المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في ذكر بعض الوافدين - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٣

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في ذكر بعض الوافدين

‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌الباب السادس

‌‌

‌في ذكر بعض الوافدين

على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم

إليها

بنور الهداية المضيء المشرق، والأكابر الذين حلوا بحلولهم فيها الجيد

منها والمفرق، والمفتخرين برؤية قطرها المونق، على المشئم والمعرق

اعلم أن الداخلين للأندلس من المشرق قوم كثيرون لا تحصر الأعيان منهم، فضلاً عن غيرهم، ومنهم من اتخذها وطناً، وصيرها سكناً، إلى أن وافته منيته ومنهم من عاد إلى المشرق بعد أن قضيت بالأندلس أمنيته.

1 -

فمن الداخلين إلى الأندلس المنيذر الذي يقال إنه صحابي رأى رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم.

قال ابن الأبار في التكملة (2) : المنيذر الإفريقي، له صحبة، وسكن (3) إفريقية، ودخل الأندلس فيما ذكره عبد الملك بن حبيب، قاله أبو محمد الرشاطي، ولم يذكره أحد غيره، روى عنه أبو عبد الرحمن الحبلي (4) ، انتهى.

(1) ق: رأى النبي.

(2)

التكملة: 731؛ وانظر أيضا الإصابة 6: 144.

(3)

التكملة: وكان يسكن.

(4)

اسمه عبد الله بن يزيد المعافري وكان رجلا صالحا فاضلا بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقههم، وتوفي بالقيروان سنة 100هـ (رياض النفوس 1: 64 - 66) وستجيء ترجمته في النفح (رقم: 5) .

ص: 5

وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس.

وذكر بعض الحفاظ المنيذر المذكور، وقال: إنه المنيذر اليماني، وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازياً، وقال ابن بشكوال: يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد حكى ذلك الرازي، وذكره ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب في الصحابة "(1) وسماه بالمنيذر الإفريقي، وقال ابن بشكوال: إن ابن عبد البر روى عنه حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة وقال: روي عنه حديث واحد، وأرجو أن يكون صحيحاً، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له.

وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال: أبو المنيذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حدث بإفريقية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" من قال رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة " كذا ذكره البخاري بالكنية، وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره، وذكره أبو جعفر أحمد ابن رشدين في كتاب " مسند الصحابة " له، فقال، المنيذر اليماني إما من مذحج أو غيرها، وذكر الحديث سواء، وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا (2) .

2 -

ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير، وقد سبق من الكلام عليه مافيه كفاية (3) .

(1) انظر الاستيعاب: 1485، والحديث الذي رواه ابن عبد البر هو الحديث الذي سيورده المؤلف نقلا عن البخاري؛ وقد أورده أيضا فيما سبق ج: 1، ص:179.

(2)

انظر ص: 279 من المجلد الأول.

(3)

راجع ما سبق ج 1: 269 - 287.

ص: 6

3 -

ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني (1) . وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح: حنش لقب له، واسمه حسين بن عبد الله، وكنيته أبو علي، ويقال: أبو رشدين، قال ابن بشكوال: وهو من صنعاء الشام.

وذكره أبو سعيد ابن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس، فقال: إنه كان مع علي

بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وكان أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام، وتوفي بإفريقية سنة مائة.

وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح، وقرب المصحف وإناء فيه ماء فإذا وجد النعاس استنشق الماء، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف، وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله: أطعموا السائل، حتى يطعم.

قال ابن حبيب: دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني، وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة، وأذن، وذلك في غير وقت الأذان، فقال له أحد أصحابه في ذلك، فقال إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلى أن تقوم الساعة، هكذا ذكره غير واحد، وقد كشف الغيب خلاف ذلك، فلعل الرواية موضوعة أو مؤولة، والله تعالى أعلم.

وذكره ابن عساكر في تاريخه، وطول ترجمته، وقال: إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام، وليست صنعاء اليمن، وقد قيل: إنه لم يرو عن حنش الشاميون، وإنما روى عنه المصريون، وحدث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له: إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل.

(1) انظر ترجمته في رياض النفوس 1: 78 ومعالم الإيمان 1: 144 وتهذيب ابن عساكر 5: 7 وابن الفرضي 1: 148 والجذوة: 189.

ص: 7

وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين، فحفظ له ذلك، فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبير. وسئل أبو زرعة عن حنش فقال: ثقة ولم يذكر ابن عساكر أن حنشاً لقب له، وأن اسمه حسين، بل اقتصر على اسمه حنش، ولعله الصواب، لاما قاله ابن وضاح، والله تعالى أعلم (1) .

وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أن حنشاً كان بسرقسطة، وأنه الذي أسس جامعها، وبها مات، وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة، وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضاً قبلة جامع إلبيرة، وعدل وزن قبلة قرطبة الذي هو فخر الأندلس.

4 -

ومن الداخلين من التابعين للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي (2) . ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك، وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة، وهو الذي زفّ أم البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك، ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها، ويقال: كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة. قال ابن بشكوال: أهل مصر يقولون: علي بن رباح، بفتح العين، وأما أهل العراق فعلي، بضم العين، وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني. وقال: وقال ابنه موسى بن علي: من قال لي موسى بن علي بالتصغير لم أجعله في حل.

(1) ميز ابن عساكر بين اثنين لقب كل منهما حنش؛ والثاني منهما اسمه حسين وهو رحبي صنعاني همداني - من صنعاء الشام أيضا، ولكنه سكن واسطا (5: 9) .

(2)

ترجمة علي بن رباح في ابن الفرضي 1: 354 ورياض النفوس 1: 77.

ص: 8

5 -

ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي (1) . قال ابن بشكوال: إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وروى عنه جماعة. وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعد في المصريين، وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً، رحمه الله تعالى، ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة، وأنه دفن بقبليها، وقبره مشهور يتبرك به، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.

6 -

ومن الداخلين من التابعين حبان بن أبي جبلة (2) . ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش، ويكنى أبا النضر، وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية، وقال: حدثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل إفريقية منهم حبان بن أبي جبلة، روى عن عمرو ابن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. ويقال: توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقيل: سنة خمس وعشرين ومائة، وذكر ابن الفرضي أنه غزى مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به. قال (3) : وقال لنا أبو محمد الثغري: بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمسة وعشرين ميلاً، وفيها الكنيسة المعظمة عندهم المسماة شنت مرية، ذكر أن فيها سبع سوار من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط، هكذا نقله ابن سعيد عمن ذكر، والله تعالى أعلم.

(1) انظر ترجمة أبي عبد الرحمن الحبلي في ابن الفرضي 1: 250، وابن سعد 7:511.

(2)

ترجمة حبان في ابن الفرضي 1: 146 ورياض النفوس 1: 73 ومعالم الإيمان 1: 158 وتهذيب التهذيب 1: 162.

(3)

لم يرد هذا النص في كتاب ابن الفرضي.

ص: 9

7 -

ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر: المغيرة ابن أبي بردة نشيط ابن كنانة العذري (1) . روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ويروي عنه مالك في موطئه، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر.

8 -

ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي (2) ، ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه، وأنه من جملة التابعين، رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن بشكوال في مجموعة المترجم ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ". قال ابن الأبار: وقد سمعته (3) من أبي الخطاب ابن واجب، وسمعه هو منه، انتهى.

وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته: رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين، وفي ذلك عندي نظر، وما أراه يصح، والله تعالى أعلم، انتهى.

فانظر هذا فانه سماه رجاء بن حيوة، وذلك السابق حيوة بن رجاء، فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.

9 -

ومنهم عياض بن عقبة الفهري، من خيار التابعين، ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس، ولم يغلوا.

10 -

ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري، ذكر ابن بشكوال أنه مصري، وأن البخاري ذكره في تاريخه.

(1) ترجمة المغيرة في رياض النفوس 1: 80.

(2)

حيوة بن رجاء في التكملة: 282 ورجاء بن حيوة في التكملة: 322.

(3)

يعني كتاب ابن بشكوال المذكور.

ص: 10

11 -

ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، جده عبد الرحمن أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم، وهو ممن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلوا.

12 -

ومنهم منصور بن حزامة، فيما يذكر، قال ابن بشكوال: قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله ابن عابد الراوية رحمه الله تعالى قال: وممن دخل الأندلس من المعمرين ما وجدت بخط المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال: طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فذكر أنه منصور بن حزامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وأنه كان مراهقاً، وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وأنه شهد صفين، وأن حزامة أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب، انتهى.

قلت: هذا كله لا أصل له، ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته: هذا هذيان لا أصل له، ولا يغتر به، وكذلك ترجمة أشج الغرب اتفق الحفاظ على كذبه، انتهى.

قلت: وما هو إلا من نمط عكراش، والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنه. ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب، وأنه يعرف بأبي الدنيا، وأنه كان معمراً مشهوراً بصحبة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ووصفهم بصفاتهم، وأنه رأى عائشة رضي الله عنها فيما زعم، وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد، وسأله أبو بكر بن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه، وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم، فقد ذكر الثقات العارفون بالفن أنه كذاب دجال مائن

ص: 11

جاهل، فإياك والاغترار بمثل ذلك مما يوجد في كتب كثير من المؤرخين بالمشرق والأندلس، ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي: إنه كان إذا لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين، قال تميم واتصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة، وبالجملة فلا أصل له، وإنما ذكرناه للتنبيه عليه.

وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس، على أن التحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد، وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) ، والله تعالى أعلم.

13 -

ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة، وقد تقدم بعض الكلام عليه، وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي، زاد الحجاري: وليس برومي على الحقيقة، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث ابن جبلة بن الأيهم الغساني، سبي من الروم بالمشرق وهو صغير، فأدبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد، وأنجب في الولادة، وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة، وسادوا وعظم بيتهم، وتفرعت دوحتهم، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره.

ونشأ مغيث بدمشق، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها، وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام، وقدمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيد طارق، فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد إلى ظافراً عليهما الأندلس، وأنسل بقرطبة البيت المذكور، وفي " المسهب " أنه فتح قرطبة في شوال سنة اثنين وتسعين، ثم فتح الكنيسة التي تحصن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة ثلاث وتسعين، ولم يذكر له مولداً ولا وفاة.

وذكر الحجاري أنه تأدب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية، وصار يقول من الشعر والنثر مايجوز كتبه، وتدرب على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام

(1) انظر ما تقدم ج: 1، ص:287.

ص: 12

في مضايق الحروب، حتى تخرج في ذلك تخرجاً أهله في التقدم على الجيش الذي فتح قرطبة، وكان مشهوراً بحسن الرأي والكيد، وقد قدمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن منهم من عقد على نفسه أماناً، ومنهم من فر إلى جليقية.

وذكر الحجاري أنه لما حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهن جارية كأنها بينهن بدر بين نجوم، وهي تكثر التعرض له بجمالها، فوكل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقر بما عزمت عليه في شأن مغيث، وأنه قد فطن من كثرة تعرضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه، فأقرت أنها أكثرت التعرض لتقع بقلبه، إذ حسنها فتان، وقد أعدت له خرقةً مسمومةً لتمسح بها ذكره عند وقاعها، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها، وقال: لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة.

وذكر أن سليمان بن عبد الملك لما أصغى إلى طارق في شأن سيده موسى بن نصير فعذبه واستصفى أمواله أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق، وكان مغيث قد تغير عليه، فاستشار سليمان مغيثاً في تولية طارق، وقال له: كيف أمره بالأندلس فقال: لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان، وبدا له في ولايته، فلقيه بعد ذلك طارق، فقال له: ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت، فقال مغيث: ليتك تركت لي العلج فتركت لك الأندلس، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك قرطبة الذي حصل في يده، فلم يمكنه منه، فأغرى به سيده موسى بن نصير، وقال له: يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس، وليس في أيدينا مثله، فأي فضل يكون لنا عليه فطلبه منه، فامتنع من تسليمه، قال ابن حيان: فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث، فقيل له: إن سرت به معك حياً ادعاه مغيث والعلج لا ينكر، ولكن اضرب عنقه، ففعل، فاضطغنها عليه مغيث، وبالغ

ص: 13

في أذيته عند سليمان.

وذكر الحجاري في " المسهب " أن لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقاً ويكفي منه هنا قوله:

أعنتكم ولكن ما وفيتم فسوف أعيث في غربٍ وشرق

وعنوان طبقته في النثر أن موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس: كفّ لسانك، فقال: لساني كالمفصل، ما أكفه إلا حيث يقتل (1) . وأضافه ابن حيان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك، وهو الذي وجهه إلى الأندلس غازياً ففتح قرطبة، ثم عاد إلى المشرق، فأعاده الوليد رسولاً عنه إلى موسى بن نصير يستحثه على القدوم عليه، فوفد معه، فوجدوا الوليد قد مات، فخدم بعده سليمان بن عبد الملك.

14 -

15 - ومن الداخلين أيوب (2) بن حبيب اللخمي. وذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير، وأن أهل إشبيلية قدموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى، واتفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة، فدخل إليها بهم، وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر، وقيل: إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحر بن عبد الرحمن الثقفي.

قال الرازي: قدم الحر والياً على الأندلس في ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية، فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين، وقال ابن بشكوال: كانت مدة الحر سنتين وثمانية أشهر، وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي.

16 -

26 - ومن الداخلين السمح بن مالك الخولاني، ولي الأندلس

(1) ق ودوزي: سأكفه إلا حيث يقبل.

(2)

ق: أبو أيوب؛ وانظر أخبار مجموعة: 21.

ص: 14

بعد الحر بن عبد الرحمن السابق، قال ابن حيان: ولاه عمر بن عبد العزيز، وأوصاه أن يخمس من أرض الأندلس ما كان عنوة، ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها، قال: وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم، قال: وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلى أن يستنقذهم الله تعالى برحمته (1) .

وذكر ابن حيان أن قدوم السمح كان في رمضان سنة مائة، وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعدما استأذن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، وكانت دار سلطانه قرطبة.

قال ابن بشكوال: استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة.

قال ابن حيان: كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، وذكر أن قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط (2) ، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين، فلم ينج من المسلمين أحد، قال ابن حيان: فيقال: إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن.

وقدم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس، وأنه يروي عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية، واستشهد في قتال العدو بالأندلس سنة خمس عشرة، انتهى.

وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح، وأن السمح قتل سنة102، وهذا يقول تولى سنة 110، فأين ذا من ذاك والله تعالى أعلم.

(1) أورد هذا صاحب أخبار مجموعة: 23 وابن القوطية: 39 وابن عذاري 2: 26.

(2)

المرجح أن السمح بن مالك واصل تقدمه وراء جبال البرتات حتى شارف طولوشة (Tolosa) وهناك دارت معركة بينه وبين دوقها أسفرت عن مقتله؛ وهذا يتعارض مع قول صاحب أخبار مجموعة " فعزل بشر السمح بن مالك وولي عنبسة بن سحيم

" (ص 24) .

ص: 15

ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم (1) ، وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين، وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدمناه قريباً (2)، ويضعفه أن ابن حيان قال: دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد، وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114، في موضع يعرف ببلاط الشهداء.

قال ابن بشكوال: وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط، وقد تقدم مثل هذا في غزوة السمح، فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر، وفي رواية سنتين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك، وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة.

وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي (3) ، وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس والياًمن قبل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج حين كان صاحب إفريقية، وكان قدومه الأندلس في صفر سنة103، فتأخر بقدومه عبد الرحمن المتقدم الذكر، قال ابن بشكوال: فاستقامت به الأندلس، وضبط أمرها، وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة 107 (4) ، فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر.

(1) انظر الجذوة: 255 - 256.

(2)

هذا حقا يزيل الإشكال الذي أشار إليه؛ ذلك أن عبد الرحمن الغافقي أنقذ بقية الجند بعد مقتل السمح فولاه الجند أمر الأندلس سنة 102 حتى يقدم وال جديد، فلما وصل عتبة بن سحيم الكلبي أخذ الولاية من يده، ثم عاد عبد الرحمن إلى ولاية الأندلس في حدود 112هـ. وهذا لا يتعارض مع قول ابن حيان وإنما يتعارض مع قول ابن بشكوال إنه تولى في حدود سنة 110هـ. وقد سها ابن بشكوال عن أن بين عنبسة وعبد الرحمن واليا هو عذرة بن عبد الله الفهري.

(3)

يريد بعد ولاية عبد الرحمن الأولى.

(4)

انظر فجر الأندلس حيث وصف المؤلف استمرار عنبسة في الغزو حتى سنة 112 (ص 247) ثم ذكر (ص 254) أن عنبسة أصيب بجراح بالغة توفي على أثرها سنة 107هـ؛ ولعل هذا بسبب اضطراب المصادر القديمة نفسها في ترتيب ولاة الأندلس.

ص: 16

وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علجٌ خبيثٌ يدعى بلاي (1) ، فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثار، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، وقيل: إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعاً إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلاً ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (2) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا

ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.

وملك بعده أذفونش جد عظماء الملوك المشهورين بهذه السمة.

قال ابن سعيد: فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة، حتى إن حضرة قرطبة في يدهم الآن، جبرها الله تعالى، وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة.

قال ابن حيان والحجاري: إنه لما استشهد عنبسة قدم أهل الأندلس عليهم عذرة (3) بن عبد الله الفهري، ولم يعده ابن بشكوال في سلاطين الأندلس، بل قال: ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية: أولهم يحيى بن سلمة، وذكر الحجاري أن عذرة كان من صلحائهم وفرسانهم، وصار لعقبه نباهة،

(1) سيعود المقري إلى ذكر " بلاي " في أول الباب الثامن من القسم الأول؛ وانظر كذلك أخبار مجموعة: 61 وابن عذاري 2: 29؛ وقد أسهب الدكتور مؤنس (فجر الأندلس 313 - 343) في توضيح أمر بلاي هذا (Pelayo وباللاتينية: Pelagius) بدراسة الروايات العربية والإسبانية.

(2)

كذلك وردت هذه اللفظة في أخبار مجموعة: 28 والمقصود بها " الخلايا "؛ انظر ملحق المعاجم لدوزي: " جبح ".

(3)

ق ودوزي: عزرة.

ص: 17

وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس، وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب، قال ابن سعيد: وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصل، ومجد مؤثل، وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة.

وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي، قال ابن بشكوال: أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها والياً بعد مقتل أميرهم عنبسة، فقدمها في شوال سنة سبع ومائة، وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوةً - ونحوه لابن حيان - وكان سريره قرطبة.

وتولى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، وذكر ابن بشكوال: أنه قدم عليها والياً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية في شعبان سنة عشر ومائة، ثم عزل سريعاً بعد خمسة أشهر، وكان سرير سلطانه بقرطبة.

وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي، قال ابن بشكوال: وأتى إليها والياً من قبل عبيدة المذكور، على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولى قبل صاحبه، وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة، وعزل عنها سريعاً أيضاً، وقيل: إن ولايته استتمت سنة، وكان بقرطبة.

وولي بعده الأندلس الهيثم بن عدي الكلابي، قال ابن بشكوال: ولاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة، وقيل: إنه ولي سنتين وأياماً، وقد قيل: أربعة أشهر، وكان بقرطبة.

وولي بعده محمد بن عبد الله الأشجعي، قال ابن بشكوال: قدمه الناس عليهم، وكان فاضلاً فصلى بهم شهرين. قال: ثم قدم عليهم والياً عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي الذي تقدمت ترجمته، وذكرت ولايته الأولى للأندلس، وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدم.

وولي الأندلس بعده عبد الملك بن قطن الفهري، وذكر الحجاري أن من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجد أعيان إشبيلية، قال ابن بشكوال: قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربعة عشرة ومائة فكانت مدة ولايته عامين

ص: 18

وقيل أربع سنين، ثم عزل عنها ذميماً في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة، قال: وكان ظلوماً في سيرته، جائراً في حكومته، وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم. وذكر ابن بشكوال أنه لما عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه، لا أدري أقتله أم أخرجه، وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس، فغلبه عليها، وقتل عبد الملك بن قطن، وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر، وصلب بصحراء ربض قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة، وصلبوا عن يمينه خنزيراً وعن يساره كلباً، وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه في الليل وغيبوه، فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن. فلما ولي ابن عمه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك، وبنى فيه مسجداً نسب إليه، فقيل: مسجد أمية، وانقطع عنه اسم المصلب، وكان سن عبد الملك عند مقتله نحو التسعين. وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع وعشرة ومائة، وقيل: في السنة التي قبلها، فأقام بها سنين محمود السيرة، مثابراً على الجهاد، مفتتحاً البلاد، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودنة (1) ، فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة، وكان قد اتخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد، وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبين له عيوب دينه، فأسلم على يده ألفا رجل، وكانت ولايته خمس سنين وشهرين، قال الرازي: فثار أهل الأندلس بعقبة، فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام ابن عبد الملك، وولوا على أنفسهم عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية،

(1) ق: رودنة - حيثما وقع - وقد صوبناه فيما سبق؛ والإدريسي رودنو (يعني نهر الرون) ؛ وفي بعض المصادر " رادنه ".

ص: 19

فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفي في صفر سنة 123، وسريره قرطبة.

27 -

31 - ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري. قال ابن حيان: لما انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ماكان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شق عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية، وولى عليها كلثوم ابن عياض القشيري، ووجه معه جيشاً كثيفاً لقتالهم، كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفاً ومع ذلك فإنه لما تلاقى مع ميسرة البربري المدعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة، وكان بلج ابن أخيه معه، فقامت قيامه هشام لما سمع بما جرى عليه، فوجه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر ففتح الله تعالى على يديه. ولما اشتد حصار بلج وعمه كلثوم ومن معهما من فلّ أهل الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس، فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم، فلما شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم، فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرةً أمسكا من أرماقهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك ابن قطن ضربه سبعمائة سوط، ثم اتهمه بعد ذلك بتضريب الجند عليه، فسمل عينيه، ثم ضرب عنقه، وصلبه وصلب عن يساره كلباً، واتفق في هذا الوقت أن برابر الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتفضوا على عرب الأندلس، واقتدوا بما فعله إخوانهم، ونصبوا عليهم إماماً، فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن، واستفحل أمرهم، فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببر العدوة من إخوانهم، وبلغه أنهم قد عزموا على قصده، فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين، فكتب

ص: 20

لبلج وقد مات عمه كلثوم في ذلك الوقت، فأسرعوا إلى إجابته، وكانت أمنيتهم، فأحسن إليهم، وأسبغ النعم عليهم، وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن، فإذا فرغوا له من البربر جهزهم (1) إلى إفريقية، وخرجوا له عن أندلسه، فرضوا بذلك، وعاهدوه عليه، فقدم عليهم وعلى جنده ابنيه قطناً وامية، والبربر في جموع لايحصيها غير رازقها، فاقتتلوا قتالاً صعب فيه المقام، إلى أن كانت الدائرة على البربر، فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور، وخفوا عن العيون، فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، فاشتدت شوكتهم، وثابت همتهم، وبطروا، ونسوا العهود، وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى الأندلس إلى إفريقية، فتعالوا عليه، وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة، وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة، فخلعوه، وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر، وتبعه جند ابن قطن، وحملوا عليه في قتل ابن قطن، فأبى فثارت اليمانية وقالوا: قد حميت لمضرك، والله لا نطيعك، فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامةٍ قد حضر وقعة الحرّة مع أهل اليمامة، فجعلوا يسبونه، ويقولون له: أفلتّ من سيوفنا يوم الحرّة، ثم طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى أمتّنا جوعاً، فقتلوه وصلبوه كما تقدم، وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند، وكان في أصحاب بلج، فلما صنع بابن عمه عبد الملك ماصنع فارقه، فانحاز فيمن يطلب ثأره، وانضم إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة، وكان فارس الأندلس في وقته، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون، وبلج قد استعد

(1) ق: همزمهم؛ وانظر أخبار مجموعة: 39.

ص: 21

لهم في مقدار اثني عشر ألفاً سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين، فاقتتلوا، وصبر أهل الشام صبراً لم يصبر مثله أحدٌ قط، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي: أروني بلجاً، فو الله لأقتلنه أو لأموتنّ دونه، فأشاروا إليه نحوه، فحمل بأهل الثغر حملةً انفرج لها الشاميون، والراية في يده، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك في أيامٍ قلائل، ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمةً قبيحة، واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون، فكان عسكراً منصوراً مقتولاً أميره، وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة، وكانت مدته أحد عشر شهراً، وسريره قرطبة، والعرب الشاميون الداخلون معه إلى الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين، والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين.

ولما هلك بلج قدم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي، وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك، فسار فيهم بأحسن سيرة، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر سموا بعد الوقعة لطلب الثأر، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة، وهم لا يشكّون في الظفر، إلى أن حضر عيدٌ تشاغلوا به، فأبصر ثعلبة منهم غرةً وانتشاراً وأشراً بكثرة العدد والاستيلاء، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون، فهزمهم هزيمة قبيحة، وأفشى فيهم القتل، وأسر منهم ألف رجل، وسبى ذريتهم وعيالهم، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون، حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة. وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى، فإذا بهم قد طلع عليهم لواءٌ فيه موكب، فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل والياً على الأندلس، وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. وذكر ابن حيان أنه قدم والياً من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية، والخليفة حينئذٍ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة، بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة، قال: وكان

ص: 22

مع فروسيته شاعراً محسناً، وكان في أول ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس، إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية، فهاج الفتنة العمياء، وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطار قد بلغ به التعصب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجةً من ابن عم أبي الخطار، فمال أبو الخطار مع ابن عمه، فأقبل الكناني إلى الصميل ابن حاتم الكلابي أحد سادات مضر، فشكا له حيف أبي الخطار، وكان أبياً للضيم حامياً للعشيرة، فدخل على أبي الخطار وأمض عتابه، فنجهه أبو الخطار وأغلظ له، فرد الصميل عليه، فأمر به أبو الخطار، فأقيم ودعّ قفاه حتى مالت عمامته، فلما خرج قال له بعض من على الباب: أبا جوشن، ما بال عمامتك مائلة فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها. وأقبل إلى داره، فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين، فباتوا عنده، فلما أظلم الليل قال: ما رأيكم فيما حدث علي فإنه منوط بكم فقالوا: أخبرنا بما تريد، فإن رأينا تبع رأيك، فقال: والله أريد إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ماخيلت، وأنا خارج لذلك عن قرطبة، فإنه ما يمكنني ما أريد إلا بالخروج، فإلى أين ترون أقصد فقالوا: اذهب حيث شئت، ولاتأت أبا عطاء القيسي، فإنه لا يواليك على أمر ينفعك، وكان أبو عطاء هذا سيداً مطاعاً يسكن بإستجة، وكان مشاحناً للصميل مسامياً له في القدر، فسكت عند ذكره أبو بكر ابن الطفيل العبدي، وكان من أشرافهم، إلا أنه كان حديث السن، فقال له الصميل: ألا تتكلم فقال: أتكلم بواحدة ماعندي غيرها، قال: وما هي قال: إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتت أمرك به لم يتم أمرنا وهلكنا، وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء مما سلف بينكما، وحركته الحمية لك، فأجابك إلى ما تريد، فقال له الصميل: اصبت الرأي، وخرج من ليلته، وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدره العبدي، وعمد إلى ثوابة ابن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم، وكان ساكناً بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار، فأجابهما في

ص: 23

القيام والتقدم على المضرية، فاجتمعوا في شذونة، وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكة، وحصل أسيراً في أيديهم، فأرادوا قتله، ثم أرجأوه، وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة، وذلك في رجب سنة 127 بعد ولاية أبي الخطار بسنتين.

ولما سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي، فأقبل إلى قرطبة ليلاً في ثلاثين فارساً مهعم طائفة من الرجالة، فهجموا على الحبس وأخرجوه منه، ومضوا به إلى غرب الأندلس، فعاد في طلب سلطانه، ودبَّ في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة، فخرج إليه ثوابة ومعه الصميل، فقام رجل من المضرية ليلاً فصاح بأعلى صوته: يا معشر اليمن، مالكم تتعرضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا، لكننا مننا وعفونا وجعلنا الأمير منكم، أفلا تفكرون في أمركم، فلو ان الأمير من غيركم عذرتم، ولا والله لا نقول هذا رهبةً منكم ولا خوفاً لحربكم، ولكن تحرجاً من الدماء ورغبةً في عافية العامة، فتسامع الناس به، وقالوا: صدق، فتداعوا للرحيل ليلاً، فما أصبحوا إلا على أميال.

قال الرازي: ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة 125، وفي كتاب أبي الوليد ابن الفرضي: كان أبو الخطار أعرابياً عصبياً، أفرط في التعصب لليمانيين، وتحامل على مضر، واسخط قيساً، فثار به زعيمهم الصميل، فخلعه، ونصب مكانه ثوابة، وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة، وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر، وذلك سنة 128، وآل أمره إلى أن قتله الصميل.

وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي، قال ابن بشكوال: لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، فكتب إليه بعهد الأندلس، وذلك سلخ رجب سنة 127، فضبط البلد، وقام بأمره كله

ص: 24

الصميل واجتمع عليه أهل الأندلس، واقام والياً سنةً أو نحوها، ثم هلك، وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين.

ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن نافع الفهري، وجده عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة، ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة. وذكر الرازي أن مولده بالقيروان، ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم، ثم عاد إلى إفريقية، وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضباً له، فهوي الأندلس، واستوطنها فساد بها، قال الرازي: كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع وخمسين سنة، وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة، وقد مكثوا بغير والٍ أربعة أشهر، فاجتمعوا عليه بإشارة الصميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان، فرفعوا الحرب، ومالوا إلى الطاعة، فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر، وقال ابن حيان: قدمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة 129، واستبد بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس، وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصَّف قال ابن حيان: لما سمع أبو الخطار بتقديمه حرك يمانيته، فأجابوا دعوته، فأدى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال: إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حربٌ أصدق منها جلاداً ولا أصبر رجالاً، طال صبر بعضهم على بعض، إلى أن فني السلاح، وتجاذبوا بالشعور، وتلاطموا بالأيدي وكل بعضهم عن بعض، وثابت للصميل غرة في اليمانية في بعض الأيام، فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة، فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من

ص: 25

أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصي ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلا قليلاً، فرماهم على اليمانية وهم على غفلة، وما فيهم من يبسط يداً لقتال، ولا ينهض لدفاع، فانهزمت اليمانية ووضعت المضرية السيف فيهم، فأبادوا منهم خلقاً، واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى، فقبض عليه وجيء به إلى الصميل، فضرب عنقه، وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل، وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة، حتى جاءت الدولة المروانية.

وذكر ابن حيان أن القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل ابن حاتم ابن شمر ابن ذي الجوشن الكلابي، وجده شمر هو قاتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وكان شمر قد فر من المختار بولده من الكوفة إلى الشام، فلما خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه، ودخل الأندلس في طالعة بلج، وكان شجاعاً جواداً جسوراً على قلب الدول، فبلغ مابلغ، وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقاً.

وذكر ابن حيان أنه كان ممن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس، ووالي ثغر أربونة، وكان ذا بأسٍ شديدٍ ووجاهةٍ عظيمة، فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه واقبلوا برأسه إليه.

ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمة وغيرهم، فملك إشبيلية، وكثر جمعه إلى أن خرج له يوسف فقتله، وثار علية بالجزيرة الخضراء عامر العبدري، فخرج له، وأنزله على أمان في سكنى قرطبة، ثم ضرب عنقه بعد ذلك.

وقيل: إن أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله، وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله، ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه، فتم له ماأراده، والله تعالى أعلم.

ص: 26

32 -

ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان، المعروف بالداخل (1) . وذلك أنه لما أصاب دولتهم ماأصاب، واستولى بنو العباس على ماكان بأيديهم، واستقر قدمهم في الخلافة، فرّ عبد الرحمن إلى الأندلس فنال بها ملكاً أورثه عقبه حقبةً من الدهر.

قال ابن حيان في " المقتبس ": إنه لما وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم، فرّ عبد الرحمن، رلم يزل في فراره منتقلاً بأهله وولده إلى أن حلّ بقرية على الفرات ذات شجرٍ وغياضٍ، يريد المغرب، لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة (2)، فمما حكي عنه أنه قال: إني لجالس يوماً في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمدٍ كان بي، وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدّامي، وهو يومئذٍ ابن أربع سنينٍ أو نحوها، إذ دخل الصبي من باب البيت فازعاً باكياً فأهوى إلى حجري، فجعلت أدفعه إلى ما كان بي ويأبى إلا التعلق، وهو دهشٌ يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع، فخرجت لأنظر، فإذا بالروع قد نزل بالقرية، ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة، وأخٍ لي حديث السن كان معي يشتد هارباً ويقول لي: النجاء يا أخي، فهذه رايات المسودة (3) ، فضربت بيدي على دنانير تناولتها، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي، وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي، وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية، فما كان إلا ساعةً حتى أقبلت

(1) انظر اخبار عبد الرحمن الداخل في ابن القوطية: 45 وأخبار مجموعة: 50 وابن عذاري 2: 40 والنويري 22: 1 (الباب الخامس) وذكر بلاد الأندلس، الورقة: 89 والمقتطفات، الورقة: 109 ونص هذا الأخير مطابق لنص النفح.

(2)

نسب إلى مسلمة بن عبد الملك أنه كان يخبر بأمور من الحدثان والملاحم، وكان يرى أن نهاية بني أمية في المشرق قد اقتربت ويتنبأ بظهور عبد الرحمن (راجع أخبار مجموعة: 51 - 52) وسيأتي شيء من ذلك في هذا الكتاب.

(3)

المقتطفات: فهذه الرايات السود.

ص: 27

الخيل فأحاطت بالدار، فلم تجد أثراً ومضيت ولحقني بدر، فأتيت رجلاً من معارفي بشط الفرات، فأمرته أن يبتاع لي دواب وما يصلح لسفري، فدلّ علي عبد سوء له العامل، فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا (1) في الهرب، فسبقناها إلى الفرات (2) ، فرمينا فيه بأنفسنا، والخيل تنادينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما، فسبحت حاثاً لنفسي وكنت أحسن السبح، وسبح الغلام أخي، فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش، فالتفت إليه لأقوي من قلبه، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه، فناديته: تقتل ياأخي، إلي إلي، فلم يسمعني، وإذا هو قد اغتر بأمانهم، وخشي الغرق، فاستعجل الإنقلاب نحوهم، وقطعت أنا الفرات، وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري، فاستكفه أصحابه عن ذلك، فتركوني، ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ملأني مخافةً، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساعٍ على قدمي، فلجأت إلى غيضةٍ أشبة، فتورايت فيها حتى انقطع الطلب، ثم خرجت (3) أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية.

قال ابن حيان: وسار حتى أتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أم الأصبغ مولاه بدراً، ومولاه سالماً، ومعهما دنانير للنفقة، وقطعة من جوهر، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فل بني أمية، وكان عند واليها عبد الرحمن ابن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة ابن عبد الملك، وكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم، واسمه عبد

(1) المقتطفات: فخرجنا واشتددنا.

(2)

المقتطفات: وسبقنا الخيل إلى أن وصلنا الفرات.

(3)

المقتطفات ودوزي: ثم خرجت هاربا.

ص: 28

الرحمن، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه، فاتخذ الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية، فلما جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي: ويحك، هذا هو، وأنا قاتله، فقال له اليهودي: إنك إن قتلته فما هو به، وإن غلبت عن تركه إنه لهو. وثقل فل بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية، فطرد كثيراً منهم مخافةً، وتجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما، وأخذ مالاً كان مع اسماعيل ابن أبان بن عبد العزيز ابن مروان، وغلبه على أخته فتزوجها بكرهه، وطلب عبد الرحمن فاستخفى، انتهى.

وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفياً خمس سنين، وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط، وتقلب في قبائل البربر إلى أن استقر على البحر عند قومٍ من زنانة، وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها، وكانت الموالي المروانية المدونة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة، ولهم جمرة، وكانت رياستهم إلى شخصين: أبي عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد، وهما من موالي عثمان، رضي الله تعالى عنه، وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة، فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله، إذ كان الأمر لجده هشام فهو حقيقٌ بوارثته، ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم، ويتلطف في إدخاله إلى الأندلس ليبليي عذراً في الظهور عليها، ويعده بإعلاء الدرجة، ولطف المنزلة، ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه، ويرجو قيامه معه، ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من التراث، فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه، وبانت له فيه طماعية، وكان عند ورود بدر قد تجهزإلى ثغر سرقسطة لنصرة

ص: 29

صاحبها الصميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن صاحب الأندلس، فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور: لو كنا ذاكرنا الصميل خبر بدرٍ وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا، وكانا على ثقةٍ في أنه لايظهر على سرهما أحداً لمروءته وأنفته، فقال له: إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقع سقوط رياسته فلا يساعدنا، قال أبو عثمان: فنمسح (1) إذاً على أمره، ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جده هشام لدينا ليتعيش بها، لا يريد غير ذلك، فاتفقا على هذا. فلما ودعا الصميل خلوا به في ذلك، وقد ظهر لهما منه حقدٌ على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة، فقال لهما: أنا معكما فيما تحبان، فاكتبا إليه أن يعبر، فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له، ويزوجه بابنته، فإن فعل وإلا ضربنا صلعته بأسيفنا، وصرفنا الأمر عنه إليه، فشكراه وقبلا يده ثم ودعاه، وأقام بطليطلة وقد ولاه يوسف عليها وعزله عن الثغر، وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة، وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم، فطارحاهم أمر ابن معاوية، ثم دسّا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك، فدب أمره فيهم دبيب النار في الجمر، وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس.

وفي رواية أن الصميل لان لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبر ذلك لما انصرفا، فتراجع فيه، فردهما، وقال: إني روّيت في الأمر الذي أدرته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قومٍ لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجلٌ نتحكم عليه، ونميل على جوانبه، ولا يسعنا بدل منه، ووالله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما

(1) في المقتطفات: ننسخ؛ وفي ق: فتمسح.

ص: 30

فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصر حتى ألقاكما لئلاّ أغركما من نفسي، فإني أعلمكما أن أول سيف يسلّ عليه سيفي، فبارك الله لكما في رأيكما، فقالا له: ما لنا رأي إلا رأيك، ولا مذهب لنا عنك. ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان، وانصرفا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره، ويئسا من مضر وربيعة، ورجعا إلى اليمانية، وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر، فوجداهم قوماً قد وغرت صدورهم عليهم، يتمنون شيئاً يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم، واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر، وغيبة الصميل، فابتاعا مركباً ووجها فيه أحد عشر رجلاً منهم مع بدر الرسول، وفيهم تمام بن علقمة وغيره، وكان عبد الرحمن قد وجه خاتمه إلى مواليه، فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر، فبثوا من ذلك في الجهات مادبّ به أمرهم، ولما وجه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشطّ مغيلة من بلاد البربر، وهو يصلي، وكان قد اشتد قلقه وانتظاره لبدر رسوله، فبشره بدر بتمكن الأمر، وخرج إليه تمام مكثراً لتبشيره، فقال له عبد الرحمن: ما اسمك قال: تمام، قال: وما كنيتك قال: أبو غالب، فقال: الله أكبر! الآن تمّ أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته، وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك، ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن. وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب، فلما هم بذلك أقبل البربر فتعرضوا دونه، ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صِلاتٌ على أقدارهم، حتى لم يبق أحد حتى أرضاه، فلما صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عاتٍ منهم لم يكن أخذ شيئاً فتعلق بحبل الهودج يعقل المركب، فحول رجل اسمه شاكر يده بالسيف، فقطع يد البربري، وأعانتهم الريح على التوجه بمركبهم، حتى حلوا بساحل إلبيرة في جهة المنكب، وذلك في ربيع الآخر سنة 138، فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد، فنقلاه إلى

ص: 31

قرية طرش (1) منزل أبي عثمان، فجاءه يوسف بن بخت، وانثالت عليه الأموية، وجاءه جدار (2) بن عمرو المذحجي من أهل مالقة، فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر، وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره، وانثال عليه الناس انثيالاً، فقوي أمره مع الساعات فضلاً عن الأيام، وأمده الله تعالى بقوة عالية، فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر.

وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر، وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة، وعلى عامر العبدري الثائر معه، فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقة رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق، واجتماع الموالي المروانية إليه، وتشوف الناس لأمره، فانتشر الخبر في العسكر لوقته، وشمت الناس بيوسف لقتله القرشين عامراً وابنه، وختره بعدهما، فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل، وتنادوا بشعارهم، وقوضوا عن عسكره، واتفق أن جادت السماء بوابلٍ لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف، فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصته وقوم الصميل قيس وأتباعه، فأقبل إلى طليطلة وقال للصميل: ما الرأي فقال: بادره الساعة قبل أن يغلظ في أمره، فإني لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا، فقال له يوسف: أتقول ذلك ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا وقد أنفضنا من المال، وأنضينا الظهر، ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه، ولكن نسير إلى قرطبة، فنستأنف الاستعداد له، بعد أن ننظر في أمره ويتبين لنا خبره، فلعله دون ما كتب

(1) طرش (Torrox) على الساحل الشرقي، وهي تعد اليوم في مديرية مالقة.

(2)

ق: حدران؛ المقتطفات: جديران؛ ابن عذاري: جدار؛ أخبار مجموعة (76) : جداد.

ص: 32

إلينا. فقال الصميل: الرأي ما أشرت به عليك، وليس غيره، وسوف تتبين غلطك فيما تنكبه، ومضوا إلى قرطبة.

وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية، وتلقاه رئيس عربها أبو الصباح ابن يحيى اليحصبي، واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة، فلما نزلوا بطشانة (1) قالوا: كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه فجاؤوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه، فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيراً فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين، فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، كما سيأتي، وحكي أن فرقداً العالم صاحب الحدثان مر بذلك الموضع، فنظر إلى الزيتونتين، فقال: سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلا كسره، فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده، ولما أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف، وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفاً، ولم يكن عيش عامة الناس بالعسكر ماعدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم، وكان الزمان زمان ربيع، فسمي ذلك العام عام الخلف، وكان نهر قرطبة حائلاً، فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على بئر إشبيلية والنهر بينهما، فلما رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذياً له، فتسايرا والنهر حاجز بينهما، إلى أن حل يوسف بصحراء المصارة غربي قرطبة، وعبد الرحمن في مقابلته، وتراسلا في الصلح، وقد أمر يوسف بذبح الجزر، وتقدم بعمل الأطعمة، وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعد للحرب عدتها، واستكمل أهبتها، وسهر الليل كله على نظام أمره، كما سنذكره، ثم انهزم أهل قرطبة، وظفر عبد الرحمن الداخل، ونصر نصراً لا كفاء له، وانهزم

(1) المقتطفات: بشطانة؛ وهذا خطأ؛ وطشانة (Tocina) قد عدها العذري (109) من أقاليم إشبيلية.

ص: 33

الصميل، وفر إلى شوذر من كورة جيان، وفر يوسف إلى جهة ماردة.

وذكر أن أبا الصباح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف: يامعشر يمن، هل لكم إلى فتحين في يوم قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا، نقدم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية، فلم يجبه أحد لذلك، وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام، فقتله.

ولما انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بقرطبة ثلاثة أيام، حتى أخرج عيال يوسف من القصر،

وعف وأحسن السيرة، ولما حصل دار الإمارة، وحل محل يوسف، لم يستقر به قرار من إفلات يوسف والصميل، فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان، واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد، واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية، ونهض في طلب يوسف فوقع يوسف على خبره فخالفه إلى قرطبة ودخل القصر، وتحصن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان، ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية، وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصميل في صفر سنة 139، وشارطه على أن يخلي بينه وبين أمواله حيثما كانت، وأن يسكن بلاط الحر - منزلة بشرقي قرطبة - على أن يختلف كل يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه، وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف، زيادةً على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة، ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة.

وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبد الرحمن نكث سنة 141، فهرب من قرطبة، وسعى بالفساد في الأرض، وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ودس له قوم قاموا عليه في أملاكه، زعموا أنه غصبهم إياها، فدفع معهم إلى الحكام (1)

(1) المقتطفات: إلى أحكام الحكام.

ص: 34

فأعنتوه. وحمل عنه في التألم بذلك كلامٌ رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه، فاشتد توحشه، فخرج إلى جهة ماردة، واجتمع إليه عشرون ألفاً من أهل الشتات، فغلظ أمره، وحدثته نفسه بلقاء ابن معاوية، فخرج نحوه من ماردة، وخرج ابن معاوية من قرطبة، فبينما ابن معاوية في حصن المدوّر مستعد (1) ، إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر مروان صاحب إشبيلية، فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنهايوسف بعد بلاء عظيم منهزماً، واستحر القتل في أصحابه فهلك منهم خلق كثير، وسار يوسف لناحية طليطلة، فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري، فلما عرفه قال لمن معه: هذا الفهري يفر، قد ضاقت عليه الأرض، وقتله الراحة له، والراحة (2) منه، فقتله واحتز رأسه وقدم به إلى عبد الرحمن، فلما قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقف به دون جسر قرطبة، وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده، وضم إلى رأسه، رأسه، ووضعنا على قناتين مشهرين إلى باب القصر.

وكان عبد الرحمن لما فر يوسف قد سجن وزيره الصميل لأنه قال له: أين توجه فقال: لا أعلم فقال: ماكان ليخرج حتى يعلمك، ومع ذلك فإن ولدك معه، وأكد عليه في أن يحضره، فقال: لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه، فاصنع ما شئت، فحينئذٍ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمداً المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن، فتهيأ لهما الهرب من نقب، فأما أبو الأسود فنجا سالماً، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه، وأما عبد الرحمن فأثقله اللحم فانبهر، فرد إلى الحبس، حتى قتل كما تقدم، وأنف الصميل من الهرب فأقام بمكانه، فلما

(1) المقتطفات: مشتغل.

(2)

المقتطفات: راحة له وراحة

ص: 35

قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصميل من خنقه، فأصبح ميتاً، فدخل على مشيخة المضرية في السجن، فوجدوه ميتاً وبين يديه كأسٌ ونقل، كأنه بغت على شرابه، فقالوا: والله إنا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها.

ومما ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بإحدى دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح يحيى (1) ، وكان قد ولاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به. ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي إذ ثار بباجة، وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس، فدخل في ناس قليلين، فأرسى بناحية باجة، ودعا أهلها ومن حولهم فاستجاب له خلق كثير، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه، وجيء به وبأعلام أصحابه، فقطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه وأعناقهم، وأمر فقرطت الصكاك في آذانهم بأسمائهم، وأودعت جوالقاً محصناً، ومعها اللواء الأسود، وأنفذ بالجوالق تاجراً من ثقاته، وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم، ففعل، ووافق أبا جعفر المنصور قد حج، فوضعه على باب سرادقه، فلما كشفه ونظر إليه سقط في يده، واستدعى عبد الرحمن وقال: عرضنا هذا البائس - يعني العلاء - للحتف، ما في هذا الشيطان مطمع، فالحمد لله الذي صير هذا البحر بيننا وبينه.

ولما أوقع عبد الرحمن باليمانة الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم، استوحش من العرب قاطبة، وعلم أنهم علي دغل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك، فوضع يده في الابتياع، فابتاع موالي الناس بكل ناحية، واعتضد أيضاً بالبرابر، ووجه عنهم إلى بر العدوة فاْحسن لمن وفد عليه إحساناً رغب من خلفه في المتابعة، قال ابن

(1) ق والمقتطفات: ابن يحيى.

ص: 36

حيان: واستكثر منهم ومن العبيد، فاتخذ أربعين ألف رجل، صار بهم غالباً على أهل الأندلس من العرب، فاستقامت مملكته وتوطدت.

وقال ابن حيان (1) : كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم (2) ، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة متصل الحركة، لايخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولايكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيهن شجاعاً مقداماً، بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة بليغاً مفهوماً شاعراً محسناً سمحاً سخياً طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة (3) من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له: أصلح الله الأمير، إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم، فقال له: تنصف إن صدقت، فمد الرجل يده إلى عنانه وقال: أيها الأمير أسالك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه، فرآهم قليلاً، ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه، فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى، فقال له: إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير - لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تخلق تجلته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عهدوا، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل، ووكل بذلك ولده هشاماً.

(1) انظر هذا النص في " ذكر بلاد الأندلس ": 91.

(2)

المصدر السابق: راجح العقل راسخ العلم واسع الحلم.

(3)

المقتطفات: وكان مهابا جدا.

ص: 37

ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام (1) :

أيّها الراكب الميمم أرضي

اقر منّي بعض السلام لبعضي

إنّ جسمي كما تراه بأرضٍ

وفؤادي ومالكيه بأرض

قدّر البين بيننا فافترقنا

وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الدهر بالفراق علينا

فعسى باجتماعنا سوف يقضي وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه، واستقل ما قابله به وذكره بحقه بهذه الأبيات (2) :

شتّان من قام ذا امتعاضٍ

منتضي الشّفرتين نصلا (3)

فجاب قفراً وشقّ بحرا

مسامياً لجّةً ومحلا

دبّر ملكاً وشاد عزّا (4)

ومنبراً للخطاب فصلا

وجنّد الجند حين أودى

ومصّر المصر حين أجلى

ثمّ دعا أهله إليه (5)

حيث انتأوا أن هلمّ أهلا

فجاء هذا طريد جوعٍ

شديد روعٍ يخاف قتلا (6)

فنال أمناً ونال شبعاً

ونال مالاً ونال أهلا (7)

ألم يكن حقّ ذا على ذا

أعظم من منعمٍ ومولى وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لما أذعن له يوسف صاحب الأندلس

(1) وردت هذه الأبيات في أكثر المصادر التي ترجمت للأمير عبد الرحمن؛ انظر ذكر بلاد الأندلس: 91 والحلة السيراء 1: 36 وجذوة المقتبس: 10.

(2)

انظر الحلة السيراء 1: 39 وذكر بلاد الأندلس: 97 وابن عذاري 2: 59.

(3)

في رواية ابن حيان: فشال ما قل واضمحلا، وستأتي هذه الرواية فيما يلي ص:43.

(4)

الحلة: فشاد مجدا وبز ملكا.

(5)

الحلة: جميعا.

(6)

الحلة: شريد سيف أباد قتلا.

(7)

الحلة: وحاز

وضم.

ص: 38

واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة، فانثالوا عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلامٍ سرّهم وطيّب نفوسهم، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم، فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين، يتدارسون كلامه، ويتهافتون بشكره، ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجلٌ من جند قنسرين يستجديه فقال له: يا ابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمنٍ ظلومٍ ودهرٍ غشومٍ، قلّل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل، وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد، فقال له عبد الرحمن مسرعاً: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقامك، فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك، كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية، وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه، وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاهاً في مجلسه.

قال ابن حيان: ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع: أما بعد فدعني من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية، نكالاً بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.

وفي " المسهب " أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي، الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيراً. وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يحب إهماله (1) ،

(1) زاد في المقتطفات: أو تعتبر بلاغته.

ص: 39

وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية، فأول ما بدأ به أن قال: بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة: إنما تعبنا أولاً لنستريح آخراً، وما أرانا إلا في أشدّ مما كنا، وأطال أمثال هذه الأقوال، وأكثر الإستراحة في جانبه، فهجره وأعرض عنه، فزاد كلامه، وكتب له رقعة منها: أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر، الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي، وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه، فوقّع عليها:" وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتاً أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به، مما قد أضجر الأسماع تكراره، وقدحت في النفوس إعادته، مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك، وزدنا في هجرك وإبعادك، وهضنا جناح إدلالك، فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى؛ فنحن أولى بتأديبك من كل أحد، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا، وخيرك معدود في مناقبنا ". فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء، وعلم أنه لا ينفع فيه قول، ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره، وهتك حرمته وقص جناح جاهه، وصيره أهون من قعيس على عمته، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه، تارة يستلينه وتارة يذكره، وتارة ينفث مصدوراً بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه، غير مفكر فيما يؤول إليه، إلى أن كتب له: قد طال هجري، وتضاعف همي وفكري، وأشد ما عليّ كوني سليباً من مالي، فعسى أن تأمر

ص: 40

لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت، فوقّع له: إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته، ولا سبيل إلى ردّ مالك، فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة، فايأس من ذلك فإن اليأس مريح. فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس، فكتب إليه في ذلك رقعةً منها:" وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك، ممن عفوت عنه، فتبنك النعمة في ذراك، واقتعد ذروة العز، وأنا على ضدٍّ من هذا سليباً من النعمة، مطرحاً في حضيض الهوان، أيأس مما يكون، وأقرع السن على ما كان ". فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر، وكتب له على ظهر رقعته:" لتعلم أنك لم تزل بمقتك، حتى ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا، ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان، وما تقوّلوه عليك، وما لك عدو أكبر من لسانك، فما طاح بك غيره، فاقطعه قبل أن يقطعك ".

ولما فتح الداخل سرقسطة، وحصل في يده ثائرها (1) الحسين الأنصاري، وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، أقبل خواصه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند، فهنأه بصوت عال، فقال: والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من

(1) المقتطفات: الثائر بها.

ص: 41

سوء النكال، من تكون حتى تقبل مهنئاً رافعاً صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة، فقال: ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة، لا أعدمنيه الله تعالى، فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته، وزاد في عطائه.

ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال: لا تستأصلوا شأفة أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوةً منهم، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.

ولما اشتد الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري، ورأى شدة مقاساة أصحابه، قال: هذا اليوم هو أُس ما يبنى عليه، إما ذل الدهر وإما عز الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون.

ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر، فقال: إني محتاج لما يزيد في عقلي، لا لما ينقصه، فعرفوا بذلك قدره؛ ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها.

ولما استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال: لولا أنا ما توصل لهذا الملك، ولكان منه أبعد من العيوق، وأن آخر قال: سعده أعانه، لا عقله وتدبيره، فحركه ذلك إلى أن قال:

لا يلف ممتنٌّ علينا قائلٌ

لولاي ما ملك الأنام الداخل

سعدي وحزمي والمهنّد والقنا

ومقادرٌ بلغت وحالٌ حائل

ص: 42

إنّ الملوك مع الزمان كواكبٌ

نجمٌ يطالعنا ونجمٌ آفل

والحزم كلّ الحزم أن لا يغفلوا

أيروم تدبير البريِّة غافل

ويقول قومٌ سعده لا عقله

خير السعادة ما حماها العاقل

أبني أميّة قد جبرنا صدعكم

بالغرب رغماً والسعود قبائل

ما دام من نسلي إمامٌ قائمٌ

فالملك فيكم ثابتٌ متواصل وحكى ابن حيان أن جماعةً من القادمين عليه من قبل الشام حدثوه يوماً في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم، وكلامه لعبد الله بن علي بن عباس الساطي بهم، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسودة من دعاة القوم وشيعتهم راداً على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية، وثلبهم والبراءة منهم، فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والرد عليه بتفضيله لأهل بيته والذبّ عنهم، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصه بريقه، وعاجل الغمر بالحتف، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام، وكثر القوم في تعظيم ذلك، فكأن الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوهم، والأنف من طاعتهم، والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه، وقام عن مجلسه، فصاغ هذه الأبيات بديهةً:

شتّان من قام ذا امتعاض

فشال ما قلّ (1) واضمحلاّ

ومن غدا مصلتاً لعزمٍ

مجرِّداً للعداة نصلا

فجاب قفراً وشقّ بحراً

ولم يكن في الأنام كلاّ

فشاد ملكاً وشاد عزّاً

ومنبراً للخطاب فصلا

(1) ق: فمر ما قال؛ وآثرنا رواية الحلة السيراء.

ص: 43

وجنّد الجند حين أودى

ومصّر المصر حين أجلى

ثمّ دعا أهله جميعاً

حيث انتأوا أن هلمّ أهلا وله غير ذلك من الشعر، وسيأتي بعضه مما يقارب هذه الطبقة.

وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدم الذكر، سعى في سلطانه شرقاً وغرباً وبراً وبحراً، فلما كمل له الأمر سلبه من كل نعمة، وسجنه ثم أقصاه إلى أقصى الثغر، حتى مات وحاله أسوأ حال، والله تعالى أعلم بالسرائر، فلعل له عذراً ويلومه من يسمع مبداه ومآله.

ورأس الجماعة الذين توجه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان، ولما توطدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله، فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره وينظر في شيءٍ يحتاج به إليه، فجعل ابن أخته يثور عليه في حصنٍ من حصون إلبيرة، فوجه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه، ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل، وزين له القيام عليه، فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتم أمره، فضرب عنقه وأعناق الذين دبروا معه، وقيل له: إن أبا عثمان كان معه، وهو الذي ضمن له تمام الأمر، فقال: هو أبو سلمة هذه الدولة (1) ، فلا يتحدث الناس عنه بما تحدثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة، لكن سأعتبه عتباً أشد من القتل، وجعل يوعده، ثم رجع له إلى ما كان عليه في الظاهر.

وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد، وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل، وقتل أبا الصباح، فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته، فمات منفرداً عن السلطان.

(1) يشير إلى أبي سلمة الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقد تخلص منه العباسيون حين تمهدت الدولة.

ص: 44

وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمام بن علقمة، وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره، فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور، وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدم الذكر، قال ابن حيان: فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعزّ الناس عليهما ما أراهما أن أحداً لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته.

وإذا تتبع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب.

وذكر أن أول حجّاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل، ثم يوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك بن مروان، وله بقرطبة عقبٌ نابه، ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني، وأبوه مغيث فاتح قرطبة الذي تقدمت ترجمته، ثم منصور الخصي، وكان أول خصيٍّ استحجبه بنو مروان بالأندلس، ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل.

ولم يكن للداخل من ينطلق عليه سمة (1) وزير، لكنه عين أشياخاً للمشاورة والمؤازرة (2) ، أولهم أبو عثمان المتقدم الذكر، وعبد الله بن خالد السابق الذكر، وأبو عبدة صاحب إشبيلية، وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان ابن الحكم، وكان من سبي البرابر، وقيل: إنه رومي، وبنو شهيد الفضلاء من نسله، وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية، ولولده نباهةٌ عظيمة في الوزارة وغيرها، وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذامي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن، وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة، ولعقبه في الدولة نباهة.

(1) المقتطفات: تسمية.

(2)

المقتطفات: والمزاورة.

ص: 45

وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدما الذكر، ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان، وكان في عديد من يشاوره أيضاً ويفضل أمره وآراءه، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري، وقيل: إنه ممن اتهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن، فاتقف أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر.

وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى بن يزيد اليحصبي، فأقره حيناً، ثم ولى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي، ثم عمر ابن شراحيل، ثم عبد الرحمن بن طريف، وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر.

وكان الداخل يرتاح، لما استقر سلطانه بالأندلس، إلى أن يفد عليه فل بيته بني مروان، حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه، وتظهر يده عليهم، فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد ابن معاوية وابن عمه عبد السلام ابن يزيد ابن هشام، قال ابن حيان: وفي سنة 163 قتل الداخل عبد السلام ابن يزيد ابن هشام المعروف باليزيدي، وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام، وهو ابن أخي الداخل، وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر، فوشى بينهما مولى لعبيد الله بن أبان، وكان قد ساعدهما على ما هما به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة، فلم ينله ما نالهما.

وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول: أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إلي من أقاربي، والتوسع في الإحسان إليهم، وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منة لأحد علي فيه لأحدٍ غيره.

وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، فسعى في طلب الأمر لنفسه، فقتله سنة 167، وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصميل بن حاتم، ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة

ص: 46

بماله وولده وأهله.

وفي " المسهب " حدث بعض موالي عبد الرحمن الخاصين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور، وهو مطرق شديد الغم، فرفع رأسه إليّ وقال: ما عجبي إلا من هؤلاء القوم، سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة، وخاطرنا فيه بحياتنا، حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا، ويسّر الله تعالى أسبابه، أقبلوا علينا بالسيوف، ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرت عليهم أخلاف النعم هزوا أعطافهم، وشمخوا بآنافهم، وسموا إلى العظمى، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى، فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم، وساء أيضاً ظنه فينا، وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه، وإن أشد ما علي في ذلك أخي والد هذا المخذول، كيف تطيب لي نفسٌ بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه أم كيف يجتمع بصري مع بصره اخرج له الساعة فاعتذر إليه، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه، واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من بر العدوة. قال: فلما وصلت إلى أخيه وجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء، فآنسته وعرفته، ودفعت له المال، وأبلغته الكلام، فتأوه وقال: إن المشئوم لا يكون بليغاً في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرة الزمان وكله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا مرد لما حكم به وقضاه (1)، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى بر العدوة. قال: ورجعت إلى الأمير فأعلمته يقوله، فقال: إنه نطق بالحق، ولكن لا يخدعني بهذا القول عما في نفسه، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عف عنه لحظة، فالحمد لله الذي أظهرنا

(1) المقتطفات: لا مرد لحكم به قضى.

ص: 47

عليهم بما نويناه فيهم، وأذلهم فيما نووه فينا.

واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين، وذكر أعقابهم بالأندلس، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز، وسيأتي قريباً.

وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم، وقد سبق ذكر بعضهم، ومنهم الدعي (1) الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره، وطال شره سنين متوالية، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله.

ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة، وعمرو بن طالوت رئيس باجة، اجتمعوا وتوجهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح، فقتلوا في هزيمة عظيمة، وقيل: نجوا بالفرار، فأمنهم الداخل.

وفي سنة 157 ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن، وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان، وقتل الداخل الحسين كما مرّ.

وفي سنة 163 ثار الرماحس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء، فتوجه له عبد الرحمن الداخل، ففرّ في البحر إلى المشرق.

قال ابن حيان: كان مولد عبد الرحمن الداخل سنة 113، وقيل: في التي قبلها، بالعلياء من تدمر، وقيل: دير حنّا من دمشق، وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكان قد رشحه للخلافة - وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر هشام دمه -. وتوفي الداخل لستٍ بقين من ربيع الآخر سنة 171، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة

(1) دوزي: الداعي.

ص: 48

أشهر، وقيل: اثنتان وستون سنة ودفن بالقصر من قرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله.

وكان منصوراً مؤيداً مظفراً على أعدائه، وقد سردنا من ذلك جملة، حتى قال بعضهم: إن الراية التي عقدت له بالأندلس (1) حين دخلها لم تهزم قط، وإن الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلا بعد ذهاب تلك الراية، قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثبت الثقة أبو مروان ابن حيان، رحمه الله تعالى.

ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرر بعض ذلك، فنقول: قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدمنا ذكره، ما نصه (2) : كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، كثير الحزم، نافذ العزم، لم ترفع له قط راية على عدو إلا هزمه، ولا بلد إلا فتحه، شجاعاً، مقداماً، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمر إلى غيره، كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضى ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمع والأعياد، ويخطب بنفسه، جند الأجناد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب، وبلغت جنوده مائة ألف فارس.

وملخص دخوله الأندلس أنه لما اشتد الطلب على فل بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستتراً إلى مصر، فاشتد الطلب على مثله، فاحتال حتى وصل برقة، ثم لم يزل متوغلاً في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى، ونزل بنفزة، وهم أخواله، فأقام عندهم أياماً ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل، فأرسل مولاه بدراً بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم، فأجابوه واشتروا مركباً وجهزوه بما يحتاج

(1) المقتطفات: في الأندلس بين الزيتونتين.

(2)

قد تقدم أن هذا النص لابن حيان. (انظر ص 2: 37) .

ص: 49

إليه، وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان، وأركب فيه بدراً، وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة، وركب معه تمام بن علقمة، وبينما هو يتوضأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجة البحر مقبلاً حتى أرسى أمامه، فخرج إليه بدر سابحاً، فبشره بما تم له بالأندلس، وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي، ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له: ما اسمك وما كنيتك فقال: اسمي تمام، وكنيتي أبو غالب، فقال: ثم أمرنا وغلبنا غدوّنا إن شاء الله، ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكب، وذلك غرّة ربيع الأول سنة 138.

فلما اتصل خبر جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقوه بالإعظام والإكرام، وكان وقت العصر، فصلى بهم العصر، وركبوا معه إلى قرية طرّش من كور إلبيرة فنزل بها، وأتاه بها جماعة من وجوه الموالي وبعض العرب، فبايعوه وكان من أمره ما يذكر، وقيل: إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب، فخرج من إلبيرة إلى كورة رية فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها، ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مورور، ثم سار إلى إشبيلية.

وقال بعضهم: لما أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشانة، فأشاروا عليه أن يعقد له لواء، فجاءوا بعمامة وقناة، فكرهوا أن يميلوا القناة تطيراً، فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين، وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، وتبرك هو وولده بهذا اللواء، فكان بعد أن بلي لا تحل منه العقدة التي عقدت أولاً، بل تعقد فوقها الألوية الجدد، وهي مستكنة تحتها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقيل: إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، فاجتمع الوزراء على تجديد اللواء، فلما رأوا تحت اللواء أسمالاً خلقة ملفوفة

ص: 50

معقدة جهلوها فاسترذلوها، وأمروا بحلها ونبذها، وجددوا غيرها، وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائباً، فحضر في اليوم الثاني وطولع بالقصة، فأنكرها أشد إنكار وساءه ما فعلوه، وقال: إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكروا في أمرها، وخبرهم خبرها، فتطلبوا تلك الأخلاق فلم توجد، ويقال كما قال ابن حيان: إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم، وقد كان الذي عقده أولاً عبد الله بن خالد من موالي بني أمية، وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جد عبد الرحمن الأعلى لما اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهطٍ، فانتصر على الضحاك وقتله، ولما عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشد حزن، وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام، وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قط جيش كان تحته، على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصل إليها الأفكار، وتولى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري، ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن.

ولما تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا، فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة، أظهر عبد الرحمن قبول الصلح، فبات الناس على ذلك ليلة العيد، وكان قد أسر خلاف ما أظهر، واستعد للحرب، ولما أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل، ووكل عبد الرحمن بخالد بن زيد الكاتب رسول يوسف جماعة، وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه، وإلا فلا، فكان خالد يقول: ما كان شيء في ذلك الوقت أحب إلي من غلبة عبد الرحمن الداخل عدو صاحبي، وركب عبد الرحمن جواداً، فقالت اليمانية الذين أعانوه: هذا فتىً حديث السن تحته جواد وما نأمن أول ردعةٍ يردعها أن يطير منهزماً

ص: 51

على جواده ويدعنا، فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم، فدعا أبا الصباح، وكان له بغل أشهب يسميه الكوكب، فقال له: إن فرسي هذا قلق تحتي، لا يمكنني من الرمي، فقدم إلي بغلك المحمود أركبه، فقدمه، فلما ركب اطمأن أصحابه، وقال عبد الرحمن لأصحابه: أي يوم هذا قالوا: الخميس يوم عرفة، فقال: فالأضحى غداً يوم الجمعة، والمتزاحفان أموي وفهري، والجندان قيس ويمن، قد تقابل الأشكال جداً، وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط، فأبشروا وجدوا، فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جده مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري، وكانت يوم جمعة ويوم أضحى، فدارت الدائرة لمروان على الضحاك، فقتل الضحاك، وقتل معه سبعون ألفاً من قبائل قيس وأحلافهم، وقيل: إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر: عبد الرحمن (1) بن مسعدة الفزاري، وابن هبيرة المحاربي، وصالح الغنوي، وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم المصارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة: جابر بن العلاء بن شهاب، والحصين بن الدجن، العقيليان، وهلال بن الطفيل العبدي، وكان الظفر لعبد الرحمن، وانهزم يوسف، وصبر الصميل بن حاتم بعده معذراً وعشيرته يحفونه، فلما خاف انهزامهم عنه تحول على بغله الأشهب معارضةً لعبد الرحمن الداخل، فمر به أبو عطاء فقال له: يا أبو جوشن، احتسب نفسك، فإن للأشباه أشباهاً: أموي بأموي، وفهري بفهري، وكلبي بكلبي، ويوم أضحى بيوم أضحى، ويمني بقيسي، والله إني لأحسب هذا اليوم بمثل مرج رهط سواء، فقال له الصميل: كبرت وكبر علمك، الآن تنجلي الغماء، وسحرك (2) منتفخ، فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلباً، وانهزم الصميل، وملك عبد الرحمن قرطبة.

(1) دوزي: عبد الله.

(2)

السحر: الرئة.

ص: 52

ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري، باني القيروان، وأمير معاوية على إفريقية والمغرب، وهو مشهور.

وأما الصميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، وقيل: الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن، كان جده شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين، رضي الله تعالى عنه، ودخل الصميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازياً، وساد بها، وكان شاعراً كثير السكر أمياً لا يكتب، ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس، وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه، وكانت ولاية الفهري الأندلس سنة تسع وعشرين ومائة، فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر، وعنه كما مرّ انتقل سلطانها إلى بني أمية، واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة، ثم انتثر سلكهم، وباد ملكهم، كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة، سنة الله التي قد خلت في عباده.

وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستاً وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام، لأن الفتح كان حسبما تقدم لخمسٍ خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين، وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشرٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، والله غالب على أمره.

وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوماً على جده هشام، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك، وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبياً، فأمر هشام أن ينحّى عنه، فقال له مسلمة: دعه يا أمير المؤمنين، وضمه إليه ثم قال: يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أمية، ووزرهم عند زوال ملكهم، فاستوص به خيراً، قال: فلم أزل أعرف مزيةً من جدي من ذلك الوقت.

وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدته وضبط المملكة، ووافقه في أن أم كل منهما بربرية، وأن كلاً منهما قتل ابن أخيه، إذ قتل

ص: 53

المنصور ابن السفاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.

ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته (1) :

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلةٌ

تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرّب والنّوى

وطول اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبةٌ

فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي

يسحُّ ويستمري السماكين (2) بالوبل وكان نقش خاتمه " بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم ".

وأشاع سنة 163 الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس، وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته، وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه، ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين (3) الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة، فبطل ذلك العزم.

ومن شعر عبد الرحمن أيضاً قوله يتشوّق إلى معاهد الشام (4) :

أيّها الراكب الميمّم أرضي

اقر منّي بعض السلام لبعضي

إن جسمي كما علمت بأرضٍ

وفؤادي ومالكيه بأرض

قدّر البين بيننا فافترقنا

وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا

فعسى باجتماعنا سوف يقضي وترجمة الداخل طويلة، وقد ذكر منها ما فيه مقنع، انتهى؛ والله تعالى الموفق للصواب.

(1) انظر ابن عذاري 2: 62 والحلة السيراء: 27.

(2)

المقتطفات وق: يصح ويستمري المساكين.

(3)

المقتطفات وق: الحسن؛ وقد تقدم ذكره باسم " الحسين ".

(4)

تقدمت هذه الأبيات ص: 38.

ص: 54

وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم:

وأبرز في ذات الإله ووجهه

ثمانين ألفاً من لجينٍ وعسجد

وأنفقها في مسجدٍ زانه التّقى

وقرّ به دين النبي محمّد

ترى الذهب الوهّاج بين سموكه

يلوح كلمح البارق المتوقّد 33 - ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي (1) ، دخل الأندلس، وكان شيخاً مسناً يروي عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، إلا أنه كان مندراً صاحب دعابة، وكان مختصاً بعبد الرحمن بن معاوية، وله منه مكانةٌ لطيفةٌ يدل بها عليه، ولما توفي حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد ابن عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد الرحمن خاصةٌ لم تكن لأحد من أهل بيته، جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب، وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائماً، وكانت له دالة عليه ودعابة يحتملها منه، فأقبل عند استعباره كالمخاطب للمتوفى علانيةً يقول: يا أبا سليمان، لقد نزلت بحفرة قلما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعرةً، فأعرض عنه عبد الرحمن، وقد كاد التبسم يغلبه؛ هكذا ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى في " المقتبس "، ونقله عن الحافظ ابن الأبار.

34 -

ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبد العزيز (2) ، أخو عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه؛ دخل الأندلس، ومات في مدة الداخل، وكان من أولياء الله تعالى مقتفياً سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز، رحمهما الله تعالى.

(1) انظر التكملة: 312 والنقل عنه حرفي دون إخلال أو إيجاز. والترجمة في " المقتطفات ": 123، وفي ق: أبو الأشعب الكلبي.

(2)

الجمهرة: 105 وقال ابن حزم: ولجزي عقب بقرطبة؛ وترجمته في الجذوة: 178 (وبغية الملتمس رقم: 627) .

ص: 55

35 -

ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة، الجذامي (1) ويكنى أبا ثمامة، وجده صحابي، وكان بكر هذا فقيهاً كبيراً من التابعين، روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي، - وقيد اسمه الدار القطني رحمه الله تعالى حبان، بكسر الحاء المهملة، وبباء معجمة بواحدة، ونقله الأمير كذلك، وهو ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، قال ابن يونس: ويقال فيه حبان بالكسر، وحبان بالفتح أصح، انتهى، وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت -.

رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبة ثور الفهمي، وأبو عميرة المزني، وروى عن جماعة من التابعين أيضاً كسعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم، منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتابي وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي (2) وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس.

وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة ابن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم.

قال ابن يونس: توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك، وقيل: بل

(1) انظر ترجمته في الجذوة: 169 (وبغية الملتمس رقم: 586) ورياض النفوس 1: 74 ومعالم الإيمان 1: 160.

(2)

ق: المربخي؛ ولم ينسبه الذهبي في ميزان الاعتدال (1: 107) وقال: تفرد بحديث الفراسي في ماء البحر؛ ما حدث عنه غير بكر بن سوادة.

ص: 56

غرق في مجاز الأندلس، سنة ثمان وعشرين ومائة، قال: وجده ثمامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث.

وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمى ب " رياض النفوس " وقد ذكر بكراً هذا: إنه كان أحد العشرة التابعين، يعني الموجهين إلى إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز في خلافته ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم، قال: وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر، لم يروه غيره فيما علمت، حدث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف، ولا تنه عن منكر، وعليك بخاصة نفسك "، وحكى المالكي أيضاً عن أبي سعيد بن يونس قال: كان فقيهاً مفتياً، سكن القيروان، وكانت وفاته كما تقدم، وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس، ولم يذكره ابن الفرضي.

36 -

ومنهم رزيق بن حكيم (1) ، أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس، ذكره أبو الحسن ابن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي، وحكى أنه كتب ذلك من خطه، وسماه مع جماعة منهم حبان بن أبي جبلة وعلي ين أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية ابن صالح وزيد ابن الحباب العكلي، وانتهى عددهم برزيق هذا سبعة، ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره، قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي.

37 -

ومنهم زيد بن قاصد السكسكي (2) . قال ابن الأبار: وهو تابعي، دخل الأندلس وحضر فتحها، وأصله من مصر، يروي عن عبد الله بن عمرو

(1) ق: زريق؛ وأثبته ابن الأبار في حرف الراء " رزيق "(التكملة: 324) وكذلك سماه الذهبي في المشتبه: 312 واسم والده مصغر أيضا؛ وما أورده المقري في ترجمته منقول عن ابن الأبار.

(2)

التكلمة: 330 والجذوة: 204 (وبغية الملتمس رقم: 757) .

ص: 57

ابن العاص رضي الله تعالى عنه، وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ذكره يعقوب بن سفيان، وأورد له حديثاً؛ من كتاب الحميدي (1) ، انتهى.

38 -

ومنهم زرعة بن روح الشامي (2) ؛ دخل الأندلس، وحدث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل.

39 -

ومنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري (3)، قال ابن الأبار: تابعي، دخل الأندلس، يروي عن أبي هريرة، قرأته بخط ابن حبيش، وقال أبو سعيد ابن يونس مؤرخ مصر: إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، ويروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحميدي: إنه كان من أهل الدين والفضل معروفاً بالفقه، ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين، وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، فيما حكاه ابن يونس صاحب تاريخ مصر، وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. ولما قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه، فولوه أمرهم، وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان، إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية، وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظلة، انتهى.

40 -

ومنهم عبد الملك بن عمرو بن مروان بن الحكم، الأموي (4) ، فر من الشام خوفاً من المسودة، فمر بمصر ومضى إلى الأندلس، وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل، فأكرمه ونوه به، وولاه إشبيلية لأنه

(1) يريد ابن الأبار أنه نقل هذه الترجمة من كتاب الحميدي (جذوة المقتبس) .

(2)

انظر التكملة: 326.

(3)

ترجمته في التكملة: 354 وجذوة المقتبس: 42 (وبغية الملتمس رقم: 67) .

(4)

ترجمته في الحلة السيراء 1: 56 والمقتطفات: 123.

ص: 58

كان قعدد بني أمية، ثم إنه لما وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة، وذكره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية، فتوقف عبد الرحمن في ذلك، فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له، وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك: إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي، فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر، ولما زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا، فنهض في معظم الجيش، وقدم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر، فخالطهم أمية، فوجد فيهم قوة، فخاف الفضيحة معهم، فانحاز منهزماً إلى أبيه، فلما جاءه سقط في يده، وقال له: ما حملك على أن استخففت بي وجرأت الناس علي والعدو إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه، فأمر بضرب عنقه، وجمع أهل بيته وخاصته وقال لهم: طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع، ونحسد على لقمة تبقي الرمق، اكسروا جفون السيوف، فالموت أولى أو الظفر، ففعلوا وحملوا، وتقدمهم، فهزم اليمانية وأهل اشبيلية، ولم تقم بعدها لليمانية قائمة، وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفاً، وجرح عبد الملك، فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دماً وسيفه يقطر دماً، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبل بين عينيه، وجزاه خيراً، وقال له: يا ابن عمّ، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا ولأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم كذا، ووليتكم الوزارة.

ومن شعره لما نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذكر وطنه بالشام، وقال (1) :

(1) نسب ابن الأبار هذه الأبيات لعبد الرحمن الداخل (الحلة: 37) ثم قال: وقد قيل إن الأبيات الأربعة الأول (تبدت لنا وسط الرصافة نخلة

) لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك، وقيل في الأبيات الأخيرة (يا نخل أنت غريبة

) إنها لعبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم؛ ثم عاد فذكر أن هناك ما يقوي نسبتها إلى عبد الرحمن.

ص: 59

يا نخل أنت فريدةٌ مثلي

في الأرض نائيةٌ عن الأهل

تبكي وهل تبكي مكممةٌ

عجماء لم تجبل على جبلي

ولو أنها عقلت إذا لبكت

ماء الفرات ومنبت النخل

لكنّها حرمت وأخرجني

بغضي بني العباس عن أهلي 41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ونزل حين دخوله بلبلة، وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي، وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه " أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب ".

42 -

ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة، الكناني (1) ، حليف بني عبد الدار، سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين، حكى ذلك عنه أبو القاسم ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين "، قال ابن الأبار: وما أراه يتابع عليه؛ وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية، انتهى، وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني.

43 -

ومنهم عبد الله المعمر (2) الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان، وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين. قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني، ذكر ذلك القبشي، وفيه عندي نظر، انتهى.

44 -

ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب، المهري (3) ، روى عن أبي ذر، وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر، وعائشة وعمرو بن العاص

(1) ترجمته في التكملة: 772.

(2)

التكملة: 912.

(3)

ترجمته في التكملة رقم: 1525، وفيه " ابن ذؤيب ".

ص: 60

وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري (1) وعقبة بن عامر الجهني وعوف ابن مالك الأشجعي، ومعاوية ابن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم، ذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وسماه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين، وروى ذلك عن الحميدي، قاله ابن الأبار؛ وقال ابن يونس: وآخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران.

45 -

ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعد ابن عمار ابن ياسر (2) ، رضي الله تعالى عنه، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس، وكان المذكور إذ ذاك أميراً على اليمانية من جند دمشق، وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين، وكان عمار رضي الله تعالى عنه من شيعة علي، كرم الله وجهه.

وهذا عبد الله بن سعد هو جد بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدة رؤساء وأمراء وكتاب وشعراء، ومنهم صاحب " المغرب " وغير واحد ممن عرفنا به في هذا الكتاب، ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد ابن خلف ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين، قال: وهو القائل يفتخر (3) :

إن لم أكن للعلاء أهلاً

بما تراه فمن يكون

فكلُّ ما أبتغيه دوني

ولي على همّتي ديون

ومن يرم ما يقلّ عنه

فذاك من فعله جنون

(1) التكملة: أبي بصرة؛ وذكر صاحب الأغاني أن أبا بصرة الغفاري المحدث هو والد عزة صاحبة كثير؛ قال: واسمه صميل بن وقاص (9: 24) .

(2)

انظر ما تقدم: ج 2: 330.

(3)

مرت هذه الأبيات والتي تليها؛ ج 2: ص 331 من هذا الكتاب.

ص: 61

فرعٌ بأفق السماء سامٍ

وأصله راسخٌ مكين وقوله:

الله يعلم أنّي

أحبّ كسب المعالي

وإنّما أتوانى

عنها لسوء المآل

تحتاج للكدّ والبذ

ل واصطناع الرجال

دع كل من شاء يسمو

لها بكلّ احتيال

فحالهم في انعكاسٍ

بها وحالي حالي وتراجمهم واسعة، وقد بسطت في " المسهب " و " المغرب " وغيرهما، وقد قدمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصدر فليراجع.

46 -

ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث، التميمي، البخاري (1) ، الحافظ، نزيل مصر.

سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد، وكانا يرويان معاً عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند، وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار، وأبي يعلي حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن، وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق، وابن أبي كامل بأطرابلس الشام، وأبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر، وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر بن فورك المتكلم وأبي العباس ابن الحاج الإشبيلي وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي صاحب الهيثم ابن كليب وأبي الفضل العباس بن محمد الحداد التنيسي وأبي الفتح محمد بن إبراهيم الجحدري وأبي بكر محمد بن داود العسقلاني وهلال الحفار وصدقة بن محمد

(1) ترجمته في التكملة رقم: 1671.

ص: 62

ابن مروان الدمشقي، ولقي بإفريقية العابد ولي الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه، وقال: لقد هبته يوم لقيته هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس، ودخل الأندلس وبلاد المغرب، وكتب بها عن شيوخها، ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمن دونه، وله " رسالة الرحلة (1) وأسبابها وقول لا إله إلا الله وثوابها "، فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته، قال الحافظ ابن الأبار: ومنها نقلت اسمه وتعرفت دخوله الأندلس، وحدث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني - وقال: هو من الرحالين في الآفاق، أخبرني أنه يحدث عن مئين من أهل الحديث - وأبو عبد الله الحميدي وأبو بكر [جماهر بن عبد الرحمن](2) الطليطلي وأبو عبد الله ابن منصور الحضرمي وأبو سعيد الرهاوي وأبو محمد جعفر بن محمد السراج وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي وأبو الحسن ابن مشرف الأنماطي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي وأبو بكر ابن نعمة العابد (3) وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف (4) وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي، وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي، وأبو محمد ابن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه ولم يعرف ذلك في حياته. وسماه أبو الوليد ابن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمة المحدثين من تأليفه، مع أبي عمر ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم وأبي بكر ابن ثابت الخطيب، وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه، وقال: سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان، ثم سكن مصر وقدم دمشق قديماً وحدث بها، وسمى جماعة كثيرة من الرواة عنه، وحكى أنه قال: لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها،

(1) التكملة: رسالة الرحمة.

(2)

زيادة من التكملة.

(3)

دوزي: العابر.

(4)

التكملة: الفراء.

ص: 63

قال: وسئل عن مولده، فقال: في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، قال: وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى ورضي عنه، انتهى.

قلت: والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث، وهو ثقة عدل ليس له مجازفة، والحق أبلج.

47 -

وممن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، القرشي، الزهري (1) ، دخل الأندلس مع موسى بن نصير، وكان على ميسرة معسكره، ونزل باجة ثم بطليوس، ومن نسله الزهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديماً، هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر ابن خير وغيره، قال ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ": عبد الجبار بن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف من التابعين، وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن ابن مغيث، انتهى. قال ابن الأبار: ولم يزد على هذا، انتهى

48 -

ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب (2) ، من أهل مصر، وسكن بغداد، ويعرف بالطندتائي، قرية بمصر نسب إليها، روى عن أبي محمد الشارمساحي، وتفقه به، وقدم الأندلس رسولاً بزعمه من عند الخليفة العباسي، فسكن مرسية ودرس بها، وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملكها النصارى صلحاً، وأسر بناحية صقلية، قال ابن الأبار: ثم بلغني أنه تخلص ولحق ببلده، رحمه الله تعالى.

49 -

ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب، يكنى أبا القاسم. قال

(1) ترجمته في التكملة رقم: 1772.

(2)

ترجمته في التكملة رقم: 1796.

ص: 64

ابن الأبار (1) : لا أعرف موضعه من بلاد المشرق، وكان أديباً قوي العارضة، مطبوع الشعر، مديد النفس. ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله:

على الذلّ أو فاحلل عقال الركائب

وللضيم أو فاحلل صدور الكتائب

فإمّا حياةٌ بعد إدراك منيةٍ

وإمّا مماتٌ تحت عزّ القواضب

فما العيش في ظل الهوان بطيّبٍ

وما الموت في سبل العلاء بعائب 50 - ومنهم عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله، أبو محمد الهاشمي، الصدفي، من أهل بغداد، يعرف بالنرسي، دخل الأندلس، وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السجزي وأبي الفرج الجوزي وغيرهما، وله تأليف سماه " الدليل في الطريق من أقاويل أهل التحقيق " ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعفه بعدما سمع منه، أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما، وقال: ورد علينا غرناطة قريباً من سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتوفي، عفا الله تعالى عنه، بإشبيلية قريباً من هذا التاريخ، وقال فيه أبو القاسم ابن فرقد: عبد اللطيف بن عبد الله الهاشمي البغدادي النرسي، منسوب إلى قرية من قرى بغداد، سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السجري، وروى عن غيره، وله تآليف، قال ابن الأبار (2) : في التصوف، منها تأليف في إباحة السماع، قرأت عليه أكثره، وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة.

51 -

ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد، الخراساني،

(1) لم ترد ترجمته في كتاب التكملة المطبوع.

(2)

لم يرد أيضا في كتاب التكملة المطبوع.

ص: 65

الباخرزي، الماليني، يكنى أبا بكر (1) ، سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني، وقدم الأندلس، وحدث بصحيفتي الأشج وجعفر بن نسطور الرومي، وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس، وحدث عنه أبو القاسم الملاحي، وسمع منه بمالقة أبو جعفر بن عبد الجبار وأبو علي بن هاشم في صفرسنة 600، ومولده في ربيع الأول سنة 560، انتهى من تكملة ابن الأبار (2) .

قلت: ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما، ويرحم الله تعالى السلفي الحافظ إذ قال:

حديث ابن نسطورٍ وقيسٍ ويعنمٍ

وبعد أشجّ الغرب ثم خراش

ونسخة دينارٍ ونسخة تربه

أبي هدبة القيسيّ شبه فراش قال ابن عات: كان الحافظ السلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارةً إلى أن هذه الأشياء كالريح، انتهى.

52 -

ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن اسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، البرمكي، من أهل بغداد، قدم الأندلس تاجراً سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي، وتلمذ له، وسمع منه " الموضح " و " المنجح " من تآليفه في الفقه، وما تم له من أحكام القرآن، هكذا نقله الحافظ بن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن، رحمه الله تعالى.

53 -

ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد، أبو العلاء، النيسابوري.

(1) انظر التكملة رقم: 1830.

(2)

جاءت ترجمته في التكملة المطبوع ناقصة كثيرا عما أثبته المقري.

ص: 66

لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجاً، وهو يحدث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي، قال أبو علي: وأراه دخل الأندلس، ويغلب على ظني أني لقيته بسرقسطة، ذكر ذلك القاضي عياض في " المعجم " من تأليفه، والله تعالى أعلم.

54 -

ومنهم سهل بن علي بن عثمان، التاجر، النيسابوري، يكنى أبا نصر (1) ، سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم؛ منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي، وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني، وحضر مجلسه ودرسه، ولقيه بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما، وكان شافعي المذهب، ذكره عياض وقال: حدثني بحكايات وفوائد، وأنشدني لأبي طاهر السلفي، وأجازني جميع رواياته وحدثني أن وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة، وقال أبو محمد العثماني: أنشدني أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال: أنشدنا أبو الفتح نصر بن الحسن، أنشدنا أبو العباس العذري، قال: أنشدنا أبو محمد ابن حزم الحافظ لنفسه:

ولمّا رأيت الشّيب حلّ مفارقي

نذيراً بترحال الشباب المفارق

رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري

إلى ما أتى، هذا ابتداء الحقائق

دعي دعوات اللهو قد فات وقتها

كما قد أفات الليل نور المشارق

دعي منزل اللّذّات ينزل أهله

وجدّي لما ندعى إليه وسابقي قال عياض: توفي سهل هذا غريقاً في البحر منصرفاً إلى بلده من المرية، رحمه الله تعالى (2) .

(1) ترجمة أبي نصر النيسابوري في التكملة رقم: 2008.

(2)

زاد في التكملة: سنة 531.

ص: 67

55 -

ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين، المصري (1) ، كان من أهل العلم، عارفاً بالأصول، حافظاً للحديث، متيقظاً، حسن الصورة والشارة، دخل الأندلس، وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة. قال ابن الأبار: وبه صرف أبو القاسم الخولاني، وأقام بها سنة، وحضر غزوة شنترين، وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفاً من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر، ووفد أيضاً معه أبو الوفاء المصري، ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية، وولاه حينئذ قضاء تونس، وكان قد ولي قضاء فاس، وولي أيضاً أبو الوفاء صاحبه القضاء، وتوفي وهو يتولى قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

56 -

ومنهم يحيى بن عبد الرحمن ابن عبد المنعم بن عبد الله، القيسي، الدمشقي (2) ، أصله من دمشق، وبها ولد، ويعرف بالأصبهاني قي مجلس أبي طاهر السلفي لدخوله إياها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات، ويكنى أبا زكريا، وسمع بالمشرق أبا بكر ابن ماشاذه السكري وأبا الرشيد ابن خالد البيع وأبا الطاهر السلفي وغيرهم، وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي، وأجازه وحضه على الوعظ والتذكير، فامتثل ذلك، ودخل الأندلس، وتجول ببلادها، واستوطن غرناطة منها، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، عارفاً بالأصول والتصوف، زاهداً، ورعاً، كثير المعروف والصدقة، يعظ الناس، ويسمع الحديث، ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار، قال: وله كتاب " الروضة الأنيقة " من تأليفه، حدث عنه جماعة من الجلة، منهم أبو جعفر ابن عميرة الضبي (3) ، وابنا حوط الله أبو محمد وأبو

(1) ترجمته في التكملة رقم: 2024.

(2)

التكملة رقم: 2071.

(3)

ق: حميرة.

ص: 68

سليمان، وأبو القاسم الملاحي، وأبو العباس ابن الجيار، وأبو الربيع ابن سالم، وقال: أنشدني عند توديعي إياه بغرناطة قال: سمعت بعض المذكورين ينشد:

يازائراً زار وما زار

كأنّه مقتبسٌ نارا

مرّ بباب الدار مستعجلاً

ما ضرّه لو دخل الدارا

نفسي فداء لك من زائرٍ

مازار حتى قيل قد سار وسمع منه أبو جعفر ابن الدلال كتاب " المعالم " للخطابي في شرح " سنن أبي داود " بقراءة جمعيه عليه.

ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوال سنة ثمان وستمائة، قال ابن الأبار: وفي هذا اليوم بعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله ابن نوح ببلنسية، رحمهما الله تعالى.

57 -

ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي، القرشي (1) ، من ذرية عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحاكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث، فحل يومئذ من الحكم المستنصر محل الرحب والسعة، ولما ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية، وأوطنها داراً، واتخذها قراراً، وبها لقيه أبو عمر ابن عبد البر علامة الأندلس فدرس عليه، واقتبس مما لديه، وقد ذكره في تاريخ شيوخه، ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم ابن محمد بن سالم، وهو من رجال " الذخيرة "(2) وله نثر، كما تفتح الزهر، وتدفق البحر، ونظم كما اتسق الدر، وسفرت عن محاسنها الأوجه الغر،

(1) ترجمته في جذوة المقتبس: 153 (وبغية الملتمس رقم: 545) .

(2)

لم يرد اسمه في فهرست الذخيرة 1 / 1: 11 - 20.

ص: 69

فمن نظمه قوله:

خليليّ، هل ليلى ونجدٌ كعهدنا

فيا حبّذا ليلى ويا حبّذا نجد

عسى الدّهر أن يقضي لنا بالتفاتةٍ

فيا ربّ قربٍ قد يجدّده بعد وله أثناء رسالة:

قوس العلا وضعت في كف باريها

وأسهم الخطب عادت نحو راميها ومنها:

وإنّما الشمس لاحت في مطالعها

بلى وأجرى جياد الخيل مجريها ونشأ هذا النجم الثاقب، والصيب الساكب، وقد أخذ من العلوم في غبر ما فن، وحقق فيه كل ما ظن، وذكره في " المسهب " و " سمط الجمان " وفضله شهير، رحمه الله تعالى.

58 -

ومنهم أبو علي القالي، صاحب الأمالي والنوادر (1) ، وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر ابنه الحكم - وكان يتصرف عن أمر أبيه كالوزير - عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه قي وفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً لأبي علي، ففعل، وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، ويتناشدون الأشعار، إلى أن تحاوروا يوماً وهم سائرون أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة ابن الطبيب (2) :

(1) انظر ترجمة القالي في طبقات الزبيدي: 202 وابن الفرضي 1: 83 والجذوة: 154 (وبغية الملتمس رقم: 547) وفهرسة ابن خير 395 وابن خلكان 1: 204 وإنباه الرواة 1: 204 ومعجم الأدباء 7: 25 والشذرات 3: 18 ومعجم البلدان: (قاليقلا) وبروكلمان 2: 277 (الترجمة العربية) .

(2)

البيت: 51 من المفضلية رقم: 26.

ص: 70

ثمّت قمنا إلى جردٍ مسوّمة

أعرافهن لأيدينا مناديل وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي، فأنشد الكلمة في البيت " أعرافها لأيدينا مناديل " فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خلقه حرج وزعارة، فاستعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين، في كلتيهما أنشده " أعرافها "، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه، فأجابه على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطىء وافد أهل العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، واقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطه.

وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس، لا في خلافة أبيه الناصر، والصواب أن وفادته في أيام الناصر، لما ذكره غير واحد من حصره وعيه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) .

وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي (2) :

من حاكم بيني وبين عذولي

الشجو شجوي والعويل عويلي

في أي جارحة أصون معذّبي

سلمت من التعذيب والتنكيل

(1) انظر خبر الخطبة يوم وفادة رسل الفرنجة ج 1 ص: 368 من هذا الكتاب؛ وقد كان وصول ءأبي علي إلى الأندلس عام 330 فلا خلاف بعد ذلك في أنه وصل أيام الناصر، وسيذكرنا ذلك صاحب النفح.

(2)

وردت أبيات الرمادي في اليتيمة 2: 100 والمطمح: 70 ومطلعها في الجذوة: 347.

ص: 71

إن قلت في بصري فثمّ مدامعي

أو قلت في قلبي فثمّ غليلي

لكن جعلت له المسامع موضعاً

وحجبتها عن عذل كلّ عذول ولما سمع المتنبي البيت الثاني قال: يصونه في استه.

وكان الرمادي لما سمع قول المتنبي:

كفى بجسمي نحولاً أنّني رجلٌ

لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني قال: أظنه ضرطة، والجزاء من جنس العمل.

وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرز الشيخ أبو علي القالي كتاب " الأمالي ".

وكان الحكم كريماً، معنياً بالعلم، وهو الذي وجه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني، وألف أبو محمد الفهري كتاباً في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس. وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبة المبنية على قبر أبي علي البغدادي عند تهدمها، وهما:

صلوا لحد قبري بالطريق وودّعوا

فليس لمن وارى التراب حبيب

ولا تدفنوني بالعراء فربّما

بكى أن رأى قبر الغريب غريب واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد ابن سليمان، وجده سليمان مولى عبد الملك بن مروان، وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين، وأخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد الأزدي وأبي بكر ابن الأنباري وابن درستويه وغيرهم، وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب " مختصر العين "، ولأبي علي التصانيف الحسان ك " الأمالي " و " البارع "، وطاف البلاد، وسافر إلى بغداد سنة 303، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي، ودخل بغداد سنة 303، وأقام بها إلى سنة 328، وكتب بها الحديث، ثم خرج من بغداد قاصداً الأندلس، وسمع

ص: 72

من البغوي وغيره.

قال ابن خلكان: ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة، انتهى.

وهو مما يعين أنه قدم في زمن الناصر، لا في زمن ابنه الحكم كما تقدم، وقد صرح بذلك الصفدي في الوافي فقال: ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن، فأكرمه، وصنف له ولولده الحكم تصانيف وبث علومه هناك، انتهى.

وقال ابن خلكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر، وقيل: جمادى الأولى سنة 356، ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور، ودفن ظاهر قرطبة، ومولده بمنازجرد من ديار بكرسنة 288، وقيل: سنة 280، وإنما قيل له " القالي " لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا، وهي من أعمال ديار بكر. وهو من محاسن الدنيا، رحمه الله تعالى.

وعيذون: بفتح العين، وسكون الياء المثناة التحتية، وضم الذال المعجمة.

وقال ابن خلكان في ترجمة ابن القوطية (1) : إن أبا علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تعظيمه، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر: من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال: محمد بن القوطية، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلا أنه تركه ورفضه، وقال الأديب أبو بكر ابن هذيل (2) : إنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة

(1) ابن خلكان 4: 4 - 6 وهناك ترجمات أخرى لابن القوطية في ابن الفرضي 2: 78 والجذوة: 71 والديباج 262 وإنباه الرواة 3: 178 وبغية الوعاة: 84 ومعجم الأدباء 18: 272.

(2)

هو يحيى بن هذيل التميمي الشاعر الكفيف أستاذ الرمادي (انظر الجذوة: 358 وبغية الملتمس رقم: 1495) وله عدد صالح من الأشعار في كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتاني.

ص: 73

المونقة، فصادف أبا بكر ابن القوطية المذكور صادراً عنها، وكانت له أيضاً هناك ضيعة، قال: فلما رآني عرج علي، واستبشر بلقائي، فقلت مداعباً له:

من أين أقبلت يا من لا شبيه له

ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال: فتبسم وأجاب بسرعة:

من منزل تعجب النساك خلوته

وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا فما تمالكت أن قبّلت يده، إذ كان شيخي ودعوت له، انتهى.

وهو صاحب كتاب " الأفعال " الذي فتح به هذا الباب، فتلاه ابن القطاع، وله كتاب " المقصور والممدود " جمع فيه مالا يحد ولا يعد، وأعجز من بعده به، وفاق من تقدمه، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

وممن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب " مختصر العين " وغيره، وكان الزبيدي كثيراً ما ينشد:

الفقر في أوطاننا غربة

والمال في الغربة أوطان

والأرض شيء كلّها واحدٌ

والناس إخوانٌ وجيران وترجمه الزبيدي واسعة (1) ، وكان مؤدب المؤيد هشام، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء، رحمه الله تعالى.

وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه، ودقق النظر، وانتصر للبصرين، وأملى شيئاً من حفظه ككتاب " النوادر والأمالي "، و " المقصور والممدود "، و " الإبل والخيل "، و " البارع في اللغة " نحو خمسة آلاف

(1) انظر ترجمة الزبيدي في الجذوة: 43 وابن الفرضي 2: 92 والمغرب 1: 250 واليتيمة 2: 71 وابن خلكان 4: 7 وإنباه الرواة 3: 109 ومعجم الأدباء 18: 180 والوافي 2: 251 وبغية الوعاة: 34 وانظر كتاب الحركة اللغوية في الأندلس ففيه دراسة لأهم مؤلفاته.

ص: 74

ورقة، لم يصنف مثله في الإحاطة والجمع، ولم يتم، ورتب كتاب " المقصور والممدود " على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذ منه شيء، وكتاب " فعلت وأفعلت " وكتاب " مقاتل الفرسان " و " تفسير السبع الطوال ".

وكان الزبيدي إماماً في الأدب، ولكنه عرف فضل القالي، فمال إليه، واختص به، واستفاد منه، وأقر له.

وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي، ويعينه على التأليف بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وكانوا يسمونه " البغدادي " لوصوله إليها من بغداد، ويقال: إن الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم، وفيه يقول الرمادي متخلصاً في لاميته السابق بعضها:

روضٌ تعاهده السحاب كأنّه

متعاهدٌ من عهد إسماعيل

قسه إلى الأعراب تعلم أنّه

أولى من الأعراب بالتفضيل

حازت قبائلهم لغاتٍ فرّقت

فيهم وحاز لغات كلّ قبيل

فالشرق خالٍ بعده وكأنّما

نزل الخراب بربعه المأهول

فكأنّه شمسٌ بدت في غربنا

وتغيبت عن شرقهم بأفول

يا سيدي هذا ثنائي لم أقل

زورا ًولا عرّضت بالتنويل

من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤٌ

لم أرج غير القرب في تأميلي وقد تقدمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا، فلتراجع ثمة، والله تعالى أعلم.

59 -

ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسين ابن عيسى البغدادي، اللغوي (1) .

(1) ترجمة صاعد في الذخيرة 4 / 1: 2 - 39 وابن خلكان 2: 181 وإنباه الرواة 2: 85 وبغية الوعاة: 267 والجذوة: 223.

ص: 75

وأصله من الموصل، قال ابن بسام (1) : ولما دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يعفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية، فما وجد عنده ما يرتضيه، وأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في علمه وعقله ودينه، ولم يأخذوا عنه شيئاً لقلة الثقة به، وكان ألف كتاباً سماه كتاب " الفصوص " فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر، ومن شعره قوله:

ومهفهفٍ أبهى من القمر

قهر الفؤاد بفاتن النّظر

خالسته تفّاح وجنته

فأخذتها منه على غرر

فأخافني قومٌ فقلت لهم:

لا قطع في ثمرٍ ولا كثر والكثر: الجمّار، وهذا اقتباس من الحديث.

وقال الحميدي (2) : سمعت أبا محمد ابن حزم الحافظ يقول: سمعت أبا العلاء صاعداً ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة 396:

حسبت المنعمين على البرايا

فألفيت اسمه صدر الحساب

وما قدّمته إلاّ كأنّي

أقدّم تالياً أمّ الكتاب وذكر الحميدي أن عبد الله بن ما كان (3) الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر ابن شهيد: صفاها، فأفحما، ولم يتجه لهما القول، فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري (4) صاحب أبي العلاء وتلميذه، وكان شاعراً

(1) نقل النص عن الذخيرة بتصرف.

(2)

الجذوة: 224.

(3)

ذكر الحميدي (الجذوة: 373) من اسمه أبو عبد الله ابن فاكان وقال فيه: أديب شاعر يتكلم على معاني الآداب ومحاسن الأشعار، ذكره أبو عامر ابن شهيد وذكر له مع صاعد بن الحسن منازعات في ذلك. ثم عاد فذكره بهذا الاسم (ص: 384) .

(4)

القصة في الجذوة 384 - 385، ولكن الشاعر مذكور هنالك باسم الزبيري، ووردت أيضا في البدائع والبدائه 2: 109 وفيه " الزهري ".

ص: 76

أديباً أمياً لا يقرأ، فلما استقر به المجلس أخبر بما هم فيه، فجعل يضحك ويقول:

ما للأديبين قد أعيتهما

مليحةٌ من ملح الجنّه

نرجسةٌ في وردةٍ ركّبت

كمقلةٍ تطرف في وجنه انتهى.

ومن غريب ما جرى (1) لصاعد أن المنصور جلس يوما ًوعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم، فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محله وأقبل عليه، وسأله عن أبي سعيد السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصي بالسؤال عن مسألة من الكتاب، فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ فقال: حفظ الغريب، قال: فما وزن أولق، فضحك صاعد، وقال: أمثلي يسأل عن هذا إنما يسأل عنه صبيان المكتب، قال الزبيدي (2) : قد سألناك، ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه، وقال: أفعل وزنه، فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق، فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار، ورواية الأخبار، وفك المعمّى، وعلم الموسيقى، فقال: فناظره ابن العريف، فظهر عليه صاعد، وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً، وأتى بحكاية يجانسها، فأعجب المنصور، ثم أراه كتاب " النوادر " لأبي علي القالي، فقال:

(1) القصة في الذخيرة 4 / 1: 6 - 8.

(2)

ق ودوزي: الزهري؛ وفي الذخيرة ما أثبتناه.

ص: 77

إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته (1) كتاباً أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبراً مما أورده أبو علي، فأذن له المنصور في ذلك، وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم ب " الفصوص "، فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت، فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم، ولا خبر ثبت لديهم، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها، حتى توهم القدم، وترجم عليه كتاب " النكت " تأليف أبي الغوث الصنعاني، فترامى إليه صاعد حين رآه، وجعل يقلبه، وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان، فأخذه المنصور من يده خوفاً أن يفتحه، وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم، فعلام يحتوي فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به، ولا أحفظ الآن منه شيئاً، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر، فقال المنصور: أبعد الله مثلك! فما رأيت أكذب منك، وأمر بإخراجه، وأن يقذف كتاب " الفصوص " في النهر، فقال فيه بعض الشعراء:

قد غاص في النهر كتاب الفصوص

وهكذا كلّ ثقيلٍ يغوص فأجابه صاعد:

عاد إلى معدنه، إنّما

توجد في قعر البحار الفصوص قال ابن بسام (2) : وما أظن أحداً يجترىء على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب.

وحكى ابن خلكان (3) أن المنصور أثابه على كتاب " الفصوص " بخمسة

(1) الذخيرة: أمليت على مقيدي خدمته وكتاب دولته.

(2)

النقل عن الذخيرة 4 / 1: بإيجاز شديد.

(3)

وفيات الأعيان 2: 181.

ص: 78

آلاف دينار (1) .

ومن أعجب (2) ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:

أتتك أبا عامر وردةٌ

يذكرك المسك أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصر

فغطت بأكمامها راسها فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً، فحسده، وجرى إلى مناقضته، وقال لابن أبي عامر: هذان البيتان لغيره، وقد أنشد فيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف، وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر (3) ، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جرى، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد:

عشوت إلى قصر عبّاسة

وقد جدّل النوم حراسها

فألفيتها وهي في خدرها

وقد صرع السكر أنّاسها

فقالت: أسارٍ على هجعة

فقلت: بلى، فرمت كاسها

ومدّت يديها إلى وردة

يحاكي لك الطيب أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصرٌ

فغطت بأكمامها راسها

وقالت: خف الله لا تفضح

نّ في ابنة عمّك عبّاسها

فوليت عنها على غفلة

وما خنت ناسي ولا ناسها فطار ابن العريف بها، وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر،

(1) زاد في ق: دراهم.

(2)

عاد إلى النقل عن الذخيرة.

(3)

جعلها دوزي " ابن برد " ونقل المقدمة صاحب بدائع البدائه 2: 28.

ص: 79

ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غداً أمتحنه، فإن فضحه الإمتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح وجه إليه فأحضر، وأحضر جميع الندماء، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البركة حيةٌ تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا، وإما أن تشقى بالضد عندنا، لأنه قد زعم قومٌ أن كل ما تأتي به دعوى، وقد وقفت من ذلك على حقيقة، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، وعبر بعض عن هذه القصة بقوله: أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ، وكان في البركة حية تسبح، وأحضرها صاعد، فلما شاهد ذلك قال له المنصور: إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره، فقال صاعد بديهةً:

أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف

وهل غير من عاداك في الأرض خائف

يسوق إليك الدّهر كلّ غريبةٍ

وأعجب ما يلقاه عندك واصف

وشائع نورٍ صاغها هامر الحيا

على حافتيها عبقرٌ ورفارف

ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت

عليها بأنواع الملاهي الوصائف

كمثل الظباء المستكنّة كنّساً

تظلّلها بالياسمين السّقائف

وأعجب منها أنّهن نواظرٌ

إلى بركة ضمّت إليها الطرائف

حصاها اللآلي سابحٌ في عبابها

من الرّقش مسموم الثعابين (1) زاحف

(1) الذخيرة: مسموم اللعابين.

ص: 80

ترى ماتراه (1) العين في جنباتها

من الوحش حتّى بينهنّ السلاحف فاستغربت له يومئذٍ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجدف بمجاديف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت، إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية، فقال للوقت:

وأعجب منها غادةٌ في سفينةٍ

مكلّلةٌ تصبو إليها المهاتف (2)

إذا راعها موجٌ من الماء تتّقي

بسكّانها ما أنذرته (3) العواصف

متى كانت الحسناء ربّان مركبٍ

تصرّف في يمنى يديه المجاذف

ولم تر عيني في البلاد حديقةً

تنقّلها في الراحتين الوصائف (4)

ولا غرو أن شاقت معاليك روضةٌ

وشتها أزاهير الرّبى والزخارف

فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ

ورضوى ذرتها من سطاك نواسف

إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً

فكلني له إنّي لمجدك واصف فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وألحقه بالندماء.

قال (5) : وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل، قال له المنصور يوماً: ما الخنبشار فقال: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:

لقد عقدت محبّتها بقلبي

كما عقد الحليب بخنبشار

(1) الذخيرة: ما تشاء.

(2)

الذخيرة: المهايف؛ وجعلها دوزي: المهافف.

(3)

جعلها دوزي: ما إن ذرته؛ وفي البدائع: الرواجف.

(4)

الذخيرة: المناصف؛ وتعني الخدم.

(5)

الذخيرة 4 / 1: 21.

ص: 81

وقال له يوماً، وقد قدم إليه طبق فيه تمر: ما التمركل في كلام العرب فقال: " يقال تمركل الرجل تمركلاً " إذا التف قي كسائه. وكان مع ذلك عالماً.

قال (1) : وكان لابن عامر فتى يسمى فاتناً أوحد لا نظير له في علم كلام العرب، فناظر صاعداً هذا فقطعه وظهر عليه وبكته، فأعجب المنصور منه، فتوفي فاتن هذا سنة 402، وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة، وكان منقاداً لما نزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ بأوفر نصيب من الأدب.

قال: ورأيت تأليفاً لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب " الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة " وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم.

وقال ابن بسام وغيره (2) : ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى إيلاً إلى المنصور، وكتب على يد موصله:

يا حرز كلّ مخوّف وأمان ك

لّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّل

يا سلك كلّ فضيلةٍ ونظام ك

لّ جزيلةٍ وثراء كلّ معيّل ومنها:

ما إن رأت عيني وعلمك شاهدٌ

شروى (3) علائك في معمٍّ مخول ومنها:

(1) الذخير 4 / 1: 22.

(2)

المصدر نفسه: 22؛ والجذوة: 229.

(3)

في الأصل: جدوى، والتصحيح عن الجذوة.

ص: 82

وأبي مؤانس غربتي وتحفّظي

من صفر أيامي ومن مستعملي (1)

عبدٌ جذبت بضبعه ورفعت من

مقداره أهدى إليك بإيّل

سميته غرسيّةً وبعثته

في حبله ليصحّ فيه تفاؤلي

فلئن قبلت قتلك أنفس منّةً

أسدى بها ذو منحة وتطول

صبحتك غادية السرور وجلّلت

أرجاء ربعك بالسحاب المخضل (2) فقضي قي سابق علم الله سبحانه وتعالى أن ملك الروم غرسية أسر في ذلك اليوم الذي بعث فيه بالإيل، وسماه باسمه على التفاؤل، انتهى.

وكان غرسية أمنع من النجم، وسبب أخذه أنه خرج يتصيد، فلقيته خيل للمنصور من غير قصد، فأسرته وجاءته به، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب (3) .

ولنزد من أخبار صاعد فنقول: حكي أن المصور قال بسبب هذه القضية: أنه لم يتفق لصاعد هذا الفأل الغريب إلا لحسن نيته وسريرته، وصفاء باطنه، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان، ورجحه على أعدائه، وحق له ذلك.

وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب " الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة " حكي أن صاعداً قال (4) : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر، فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصاً كالمرقعة، وبكرت به معي إلى قصر المنصور، فاحتلت قي تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت: يا مولانا لعبدك حاجة، فقال: اذكرها، قلت:

(1) رواه في الجذوة:

مولاي مؤنس غربتي متخطفي

من ظفر أيامي، ممنع معقلي (2) البيت مضطرب في الأصل: منحتك

يعزة، وحللت أوجا، وقد اعتمدت رواية الجذوة.

(3)

الخبر عن كيفية أسر غرسية في الذخيرة 4 / 1: وهو مختلف عما قال المقري.

(4)

في الذخيرة: 16 شبيه بهذه القصة، غير أن ما ورد هنالك يحكي أن صاعدا هو الذي لبس القميص تحت ثيابه فلما خلا المجلس ورأى فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المخيط من الخرائط.

ص: 83

وصول غلامي كافور إلى هنا، فقال: وعلى هذه الحال فقلت: لا أقنع بسواه إلا بحضوره بين يديك، فقال: أدخلوه، فمثل قائما ًبين يديه في مرقعته وهو كالنخلة إشرافاُ، فقال: قد حضر، وإنه لباذ الهيئة، فمالك أضعته فقلت: يا مولانا هنالك الفائدة، اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالاً، فتهلل وقال: لله درك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر لي بمال واسع وكسوة، وكسا كافوراً أحسن كسوة، انتهى.

ولما دخل صاعد دانية، وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد، كان في المجلس أديب يقال له بشار، فقال للموفق: دعني أعبث بصاعد، فقال له: لا تتعرض إليه، فإنه سريع الجواب، فأبى إلا مساءلته، وكان بشار المذكور أعمى، فقال لصاعد: يا أبا العلاء ما الجرنفل في كلام العرب فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة، وليس لها أصل في اللغة، فقال بعد أن أطرق ساعة: الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهن إلى غيرهن، وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني، فخجل بشار وانكسر، وضحك من كان حاضراً، فقال له الموفق: قلت لك لا تفعل فلم تقبل، انتهى.

والجرنفل - بضم الجيم والراء، وسكون النون، وضم الفاء، وبعدها لام.

ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدم، وله مع المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى من ذلك كثير، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب.

ومن حكاياته (1) أنه خرج معه يوماً إلى رياض الزاهرة، فمد المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالترنجان، فعبث به ورماه إلى صاعد، وأشار إليه أن يقول فيه، فارتجل:

لم أدر قبل ترنجان عبثت به

الأبيات الآتية.

(1) الذخيرة 4 / 1: 12.

ص: 84

[طرف من أخبار المنصور]

وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدمت جملة من أخباره، ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألفه صاحبه في الأزهار والأنوار، حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لما قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطلع على آحوال المسلمين وقوتهم، فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر على ما تسع، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعاً صغاراً على قدر ما تسع النيلوفرة، ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة، وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة، فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضة ومناطق الذهب والفضة، وبيد خمسمائة أطباق ذهب، وبيد خمسمائة أطباق فضة، فتعجب الرسول من حسن صورهم وجمال شارتهم، ولم يدر ما المراد، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة، فبادروا لأخذ الذهب والفضة من النيلوفر، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب، حتى التقطوا جميع ما فيها، وجاوؤا به فوضعوه بين يدي المنصور، حتى صار كوماً بين يديه، فتعجب النصراني من ذلك، وأعظمه، وطلب المهادنة من المسلمين، وذهب مسرعاً إلى مرسله، وقال له: لا تعاد هؤلاء القوم، فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها، انتهى.

وهذه القضية من الغرائب، وأنها لحيلة عجيبة في إظهار عز الإسلام وأهله.

وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام، قال ابن بسام نقلاً عن ابن حيان (1) : إنه لما انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة، وكان مع فضله قد استهواه حب الولد، حتى خالف الحزم

(1) الذخيرة: 4: 40 وما بعدها.

ص: 85

في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة، ومن كان ينهض بالأمر ويستقل بالملك، قال ابن بسام: وكان يقال " لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الأباء، فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم "، ولعل الحكم لحظ ذلك، فلما مات الحكم أخفى جؤذر وفائق فتياه ذلك، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة، وكان فائق قد قال له: إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفر المصحفي، فقال له جؤذر: ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا (1)، فقال له: هو والله ما أقول لك، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم، وعرفاه رأيهما في المغيرة، فقال لهما المصحفي: وهل أنا إلا تبع لكما، وأنتما صاحبا القصر، ومدبرا الأمر، فشرعا في تدبير ما عزما عليه، وخرج المصحفي وجمع أجناده وقواده ونعى إليهم الحكم، وعرفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة، وقال إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا، وإن بدلنا استبدل بنا، فقالوا: الرأي رأيك، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله، فوافاه ولا خبر عنده، فنعى إليه الحكم أخاه، فجزع، وعرفه جلوس ابنه هشام في الخلاقة، فقال: أنا سامع مطيع، فكتب إلى المصحفي بحاله، وما هو عليه من الاستجابة، فأجابه المصحفي بالقبض عليه، وإلا وجه غيره ليقتله، فقتله خنقاً. فلما قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش، وكان ذلك من أول ما استحسن منه، وتوفر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان للأموال، وعارضه محمد بن أبي عامر - فتىً ماجدٌ أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جوداً وبالاستبداد أثرةً، وتملك قلوب الرجال إلى أن تحركت همته للمشاركة في التدبير بحق الوزارة، وقوي على أمره بنظره في الوكالة، وخدمته

(1) الذخيرة: دم شيخ دولة مولانا.

ص: 86

للسيدة صبح أم هشام، وكانت حاله عند جميع الحرم أفضل الأحوال بتصديه لمواقع الإرادة، ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة، فأخرجن له أمر هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي، وكان غير متخيل منه سكوناً إلى ثقته، فامتثل الأمر وأطلعه على سره، وبالغ في بره، وبالغ محمد ابن أبي عامر في مخادعته والنصح له، فوصل المصحفي يده بيده، واستراح إلى كفايته، وابن أبي عامر يمكر به، ويضرب عليه، ويغري به الحسدة (1) ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس، ويقضي حوائجهم، ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي، وهوى نجمه، وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم وأهلكهم وشردهم وشتتهم وصادرهم، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم، وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة.

قال ابن حيان (2) : وجاشت النصرانية بموت الحكم، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة (3) ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة، وكان مما أتى عليه (4) أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم، لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو، ولم تتسع (5) حيلته لأكثر منه، مع وفور الجيوش وجموم الأموال، وكان ذلك من سقطات جعفر، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدنية، وأشار على جعفر بتجريد (6) الجيش بالجهاد، وخوفه سوء العاقبة في تركه، وأجمع الوزراء على ذلك، إلا من شذ منهم، واختار ابن أبي عامر

(1) في أصول النفح ودوزي: الحرة، وقد تنصرف إلى صبح - وهو مستبعد - وفي الذخيرة:" وابن أبي عامر يمكر به ويضرب بين حسدته ".

(2)

النقل مستمر عن الذخيرة 4 / 1: 44.

(3)

الذخيرة: فجاء صراخهم إلى باب قرطبة.

(4)

الذخيرة: وكان مما غرب به لجبنه وعظيم أفنه

(5)

في ق ودوزي: ولم تقع، والتصويب عن الذخيرة.

(6)

في ق: بتبديد؛ والتصويب عن الذخيرة؛ وفي ابن عذاري: بتجهيز.

ص: 87

الرجال، وتجهز للغزاة، واستصحب مائة ألف دينار، ونفذ بالجيش، ودخل على الثغر الجوفي [إلى جليقية] ونازل حصن الحامة، ودخل الربض، وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوماً، فعظم السرور به، وخلصت قلوب الأجناد له، واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه.

ومن أخبار كرمه (1) ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال: دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي، ولم يبق معي سوى لجام محلى، ولما ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضرب حين كان صاحبها، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة، فأعلمته ما جئت له، فابتهج بما سمعه مني، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره، فملأ حجري، وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه، وعملت العرس، وفضلت لي فضلة كثيرة، وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد (2) ابن أبي عامر الذروة.

وقال غير واحد: إنه صنع يومئذ قصراً من فضة لصبح أم هشام، وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك، وقامت بأمره عند سيدها الحكم، وحدث الحكم خواصه بذلك، وقال: إن هذا الفتى قد خلب عقول حرمنا بما يتحفهن به، قالوا: وكان الحكم لشدة نظره في عالم الحدثان يتخيل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان، ويقول لأصحابه: أما تنظرون إلى صفرة كفيه ويقول في بعض الأحيان: لو كانت به شجة لقلت إنه هو بلا شك، فقضى الله أن تلك الشجة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدة.

قال ابن حيان (3) : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة، ومباينة شديدة، ومقاطعة مستحكمة،

(1) عن الذخيرة: 45.

(2)

ق: يعتقد.

(3)

عن الذخيرة: 46 مع اختلاف في الرواية.

ص: 88

وأعجز المصحفي أمره، وضعف عن مباراته، وشكا ذلك إلى الوزراء، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه، وشعر بذلك ابن أبي عامر، فأقبل على خدمته، وتجرد لإتمام إرادته، ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر، وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية، واجتمع به، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي، وقفل ابن أبي عامر ظافراً غانماً، وبعد صيته، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة، وكانت في يده يومئذ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي، وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة، وأخذ على المصحفي وجوه الحيلة، وخلاه وليس بيده من الأمر إلا أقله، وكان ذلك بإعانة غالب له، وضبط المدينة ضبطاً أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة أولي (1) السياسة، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب، ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه، فكاتب غالباً يستصلحه، وخطب أسماء بنته لابنه عثمان، فأجابه غالب لذلك، وكادت المصاهرة تتم له، وبلغ ابن أبي عامر الأمر، فقامت قيامته، وكاتب غالباً يخوفه الحيلة، ويهيج حقوده، وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر، فأنكحه البنت المذكورة، وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره، وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله، فطهر أمره وعز جانبه، وكثر رجاله، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كلا شيء، واستقدم السلطان غالباً، وقلده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي، ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس، وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير، وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره، وانفض عنه الناس، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة

(1) ق ودوزي: وتولى السياسة، وهو سهو؛ والتصويب عن الذخيرة.

ص: 89

ويروح وهو وحده، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها، وعوقب المصحفي بإعانته على ولاية هشام، وقتل المغيرة. ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه، وطولبوا بالأموال، وأخذوا برع الحساب لما تصرفوا فيه، وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم، وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة، وغاظه ذلك منه، فبادره بالقتل في المطبق قبل عمه جعفر المصحفي، فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة (1) ، وكانت من أعظم قصور قرطبة، واستمرت النكبة عليه سنين (2) مرة يحتبس ومرة يترك ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفر عنها، ولا براح له (3) من المطالبة بالمال، ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي، ولم يبق فيه محتمل، واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك، وأخرج إلى أهله ميتاً، وذكر أنه سمه في ماء شربه، قال محمد بن إسماعيل: سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلم جسد جعفر ابن عثمان إلى أهله بأمر المنصور، وسرنا إلى منزله فكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره، وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار، وأخرج وما حضر جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده، فعجبت من الزمان، انتهى.

وما أحسن صاحب المطمح عن هذه القضية إذ قال (4) : قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور: سرت بأمره لتسليم (5) جسد جعفر إلى أهله وولده،

(1) كذا في ق والذخيرة؛ وجعله دوزي: " فلما قتل استصفى ابن عامر مال جعفر حتى باع

إلخ ".

(2)

كذا في ق والذخيرة، وجعله دوزي:" سنتين ". وهو مستدرك في التعليقات لأن المصحفي أقام في الإذلال والتعذيب خمس سنين.

(3)

الذخيرة: ولا يراح.

(4)

المطمح: 6.

(5)

ق: لتسلم.

ص: 90

والحضور على إنزاله في ملحده، فنظرته ولا أثر فيه، وليس عليه شىء يواريه، غير كساء خلق لبعض البوابين، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار، وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه، وما تجاسر أحد منا للنظر إليه، وإن لي في شأنه لخبراً ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في سمع ولا تصور في لحظ، وقفت (1) له في طريقه من قصره، أيام نهيه وأمره، أروم أن أناوله قصة، كانت به مختصة، فو الله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه، وكثرة من حف به، وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق داعين، ومارين بين يديه وساعين، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص (2) ، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور واعتقله، ونقله معه في الغزوات واحتمله (3) ، واتفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدو أثره، ولا ينكشف إليه خبره، فرأيت والله عثمان ولده يسفه (4) دقيقاً قد خلطه بماء يقيم به أوده، ويمسك بسببه رمقه، بضعف حال وعدم زاد، وهو يقول (5) :

تعاطيت (6) صرف الحادثات فلم أزل

أراها توفّي عند موعدها الحرا

فلله أيام مضت بسبيلها

فإني لا أنسى لها أبداً ذكرا

(1) انظر أيضا الذخيرة 4 / 1: 49.

(2)

فانصرفت

والغصص: سقطت من ق.

(3)

ق: وأخمله؛ المطمح: وحمله.

(4)

الذخيرة: يسقيه.

(5)

انظر أيضا الحلة 1: 265.

(6)

المطمح والحلة: تأملت.

ص: 91

تجافت بها عنّا الحوادث برهةً

وأبدت لنا منها الطّلاقة والبشرا

ليالي ما يدري الزمان مكاننا

ولا نظرت منها حوادثه شزرا

وما هذه الأيام إلاّ سحائبٌ

على كلّ أرضٍ تمطر الخير والشرّا انتهى.

وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات، وصعد إلى بعض القلاع، لينظرا في أمرها، فجرت محاورة (1) بين ابن أبي عامر وغالب، فسبه غالب وقال له: ياكلب، أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة، وسل سيفه فضربه، وكان بعض الناس حبس يده، فلم تتم الضربة وشجه، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفاً من أن يجهز عليه، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئاً في الهوي منعه من الهلاك، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء، ولحق غالب بالنصارى، فجيش بهم، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام، فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له، وتخلصت دولته من الشوائب.

قالوا (2) : ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما، وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر، فرقهم ومزقهم، ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه، ثم ذكر له أن الحرم (3) قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر، وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر، وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة، وموهت ذلك كله بالمري (4) والشهد وغيره

(1) محاورة: سقطت من ق.

(2)

عاد إلى تلخيص كلام ابن حيان الذي أورده صاحب الذخيرة 4 / 1: 52 - 56.

(3)

ق ودوزي: الخدم.

(4)

في الذخيرة: بالمربى؛ والمري - بتشديد الراء - والعامة تخففها وباللاتينية: (Muria) أنواع من مستحضرات تتخذ في صنع الأطعمة منها المري النقيع والطيب ومري الخبز ومري الحوت وبعض أنواعه يصنع من عصير الخنب بالأفاويه دون خبز محرق، والعامة تصنعه من العسل المحرق والخبز المحرق وغيرهما. ويقول دوزي إنه مركب يصنع من الدقيق والملح والعسل والتمر وأشياء أخرى. ويقول ابن البيطار إن نوعا منه يعمل من السمك المالح واللحوم المالحة وينقل عن الجاحظ قوله " المري هو جوهر الطعام وروح البارد المستظرف والحار المستنظف

" (انظر قاموس دوزي " مادة مري " ومفردات ابن البيطار 4: 149 - 150 وكتاب الطبيخ: 82 ومواضع أخرى منه) .

ص: 92

والأصباغ المتخذة بقصر الخلافة، وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك، ومرت على صاحب المدينة، فما شك في أنه ليس إلا ما هو عليها، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار، فأحضر ابن أبي عامر جماعة أعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة، وأن في إضاعتها آفة على المسلمين، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه، فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار، وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال، ولم تمكن من إخراجها، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام، واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة، فخرست ألسنة الأعداء والحسدة، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له، إذ كان منهم من لم يره قط، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة، واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى، وكانت عليه الطويلة (1) والقضيب في يده زي الخلاقة، والمنصور يسايره.

ثم خرج المنصور لآخر غزواته، وقد مرض المرض الذي مات فيه، وواصل شن الغارات، وقويت عليه العلة، فاتخذ له سرير خشب ووطىء عليه ما يقعد عليه، وجعلت عليه ستارة، وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحف به، وكان هجر الأطباء قي تلك العلة لاختلافهم فيها، وأيقن بالموت، وكان يقول: إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح

(1) الطويلة: هي القلنسوة.

ص: 93

فيهم أسوأ حالة مني - ولعله يعني من حضر تلك الغزاة، وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد - واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم، فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرر وصاته، وكلما أراد أن ينصرف يرده، وعبد الملك يبكي، وهو ينكر عليه بكاءه ويقول: وهذا من أول العجز، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر.

وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي ابن ذ كوان، فدخلها أول شوال، وسكن الإرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه.

ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه، وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع، وخرجوا من عنده، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم. واضطرب العسكر، وتلوم ولده أياماً، وفارقه بعض العسكر إلى هشام، وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه، ولبس فتيان (1) المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخز.

وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه، وخلع عليه، وكتب له السجل بولاية الحجابة، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوم المائل، وأصلح الفاسد، وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.

ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر، فقد قدمنا في محله جملة من أحواله، وما ذكرناه هنا وإن كان محله ما سبق وبعضه قد تكرر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد، والله تعالى ولي التوفيق.

(1) ق ودوزي: قيان.

ص: 94

رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي:

حكي (1) أنه دخل على المنصور يوم عيد، وعليه ثياب جدد وخف جديد، فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصحن، فزلق فسقط في الماء، فضحك المنصور، وأمر بإخراجه، وقد كاد البرد أن يأتي عليه، فخلع عليه، وأدنى مجلسه، وقال له: هل حضرك شيء فقال:

شيئان كانا في الزّمان عجيبة

ضرط ابن وهب ثمّ وقعة (2) صاعد فاستبرد ما أتى به فقال أبو مروان الكاتب الجزيري: هلا قلت:

سروري بغرّتك المشرقه

وديمة راحتك المغدقه

ثناني نشوان حتى غرق

ت في لجة البركة المطبقه

لئن ظلّ عبدك فيها الغريق

فجودك من قبلها أغرقه فقال له المنصور: لله درك يا أبا مروان، قسناك بأهل بغداد ففضلتهم، فبمن نقيسك بعد انتهى. وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد (3) : وفد على المنصور نجماً من المشرق غرب، ولساناً عن العرب، وأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاماً، وسحابه جهاماً، من رجل يتكلم بملء فيه، ولا يوثق بكل ما يذره، ولا ما يأتيه، انتهى باختصار.

وأصل صاعد من ديار الموصل، وقال ارتجالاً وقد عبث المنصور بترنجان:

لم أدر قبل ترنجانٍ عبثت به

أن الزمرد أغصانٌ وأوراق

(1) انظر الذخيرة 4 / 1: 23.

(2)

الذخيرة: زلقة.

(3)

الذخيرة 4 / 1؛ وبدائع البدائه 2: 31.

ص: 95

من طيبه الأترجّ نكهته

يا قوم حتى من الأشجار سرّاق

كأنّما الحاجب المنصور علّمه

فعل الجميل فطابت منه أخلاق وقدمه الحجازي بقوله:

كأن إبريقنا والرّاح في فمه

طيرٌ تناول ياقوتاً بمنقار وقبله:

وقهوة من فم الإبريق صافية

كدمع مفجوعة بالإلف معبار (1) وقال في بدائع البدائه (2) : دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب، فملأ الساقي قدحاً من إبريق، فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر، فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال:

وقهوة من فم الإبريق ساكبة

البيتين.

ثم قال بعدهما: وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي (1) :

كأنّ ريح الروض لمّا أتت

فتت علينا مسك عطّار

كأنّما إبريقنا طائر

يحمل ياقوتاً بمنقار انتهى.

(1) ق: مغيار.

(2)

بدائع البدائه 2: 32.

(1)

ق: مغيار.

ص: 96

ومن نظم صاعد:

قلت له والرقيب يعجله

مودعاً للفراق: أين أنا

فمدّ كفاً إلى ترائبه

وقال: سر وداعاً فأنت هنا وقال صاعد، لما أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس:

إنّي لأستحيي علا

ك من ارتجال القول فيه

من ليس يدرك (1) بالرويّ

ة كيف يدرك بالبديه وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول: ما هجيت بشيء أشد علي منهما:

اقبل هديت أبا العلاء نصيحتي

بقبولها وبواجب الشكر

لا تهجونّ أسنّ منك فربما

تهجو أباك وأنت لا تدري نعوذ بالله من لسان الشعراء، وأنواع البلاء، بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن نظم صاعد قوله (2) :

بعثت إليك من خيريّ روضٍ

محرّمة (3) كأوراق العقيق

توكل بالغروب (4) عن التصابي

وتصطاد الخليع من الطريق وروى صاعد عن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، وأبي علي

(1) ق: يحسن.

(2)

الذخيرة 4 / 1: 12.

(3)

كذا في ق وأصل الذخيرة وجعلها دوزي: " محزمة ".

(4)

كذا ولعل الصواب: بالعزوف، أي العازف عن التصابي، كما ثبت في الذخيرة.

ص: 97

الحسن بن أحمد الفارسي، وأبي بكر ابن مالك القطيعي، وأبي سليمان الخطابي، وغيرهم.

قال الحميدي (1) : خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلية، فمات بها قريباً من سنة عشر وأربعمائة.

وقال ابن حزم (2) : توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.

وقال ابن بشكوال في حقه: إنه يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده، عفا الله تعالى عنه؛ وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة 380، فأكرمه المنصور، وزاد في الإحسان إليه، والإفضال عليه، وكان عالماُ باللغة والآداب والأخبار، سريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، فكه المجالسة.

وقال بعضهم (3) : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه مبرمان (4) بن يزيد يذكر فيه القلب والتزبيل، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها (5)، فقال له: يا أبا العلاء، قال: لبيك يا مولانا، فقال: هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والزوالبة لمبرمان ابن يزيد قال: إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر ابن دريد بخط ككراع النمل، في جوانبها [علامات الوضاع] (6) فقال له: أما تستحي أبا العلاء من هذا الكذب هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا، فجعل يحلف له أنه ما كذب، ولكنه أمر وافق. ومات عن سن عالية، رحمه الله تعالى.

(1) الجذوة: 227.

(2)

نقله أيضا ابن بشكوال في ترجمة صاعد ص: 232.

(3)

راجع الجذوة: 224 والذخيرة 4 / 1: 20.

(4)

في الذخيرة: ميدمان.

(5)

الحميدي: وهما عندهم من معاناة الأرض قبل زراعتها.

(6)

زيادة من الجذوة والذخيرة.

ص: 98

60 -

ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي (1) ، ولد سنة 572، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم، فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري، قال: سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئاً من تصانيف المغاربة، وروى لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف ابن إبراهيم بن قرقول، وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب (2) الفقيه ابن أبي تميم، قال: وأنشدني:

اسمع أخيّ نصيحتي

والنصح من محض الديانه

لا تقربنّ إلى الشّها

دة والوساطة والأمانه

تسلم من أن تعزى لزو

رٍ أو فضولٍ أوخيانه وذكر أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغربية والأحوال العجبية، قال: أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين، ومهما حصل عنده مال فرقه في الحال، وتركته في سنة ثمان وتسعين حياً يرزق، انتهى. وولي الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين ابن الخطيب، ومحله مقصود

(1) هو أبو أحمد عبد الله عمر بن محمد بن حمويه تاج الدين شيخ الشيوخ (- 642) كان مفتنا في العلوم عارفا بالأصلين والفروع والترسل والتواريخ والهندسة والطب، وله كتاب المؤنس في أصول الأشياء، وأمال وتواريخ كثيرة، بقي في المغرب بعد وفاة يعقوب المنصور، وعاد إلى الشام سنة 600 وحج سنة 604، وكان نزها عفيفا شريف النفس. (راجع ترجمته في مرآة الزمان: 748 - 749 وذيل أبي شامة: 174 والشذرات: 5: 214) .

(2)

الروض

بالمغرب: سقطت هذه العبارة من ق.

ص: 99

لقضاء الحاجات، وقد زرته مراراً عديدة سنة 1010.

وقال لسان الدين في " نفاضة الجراب ": كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ونحن بفاس يخاطب الضريح المقصود، والمنهل المورود، والمرعى المنتجع، والخوان الذي يكفي الغرثى، ويمرض المرضى، ويقوت الزمنى، ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به، وجبر حالنا، وأعاد علينا النعم، ودفع عنا النقم:

يا وليّ الإله أنت جوادٌ

وقصدنا إلى حماك المنيع

راعنا الدّهر بالخطوب فجئنا

نرتجي من علاك حسن الصّنيع

فمددنا لك الأكفّ نرجّي

عودة العزّ تحت شملٍ جميع

قد جعلنا وسيلةً تربك الزا

كي وزلفى إلى العليم السميع

كم غريبٍ أسرى إليك فوافى

برضىً عاجلٍ وخيرٍ سريع يا ولي الله جعل جاهه سبباً لقضاء الحاجات، ورفع الأزمات، وتصريفه باقياً بعد الممات، وصدق نقول الحكايات ظهور الآيات، نفعني الله بنيتي في بركة تربك، وأظهر علي أثر توسلي بك إلى الله ربك، مزق شملي، وفرق بيني وبين أهلي، وتعدي علي، وصرفت وجوه المكايد إلي، حتى أخرجت من وطني وبلدي، ومالي وولدي، ومحل جهادي، وحقي الذي صار لي طوعاً عن آبائي وأجدادي، عن بيعة لم يحل عقدتها الدين، ولا ثبوت جرحة تشين، وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك، فالتمس لي قبوله بقبولك، وردني إلى وطني على أفضل حال، وأظهر علي كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق، إلى جميع الخلق، والسلام عليك أيها الولي الكريم، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم، ورحمه الله، انتهى.

رجع - والسرخسي المذكور قال في حقه بعض الأئمة: إنه الشيخ الإمام

ص: 100

شيخ الشيوخ، تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه، له رحلة مغربية، انتهى.

وهو من بيت كبير، وقال البدري في تاريخه في حقه ما صورته: تاج الدين، شيخ الشيوخ بدمشق، أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول الأشياء، وله " السياسة الملوكية " صنفها للملك الكامل محمد، وغير ذلك، وسمع الحديث، وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل: لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، وقدم مصر، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين ابن حمويه، انتهى.

وقال غيره: إنه كان فاضلاً متواضعاً نزهاً حسن الاعتقاد، قال أبو المظفر: كان يحضر مجالسي، وأنشدني يوماً:

لم ألق مستكبراً إلا تحوّل لي

عند اللقاء له الكبر الذي فيه

ولا حلا لي من الدنّيا ولذّتها

إلاّ مقابلتي للتيه بالتيه وقال السرخسي المذكور في رحلته: إني وإن كنت خراساني الطينة، لكني شامي المدينة، وإ، كانت العمومة من المشرق، فإن الخؤولة من المغرب، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار، وذلك في حال ريعان الشباب الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها، والجوارح بخفة حركاتها وانبساطها، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته، ثم سرت منه إلى الديار المصرية، وهي آهلة بكل ما تتجمل به البلاد وتزدهي، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين

ص: 101

أبي يوسف يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فاتصلت بخدمته، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها، ويتكلم في الفقه كلاماً بليغاً، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى، وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر، وقد شرحت أحوال سيرته، وما جرى في أيام دولته، في كتاب التاريخ المسمى " عطف الذيل ". وقد صنف كتاباً يجمع فيه متون أحاديثٍ صحاح تتعلق بالعبادات سماه " الترغيب ". وتهدده ملك الإفرنج الفنش في كتابه فمزقه، وقال لرسوله:" ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنودٍ لا قبل لهم بها، ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون " إن شاء الله تعالى، ثم قال للكاتب: اكتب على هذه القطعة، يعني من كتابه الذي مزقه: الجواب ما ترى لا ما تسمع:

فلا كتب إلا المشرفّية والقنا

ولا رسلٌ إلا الخميس العرمرم (1) ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب، وهي:

يا أيها الراكب المزجي مطيّته

على عذافرة تشقى بها الأكم

بلّغ سليماً على بعد الديار بها

بيني وبينكم الرحمن والرّحم

يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت

واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا

كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم

من القرون فبادت دونها الأمم

حاشا الأعارب أن ترضى بمنقصةٍ

يا ليت شعري هل ترآهم علموا

يقودهم أرمنيٌّ لا خلاق له

كأنه بينهم من جهلهم علم يعني بالأرمني قراقوش مملوك بني أيوب الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب

(1) ورد هذا الجواب ي الحلل الموشية: 30 ولكنه منسوب هناك ليوسف بن تاشفين وكذلك قال ابن عبد الغفور في أحكام صنعة الكلام ص: 164؛ والبيت للمتنبي.

ص: 102

الأدنى، وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللمتوني، وحديثه مشهور (1)، وتمام الأبيات:

الله يعلم أنّي ما دعوتكم

دعاء ذي قوّةٍ يوماً فينتقم

ولا لجأت لأمرٍ يستعان به

من الأمور وهذا الخلق قد علموا

لكن لأجزي رسول الله عن نسبٍ

ينمى إليه وترعى تلكم الذّمم

فإن أتيتم فحبل الوصل متصلٌ

وإن أبيتم فعند السيف نحتكم ثم قال السرخسي: وبلغني أن قوماً من الغرباء قصدوه، ومعهم حيوانات معلمة منها أسد وغراب، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس، ويربض بين يديه، وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه، وأما الغراب فكان يقول: النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

أنس الشبل ابتهاجاً بالأسد

ورأى شبه أبيه فقصد

أنطق الخالق مخلوقاته

شهدوا والكلّ بالحقّ شهد

أنّك الخيرة من صفوته

بعدما طال على الناس الأمد فأعطاهم وكساهم، وأحسن حباهم.

وبلغني أن قوماً أتوه بفيلٍ من بلاد السودان هدية، فأمر لهم بصلة، ولم يقبله منهم، وقال: نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل.

وقال لي يوماً: كيف ترى هذه البلاد وأين هي من بلادك الشامية فقلت: يا سيدنا، بلادكم (2) حسنة أنيقة مجملة مكملة، وفيها عيب واحد، فقال: ما هو فقلت: أنها تنسي الأوطان، فتبسم وظهر لي إعجابه

(1) تجد تفصيلا لأعمال قراقوش وابن غانية في رحلة التجاني وتاريخ ابن الأثير وابن خلدون (الجزء السادس) والبيان المغرب (الجزء الثالث) وراجع كتابي " تاريخ ليبيا ": 157 - 194.

(2)

ق: بلاد.

ص: 103

بالجواب، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان.

وحدثني بعض عمالهم أنه فرق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز.

ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكان قد استخلف ولده محمداً وقرر الأمر له، انتهى.

قلت: بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أن يعقوب المنصور هذا تخلى عن الملك، وفر زاهداً فيه إلى المشرق، وأنه دفن بالبقاع، لأن هذه مقالة عامية لا يثبتها علماء المغرب، وسبب هذه المقالة تولع العامة به، فكذبوا في موته، وقالوا: إنه ترك الملك، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه (1) : إن بعض الناس يزعمون أن المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق، وهذا كلام لا يصح، ولا أصل له. انتهى. وقال في " المغرب ": كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته، وتخرج بين يديه، وتمرس، وهزم الفرنج الهزيمة العظيمة، وتولع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب، وقتل على السكر، انتهى.

وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه " رقم الحلل في نظم الدول " أن المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما براً في عمله، والآخر بحراً في علمه، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور، فلما اختبرهما لم يجدهما كما وصف، فكتب إلى الآتي بهما " ظهر الفساد في البر والبحر "، انتهى. وناهيك

(1) نص ما أورده الشريف الغرناطي (رفع الحجب: 2: 155)" وكذب الكافة من العامة بوفاته فآونة يجعلونه يرابط ببلاد الأندلس مستكتما بها، وتارة يقولون إنه خرج زاهدا في الملك فتوجه نحو بيت الله وجاور في المدينة عند قبر رسول الله (ص) حيث يخفي أمره، ولهم في ذلك حكايات يقولونها إلى الآن، كلها تخرص وأباطيل "، وانظر البيان المغرب 3: 211 (ط. تطوان) .

ص: 104

بهذا دلالةً على قوة فطنته ومعرفته، رحمه الله تعالى.

رجع إلى أخبار السرخسي:

وقال في رحلته لما ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي (1)، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها: اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد، فرأيته شيخاً بهي المنظر، حسن المخبر، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية، ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله: نحن نتجاور بالإحسان، وإن تخالفنا في الأديان، ونتفق على السيرة المرضية، ونتألف على الرفق بالرعية، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة، والجور لا تعانيه إلا النفوس الشريرة الجاهلة، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده، وتردد الجلابة إلى البلد مفيد لسكانها، ومعين على التمكن من استيطانها، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله، ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله، والسلام.

ووقع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه: قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شر الاختيار وعدم الاختبار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار.

ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب (2) :

(1) أبو الربيع الموحدي سليمان بن عبد الله (- 604) ، ولي بجاية، وشارك في بعض الأعمال الحربية ضد ابن غانية بتونس؛ وقال الشقندي فيه إنه من مفاخر بني عبد المؤمن، كان قديرا على النظم حافظا للآداب، وله ديوان شعر (انظر الغصون اليانعة: 131 - 134) ويبدو أن قسما من هذا الشعر قد نحله إياه أحد كتابه (المعجب: 378) .

(2)

هي في ديوانه ص 20 (ومخطوطة الرباط من ديوانه: الورقة 157) قالها يهنئ الخليفة أبا يوسف بفتح قفصة سنة 583.

ص: 105

هبّت بنصركم الرياح الأربع

وجرت بسعدكم النجوم الطّلّع

واستبشر الفلك الأثير تيقناً

أن الأمور إلى مرادك ترجع

وأمدّك الرحمن بالفتح الذي

ملأ البسيطة نوره المتشعشع

لم لا وأنت بذلت في مرضاته

نفساً تفدّيها الخلائق أجمع

ومضيت في نصر الإله مصمّماً

بعزيمةٍ كالسيف بل هي أقطع

لله جيشك والصوارم تنتضى

والخيل تجري والأسنّة تلمع

من كلّ من تقوى الإله سلاحه

ما إن له غير التوكّل مفزع

لا يسلمون إلى النوازل جارهم

يوماً إذا أضحى الجوار يضيّع ومنها يصف انهزام العدو:

إن ظنّ أن فراره منجٍ له

فبجهله قد ظنّ ما لا ينفع

أين المفرّ ولا فرار لهاربٍ

والأرض تنشر في يديك وتجمع

أخلفية الله الرضى هنّيته

فتحٌ يمدّ بما سواه (1) ويشفع

فلقد كسوت الدين عزّاً شامخاً

ولبست منه أنت ما لا يخلع

هيهات سرّ الله أودع فيكم

والله يعطي من يشاء ويمنع

لكم الهدى لا يدّعيه سواكم

ومن ادعاه يقول ما لا يسمع

إن قيل من خير الخلائق كلّها

فإليك يا يعقوب تومي الإصبع

إن كنت تتلو السابقين فإنّما

أنت المقدّم والخلائق تبّع

خذها أمير المؤمنين مديحةً

من قلب صدقٍ لم يشنه تصنّع

واسلم أمير المؤمنين لأمةٍ

أنت الملاذ لها وأنت المفزع

فالمدح منّي في علاك طبيعةٌ

والمدح من غيري إليك تطبّع

وعليك يا علم الهداة تحيةٌ

يفنى الزمان وعرفها يتضوّع

(1) الديوان: بمثله.

ص: 106

قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني: دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصرسجلماسة، وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة، وهو ينكت الأرض بقضيب من الآبنوس، ويقول:

ولا غرو أن كانت رؤوس عداته

جواباً إذا كان السيوف رسائله ومات بعد الستمائة، رحمه الله تعالى، انتهى.

وقال لما هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغز (1) من بلاد المشرق، ونزلوا بتمرتانسقت ظاهر مراكش، واستأذنوا في وقت الدخول، فكتب إلى المنصور (2) :

يا كعبة الجود التي حجّت لها

عرب الشآم وغزّها والدّيلم

طوبى لمن أمسى يطوف بها غداً

ويحلّ بالبيت الحرام ويحرم

ومن العجائب أن يفوز بنظرةٍ

من بالشآم ومن بمكّة يحرم فعفا عنه، وأحسن إليه، وأمره بالدخول بهم، والتقدم عليهم.

وقال في " المغرب " في حق السيد أبي الربيع المذكور، ما ملخصه (3) : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده، وكان تقدم على مملكتي سجلماسة وبجاية، وكان كاتباً شاعراً أديباً ماهراً، وشعره مدون، وله ألغاز،

(1) الغز: فريق من الجيش الذي كان يلتف حول شرف الدين قراقوش وفيه عناصر تركية في الأغلب وردوا المغرب حوالي 582 أو التي بعدها، فأكرمهم الخليفة الموحدي وجعل لهم جامكية شهرية لا تختل (انظر المعجب: 365 - 367) حين رتبهم في جيشه، وقد نوه المنصور بالغز في وصيته حين قال:" وهؤلاء الأغزاز أمرنا لهم بهذه البركة يأخذونها فاتركوها على ما رتبنا وربطنا لأن الموحدين لهم سهام يرجعون إليها وليس للأغزاز سهام "(البيان 3: 208 " ط. تطوان) .

(2)

لم ترد في ديوانه: 144.

(3)

لم ترد هذه الترجمة في المغرب.

ص: 107

وهو القائل في جارية اسمها ألوف (1) :

خليليّ قولا أين قلبي ومن به

وكيف بقاء المرء من بعد قلبه

ولو شئتما إسم الذي قد هويته

لصحّفتما أمري لكم بعد قلبه (2) وله الأبيات المشهورة التي منها (3) :

أقول لركب أدلجوا بسحيرة

قفوا ساعة حتى أزور ركابها

وأملأ عيني من محاسن وجهها

وأشكو إليها أن طالت عتابها

فإن هي جادت بالوصال وأنعمت

وإلا فحسبي أن رأيت قبابها وقال يخاطب ابن عمه يعقوب المنصور (4) :

فلأملأن الخافقين بذكركم

ما دمت حيّاً ناظماً ومرسّلاً

ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا

جهد المقلّ وما عسى أن أفعلا

ولأخلصنّ لك الدعاء، وما أنا

أهلٌ له، ولعلّه أن يقبلا وله مختصر كتاب " الأغاني " انتهى.

رجع - وذكر السرخسي أيضاً في رحلته السد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن، وقال في حقه: إنه كان من أهل الأدب والطرب، ولي بجاية مدة، ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذه، أنشدني محمد ابن سعيد المهدوي كاتبه قال: كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده، ويطلب منه ما يقضي به ديونه:

(1) الديوان: 117.

(2)

أمره هو الفعل " قولا " في البيت الأول، وتصحيفه بعد قلبه هو " ألوف ".

(3)

الديوان: 49.

(4)

الديوان: 39.

ص: 108

وجوه الأماني بكم مسفره

وضاحكةٌ لي مستبشره

ولي أملٌ فيكم صادقٌ

قريبٌ عسى الله قد يسّره

عليّ ديون وتصحيفها

وعندكم الجود والمغفره يعني ذنوب.

وحدثني الشيخ أبو الحسن ابن فشتال (1) الكاتب وقد أنشدته:

أوحشتني ولو اطّلعت على الذي

لك في ضميري لم تكن لي موحشا فقال: أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن، فقال ولمن حضر: هل تعرفون لهذا البيت ثانياً فما فينا من عرفه، فأنشدنا:

أترى رشيت على اطّراح مودتي

ولقد عهدتك ليس تثنيك الرّشا أوحشتني - البيت، انتهى.

وقال في " المغرب " في حق السيد المذكور، ما ملخصه: كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية، وله حكايات في الجود برمكية، ونفس عالية زكية، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة (2) :

اليوم يوم الجمعة

يوم سرورٍ ودعه

وشملنا مفترقٌ

فهل ترى أن نجمعه فأجابه بقوله:

اليوم يوم الجمعة

وربّنا قد رفعه

والشرب فيه بدعةٌ

فهل ترى أن ندعه

(1) ق: قشتال.

(2)

ديوان أبي الربيع: 137.

ص: 109

قال: ولفظة " السيد " في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي، انتهى.

رجع - قال السرخسي، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس: وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره:

ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم

وترجو نداهم غاديات السحائب

يخطّون بالخطّيّ في حومة الوغى

سطور المنايا في نحور المقانب

كتاباً بأطراف العوالي ونقسه

دم القلب مشكولاً بنضج الترائب

وما كنت أدري قبلهم أنّ معشراً

أقاموا كتاباً من نفوس الكتائب وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال: أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن:

فديت من أصبحت في أسره

وليس لي من حكمه فادي

إن حلّ يوماً وادياً كان لي

جنّة عدن ذلك الوادي ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة.

ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى:

يا ساهر المقلة لاعن كرىً

غفلت عن هجعي وأوصابي

لو لم يكن وجهك لي قبلةً

ما أصبح الحاجب محرابي وكان متفنناً في العلوم، وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته، ومن مصنفاته " المسالك والممالك " و " عطف الذيل " في التاريخ، وله أمالٍ وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة، وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع، وكان عالي الهمة

ص: 110

شريف النفس، قليل الطمع، لا يلتفت إلى أحد رغبة قي دنياه، لا من أهله ولا من غيرهم، وذكره صاحب " المرآة " وغيره، وترجمته واسعة، رحمه الله تعالى.

61 -

ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي (1) ، سكن قرطبة، وكان من رؤساء الوراقين المعروفين بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة، لما علم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها، وقد أشار ابن حيان في كتاب " المقتبس " إلى ظفر هذا، رحمه الله تعالى.

62 -

ومنهم الرازي، وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط، الكناني، الرازي (2) ، والد أبي بكر أحمد بن محمد صاحب التاريخ، غلب عليه اسم بلده، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجراً، وكان مع ذلك متقناً (3) في العلوم، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة، في شهر ربيع الآخر سنة 273، ذكره ابن حيان في " المقتبس ".

63 -

ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز ابن الحارث بن أسد بن ليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي، الدرامي، البغدادي (4) ، سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص (5)

(1) ترجمة ظفر الوراق في التكملة: 346.

(2)

انظر ترجمته في التكملة: 670.

(3)

التكملة: مفتنا.

(4)

ترجمة أبي الفضل البغدادي في الجذوة: 68 (وبغية الملتمس رقم: 209) والذخيرة 4 / 1: 67 - 92 وفيه تفصيل رحلته وتقلبه في البلاد.

(5)

في الجذوة: سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص جزءين، وقد يوهم أن " المخلص اسم كتاب، وعند حاجي خليفة " المخلصيات " من حديث أبي طاهر لابن العباس ابن مخلص الذهبي. (ص 1639) .

ص: 111

وغيره، وخرج من بغداد رسولاً عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي رضي الله تعالى عنه إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس، واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرة، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب، فقبل عينيه، وقال له: لله أنت من ناظم، وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب، وخيم عند المأمون ابن ذي النون بطليطلة (1) ، وله فيه أمداح كثيرة، ومن فرائد شعره قوله (2) :

يا ليل ألاّ انجليت عن فلق

طلت ولا صبر لي على الأرق

جفا لحاظي (3) التغميض فيك فما

تطبق أجفانها (4) على الحدق

كأنني صورةٌ ممثّلةٌ

ناظرها الدّهر غير منطبق وقال:

يزرع ورداً ناضراً ناظري

في وجنة كالقمر الطالع

أمنع أن أقطف أزهاره

في سنّة المتبوع والتّابع

فلم منعتم شفتي قطفها

والحكم أن الزرع للزارع هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد كتيلة (5) ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهاب.

قلت: وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله:

سلّمت أنّ الحكم ما قلتم

وهو الذي نصّ عن الشارع

(1) كان دخوله طليطلة يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 454.

(2)

الذخيرة: 75.

(3)

الذخيرة: جفوني.

(4)

الذخيرة: تسبل أشفارها.

(5)

في ق: وأبو كيلة، وقد اضطربت في النسخ بين: كتيلة، كثيلة، كتبلة، كما جاء موضعها

ص: 112

فكيف تبغي شفةٌ قطفه

وغيرها المدعوّ بالزارع ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله:

في ذا الذي قد قلتم مبحثٌ

إذ فيه إيهامٌ على السامع

سلّمتم الحكم له مطلقاً

وغير ذا نصّ عن الشارع يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه.

وأجاب بعض الحنفية بقوله:

لأنّ أهل الحبّ في حكمنا

عبيدنا في شرعنا الواسع

والعبد لا ملك له عندنا

فحقّه للسيّد المانع وهو جواب حسن لا بأس به.

ورأيت جواباً لبعض المغاربة على غير روية، وهو:

قل لأبي الفضل الوزير الذي

باهى به مغربنا الشرق

غرست ظلماً وأردت الجنى

وما لعرق ظالم حقّ قلت: وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدرامي المذكور في الذخيرة، لا للقاضي عبد

الوهاب، والله تعالى أعلم.

ومن شعر الوزير المذكور قوله:

بين كريمين منزلٌ واسع

والودّ حالٌ تقرّب الشاسع

والبيت إن ضاق عن ثمانيةٍ

متسعٌ بالوداد للتاسع وولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو من بيت علم وأدب، قال الحميدي: أخبرني بذلك أبو عمر (1) رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز

(1) الجذوة: أبو محمد.

ص: 113

ابن الحارث، وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقال ابن حيان: توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون، وذكر أنه كان يتهم بالكذب، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.

وقال ابن ظافر في كتابه " بدائع البدائه "(1) ما نصه: أبو الفضل الدرامي البغدادي مجلس المعز بن باديس، وبالمجلس ساقٍ وسيم قد مسك عذاره ورد خديه، وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه، فأمر المعز بوصفه، فقال بديهاً:

ومعذّرٍ نقش الجمال بمسكه

خدّاً له بدوم القلوب مضرّجا

لما تيقّن أن سيف جفونه

من نرجسٍ جعل العذار بنفسجا وقوله في جارية تبخترت بالند (2) :

ومحطوطة المتنين مهضومة الحشا

منعّمة الأرداف تدمى من اللمس

إذا ما دخان الند من جيبها علا

على وجهها أبصرت غيماً على شمس وقوله (3) :

لأغرّرنّ بمهجتي في حبّه

غرراً يطيل مع الخطوب خطابي

ولئن تعزز إنّ عندي ذلّةً

تستعطف الأعداء للأحباب وقوله (4) :

(1) بدائع البدائه 2: 40 وانظر الذخيرة 4 / 1: 73.

(2)

الذخيرة: نفس الصفحة.

(3)

الذخيرة: 74.

(4)

الذخيرة: 75.

ص: 114

دعتني عيناك نحو الصبا

دعاء يكرر في كلّ ساعه

ولولا وحقّك عذر المشيب

لقلت لعينيك سمعاً وطاعه وقد تمثل بهذين البيتين لسان الدين ابن الخطيب في خطبة تأليفه المسمى ب " روضة التعريف

بالحب الشريف ".

وقال أبو الفضل الدرامي المذكور أيضاً (1) :

سطا الفراق عليهم غفلةً فغدوا

من جوره فرقاً من شدّة الفرق

فسرت شرقاً وأشواقي مغرّبةٌ

يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي

لولا تدارك دمعي يوم كاظمةٍ

لأحرق الركب ما أبديت من حرق

يا سارق القلب جهراً غير مكترثٍ

أمنت في الحبّ أن تعدى على السّرق

أرمق بعين الرضى تنعش بعاطفةٍ

قبل المنيّة ما أبقيت (2) من رمقي

لم يبق مني سوى لفظٍ يبوح بما

ألقى فيا عجباً للّفظ كيف بقي

صلني إذا شئت أو فاهجر علانيةً

فكلّ ذلك محمولٌ على الحدق وقال (3) :

تذكّر نجداً والحمى فبكى وجدا

وقال: سقى الله الحمى وسقى نجدا

وحيّته (4) أنفاس الخزامى عشية

فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا

فأظهر سلواناً وأضمر لوعةً

إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا

ولو أنّه أعطى الصبابة حكمها

لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى

(1) الذخيرة: 84.

(2)

الذخيرة: ما أوهيت.

(3)

الذخيرة: 78.

(4)

في ق: وخفة؛ والتصويب عن الذخيرة.

ص: 115

وقال أيضاً (1) :

قلت للملقي على الخ

دين من وردٍ خمارا

أسبل الصّدغ على خ

دّك من مسكٍ عذارا

أم أعان الليل حتّى

قهر الليل النهار

قال: ميدانٌ جرى الحس

ن عليه فاستدارا

ركضت فيه عيونٌ

فأثارته غبارا وقال (2) :

وكاتبٍ أهديت نفسي له

فهي من السوء فدا نفسه

فلست أدري بعد ما حلّ بي

بمسكه أتلف أم نقسه

سلّط خدّيه على مهجتي

فاستأصلتها وهي من غرسه وقال:

وشادنٍ أسرف في صدّه

وزاد في التيه على عبده

الحسن قد بثّ على خدّه

بنفسجاً يزهو على ورده

رأيته يكتب في طرسه

خطّاً يباري الدّرّ من عقده

فخلت ما قد خطّه كفّه

للحسن قد خطّ على خدّه وقال:

إنّي عشقت صغيراً

قد دبّ فيه الجمال

وكاد يفشي حديث ال

فضول منه الدّلال

لو مرّ في طرق الهج

ر لاعتراه ضلال

(1) الذخيرة: 77.

(2)

وردت سائر القطع في الذخيرة، فلا حاجة إلى إثبات ذلك عند كل قطعة.

ص: 116

يريك بدراً منيراً

في الحسن وهو هلال وقال:

ظبيٌ إذا حرّك أصداغه

لم يلتفت خلقٌ إلى العطر

غنّى بشعري منشدا ًليتني الل

فظ الذي أودعته شعري

فكلّما كرّر إنشاده

قبّلته فيه ولم يدر وقال:

أينفع قولي إنّني لا أحبّه

ودمعي بما يمليه وجدي يكتب

إذا قلت للواشين لست بعاشقٍ

يقول لهم فيض المدامع يكذب وقال:

وهبني قد أنكرت حبّك جملةً

وآليت أنّي لا أروم محطّها

فمن أين في الحبّ جرح شهادةٍ

سقامي أملاها ودمعي خطّها وقال:

أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ين

شط من حبّه عقال وثاقي

فأريح الفؤاد ممّا اعتراه

وأردّ الهوى على العشّاق وقال:

كلانا لعمري ذائبان (1) من الهوى

فنارك من جمرٍ وناري من هجر

فأنت على ما قد تقاسين من أذىً

فصدرك في نارٍ وناري في صدري

(1) الذخيرة: ذو بيان.

ص: 117

وقال:

ومن عجب العشق أن القتيل

يحنّ ويصبو إلى القاتل وقال:

ألم أجعل مثار النقع بحراً

على أنّ الجياد له سفين وقال:

أصبحت أحلب تيساً لا مدرّ له

والتيس من ظنّ أن التيس محلوب وأما الحكيم أبو محمد المصري وهو القائل (1) :

رعى الله دهراً قد نعمنا بطيبه

لياليه من سمش الكؤوس أصائل

ونرجسنا درٌ على التبر جامدٌ

وخمرتنا تبرٌ على الدرّ سائل فقد ترجمه في " الذخيرة " فليراجع، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية.

وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به، فخلفته هنالك، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر، فقيل له " المصري " لذلك، فليعلم، والله تعالى أعلم.

64 -

ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني. قال ابن سعيد: أنشدنا لما وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه:

طاب الصّبوح لنا فهاك وهات (2)

وادعاها، وفيها:

(1) هو أبو محمد عبد الله بن خليفة المصري، ترجم له ابن بسام في الذخيرة في قسم الغرباء الطارئين على الأندلس بعد ترجمة ابن حميدس (في القسم الذي لم يطبع بعد) وانظر 4 / 1: 69 - 105، وقد ذمه ابن حيان دون أن يذكر اسمه ص:109.

(2)

عجزه: واشرب هنيئا يا أخا اللذت (الفوات 2: 147) .

ص: 118

في روضة غنّا تخال طيورها

وغصونها همزاً على ألفات ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه، انتهى.

65 -

ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك (1) ، وهومذكور في الذخيرة، وكان حلو الجواب، مليح التندر، يضحك من حضرن ولا يضحك هو إذا ندر، وكان قصيراً دميماً، قال: ورأيته يوماً وقد لبس طاقاً أحمر على بياض، وفي رأسه طرطور أخضر، عمم عليه عمة لازوردية، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعراً قال فيه:

وأنت سليمان في ملكه

وبين يديك أنا الهدهد وأنشد له في المعتمد:

أبا القاسم الملك المعظّم قدره

سواك من الأملاك ليس يعظّم

لقد أصبحت حمصٌ بعدلك جنةً

وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم

ولي بحياك الريع عاماً وأشهراً

أزخرف أعلام الثناء وأرقم

وأنفقت ما أعطيتني ثقةً بما

أؤمّل فالدينار عندي درهم

وقلبي إلى بغداد يصبو وإنّني

لنشر صباها دائماً أتنسّم وقال:

وذرّى على ربع العقيق دموعه

عقيقاً ففيها توأمٌ وفريد

شهدت وما تغني شهادة عاشقٍ

بأن قتيل الغانيات شهيد ومنها:

(1) راجع فهرست الذخيرة 1 / 1: 19 وهو في القسم الذي لم يطبع بعد، في تراجم الغرباء الطارئين على الأندلس.

ص: 119

إذا قابلوه قبّلوا ترب أرضه

وهم لعلاه ركّعٌ وسجود

وقد هزّ منه الله للملك صارماً

تقام بحدّي شفرتيه حدود وقال:

لأيّة حالٍ حال عن سنة الكرى

ولم أصغي وماً في هواه إلى العذل ومنها:

كأنّ بقاء الطّلّ فوق جفونها

دموع التصابي حرن في الأعين النّجل ومنها:

تملّكت رقّي بالعوارف منعماً

وأغنيتني بالجود عن كلّ ذي فضل

وأنسيتني أرض العراق ودجلةً

وربعي حتى ما أحنّ إلى أهلي وقال في المقتدر بن هود:

لعزّك ذلّت ملوك البشر

وعفّرت تيجانهم في العفر

وأصبحت أخطرهم بالقنا

وأركبهم لجود الخطر

سهرت وناموا عن المأثرات

فما لهم في المعالي أثر

وجلّيت في حيث صلّى الملوك

فكلٌّ بذيل المنى قد عثر ومنها:

وأنتم ملوكٌ إذا شاجروا

أظلّتهم من قناهم شجر وقال الفكيك من قصيدة:

غنّى حسامك في أرجاء قرطبةٍ

صوتاً أباد العدى والليل معتكر

حيث الدماء مدامٌ والقنا زهرٌ

والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا

ص: 120

وكان مشهوراً بالهجاء، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدة:

بلع الأمانة فهي في حلقومه

لا ترتقي صعداً ولا تتنزّل وقال ناصر الدولة بن حمدان:

ولئن غلطت بأن مدحتك طالباً

جدواك مع علمي بأنّك باخل

فالدولة الغرّاء قد غلطت بأن

سمّتك ناصرها وأنت الخاذل

إن تمّ أمرك مع يدٍ لك أصبحت

شلاّء فالأمثال شىء باطل ومما ينسب إليه، وقيل لغيره:

ووعدتني وعداً حسبتك صادقاً

فجعلت من طعمي أجيء وأذهب

فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ

قالوا مسيلمةٌ وهذا أشعب 66 - ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي، دخل الأندلس من المشرق في أخريات أيام الحكم شادياً للشعر، وهو من موالي بني أمية، ولم ينفق على الحكم، وتحرك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه، ووصله، ثم في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي العتاهية. ومن شعره ما كتب به إلى الأمير عبد الرحمن:

يا من تعالى من أميّة في الذرى

قدما ًفأصبح عالي الأركان

إن الغمام غياثه في وقته

والغيث من كفّيك كلّ أوان

فالغيث قد عمّ البلاد وأهلها

وظمئت بينهم فبلّ لساني وله في الأمير عبد الرحمن بن الحكم:

ومن عبد شمسٍ بالمغارب عصبةٌ

فأسعدها الرحمن حيث أحلّها

دحا تحتها مهداً من العزّ آمناً

ومدّ جناحاً فوقها فأظلّها

ص: 121

67 -

ومنهم أبو بكر بن الأزرق، وهو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد، وهو الحصني، ابن محمد ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، من أهل مصر، خرج من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وصار إلى القيروان، وامتحن بها مع الشيعة، وأقام محبوساً بالمهدية، ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين، فأحسن إليه المستنصر بالله الحكم، وكان أديباً حكيماً، سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري، وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر، وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعلى.

68 -

ومن الواردين على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع، الملقب بزرياب (1) ، مولى أمير المؤمنين المهدي العباسي، قال في " المقتبس ": زياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطائر أسود غرد عندهم، وكان شاعراً مطبوعاً، وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضاً، وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذاً لإسحاق الموصلي ببغداد، فتلقف من أغانيه استراقاً، وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق، وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه، إلى أن جرى بالرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنٍ غريب مجيد للصنعة، لم يشتهر مكانه إليه، فذكر له تلميذه هذا، وقال: إنه مولىً لكم، وسمعت له نزعات حسنة، ونغمات رائقة ملتاطة بالنفس، إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري، أحدث أن يكون له شأن، وقال الرشيد: هذا طلبتي، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده، فأحضره، فلما كلمه الرشيد أعرب عن نفسه

(1) انظر الجزء الأول من النفح: 344، وقد توفي زرياب سنة 238 قبل وفاة الأمير عبد الرحمن بأربعين يوما (المقتبس: 87 وترجته فيه قد سقطت) ؛ وانظر المغرب 1: 51.

ص: 122

بأحسن منطق وأوجز خطاب، وسأله عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه، مما لا يحسن إلا عندك ولا يدخر إلا لك، فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك، فأمر بإختصار عود أستاذه إسحاق، فلما أدني إليه وقف عن تناوله، وقال: لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو بالباب، فليإذن لي أمير المؤمنين في استدعائه، فأمر بإدخاله إليه، فلما تأمله الرشيد وكان شبيهاً بالعود الذي دفعه قال له: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك فقال: إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي، فقال له:ما أراهما إلا واحداً، فقال: صدقت يا مولاي، ولا يؤدي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثه ورخاوة، وبمها ومثلثها اتخذتهما من مصران شبل أسد، فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها، فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء، فجس، ثم اندفع فغناه:

يا أيّها الملك الميمون طائره

هارون راح إليك الناس وابتكروا فأتم النوبة، وطار الرشيد طرباً، وقال لإسحاق: والله لولا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إياك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه، حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً، فسقط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد ما غلب صبره، فخلا بزرياب وقال: يا علي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فتانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك

ص: 123

فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخير في ثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد ذلك الأيمان الموثقة، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفاً إلي، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك، ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته، وعلم قدرته على ما قال، واختار الفرار قدامه، فأعانه إسحاق على ذلك سريعاً، وراش جناحه، فرحل عنه، ومضى يبغي مغرب الشمس، واستراح قلب إسحاق منه.

وتذكر الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمساً فيه، فأمر إسحاق بحضوره، فقال: ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعد له، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خطبه، فيفزع من رآه، فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال: على ما كان به فقد فتنا منه سرور كثير.

ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره، غذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته، فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه، وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختباره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها وسأله الإذن في الوصول إليه، فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه، فسار زرياب نحوه بعياله وولده، وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم، فهم بالرجوع إلى العدوة، فكان معه منصور

ص: 124

اليهودي المغني رسول الحكم إليه، فثناه عن ذلك ورغبه في قصد القائم مقام الحكم، وهو عبد الرحمن ولده، وكتب إليه بخبر زرياب، فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلعه إليه والسرور بقدومه عليه، وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وأمر خصياً من أكابر خصيانه أن يتلقاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة، فدخل هو وأهله البلد ليلاً صيانةً للحرم، وأنزله في دار من أحسن الدور، وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه، وخلع عليه، وبعد ثلاثة أيام استدعاه، وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتباً، وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه - وكانوا أربعة: عبد الرحمن، وجعفر، وعبيد الله، ويحيى - عشرون ديناراً لكل واحد منهم كل شهر، وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار، منها لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار، وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح، وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار. فلما قضى له سؤله وأنجز موعوده (1) وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه، فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه، فما هو إلا أن سمعه فاستهوله واطرح كل غناء سواه، وأحبه حباً شديداً وقدمه على جميع المغنين، وكان لما خلا به أكرمه غاية الإكرام وأدنى منزلته وبسط أمله، وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به وراقه ما أورده، وحضر وقت الطعام فسرفه بالأكل معه هو وأكابر ولده، ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكاً بما ذكرناه آنفاً، ولما ملك قلبه واستولى عليه حبه فتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده.

وذكر أن زرياباً ادعى أن الجن كانت تعلمه كل ليلة ما بين نوبة إلى

(1) ق: موعده.

ص: 125

صوت واحد، كان يهب من نومه سريعاً فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة، فتأخذان عودهما، ويأخذ هو عوده، فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر ثم يعود عجلاً إلى مضجعه، وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أن الجن طارحته إياه، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.

وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع، فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة، وذلك أن الزير صبغ أصفر اللون، وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد، صبغ الوتر الثاني بعده أحمر، وهو من العود مكان الدم من الجسد، وهو في الغلظ ضعف الزير، ولذلك سمي مثنى، وصبغ الوتر الرابع أسود، وجعل من العود مكان السوداء من الجسد، وسمي البم، وهو أعلى أوتار العود، وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون، وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد، وجعل ضعف المثنى في الغلظ، ولذلك سمي المثلث، فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالعتدال، فالبم حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب، قوبل كل طبع بضده حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه، إلا أنه عطل من النفس، والنفس مقرونة بالدم، فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس، ووضعه تحت المثلث (1) وفوق المثنى، فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع، وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد.

وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، معتاضاً به من مرهف الخشب، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفته على

(1) ق: المثلثة.

ص: 126

الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه.

وكان زرياب عالماً بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها، مع ما سنح له من فك كتاب الموسيقى، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها.

وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوماً به: فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمته مفروقاً وسط الجبين عاماً للصدغين والحاجبين، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، ولإسبالها إلى أصداغهم - حسبما عليه اليوم الخدم الخصية والجواري - هوت إليه أفئدتهم، واستحسنوه. ومما سنه استعمال المرتك المتخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم، ولا شيء يقوم مقامه، وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبلة ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد، فكانوا لا تسلم ثيابهم من وضر، فدلهم على تصعيدها بالملح، وتبييض لونها، فلما جربوه أحمدوه جداً. وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الإسفراج (1) ، ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله. ومما اخترعوه من الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا (2) ، وهو مصطنع بماء الكزبرة

(1) في مفردات ابن البيطار: الاسفزاج، والصواب بالراء المهملة، وهو يقابل (Asparagus) .

(2)

التفايا: عددها صاحب كتاب الطبيخ من بسائط الأطعمة وهي أنواع منها التفايا البيضاء وتحضر من لحم الضأن الفتي السمين في قطع صغار ويضاف إليها ملح وفلفل وكزبرة يابسة ويسير من ماء بصلة مدقوقة ومغرفة من الزيت العذب وماء وتجعل على نار لينة وتحرك، ويجعل فيها بندق ولوز مقشر مقسوم، فإذا اردتها خضراء أضفت إليها ماء الكزبرة الرطبة، ومنها تفايا مبيضة وأخرى مقلية وأنواع منها مشرقية (كتاب الطبيخ 85 - 88، 118 - 119) .

ص: 127

الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب.

ومما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيلة آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرش أنطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقل مسحة، ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونية الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة، ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والرد المسمى عندهم الربيع من مصبغهم جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي، ثياب العامة، وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وذلك عند قرس البرد في الغدوات، إلى أن يقوى البرد فينتقلوا إلى أثخن منها من الملونات، ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء.

واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء قيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأهزاج تبعاً لمراسم زرياب. وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جداً إذا كان قوي الصوت، فإن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة، فإن ذلك مما يقوي الصوت، ولا يجد متسعاً في الجوف

ص: 128

عند الخروج على الفم، فإن كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه، وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته: ياحجام، أو يصيح: آه، ويمد بها صوته، فإن سمع صوته بهما صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب وأشار بتعليمه، وإن وجده خلاف ذلك أبعده.

وكان له من ذكور الولد ثمانية: عبد الرحمن وعبيد الله ويحيى وجعفر ومحمد وقاسم وأحمد وحسن. ومن الإناث ثنتان: علية وحمدونة. وكلهم غنى ومارس الصناعة، واختلفت بهم الطبقة، فكان أعلاهم عبد الله ويتلوه عبد الرحمن، لكنه ابتلي من فرط التيه وشدة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه، وقلما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه، ولا يزال يجترىء على الملوك، ويستخف بالعظماء، ولقد حمله سخفه على أن يحضر يوماً مجلس بغض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره، وكان صاحب قنص تغلب عليه لذته، فاستدعى بازياً كان كلفاً به كثير التذكر له، فجعل يمسح أعطافه ويعدل قوادمه ويرتاح لنشاطه، فسأله عبد الرحمن أن يهبه له، فاستحيا من رده وأعطاه إياه مع ضنه به، فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله، وأسر إليه فيه بسر لم يطلع عليه، فمضى لشأنه، ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضة، فغذا به لون مصوص قد اتخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده لأهله، وذهب إلى الإنتقال عليه في شرابه، وقال لصاحب المجلس: شاركني في نقلي هذا فإنه شريف المركب (1) بديع الصنعة، فلما رآه الرجل أنكر صفته وعاب

(1) ق ودوزي: الموكب؛ والمركب يعني التركيب.

ص: 129

لحمه، وسأله عنه، فقال: هو البازي الذي كنت تعظم قدره، ولا تصبر عنه، قد صيرته إلى ما ترى، فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه وفارقه حلمه وقال له: قد كان والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلا بكبار الناس المؤثرين لمثله، وما أسعفتك به إلا معظماً من قدرك ما صغرت من قدري، وأظهرت من هوان السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهي عنها، ولا أدع والله الآن تأديبك إذ أهملك أبوك معلم الناس المروءة، ودعا له بالسوط وأمر بنزع قلنسوته وساط هامته مائة سوط، فاستحسن جميع الناس فعله وأبوا الشماتة به.

وكان محمد منهم مؤنثاً، وكان قاسمهم أحذاقهم غناء مع تجويده، وتزوج الوزير هشام بن عبد العزيز حمدونة.

وذكر الشاعر أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون، دخلا في أيام الحكم بن هشام، فنفقا عليه، وكانا محسنين، لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه.

وقال عبد الرحمن بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب:

يا عليّ بن نافعٍ يا عليّ

أنت أنت المهذّب اللّوذعيّ

أنت في الأصل حين يسأل عنه

هاشميّ وفي الهوى عبشميّ وقال ابن سعيد: وأنشد لزرياب والدي في معجمه:

علّقتهما ريحانةً

هيفاء عاطرةً نضيره

بين السمينة والهزي

لة والطويلة والقصيره

لله أيامٌ لنا

سلفت على دير المطيره

لاعيب فيها للمتيّ

م غير أن كانت يسيره انتهى.

ص: 130

وكان لزرياب جارية اسمها متعة، أدّبها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبت، وكانت رائعة الجمال، وتصرفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنيه مرة وتسقيه أخرى، فلما فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة، فأبى إلا التستر، فغنته بهذه الأبيات، وهي لها في ظن بعض الحفاظ:

يا من يغطّي هواه

من ذا يغطّي النهارا

قد كنت أملك قلبي

حتى علقت فطارا

يا ويلتا أتراه

لي كان، أو مستعارا

يا بأبي قرشيٌّ

خلعت فيه العذارا فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه فحظيت عنده.

وكانت حمدونة بنت زرياب متقدمة في أهل بيتها، محسنة لصناعتها، متقدمة على أختها علية، وهي زوجة الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مر، وطال عمر علية بعد أختها حمدونة، ولم يبق من أهل بيتها غيرها، فافتقر الناس إليها، وحملوا عنها.

وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء، وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت، وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وكتب به إلى مولاها (1) :

يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد

ما كنت أحسب هذا الضنّ من أحد

لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة

أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد من أبيات، فخرج حافياً لما وقف على ذلك، وأدخله إلى مجلسه، وتمتع من سماعها، رحم الله تعالى الجميع.

(1) انظر الجذوة: 95.

ص: 131

وقال علويه: كنت مع المأمون لما قدم الشام، فدخلنا دمشق، وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية، فدخلنا قصراً مفروشاً بالرخام الأخضر، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقي بستاناً، وفي القصر من الأطيار ما بغني صوته عن العود والمزمار، فاستحسن المأمون ما رأى، وعزم على الصبوح، فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا، ثم قال لي: غن بأطيب صوت وأطربه، فلم يمر على خاطري غير هذا الصوت:

لو كان حولي بنو أميّة لم

ينطق رجال أراهم نطقوا فنظر إلي مغضباً، وقال: عليك لعنة الله وعلى بني أمية، فعلمت أني قد أخطأت، فجعلت أعتذر من هفوتي، وقلت: يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعاً، وفي الحكاية طول واختلاف، ومحل الحاجة منها ما يتعلق بزرياب، رحم الله تعالى الجميع.

وذكرها الرقيق في كتاب " معاقرة الشراب " على غير هذا الوجه، ونصه: وركب المأمون يوماً من دمشق يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جانبها أربع سروات، وكان الماء يدخل سيحاً، فاستحسن المأمون الموضع، ودعا بالطعام والشراب، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأخذ علويه العود واندفع يغني:

أرى أسرتي في كلّ يومٍ وليلةٍ

يروح بهم داعي المنون ويغتدي

أولئك قومٌ بعد عزّ وثروة

تفانوا فإلاّ أذرف العين أكمد فضرب المأمون بكأسه الأرض، وقال لعلويه: يا ابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلا هذا الوقت فقال: مولاكم زرياب عند موالي بالأندلس يركب في مائة غلام، وأنا عندكم بهذه الحالة! فغضب عليه نحو شهر، ثم

ص: 132

رضي عنه، انتهى.

ونحوه لابن الرقيق في كتابه " قطب السرور " وقال في آخر الحكاية: وأنا عندكم أموت من الجوع، ثم قال: وزرياب مولى المهدي، ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله، حتى كان كما قال علويه، انتهى.

ولما غنى زرياب بقوله (1) :

ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني

حمام تداعت في الديار وقوع

تداعين فاستبكين من كان ذا هوى

نوائح ما تجري لهنّ دموع ذيلها عباس بن فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال:

شددت بمحمودٍ يداً حين خانها

زمانٌ لأسباب الرجاء قطوع

بنى لمساعي الجود والمجد قبلةً

إليها جميع الأجودين ركوع وكان محمود جواداً، فقال له: يا أبا القاسم، أعز ما يحضرني من مالي القبة، يعني قبة قامت عليه بخمسمائة دينار، وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه، ونكون في ضيافتك بقية يومنا، ودعا بكسوة فلبسها، ودفع إليه الكسوة.

69 -

ومن الوافدين من المشرق الأمير شعبان بن كوجبا (2) ، من غز الموصل، وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحدين، ورفع له أمداحاً جليلة، وقدمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس.

قال أبو عمران بن سعيد: أنشدني لنفسه:

يقولون إن العدل في الناس ظاهر

ولم أر شيئاً منه سرّاً ولا جهرا

(1) الشعر لذي الرمة في ديوانه: 352.

(2)

ق: كوحيا؛ وقد ذكر عبد الواحد المراكشي " شعبان الغزي " دون أن يذكر اسم أبيه في المعجب 367، وقال إنه سأله أن يكتب من شعره فأبى، وكان ربما يدرت له الأبيات الجيدة.

ص: 133

ولكن رأيت الناس غالب أمرهم

إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا

وإلاّ فما بال النطاسيّ كلّما

شكوت له يمنى يدي فصد اليسرى 70 - ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني (1) ، من أهل بغداد، وسكن القيروان، ويعرف بالرياضي، وكان له سماع ببغداد، من جلة المحدثين والفقهاء والنحويين، لقي الجاحظ والمبرد وثعلباً وابن قتيبة، ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلاً وابن الجهم، ومن الكتاب سعيد ابن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن أبي طاهر وغيرهم، وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم، وكان عالماً أديباً، ومرسلاً بليغاً، ضارباً في كل علم وأدبن سمع وكتب بيده أكثر كتبه، مع براعة خطه وحسن وراقته.

وحكي أنه كتب على كبره كتاب سيبويه كله بقلم واحد، ما زال يبريه حتى قصر، فأدخله في قلم آخر، وكتب به حتى فني بتمام الكتاب.

وله تآليف: منها " لقيط المرجان " وهو أكبر من " عيون الأخبار "، وكتاب " سراج الهدى " في القرآن ومشكلة إعرابه ومعانيه، و " المرصعة " و " المدبجة ".

وجال في البلاد شرقاً وغرباً من خراسان إلى الأندلس، وقد ذكر ذلك في أشعار له.

وكان أديب الأخلاق، نزيه النفس، كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، ثم لإبنه أبي العباس عبد الله، وكان أيام زيادة الله ابن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت الحكمة، وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أول ولاية عبيد الله الشيعي، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وممن ألم بذكره المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق.

وقال عريب بن سعد في حقه: إنه كان أديباً شاعراً مرسلاً حسن التأليف،

(1) ترجمة أبي اليسر الرياضي في التكملة: 173.

ص: 134

وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن، وذكر له معه قصة ذكرها ابن الأبار في كتابه " إفادة الوفادة " وحكى أن له مسنداً في الحديث، وكتاباً في القرآن سماه " سراج الهدى " والرسالة الوحيدة، والمؤنسة، وقطب الأدب، وغير ذلك من الأوضاع. قال: وكتب لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم، ثم كتب لعبيد الله حتى مات، ومن الرواة عنه أبوة سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب، وأسند إليه الحافظ ابن الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال: قرأت شعر حبيب علي أبي الربيع بن سالم، وقرأت جملة منه على غيره، وناولني جميعه وحدثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن ابي القاسم حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي سعيد المذكور، يعني ابن الصيقل، عن أبي اليسر عن حبيب، وهو إسناد غريب، انتهى.

71 -

ومنهم إبراهيم بن خلف بن منصور، الغساني، الدمشقي، أبو اسحاق المعروف بالسنهوري (1) - وسنهور: من بلاد مصر - روى عن أبي القاسم ابن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي الطاهر الخشوعي وغيرهم.

قال أبو العباس النباتي: قدم علينا - يعني إشبيلية - سنة ثلاث وستمائة، وسمى جماعة من شيوخه، وحكى أنه كان يروي موطأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلو.

وقال أبو سليمان ابن حوط الله: أجازني وابني محمداً جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر فناخسرو بن فيروز الشيرازي، وذكر أن روايته بنزول، لأنه لم يرحل إلا بعد وفاة الشيوخ المشاهير بهذا الشأن.

وقال أبو الحسن ابن القطان، وسماه في شيوخه: قدم علينا تونس سنة

(1) ترجمة السنهوري في التكملة: 176.

ص: 135

اثنتين وستمائة، واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي، قال: وانصرف من تونس إلى المغرب، ثم الأندلس، وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتاً من الأسر، فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهد فيه، وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعاً، وقد كان إذا أجاز ابني كتب ببخطه جملة من أسانيده وسمى كتباً منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك، قال: وقد تبرأت من عهدة جميعه لما أثبتوا من حاله، وحدثني أبو القاسم ابن أبي كرامة صاحبنا بتونس أن السنهوري هذا لما انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب ابن الجميل، فضرب بالسياط، وطيف به على جمل مبالغة في إهانته، انتهى.

وقال بعض المؤرخين في حقه ما نصه: الشيخ المحدث الرالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى البلاد، دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره، وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس وعلمائها أن الشيخ أبا الخطاب ابن دحية يدع يأنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس القدماء، فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا: لم يلق هؤلاء ولا أدركهم وإنما اشتغل بالطلب أخيراً، وليس نسبه بصحيح فيما يقوله، ودحية لم يعقب، فكتب السنهوري محضراً وأخذ خطوطهم فيه بذلك، وقدم به ديار مصر، فعلم أبو الخطاب ابن دحية بذلك، فاشتكى إلى السلطان منه، وقال: هذا يأخذ عرضي ويؤذيني، فأمر السلطان بالقبض عليه، فقبض وضرب بالسياط (1) وأشهر على حمار، وأخرج من ديار مصر، وأخذ ابن دحية المحضر وحرقه، ولم يزل ابن دحية على قرب من السلطان إلى حين وفاته، وبنى له داراً للحديث، وهي الكاملية ببين القصرين، فلم يزل يحدث بها إلى أن مات.

وقد ذكرنا في ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئاً من أحواله وأن الناس

(1) بالسياط: سقطت من ق.

ص: 136

فيه معتقد ومنتقد، وهكذا جرت العادة خصوصاً في حق الغريب المنتسب للعلم:

" وعند الله تجتمع الخصوم "

وممن كان عليه لا له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه (1) :

دحية لم يعقب فلم تعتزي

إليه بالبهتان والإفك

ما صحّ عند الناس شيء سوى

أنّك من كلبٍ بلا شكّ هكذا ذكره ابن النجار، وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب ابن دحية.

وقال الذهبي: قرأت بخط الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال: لقيته بأصبهان، ولم أسمع منه شيئاً، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب وأن مشايخه كتبوا له جرحه وتضعيفه، وقد رأيت أنا منه غير شيء مما يدل على ذلك، وبسببه بنى السلطان الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها، وقد سمع منه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الموطأ سنة نيف وستمائة، وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله ابن زرقون.

وقال ابن واصل: كان أبو الخطاب، مع معرفته بالحديث، وحفظه الكثير منه، متهماً بالمجازفة في النقل، وبلغ ذلك الملك العادل فأمره أن يعلق على كتاب " الشهاب "، فعلق كتاباً تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده، فلما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعد أيام: قد ضاع مني ذلك الكتاب، فعلق لي مثله، ففعل، فجاء في الثاني مناقضة للأول، فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه، ونزلت مرتبته عنده، وعزله عن دار الحديث أخيراً، وولى أخاه أبا عمرو عثمان.

(1) ديوان ابن عنين: 220.

ص: 137

وقال ابن نقطة: كان أبو الخطاب موصوفاً بالمعرفة والفضل ولم أره، إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها، ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - وكان ثقة - قال: نزل عندنا ابن دحية فقال: إني أحفظ صحيح مسلم والترمذي، فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من الموضوعات، فجعلتها في جزء، ثم عرضت عليها حديثاً من الترمذي فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه، ولم يعرف منها شيئاً، فأفسد نفسه بذلك.

وقال سبط ابن الجوزي (1) : إنه كان يتزيد في كلامه، ويثلب المسلمين، ويقع فيهم، فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الملك الكامل مقبلاً عليه، فلما انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث وأهانه.

وقال العماد بن كثير: قد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء - كما ذكره ابن المنذر وغيره - على أن صلاة المغرب لا تقصر، واتفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة 616 إلى غزة، فخرج كل من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه، وضربوه ضرباً شديداً بعد أن انهزم من كان معه، انتهى.

وقدمنا في ترجمته توثيق جماعة له، فربك أعلم بحاله.

72 -

ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم، القارئ، الخراساني (2) ، رحل من خراسان إلى الأندلس، يكنى أبا محمد، ذكره أبو عمرو المقرئ، وقال: سمعته يقرأ مرات كثيرة، فكان من أحسن الناس صوتاً، ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء، انتهى.

(1) مرآة الزمان: 698.

(2)

التكملة: 913.

ص: 138

73 -

ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي، الواعظ (1) ، من أهل مصر، يعرف بالزبزاري، يكنى أبا البركات وأبا القاسم، ويلقب زكي الدين، قدم على الأندلس وتجول في بلادها واعظاً ومذكراً، وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسيا سنة 608.

قال ابن الأبار: وسمعت وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسيا، وادعى الرواية عن أبي الوقت السجزي والسلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد بن المبارك بن الطباخ وأبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الإبري، زعم أنه قرأ عليها صحيح البخاري، وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم، وربما حدث بواسطة عن بعضهم وأكثرهم مجهولون، وقفت على ذلك في فهرست روايته، فزهد أكثر السامعين منه، واطرحوا الرواية عنه، ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء وجمع أربعين حديثاً مسلسلة سماها باللآلئ المفصلة، حدث فيها عن ابن بشكوال وابن غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له، أخذها عنه ابن الطيلسان وغيره، وكان - مع هذا - فقيهاً على مذهب الشافعي، رضي الله تعالى عنه، فصيحاً مشاركاً في فنون من العلم، سمح الله تعالى له، انتهى.

ولا بأس أن نذكر جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس، ثم نعود أيضاً إلى ذكر أعلام الرجال، فنقول:

74 -

من النساء الداخلات الأندلس من المشرق عابدة المدنية، أم ولد حبيب ابن الوليد المرواني، المعروف بدحون. وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة، حالكة اللون، غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة

(1) التكملة رقم: 1655.

ص: 139

وغيره من علماء المدينة، حتى قال بعض الحفاظ: إنها تروي عشرة آلاف حديث.

وقال ابن الأبار: إنها تسند حديثاً كثيراً، وهي أم ولده بشر بن حبيب، والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحج هو محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فقدم بها الأندلس، وقد أعجب بعلمها وفهمها، واتخذها لفراشه، رحم الله تعالى الجميع.

75 -

ومنهن فضل المدنية، وكانت حاذقة بالغناء، كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فازدادت ثم طبقتها في الغناء، واشتريت هناك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع صاحبتها علم المدنية، وصواحب غيرها إليهن تنسب دار المدنيات بالقصر، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن ورقة أدبهن، وتضاف إليهن جارية يقال لها قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور، وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس، وحملت صبية إلى المشرق، فوقعت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمت هنالك الغناء فحذقته، وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط، راوية للشعر حافظة للأخبار، عالمة بضروب الآداب.

76 -

ومن النساء الداخلات إلى الأندلس من المشرق قمر جارية بن حجاج اللخمي، صاحب إشبيلية (1) ، وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان، وجلبت إلبه من بغداد، وجمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً، مع فهم بارع، وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل

(1) التكملة رقم: 2114.

ص: 140

أدبها، ولها في مولاها تمدحه:

ما في المغارب من كريم يرتجى

إلاّ حليف الجود إبراهيم

إنّي حللت لديه منزل نعمةٍ

كلّ المنازل ما عداه ذميم وأنشد لها السالمي لما ذكرها عدة أشعار منها قولها تتشوق إلى بغداد:

آهاً على بغدادها وعراقها

وظبائها والسحر في أحداقها

ومجالها عند الفرات بأوجه

تبدو أهلّتها على أطواقها

متبخترات في النّعيم كأنّما

خلق الهوى العذريّ من أخلاقها

نفسي الفداء لها فأيّ محاسن

في الدهر تشرق من سنا إشراقها 77 - ومنهن الجارية العجفاء (1)، قال الأرقمي (1) : قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتاً عرضه اثنا عشر ذراعاً في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعاً، وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحم وبقي السدى، وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما، ثم أطلعت علينا عجفاء كلفاء، عليها قرقل هروي أصفر غسيل، وكأن وركيها في خيط من رسحها (3)، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت! ما هذه فقال: اسكت، فتناولت عوداً فغنت (4) :

بيد الذي شغف الفؤاد بكم

تفريج ما ألقى من الهمّ

فاستيقني أن قد كلفت بكم

ثم افعلي ما شئت عن علم

قد كان صرم في الممات لنا

فعجلت قبل الموت بالصرم

(1) هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285.

(1)

هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285.

(3)

ق ودوزي: من وسخها، والتصويب عن الأغاني.

(4)

الشعر لأبي صخر الهذلي (الأغاني 23: 282) .

ص: 141

قال: فتحسنت في عيني، وبدا ما أذهب الكلف عنها، وزحف أبو السائب وزحفت معه، ثم تغنت:

برح الخفاء فأيما بك تكتم

ولسوف يظهر ما تسرّ فيعلم

ممّا تضمن من غريرة (1) قلبه

يا قلب إنك بالحسان لمغرم

يا ليت أنّك يا حسام بأرضنا

تلقي المراسي طائعاً وتخيّم

فتذوّق لذّة عيشنا ونعيمه

ونكون إخواناً فماذا تنقم فقال أبو السائب: إن نقم هذا فأعضه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه، ولا يكنى، فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة، ثم غنت:

يا طول ليلي أعالج السقما

إذ حلّ (2) كلّ الأحبّة الحرما

ما كنت أخشى فراقكم أبداً

فاليوم أمسى فراقكم عزما فألقيت طيلساني، وأخذت شاذكونة (3) فوضعتها على رأسي، وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة، وقام أبو السائب فتناول ربعة (4) في البيت فيها قوارير ودهن، فوضعها على رأسه، وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ: قوانيي، يعني قواريري، فاصطكت القوارير وتكسرت، وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره، وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديماً، ثم وضع الربعة. وكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء، وحملت إليه.

(1) الأغاني: عزيرة.

(2)

ق ودوزي: أدخل.

(3)

الشاذكونة: مضربة كبيرة.

(4)

الربعة: جونة العطار.

ص: 142

78 -

ومن القادمين على الأندلس من المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن، الموصلي. قال أبو حيان: قدم علينا رسولاً من ملك مصر إلى ملك الأندلس، فسمعت منه بالمرية، انتهى.

79 -

ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك، المعروف بالأشتر، ابن الحارث، النخعي (1) ، يكنى أبا جعفر، دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وأصله من الكوفة، وكان يروي أحاديث عظيمة العدد، ذكر ذلك الرازي، وحكى أن الأمير محمداً روى عنه منها، وأنزله برية.

80 -

ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن، واسمه يزيد بن أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي، الزهري، من ولد عبد الرحمن بن عوف (2) ، منأهل مصر، وفد على الناصر بقرطبة، وكان دخوله إليها في محرم سنة 343، فأكرم الناصر مثواه، وكان فقيه أهل مصر، ذكره ابن حيان.

81 -

ومنهم أبو الطاهر إسماعيل ابن الإسكندراني (3) ، لقي ببلده أبا طاهر السلفي، وسمع منه، ودرس عليه كتاب " الاصطلاح " للسمعاني، وقدم الأندلس، ودخل مرسية تاجراً، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، وأنشد عن السلفي قوله:

أنا من أهل الحدي

ث وهم خير فئة

عشت تسعين وأرجو

أن أعيش لمائة فعاش كما تمنى، رحمه الله تعالى.

(1) ترجمته في التكملة: 126.

(2)

ترجمته في التكملة: 127.

(3)

ترجمته في التكملة: 190.

ص: 143

82 -

ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر، الأنطاكي، الإمام، أبو الحسن، التميمي (1) ، نزيل الأندلس ومقرئها ومسندها، أخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان، وصنف قراءة ورش، قرأ عليه جماعة: منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس، وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ الداراني.

قال أبو الوليد بن الفرضي: أدخل الأنطاكي الأندلس علماً جماً، وكان بصيراً بالعربية والحساب وله حظ من الفقه، قرأ الناس عليه، وسمعت أنا منه، وكان رأساً في القراءات، لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته، وكان مولده بأنطاكية سنة 299، ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة 377، رحمه الله تعالى.

83 -

ومنهم عمر بن مودود بن عمر، الفارسي، البخاري، يكنى أبا البركات (2) ، ولد بسلماس، ونشأ بها، وكتب الحديث هنالك، وتعلم العربية والفقه، وهو من أبناء الملوك، وانتقل إلى المغرب، فدخل الأندلس، ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة، ودخل إشبيلية، وكانت له رواية بالمشرق.

قال ابن الأبار: أجاز لي مارواه ولم يسم أحداً من شيوخه، وبلغني أنه سمع صحيح البخاري بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود، وكانت إجازته لي سنة 631، وعاش بعد ذلك وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة (3) ، وحدث بالأندلس، وأخذ عنه الناس، وكان من أهل التصوف والتحقق بعلم

(1) ترجمة الأنطاكي في ابن الفرضي 1: 361 وغاية النهاية 1: 564.

(2)

ترجمته في التكملة رقم: 2252 وصلة الصلة: 74.

(3)

صلة الصلة: سنة 639.

ص: 144

الكلام، رحمه الله تعالى.

84 -

ومنهم الشريف الأجل الرحالة الشيخ نجم الدين بن مهذب الدين، وكنت لا أتحقق من أي البلاد هو من المشرق، ثم إني علمت أنه من بغداد إذا وقفت على كتابين كتبهما في شان العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي: أحدهما لأبي العلاء حسان، والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي، وهو الذي يفهم منه أنه من بغداد.

ونص الأول:

يا ابن الوصيّ إذا حملت وصيّتي

أوجبت حقّاً للحقوق يضاف

وتحيتي كلّ التّحايا دونها

وكذاك دون رسولها الأشراف

أحسن بأن تلقى ابن حسانٍ بها

مهتزّةً لورودها الأعطاف

كالروض باكره الندى فلعرفها

يا ابن النبي على النديّ مطاف

وعلاك إنّ أبا العلا ومكانه

يلفى به الإسعاد والإسعاف

وأحقّ من عرف الكرام بوصفهم

من جمّعت منهم له أوصاف هذه يا سيدي تحية تجب لها إجابة وحية، وتصلح بها هشاشة وأريحية، أودعتها بطن هذه العجالة، وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة، ولله در من راضع در النبوة، متواضع مع شرف الأبوة، نازعته طرق الأشعار، وأطراف الأخبار، فوجدت بحراً حصاه الدر النفيس وروضاً يجني منه أطايب السمر الجليس، وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضئ سناه ويحل بيتاً من الشرف ربه بناه، وقد جاب الفضاء العريض، وقد رأى القصور الحمر والبيض، وورد الحجون، بعدما شرب من ماء جيحون، وزار مشاهد الحرمين، ثم سار في أرض الهرمين، وفارق إفريقية لهذا الأفق مختاراً وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتباراً، وتشوق إلى حضرة الأنوار المفاضة، والنعم السابغة الفضفاضة، وجعل قصدها بحجة سفره طواف الإفاضة، وهمه أن

ص: 145

يشاهد سناء العلوي، ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي، وهي غاية يقول للأمل: عليها أطلت حومي، وجنة يتلو الداخل لها " ياليت قومي " وسيدي هو منهاباب على الفتح بني، وجناب عنان الأمل إليه ثني، وقصده من هذا الشريف أجل قاصد وأظلته سماء المجد بجمال المشتري وظرف عطارد، ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان، ومتى شبهناه فالتمويه بالشبه عقوق العقيان، ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه، لكن يعرف عن نفسه بما ليس في وسع واصفيه، ويقتضي من عزيمة بره ما لا سعة للمترخص فيه، إن شاء الله، وهو يديم علاكم، ويحرس مجدكم وسناكم، بمنه، والسلام الكريم، الطيب العميم، يخصكم به معظم مجدكم، المعتد بذخيرة ودكم، المحافظ على كريم عهدكم، ابن عميرة، ورحمة الله تعالى وبركاته، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 639، انتهى.

ونص الثاني:

هل لك يا سيّدي أبا الحسن

فيمن له كلّ شاهدٍ حسن

في الشرف المنتقى له قدمٌ

أثبتها بالوصيّ والحسن أيها الأخ الذي ملكته قيادي، وأسكنته فؤادي، عهدي بك تعتام الآداب النقية، وتشتاق اللطائف المشرقية، وتنصف فترى أن في سيلنا جفاء، وفي مغربنا جفاء، وأن المحاسن نبت أرضٍ ما بها ولدنا، وزرع وادٍ ليس مما عهدنا، وأنا في هذا أشايعك وأتابعك، وأناضل من ينازلك وينازعك، وقد أتانا الله تعالى بحجة تقطع الحجج، وتسكت المهج، وهو الشريف الأجل، السيد المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجل الذرية المختارة، ونجم الدرية السيارة، جرى مع زعزع ونسيم، ورتع في جميم وهشيم، وشاهد عجائب كل إقليم، وشرق إلى مطلعه ابن جلا، وغرب حتى نزل شاطئ سلا، وقد توجه الآن إلى حضرة الإمامة الرشيدية أيدها الله تعالى لينتهي من أصابع العد

ص: 146

إلى العقدة، ويحصل من مخض الحقيقة على الزبدة، وقد علم أنه ما كل الخطب كخطبة المنبر، ولا جميع الأيام مثل يوم الحج الأكبر، وأدبه ياسيدي من نسبة أفقه، بل على شكل حسبه وخلقه، فإذا رأيته شهدت بأن الشرق قد أتحف إفريقية ببغداذه، بل رمانا بجملة أفلاذه، والحظ فيما يجب من بره وتأنيسه، إنما هو في الحقيقية لجليسه، فيا غبطة من يسبق لجواره، ويقبس من أنواره، وأنت لامحالة تفهمه فهمي، وتشيم من شيمه عارضاً بري القلوب الهيم يهمي، وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه سهمي، والسلام، انتهى.

85 -

ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس، الحنفي، المصري. قال الوادي آشي فيه: إنه من أعيان مصر، قال: وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم، وذوي المعرفة والفهم (1) ، وإنما يصدر هذا بين الناشئين، قال: وللحنيفة الظهور عليهم حين يقولون لهم: لنا عليكم اليد الطولى في الخبز، لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث الدواب، وكذلك تسخين الحمام، فإن المالكية وغيرهم بمصر يقلدون الحنفية في ذلك، قال: وسألته حفظه الله تعالى: هل للوباء بمصر وقت معلوم فقال لي: جرت العادة عندهم بقدر الله تعالى وسره في خليقته أن كل سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء، والله تعالى أعلم، وأن هذا متعارف عندهم، هكذا قال لي. وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصداً في تعجيزه وتعنيته، ثم قال: إن من المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن من حفظت عنه تسع وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان

(1) ق: والوهم.

ص: 147

أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليها، انتهى.

وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق إلى البصرة على عبد الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس، وسردنا دخوله عليه في مجلس أنسه، وما اتفق في ذلك له معه، وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها، فارتحل المغني إليها، ومات بها، حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه " قطب السرور " ولولا أنه لم يسم المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب، إذ هو به أليق، والأمر في ذلك سهل، والله تعالى الموفق للصواب.

86 -

ومنهم الولي الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدمشقي، رضي الله تعالى عنه، وهو كما قال ابن داوود من كبار الأولياء، شاذلي الطريقة، قدم من المشرق إلى الأندلس، وكان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف له بها، وكان من الذين أخفاهم الله، لا يعرف به إلا من تعرف له، أعاد الله تعالى علينا من بركاته.

قال العلامة ابن داوود: وحدثني مولاي والدي رضي الله تعالى عنه من لفظه بتلمسان أمنها الله تعالى يوم الاثنين لثني عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 895، قال: دخل علي سنة شهر رمضان المعظم في زمان ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش، أعادها الله تعالى، فقعدت أول ليلة منه منفرداً بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشائين، وفكرت في ذكر أتخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعاً بين الدنيا والآخرة، فأجمعت على مطالعة " حلية " النواوي لعلي أقف على ما أختاره لذلك، فلما أصبحت دخلت إلى المدينة، ولم أكن أطلعت على فكرتي أحداً، فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبد الله بن خلف رحمه الله تعالى في الطريقٍ، فقال لي: سيدي يوسف الدمشقي يسلم عليك ويقول لك: الذكر الذي تعمر به هذا الشهر الفاضل:

ص: 148

" اللهم ارزقني الزهد في الدنيا، ونور قلبي بنور معرفتك "، قال لي والدي رضي الله تعالى عنه: وكان هذا سبب تعرفي له، ولقائي إياه، وكنت قبل ذلك منكراً عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق، نفع الله تعالى به، انتهى.

ولنجعل هذه الترجمة آخر هذا الباب، تبركاً بهذا الولي الصالح، نفعنا الله تعالى ببركاته، مع علمي بأن الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جداً إلا أن عدم المادة التي أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري، ولو اجتمعت على كتبي المخلفة بالمغرب لأتيت في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي:

وفي الإشارة ما يغني عن الكلم

ص: 149