الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان
التين
أحسن الفواكه تقويماً فيما ذكروا من فضيلته، وهو مع كونه فاكهة شهية حلوة جداً - غذاء يقيم الصلب وقوت كالبر وسريع الهضم، ودواء كثير النفع يولد دماً صالحاً وينفع الرئة والكلى ويلين الطبع ويحلل البلغم ويزل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال، فكان جامعاً لجميع منافع المتناولات من الغذاء والتفكه والتحلي والتداوي، فهو كامل في مجموع ما هو فيه من لذة طعمه وكثرة نفعه، وكونه كفاكهة الجنة بلا شائبة تعوق عن أكله من صنوان يتعب أو نوى يرمى، مع أنه ينتفع به رطباً ويابساً، وهو مع ذلك في سرعة فساده وسوء تغيره أسفلها رتبة وأردؤها مغبة، فهو كالفطرة الأولى في مبدئه سهولة وحسناً وقبولاً لكل من الإصلاح والتغير، كآخر الهرم عند نهايته في عظيم تغيره بحيث إنه لا ينتفع بشيء منه إذا تغير، وغيره من الفواكه إذا فسد جانب منه بقي آخر فكان في هذا كالقسم للسافل من الإنسان أقسم الله تعالى به فقال:{والتين} بادئاً به لأن القسم المشار به إليه أكثر، فالاهتمام به أكبر.
ولما كان الزيتون في عدم فساد يطرقه أو تغير يلحقه، وفيه الدسومة والحرافة والمرارة، وهو إدام ودواء مع تهيئه للنفع
بكل حال في أكله بعد تزييته والتنوير بدهنه والادهان به لإزالة الشعث وتنعيم البشرة وتقوية العظم وشد العصب وغير ذلك من المنافع مع لدنه وما يتبع ذلك من فضائله الجمة كالمؤمن تلاه به فقال: {والزيتون *} ولما كان مع ذلك مشاراً بهما إلى مواضع نباتهما وهي الأرض المقدسة من جميع بلاد الشام إيماء إلى من كان بها من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان لا سيما إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كانت مهاجره فأحياها الله تعالى بعباده وتردد الملائكة إليه بالوحي ومن بعده أولاده الذين طهرها الله بهم من الشرك وأنارها بهم بالتوحيد، وختمهم بعيسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم المشرف بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكانت الكناية بالشجرتين عن البلد المراد به سكانه أبلغ من التصريح بالمراد من أول وهلة، ساقه على هذا المنهج العزيز، ولم يبق ممن لم يسكنها من أشرافهم إلا موسى وهارون وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فأشار إلى الأولين بقوله معبراً بما يدل على أحسن التقويم لأن الطور الجبل ذو النبت من النجم والشجر المثمر وغيره:{وطور} أي جبل المكان المسمى بهذا الاسم.
ولما كان الكلام في التقويم، كان المناسب له صورة جمع السلامة فقال تعالى:{سينين *} أي وما كان بالجبل ذي النبت الحسن الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من لذيذ المناجاة وعجائب المواعدة وحكم الكلام مع أن فيه من الأشجار والأماكن ما يكنّ من الحر والبرد، وفيه لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته، وفيه ما يصلح للزرع من غير كلفة، وفيه ما يأكله الناس والدواب مع الماء العذب والفناء الرحب والمنظر الأنيق، وسنين وسيناء - اسم للموضع الذي هذا الجبل به، وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ليكون في البدء بما يرد بعد حسن التقويم الى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار:{وهذا البلد} أي مكة، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد
بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله {الأمين *} أي الذي يأمن فيه من حل به من البشر والطير والوحش، فكان بذلك كالرجل الأمين الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أن به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس فهو مدار الدين والدنيا، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب - والناس يتخطفون من حوله، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب
فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللداد.
ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة، فتوقع أكمل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته، أجيب بقوله تعالى محققاً:{لقد خلقنا} أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة {الإنسان} أي هذا النوع الذي جمع فيه الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام
{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة فيتولد الفساد من الشهوة والسفك من الغضب {في أحسن تقويم *} أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق
والخلق بما خص به من انتصاب القامة وحسن الصورة واجتماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصرة والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به وقويناه بقدرتنا لقبول الحق، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] في البقرة، وقال ابن برجان هنا: مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملؤوا الأرض علماً وحكمةً ونوراً، قال البغوي: خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً
بالعقل والتمييز - انتهى، والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب، ومن المعلوم أن المقصود من كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فبعضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال، فكل ميسر لما خلق له، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يرديه، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر - فاعتبر ذلك، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال - والله الهادي، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم - قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره، وصيغة «أفعل» لا تدل على ما قاله الزنادقة، وإن عزي ذلك
إلى بعض الأكابر من قولهم: ليس في الإمكان أبدع مما كان، لأن الدرجة الواحدة تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفراد الإنسان في صوره وألوانه، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته: تهديم الأركان من «ليس في الإمكان أبدع مما كان» ، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان، وجرت فيه فتن تصم الآذان، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان، وقهر أهل الطغيان، ثم أردفته بكتاب «دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان ثم شفيت الأسقام، ودمغت الأخصام، وخسأت الأوهام، بالقول الفارق بين الصادق والمنافق، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر في الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتبه الإحياء وغيره ولا سيما كتابه» تهافت الفلاسفة «وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة وقولهم بأن فعله بالذات، وبين فساد ذلك،
وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوتة بالصغر والكبر، وعلى كل ممكن، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه، وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن، وعرف الممتنع بانه إثبات الشيء مع نفيه، وإثبات الأخص مع نفي الأعم، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد، وقال: وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم - والله الموفق لما يريد.
ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى، لم يستثن بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة:{ثم رددناه} أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً وهوى أو أعم
من ذلك بالنكس {أسفل سافلين *} أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس، وجعلناها داعية إلى كل بؤس، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد، وأوقعته في المهاوي والمعاطب، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع، لا يقدم على مثله عاقل، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم، ويجتهد في الفجور، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم بل من أدنى الحشرات المستقذرات لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات، وما فضلناه به من الكمالات،
في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره، وقال ابن برجان: أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح «المقدم المؤخر» من شرحه للاسماء الحسنى: إن الله تعالى خلقه.
أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين، وكان من المقربين المقدمين، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم، وكان من المبعدين المؤخرين.
ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم، وكان الصالح قليلاً جداً، جعله محط الاستثناء فقال:{إلا الذين آمنوا} أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم، وحميناهم من أرذل العمر، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم، وأعظمنا من قوى أرواحهم.
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال: {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام، متقنة غاية الإتقان، فإنا حفظناهم - وقليل ما هم - بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى، فسهل انقيادهم، فأداهم ذلك إلى العدل
والنصفة والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل، فالآية كما ترى من الاحتباك: حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى، ليكون نظمها في الأصل {ثم رددناه أسفل سافلين} بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم.
ولما كان السياق لمدح المؤمنين، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال:{فلهم} أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى {أجر} أي عظيم جداً وهو مع ذلك {غير ممنون *} أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين.
ولما ثبت بهذا أنه لا يجوز في الحكمة تركهم بغير جزاء مع ما يشاهد من ظلم بعضهم لبعض معاندة لما يقتضيه قويم العقل الذي لا شك فيه، فكان ذلك بحيث لا يرضاه أحد منهم ولا يقر مخلوق عبيداً في ملكه على مثله بأن يبغي بعضهم على بعض فيهملهم بل لا بد أن يحجز بينهم أو يأخذ للمظلوم من الظالم، ولو كان ذلك المالك أقل الناس وأجهلهم فكيف إن كان عاقلاً فكيف إن كان حاكماً فكيف إن كان لا يخاف أحداً فكيف إن كان عدلاً مقسطاً قد ثبتت إحاطة علمه وقدرته سبحانه وتعالى، حسن كل الحسن أن يكون ذلك سبباً للإنكار على من يظن أن الله يهمل عباده من الحكم بينهم لمجازاة كل من المطيع والعاصي بما عمل مع ما ترى من ظلم بعضهم لبعض، وأن الظالم قد يموت قبل القصاص، فقال مسبباً عن الوعد بما أفصح به الكتاب من إثابة المؤمنين الذي طالما بغى عليهم الظلمة، وانتقصهم حقوقهم الفسقة، والوعيد بما أفهمه الخطاب لعتاب المجرمين الذين طالما بغوا على غيرهم:{فما} أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن
الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما عمل وإنكاراً على من كذبك: ما {يكذبك} أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق وأكملهم نفساً وأتقاهم عرضاً وأطهرهم خلقاً وخلقاً، وعبر ب «ما» إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه {بعد} أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون {بالدين *} أي الجزاء لكل أحد بما يستحقه على سبيل العدل والإنصاف لأجل تلك الأعمال التي غلبت فيها الحظوظ على العقول، فوقع بها من الظلم والأذى ما لا يسع عاقلاً من العباد أن يحسن عنده ترك فاعلها من غير جزاء حتى كان أكثر أفعال العباد ظلماً، ومن شأن الملوك الإنصاف بين عبيدهم ورعاياهم، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي شرع لعباده ذلك، وقد ثبت بما له من هذا الخلق العظيم، على هذا النظام المحكم والمنهاج الأقوم أنه الحكيم، الذي لا حكيم غيره، العليم الذي لا عليم سواه.
ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس على منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى، حسن جداً تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى:{أليس الله} أي على ما له من صفات الكمال، وأكده بالجار في قوله:{بأحكم الحاكمين *} أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضاً من غير جزاء، فيكون خلقهم عبثاً، بل هو أحكم الحاكمين علماً وقدرة وعدلاً وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم، فلا بد أن يقيم الجزاء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته وفضله، وهذا الآخر هو أولها قسماً من جهة النبوات التي ظهر بها حكمه وحكمته، ومقسماً عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتماً لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالاً، وزادت الدلالة على الآخرة، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة «أتانا ربنا من سيناء وشرق بنا من جبل ساعر، وظهر لنا من جبال فاران» والخلق في أحسن تقويم هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام
المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هو ما فيها من الشرائع والأحكام، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالمقسم عنه «معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى الشعوب، وبارك على جميع أطهاره» والرد أسفل سافلين هو ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لا سيما الثلاث العظام - المشار إليه بقسم هذه السورة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب.
سورة العلق
وتسمى إقرأ.
مقصودها الأمر لا سيما للمقصود بالتفضيل في سورة التين بعبادة من له الخلق والأمر، شكرا لأحسانه واجتنابا لكفرانه ن طمعا في جنانه وخوفا من نيرانه، لما ثبت أنه يدين العباد يوم المعاد، وكل من اسميها دال على ذلك لأن المربي يجب شكره، ويحرم غاية التحريم كفره، على أن " اقرأ " يشير إلى الأمر، " والعلق " يشير غلى الخلق، و" اقرأ " يدل على البداية وهي العبادة بالمطابقة، وعلى النهاية وهي النمجاة يوم الدين باللازم، والعلق يدل على كل من النهاية ثم البداية بالالتزام، لأن من عرف أنه مخلوق من دم عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب، فإن التراب أقبل للحياة من الدم، ومن صدق بالإعادة عمل لها، وخص العلق لأنه مركب الحياة، ولذلك سمي نفسا) بسم الله (الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالإلهية) الرحمن (الذي عمت نعمته فاستوج بالشكر من سائر البرية) الرحيم (الذي وفق من شاء
من خواصه لما أنالهم به المواهب السنية والعطايا الوفية.
لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته، وذكره بمجامعها في {ألم نشرح} فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصلي ذاكراً أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيهاً على تعرفها وإنعام النظر فيها، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم:{اقرأ} وحذف مفعوله إشارة إلى انه لا قراءة إلا بما أمره به، وهي الجمع الأعظم، فالمعنى: أوجد القراءة لما لا مقروء غيره، وهو القرآن الجامع لكل خير، وأفصح له بأنه لا يقدر
على ذلك إلا مبعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره: حال كونك مفتتحاً القراءة {باسم ربك} أي بأن تبسمل، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في {ألم نشرح} أو بذكر اسمه، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه، قالوا: وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء، فجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله «ما لم يعلم» ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها
بلوغ النهاية، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي، فيكون سبباً للكرامة الدائمة، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى:
{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة} [الإسراء: 45]- أي من شياطين الإنس والجن- {حجاباً مستوراً} [الإسراء: 45] وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] .
ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين، فهو أعلق بالفهم، وأقرب إلى التصور، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور لأن أول الواجبات معرفة الله، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال:{الذي خلق *} وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما يكون، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه.
ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه، ولباب حقيقته وسر محضه، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعاً لجميع ما في الأكوان، فكان خلقه أبدع من خلق غيره، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة، خصه فقال:{خلق الإنسان} أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى ما أخلاقه وحسه، وما ألفه من أبناء جنسه.
ولما كانت العرب تأكل الدم، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه، قال معرفاً بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب:{من علق *} أي خلق هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ، جمع علقة، وكذا الطين الذي يعلق باليد يسمى علقاً، وهم مقرّون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما، فالآية من أدلة إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل، فإذا
استحال وصف بالحلال لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره، واحمرار النطفة ليس استحالة لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت حمراء، فإذا تحول الدم لحماً صار إلى جنس ما يحل، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمراً أو حباً حل.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 7 - 8] وكان معنى ذلك: أيّ شيء حمل عل هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى:
{لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته صلى الله عليه وسلم من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم، فتقدير الكلام: أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في
الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً؟ وقد قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً} [ص: 27 - ولكن قراءتنا - وما خلقنا السماء - لا بالجمع] فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء، وهو كتابه المبين، الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال {اقرأ باسم ربك} مستعيناً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1] وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم {ثم رددناه أسفل سافلين} [التين: 5] وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وجليل وعده الكريم له في قوله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] وفضل حال ابتداء {ألم نشرح} على تقدم سؤال {رب اشرح} [طه: 25] إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع تعقيب - ذلك بسورة
تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى:{أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {كلا لا تطعه} ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين، وهي العادة المطردة في الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً، فنقول له: وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه، فارجع بصرك، وأعد في الخطبة نظرك، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى.
ولما أتم سبحانه ما أراد من أمر الخلق وهو الإيجاد بالأسباب
بالتدريج، أخذ في التنبيه على عالم الأمر وهو الإبداع من غير أسباب، فقال مكرراً للأمر بالقراءة تنبيهاً على عظم شأنها وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم ومسكناً لروعه ومعلماً أن من جاءه الأمر من قبله ليس كأربابهم:{اقرأ} ولما كان قد قال صلى الله عليه وسلم عند هذا الأمر إخباراً بالواقع كما يقول لسان الحال لو لم ينطق بلسان المقال: ما أنا بقارىء، فكان التقدير: فربك الذي رباك فأحسن تربيتك وأدبك فأحسن تأديبك أمرك بالقراءة وهو قادر على جعلك قارئاً، عطف عليه قوله:{وربك} أي يكون التقدير: والحال أن الذي خصك بالإحسان الجم {الأكرم *} أي الذي له الكمال الأعظم مطلقاً من جهة الذات ومن جهة الصفات ومن جهة الأفعال، فلا يلحقه نقص في شيء من الأشياء أصلاً لأن حقيقته البعيد عن اللوم الجامع لمساوىء الأخلاق، فهو الجامع لمعالي الأخلاق، وليس غيره يتصف بذلك، فهو يعطيك ما لا يدخل تحت الحصر، وأشار إلى أن من ذلك أنه يفيض على أمته الأمية من العلم والحظ ما لم يفضه على أمة قبلها على قصر أعمارهم، فقال مشيراً إلى العلم التعليم، مشعراً بوصفه سبحانه بالمنح بالعلم إلى ترتيب الحكم بالأكرمية على هذا الوصف الناقل للإنسان من الحال العقلي السافل إلى هذا الحال
العالي الكامل {الذي علّم} أي بعد الحلم عن معاجلتهم بالعذاب والعقاب جوداً منه من غير مانع من خوف عاقبة ولا رجاء منفعة {بالقلم *} أي الكتابة به. ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره، زاد ذلك عظمة على وجه يعم غيره فقال:{علّم} أي العلم الضروري والنظري {الإنسان} أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه {ما لم يعلم *} أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى، فيعلم النتائج، وما يعرف به الحدسيات، وذلك بعد خلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم وفي أصل المعلوم كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته،
قال الملوي: ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم، وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر، قال الرازي، وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام.
ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره، قال معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله، ورادعاً له عن ضلاله:{كلا} أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه {ليطغى *} أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي، وأكده لما لأكثر الخلق من التكذيب به فإنه لا طاغي يقر بأنه طغى {أن} أي لأجل أن {رآه} أي علم الإنسان نفسه
علماً وجدانياً {استغنى *} أي وجد له الغنى، هذا هو الطبع الغالب في الإنسان متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره، فتغيرت أحواله معه، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» ومن كان مفتقراً إلى شيء كان منطاعاً له كما في حديث آخر أهل النار خروجاً منها يقسم لربه أنه لا يسأل غير ما طلبه، فإذا أعطيته واستغنى به سأل غيره حتى يدخل دار القرار، ولعله نبه بهذا على أن هذه الأمة المحتاجة ستفتح لها خزائن الأرض فيطغيها الغنى كما أطغى من قبلها وإن كانوا هم ينكرون ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم حين بشرهم بالفتوحات وقال:«إنه يغدى على أحدكم بصفحة ويراح عليه بأخرى ثم قال لهم: أنتم اليوم خير أم يومئذ، فقالوا: بل يومئذ، نتفرغ لعبادة ربنا، فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ، قال صلى الله عليه وسلم: والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولما كان لا دواء لذلك مثل تذكر الجزاء، قال معرفاً أن
الإنسان لا يزال مفتقراً إلى مولاه في حياته ومماته وغناه وفقره، محذراً له سوء حالاته مؤكداً لأجل إنكارهم ذلك:{إن إلى ربك} أي المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك، لا إلى غيره من التراب ونحوه {الرجعى *} أي الرجوع الأعظم الثابت الذي لا محيد عنه، أما في الدنيا فلا محيد عن الإقرار به، فإنه لا يقدر أحد على شيء إلا بتقديره، وأما في الآخرة فبما أثبت في برهانه في سورة التين، فيحاسب الناس بأعمالهم، ويجازي كل أحد بما يستحق من ثواب أو عقاب، ففيه وعيد للطاغي وتحقير - لغنى ينقطع.
ولما أخبر بطغيانه وعجل بذكر دوائه لأن المبادرة بالدواء لئلا يتحكم الداء واجبة، دل على طغيانه مخوفاً من عواقب الرجعى في أسلوب التقرير لأنه أوقع في النفس وأروع للّب لأن أبا جهل قال:«لئن رأيت محمداً يعفر وجهه لأفضخن رأسه بصخرة، فجاء ليفعل ما زعم فنكص على عقبيه ويبست يداه على حجره فسئل عما دهاه، فقال: إن بيني وبينه لهولاً وأجنحة، وفي رواية: لخندقاً من النار، وفي رواية: لفحلاً من الإبل، فما رأيت مثله، ولو دنوت منه لأكلني» وأصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال:{أرءيت} تقدم
في الأنعام أن هذا الفعل إذا لم يكن بصرياً كان بمعنى أخبر، فالمعنى: أخبرني هل علمت بقلبك علماً هو في الجلاء كرؤية بصرك {الذي ينهى *} أي على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية:{عبداً} أي من العبيد {إذا صلّى *} أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به، وهي أعظم أنواع العبادة لأنها مع كونها أقرب وصلة إلى الحق انقطاع وتجرد بالكلية عن الخلق، فكان نهيه له عن ذلك نهياً عن أداء الحق لأهله حسداً أو بغياً، فكان دالاًّ على أن من طبع أهل كل زمان عداوة أهل الفضل وصدهم عن الخير لئلا يختصوا بالكمال.
ولما كان هذا أمراً خارجاً عن الحد في الطغيان، وكان السؤال إنما هو عن رؤية حاله في نهيه العبد عن الصلاة، لا عن رؤية ذاته، فتشوف السامع إلى معرفة ذلك الحال، كرر التقرير بزيادة التعجيب من حاله والتحذير، فقال مكرراً العامل زيادة في التأكيد وبياناً لأن هذا في الحقيقة أول السؤال عن الحال:{أرءيت} أي أخبرني عن حاله {إن كان} أي هذا الناهي، وعبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى أنه في غاية الثبات والتمكن فقال:{على الهدى *} أي الكامل
في الهداية فكف عن نهي هذا المصلي عن خدمة مولاه الذي هو معترف بسيادته وإن ادعى كذباً أن له شريكاً كما أنه لا ينهى عن السجود للأصنام.
ولما ذكر ما لعله يكون عليه في تكميل نفسه، ذكر ما لعله يعانيه من إنجاء غيره فقال:{أو أمر} أي ذلك الناهي {بالتقوى *} أي التي هي عماد الدين، وهي عمارة الباطن بالنور الناشئة عن الهدى، وعمارة الظاهرة لذلك، المترشحة من عمارة الباطن، الموجب لذلك، فأمر هذا المصلي بملازمة خدمة سيده المجمع على سيادته، ولا شك في توحيده بالربوبية بالإقبال على ما يرضيه من أفعال العبادة، ليكون ذلك وقاية لفاعل من سخطه فيأمن الهلاك، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن خيراً له فليتدبر كل أمر من أموره فلا يقدم عليه حتى يعلم بالدليل أنه هدى وتقوى.
ولما كان التقدير حتماً كما هدى إليه السياق ما قدرته من جواب السؤالين، بنى عليه قوله زيادة في التوبيخ والتعجيب والتقريع استفهاماً عن حال لهذا الناهي مناف للحال الأول معيداً الفعل إيضاحاً لذلك:{أرءيت} أي أخبرني أيها السامع ولا تستعجل {إن كذب} أي أوقع هذا الناهي التكذيب بأن المصلي على الهدى بخدمة سيده
المتفق على سيادته، فكان بذلك مرتكباً للضلال الذي لا شك في كونه ضلالاً، ولا يدعو إليه إلا الهدى.
ولما كان المكذب قد لا يترك من كذبه، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك فقال:{وتولى *} أي وكلف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شراً له لأن التكذيب والتولي من غير دليل شر محض، فكيف إذا كان الدليل قائماً على ضدهما.
ولما عجب من حالته البعيدة عن العقل مع نفسه ومع أبناء جنسه، أنكر عليه معجباً من كونه يعلم أنه ليس بيده شيء، المنتج لأنه مراقب وحاله مضبوط غاية الضبط وينسى ذلك، فقال ذاكراً مفعول «أرءيت» الثاني وهو لا يكون إلا جملة استفهامية:{ألم يعلم} أي يقع له عمل يوماً من الأيام {بأن الله} أي وهو الملك الأعلى {يرى *} أي له صفتا البصر والعلم على الإطلاق، فهو يعلم كل معلوم ويبصر كل مبصر، ومن كان له ذلك كان جديراً بأن يهلك من يراه على الضلال والإضلال وينصر من يطيع أمره على كل من يعاديه، وإنما جاء هذا الاستفهام الإنكاري على هذا الوجه لأنهم يعترفون بكل ما أنكر عليهم
فيه ويلزمهم بما يفعلون من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا منكرين له، وذلك هو عين التناقض الذي لا أشنع عندهم منه، هذا ويمكن، وهو أحسن، أن تنزل الآية على الاحتباك فيقال: لما كان السؤال عن حال الناهي لأن الرؤية علميه لا بصرية، فتشوف السامع إلى معرفتها، وكان للناهي حالان: طاعة ومعصية، بدأ بالأولى لشرفها على الأسلوب الماضي في التقرير على سبيل التعجيب فقال:«أرءيت» أي أخبرني «إن كان» الناهي ثابتاً في نهيه هذا متمكناً «على الهدى» أي الكامل «أو» كان قد «أمر» في ذلك الأمر أو في أمر ما من عبادة الأوثان وغيرها «بالتقوى» وحذف جواب السؤال عن هذا الحال لدلالة جواب الحال الثاني عليه، وهو ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يصح أن يرى، فينهى عنه إن كان مكروهاً ولا يقر عليه ويحاسب به ليزن هذا الناهي أفعاله بما شرعه سبحانه من الدليل العقلي والسمعي فيعلم أهي مما يرضيه ليقره عليه كما يقر سائر ما يرضيه أو يسخطه فيمنعه منه.
ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول:«أرأيت إن كذب» أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي
قال: «وتولى» أي عن الدين بنهيه هذا، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً «ألم يعلم بأن الله يرى» فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه، كما فعل بهذا الذي أقسم: ليرضخن رأس هذا المصلي، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه فمنعه الله منه ورده عنه فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال، ويأنف منه الضراغمة الأبطال، والاحتباك هنا بطلب «أرءيت» جملة ليس هو من التنازع لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر، إنما هو من باب الحذف لدليل، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً، وحذف «ألم يعلم بأن الله يرى» أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه.
ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له -
بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم، أتى بأعظم أدواث الردع فقال:{كلا} أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ولا في يده شيء من الأشياء، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى، فليرتدع عن تعاطي ذلك لأنه لا يضر إلا نفسه.
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها، إنما هو عن تهاون بالخير ورضى بالعمى والتقليد، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكور في الفاتحة، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول: فما يفعل به؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون: {لئن لم ينته} أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه.
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال:
{لنسفعاً} أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره {بالناصية *} أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة.
ولما كان من المعلوم أن من صار في القبضة على هذه الهيئة المهينة المزرية فهو هالك، اغتنى به عن أن يقول: ولنسحبنه بها على وجهه إلى النار، ووصفها بما يدل على ذلك فقال مبدلاً لأن البدل وصف بما قربه من المعرفة:{ناصية} أي عظيمة القبح {كاذبة} أي متعمدة للكذب {خاطئة *} فهي صادر عنها الذنب من الكذب وغيره من غير تعمد، فأغلب أحوالها على غير صواب تارة عن عمد وتارة عن غير عمد، وما ذاك إلا لسوء جبلة صاحبها حتى كاد لا يصدر عنه فعل سديد، ووصفها بما هو لصاحبها على الإسناد المجازي مبالغة في تكذيبه في أنه لا يقدر على منع المهتدي أو إذلاله أو شيء من أذاه إلا إن أذن له صاحب الأمر كله فيما يكون سبباً لزيادة رفعته، وفي العدول عن الحقيقة، كأن يقال: ناصية كاذب خاطىء، بالإضافة إلى هذا المجاز،
من الجزالة والفخامة والجلالة ما لا يخفى.
ولما كان هذا هو غاية الإهانة، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً، وإنما عزهم بقومهم، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري:{فليدع} أي دعاء استغاثة {ناديه *} أي القوم الذين كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه، والذي نزلت فيه هو أبو جهل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً.
ولما كان كأنه قيل: فلو دعا ناديه يكون ماذا؟ قال: {سندع} أي بوعد لا خلف فيه {الزبانية *} أي الأعوان الموكلين بالنار ليجروه إليها، وهم في الأصل الشرط، الواحد زبنية كهبرية، من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسبة، أصلها زباني والتاء عوض عن الياء، وهم كل من عظم خلقه، واشتد بطشه، وقد اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من هذا الفعل خطأ، ولا موجب لحذفه من العربية لفظاً،
وكأن المعنى في ذلك - والله أعلم - أن لا يظن أنهم دعوا لرفعة لهم في ذواتهم يستعان بهم بسببها لأن معنى الواو عند الربانيين العلو والرفعة، إشارة إلى أنهم لا قوة لهم إلا بالقوي العزيز، أو يقال: إن الحذف دال على تشبيه الفعل بالأمر ليدل على أن هذا الدعاء أمر لا بد من إيقاع مضمونه، ومن إجابة المدعوين إلى ما دعوا إليه، وأن ذلك كله يكون على غاية الإحكام، والاتساق بين خطه ومعناه والانتظام، لا سيما مع التأكيد بالسين، الدال على تحتم الاتحاد والتمكين، أو يكون المعنى: إنا ندعوهم بأيسر دعاء وأسهل أمر، فيكون منهم ما لا يطاق ولا يستطاع دفاعه بوجه، فكيف لو أكدنا دعوتهم وقوينا عزمتهم.
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي والسفع بناصيته إن لم ينته وأمره بدعاء ناديه، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد وأنه لا يفيده دعاء ناديه، فالكل منفي، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع فقال:{كلا} أي لا يقدر على دعاء ناديه ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل؟ قال معرفاً أن من علم أن
طبع الزمان وأهله الفساد، وجب عليه الإقبال على شأنه والإعراض عن سائر العباد {لا تطعه} أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها.
ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة، قال تعالى مشيراً إلى النصر له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته:{واسجد} أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك وجدد ذلك في كل وقت. ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال: {واقترب *} أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك والتحبب إليه بكل عبادة لا سيما الصلاة فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم «أعوذ بعفوك من عقوبتك» فإن هذه الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعال الله فقط، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله، فاستعاذ بفعله من فعله، قال: ثم اقترب ففني في مشاهدة الأحوال، وترقى إلى مصادر الأفعال، وهي الصفات، فقال:«أعوذ برضاك من سخطك» وهما صفتان، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد
فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال «وأعوذ بك منك» فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال «أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك» فقوله:«لا أحصي» خبر عن - فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها، وقوله:«أنت كما أثنيت» بيان أنه المثني والمثنى عليه، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق، ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية، فكان يستغفر الله من الأولى، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها، فكان استغفاره لذلك.
ولما قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد؟ قال:«أفلا أكون عبداً شكوراً» معناه: أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى {ولئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] انتهى. وهو على ما ترى من النفاسة فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع، فازددت صفاء وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام «ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه - والله أعلم» فقد رجع آخرها إلى الأول، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي.
سورة القدر
مقصودها تفصيل الأمر الذي هو أحد قسمي ما ضمنه مقصود " اقرأ " وعلى ذلك دل اسمها لأن الليلة فضلت به، فهو من إطلاق المسبب على السبب، وهو دليل لمن يقول باعتبار تفضيل الأوقات لأجل ما كان فيها، كما قال ذلك اليهودي في اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى) اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] وأفرده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك وأعلمه أنه صار لنا عيدين: عيدا من جهة كونه يوم عرفة، وعيدا من جهة كونه يوم جمعة) بسم الله (الذي جل أمره وتنزه ذاته) الرحمن (الذي عمت رحمته فبدعت صفاته) الرحيم (الذي خص أهل التوحيد بإتمام النعمة فاختصت بهم جناته.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى كتابه في هذا الذكر العربي المعجز، ذكر إنزاله مستحضراً في كل قلب، كان ذلك مغنياً عن إعادته بصريح اسمه، فكان متى أضمره علمه المخاطب بما في السياق من القرائن الدالة عليه، وبما له في القلب من العظمة وفي الذهن من الحضور لا سيما في هذه
السورة لافتتاح العلق بالأمر بقراءته، وختمها بالصلاة التي هي أعظم أركانها، فكانت دلالتها عليه دلالة هي في غاية الوضوح، فكان كأنه قال: واقترب بقراءة القرآن في الصلاة، فكان إضماره أدل على العظمة الباهرة من إظهاره، لدلالة الإضمار على أنه ما تم شيء ينزل غيره فهو بحيث لا يحتاج إلى التصريح به، قال مفخماً له بأمور: إضماره، وإسناد إنزاله إليه، وجعل ذلك في مظهر العظمة، وتعظيم وقت إنزاله المتضمن لعظمة البلد الذي أنزل فيه - على قول الأكثر، والنبي الذي أنزل عليه، مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار، {إنا} أي لما لنا من العظمة {أنزلناه} أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه، وهو الموجود الآن، وكذا كان إنزال أول نجم منه، وهو أول السورة الماضية إنزالاً مصدقاً لأن عظمته من عظمتنا بما له من الإعجاز في نظمه، ومن تضاؤل القوى عن الإحاطة بعلمه، وأول ما أنزل منه صدرها إلى خمس آيات منها آخرها «ما لم يعلم» على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في هذا الشهر الشريف بجبل حراء من جبال مكة المشرفة، ثم صار ينزل مفرقاً بحسب الوقائع حتى تم في ثلاث وعشرين سنة، وكلما نزل منه نجم يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بترتيبه في سورته عن أمر الله تعالى حتى تم في السور على ما هو عليه الآن ما هو عليه في بيت العزة.
ولما عظمه بما ذكر، زاده عظماً بالوقت الذي اختار إنزاله فيه ليكون طالعه سعيداً لما كان أثره حميداً فقال:{في ليلة القدر *} أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير، والأعمال فيها ذات قدر وشرف، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر فلا قدر لغيرها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ورد تعريفاً بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتب، وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب، أعلم سبحانه وتعالى بليلة إنزاله وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا وتعلق رجائنا ونبحث في الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها ومن قبيل الصلاة الوسطى، ولله سبحانه في إخفاء ذلك أعظم رحمة، وكان في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها - انتهى.
ولما علم من السياق تعظيمها بعظمة ما أنزل فيها وبالتعبير عنها بهذا، قال مؤكداً لذلك التعظيم حثاً على الاجتهاد في إحيائها لأن
للإنسان من الكسل والتداعي إلى البطالة ما يزهده في ذلك: {وما أدراك} أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص {ما ليلة القدر *} أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى عليّ قدرها على ما لك من سعة العلم وإحاطة الفكر وعظيم المواهب.
ولما ثبتت عظمتها بالتنبيه على أنها أهل لأن يسأل عن خصائصها، قال مستأنفاً:{ليلة القدر *} أي التي خصصناها بإنزالنا له فيها {خير من ألف شهر *} أي خالية عنها أو العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، قالوا: وهي مدة ملك بني أمية سواء، وتسميتها بذلك لشرفها ولعظيم قدرها، أو لأنه يفصل فيها من أم الكتاب مقادير الأمور، فيكتب فيها عن الله حكم ما يكون من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل، من قولهم: قدر الله على هذا الأمر يقدره قدراً، أي قضاه، وهي الليلة المرادة في سورة الدخان بقوله تعالى:{فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وذكر الألف إما للمبالغة بنهاية مراتب العدد ليكون أبلغ من السبعين في تعظيمها أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شخصاً من مؤمني بني إسرائيل لبس السلاح مجاهداً في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون منه فتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطاهم الله سبحانه وتعالى ليلة من قامها
كان خيراً من ذلك، وأبهمها في العشر الأخير من شهر رمضان في قول الجمهور على ما صح من الأحاديث ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وقيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذراً من قيامها، والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهاراً لنفاسته وإعظاماً للرغبة فيه وإيذاناً بالسرور به، لكن جعل السورة ثلاثين كلمة سواء يرجح أنهم السابعة والعشرون التي وازاها قوله هي - كما نقل عن أبي بكر الوراق.
ولما عظمها، ذكر وجه العظم ليكون إعلاماً بعد إبهام وهو أوقع في النفس فقال مستأنفاً:{تنزل} أي تنزلاً متدرجاً هو أصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء {الملائكة} أي هذ النوع العظيم الذي هو خير كله {والروح} أي جبريل عليه الصلاة والسلام، خصه بياناً لفضله أو هو مع أشراف الملائكة أو هو خلق أكبر من الملائكة أو هو أمر تسكن إليه نفوس العارفين ويحصل به اليمن والبركة {فيها} وأشار إلى خفاء ذلك التنزل بإسقاط تاء التنزل مع ما تقدم من الإشارات، ودل على زيادة البركة في
ذلك التنزل وعظيم طاعة الملائكة بقوله: {بإذن ربهم} أي بعلم المحسن إليهم المربي لهم وتمكينه، وتنزلهم إلى الأرض أو السماء الدنيا أو تقربهم من المؤمنين، متبدىء تنزلهم {من كل أمر *} أي الأمور الكلية التي يفرقون فيها بإذن الله تفاصيل الأمور التي يريدها سبحانه في ذلك العام في أوقاتها من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل، أو من أجل تقدير كل شيء يكون في تلك السنة، وعبر عن الشيء بالأمر إعلاماً بأنهم لا يفعلون شيئاً إلاّ بأمره.
ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة - التي هي سببها - بها، فكان ذلك أدل على عظمتها فقال تعالى:{سلام} أي عظيم جداً {هي} أي ما هي إلا سلامة وخير ليس فيها شر، ولا يزال ذلك السلام والبركة فيها {حتى} أي إلى {مطلع الفجر *} أي طلوعه ووقت طلوعه وموضع طلوعه، لا يكون فيه شر كما في غير ليلتها، فلا تطلع الشمس في صبيحتها بين قرني الشيطان إن شاء الله تعالى، وذلك سر قراءة الكسائي بالكسر - والله أعلم، واختير التعبير ب «حتى» دون «إلى» ليفهم أن لما بعدها حكم ما قبلها، فيكون المطلع في حكم الليلة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ليلة القدر في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه
فوق الكعبة، ثم يفرق الملائكة في الناس حتى يسلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر، فمن تأمل هذه السورة علم منه ما للقرآن من العظمة فأقبل عليه بكليته يتلوه حق تلاوته كما أمر في سورة «اقرأ» فأمن من غير شك من هول يوم الدين المذكور في التين، ومن تلاوته بحقه تعظيم ليلة القدر لما ذكر من شرفها، وذلك جاز إلى الحرص عليها في كل السنة، فإن لم يكن ففي كل رمضان، فإن لم يكن ففي جميع ليالي العشر الأخيرة منه، ليكون له من الأعمال بسبب فضلها ومضاعفة العمل فيها ما لا يحصيه إلى الله تعالى بحيث إنه ربما يكون خيراً من عمل من اجتهد فيما قبلنا ألف سنة، ورجوع آخرها بكون هذا التنزل في ليلة القدر على أولها في غاية الوضوح لأن أعظم السلام فيها نزول القرآن، ولعل كونها ثلاثين كلمة إشارة إلى إن خلافة النبوة التي هي ثلاثون سنة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم التي آخرها يوم نزل أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما فيه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هي كليلة القدر في الزمان، وما بعدها كليالي العام فيه الفاضل وغيره، وتلك المدة كانت لخمسة خلفاء أشارت إليهم حروف الكلمة الأخير منها، فالألف لأبي بكر رضي الله عنه
وهي في غاية المناسبة له، فإن الربانيين قالوا: هو اسم للقائم المحيط الأعلى الغائب عن مقامه لكنها الحاضر معه وجوداً كالروح، وكذا كان رضي الله عنه حاضراً مع الأمة بوجوده وهو غائب عنهم بتوجهه، وجميع قلبه إنما هو مع الله عز وجل، واللام لعمر رضي الله عنه وهي شديدة المناسبة له فإنها صلة بين باطن الألف وظاهر الميم الذي هو لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه للتمام، وكذلك فعل - وصل بين السيريتن وصلاً تاماً بحيث وصل ضعف الصديق في بدنه وقوته في أمر الله بقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتظم به الأمر انتظاماً لا مزيد عليه، والفاء لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو إشارة لبدء خلوص منته لتنقل بمزيد أو نقص، وآيته الفطرة الأولى، وآيتها المحسوسة اللبن أول خروجه إذا أصابه أقل شيء من الهواء الممدود غيّره، وكذلك الفطرة إذا أصابها أقل شيء من الهوى المقصود غيّرها، وكذا كان حاله رضي الله تعالى عنه، حصلت له آفات الإحسان إلى أقاربه الذي قاده إليه قويم فطرته حتى حصلت له الآفات الكبار رضي الله عنه، والجيم لعلي رضي الله عنه وهو إشارة إلى الجمع، والإجمال الذي يحصل عنده عنا وهو أنسب الأمور له رضي الله تعالى عنه فإنه حصل به الجمع بعد
الافتراق العظيم بقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شهيداً مظلوماً، وحصل به الإجمال لكن لم يتم التفصيل بسبب ما حصل من العناد، والراء إشارة إلى الحسن رضي الله تعالى عنه وهي تطوير وتصيير وتربية، وهي لكل مرب مثل زوج المرأة وسيد العبد، ولذلك فعل رضي الله عنه لما رأى الملك يهلك بقتل المسلمين رباه بنزوله عن الأمر لمعاوية، فكان كالسيد أذن لعبده وربي أمره به، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيداً رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم بالصواب.
سورة البينة
سورة الإعلام بأن هذا الكتاب القيم من علو مقداره وجليل آثاره أنه كما أنه لقوم نور وهدى فهو لآخرين وقر وعمى، فيقود إلى الجنة دار الأبرار، ويسوق إلا النار دار الأشقياء الفجار، وعلى ذلك دل كل من اسمائها " الذين كفروا "" والمنفكين " بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة وأهل السعادة) بسم الله (الذي له العلو المطلق فلا يخرج شيء عن مراده) الرحيم (الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه جميع عباده) الرحيم (الذي خص أهل وداده بالأعمال الصالحةى المتكلفة بإنجاء العامل بها وإسعاده.
لما أخبر سبحانه وتعالى أن الليلة الشريفة التي صانها بنوع خفاء في تنزل من يتنزل فيها وفي تعيينها لا تزال قائمة على ما لها من تلك الصفة حتى يأتي الفجر الذي يحصل به غاية البيان، أخبر أن أهل الأديان سواء كان لها أصل من الحق أم لا لم يصح في العادة الجارية على حكمة الأسباب في دار الأسباب أن يتحولوا عما هم فيه إلا بسبب عظيم
يكون بيانه أعظم من بيان الفجر، وهو القرآن المذكور في القدر والرسول المنزل عليه ذلك فقال:{لم يكن} أي في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال كوناً هو كالجبلة والطبع، وهذا يدل على ما كانوا عليه قبل ذلك من أنهم يبدلون ما هم عليه من الكفر أو الإيمان بكفر أو بدعة ثم لا يثبتون عليه لأن ذلك ليس في جبلاتهم، وإنما هو خاطر عارض كما هو محكيّ عن سيرتهم من بعد موسى عليه الصلاة والسلام لما كانت تسوسهم الأنبياء عليهم السلام كما دل على بعض ذلك قوله تعالى:{فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا} [المائدة: 71] وكذا المشركون كانوا يبدلون دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام ولا ينفصلون عنه بالكلية، وتارة يعبدون الأصنام، وتارة الملائكة، وأخرى الجن، ولم يكونوا يثبتون على حالة واحدة ثباتاً كلياً مثل ثباتهم على الإسلام بعد مجيء البينة ونسيانهم أمور الجاهلية بالكلية حتى نسوا الميسر، فلم يكن أحد من أولادهم يعرف كيفيته وكذا السائبة وما معها وغيرها ذلك من خرافاتهم {الذين كفروا} أي سواء كانوا عريقين في الكفر أم لا.
ولما كان العالم أولى باتباع الحق وأشد جرماً عند فعل ما يقتضي اللوم، بدأ بقوله:{من أهل الكتاب} أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج
في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا {والمشركين} أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق بأن لم يكن لهم كتاب {منفكين} أي منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً، من فك الكتاب والختم والعظم - إذا زايل ما كان ملتصقاً ومتصلاً به، أو عما في أنفسهم من ظن اتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به بما كان أهل الكتاب يستفتحون به والمشركون يقسمون بالله جهد أيمانهم {لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} [فاطر: 42] فيصيروا بذلك أحزاباً وفرقاً {حتى} أي إلى أن {تأتيهم} عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسالة والتلاوة {البينة *} أي الآية التي هي في البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا ظهوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور
أو الفرقان، ولذلك أبدل منها قوله:{رسول} أي عظيم جداً، وزاد عظمته بقوله واصفاً له:{من الله} أي الذي له الجلال والإكرام {يتلوا} أي يقرأ قراءة متواترة ذلك الرسول بعد تعليمنا له {صحفاً} جمع صحيفة وهي القرطاس والمراد ما فيها، عبر بها عنه لشدة المواصلة {مطهرة *} أي هي في غاية الطهارة والنظافة والنزاهة من كل قذر بما جعلنا لها من البعد من الأدناس بأن الباطل من الشرك بالأوثان وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها وأنها لا يمسها إلا المطهرون، وقراءته وإن كان أمياً لمثل ما فيها قراءة لها.
ولما عظمه بأن وصف صحفه التي هي محل المكتوب بالطهارة، بين سبب ذلك فقال:{فيها} أي تلك الصحف {كتب} جمع كتاب أي علوم هي لنفاستها حقيقة بأن تكتب {قيمة *} أي هي في غاية الاستقامة لنطقها بالحق الذي لا مرية فيه ليس فيها شرك ولا عوج بنوع من الأنواع، فإذا أتتهم هذه البينة انفكوا وانفكاكهم أنهم كانوا مجتمعين قبل هذا، أهل الكتاب يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم لما عندهم من البشائر الصريحة به، والمشركون يقولون: لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم، ويقولون: نحن
نعرف الحق لأهله ولا ندفعه بوجه، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لا شبهة فيه تفرقوا، فبعضهم آمن وبعضهم كفر.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هي من كمال ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بقراءة كتابه الذي به اتضحت سبيله وقامت حجته، وأتبع ذلك بالتعريف بليلة إنزاله وتعظيمها بتعظيم ما أهلت له مما أنزل فيها، أتبع ذلك بتعريفه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الكتاب هو الذي كانت اليهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر الآتي به، حتى إذا حصل ذلك مشاهداً لهم كانوا هم أول كافر به، فقال تعالى:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة - إلى قوله: وذلك دين القيمة} وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج بإذن الله التسليم والتبرؤ من ادعاء حول أو قوة، فإن هؤلاء قد كانوا قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقد كانوا إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه، فرحم الله من لم يكن عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضي الله عنهم أجمعين، وحرم هؤلاء الذين قد كانوا
على بصيرة من أمره وجعلهم بكفرهم شر البرية، ورضي عن الآخرين ورضوا عنه، وأسكنهم في جواره ومنحهم الفوز الأكبر والحياة الأبدية وإن كانوا قبل بعثه عليه الصلاة والسلام على جهالة وعمى، فلم يضرهم إذا قد سبق لهم في الأزل «أولئك هم خير البرية» انتهى.
ولما كان التقدير: فإذا أتتهم انفكوا، فلقد تفرق المشركون بعد إتيانك وأنت البينة العظمى إليهم إلى مهتد وضال، والضال إلى مجاهر ومساتر، وكذا أهل الكتاب، ثم ما اجتمع العرب على الهدى إلا من بعد ما جاءتهم البينة، عطف على هذا الذي أفهمه السياق قوله معلماً بزيادة القبح في وقوع الذنب من العالم بإفرادهم بالتصريح عن المشركين:{وما تفرق} أي الآن وفيما مضى من الزمان تفرقاً عظيماً {الذين} ولما كانوا في حال هي أليق بالإعراض، بنى للمفعول قوله:{أوتوا الكتاب} أي عما كانوا عليه من الإطباق على الضلال أو الوعد باتباع الحق المنتظر في محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا كان فعلهم في عيسى صلى الله عليه وسلم من قبل، فاستمر بعضهم على الضلال وبالغ في نقض العهد والعناد، ووفى بعض بالوعد فاهتدى، وكان تفرقهم لم يعد تفرقاً إلا زمناً يسيراً، ثم اجتمعوا فلم يؤمن منهم من يعد
خلافته لباقيهم تفرقاً لكونه قليلاً من كثير، فلذلك أدخل الجارّ فقال:{إلا من بعد} وكان ذلك الزمن اليسير هو بإسلام من أسلم من قبائل العرب الذين كانوا قد أطبقوا على النصرانية من تنوخ وغسان وعاملة وبكر بن وائل وعبد القيس ونحوهم وكذا من كان تهود من قبائل اليمن وأسلم، ثم أطبق اليهود والنصارى على الضلال فلم يسلم منه إلى من لا يعد لقلته مفرقاً لهم {ما} أي الزمن الذي {جاءتهم} فيه أو مجيء {البينة *} فكان حالهم كما قال سبحانه {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق، لا تفرقهم فيه، وكأنه أشار إلى المشركين بالعاطف ولم يصرح بذكرهم لأنهم كانوا عكس أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا زمناً يسيراً في أول الأمر، فكان الضال منهم أكثر، ثم أطبقوا على الهدى لما لهم من قويم الطبع ومعتدل المزاج، فدل ذلك على غاية العوج لأهل الكتاب لأنهم كانوا لما عندهم من العلم أولى من المشركين بالاجتماع على الهدى، ودل ذلك على أن وقوع اللدد والعناد من العالم أكثر، وحصوله الآفة لهم من قوة ما لطباعهم من كدر النقص بتربيته وتنميته
بالمعاصي من أكل السحت من الربا وغيره من الكبائر والتسويف بالتوبة، فألفت ذلك أبدانهم فأشربته قلوبهم حتى تراكم ظلامها، وتكاثف رينها وغمامها، فلما دعوا لم يكن عندهم شيء من نور تكون لهم به قابلية الانقياد للدعاء.
ولما كان حال من ضل على علم أشنع، زاد في فضيحتهم فقال:{وما} أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما. ولما كان المقصود بروز الأمر المطاع، لا تعيين الآمر، قال بعد وصف الصحف بأنه ثبت أنها قيمة بانياً للمفعول:{أمروا} أي وقع أمرهم بما أمروا به ممن إذا أطلق الأمر لم يستحق أن ينصرف إلا إليه، في تلك الكتب التي وجب ثبوت اتباعها وأذعنوا له {إلا ليعبدوا} أي لأجل أن يعبدوا {الله} أي الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره بأن يوجدوا عبادته ويجددوها في كل وقت، والعبادة امتثال أمر الله تعالى كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه آمر، مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم، وذلك مع الاقتصاد لئلا يمل الإنسان فيخل أو يحصل له الإعجاب فتفسد عبادته، حال كونهم {مخلصين} أي ثابتاً غاية الثبات إخلاصهم {له الدين} بحيث لا يكون فيه شوب شيء مما يكدره من شرك جلي ولا خفي بأن
يكون الامتثال لكونه أمر لرضاه لا لشي من نفع ولا دفع، ويكون ذلك على الصواب، فإن كثيراً من العاملين يكون مخلصاً، ويكون بناؤه بغير أساس صالح، فلا ينفعه بل يكون وبالاً عليه، فإنه ضيع الأصل كالرهبان وكذا كثير ممن يعتقد ولاية شخص وهو لا يعرف أن يميز بين الولي والعدو والمكرم والمستدرج، وحقيقة الإخلاص بأنه إفراد الحق في الطاعة بالقصد مع نسيان الخلق في الأعمال والتوصل إليه بالتوقي من ملاحظتهم مع التنقي عن مطالعة النفس برؤية العبد نفسه عبداً مأموراً لا يريد ثواباً، جاعلاً كل شيء وسيلة إلى الله، وعلامته عدم رؤية العمل، ويعرف ذلك بالخوف وعدم الالتفات إلى طلب الثواب، وبالحياء منه لكونه يرى أنه ما قام بحق السيد على ما ينبغي كما قال تعالى:{يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60] قال القشيري: ويقال: الإخلاص تصفية العمل من الخلل، وقال الرازي: الإخلاص النية الصافية لأن النية دائمة، والعمل ينقطع، والعمل يحتاج إلى النية، والنية لا تحتاج إلى العمل، ولأجل ما أفهمه التعبير بالاسم من التمكن والثبات أكده بقوله:{حنفاء} أي في غاية الميل
مع الدليل إلى القوم بحيث لا يكون عندهم اعوجاج أصلاً، بل مهما حصل أدنى زيغ عرضوه على الدليل فمالوا معه بما لهم من الحنف فقادهم إلى الصلاح فصاروا في غاية الاستقامة، وتلك هي العبادة الإحسانية، وأصل الحنف في اللغة: الميل، قال الملوي: وخصه العرف بالميل إلى الخير، ولذا سمي الأحنف بن قيس لميل في رجليه إلى داخل من جهة القدام إلى الوراء، وسموا الميل إلى الشر إلحاداً، فالحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمس: اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات الحقة، وعن توابعها من الخطايا والسيئات إلى العمل الصالح وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأول من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى الذي يعني، وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدهما إلى الحق، والثاني إلى الخلق، فالإخلاص لمقام المشتغل بالمصفى له لأنه إفراد الحق بالقصد في الطاعة، والخوف لمقام المشتغل بالمصفى منه لأنه الميل عن سائر المخلوقات إلى الله تعالى وإلى ما يرضيه.
ولما ذكر أصل الدين، أتبعه الفروع، فبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرد عن العوائق فقال:{ويقيموا} أي يعدلوا من غير اعوجاج ما، بجميع الشرائط والأركان والحدود {الصلاة} لتصير بذلك أهلاً لأن تقوم بنفسها، وهي التعظيم لأمر الله تعالى.
ولما ذكر صلة الخالق، أتبعها وصلة الخلائق فقال:{ويؤتوا الزكاة} أي بأن يحضروها لمستحقيها شفقة على خلق الله إعانة على الدين، ولكنهم حرفوا ذلك وبدلوه بطباعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل ووجاهة وغير ذلك - كما هو واضح من قوله تعالى:{ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3 - والأنفال: - 3] .
ولما كان هذا ديناً حسناً بيناً فضلوا عنه على ما عندهم من الأدلة، زاد في توبيخهم بمدحه فقال:{وذلك} أي والحال أن هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور الذي هو في غاية العلو والخير {دين القيمة *} أي الملة أو النفوس أو الكتب التي لا عوج فيها، وهو على الأول من إضافة الموصوف إلى الصفة، وعن الخليل أنه قال: هو جمع قيم، والقيم والقائم واحد، والمعنى دين القائمين لله تعالى بالتوحيد، ودل على ما قدرته في أمر المشركين بذكرهم في نتيجة ما
مضى في قوله مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن الذين كفروا} أي وقع منهم الستر لمرائي عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك وإن لم يكونوا عريقين فيه {من أهل الكتاب} أي اليهود والنصارى {والمشركين} أي العريقين في الشرك، ودل بالإتيان بالوصف هنا والفعل في أولئك - والله أعلم - على أن المشرك يرجع عن شركه ويؤمن إن لم يكن عريقاً في الشرك بخلاف أهل الكتاب متى تلبس أحد منهم بكفر لا يرجع عنه وإن كان تلبسه به على أضعف الوجوه، وكذا كل من ينسب إلى علم ولا سيما إن كان بليداً متى عرضت له شبهة بعد رجوعه عنها، فلذلك جمع بينهم في قوله:{في نار جهنم} أي النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة تكون عذاباً لأجسامهم {خالدين فيها} أي يوم القيامة أو في الحال لسعيهم في موجباتها، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته.
ولما كان معظم السياق للعبادة والترغيب فيها من القراءة والسجود والانفكاك عن الكفر، لم يذكر التأبيد بلفظه، بل اكتفى بما دل عليه وقال في نتيجة ما مضى:{أولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة بما لضمائرهم من الخبث {شر البرية *} أي الخليقة الذين أهملوا
إصلاح أنفسهم، وفرطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا نار لأرواحهم حين ينادى عليهم به.
ولما ذكر الأعداء وبدأ بهم، لأن السياق لذم من جمد من المألوف وترك المعروف، أتبعه الأولياء فقال مؤكداً لما للكفار من الإنكار:{إن الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان من الخلق كلهم الملائكة وغيرهم {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي هذا النوع، ولما كان نعيم القلب أعظم، قدمه على نعيم البدن إبلاغاً في مدحهم فقال:{أولئك} أي العالو الدرجات {هم} أي خاصة {خير البرية *} .
ولما خصصهم بالخيرية، ذكر ثوابهم، فقال ذاكراً جنة أبدانهم معظماً لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذن بأنه مقابلة ما وصفوا به:{جزاؤهم} أي على طاعاتهم، وعظمه بقوله:{عند ربهم} إليهم المربي لهم وأي المحسن {جنات عدن} أي إقامة لا تحول عنها {تجري} أي جرياً دائماً لا انقطاع له. ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة، قرب وبعض بقوله:{من تحتها} أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها {الأنهار} .
ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: {خالدين فيها} ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثاً على اتباع الدليل
المعروف، والمفارقة للحال المألوف، أكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله:{أبداً} .
ولما كان هذا كله ثمرة الرضا، وكان التصريح به أقر للعين لأنه جنة الروح، قال مستأنفاً أو معللاً:{رضي الله} أي بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق. ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين، كان أتم وأعلى لهم قال:{ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك، لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقدره أحد حق قدره، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم، وأعظم نعمه عليهم ما منّ عليهم به من متابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كان سبباً لكل خير.
ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص، قال معمماً له ومنبهاً على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم:{ذلك} أي الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه *} أي خاف المحسن إليه خوفاً يليق به، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرمات بل كان ممن
يطلب معالي الأخلاق فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفاً فيزيده شكراً، فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير، وهي للعارفين، قال الملوي ما معناه: إن الإنسان إذا استشعر عقاباً يأتيه أو خسراً، لحقته حالة يقال لها الخوف وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه، فإن اشتد سمي وجلاً لجولانه في نفسه، فإذا اشتد سمي رهباً لأدائه إلى الهرب، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال، ووراء هذا الخشية
{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب، فكان جديراً بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك، وبتصنيف الناس صنفين: صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها، وصنف استمر في أسرها فأرداها، وقد ذكرت في «مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور» سر تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها، وحاصله
أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضي الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما، قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، ثم قص عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل وفيها أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأن اليهود اختلفوا في السبت، وسورة {لم يكن} على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها بزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد، فيكون شر البرية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه رضي الله عنه تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوراً فيكون أرسخ في النفس وأثبت في القلب وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدره من كشفه الحجب ونفي الشياطين والنظر إلى سبحات القدس
وشهود تلك الحضرة الشماء، وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة رضي الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة.
ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم: «أقرؤكم أبيّ» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه وهو صحيح ورواه بعضهم مرسلاً، ومما فيه ولم أذكره في المصاعد سنة التواضع حتى لا يمنع أحداً ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن، فحلق الحسد أديانهم وسلبهم إيمانهم، وصاروا أشقى الناس - كما نبه عليه أول السورة - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - آمين.