم والجواب، والوقوع من ذلك على الصواب، وأيضا ليل نفسه دال على ذلك لأنه على غير مراد النفس بما فيه من الظلام والنوم الذي هو أخو الموت، وذلك مانع عن أكثر المرادات، ومقتضى لأكثر المضادات) بسم الله (الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة) الرحمن (الذي شملت نعمته إيجاده وبيانه المتواترة) الرحيم (الذي خص من أراده بما يرضيه، فجعله حامده وشاكره.
لما بين في الشمس حال من زكى نفسه وحال من دساها، وأوضح
في آخرها من مخالفة ثمود لرسولهم ما أهلكهم، فعلم أن الناس مختلفون في السعي في تحصيل نجد الخير ونجد الشر، فمنهم من تغلب عليه ظلمة اللبس، ومنهم من يغلب عليه نهار الهدى، فتباينوا في مقاصدهم، وفي مصادرهم ومواردهم، بعد أن أثبت أنه هو الذي تصرف في النفوس بالفجور والتقوى، أقسم أول هذه بما يدل على عجائب صنعه في ضره ونفعه على ذلك، تنبيهاً على تمام قدرته في أنه الفاعل بالاختيار، يحول بين المرء وقلبه حتى يحمله على التوصل إلى مراده، بضد ما يوصل إليه بل بما يوصل إلى مضاده، وعلى أنه لا يكاد يصدق الاتحاد في القصد والاختلاف في السعي والتوصل، وشرح جزاء كل تحذيراً من نجد الشر وترغيباً في نجد الخير، وبين ما به التزكية وما به التدسية فقال:{والّيل} أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار:{إذا يغشى *} أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً، وما يدل عليه من جليل مبدعه، وعظيم
ماحقه ومطلعه {والنهار} أي الذي هو سبب انكشاف الأمور كالموت الذي يزيل عن الروح علائق البدن فينجلي لها ما كانت فيه من القبائح، والجهر الذي يشرح النفس بإزالة اللبس {إذا تجلّى *} أي ظهر ظهوراً عظيماً بضياء الشمس، وأظهر ما كان خفياً فلم يدع لمبصر شيئاً من لبس، فمن كان يريد السر قصد الليل، ومن أراد الجهر قصد النهار سواء كان من الأبرار أو من الفجار.
ولما ذكر المتخالطين معنى، أتبعهما المتخالطين حساً، فقال مصرحاً فيهما بما هو مراد في الأول، وخص هذا بالتصريح تنبيهاً على أنه لكونه عاقلاً - عاقد يغلط في نفسه فيدعي الإلهية أو الاتحاد، أو غير ذلك من وجوه الإلحاد {وما خلق} وحكم التعبير بما الأغلب فيه غير العقلاء ما تقدم في سورة الشمس من تنبيههم على أنهم لما أشركوا به سبحانه وتعالى ما لا يعقل نزلوه تلك المنزلة وقد أحاط بكل شيء، وهو الذي خلق العلماء، وهم لا يحيطون به علماً مع ما يفيده «ما» من التعجب منهم في ذلك لكونها صيغة التعجب
{الذكر} أي حساً بآلة الرجل ومعنًى بالهمة والقوة {والأنثى} حساً بآلة المرأة ومعنًى بسفول الهمة وضعف القوة وما دلاّ عليه من عظيم الاصطناع، وباهر الاختراع والابتداع، فإنه دل فرقه بينهما وهما من غير؟ واحدة وهي التراب على تمام قدرته المستلزم لشمول علمه وفعله بالاختيار، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الصنعة دلالة على حذفها ثانياً، وثانياً الصانع دلالة على حذفه أولاً.
ولما ذكر ما هو محسوس التخالف من المعاني والأجرام، أتبعه ما هو معقول التباين من الأعراض فقال:{إن سعيكم} أي عملكم أيها المكلفون في التوصل إلى مقصد واحد، ولذلك أكده لأنه لا يكاد يصدق اختلاف وجوه السعي مع اتحاد المراد، وعبر بالسعي ليبذل كل في عمله غاية جهده {لشتى *} أي مختلف اختلافاً شديداً باختلاف ما تقدم، وهو جمع شتيت كقتلى وقتيل، فيكون الإنسان رجلاً وهو أنثى الهمة، ويكون أنثى وهو ذكر الفعل، فتنافيتم في الاعتقادات، وتعاندتم في المقالات، وتباينتم غاية التباين بأفعال طيبات وخبيثات، فساع في فكاك نفسه، وساع في إيثامها، فعلم قطعاً أنه لا بد من محق ومبطل ومرض ومغضب لأنه لا جائز أن يكون المتنافيان متحدين
في الوصف بالإرضاء أو الإغضاب، فبطل ما أراد المشركون من قولهم {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} [النحل: 35] الآية وما ضاهاها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بين قبل حالهم في الافتراق، أقسم سبحانه على ذلك الشأن في الخلائق بحسب تقديره أزلاً {ليبلوهم أيهم أحسن عملاً} [لا يوجد ليبلوهم بالياء في لغتنا وإنما كما في الكهف آية 7: لنبلوهم. . . وفي الملك آية 2: لنبلوكم. . . فقال تعالى: {إن سعيكم لشتى} فاتصل بقوله تعالى {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 10] إن قوله تعالى {فأما من أعطى واتقى - إلى - العسرى} يلائمه تفسيراً وتذكيراً بما الأمر عليه من كون الخير والشر بإرادته وإلهامه وبحسب السوابق قوله: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8] فهو سبحانه الملهم للإعطاء والاتقاء والتصدق، والمقدر للبخل والاستغناء والتكذيب {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96] {لا يسئل عما يفعل} [الأنبياء: 23] ثم زاد ذلك إيضاحاً بقوله تعالى «إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} فتباً للقدرية والمعتزلة {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105]- انتهى.
ولما طابق بين القسم والمقسم عليه، ونبه بالقسم والتأكيد مع ظهور المسقم عليه على أنهم في أمنهم مع التحذير كمن يدعي أنه لا فرق وأن مآل الكل واحد كما يقوله أصحاب الوحدة - عليهم الخزي واللعنة شرع في بيان تشتتت المساعي وبيان الجزاء لها، فقال مسبباً
عن اختلافهم ما هو مركوز في الطباع من أنه لا يجوز تسوية المحسن بالمسيء ناشراً لمن زكى نفسه أو دساها نشراً مستوياً إيذاناً بأن المطيع فيه هذه الأمة - ولله الحمد - كثير بشارة لنبيها صلى الله عليه وسلم: {فأما من أعطى} أي وقع منه إعطاء على ما حددنا له وأمرناه به {واتقى *} أي وقعت منه التقوى وهو اتخاذ الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا {وصدق} أي أوقع التصديق للمخبر {بالحسنى *} أي وهي كلمة العدل التي هي أحسن الكلام من التوحيد وما يتفرع عنه من الوعود الصادقة بالآخرة والإخلاف في النفقة في الدنيا وإظهار الدين وإن قل أهله على الدين كله، وغير ذلك من كل ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم سبحانه وتعالى، وعدل الكلام إلى مظهر العظمة إشارة إلى صعوبة الطاعة على النفس وإن كانت في غاية اليسر في نفسها لأنها في غاية الثقل على النفس فقال:{فسنيسره} أي نهيئه بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه {لليسرى *} أي الخصلة التي هي في غاية اليسر والراحة من الرحمة المقتضية للعمل بما يرضيه سبحانه وتعالى ليصل إلى ما يرضى به من
الحياة الطيبة ودخول الجنة.
ولما ذكر المزكي وثمرته، أتبعه المدسي وشقوته فقال:{وأما من بخل} أي أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه {واستغنى} أي طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب وأوجده بما زعمت له نفسه الخائبة وظنونه الكاذبة. فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى: {وكذب} أي أوقع التكذيب أن يستحق التصديق {بالحسنى *} أي فأنكرها، ولما كان جامداً مع المحسوسات كالبهائم قال:{فسنيسره} أي نهيئه بما لنا من العظمة وعد لا خلف فيه {للعسرى *} أي للخصلة التي هي أعسر الأشياء وأنكدها، وهي العمل بما يغضبه سبحانه الموجب لدخول النار وما أدى إليه، وأشار بنون العظمة في كل من نجد الخير ونجد الشر إلى أن ارتكاب الإنسان لكل منهما في غاية البعد، أما نجد الخير فلما حفه من المكاره، وأما نجد الشر فلما في العقل والفطرة الأولى من الزواجر عنه، وذلك كله أمر قد فرغ منه في الأزل بتعيين أهل السعادة وأهل الشقاوة «وكل كما قال صلى الله عليه وسلم ميسر لما خلق له» .
ولما كان أهل الدنيا إذا وقعوا في ورطة تخلصوا منها بأموالهم
قال: {وما يغني} أي في تلك الحالة {عنه} أي هذا الذي بخل وكذب {ماله} أي الذي بخل به رجاء نفعه، ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً فيكون نافياً للإغناء على أبلغ وجه {إذا تردّى *} أي هلك بالسقوط في حفرة القبر والنار، تفعّل من الردى وهو الهلاك والسقوط في بئر.
ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها: ما له لا ييسر الكل للحسنى، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظر إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً:{إن علينا} أي على ما لنا من العظمة {للهدى *} أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك.
ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه يلزمه شيء، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال:{وإن لنا} أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة، فإنه يفيدها مثلاً أن يقال: للعاجلة والأخرى، فقال:{للآخرة والأولى *}
فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جداً، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد، فنعطي من نشاء ما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه، وليس التقديم لأجل الفاصلة، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع، منها آخر سورة براءة، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال: للأولى - أو للأولة - والأخرى مثلاً.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان، وأن له كل شيء، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول إلى تجريد الضمير من مظهر العظمة للترقق بالمخاطبين في تبعيد الوهم وتقريب الفهم فقال:{فأنذرتكم} أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظّى *} أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً
ولا أحد من خزنتها - بما أشار إليه إسقاط التاء، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى.
ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء، وكان الحصر ب «لا» و «إلا» أصرح أنواعه قال:{لا يصلاها} أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى *} أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم، ولذلك وصفه بقوله تعالى:{الذي كذب} أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه {وسيجنبها} أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب - بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس، وتجنيبه له في غاية السهولة - بما أفهمه البناء للمفعول {الأتقى *} أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي، وهو يفهم أن من لم يكن
في الذروة لا يكون كذلك، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها، ولا ينافي الحصر السابق.
ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال:{الذي يؤتي ماله} أي يصرفه في مصارف الخير، ولذلك بينه بقوله تعالى:{يتزكّى *} أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوىء الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى، والآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال: {وما} أي والحال أنه ما {لأحد عنده} وأعرق في النفي فقال: {من نعمة تجزى *} أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها. ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع:{إلا} أي لكن قصد بذلك {ابتغاء} أي طلب وقصد، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال:{وجه ربه}
الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله {الأعلى *} أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء - وهو تطلب رضا الله - كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى: إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة.
ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار:{ولسوف يرضى *} أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة - بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن
يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكار أنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه: أي بني! لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: منع ظهري أريد. وقال: إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله عليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل. وقال: إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنقاذاً له مما كان فيه من العذاب
حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه، وكلما ضربه صاح ونادى: أحد أحد، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر رضي الله عنه، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركاً، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون: ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم. ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيها {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه صلى الله عليه وسلم ما عدا عيسى صلى الله عليه وسلم لأنه الأتقى بعد النبيين مطلقاً، وإلى أن خلافته حق لا مرية فيه لأنه مما وعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال:«يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه» وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضي الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى، وقال بعضهم:
إن المراد بذلك الأشقى أبو جهل، وأيضاً فإن هذا الختم دال على أن من صفى نفسه وزكاها بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت - والله الموفق للصواب.
سورة الضحى
مقصودها الدلالة على آخر الليل بأن أتقى الأتقياء الذي هو الأتقى على الإطلاق في عين الرضا دائما، لا ينفك عنهع في الدنيا والآخرة، لما تحلى به من صفات الكمال التي هي الإيصال للمقصود بما لها من النور المعنوي كالضحى بما له من النور الحسي الذي هو أشرف ما في النهار وقد علم بهذا أن اسمها أدل ما فيها على مقصودها) بسم الله (المعز لمن أراد، الكريم البر الودود ذي الجلال والإكرام) الرحمن (الذي عمن بنعمته الإيجاد الخاص والعام) الرحيم (الذي أعلى أهل وده فخصهم بإتمام الإنعام.
ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده، وكان به صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا
وأخرى، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار:{والضحى *} فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته، وأضوأه وهو صدره، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق.
ولما ذكر النهار بأشرف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله، أتبعه الليل مقيداً له بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال:{والّيل} أي الذي به تمام الصلاة؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً بظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار، قيد بالظلام الخالص فقال:{إذا سجى *} أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل فخلص فغطى بظلامه كل شيء، والمتسجي: المتغطي، ومع تغطيته سكنت ريحه، فكان في غاية الحسن، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من المحكم، والثاني مشيراً إلى المتشابه، وهذا الأربعة
الأحوال للنور والظلمة - وهي ضوء ممتزج بظلمة، وظلمة ممتزجة بضوء، وضياء خالص وظلام خالص - الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها، فروحه نور خالص، وطبعه ظلام حالك، وقلبه نور ممتزج بظلمة النفس، والنفس ظلمة ممتزجة بنور القلب، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً، وإن غلبت الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى:{إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الأعراف: 179] .
ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم، أجابه بقوله تعالى:{ما ودعك} أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع {ربك} أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً، وجعلك أكمل الخلق ثانياً، ورباك أحسن تربية ثالثاً، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له.
ولما كان ربما تعنت متعنت فقال: ما تركه ولكنه لا يحبه، فكم
من مواصل وليس بواصل، قال نافياً لكل ترك:{وما قلى *} أي وما أبغضك بغضاً ما، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال:«أخبركم بذلك غداً» ، ولم يستثن، فقالوا: قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت لذلك، ولما نزلت كبر صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع: تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما قال تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8] ثم أتبعه بقوله في الليل: {فسنيسره} [الليل: 7 - 13] وبقوله: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} [الليل: 7 - 13] ، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه، وذكر له
ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى} ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وأعقب ذلك بقوله: {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر} فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما هو صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه {وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 43] {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله: {والليل إذا
يغشى} [الليل: 1] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة
عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمته التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال صلى الله عليه وسلم لحارثة:
«وجدت فالزم» وقال مثله للصديق، وقال تعالى:{لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 64]{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 30] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله:{يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 29] و {يجعل لكم نوراً تمشون به} [الحديد: 28]{أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122] فعمل هؤلاء على بصيرة، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة، فقطعوا عن الدنيا الآمال، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16] {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى: {والليل إذا يغشى} ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى: {والنهار إذا تجلى} ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2]{فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7] أشار قوله سبحانه وتعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3]{ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]{ففروا إلى الله} [الذاريات: 50] الواحد مطلقاً، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار: قلى محمداً ربه، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى.
ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك» فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل،
ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكيف بما له صلىلله عليه وسلم، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار:{وللآخرة} أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك ليفهم منه أنه لا يزال في ترق من عليّ إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية {خير} وقيد بقوله: {لك} لأنه ليس كل أحد كذلك {من الأولى *} أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولا سيما الضحى منه، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء، قد قال:
الناس في الدنيا على أربع
…
والنفس في فكرتهم حائره
فواحد دنياه مقبوضة
…
إن له من بعدها آخره
وواحد دنياه مبسوطة
…
ليس له من بعدها آخره
وواحد قد حاز حظيهما
…
سعيد في الدنيا وفي الآخره
وواحد يسقط من بينهم
…
فذلك لا دنيا ولا آخره
ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة:{ولسوف يعطيك} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة {ربك} أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة {فترضى *} أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك. وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام: معطى راض، وممنوع غير راض، ومعطى
غير راض، وممنوع راض، وعن علي رضي الله عنه أنها أرجى آية في القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى واحداً من أمته في النار.
ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فتم يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه - كما قال جعفر الصادق - حق لمخلوق، فقال مقرراً له:{ألم يجدك} أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه {يتيماً فآوى *} ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل، ومن عدم العلم الضلال، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً:{ووجدك} أي صادفك {ضالاً} أي لا تعلم الشرائع {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم، والمسبب على السبب، وهو عدم العلم، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه
ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع {فهدى *} أي فهداك هدى محيطاً بكل علم، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم.
ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال: {ووجدك} أي حال كونك {عائلاً} أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً، قال ابن القطاع: عال الرجل: افتقر، وأعال: كثر عياله. {فأغنى *} بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام: منهم من وجد الدين والدنيا، ومنهم من عدمهما، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين. ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً:{فأما اليتيم} أي هذا النوع {فلا تقهر *} أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا وكافل اليتيم كهاتين» - وأشار بالسبابة والوسطى.
ولما بدأ بما كان بداية له، ثنى بما هو نهاية له من حيث كونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر واستئلاف الخلق من أعظم المقاصد في تمام الدين:{وأما السائل} أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال {فلا تنهر *} أي تزجر زجراً مهيناً، فقد علمت مضاضة العيلة، بل أعطه ولو قليلاً، أو رده رداً جميلاً، وكذا السائل في العلم.
ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل، أمره بما يفعل في العلم الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرهما لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال:{وأما بنعمة ربك} أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة {فحدث *} أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار، وتحديثك بها شكرها، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا
حقك، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله: ولقد امتثل صلى الله عليه وسلم وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور، ويملأ الأكوان من السرور، والنعمة والحبور، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه، فقال بعضهم: هو من أول الضحى، وقال آخرون: من آخرها، وقال غيرهم من أول الشرح، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين: قلاه ربه، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته
امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه، فمنهم من اقتصر على «الله أكبر» ومنهم من زاد التهليل فقال:«لا إله إلا الله والله أكبر» وهذا هو المستعمل، ومنهم من زاد «ولله الحمد» والراجح قول من قال: إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله، لكن شغله صلى الله عليه وسلم بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك، فلما ختمت السورة تفرغ له، فكان ذلك الوقت كأنه ابتداء مفاجأة ذلك الأمر العظيم له، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها، وأما من ظنه لأول الشرح فكونه كان في آخر الضحى، فإذا وصل بها «ألم نشرح» ألبس الحال، وتعليق الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن ليكون ذلك سبباً
لقطع من وصله بوحي أو غيره، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم، والتدريب على الحفظ في المبادىء والتحبيب فيه والتهييم، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم.