المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٣

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم

‌الباب السابع

‌في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم

في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أوهان وحوزهم في ميدان البراعة،

من قصب البراعة، خصل الرهان، وجملة من أجوبتهم، الدالة على

لوذعيتهم، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على

فضلهم أوضح برهان

[نقول في فضائل الأندلس]

[1 - عن فرحة الأنفس]

اعلم أن فضل أهل الأندلس ظاهر، كما أن حسن بلادهم باهر، ولذلك ذكر ابن غالب في " فرحة الأنفس " لما أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم - من أجل ولاية الزهرة لبلادهم - حسن الهمة في الملبس والمطعم، والنظافة والطهارة، والحب للهو والغناء، وتوليد اللحوم، ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير، والحرص على طلب العلم، وحب الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف. وذكر ابن غالب أيضاً ما خصوا به من تدبير المشتري والمريخ. وانتقد عليه بعضهم بأن أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس فساحلها الشمالي، والسابع في جزائر المجوس، وللإقليم الرابع الشمس، وللخامس الزهرة، وللسادس عطارد، وللسابع القمر، والمشتري للإقليم الثاني، والمريخ للثالث، ولا مدخل لهما في الأندلس، انتهى.

ثم قال صاحب الفرحة (1) : وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة

(1) م: ثم قال صاحب فرحة الأنفس.

ص: 150

والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم، بغداديون في ظرفهم ونظافتهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف (1) الزهر، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، ومنهم ابن بصال صاحب " كتاب الفلاحة " الذي شهدت له التجربة بفضله، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع أحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.

وعد رحمه الله تعالى من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم، قال: وكان خطهم أولاً مشرقياً، انتهى. قال ابن سعيد: أما أصول الخط المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلم له، لكن خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسنٌ فائق، ورونق آخذ بالعقل، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد، انتهى.

ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكورٌ في رسالة لابن حزم، وقال فيها: إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب ومعالجة آلاتها والنظر في مهماتها، انتهى.

وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي قد (2) استحسنها

(1) م: وأصناف.

(2)

قد: سقطت من ب.

ص: 151

أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها، وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم.

ثم قال ابن غالب: ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد إفريقية، فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه، وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها فاستنبطوا المياه، وغرسوا الأشجار، وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك، وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها، فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات، فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأن اليونانيين سكنوا الأندلس فورثواعنهم ذلك، وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها، فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة، ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي، وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد، وقطعوا معاشهم، وأخملوا أعمالهم، وصيروهم أتباعاً لهم، ومتصرفين بين أيديهم، ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة، وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم، ويصير الذكر لهم، قال: ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهل أو مبطل، انتهى.

[2 - عن ابن سعيد]

وقال ابن سعيد، لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين: يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب، ولا يجمح بهم الهوى، ولكن الحق أحق أن يتبع، فلعل مطلعاً يقف على ما ذكره ابن غالب فيقول: تعصب هذا الرجل لأهل بلده، ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين:

ص: 152

ولو أبصروا ليلى أقرّوا بحسنها

وقالوا بأنّي في الثناء مقصّر ويكفي في الإنصاف أن أقول: إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب، وهي أعظم ما في بر العدوة، وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن، وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم (1) ، وذلك مشهور معلوم إلى الآن. ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش (2) بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها، وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن، فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين، وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها، ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلا من الأندلس، فصح قول ابن غالب، انتهى.

[3 - عن الحميدي]

قال الحميدي: أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق وهي:

وماذا عليهم لو أجابوا (3) فسلّموا

وقد علموا أنّي المشوق المتيّم

سروا ونجوم الليل زهرٌ طوالعٌ

على أنّهم بالليل للناس أنجم

وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم

فنمّ عليها (4) في الظلام التبسّم فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها، وقال: هذا ما لا يقدر أندلسي

(1) م: جزيرتها.

(2)

م: بمراكش.

(3)

ق ب: أثابوا (اقرأ: أنابوا) .

(4)

ب: عليهم.

ص: 153

على مثله، وبالحضرة أبو بكر يحيى (1) بن هذيل، فقال بديهاً:

عرفت بعرف الريح أين تيمّموا

وأين استقلّ الظاغنون وخيّموا

خليليّ ردّاني إلى جانب الحمى

فسلت إلى غير الحمى أتيمّم

أبيت سمير الفرقدين كأنّما

وسادي قتادٌ أو ضجيعي أرقم

وأحور وسنان الجفون كأنّه

قضيبٌ من الريحان لدنٌ منعّم

نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى

فأيقنت أنّي لست منهنّ أسلم

كما أنّ إبراهيم أوّل نظرةٍ

رأى في الدراري أنّه سوف يسقم انتهى.

[4 - عن ابن بسام]

ومن كلام ابن بسام صاحب " الذخيرة " في جزيرة الأندلس (2) : أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها، فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرق كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر. وذكر أن أبا علي اليغدادي صاحب الأمالي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال: لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات (3) وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة. قال أبو علي: فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان (4) هؤلاء عمن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان، في هذه الأوطان؛ قال ابن بسام: فبلغن يأ، هـ كان يصل كلامه هذا بالتعجب

(1) ق ب م ودوزي: أبو بكر ابن يحيى.

(2)

بعض هذا النص في مقدمة الذخير 1 / 1: 4.

(3)

الذخيرة: في الغباوة.

(4)

م: نقص.

ص: 154

من أهل الأفق الأندلسي في ذكائهم، ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم: إن علمي علم رواية، وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت، هذا مع إقرار الجميع له يومئذٍ بسعة العلم وكثرة الروايات، والأخذ عن الثقات، انتهى.

[5 - عن الحجاري]

ومن كلام الحجاري في " المسهب ": الأندلس عراق المغرب عزة أنساب، ورقة آداب، واشتغالاً بفنون العلوم، وافتناناً في المنثور والمنظوم، لم تضق لهم في ذلك ساحة، ولا قصرت عنه راحة، فما مر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والأطيار والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان. وأما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير، وصفق الماء خرير، أو رقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاعٍ ثغر نهر، أو ترقرق بطلٍ جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنةً وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة

ص: 155

وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية، وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية، ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات، والتركيبات وأنواع المضحكات، ما تملأ الدواوين كثرته، وتضحك الثكلى وتسلي المسلوب قصته، مما لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكى وما ركب، ولا استغرب أحدٌ ما أورده ولا تعجب، إلا أن مؤلفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكان يمر بياعاً، فقمت محتسباً للظرف فتداركته جامعاً فيه ما أمسى شعاعاً، انتهى.

[6 - رسالة ابن الحزم في فضل الأندلس (1) ]

قلت: وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد ابن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس، لاشتمالها على ما نحن بصدده. وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب التميمي القيرواني (2) ، إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد (3) أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم، ما صورته:

كتبت يا سيدي، وأجل عددي، كتب الله تعالى لك السعادة، وأدام لك العز والسيادة، سائلاً مسترشداً، وباحثاً مستخبراً، وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كل فضل، ومنهل كل خير، ومقصد كل طرفة، ومورد كل تحفة، وغاية آمال الراغبين، ونهاية أماني الطالبين، إن بارت تجارة فإليها

(1) سماها ابن خير (الفهرسة: 226) رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها.

(2)

ترجم العمري في المسالك 11: 319 نقلا عن أنموذج ابن رشيق لمن اسمه ابن الربيب القاضي الحسين بن محمد التميمي، وقال إن أصله من تاهرت، وكان عارفا بالأدب وعلم النسب قوي الكلام يتكلفه بعض تكلف، وكان عبد الكريم النهشلي أستاذ ابن رشيق يعده شاعرا مقدما.

(3)

ب: تخليص.

ص: 156

تجلب، وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق، مع كثرة علمائها، ووفور أدبائها (1) ، وجلالة ملوكها، ومحبتهم في العلم وأهله، يعظمون من عظمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب: يقدمون من قدمته شجاعته، وعظمت في الحروب نكايته، فشجع الجبان، وأقدم الهيبان، ونبه الخامل، وعلم الجاهل، ونطق العيي، وشعر البكي، واستنثر البغاث، وتثعبن الحفاث (2) ، فتنافس الناس فيى العلوم، وكثر الحذاق في جميع (3) الفنون، ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط، من أجل علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم، وخلدوا في الكتب مآثر بلدانهم، وأخبار الملوك والأمراء، والكتاب والوزراء، والقضاة والعلماء، فأبقوا لهمذكراً في الغابرين يتجدد على مر الليالي والأيام، ولسان صدقٍ في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام، وعلمائكم مع استظهارهم على العلوم كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وراتبٌ على كعبه لا يتزحزح، يخاف إن صنف، أن يعنف، وإن ألف أن يخالف، ولا يآلف، أو تخطفه الطير أوتهوي به الريح في مكان سحيق، لم يتعب أحد منهم نفساً في جميع فضائل أهل بلده، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه، ولا بل قلماً بمناقب كتابه ووزرائه، ولا سود قرطاساً بمحاسن قضاته وعلمائه، على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه، لوجد للقول مساغاً ولم تضق عليه المسالك، ولم تخرج به المذاهب، ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد، ولكن هم أحدهم أن يطلب شأو من تقدمه من العلماء ليحوز قصبات السبق، ويفوز بقدح ابن مقبل، ويأخذ بكظم دغفل، ويصير شجاً في حلق أبي

(1) ق ب: آدابها.

(2)

تثعبن الحفاث: أخذ هيئة الثعبان؛ والحفاث: حيوان كالثعبان يفح فحيحه ويثب مثل وثبه ولكنه غير مؤذ (انظر الحاشية ص 646 من الجزء الأول) .

(3)

ب: لجميع؛ ق: بجميع.

ص: 157

العميشل، فإذا أدرك بغيته، واخترمته منيته، ودفن مع أدبه وعلمه، فمات ذكره، وانقطع خبره، ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس فألفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدد طول الأبد.

فإن قلت: إنه كان مثل ذلك من علمائنا، وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب، أو رحلة قارب، لو نفث من بلدكم مصدور، لأسمع من ببلدنا في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سماه بالعقد، على أنه يلحقه في بعض اللوم، لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه، أكثر الحز وأخطأ المفصل، وأطال الهز بسيف غير مقصل، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم، وإغفال ما يهمهم. فأرشد أخاك أرشدك الله واهده هداك الله إن كانت عندك في ذلك الجلية وبيدك فصل القضية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فكت بالوزير الحافظ أبو محمد عل يبن أحمد بن سعيد بن حزم عند وقوفه على هذه الرسالة، ما نصه:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سبدنا محمد عبده ورسوله، وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين.

أما بعد يا أخي يا أبا بكر (1) ، سلامٌ عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ وكثرت الأيام والليالي ثم لقيك (2) في حال سفر ونقلة، ووادك في خلال جولة ورحلة، من مجاورتك أرباً، ولا بلغ في

(1) هو أبو بكر محمد بن إسحاق المهلبي الإسحاقي الوزير، من أهل الأدب والفضل (الجذوة: 42) وقد كان صديقا لابن حزم يتنقلان معا في أرجاء الأندلس، واعتقلهما خيران معا كذلك.

(2)

ق م: لقيتك.

ص: 158

محاورتك مطلباً، وإني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً، فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حاضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه (1) ، ولا ذكره بنسبه، يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه بان شيئاً من هذه التآليف لو كان منا موجوداً لكان إليهم منقولاً، وعندهم ظاهراً، لقرب المزار، وكثرة السفار (2) ، وترددهم إليهم، وتكررهم علينا. ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وملقى (3) عصا التسيار عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه، الرفيع حديثه ومكتسبه، الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حضره هويناه، وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لايسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد

(1) لعل ابن حزم يعني أنه لم يجد في الرسالة التي بعثها ابن الربيب اسم المرسل إليه ونسبته، وقد صرح ابن بسام - كما ذكر المقري في النفح - أن ابن الربيب خاطب أبا المغيرة ابن حزم، وأن أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختم بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس (الذخيرة 1 / 1: 111 - 116) .

(2)

م: السفرة.

(3)

م: ومحط؛ ب: ومحطى.

ص: 159

الحلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهورن فحسبي بدينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور، وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (1) أطال الله بقاءه، وأدام اعتلائه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن الباحث الأول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه، فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه.

فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي (2) كتباً جمة: منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها، وأمهات مدنها وأجنادها الستة، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو

(1) ذكر ابن الأبار في التكملة: 388 أن ابن حزم كتب هذه الرسالة بطلب من أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري صاحب البونت ويلقب: " يمن الدولة "؛ والبونت (Alpuente) من أعمال بلنسية استقل فيها بنو قاسم الفهريون بعد الفتنة، وأولهم عبد الله بن قاسم (- 421) وخلفه يمن الدولة وبقي حاكما حتى سنة 434 (أعمال الأعلام: 208) .

(2)

ترجمة الرازي في الجذوة: 96 وطبقات الزبيدي: 327.

ص: 160

كتاب مريح مليح، وأنا أقول: لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به (1) ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرة في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين حدثته به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها بذلك (2) ، لكفى شرفاً بذلك يسر عاجله، ويغبط آجله. فإن قال قائل: فلعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتماً ومثل هذا التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح، وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح، فالجواب - وبالله التوفيق - أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج هذا البحر غزاة واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم وخبره الحق بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرت عن بغلتها هناك، فتوفيت، رحمها الله تعالى، وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم كما أخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل أن يظن به

(1) م: إلا ما بشر به رسول الله

إلخ.

(2)

صحيح مسلم 2: 104، وفيه أن رسول الله (ص) نام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له أم ملحان: ما يضحكك يا رسول الله قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة

إلخ، وأنه نام مرة أخرى، وفعل كفعله الأول، فلما قالت له أم ملحان: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: انت من الأولين.

ص: 161

وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا يقتضي طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمى إحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول والثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خير من كل قرن بعده، ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغلبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ (2) ، من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فل الربضيين، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 (3) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.

(1) في الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين؛ وفي ياقوت (إقريطش) : بعد سنة 250، وذكر أبو سعيد ابن يونس أن شعيب بن عمر بن عيسى أبا عمر، تولى فتح جزيرة إقريطش بعد سنة عشرين ومائتين، وقال البلاذري (فتوح: 279) إن أبا حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالإقريشي غزاها في خلافة المأمون وافتتح حصنا واحدا ونزله ثم لم يزل يفتح منها شيئا بعد شيء؛ ولعل هذا هو سبب الاختلاف في تاريخ فتحها.

(2)

ترجمة عمر بن شعيب في الجذوة: 282 نقلا عن ابن حزم.

(3)

افتتحها ارمانوس في منتصف المحرم 350 فقتل ونهب وأخذ صاحبها عبد العزيز بن شعيب وبني عمه وأموالهم إلى القسطنطينية (ياقوت: إقريطش) .

ص: 162

وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا، ومعق (1) تمائمنا، مع سر من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك على كل حال حظ يفوق حظ أكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار سيح المجال، والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكره لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر وجلائل البلاد ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير " المعرب (2) عن أخبار المغرب " وحاشا تواليف محمد بن يوسف الوراق (3) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتباً جمة، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور والبصرة (4) وغيرها تواليف حساناً، ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة، ومدفنه بقرطبة، وهجرته إليها وإن كانت نشأته بالقيروان.

ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا إذ مرادنا أن نأتي منه

(1) ب: ومعقد؛ ومعق التمائم، أي موضع قطعها دلالة على تجاوز سن الطفولة.

(2)

ق: المغرب.

(3)

محمد بن يوسف أبو عبد الله التاريخي الوراق (الجذوة: 90 وبغية الملتمس رقم: 304 وفيهما ما قاله ابن حزم) .

(4)

يعني بصرة المغرب، وكانت قريبا من مدينة أصيلا.

ص: 163

بالمطلب، فيما يستأنف إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل تركٍ لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى. وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا، وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة الطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك، وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة ابن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض إتباعه، وخلافه محرم اقترافه (1) ، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلاحظنا فيهن والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم (2) فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا (3) ، والعدل أولى ما حرص عليه، والنصف أفضل ما دعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكل.

(1) م: اقترابه؛ ق: اقترانه.

(2)

يريد أبا علي القالي، أي أنه يعده أندلسيا - حسب مقياسه - لأنه هاجر إلى الأندلس واقام فيها حتى توفي.

(3)

سوانا: سقطت من م.

ص: 164

وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاد الخواطر، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا، وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (1) ، وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة (2) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب [في] صفاتها (3) وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها، ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر (4) بن شبة، وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرنان وسجستان والري (5) والسند وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي، وعلمائها وشعرائها وأطبائها (6) ، ولقد تاقت النفوس إلى أ، يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم، على أنهم العلي الرؤساء، والأكابر العظماء، ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان (7) ،

(1) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) وكتابه المشار إليه " بغداد " بقيت منه قطعة نشرها هنسي كلر بالزنكوغراف (1908) وأعيد طبعها بمصر (1368هـ) ؛ انظر ترجمته في معجم الأدباء 1: 152.

(2)

هو كتاب " أخبار أهل البصرة " ولمؤلفه ترجمة في معجم الأدباء 6: 481 والتهذيب 7: 460 وبغية الوعاة: 361 ونور القبس: 231.

(3)

ب ق: وصفاتها.

(4)

عمر: سقطت من ق.

(5)

والري: زيادة من ق ب.

(6)

كثرت المؤلفات في البلدان بعد ابن حزم؛ انظر الإحاطة 1: 90 والإعلان: 121 - 135.

(7)

انظر ترجمة حمزة الأصبهاني في تاريخ أصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه كتابه تواريخ سي ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة (مخطوط) وشرح ديوان أبي نؤاس، أما كتابه في تاريخ بلده فلم يصلنا.

ص: 165

وكتاب الموصلي (1) وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تواليفهم في أنحاء العلوم، وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط (2) واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى، كذلك بلغنا رد القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة (3) وتشيعه على الشافعي، وكتب ابن عبدوس (4) ومحمد ابن سحنون (5) وغير ذلك من خوامل (6) تآليفهم دون مشهورها.

وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالمٍ أهله "، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال:" لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده " وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش - وهم أوفر الناس أحلاماً وأصحهم عقولاً وأشدهم تثبتاً، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه - حتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها على جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء، ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم، واستقلالهم

(1) في م: الوصلي، ولعلها أن تقرأ " المصري " إذ لا أعلم - بعد البحث - أن موصليا ألف في تاريخ مصر وأخبارها؛ ومن الكتب التي يرجح أن ابن حزم عرفها في تاريخ مصر كتاب (أو كتب) أبي عمر الكندي صاحب تاريخ الولاة والقضاة، وتاريخ مصر لمحمد بن عبد الحكم (توفي 268) .

(2)

أبو العباس محمد بن عبدون بن أبي ثور، كان قاضيا على القيروان نحو ثلاثين شهرا، وعزله عنها إبراهيم بن الأغلب؛ وكان حافظا لمذهب أبي حنيفة موثقا كاتبا للشروط والوثائق (علماء إفريقية: 241، 307) .

(3)

صوابه: عبد الله بن أحمد بن طالب، قال فيه الخشني: وكان له نظر ومناظرة يرد فيها على الشافعي لا بأس بها (علماء إفريقية: 257، 297) .

(4)

هنالك اثنان هما محمد وإسحاق ابنا إبراهيم بن عبدوس والأول منهما كان حافظا لمذهب مالك، وله على مذهبه كتاب اسمه " المجموعة " (توفي سنة 258) . انظر علماء إفريقية:182.

(5)

انظر علماء إفريقية: 256، 296.

(6)

في الأصول: خواصل.

ص: 166

كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعافما في سائر البلاد، إن أجاد قالوا: سارق مغير ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غث بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال وهدفاً للمطالب ونصباً للتسبب إليه ونهباً للألسنة وعرضة للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم نقل وطوق ما لم يتقلد وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف، فإن تعرض لتأليف غمز ولمز وتعرض وهمز واشتط عليه، وعظم يسير خطبه واستشنع هين سقطه وذهبت محاسنه وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل، فتنكس لذلك همته وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب إلا الناهض الفائت والمطفف المستولي على الأمد.

وعلى ذلك فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها: فمنها كتاب " الهداية " لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار (2) في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق، ومن الكتب المالكية التي

(1) عيسى بن دينار بن واقد الغافقي (الجذوة: 279 وبغية الملتمس رقم: 1144 وابن الفرضي 1: 373) . صحب عبد الرحمن العتقي صاحب مالك وتفقه عليه وأصبح إماما في الفقه على مذهب مالك (توفي سنة 212) .

(2)

موضع كلمة " الجدار " بياض في ب.

ص: 167

ألفت بالأندلس كتاب القطني مالك بن علي (1) ، وهو رجل قرشي من بني فهر لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات، ومنها كتاب أبي إسحاق [يحيى بن](2) إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب (3) المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً، وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه.

وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره (4) .

ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه (5) على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير. ومنها مصنفه في فضل (6) الصحابة والتابعين ومن دونهم

(1) هو مالك بن علي بم عبد الملك بن قطن (ولذلك يقال له القطني؛ وفي دوزي والأصول القصي) أبو خالد الزاهد، له مختصر في الفقه على مذهب مالك، وتوفي سنة 268؛ انظر الجذوة: 324 وبغية الملتمس رقم: 1350 وابن الفرضي 2: 3.

(2)

زيادة لازمة أخلت بها الأصول؛ وقد قال الحميدي (الجذوة: 148) إن إبراهيم بن مزين تكن له رواية؛ أما ابنه يحيى فهو الذي يقصده ابن حزم هنا؛ توفي سنة 259 (انظر الجذوة: 350 وبغية الملتمس رقم: 1457 وابن الفرضي 2: 178) .

(3)

كذا بصيغة الجمع ولعله يعني الأجزاء؛ وذكر ابن الفرضي أن له كتابا استقصى فيه علل الموطإ سماه " المستقصية ".

(4)

انظر الجذوة: 167 (وهو ينقل كلام ابن حزم) والصلة: 118.

(5)

م: ألفه ورتبه.

(6)

الجذوة: فتاوى.

ص: 168

الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام العلي قواعد للإسلام، لا نظير لها، وكان متخيراً لا يقلد أحداً، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه.

ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية (1) الحجاري، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد، وكان داودي المذهب قوياً على الانتصار له، وكلاهما في أحكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات منها كتاب " الإبانة عن حقائق أصول الديانة ".

ومنها في الحديث مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن (2) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (3) وكلامه، ومنها كتاب " المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى " وهو خير منه وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدةً، ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة (4) ، وكتابه في الناسخ والمنسوخ، وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ. ومنها كتاب " التمهيد " لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر، وهو الآن بعد في الحياة (5) لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً فكيف أحسن منه، ومنها كتاب " الاستذكار " وهو اختصار التمهيد (6) المذكور، ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر

(1) الجذوة: ابن آمنة (ص: 380) .

(2)

انظر الجذوة: 63.

(3)

يعني إسماعيل بن إسحاق (الجذوة: 311) وبقية النص عن قاسم بن أصبغ مثبت في الجذوة.

(4)

وكنانة: لم تذكر في الجذوة.

(5)

م: بقيد الحياة، وقد توفي ابن عبد البر سنة 463 (راجع الصلة: 640 والجذوة: 344) .

(6)

م: التهذيب.

ص: 169

المذكور كتبٌ لا مثيل لها: منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً (1) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه، ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك (2) ، ومنها كتاب " الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء، والحجة لكل واحد منهما "، ومنها كتاب " بهجة المجالس وأنس المجالس، مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات "، ومنها كتاب " جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته "(3) .

ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال، ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين لا أعلم مثله في فنه البتة، ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (4) ، ما وضع في الرجال أحد مثله إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، ولم أره، وأحمد بن سعيد هو المتقدم إلى التأليف القائم في ذلك، ومنها كتب محمد بن [أحمد بن](5) يحيى بن مفرج القاضي، وهي كثيرة منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري، وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري.

ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت (6) السرقسطي، فما شآه

(1) الجذوة: ستة عشر جزءا.

(2)

يعني كتاب " الاستيعاب ".

(3)

من كتب ابن عبد البر أيضا الدرر في اختصار المغازي والسير، والشواهد في إثبات خبر الواحد، والبيان عن تلاوة القرآن، والعقل والعقلاء، وأخبار أئمة الأنصار، القصد والأمم، وغيرهما.

(4)

أحمد بن سعيد الصدفي ألف في تاريخ الرجال كتابا كبيرا جمع فيه جميع ما حصل عليه من أقوال في التعديل والتجريح، توفي سنة 350 (الجذوة: 117 وابن الفرضي 1: 55) .

(5)

زيادة من الجذوة: 38.

(6)

في الأصول ودوزي: لعامر بن خلف، وهو خطأ واضح؛ ولقاسم كتاب " غريب الحديث " وقول ابن حزم فيه مذكور في الجوذة:312.

ص: 170

أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط.

ومنها في الفقه " الواضحة " والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها، ومنها " المستخرجة من الأسمعة " وهي المعروفة ب " العتبية "، ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث (1) ، والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي (2) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (3) في جمع أقاويل مالك كلها على نحو الكتاب " الباهر " الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد البصري أقاويل الشافعي كلها، ومنها كتاب " المنتخب "(4) الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمرو بن لبابة، وما رأيت لمالك قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع وجوهها، وتآليف قاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظاراً جارياً في ميدان البغدادين (5) .

ومنها في اللغة الكتاب " البارع "(6) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب، وكتابه في " المقصور والممدود والمهموز " لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب " الأفعال " لمحمد بن عمر بن عبد العزيز (7) المعروف بابن القوطية بزيادات ابن طريف مولى العبديين (8) فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو

(1) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتيبة لتلميذه العتبي (الجذوة: 264، 37) .

(2)

في الأصول: الكوي، والتصويب عن الجذوة: 123 والصلة: 28؛ (توفي سنة 401) .

(3)

المعيطي هو محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال إنهما جمعا الكتاب للمستنصر أما الحميدي فذكر أنهما جمعاه بأمر المنصور بن أبي عامر، واسم الكتاب " الاستيعاب ".

(4)

انظر الجذوة: 91 وأورد قول ابن حزم.

(5)

قاسم بن محمد (توفي سنة 278) وله كتاب " الإيضاح في الرد على المقلدين " - الجذوة: 310.

(6)

بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها فلتون (Fulton) بالزنكوغراف (لندن: 1933) .

(7)

في الأصول: لمحمد بن عامر الغزي؛ وكتابه " الأفعال " مطبوع مرتين، إحداهما بمصر.

(8)

ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381.

ص: 171

غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني (1) في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل، وهو أظن (2) في الحياة بعد. وههنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها، وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي، حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا باباً البتة، وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب، فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.

ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (3) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب، بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكتاب " النوادر "(4) لأبي علي إسماعيل بن القاسم، وهو مبارٍ لكتاب " الكامل " لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً، وكتاب " الفصوص "(5) لصاعد بن الحسن الربعي، وهو جارٍ في مضمار الكتابين المذكورين.

ومن الأنحاء تفسير الجرفي (6) لكتاب الكسائي، حسن في معناه، وكتاب

(1) ترجم له الحميدي مرتين: 172، 380 وأورد في الأولى قصته مع أبي الجيش مجاهد بصدد كتابه في اللغة واسمه " تلقيح العين ".

(2)

م: أظنه.

(3)

ق: سعيد؛ م: سيدة؛ وترجمة ابن سيد في الجذوة: 110 والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة وتتلمذ للقالي، توفي سنة 382، وترجم له الحميدي مرة أخرى تحت " ابن سيد " (ص: 381) .

(4)

هو المعروف بكتاب أمالي القالي.

(5)

من هذا الكتاب مخطوطة جيدة بخزانة القرويين بفاس.

(6)

في الأصول: الحوفي والتصويب عن الجذوة: 384 إذ ضبطه بالجيم المضمومة.

ص: 172

ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (1) .

ومما ألف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في " أخبار شعراء الأندلس " كتاب حسن (2) ، وكتاب " الحدائق " لأبي عمر أحمد بن فرج عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد بن داوود رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فرداً في معناه (3) ، منها كتاب " التشبيهات من أشعار أهل الأندلس " جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب وهو حي بعد (4) ، ومما يتعلق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الإفليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جداً (5) .

ومن الأخبار تواريخ (6) أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم، وذلك كثير جداً، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعياد بها، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها، وتواريخ متفرقة رأيت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه، وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف، وفي أخبار بني

(1) ذكر الحميدي كتابي " العالم والمتعلم " و " شرح كتاب الأخفش " لأبان بن سيد المتقدم الذكر، لا لابن سيده صاحب المخصص والمحكم.

(2)

لم يصلنا هذا الكتاب، ولكن ابن سعيد ينقل عنه في المغرب.

(3)

أورد الحميدي (ص: 97) نص كلام ابن حزم هذا في الحدائق، وأكثر الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب، النقل عن هذا الكتاب.

(4)

ترجمة ابن أبي الحسن في الجذوة: 290، قال الحميدي: وعاش إلى أيام الفتنة.

(5)

هذا الشرح موجود ولكنه لم ينشر بعد.

(6)

م: تاريخ؛ وهذا النص في الجذوة: 97.

ص: 173

قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر (1) ، فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (2) ، وكتاب محمد بن الحارث الخشني في " أخبار القضاة بقرطبة (3) وسائر الأندلس "، وكتاب " في أخبار الفقهاء " بها، وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في " أنساب مشاهير أهل الأندلس " في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في " الأنساب " في غاية الحسن والإيجاز، وكتابه في " فضائل بني أمية "، وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس، ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها " أخبار شعراء إلبيرة " في نحو عشرة أجزاء، ومنها كتاب " الطوالع " في أنساب أهل الأندلس، ومنها كتاب " التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس " تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار من أجل كتاب ألف في هذا المعنى (4) ، وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال، وكتاب " المآثر العامرية " لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره (5) ، وكتاب الأقشتين (6) محمد بن عاصم النحوي في

(1) ورد طرف من أخبار هؤلاء الثائرين في المقتبس وابن عذاري، وانظر في أنسابهم كتاب الجمهرة:464.

(2)

في الأصول: الليثي، والتصويب عن الجذوة: 159، ومعجم البلدان (رية) .

(3)

كتاب " قضاة قرطبة " للخشني مطبوع مع " علماء إفريقية " له بمصر سنة 1372هـ عن نشرة ريبيرا (1914) .

(4)

أبو مروان ابن حيان كبير مؤرخي الأندلس وصاحب المقتبس والمتين وغيرهما (الصلة: 150 والذخيرة 1 / 2: 84 - 114) وقد نشر من مقتبسه ثلاث قطع، ويعتمد ابن بسام عليه في الأجزاء التاريخية من كتاب الذخيرة.

(5)

انظر الجذوة: 181.

(6)

الأقشين (Augustine) له ترجمة في الجذوة مرتين 74، 82 مرة باسم محمد بن عاصم ومرة باسم محمد بن موسىبن هاشم (وبغية الملتمس رقم: 243، 268) وطبقات الزبيدي: 305 (وكتب خطأ: الأفشنيق) وابن الفرضي 2: 216، وأكبر الظن هناك خطأ وقع بين " عاصم " و " هاشم ". ولم يذكر الزبيدي " محمد بن عاصم " في النحويين، وهو أعرف بهم.

ص: 174

" طبقات الكتاب بالأندلس "، وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (1) ، وكتاب أحمد بن فرج في " المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم "، وكتاب " أخبار أطباء الأندلس " لسليمان بن جلجل (2) .

وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق (3) وهي كتب رفيعة حسان، وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني (4) ، وهي كتب رفيعة حسان، وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش (5) الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن، وكتب ابن الهيثم (6) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها.

وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة (7) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة.

(1) انظر ترجمة سكن بن سعيد في الجذوة: 319 والبغية رقم: 834.

(2)

نشره الأستاذ فؤاد السيد (القاهرة: 1955) مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفة.

(3)

ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 2: 43 والجذوة: 351 والبغية رقم: 1460.

(4)

ترجمته في ابن اصيبعة 2: 45 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81 وهو أيضا صاحب كتاب التشبيهات، وانظر هنالك تحقيقنا لاسمه ومواضع ترجمته.

(5)

في النفح عياش؛ وفي المصادر التي ترجمت له (ابن أبي أصيبعة 2: 52 والجذوة: 195 والبغية رقم: 715)" عباس " ومن كتابه التصريف نسخ في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع بروكلمان) .

(6)

هو عبد الرحمن بن إسحاق (ابن أبي اصيبعة 2: 46) .

(7)

سعيد بن فتحون السرقسطي: ترجمته في طبقات صاعد: 68 والجذوة: 216 وبغية الملتمس رقم: 813 وبغية الوعاة: 256 والذيل والتكملة 4: 40 وانظر فهرست كتاب التشبيهات لابن الكتاني.

ص: 175

وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة (1) وزيج ابن السمح (2) ، وهما من أهل بلدنا، وكذلك كتاب المساحة المجهولة لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه.

وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة (3) التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها.

وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على أصوله، ولهم فيه تواليف: منهم خليل بن إسحاق (4) ، ويحيى بن السمينة (5) ، والحاجب موسى بن حدير وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد (6) ، وكان داعية إلى الاعتزال

(1) يعني أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي (توفي 398)، وله تعديل زيج البتاني. انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 78 وتاريخ الحكماء: 326 وملحق بروكلمان.

(2)

هو أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي، ألف زيجا على أحد مذاهب الهند (وتوفي سنة 426)، انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 79 وملحق بروكلمان.

(3)

قارن هذا بما ذكره ابن حزم في كتاب " التقريب لحد المنطق " ص: 10.

(4)

لعل صوابه " خليل بن عبد الملك " وهو من أصحاب ابن مسرة، وعليه درس ابن السمينة (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة: 309) .

(5)

يحيى بن السمينة توفي سنة 315 (انظر الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320) .

(6)

راجع ترجمة موسى بن حدير في الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320، وكان أخوه أحمد بن محمد صاحب الوزارة أيام عبد الرحمن الناصر.

ص: 176

لا يستتر بذلك. ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى (1) ، وهو وإن كان صغير الجرم قليل عدد الورق يزيد على المائتين زيادة يسيرة فعظيم الفائدة لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا عن التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة. ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله تعالى على باقيه، لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والمللي بالمجازاة عليها، وما كان لله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وبلدنا هذا - على بعده من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء - فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها.

ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (2) في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق، لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جارٍ على مذهب الأوائل، لا على طريقة المحدثين، وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد (3) لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي (4) إبراهيم والتلمذة له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار

(1) أغلب الظن أنه يعني كتاب " المجلى " وهو متن شرحه بالمحلى.

(2)

ترجمة أبي الأجرب في الجذوة: 177 وبغية الملتمس رقم: 626 والمغرب 1: 131.

(3)

قد مر ذكره، وهذا النص عنه ثابت في الجذوة.

(4)

في الأصول: بن.

ص: 177

بهما إلا أبا الحسن ابن المفلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد. وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته، وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة وعمه محمد بن عيسى وفضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس (1) ، وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (2) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد.

ولو يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد (3) وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب، وأحمد بن عبد الملك بن مروان، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي (4) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة.

ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا، وهو حي بعد لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان عمرو وسهل (5) ومحمد بن عبد الله بن مسرة (6) في طريقه التي سلك فيها، وإن كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم.

(1) وإذا أشرنا

عبدوس: ورد هذا النص في الجذوة: 71 وبغية الملتمس رقم: 222.

(2)

الرباحي (نسبة إلى قلعة رباح) من كبار نحويي الأندلس قبل دخول القالي إليها؛ انظر طبقات الزبيدي: 335 وابن الفرضي 2: 71 والجذوة: 91 وبغية الملتمس رقم: 312 والقفطي 3: 229 والوافي 2: 372 وبغية الوعاة: 113.

(3)

بن برد: زيادة من ق.

(4)

أحمد بن عبد الملك بن مروان (الجذوة: 123) وأغلب بن شعيب الجياني من شعراء عبد الرحمن الناصر (ص: 165) ومحمد بن شخيص (الجذوة: 84 واليتيمة 2: 23 والمغرب 1: 203 وصفحات متفرقة من المقتبس تحقيق حجي)، وعبد الملك بن سعيد المرادي الخازن (الجذوة: 266) .

(5)

يريد: عمرو بن بحر الجاحظ وسهل بن هارون.

(6)

في ابن المسرة ومذهبه كتاب مستوفي للمستشرق آثين بلاسيوس وخلاصة عنه في تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا، وانظر كتاب تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 52 وما بعدها.

ص: 178

وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم.

انتهت الرسالة.

وكتب الحافظ بن حجر على هامش قوله فيها " وإنما سكن على الكوفة خمسة أعوام وأشهراً " ما نصه: صوابه أربعة أعوام، انتهى.

[7 - تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم]

وقال ابن سعيد، بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته: رأيت أن أذيل ما ذكره الوزير الحافظ أبو محمد ابن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرني والله تعالى ولي الإعانة.

أما القرآن فمن أجل ما صنف في تفسيره كتاب " الهداية إلى بلوغ النهاية " في نحو عشرة أسفار، صنفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي (1) ، وله كتاب " تفسير إعراب القرآن "، وعد ابن غالب في كتاب " فرحة الأنفس " تآليف مكي المذكور، فبلغ بها 77 تأليفاً، وكانت وفاته سنة 437، ولأبي محمد بن عطية الغرناطي في تفسير القرآن الكتاب الكبير الذي اشتهر وطار في الغرب والشرق، وصاحبه من فضلاء المائة السادسة (2) .

وأما القراءات فلمكي المذكور فيها كتاب " التبصرة "؛ وكتاب " التيسير "

(1) ترجمته في الصلة: 597 وغاية النهاية 2: 307؛ اقرأ في جامع الزاهرة حتى انقضت دولة العامريين فنقله المهدي إلى المسجد الجامع بقرطبة واقرأ فيه مدة الفتنة إلى أن قلده أبو الحزم ابن جهور الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع؛ ومن الغريب أن ابن حزم أغفل ذكره مع أنه عاصره.

(2)

توفي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي سنة 542 (انظر الصلة: 367 والقلائد 208 والمرقبة العليا: 109 والديباج: 174 والمغرب 2: 117؛ والنفح 2: 526) .

ص: 179

لأبي عمرو الداني (1) مشهورٌ في أيدي الناس.

وأما الحديث فكان بعصرنا في المائة السابعة الإمام أبو الحسن علي بن القطان القرطبي الساكن بحضرة مراكش (2) ، وله في تفسير غرائبه وفي رجاله مصنفات، وإليه كانت النهاية والإشارة في عصرنا، وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهورة، وحذف المكرر، وكتاب رزين بن عمار الأندلسي (3) في جمع ما يتضمنه كتاب مسلم والبخاري والموطأ والسنن والنسائي والترمذي كتاب جليل مشهور في أيدي الناس بالمشرق والمغرب، وكتاب " الأحكام " لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي مشهور متداول القراءة، وهي أحكام كبرى، وأحكام صغرى، قيل: ووسطى، وكتاب " الجمع بين الصحيحين " للحميدي مشهور.

وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب " التهذيب " للبراذعي السرقسطي (4) ، وكتاب " النهاية "(5) لأبي الوليد ابن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية، وكذلك كتاب " المنتقى " للباجي.

وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر ابن العربي الإشبيلي من

(1) أبو عمر عثمان بن سعيد الداني من شيوخ القراء وأبعدهم شهرة؛ انظر في أخباره وكتبه مقدمة المحكم تحقيق الدكتورة عزة حسن (دمشق 1960) . والنفح 2: 135 (رقم: 76) .

(2)

ترجمة ابن القطان في التكملة رقم: 1920 وصلة الصلة: 131 (توفي سنة 628) وقد استدرك على كتاب الأحكام الآتي ذكره لابن عبد الحق بكتاب سماه " الوهم والإيهام الواقعين على كتاب الأحكام ".

(3)

هو رزين بن معاوية بن عمار العبدري سرقسطي يكنى أبا الحسن، توفي سنة 524 وكان من علماء الحديث (الصلة: 184) .

(4)

البراذعي واسمه خلف بن أبي القاسم الأزدي، قيرواني ارتحل إلى صقلية وألف فيها كتابه تهذيب المدونة (الديباج: 112) وفرع منه سنة 327هـ وليس البراذعي سرقسطيا، ويبدو أنه نسب إلى سرقوسة بصقلية واضطرب الأمر في ذلك على ابن سعيد؛ ومن التهذيب نسخة خطية بدار الكتب رقم: 405 فقه مالكي؛ وانظر كتابنا العرب في صقلية: 97 - 98.

(5)

هو كتاب " نهاية المجتهد "(ابن أبي اصيبعة 2: 77) .

ص: 180

ذلك ما منه كتاب " العواصم والقواصم " المشهور بأيدي الناس، وله تآليف في غير هذا، ولأبي الوليد ابن رشد في أصول الفقه ما منه " مختصر المستصفى ".

وأما التواريخ فكتاب ابن حيان الكبير المعروف " بالمتين " في نحو ستين مجلدة وإنما ذكر ابن حزم كتاب " المقتبس " وهو في عشر مجلدات، والمتين يذكر فيه أخبار عصره ويمعن فيها مما شاهده، ومنه ينقل صاحب الذخيرة، وقد ذيل عليه أبو الحجاج البياسي أحد معاصرينا، وهو الآن بإفريقية في حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر، وكتاب المظفر ابن الأفطس لمك بطليوس المعروف " بالمظفري " نحو كتاب " المتين " في الكبر، وفيه تاريخ على السنين، وفنون آداب كثيرة، وتاريخ ابن صاحب الصلاة في الدولة اللمتونية (1) ، وذكر ابن غالب أن ابن الصيرفي الغرناطي له كتاب في " أخبار دولة لمتونة "(2) ، وأن أبا الحسن السالمي له كتاب " في أخبار الفتنة الثانية بالأندلس "(3) بدأ من سنة 539، ورتبه على السنين وبلغ به سنة 547، وأبو القاسم خلف بن بشكوال له كتاب في " تاريخ أصحاب الأندلس " من فتحها إلى زمانه، وأضاف إلى ذلك من أخبار قرطبة وغيرها ما جاء في خاطره، وله كتاب " الصلة " في تاريخ العلماء، وللحميدي قبله " جذوة المقتبس " وقد ذيل كتاب الصلة ف عصرنا هذا أبو عبد الله ابن الأبار البلنسي كاتب سلطان إفريقية. وذكر ابن غالب أن الفقيه أبا جعفر ابن عبد الحق الخزرجي القرطبي له كتاب كبير بدأ فيه من بدء

(1) لابن صاحب الصلاة عبد الملك بن محمد الباجي كتاب في ثورة المريدين، ولا أعرف له كتابا في تاريخ اللمتونيين؛ وهو أيضا صاحب كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين ".

(2)

يعد ابن الصير في حجة في تاريخ المرابطين؛ وينقل عنه لسان الدين في أعمال الأعلام أخبارا عن دول الطوائف ليس فيها تحامل امرئ كان وثيق الصلة بالمرابطين؛ انظر ترجمته في المغرب 2: 118 والتكملة: 723.

(3)

سماه ابن عبد الملك (الذيل 6: الورقة 3 من نسخة المتحف البريطاني)" في الفتنة الكائنة على اللمتونيين بالأندلس سنة أربعين وما يليها "؛ وله مختصر سماه " عبرة العبر وعجائب القدر في ذكر الفتن الأندلسية والعدوية بعد فساد الدولة المرابطية ".

ص: 181

الخليقة إلى أن انتهى في أخبار الأندلس إلى دولة عبد المؤمن، قال: وفارقته سنة 565. وأبو محمد ابن حزم صاحب الرسالة المتقدمة الذكر له كتب جمة في التواريخ، مثل كتاب " نقط العروس في تواريخ (1) الخلفاء " وقد صنف أبو الوليد ابن زيدون كتاب " التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس " على منزع كتاب " التعيين في خلفاء المشرق " للمسعودي. وللقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي كتاب " التعريف بأخبار علماء الأمم من العرب والعجم " وكتاب " جامع أخبار الأمم ". وأبو عمر بن عبد البر له كتاب " القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم ". وعريب بن سعد القرطبي له كتاب " اختصار تاريخ الطبري " قد سعد باغتباط الناس به، وأضاف إليه تاريخ إفريقية والأندلس، ولأحمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن [أبي] الفياض كتاب " العبر "(2) ، وكتاب أبي بكر الحسن بن محمد الزبيدي في " أخبار النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس "(3) ، وكتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي في " أخبار العلماء والشعراء " وما يتعلق بذلك وليحيى بن حكم الغزال تاريخ ألفه كله منظوماً (4) ، كما صنع أيضاً بعده أبو طالب المتنبي من جزيرة شقر في التاريخ الذي أورد منه صاحب الذخيرة ما أورد (5) ، وكتاب " الذخيرة " لابن بسام في جزيرة الأندلس ليس هذا مكان الإطناب في تفصيلها وهي كالذيل على حدائق ابن فرج، وفي عصرها (6) صنف الفتح كتاب " القلائد " وهو مملوء بلاغة،

(1) ب: تاريخ.

(2)

ابن أبي الفياض أصله من إستجة وسكن المرية، قال ابن بشكوال (الصلة: 63) له تأليف في الخبر والتاريخ، ولكنه لم يمسه؛ توفي سنة 459.

(3)

هو الذي نشير إليه في هذه التعليقات باسم " طبقات الزبيدي ".

(4)

انظر ترجمة الغزال في النفح 2: 254 (رقم: 165) .

(5)

راجع الذخيرة 1 / 2: 405 حيث تجد أرجوزة ابن عبد الجبار المتنبي.

(6)

م: عصرنا.

ص: 182

والمحاكمة بين الكتابين ذكرت بمكان (1) آخر، ولصاحب القلائد كتاب " المطمح " وهو ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى، يذكر فيها من الذين ذكرهم في القلائد ومن غيرهم الذين كانوا قبل عصرهم، وكتاب " سمط الجمان وسقط (2) المرجان " لأبي عمرو ابن الإمام بعد الكتابين المذكورين، ذكر من أخلا بتوفيته حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، وذيل عليه - وإن كان ذيلاً قصيراً - أبو بحر (3) صفوان بن إدريس المرسي بكتاب " زاد المسافر " ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة، وكتاب أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري المسمى ب " المسهب في فضائل المغرب " صنفه بعد " الذخيرة " و " القلائد " من أول ما عمرت الأندلس إلى عصره، وخرج فيه عن مقصد الكتابين إلى ذكر البلاد وخواصها مما يختص بعلم الجغرافية، وخلطه بالتاريخ وتفنن الأدب على ما هو مذكور في غير هذا المكان، ولم يصنف في الأندلس مثل كتابه، ولذلك فضله المصنف له عبد الملك بن سعيد، وذيل عليه، ثم ذيل على ذلك ابناه أحمد ومحمد ثم موسى بن محمد ثم علي بن موسى كاتب هذه النسخة ومكمل كتاب " فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب " المحتوي على كتابي " المشرق في حلى المشرق " و " المغرب في حلى المغرب "، فيكفي الأندلس في هذا الشأن تصنيف هذا الكتاب بين ستة أشخاص في 115 سنة آخرها سنة 645، وقد احتوى على جميع ما يذاكر به ويحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة على جهد الطاقة في شرق وغرب على النوع الذي هو مذكور في غير هذا الموضع، ومن أغفلت التنبيه على عصرهن وغير ذلك من المصنفين المتقدمي الذكر، فيطلب الملتمس منه في مكانه المنسوب إليه كابن

(1) ق: في مكان.

(2)

ب م: وسقيط؛ وعن هذا الكتاب ينقل ابن سعيد في المغرب.

(3)

ق: أبو يحيى؛ وهو خطأ.

ص: 183

بسام في شنترين، والفتح في إشبيلية، وابن الإمام في إستجة، والحجاري في وادي الحجارة.

وأما ما جاء منثوراً من فنون الأدب فكتاب " سراج الدب " لأبي عبد الله ابن أبي الخصال الشقوري رئيس كتاب الأندلس (1) ، صنفه على منزع كتاب " النوادر " لأبي علي، و " زهر الآداب " للحصري؛ وكتاب " واجب الأدب " لوالدي موسى بن محمد بن سعيد، واسمه يغني عن المراد به؛ وكتاب " اللآلئ " لأبي عبيد البكري على كتاب " الأمالي " لأبي علي البغدادي مفيد في الأدب، وكذلك كتاب " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب " لأبي محمد ابن السيد البطليوسي، وأما شرح " سقط الزند " له فهو الغاية، ويكفي ذكره عند أرباب هذا الشأن وثناؤهم عليه، وشروح أبي الحجاج الأعلم بشعر المتنبي والحماسة وغير ذلك مشهورة.

وأما النحو فلأهل الأندلس من الشروح على " الجمل "(2) ما يطول ذكره، فمنها شرح ابن خروف، ومنها شرح الرندي، ومنها شرح شيخنا أبي الحسن ابن عصفور الإشبيلي، وإليه انتهت علوم النحو، وعليه الإحالة الآن من المشرق والمغرب، وقد أتيت له من إفريقية بكتاب " المقرب " في النحو فتلقي باليمين من كل جهة، وطار بجناح الاغتباط، ولشيخنا أبي علي الشلوبين كتاب " التوطئة " على الجزولية وهو مشهور، ولابن السيد وابن الطراوة والسهيلي من التقييدات في النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن المعتمد عليه، ولأبي الحسن ابن خروف شرح مشهور على كتاب سيبويه.

وأما علم الجغرافيا فيكفي في ذلك كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري

(1) راجع ترجمة أبي عبد الله ابن أبي الخصال في المطرب: 187 وبغية الملتمس رقم: 282 وقلائد العقيان: 175 والصلة: 557 وبغية الوعاة: 104 ورايات المبرزين: 74، وله ذكر في المعجب والمغرب ومعجم شيوخ الصدفي وجذوة الاقتباس.

(2)

انظر كشف الظنون: 603 - 604 ففيه ذكر لبعض شروح الجمل من تأليف الأندلسيين وغيرهم.

ص: 184

الأونبي وكتاب " معجم مستعجم من البقاع والأماكن "، وفي كتاب " المسهب " للحجاري في هذا الشأن وتذييلنا عليه في هذا الكتاب الجامع زبد (1) الأولين والآخرين في ذلك.

واما الموسيقى فكتاب أبي بكر ابن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية وهو في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخذوج (2) المرسي كتاب " الأغاني الأندلسية " على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة.

واما الطب فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب، وقد سار أيضاً في المشرق لنبله، كتاب " التيسير "(3) لعبد الملك بن أبي العلاء بن زهر وله كتاب " الأغذية "(4) أيضاً مشهور مغتبط به في المغرب والمشرق، ولأبي العباس ابن الرومية الإشبيلي (5) من علماء عصرنا بهذا الشأن كتاب في الأدوية المفردة، وقد جمع أبو محمد المالقي (6) الساكن الآن بقاهرة مصر كتاباً في هذا الشأن حشر عليه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم، وهو النهاية في مقصده.

وأما الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد ابن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم،

(1) م: زبدة.

(2)

في الأصول: الخدج: وقد ضبطه الرعيني في برنامجه: 164 وهو أبو زكرياء يحيى بن إبراهيم الأصبحي الحكيم؛ قال: عرض علي كتابه الكبير الذي سماه الأغاني الأندلسية وقرأت عليه خطبته ومواضع منه وناولني جميع أسفاره.

(3)

هو كتاب التيسير في المداواة والتدبير (ابن أبي أصيبعة 2: 67) .

(4)

ألف ابن زهر كتاب الأغذية للخليفة عبد المؤمن بن علي (المصدر السابق) .

(5)

انظر ترجمة ابن الرومية في ابن أبي أصيبعة 2: 87 والإحاطة 1: 88 (ط. السلفية) والنفح 2: 596 (رقم: 221) ومزيدا من المصادر في الحاشية.

(6)

يريد ابن البيطار صاحب كتاب المفردات وقد مرت ترجمته في المجلد 2: 691 (رقم: 304) .

ص: 185

وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب (1) الذي قتله المأمون بن المنصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، فلذلك تخفى تصانيفه.

وأما التنجيم فلابن زيد الأسقف القرطبي فيه تصانيف، وكان مختصاً بالمستنصر بن الناصر المرواني، وله ألف كتاب " تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان " وفيه من ذكر منازل القمر وما يتعلق بذلك ما يستحسن مقصده وتقريبه، وكان مطرف الإشبيلي في عصرنا قد اشتغل بالتصنيف في هذا الشأن، إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه للزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن فكان لا يظهر شيئاً مما يصنف.

[8 - رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس]

ثم قال ابن سعيد: أخبرني والدي قال: كنت يوماً في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى ابن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن، فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى ابن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين، فقال الشقندي لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة، ولا سارت عنه فضيلة، ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم، فقال الأمير أبو يحيى: أتريد أن تقول كون أهل برنا عرباً وأهل بركم (2) بربر فقال: حاش لله! فقال الأمير: والله ما أردت غير هذا، فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقال ابن المعلم: أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعاً، وأرجو إذا أخليتما له فكركما يصدر عنكما ما يحسن تخليده، ففعلا ذلك:

(1) هو ابن حبيب القصري (المغرب 1: 296) .

(2)

م: بلدنا

بلدكم.

ص: 186

فكانت رسالة الشقندي: الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس (1) أن يتكلم ملء فيه، ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه، إذ لا يقال للنهار: يا مظلم، ولا لوجه النعيم: يا قبيح.

وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ

فإن وجدت لساناً قائلاً فقل أحمده على أن جعلني ممن أنشأته، وحباني بأن كنت ممن أظهرته، فامتد في الفخر باعي، وأعانني على الفضائل كرم طباعي، وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه الأكرمين، وأسلم تسليماً.

أما بعد؛ فإنه حرك مني ساكناً، وملأ مني فارغاً، فخرجت عن سجيتي في الإغضاء، مكرهاً إلى الحمية والإباء، منازعٌ في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع، ويأتي (2) بما لا تقبله النواظر والأسماع، إذ من رأى ومن سمع لا يجوزعنده (3) ذلك، ولا يضله من تاه في تلك المسالك، رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام (4) أن يفضل على اليمين اليسار، ويقول: الليل أضوأ من النهار، فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج، وصادم الصفاة (5) بالزجاج، فيا من نفخ في غير ضرم، ورام صيد البزاة بالرخم، كيف تتكثر بما جعله الله قليلاً، وتتعزز بما حكم الله أن يكون ذليلاً وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز سل العيون إلى وجه من تميل واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي (6)

(1) ب: ببر الأندلس.

(2)

ب: ويتأتى.

(3)

م: له.

(4)

م: رام.

(5)

م: قابل للآلي

الصفاح؛ ب: الصفة بالرجاج.

(6)

البيت لربيعة الرقي. انظر الأغاني 16: 189 وفيه هجاء ليزيد بن أسيد وكان جليلا عند المنصور والمهدي، وتفصيل ليزيد بن حاتم الأزدي.

ص: 187

لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم اقن حياءك أيها المغرد (1) بالنحيب، المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب، أين عزب عقلك وكيف نكص على عقبه (2) فهمك ولبك أبلغت العصبية من قلبك، أن تطمس على نوري (3) بصرك ولبك

أما قولك " الملوك منا " فقد كان الملوك منا أيضاًن وما نحن إلا كما قال الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا

ويومٌ نساء ويومٌ نسرّ إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن، أدامها الله تعالى، فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم:

وإنّي من قوم كرام أعزّة

لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر

خلائف في الإسلام في الشرك قادة

بهم وإليهم فخر كلّ مفاخر ويقول مغربيهم (4) :

ألسنا بني مروان كيف تبدلت

بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منّا تهلّلت

له الأرض واهتزّت إليه المنابر وقد نشا في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق، وصار أثبت في صحائف (5) الأيام، من الأطواق في أعناق الحمام:

(1) ق: المفرد.

(2)

م: على عقبيه؛ ب: على عقب.

(3)

م: نور، وسقطت اللفظة من ق هي والعبارة من قوله: أبلغت

لبك.

(4)

البيتان من شعر محمد بن عبد الملك حفيد عبد الرحمن الناصر (الحلة 1: 209) قال ابن الأبار: وقد أنشد أبو منصور الثعالبي في اليتيمة من تأليفه هذا الشعر ونسبه إلى الحكم المستنصر بالله

وهذا من أغلاظ أبي منصور وأوهامه الفاحشة.

(5)

ب ودوزي: على صحائف.

ص: 188

وسار مسير الشمس في كلّ بلدةٍ

وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل:

إنّ الخلافة فيكم لم تزل نسقاً

كالعقد منظومة فيه فرائده إلى أن حكم الله بنثر سلكهم، وذهاب ملكهم، فذهبوا وذهبت أخبارهم، ودرسوا ودرست آثارهم (1) :

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جمال الكتب والسّير فكم مكرمة أنالوها، وكم (2) عثرة أقالوها:

وإنّما المرء حديثٌ بعده

فكن حديثاً حسناً لمن وعى وكان من حسنات ملكهم المنصور الن أبي عامر، وما أدراك، الذي بلغ في بلاد النصارى غازياً إلى البحر الأخضر، ولم يترك أسيراً في بلادهم من المسلمين، ولم يبرح (3) في جيش الهرقل وعزمة الاسكندر، ولما قضى نحبه كتب على قبره (4) :

آثاره تنبيك عن أوصافه

حتّى كأنّك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزّمان بمثله

أبداً ولا يحمي الثغور سواه وقد قيل فيه من الأمداح، وألف له من الكتب، ما سمعت وعلمت، حتى قصد من بغداد، وعم خيره وشره أقاصي (5) البلاد، ولما ثار بعد انتثار

(1) زاد في م: كما قيل.

(2)

م: وكم من.

(3)

م: ولم يزل.

(4)

مر البيتان، انظر ج: 1 ص: 398.

(5)

أقاصي: سقطت من م.

ص: 189

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماعٌ على النعملفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية: بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح (1) ، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه (2) في قسمه، ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً أن أبا غالب اللغوي ألف كتاباً، فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوباً وكسىً على أن يجعل الكتاب باسمه، فلم يقبل ذلك أبو غالب، وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له، لا أفعل ذلك، فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته، وأضعف له العطاء، وقال: هو في حلٍ من أن يذكرني فيه، لا نصده عن غرضه (3) . وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا (4) في ملاءة الحضر، فإني أخص منهم بني عباد، كما قال الله

(1) م: النهار.

(2)

م: شرط.

(3)

مرت الحكاية في رسالة ابن حزم؛ انظر ما تقدم ص: 172.

(4)

الصواب إسقاط " في "، من قول الخنساء: يتنازعان ملاءة الحضر.

ص: 190

تعالى " فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمان " فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد، وكان لهم من الحنو على الأدب، ما لم يقم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم، وآثارهم مذكورة، وأخبارهم مشهورة، وقد خلدوا من المكارم التامة، ما هو متردد في ألسن الخاصة والعامة، وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية، أبسقوت (1) الحاجب أم بصالح البرغواطي (2) أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكراً، ولا رفعوا لملكه قدرا وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد بن عباد فإن المعتمد قال له، وقد أنشدوه أيعلم أمير المسلمين ما قالوه قال: لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز، ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد (3) رسالة فيها:

بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا

شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا

حالت لفقدكم أيامنا فغدت

سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ:

يطلب منا (4) جواري سوداً وبيضاً، قال: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً لأن الليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده (5) ليلاً لأن أيام الحزن ليالٍ سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا

(1) ب: ابسقمود؛ ق ودوزي: أبسقموت؛ وهو سقوط البرغواطي المتغلب على مدينة سبتة ومنه أخذها يوسف بن تاشفين (انظر مفاخر البربر: 54 وما بعدها) .

(2)

هو صالح بن طريف الذي استحدث لبرغوطة مذهبا مستقلا، حوالي سنة 123هـ. (انظر الاستبصار 198 - 200 في بعض الأخبار عنه وعن مذهبه) . وفي م: البغرواطي.

(3)

زاد في م: يتشوق.

(4)

م: هو يطلب، وسقطت " هو يطلب منا " في ب.

(5)

م: ببعد أمير المسلمين.

ص: 191

تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق:

ولا تنكرن مهما رأيت مقدماً

على حمرٍ بغلاً فثمّ تناسب فاسكتوا (1) فلولا هذه الدولة، لما كان لكم على الناس صولة:

وإن الورد يقطف من قتاد

وإنّ النار تقبس من رماد وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء (2) فأخبرني: هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن، ومثل أبي الوليد الباجي، ومثل أبي بكر ابن العربي، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر، وهو ابن ابن الأكبر، نجوم الإسلام، ومصابيح شريعة محمد عليه السلام، وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال إلى رتبة العلم، ورآها فوق كل رتبة، وقال وقد أحرقت كتبه (3) :

دعوني من إحراق رقّ وكاغدٍ

وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي

تضمنه القرطاس، إذ هو في صدري ومثل أبي عمر ابن عبد البر صاحب " الاستذكار " و " التمهيد " ومثل أبي بكر ابن الجد حافظ الأندلس في هذه الدولة، وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سيده صاحب كتاب " المحكم " وكتاب " السماء والعالم " الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته، وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ومثل ابن الطراوة، ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن، وقد سار في المغارب والمشارق ذكره، وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة،

(1) م: فاسكتوا يا أهل العدوة.

(2)

ب: العلماء.

(3)

انظر ج 2: 82.

ص: 192

وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة، فإنه كان في ذلك آية وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة " حي بن يقظان " المقدم في علم (1) الفلسفة، ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب " المتين " و " المقتبس " وهل عندكم في رئساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب " العقد " وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب " الذخيرة " وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكيسة في البيت الفارغ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع، وإن ذم وضع، وقد ظهر له من ذلك في كتاب " القلائد " ما هو أعدل شاهد، ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله، ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه، وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد ابن عباد في قوله (2) :

وليل بسدّ النهر أنساً قطعته

بذات سوارٍ مثل منعطف النهر

نضت بردها عن غصن بانٍ منعم

فيا حسن ما انشقّ الكمام عن الزهر وقوله في أبيه (3) :

سميدعٌ يهب الآلاف مبتدءاً

وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر (4)

له يدٌ كلّ جبّار يقبّلها

لولا نداها لقلنا إنها الحجر ومثل ابنه الراضي (5) في قوله:

(1) ب: المتقدم؛ م: في علوم.

(2)

ديوانه: 12، والمقتطف، الورقة: 31 وعنوان المرقصات: 22 والقلائد: 6.

(3)

ديوانه: 37 - 38 وعنوان المرقصات: 22 والثاني في المقتطف: 29.

(4)

ب: معتذر.

(5)

م: الراضي بالله؛ وانظر البيتين في الحلة 2: 71.

ص: 193

مرّوا بنا أصلاً من غير ميعاد

فأوقدوا نار قلبي أيّ إيقاد

لا غرو إن زاد في وجدي مرورهم

فرؤية الماء تذكي غلّة الصادي وهل لكم ملك ألف في فنون الآداب كتاباً في نحو مائة مجلدة مثل المظفر ابن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب وهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل، وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل التي منها (1) :

أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم

لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا

وصبغت درعك من دماء كماتهم

لمّا رأيت الحسن يلبس أحمرا ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقل مع طولها في النسيب أرق منها، وهي التي يقول فيها:

كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا

والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا

سرّان في خاطر الظّلماء يكتمنا

حتّى يكاد لسان الصبح يفشينا وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين استحسن المعتمد قول المتنبي:

إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة

أثاب بها معيي المطيّ ورازمه فارتجل:

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنّما

تجيد العطايا واللها تفتح اللها

تنبأ عجباً بالقريض ولو درى

بأنّك تروي شعره لتؤلّها

(1) أورد المقري قصيدة ابن عمار، في النفح ج: 1 ص: 655.

ص: 194

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي (1)" هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام " الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله (2) :

ألم تعلمي أنّ الثّواء هو التّوى

وأنّ بيوت العجزين قبور

وأنّ خطيرات المهالك ضمّنٌ

براكبها أنّ الجزاء خطير

تخوّفني طول السّفار وإنّه

بتقبيل كفّ العامريّ جدير (3)

مجير الهدى والدين من كلّ ملحدٍ

وليس عليه للضّلال مجير

تلاقت عليه من تميمٍ ويعربٍ

شموسٌ تلاقت في العلا وبدور

هم يستقلّون الحياة لراغبٍ

ويستصغرون الخطب وهو كبير

ولمّا توافوا للسّلام ورفّعت

عن الشمس في أفق الشروق ستور

وقد قام من زرق الأسنّة دونها

صفوفٌ ومن بيض السيوف سطور

رأوا ساعة الرحمن كيف اعتزازها

وآيات صنع الله كيف تنير

وكيف استوى بالبرّ والبحر مجلسٌ

وقام بعبء الراسيات سرير

فجاؤوا عجالاً والقلوب خوافقٌ

وولّوا بطاء والنواظر صور

يقولون والإجلال يخرس ألسناً

وحازت عيون ملأها وصدور

لقد حاط أعلام الهدى بك حائطٌ

وقدّر فيك المكرمات قدير وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات، من غرائب الآيات، لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلى به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر، ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر.

وإن ذكر الغرب عن الأوطان، ومكابدة نوائب الزمان، قال (4) :

(1) م: الثعالبي في اليتيمة.

(2)

ديوان ابن دراج.

(3)

الديوان: لتقبيل كف العامري سفير.

(4)

ديوان ابن دراج: 110، 112 وانظر المغرب 2:61.

ص: 195

قالت وقد مزج الفراق مدامعاً

بمدامع وترائباً بترائب

أتفّرقٌ حتى بمنزل غربة

كم نحن للأيّام نهبة ناهب

ولئن جنيت عليها ترحة راحلٍ

فأنا الزعيم لها بفرحة آيب

هل أبصرت عيناك بدراً طالعاً

في الأفق إلاّ من هلالٍ غارب وإن شبه قال (1) :

كمعاقلٍ من سوسنٍ قد شيّدت

أيدي الربيع بناءها فوق القضب

شرفاتها من فضّة وحماتها

حول الأمير لهم سيوف من ذهب وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر، ويطيب به الزهر، وهو أبو عمر ابن فرج في قوله (2) :

وطائعة الوصال عففت عنها

وما الشّيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرةً فباتت

دياجي اللّيل سافرة القناع

وما من لحظةٍ إلاّ وفيها

إلى فتن القلوب لها دواعي

فملّكت النّهى جمحات شوقي

لأجري في العفاف على طباعي

وبتّ بها مبيت السّقب (3) يظما

فيمنعه الكعام من الرضاع

كذاك الروض ما فيه لمثلي

سوى نظر وشمٍّ من متاع

ولست من السوائم مهملات

فأتّخذ الرياض من المراعي وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي (4) :

(1) ديوانه: 36.

(2)

الأبيات لأبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجياني (الجذوة: 97 - 98 والمطمح: 80 والمغرب: 2: 56) .

(3)

م: السقط.

(4)

ترجمته في المطمح: 25 ولم يورد البيتين؛ والذخيرة 1 / 2: 132، وهما منسوبان لابن برد في الذخيرة 1 / 2: 47، وأوردهما ابن سعيد للمائي في عنوان المرقصات:22.

ص: 196

عارضٌ أقبل في جنح الدّجى

يتهادى كتهادي ذي الوجى

بدّدت (1) ريح الصّبا لؤلؤه

فانبرى يوقد عنها سرجا ومثل قول أبي حفص ابن برد (2) :

وكأنّ الليل حين لوى

ذاهباً (3) والصبح قد لاحا

كلّةٌ سوداء أحرقها

عامدٌ أسرج مصباحا وهل منكم من وصف ما تحدثه الخمرة من الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق (4) :

أصبحت شمساً وفوه مغربا

ويد الساقي المحيّي مشرقا

وإذا ما غربت في فمه

تركت في الخدّ منه شفقا بمثل هذا الشعر (5) فليطلق اللسان ويفخر (6) كل إنسان.

وهل منكم من عمد إلى قول امرؤ (7) القيس:

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سموّ حباب الماء حالاً على حال فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبه (8) بلطفٍ استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار، فلطفه تلطيفاً يمتزج بالأرواح، ويغني في

(1) الذخيرة: أتلفت.

(2)

البيتان في الذخيرة 1 / 2: 48 وعنوان المرقصات: 22.

(3)

الذخيرة: هاربا.

(4)

من قصيدة أورد أكثرها ابن بسام في الذخيرة 1 / 2: 81 - 82.

(5)

ب: الشاعر.

(6)

ب م: ويفخر على.

(7)

هذا هو ما ذكره ابن شهيد نفسه (الذخيرة 1 / 1: 244 - 245) .

(8)

ق: وسلبه.

ص: 197

الارتياح عن شراب الراح وهو ابن شهيد في قوله (1) :

ولمّا تملأّ من سكره

ونام ونامت عيون الحرس

دنوت إليه على رقبةٍ (2)

دنوّ رفيقٍ درى ما التمس

أدبّ إليه دبيب الكرى

وأسموا إليه سموّ النفس

أقبل منه بياض الطّلى

وأرشف منه سواد اللّعس

فبتّ به ليلتي ناعماً

إلى أن تبسم ثغر الغلس وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بانهاق، وقابل العذب بالزعاق، فقال وليته سكت:

ونفضتّ عنّي العين أقبلت مشية ال

حباب وركني خيفة القوم أزور وأنا أقسم (3) لو زار جملٌ محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون، لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله (4) :

قالت لقد أعييتنا حجّة

فأت إذا ما هجع الساهر

واسقط علينا كسقوط الندى

ليلة لا ناهٍ ولا زاجر ولله در محمد ابن سفر (5) أحد شعرائنا المتأخرين عصراً المتقدمين قدراً، حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا، فبمثله ينبغي أن يتكلم، ومثله يليق أن يدون:

(1) في قوله: سقطت من م.

(2)

في الأصول: على قربه.

(3)

م: أقسم أن.

(4)

ينسب هذا الشعر لوضاح اليمن.

(5)

أبو الحسين محمد بن سفر (أو صفر) شاعر المرية في عصره؛ انظر المغرب 2: 212 والتحفة: 101 والوافي 3: 114 والنفح ج: 1 ص: 476، وقد نسب المريني في النفح وعنوان المرقصات وأغلب الظن أن صوابه " المريي " نسبة إلى بلده المرية.

ص: 198

وواعدتها والشمس تجنح للنّوى

بزورتها شمساً وبدر الدّجى يسري

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدّجى

وطوراً كما مرّ النسيم على النّهر

فعطّرت الآفاق حولي فأشعرت

بمقدمها والعرف يشعر بالزهر

فتابعت بالتقبيل آثار سعيها

كما يتقصّى قارئٌ أحرف السطر

فبتّ بها والليل قد نام والهوى

تنبّه بين الغصن والحقف والبدر

أعانقها طوراً وألثم تارةً

إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر

ففضّت عقوداً للتعانق بيننا

فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر، فقا وهو ابن اللبانة (1) :

بنفسي وأهلي جيرةٌ ما استعنتهم

على الدّهر إلا وانثنيت معانا

أراشوا جناحي ثمّ بلّوه بالنّدى

فلم أستطع من أرضهم طيرانا ومن يقول لقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلك بقطع مدحه له، فبلغه أنه عتبه على ذلك، وهو ابن وضاح (2) :

هل كنت إلاّ طائراً بثنائكم

في دوح مجدكم أقوم وأقعد

إن تسلبوني ريشكم وتقلّصوا

عنّي ظلالكم فكيف أغرّد وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجّوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح، وتشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً، وكليله في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب، وهو ابن الزقاق (3) :

(1) البيتان في عنوان المرقصات: 36.

(2)

عنوان المرقصات: 38.

(3)

مقطوعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 124، 197، 125 وفيه التخريجات.

ص: 199

وأغيدٍ طاف بالكؤوس ضحىً

وحثّها والصّباح قد وضحا

والروض أهدى لنا شقائقه

وآسه العنبريّ قد نفحا

قلنا: وأين الأقاح قال لنا

أودعته ثغر من سقى القدحا

فظلّ ساقي المدام يجحد ما

قال فلما تبسّم افتضحا وقال:

أديراها على الروض المندّى

وحكم الصبح في الظّلماء ماضي

وكأس الرّاح تنظر عن حبابٍ

ينوب لنا عن الحدق المراض

وما غلبت نجوم الأفق لكن

نقلن من السماء إلى الرّياض وقال:

ورياضٍ من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها

زهرات تروق لون الراح

قلت: ما ذنبها فقال مجيباً:

سرقت حمرة الخدود الملاح فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق، وفضح كل من طمع بعده في اللحاق، وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل (1) :

وعشيّ أنسٍ أضجعتنا نشوةٌ

فيها يمهّد مضجعي ويدمّث

خلعت عليّ بها الأراكة ظلّها

والغصن يصغي والحمام يحدّث

(1) م: في قوله؛ وأشعار ابن خفاجة هذه في ديوانه: 185، 356، 254، 291، 140، 119، 235، 123.

ص: 200

والشمس تجنح للغروب مريضةً

والرًعد يرقي والغمامة تنفث والقائل:

لله نهرٌ سال في بطحاء

أشهى وروداً من لمى الحسناء

متعطّفٌ مثل السّوار كأنّه

والزهر يكنفه مجرّ سماء

قد رقّ حتى ظنّ قرصاً مفرغاً

من فضةٍ في بردة خضراء

وغدت تحفّ به الغصون كأنّها

هدبٌ تحفً بمقلةٍ زرقاء

ولطالما أعطيت فيه مدامةً

صفراء تخضب أيدي الندماء

والريح تعبث بالغصون وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء والقائل:

حثّ المدامة والنّسيم عليل

والظلّ خفاق الرواق ظليل

والرّوض مهتزّ المعاطف نعمةً

نشوان تعطفه الصّبا فيميل

ريّان فضّضه الندى ثمّ انجلى

عنه فذهّب صفحتيه أصيل والقائل:

أذن الغمام بديمةٍ وعقار

فامزج لجيناً منهما بنضار

واربع على حكم الربيع بأجرعٍ

هزج الندامى مفصح الأطيار

متقسّم الألحاظ بين محاسنٍ

من ردف رابيةٍ وخصر قرار

نثرت بحجر الروض فيه يد الصّبا

درر الندى ودراهم الأنوار

وهفت بتغريدٍ هنالك أيكةٌ

خفّاقةٌ بمهبّ ريح عرار

هزّت له أعطافه ولربّما

خلعت عليه ملاءة النوّار (1)

(1) م: الأنوار.

ص: 201

والقائل:

سقياً لها من بطاح خزٍّ

ودوح نهرٍ بها مطلّ

إذ لا ترى غير وجه شمسٍ

أطلّ فيه عذار ظلّ القائل:

نهرٌ كما سال اللّمى سلسال

وصباً بليلٌ ذيلها مكسال

وهبّ نفحة ليلةٍ مطلولةٍ

في جانبيها للنّسيم مجال

غازلتها والأقحوانة مبسمٌ

والآس صدغٌ والبنفسج خال والقائل:

وساقٍ كحيل اللّحظ في شأو حسنه

جماحٌ وبالصبر الجميل حران

ترى للصبا ناراً بخدّيه لم يثر

لها من سوادي عارضيه دخان

سقاها وقد لاح الهلال عشيةً

كما اعوجّ في درع الكميّ سنان

عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ

ولم تزن بابن المزن فهي حصان

وقد جال من (1) جون الغمامة أدهمٌ

له البرق سوطٌ والشّمال عنان

وضمّخ ردع (2) الشمس نحر حديقةٍ

عليه من الطّلّ السقيط جمان

ونمّت بأسرار الرّياض خميلةٌ

لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته:

وأشقرٍ تضرم منه الوغى

بشعلةٍ من شعل الباس

من جلّنارٍ ناضرٍ لونه

وأذنه من ورق الآس

يطلع للغرّة في شقرةٍ

حبابةً تضحك في كاس

(1) م: جال في.

(2)

في الأصول: درع؛ والردع: الخلوق.

ص: 202

وهل منكم من يقول منادماً لنديمه وقد باكر روضاً بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب، فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك، وهو أبو الحسن ابن بسام (1) :

ألا بادر فما ثانٍ سوى ما

عهدت الكأس والبدر التمام

ولا تكسل برؤيته ضباباً

تغصّ (2) به الحديقة والمدام

فإن الرّوض ملثمٌ إلى أن

توافيه فينحطّ اللثام وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي (3) :

قالوا وقد أكثروا في حبّه عذلي

لو لم تهم بمذال القدر مبتذل

قفلت: لو كان أمري في الصبابة لي

لاخترت ذاك، ولكن ليس ذالك لي

علّقته حببيّ الثّغر عاطره

حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل

غزيّلٌ لم تزل في الغزل جائلةً

بنانه جولان الفكر في الغزل

جذلان تلعب بالمحواك أنمله

على السّدى لعب الأيّام بالأمل

ضمّاً بكفّيه أو فحصاً بأخمصه

تخبّط الظبي في أشراك محتبل ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل (4) :

وعشيٍّ رائقٍ منظره

قد قطعناه علىصرف الشّمول

وكأنّ الشّمس في أثنائه

ألصقت بالأرض خدّاً للنزول

والصّبا ترفع أذيال الرّبى

ومحيّا الجوّ كالنهر الصقيل

حبّذا منزلنا مغتبقاً

حيث لا يطرقنا غير الهديل

(1) الأبيات في عنوان المرقصات: 36.

(2)

ب م: تغض.

(3)

ديوان الرصافي: 121.

(4)

ديوان الرصافي: 123.

ص: 203

طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ

والدجى تشرب صهباء الأصيل وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى:

ورداء الأصيل

تطويه كفّ الظلام وهو أبو قاسم ابن الفرس (1) .

وهل منكم من وصف غلاماً جميل الصورة راقصاً بمثل قول ابن خروف (2) :

ومنزع (3) الحركات يلعب بالنّهى

لبس المحاسن عند خلع لباسه

متأوّداً كالغصن وسط رياضه

متلاعباً كالظبي عند كناسه

بالعقل يلعب مقبلاً أو مدبراً

كالدهر يلعب كيف شاء بناسه

ويضمّ للقدمين منه رأسه

كالسيف ضمّ ذبابه لرئاسه وهل منكم من وصف خالاً بأحسن من قول النشار (4) :

ألوّامي على كلفي بيحيى

متى من حبّه أرجو سراحا

وبين الخدّ والشفتين خالٌ

كزنجيّ أتى روضاً صباحا

تحيّر في جناه فليس يدري

أيجني الورد أم يجني الأقاحا وهل منكم من اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره، وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي (5) في قوله:

(1) ق ب: أبو القاسم؛ والأرجح أن هذا البيت من موشحة له في المغرب 2: 122.

(2)

ابن خروف هذا هو علي بن محمد بن يوسف بن خروف القيسي الراحل إلى المشرق؛ توفي بحلب حوالي سنة 620 وترجمته في الذيل والتكملة 5: 396، ومصادر ترجمته في الحاشية؛ وأبياته في الذيل وصلة الصلة: 115 وانظر النفح 2: 640 (رقم 267) .

(3)

كذا في أصول النفح؛ وفي الذيل: ومنوع.

(4)

أبو علي النشار بلنسي من شعراء زاد المسافر (ص: 57) وأبياته هنالك.

(5)

صاحب المقامات السبع وكتاب الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق (توفي 544) راجع ترجمته في المغرب 1: 434 والذيل والتكملة 4: 48 وجعله ابن عبد الملك إشبيليا؛ وبيتاه في المغرب.

ص: 204

لمّا ظفرت بليلةٍ من وصله

والصبّ غير الوصل لا يشفيه

أنضجت وردة خدّه بتنفسي

وطفقت أرشف ماءها من فيه وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع، وهو المخزومي في قوله (1) :

يودّ عيسى نزول عيسى

عساه من دائه يريح

وموضع الداء منه عضوٌ

لا يرتضي مسّه المسيح ولمّا أقذع أتى أيضاً بأبدع، فقال:

يا فارس الخيل ولا فارسٌ

إلا على متن الجواد الخصى

زدت على موسى وآياته

تفجّر الماء وتخفي العصا وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح، ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم، وهو اليكي (2) في قوله مادحاً:

قومٌ لهم شرف العلا في حميرٍ

وإذا انتموا لمتونةً فهم هم

لمّا حووا أحراز كلّ فضيلةٍ

غلب الحياء عليهم فتلثّموا وفي قوله هاجياً:

إن المرابط باخلٌ بنواله

لكنّه بعياله يتكرم

(1) هو المخزومي الأعمى الذي مرت قصته مع نزهون (النفح 1: 190 - 193)، انظر بيتيه الأولين في زاد المسافر:75.

(2)

سماه ابن سعيد (المغرب 2: 266)" ابن رومي عصرنا وحطيئة دهرنا " وبيتاه الأولان في المغرب: 268.

ص: 205

الوجه من مخلّقٌ بقبيح ما

يأتيه فهم من آجله يتلثم وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس ابن حنون (1) الإشبيلي:

يا طلعةً أبدت قبائح جمّةً

فالكلّ منها إن نظرت قبيح

أبعينك الشتراء عينٌ ثرّةٌ

منها ترقرق دمعها المسفوح

شترت فقلنا: زورق في لجّة

مالت بإحدى دفّتيه الريح

وكأنمّا إنسنها ملاّحها

قد خاف منغرقٍ فظلّ يميح وهل منكم من حضر مع عدوٍ له جاحدٍ لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً، وهو ابن مجبر (2) :

سأشكو إلى الندمان أمر زجاجةٍ

تردّت بثوبٍ حالك اللون أسحم

نصبّ بها شمس المدامة بيننا

فتغرب في جنحً من الليل مظلم

وتجحد أنوار الحميّا بلونها

كقلب حسودٍ جاحدٍ يد منعم وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل، وهو أبو جعفر الذهبي (3) :

(1) أبو العباس أحمد بن حنون (عنوان المرقصات: حيون) الإشبيلي، أهله من أغنياء إشبيلية اتهم بالقيام على الموحدين، ثم عفي عنه مدة منصور بني عبد المؤمن (راجع ترجمته في المغرب 1: 244 وزاد المسافر: 50 وشعره فيهما وفي عنوان المرقصات: 44) .

(2)

يحيى بن مجبر أبو بكر من بلش (Velz Malaga)، توفي سنة 588 بمراكش؛ ترجمته في زاد المسافر: وبغية الملتمس رقم: 1493 وله شعر كثير سيرد في النفح؛ وفي شرح المقصورة والجزء الثالث من البيتان المغرب.

(3)

هو أبو جعفر أحمد بن عتيق بن جرج المعروف بابن الذهبي من أعيان بلنسية غلبت عليه الفلسفة، وهو من أصحاب ابن رشد، إلا أنه اختفى حين طلب أستاذه إلى أن صدر العفو عنه (انظر المغرب 2: 321 وابن أبي أصيبعة 2: 81 والديباج: 69 وبغية الوعاة: 144 والغصون اليانعة: 36 والتكملة: 95 وأبياته في المغرب) .

ص: 206

أيّها الفاضل الذي قد هداني

نحو من قد حمدته باختبار

شكر الله ما أتيت وجازا

ك ولا زلت نجم هدى لساري

أيّ يرقٍ أفاد أيّ غمامٍ

وصباح أدى لضوء نهار

وإذا ما غدا النسيم دليلي

لم يحلني إلا على الأزهار وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره، وهو التطيلي (1) :

أما اشتفت منّي الأيام في وطني

حتى تضايق فيما عنّ من وطري

ولا قضت من سواد العين حاجتها

حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله، وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري:

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وأمدكم فلق الصّباح المسفر

وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً

بالنصر من ورق الحديد الأخضر وقد سمعت فائتيه في النجوم، ولولا طولها لأنشدتها هنا، فأنها أحسن ما قيل في معناها.

وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي الوهب العباسي القرطبي (2) :

أنا في حالتي التي قد تراني

إن تأملت أحسن الماس حالاً

منزلي حيث شئت من مستقرّ ال

أرض أسقى من المياه زلالا

ليس لي كسوةٌ أخاف عليها

من مغيرٍ ولا ترى لي مالا

أجعل الساعد اليمين وسادي

ثم أثنى إذا انقلبت الشمالا

(1) ديوان التطيلي: 49.

(2)

له ترجمة مسهبة في المغرب 1: 58 وأبياته مثبتة هنالك.

ص: 207

ليس لي والدٌ ولا لي مولو

دٌ ولا حزت مذ عقلت عيالا

قد تلذّذت حقبةً (1) بأمورٍ

فتأمّلتها (2) فكانت خيالا ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (3) :

انظر الدّنيا فإن أب

صرتها شيئاً يدوم

فاغد منها في أمانٍ

إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها من

ك على كرهٍ تهيم

فاسل عنها واطّرحها

وارتحل حيث تقيم وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولاّدة المروانية (4) التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون، وكان له غلام اسمه علي:

ما لابن زيدون على فضله

يغتابني ظلماً ولا ذنب لي

ينظرني شزراً إذا جئته

كأنّما جئت لأخصي علي ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول:

ولمّا أبى الواشون إلا فراقنا

وما لهم عندي وعندك من ثار

وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة

وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي

ومن نفسي بالسيف والماء والنار وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول ابي بكر ابن بقيّ ليكون الختام مسكاً (5) :

(1) م: خيفة.

(2)

المغرب: فتدبرتها.

(3)

م: أبي عبد الله محمد؛ وراجع ترجمة ابن العسال في المغرب 2: 21 والحاشية.

(4)

ستأتي تراجم لأدبيات الأندلس في النفح وسيجري التعريف بهن وبمصادر ترجمتهن هنالك.

(5)

اشتهرت هذه الأبيات عند المشارقة، فعارضوها ووردت في عدة مصادر؛ انظر المغرب 2: 21 ومعجم الأدباء 19: 21.

ص: 208

عاطيته والليل يسحب ذيله

صهباء كالمسك الفتيق لناشق

وضممته ضمّ الكميّ لسيفه

وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي

حتى إذا مالت به سنة الكرى

زحزحته شيئاً وكان معانقي

باعدته (1) عن أضلعٍ تشتاقه

كيلا ينام على وسادٍ خافق وبثقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي (2) :

هم نظروا لواحظها فهاموا

وتشرب لبّ شاربها المدام

يخاف الناس مقلتها سواها

أيذعر قلب حامله الحسام

سما طرفي إليها وهو باكٍ

وتحت الشمس ينسكب الغمام

وأذكر قدّها فأنوح وجداً

على الأغصان تنتدب الحمام

وأعقب بينها في الصدر غمّاً

إذا غربت ذكاء أتى الظلام وبقوله أيضاً:

لها ردفٌ تعلّق في لطيف

وذاك الردف لي ولها ظلوم

يعذّبني إذا فكّرت فيه

ويتعبها إذا رامت تقوم وقد أطلت عنان النظم (3) ، علىأني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح، فبالله إلا ما أخبرتني (4) : من شاعركم الذي تقابلون به شاعراً ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكراً، وأضخم شعراً، من أبي العباس الجراوي،

(1) ب: أبعدته.

(2)

هو القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر السلمي، كان من أهل الفتيا بمدينة فاس ثم ترقى إلى الخطابة والقضاء، ولاه المنصور الموحدي قضاء إشبيلية ومات بها وهو قاض سنة 603 (انظر الغصون اليانعة: 91 وصلة الصلة: 72 وزاد المسافر: 101؛ والقطعتان في الغصون والثانية في زاد المسافر؛ وفي الشريشي 1: 158) .

(3)

م: عنان القلم في النظم.

(4)

ق: أخبرت.

ص: 209

وأولى لكم أن تجحدوا فخره، وتنسوا ذكره، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة:

إذا كان أملاك الزمان أراقماً

فإنّك فيهم دائم الدهر ثعبان فما أقبح ما وقع ثعبان وما أضعف ما جاء دائم الدهر، ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت، فقال: لا ينكر هذا على مثل الجراوي، فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة (1) .

وإذا أردت الافتخار بالفرسان، والتفاضل باالشجعان، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورةٌ، وآثارهم مذكورة، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يميناً ويساراً منشداً:

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع يوماً في موكب من النصارى فصرع وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشيخ من خواصه، عالم بأمور الحرب مشهور بها: كيف رأيت فقال له: لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه (2) فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي.

والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته وما واقعه في النصارى وحسن بلائه ماصير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول

(1) في الثقالة: سقطت من ب.

(2)

ب: هلاكهم؛ ق: هلاككم.

ص: 210

أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء: ما لك أرأيت ابن قادس في الماء وهذه مرتبة عظيمة:

" والفضل ما شهدت به الأعداء "

ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكرٍ في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى، فوقع في جمع كبير منهم، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر، فجعل يقاتل مه أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه، وفرّ عنه، فناداه مستغيثاً، فقال: اصبر، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال: اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه، وركض نحوه فأسقطه، وقال لصاحبه: اركب، فركب ونجا معه سالماً؛ وأمثال هذا كثير، وإنما جئت بحصاة من ثبير.

وأما كرم النفس وشمائل الرياسة، فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها، وهي مما جرى في عصرنا، وذلك أن أبا بكر ابن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية (1) ، فأجرى ابن زهر يوماً ذكره في جماعة من أصحابه، وقال: لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم، فقال له أحد عوامهم: إني (2) أذكر لك عليه عقداً فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ، فحرج ابن زهر، وأظهر الغضب الشديد، والإنكار لذلك، وقال لوكيله: أمثلي يجازي على العداوة بما يجازي به السفل والأوباش وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام، وأمر بأن يحمل له العقدن ثم قال: وإني

(1) وكثرة

والبلدية: سقطت من م.

(2)

م: أنا.

ص: 211

والله ما أروم بذلك أ، أصالحه، فإن عداوته من حسد، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي.

وإن تعرضت إلى ذكر البلاد، وتفسير محاسنها، وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها، فاسمع ما يميت الحسود كمداً:

أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، وتزيين الخارج والداخل، وتمكن التمصر، حتى إن العامة تقول: لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد، ونهرهاالأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلاً ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر:

شقّ النسيم عليه جيب قميصه

فانساب من شطّيه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحها

هزءاً فضمّ من الحياء إزاره وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين (1) بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام (2) متصل ذلك اتصالاً لا يوجد على غيره.

وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه (3) لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرةٍ، وأن جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناهٍ عن ذلك ولا منتقد، ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك، فلم يستطيعوا إزالته، وأهله أخف الناس أرواحاً، وأطبعهم نوادر، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب، قد مرنوا على ذلك، فصار لهم ديدناً حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتاً ثقيلاً. وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد ابن عباد:

(1) في الأصول: مطرزة.

(2)

الأنشام: نوع من الشجر.

(3)

م: فذكر أنه.

ص: 212

إشبيليا عروساً

وبعلها عبّاد

وتاجها الشرف

وسلكها الواد أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية، وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها، وتهمم سكانها فيها داخلاً وخارجاً، إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون.

وقيل لأحد من رأى مصر والشام: أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية: وشرفها غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح. وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري، وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثلٌ لهما، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس (1) والكثيرة (2) والفنار (3) والزلامي والشقرة (4) والنورة وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه - والبوق (5) ، وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه (6) من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر، وأما جواريها ومراكبها براً وبحراً ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف

(1) م: والدنس.

(2)

دوزي: الكنيرة.

(3)

دوزي: الغنار.

(4)

ب: والسفرة.

(5)

وقد أثبت دوزي أسماء هذه الآلات الموسيقية في ملحق المعاجم ولكنه لم يحدد مدلولاتها في الأكثر، ومن الصعب ضبط بعض أسمائها.

(6)

م: إليها.

ص: 213

أخذت من التفضيل بأوفر نصيب، وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليمون والزنبوع وغير ذلك، وأما علماؤهم في كل صنف رفيع أو وضيع جداً أو هزلاً فأكثر من أن يعدوا، وأشهر من أن يذكروا، وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم، والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس، فما تخلو بلادها من ذلك، ولكن جعلت غشبيلية، بل الله جعلها أم قراها، ومركز فخرها وعلاها، إذ هي أكبر مدنها، وأعظم أمصارها.

وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم، ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم، بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه، ثم الملوك المروانية، وبها كان يحيى ابن يحيى راوية مالك، وعبد الملك ابن حبيب، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة، ومنافستهم في السؤدد بعلمها، وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها، ويرفعون أقدارهم، ويصدرون عن آرائهم، وأنهم كانوا لا يقدمون وزيراً ولا مشاوراً ما لم يكن عالماًن حتى إن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر (1) هم بقطع شجرة العنب من الأندلس، فقيل له: فإنها تعصر من سواها، فأمسك عن ذلك؛ وأنهم كانوا لا يقدمون أحداً للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره، وتعقد له مجالس المذاكرة، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفاً من أن يميل به الفقر إلى الطمع (2) فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة، فأخذ في ذلك مع يحيى ابن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء، فقالوا له: هم أهل، ولكنه شديد الفقر، ومن

(1) م ق: بغض الخمر.

(2)

ب: للطمع.

ص: 214

يكون في هذه الحالة لا تأمنه (1) على حقوق المسلمين، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك، فسكت ولم ير منازعتهم، وبقي مهموماً من كونهم لم يقبلوا قوله، فنظر إليهولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده، وعلى وجهه أثر ذلك، فقال: ما بالك يامولاي فقال: ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط، بل ما لا يعيبهم (2) ، ولا هو مما يرزؤهم شيئاً صدونا عنه، وغلقوا أبواب الشفاعة، وذكر له ما كان منهم، فقال: يا مولاي، أنت أولى الناس بالإنصاف، إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم، وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم، أو كنت تأخذ قوماً جهالاً فتضعهم في مواضعهم قال: لا، قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة، قال: صدقت، ثم قال: وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكراً، قال: وما هو قال: تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة، ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد، فتهلل وجه الحكم وقال: إلي إلي، إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق:

وأبناء أملاك خضارٍ سادة

صغيرهم عند الأنام كبير ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى، فذكر له عدداً، فأمر له به في الحين، ونبه قدره بان أعطاه من إسطبله مركوباًن وكانت هذه أكرومة (3) لا خفاء بعظمها:

(1) ب: ومن يكن

تؤمنه.

(2)

ب: بل ما لا يعنيهم.

(3)

م: مكرمة.

ص: 215

" يفنى الزمان وما بنته (1) مخلّدٌ "

ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى، ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة، أباحوا له الفتوى والشهادة، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء.

وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية، حتى إنهم كانوا لا يولون حاكماً إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم.

وقال ابن سارة لما دخل قرطبة:

الحمد لله قد وافيت قرطبةً

دار العلوم وكرسيّ السلاطين وهي كانت مجمع جيوش الإسلام، ومنها نصر الله على عبدة (2) الصليب.

يقال: إن المنصور ابن أبي عامر - حين تم له ملك البرين، وتوفرت الجيوش والأموال - عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله، وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده، فنيف الفرسان على مائتي ألف، والرجالة على ستمائة ألف. وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة، ولا يمل من مضاربة، أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة، وآثارهم فيها مأثورة، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة.

ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال، وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى، وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم، وقد

(1) ب: بنيته، والصواب " بنيت ".

(2)

م: عباد.

ص: 216

سمعت أيضاً عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها، يقال: إنها تنيف على خمسة آلاف حجر، وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه، وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم، وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع خدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة أمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.

وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة، إذ هي أكثرها زرعاً، وأصرمها أبطالاً، وأعظمها منعة، وكم رامتها من عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق، وأعز منالاً من بيض الأنوق، ولا خلت من علماء ولا من شعراء، ويقال لها " جيان الحرير " لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير.

ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر (1) براً وبحراً، وما في أبده من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع ولا يشترى كثرة، وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة، فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك، وإخراج القروى والمرابط والمتوجه (2) .

وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة، والمباني الرفيعة، وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها، وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها، وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد الذي تفرعت (3)

(1) ب: يسافر.

(2)

ب: والمتوحة.

(3)

م: تفرغت.

ص: 217

فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار، ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار، استلطاف يروق الطباع، ويحدث فيها ما شاءه الإحسان من الإختراع والابتداع، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد، وقد تقدم شعرهما، وحفصة بنت الحاج وناهيك في الظرف والأدب، وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير الحسيب الناظم الناثر أبي جعفر ابن القائد الأجل أبي مروان ابن سعيد، وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال قال أبو جعفر (1) :

رعى الله ليلاً لم يرع بمذمّمٍ

عشيّة وارانا بحور مؤمّل

وقد خفقت من نحو نجدٍ أريجةٌ

إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل

وغرّد قمريٌّ على الدّوح وانثنى

قضيبٌ من الريحان من فوق جدول

ترى الروض مسروراً بما قد بدا له

عناقٌ وضمٌ وارتشاف مقبّل وكتبه إليها بعد الإفتراق، لتجاوبه على عادتها في ذلك، فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها:

لعمرك ما سرّ الرّياض بوصلنا

ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد

ولا صفّق النهر ارتياحاً لقربنا

ولا صدح القمريّ إلا بما وجد (2)

فلا تحسن الظنّ الذي أنت أهله

فما هو في كلّ المواطن بالرشد

فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه

لأمرٍ سوى كيما تكون لنا رصد وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم التي

(1) ستأتي أخبار جعفر ابن سعيد وحفصة مفصلة في النفح.

(2)

ق: وجدا بما وجد.

ص: 218

لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر، والبروج التي شابهت نجوم السماء، كثرة عدد وبهجة ضياء، وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها، وتوشيحه لخصور أرجائها، ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الريي المنسوب إليها، لأن اسمها في القديم رية، ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف (1) ، وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره، وقد اجتزت بها مرة، وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجباً فيما حوته هذه المسافة من شجر التين، وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض، وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة، وتين بليش (2) هو الذي قيل فيه للبربري: كيف رأيته قال: لا تسألني عنه، وصب في حلقي بالقفة؛ وهو لعمر الله معذور، لأنه نعمة حرمت بلاده منها، وقد خصت بطيب الشراب احلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي، وقيل لأحد الخلعاء، وقد أشرف على الموت: اسأل ربك المغفرة، فرفع يديه وقال: يارب، أسألك من جميع ما في الجنة خمر مالقة وزبيبي إشبيلية، وفيها تنسج الحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم، وساحلها محط تجارة لمراكب (3) المسلمين والنصارى.

وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر، العظيم القدر، الذي خص أهله باعتدال المزاج، ورونق الديباج، ورقة البشرة، وحسن الوجوه والأخلاق، وكرم المعاشرة والصحبة، وساحلها أنظف السواحل وأشرحها (4) وأملحها منظراً،

(1) م: لأجل الاستطراف.

(2)

م: بلش.

(3)

م: مراكب.

(4)

م: وأشرقها.

ص: 219

وفيها الحصى الملون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد (1) والرخام الصقيل الملوكي وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية، ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر، فحق أن ينشد فيها:

أرض وطئت الدر رضراضاً بها

والترب مسكاً والرّياض جنانا (2) وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر، وقطع سفرهم فيه، وضرب على بلاد الرمانية، فقتل وسبى، وملأ صدور أهلها رعباً، حتى كان منه كما قال أشجع (3) :

فإذا تنبّه رعته وإذا غفا

سلّت عليه سيوفك الأحلام وبها كان محط مراكب النصارى، ومجتمع ديوانهم، ومنها كانت تسفر (4) لسائر البلاد بضائعهم، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها، لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر، وهي أيضاً مصنع للحلل الموشية النفيسة.

وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس، ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور، وواديها قسيم وادي إشبيلية، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المهتدبة الأغصان، والنواعير المطربة الألحان، والأطيار المغردة، والأزهار المتنضدة، ما قد سمعت، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحاناً، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجاً لكون (5) خارجها معيناً على ذلك

(1) ب: البواريد.

(2)

ب م: جنابا.

(3)

هو أشجع السلمي، وبيته من قصيدة في مدح الرشيد.

(4)

م: تسافر؛ وكانت سقطت من ق.

(5)

ب: يكون.

ص: 220

بحسن منظره، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها، وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة، وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر (1) لبلاد المشرق، وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولو تخل من علماء وشعراء وأبطال.

وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس، ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض، وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق، ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك، ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب، ولم تخل من علماء ولا شعراء، ولا فرسان يكابدون مصاقبة (2) الأعداء، ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء، واهلها أصلح الناس مذهباً، وأمتنهم ديناً، وأحسنهم صحبة، وأرفقهم بالغريب.

وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلادالله تعالى أرجاء، وأكثرها زرعاً ورزقاً وماشية، وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها، يصل فاضل خيرها إلى غيرها، إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها، وفيها من الفوائد ما فيها، ولها فضلاء وابطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها:

من كلّ من جعل الحسام خليله

لا يبتغي أبداً سواه معينا هذا - زان الله تعالى فضلك بالإنصاف، وشرف كرمك بالاعتراف - ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس، ولم أذكر من بلادها إلا ما كل

(1) ب: تسافر.

(2)

ب: مصادمة؛ م: مصاففة، وأثبتناه ما في ق.

ص: 221

بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد، وغيرها في حكم التبع.

وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح، وفي مسير الذكر كمسير الرياح، وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر ابن زهر، وذلك أني كنت يوماً بين يديه، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان، وكان ابن زهر يكرمه، فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فقال: كبرت، فلم أفهم مقصده، واستبردت (1) ما أتى به، وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر، فقال لي: أقرأت شعر المتنبي فقلت: نعم، وحفظت جميعه، قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم، فذكرني بقول المتنبي:

كبّرت حول ديارهم لمّا بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق فاعتذرت للخراساني، وقلت له: قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي، حين لم أفهم نبل مقصدك (2) ، فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس، وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب، وعلى آله وصحبه، صلاةً متصلة إلى (3) غابر الحقب.

كملت رسالة الشقندي.

[ترجمة الشقندي]

وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد، وشقندة المنسوب إليها قرية مطلة

(1) ب: واستربت؛ وهو خطأ.

(2)

ب: مقصودك.

(3)

ب: على.

ص: 222

على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب. قال ابن سعيد (1) : وهو ممن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة، ومجالسات أنس عديدة، ومزاورات (2) تتصل، ومحاضرات لا تكاد تنفصل، وانتفعت بمجالسته، وله رسالة في تفضيل الأندلس، يعارض بها أبا يحيى في تفضيل بر العدوة أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع وعذوبة المشرع، وكان جامعاً لفنون من العلوم الحديثة والقديمة، وعني (3) بمجلس المنصورفكانت له فيه مشاهد غير ذميمة، وولي قضاء بياسة وقضاء لورقة، ولم يزل محفوظ (4) الجانب، محمود المذاهب، سمعته ينشد والدي قصيدةً في المنصور وقد نهض للقاء العدو، منها:

إذا نهضت فإنّ السيف منتهض (5)

ترمي السعود سهاماً والعدا غرض

لك البسيطة تطويها وتنشرها

فليس في كلّ ماتنويه معترض قال: وسمعته يقول له: أنشدت الوزير أبا سعيد ابن جامع قصيدة أولها:

استوقف الرّكب قد لاحت لك الدار

واسأل بربع تناءت عنه أقمار

لا خفّف الله عنّي بعد بينهم

فإنّني سرت والأحباب ما ساروا ومنها:

ألا رعى الله ظبياً في قبابهم

منه لهم في ظلام الليل أنوار وله:

علّلاني بذكر من همت فيه

وعداني عنه بما أرتجيه

(1) انظر اختصار القدح: 138.

(2)

القدح: ومداورات.

(3)

القدح: وعين.

(4)

القدح: ملحوظ.

(5)

القدح: السعد منتصر.

ص: 223

وإذا ما طربتما لارتياحي

فاجعلا خمرتي مدامة فيه

ليت شعري وكم أطيل الأماني

أيّ يومٍ في خلوةٍ ألتقيه

وإذا ما ظفرت (1) يوماً بشكوى

قال لي: أين كلّ ما تدّعيه

لا دموع ولا سقام فماذا

شاهدٌ عنك بالذي تدّعيه (2)

قلت دعني أمت بدائي فإّني

لو براني الغرام لا أبديه وقال في عوده لما مرض (3) :

إنّي مرضت مرضةً

أسقط منها في يدي

فكان في الإخوان من

لم أره في العوّد

فقلت في كلّهم

قول امرئ مقتصد

اير الذي قد عادني

في آست الذي لم يعد مات بإشبيلية سنة 629، انتهى.

[استطراد في الإشادة بالأندلس]

وقال ابن سعيد: أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السلفي، قال وكفى به شاهداً، وبقوله مفتخراً:

بلاد أذربيجان في الشرق عندنا

كأندلسٍ بالغرب في العلم والأدب

فما إن تكاد الدهر تلقى مميزاً

من آهليهما إلا وقد جدّ في الطلب وحكى غير واحد كابن الأبار أن عباس بن ناصح الشاعر لما توجه من قرطبة

(1) القدح: ظهرت.

(2)

القدح: بالذي تخفيه؛ وهو أجود لكي لا تتكرر القافية.

(3)

م: في عوده لمن مرض.

ص: 224

إلى بغداد، ولقي أبا نواس، قال له: أنشدني لأبي الأجرب، قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته، وهذان شاعران من الأندلس.

[حكايات واشعار أندلسية]

واعلم أنا إن تتبعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالة على سبقهم طال بنا الكتاب، ولم نستوف المراد، فرأينا أن نذكر بعضاً من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه، ليكون عنواناً دالاً على ما عداه:

يكفي من الحلي ما قد حف بالعنق

1 - ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجد والهزل، والتولية والعزل، بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي (1)، وكان سكن إشبيلية:

لا تبك ثوبك إن أبليت جدّته

وابك الذي أبلت الأيام من بدنك (2)

ولا تكوننّ مختالاً بجدّته

فربّما كان هذا الثوب من كفنك

ولا تعفه إذا أبصرته دنساً

فإنما اكتسب الأوساخ من درنك (3) 2 - وقال أبو عمرو (4) اليحصبي اللوشي:

شرّد النوم عن جفونك وانظر

حكمةً توقظ النفوس النياما

(1) المارتلي ويكتب أيضا الميرتلي نسبة إلى بلده " حصن مارتلة " من حصون باجة؛ أحد شعراء الزهد بالأندلس؛ توفي سنة 604 (انظر المغرب 1: 406 والغصون اليانعة: 135 والتكملة: 687) وله شعر كثير في شرح الشريشي على المقامات.

(2)

م: جسدك.

(3)

م ق: بدنك.

(4)

ق ب: عمر.

ص: 225

فحرامٌ على امرئ لم يشاهد

حكمة الله أن يذوق المناما وقال أيضاً:

ليس للمرئ اختيارٌ في الذي

يتمنّى من حراكٍ وسكون

إنّما المرء لربٍّ واحدٍ

إن يشأ قال له: كن فيكون 3 - شعر أبو وهب القرطبي (1) :

تنام وقد أعدّ لك السهاد

وتوقن بالرحيل وليس زاد

وتصبح مثل ما تمسي مضيعاً

كأنّك لست تدري ما المراد

أتطمع أن تفوز غداً هنيئاً

ولم يك منك في الدنيا اجتهاد

إذا فرّطت في تقديم زرعٍ

فكيف يكون من عدمٍ حصاد وقيل: إن الأبيات السابقة التي أولها: " أنا في حالتي التي

الخ " وجدت في تركته بخطه في شقف (2) ، وبعضهم ينسبها لغيره، واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن، وذكره ابن بشكوال في الصلة (3) ، وأثنى عليه بالزهد والانقطاع، وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختل العقل، فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة، ويصيحون عليه: يا مجنون يا أحمق، فيقول:

يا عاذلي أنت به جاهلٌ

دعني به لست بمغبون

أما تراني أبداً والهاً

فيه كمسحورٍ ومفتون

أحسن ما أسمع في حبّه

وصفي بمختلٍ ومجنون

(1) مرت الإشارة إليه، انظر ما تقدم ص:207.

(2)

م: شقة.

(3)

لم أجد ترجمة في الصلة؛ وأغلب الظن أن هذا وهم من المقري، لأن ابن بشكوال أفرد للعباسي مؤلفا خاصا.

ص: 226

4 -

وقال الخطيب أبو محمد ابن برطله:

بأربعةٍ أرجو نجاتي وإنّها

لأكرم مذخورٍ لديّ وأعظم

شهادة إخلاصي وحبي محمداً

وحسن ظنوني ثم أنّي مسلم 5 - وقال ابن حبيش:

قالوا تصبّر عن الدنيا الدنيّة أو

كن عبدها واصطبر للذّل واحتمل

لا بدّ من أحد الصبرين، قلت: نعم

الصبر عنها بعون الله أوفق لي 6 - وقال ابن الشيخ:

اطلب لنفسك فوزها واصبر لها

نظر الشفيق وخف عليها واتّق

من ليس يرحم نفسه ويصدّها

عمّا سيهلكها فليس بمشفق 7 - وقال أبو محمد القرطبي (1) :

لعمرك ما الدنيا وسرعة سيرها

بسكّانها إلا طريق مجاز

حقيقتها أن المقام بغيرها

ولكنّهم قد أولعوا بمجاز 8 - وقال السمسير (2) :

لله في الدّنيا وفي أهلها

معمّياتٌ قد فككناها

من بشرٍ نحن فمن طبعنا

نحبّ فيها المال والجاها

دعني من الناس ومن قولهم

فإنّما النّاسك خلاّها (3)

(1) هو عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو محمد (انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 191 والتكملة: 879 وتذكرة الحفاظ: 1396 وبرنامج الرعيني: 141) والبيتان البرنامج والذيل: 210.

(2)

في الأصول ودوزي: الشميس؛ وصوبناه.

(3)

في ب: الناس أخلاها.

ص: 227

لم تقبل الدنيا على ناسكٍ

إلا وبالرحب تلقّاها

وإنّما يعرض عن وصلها

من صرفت عنه محيّاها 9 - وقال أبو القاسم ابن بقي:

ألا إنّما الدنيا كراحٍ عتيقةٍ

أراد مديروها بها جلب الأنس

فلمّا أداروها أثارت حقودهم

فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس 10 - وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (1) :

انظر الدّنيا فإن أب

صرتها شيئاً يدوم

فاغد منها في أمانٍ

إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها من

ك على كرهٍ تهيم (2)

فاسل عنها واطّرحها

وارتحل حيث تقيم 11 - وقال ابن هشام القرطبي:

وأبي المدامة ما أريد بشربها

صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي

لم يبق من عهد الشباب وطيبه

شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي

إن كنت أشربها من غير وفائها

فتركتها للناس لا لله 12 - وقال أبو محمد ابن السيد البطليوسي مما نسبه إليه في " المغرب (3) ":

أخو العلم حيٌّ خالدٌ بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميتٌ وهو ماشٍ على الثرى

يظنّ من الأحياء وهو عديم

(1) انظر ما تقدم ص: 208.

(2)

م ق: تقيم.

(3)

ليسا في ترجمته في المغرب (1: 385) وهما في أزهار الرياض 3: 103.

ص: 228

13 -

وقال أبو الفضل ابن شرف (1) :

لعمرك ما حصلت على خطيرٍ

من الدنيا ولا أدركت شيّا

وها أنا خارجٌ منها سليباً

أقلّب نادماً كلتا يديّا

وأبكي ثمّ أعلم أنّ مبكا

ي لا يجدي فأمسح مقلتيّا

ولم أجزع لهول الموت لكن

بكيت لقلّة الباكي عليّا

وأنّ الدهر لم يعلم مكاني

ولا عرفت بنوه ما لديّا

زمانٌ سوف أنشر فيه نشراً

إذا أنا بالحمام طويت طيّا

أسرّ بأنّني ساعيش ميتاً

به ويسوءني أن متّ حيا 14 - وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس ابن العريف نفعنا الله تعالى به (2) :

سلو عن الشوق من أهوى فإنّهم

أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي

فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم

عن مشكلٍ من سؤال الصبّ ملتبس

حلّوا فؤادي فما يندى، ولو وطئوا

صخراً لجاد بماء منه منبجس

وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم

فكيف قرّوا على أذكى من القبس

لأنهضنّ إلى حشري بحبّهم

لا بارك الله فيمن خانهم ونسي قلت: لقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف، وهو ممن

(1) راجع أبياته في التكملة: 870.

(2)

أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي المشهور بابن العريف؛ صاحب كتاب " محاسن المجالس " اختار طريقة الزهد والتصوف، وصادف ذلك ظهور جماعة من المتصوفة بمدينة شلب وانتشر مذهبهم فيها وفي لبلة ومارتلة، ثم تفرقوا ووصل رئيسهم إلى المرية وفيها شيخ المتصوفة ابن العريف، فوجه علي بن يوسف اللمتوني في طلبه وطلب أبي الحكم ابن برجان، فتوفيا بمراكش سنة 537 (أو 536) . انظر وفيات الأعيان 1: 151 وأعمال الأعلام: 248 - 249 والمغرب 2: 211 وبغية الملتمس ص: 154 والصلة: 84 والمطرب: 90 ومعجم الصفدي: 18 والتحفة: 17 والوافي: 8 الورقة: 50 وأبياته في المغرب والمطرب.

ص: 229

يتبرك به في تلك الديار، ويستسقى به الغيث، وهو من أهل المرية، وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها، وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة، نفعنا الله تعالى به.

15 -

واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم (1) على مذهب الأوزاعي، وأهل الشام منذ أول الفتح، ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل - وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين - انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس واهل المدينة، فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعاً، بل والمغرب، وذلك برأي الحكم واختياره، واختلفوا في السبب المقتضي لذلك، فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة، فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه، وجلالة قدره، فأعظموه كما قدمنا ذلك، وقيل: عن الإمام مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية، وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ، فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لذلك المخبر: نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاماً هذا معناه، فنميت المسألة إلى ملك الأندلس، مع ما علم من جلالة مالك ودينه، فحمل الناس على مذهبه، وترك مذهب الأوزاعي، والله تعالى أعلم.

16 -

وحكي أن القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لما ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى، فلم يقبل منه، وخرج إلى تلك الناحية، وخرج الناس لوداعه، فأنشد:

عليكم سلام الله إنّي راحلٌ

وعيناي من خوف التفرّق تدمع

(1) في القديم: سقطت من م.

ص: 230

فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا

وإن نحن متنا فالقيامة تجمع وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى، ولا أدري هل هي له أو لغيره:

كنّا نعظّم بالآمال قدركم

حتى انقضت فتساوى عندنا الناس

لم تفضلونا بشيء غير واحدةٍ

هي الرجاء فسوّى بيننا الياس وأنشد أيضاً:

بلوتهم مذ كنت طفلاً فلم أجد

كما أشتهي منهم صديقاً وصاحبا

فصوّبت رأيي في فراري منهم

وشمّرت أذيالي وأمعنت هاربا وأنشد لغيره في الكتمان:

أخفى الغرام فلا جوارحه

شعرت بذاك ولا مفاصله

كالسيف يصحبه الحمام ولم

يعلم بما حملت حمائله وأنشد:

قد كنت أمرض في الشبيبة دائماً

والموت ليس يمرّ لي في البال

والآن شبت وصحّتي موجودةٌ

وأرى كأنّ الموت في أذيالي ولمّا أنشده تاج الدين بن حمويه السرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم:

فلا تحقرنّ عدوّاً رماك

وإن كان في ساعديه قصر

فإنّ السيوف تحزّ الرقاب

وتعجز عمّا تنال الإبر قال: حسنٌ جيد، ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلي (1)، وأنشد:

(1) يريد ابن دراج، والأبيات من قصيدته في مدح المنصور بن أبي عامر (ديوانه: 303) .

ص: 231

أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ

وكلني لليث الغاب وهو هصور

فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ

ويعمل في الفعل الصريح ضمير

وتنبو الردينيّات، والطول وافر

ويبعد وقع السهم وهو قصير 17 - وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري (1) أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة، لم ير بعده مثله في رجال الأندلس، ذاكراً للفقه والحديث، بارعاً في الآداب، شاعراً مجيداً، وكاتباً بليغاً، كثير الخدم والأهل، ومن آثاره الحمام بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة، وزاد من سقف الجامع من صحنه وعوض من أرجل قسيه أعمدة الرخام، وجلب الرؤوس والموائد من قرطبة، وفرش صحنه بكذان الصخر، ووجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها، فلما حلها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممن ضعفت حاله وقل تصرفه من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء، ووسع أرزاقهم، حتى كمل له ما أرد من عمله، ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله، فصدر عنها وقد أنعش خلقاً، رضي الله تعالى عنه ورحمه.

ومن شعره في مجلس أطربه سماعه، وبسط احتشاد الأنس فيه واجتماعه، فقال (2) :

لا تلمني إذا طربت لشجوٍ

يبعث الأنس فالكريم طروب

ليس شقّ الجيوب حقّاً علينا

إنّما الحقّ أن تشقّ القلوب وقطف غلام من غلمانه نوارة ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله، فقال أبو نصر:

(1) ترجمته في القلائد: 170.

(2)

القلائد: 170؛ والنقل عنه حتى قوله " من النوى ".

ص: 232

وبدرٍ بدا والطّرف مطلع حسنه

وفي كفّه من رائق النّور كوكب فقال أبو محمد ابن مالك (1) :

يروح لتعذيب النفوس ويغتدي

ويطلع في أفق الجمال ويغرب

ويحسد منه الغصن أيّ مهفهفٍ

يجيء على مثل الكثيب ويذهب وقد سبق هذا.

وكتب إلى الفتح من غير ترو: يا سيدي، جرت الأيام بفراقك، وكان الله جارك في انطلاقك (2) ، فغيرك روع بالظعن، وأوقد للوداع جاحم الشجن، فإنك من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر لا يستقر على وطن، كأنك - والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه - موكل بفضاء الأرض تذرعه (3) ، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع، فلا يأسف على قلة الثوى، وينشد:

" وفارقت حتى ما أبالي من النّوى (4) "

ومات رحمه الله بغرناطة سنة 518، وحضر جنازته الخاصة والعامة وهو من محاسن الأندلس، رحمه الله تعالى.

18 -

ومن نوادر الاتفاق (5) أن جارية مشت بين يدي المعتمد، وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها، وذوائبها تخفي آثار مشيها، فسكب

(1) البيت الأول من هذين ورد منسوبا للفتح نفسه في أصولالنفح.

(2)

من قول البحتري:

الله جارك في انطلاقك

تلقاء شامك أو عراقك (3) عجز بيت لابن زريق البغدادي، وصدره: كأنما هو في حل ومرتحل.

(4)

ق م: من الهوى.

(5)

انظر هذه القصة في بدائع البدائه.

ص: 233

عليها ماء ورد كان بين يديه، وقال:

علّقت جائلة الوشاح غريرة

تختال بين أسنّة وبواتر وقال لبعض الخدم: سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ منه، فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه:

راقت محاسنها ورقّ أديمها

فتكاد تبصر باطناً من ظاهر

وتمايلت كالغصن في دعص النّقا

تلتفّ في ورق الشباب الناضر

يندى بماء الورد مسبل شعرها

كالطّلّ يسقط من جناح الطّائر

تزهى برونقها وعزّ جمالها

زهو المؤيّد بالثناء العاطر

ملكٌ تضاءلت الملوك لقدره

وعنا له صرف الزمان الجائر

وإذا لمحت جبينه ويمينه

أبصرت بدراً فوق بحرٍ زاخر فلما قرأها المعتمد استحضره، وقال له: أحسنت، أو معنا كنت فقال له: يا قاتل المحل، أما تلوت " وأوحى ربّك إلى النّحل ".

وأصبح المعتمد يوماً ثملاً فدخل الحمام، وأمر أن يدخل النحليّ معه، فجاء وقعد في مسيح (1) الحمام حتى يستأذن عليه، فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خالٍ وقد بقيت في رأسه بقية من السك، وجعل كل ما سمع دويّ ذلك الصوت يقول: الجوز، اللوز، القسطل، ومر على هذا ساعة، إلى أن تذكر النحلي، فصادفه (2)، فلما دخل قال له: من أي وقت أنت هنا قال: من أول ما رتب مولانا الفواكه في النصبة، فغشي عليه من الضحك، وأمر له بإحسان. والنصبة: مائدة يصبون فيها هذه الأصناف.

(1) ق: مسلخ.

(2)

ق م: فصادمه.

ص: 234

ولما استحسن المعتمد قول المتنبي (1) :

إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة

أثاب بها معيي المطيّ ورازمه قال ابن وهبون بديهة: " وقالوا أجاد ابن الحسين

الخ البيتين "، وقد تقدم ذكرهما، فأمر له بمائتي دينار.

ولما قال ابن وهبون المذكور:

غاض الوفاء فما تلقاه في رجلٍ

ولا يمرّ لمخلوقٍ على بال

قد صار عندهم عنقاء مغربةً

أو مثلما حدّثوا عن ألف مثقال قال له المعتمد: عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عنك سواء فقال: نعم، قال: قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها.

19 -

وذكر القرطبي صاحب " التذكرة " في كتابه " قمع الحرص بالزهد والقناعة "، ما صورته: روينا أن الإمام أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه بلغه وهو بشاطبة أن أقواماً عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه، فقال:

قل لمن ينكر أكلي

لطعام الأمراء

أنت من جهلك هذا

في محلّ السفهاء لأن الاقتداء بالصالحين، من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من المسلمين، من السلف الماضين، وهو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت - وكان من الراسخين في العلم - يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - مع ورعه وفضله - يقبل هدايا صهره المختار ابن أبي عبيد، ويأكل

(1) انظر ما تقدم ص: 194.

ص: 235

طعامه، ويقبل جوائزه، وقال عبد الله بن مسعود - وكان قد ملئ علماً - لرجل سأله، فقال: إن لي جاراً يعمل بالربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يدعوني إلى طعامه، أفأجيبه قال: نعم، لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً، وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن جوائز السلاطين -: لحم ظبي ذكي، وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان، ويقبل جوائزه ويأكل طعامه، وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري - مع زهده وورعه - وسائر علماء البصرة وأبو سلمة ابن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقيلون جوائز السلطان، وكان ابن شهاب يقبلها، ويتقلب في جوائزهم، وكانت أكثر كسبه، وكذلك أبو الزناد، وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء، وكان سفيان الثوري - مع ورعه وفضله - يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن، ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبواباً، ولأحمد ابن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر، إذ نقله إلى المدينة بقرطبة، وأسكنه داراً من دور الجامع قربه، وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناض، وله ولمثله في بيت المال حظ، والمسؤول عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله بن مسعود " لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً " ومعنى قول ابن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه، فمن علم الشيء بعينه حراماً مأخوذاً من غير حله كالجريمة وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المتعينة غصباً أو سرقة أو مأخوذة بظلم بين لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه، وسقوط عدالة آكله، وأخذه وتملكه، وما أعلم من علماء التابعين أحداً تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة، ومحمد ابن

ص: 236

سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلاً في التورع، وسلك سبيلهما في ذلك أحمد ابن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرم ما أباح الله تعالى منها، والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات وهم يستحلون المحرمات، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن المحرم يقتل القراد والحلمة، فقال للسائلين له: من أنتم فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروي هذا الحديث أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه، وفي حديث أحدهما " إنما هو رزق رزقكه الله تعالى "، وفي لفظ بعض الرواة " ولا تردّ على الله رزقه "، وهذا كله مركب مبني على ما أجمعوا عليه، وهو الحق، فمن عرف الشيء المحرم بعينه فإنه لا يحل له، فهذه المسألة من كلام ابن عبد البر، انتهى.

20 -

وحضر ابن مجبر مع عدو له جاحد لمعروفه، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً:" سأشكوا إلى الندمان "، إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت في رسالة الشقندي (1) رحمه الله تعالى.

[ترجمة ابن مجبر وشعره]

وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحم بن مجبر الفهري،

(1) انظر ما تقدم ص: 206.

ص: 237

كان في وقته شاعر المغرب ويشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالاً، وبعدت على قربها منالاً، وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت، واتصل بالأمير أبي عبد الله ابن سعد ابن مردنيش، وله فيه أمداح، وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح:

إنّ خير الفتوح ما جاء عفواً

مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا وكان أبو العباس الحراوي حاضراً، فقطع عليه لحسادةٍ وجدها، وقال: يا سيدنا اهتدم بيت وضاح:

خير شرابٍ ما كان عفواً

كأنّه خطبة ارتجال فبدر (1) المنصور، وهو حينئذ وزير أبيه وسنه قريب العشرين، وقال: إن كان اهتدمه فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف، فسر أبوه بجوابه، وعجب الحاضرون.

ومر المنصور أيام إمرته بأونبة (2) من أرض شلب، فوقف على قبر الحافظ أبي محمد ابن حزم، وقال: عجباً لهذا الموضع، يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال: كل العلماء عيال على ابن حزم، ثم رفع رأسه وقال: كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر، يخاطب ابن مجبر.

ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه:

له حلبة الخيل العتاق كأنّها

نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا

عرائس أغنتها الحجول عن الحلى

فلم تبغ خلخالاً ولا التمست وقفا

فمن يققٍ كالطّرس تحسب أنّه

وإن جرّدوه في ملاءته التفّا

(1) م: فنطق.

(2)

ق: بأوقية؛ ب: بأوقبة.

ص: 238

وأبلق أعطى الليل نصف إهابه

وغار عليه الصّبح فاحتبس النّصفا

ووردٍ تغشّى جلده شفق الدجى

فإذ حازه دلّى له الذيل والعرفا

وأشقر مجّ الراح صرفاً أديمه

وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا

وأشهب فضّيّ الأديم مدنّرٍ

عليه خطوطٌ غير مفهمةٍ حرفا

كما خطّط الزاهي بمهرق كاتبٍ

فجرّ عليه ذيله وهو ما جفّا

تهبّ على الأعداء منها عواصفٌ

ستنسف أرض المشركين بها نسفا

ترى كلّ طرفٍ كالغزال فتمتري

أظبياً ترى تحت العجاجة أم طرفا

وقد كان في البيداء يألف سربه

فربّته مهراً وهي تحسبه خشفا

تناوله لفظ الجواد لأنّه

إذا (1) ما أردت الجري أعطاكه ضعفا ولما اتخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها، وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه، واختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها:

أعلمتني ألقي عصا التسيار

في بلدةٍ ليست بدار قرار إلى أن قال (2) :

طوراً تكون بمن حوته محيطةً

فكأنّها سورٌ من الأسوار

وتكون حيناً عنهم مخبوءةً

فكأنّها سرٌّ من الأسرار

كأنّها علمت مقادير الورى

فتصرفت لهم على مقدار

فإذا أحسّت بالإمام يزورها

في قومه قامت إلى الزوّار

يبدو فتبدو ثمّ تخفى بعده

كتكوّن الهالات للأقمار

(1) ق ب: على.

(2)

وردت هذه الأبيات في الحلل الموشية: 120.

ص: 239

وممن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته، وتوفي بمراكش سنة 588، وعمره 53 سنة، رحمه الله تعالى.

وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتمّ مما ذكرناه، فقال عن الكاتب ابن عياش كاتب يعقوب المنصور الموحدي، قال (1) : كانت لأبي بكر ابن مجبر وفادة على المنصور في كل سنة، فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتصل بقصره المتصل بقصره في حضرة (2) مراكش، وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله، وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا أشعاراً أنشدوه إياها في ذلك، فلم يزيدوا على شكره، وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره، ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قام أبو بكر ابن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها " أعلمتني ألقي عصا التسيار " واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها " طوراً تكون - الخ " فطرب المنصور لسماعها، وارتاح لاختراعها، انتهى.

وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن، وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر والف، والله تعالى وارث الأرض ومن عليها.

ومن نظم ابن مجبر أيضاً ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب، رحمه الله تعالى، وقد ولد له ابن، أعني لابن مجبر:

ولد العبد الذي إنعامكم

طينةٌ أنشئ منها جسده

وهو دون اسمٍ لعلمي أنّه

لا يسمّي العبد إلا سيّده وقوله:

ملك ترويك منه شيمةٌ

أنست الظلماء زرق النّطف

(1) انظر شرح المقصورة 1: 71.

(2)

م: مدينة.

ص: 240

جمعت من كلّ مجدٍ فحكت

لفظةً قد جمّعت من أحرف

يعجب السامع من وصفي لها

ووراء العجز ما لم أصف

لو أعار السهم ما في رأيه

من سداد وهدىً لم يصف

حلمه الرّاجح ميزان الهدى

يزن الأشياء وزن المنصف 21 - وقال ابن خفاجة (1) :

صحّ الهوى منك ولكنّني

أعجب من بينٍ لنا يقدر

كأنّنا في فلكٍ دائرٍ

فأنت تخفى وأنا أظهر وهما الغاية في معناهما، كما قاله ابن ظافر، رحمه الله تعالى.

22 -

وقال الأعمى التطيلي (2) :

أما اشتفت منّي الأيام في وطني

حتى تضايق فيما عزّ من وطري

فلا قضت من سواد العين حاجتها

حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر 23 - وقال القاضي أبو حفص ابن عمر القرطبي (3) :

هم نظروا لواحظها فهاموا

وتشرب لبّ شاربها المدام

يخاف الناس مقلتها سواها

أيذعر قلب حامله الحسام

سما طرفي إليها وهو باكٍ

وتحت الشمس ينسكب الغمام

وأذكر قدّها فأنوح وجداً

على الأغصان تنتدب الحمام

فأعقب بينها في الصدر غمّاً

إذا غربت ذكاء أتى الظلام 24 - وقال الحاجب عبد الكريم ابن مغيث (4) :

(1) ليسا في ديوان ابن خفاجة.

(2)

انظر ما سبق ص: 207؛ وديوان الأعمى: 49.

(3)

انظر ما سبق ص: 209.

(4)

عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث حاجبا للحكم الربضي، وكان بليغا شاعرا مفوها (انظر الحلة 1: 135 - 136) وكان له أخ اسمه عبد الملك تولى سرقسطة، ولم يذكر ابن الأبار أخاه أحمد.

ص: 241

طارت بنا الخيل ومن فوقها

شهب بزاةٍ لحمام الحمام

كأنّما الأيدي قسيٌّ لها

والطير أهدافٌ وهنّ السهام 25 - وقال أخوه أحمد:

اشرب على البستان من كفّ من

يسقيه من فيه وأحداقه

وانظر إلى الأيكة في برده

ولاحظ البدر بأطواقه

وقد بدا السّرو على نهره

كخائضٍ شمّر عن ساقه 26 - وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسي:

إذا كان ودّي وهو أنفس قربةٍ

يجازى ببغضٍ فالقطيعة أحزم

ومن أضيع الأشياء ودٌّ صرفته

إلى غير من تحظى لديه وتكرم [حكايات في البديهة والارتجال]

27 -

ومن حكايات أهل الأندلس (1) في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب " بدائع البدائه " قال (2) : أخبرني من أثق به بما هذا معناه، قال: خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد ابن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد لموضع يقال له الفنت (3) تحف بها مروجٌ مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوّار في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه

(1) هنا يأخذ المقري بالنقل عن بدائع البدائه لابن ظافر الأزدي أكثر حكايات هذا الباب

(2)

بدائع البدائه 1: 214.

(3)

في الأصول: القنت؛ والبدائع: الغيث.

ص: 242

بوسميها ووليها، وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليتها، وأرداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها، وهناك من البهار ما يزري على مداهن (1) النضار، ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان، وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب، وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه، وجلسوا لانتظاره، وترقب عوده على آثاره، فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه، واتفق أن فارساً من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمعل (2) النبيذ الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه، ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلقٍ به يحين بتعلقه الحين، وحين وصل الوزراء إليه، تأسفوا عليه، وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زيدون:

أنلهو والحتوف بنا مطيفه

ونأمن والمنون لنا مخيفه فقال ابن خلدون:

وفي يومٍ وما أدراك يومٌ

مضى قمعالنا ومضى خليفه

(1) البدائع: بمداهن.

(2)

القمعل: القدح الضخم.

ص: 243

فقال ابن عمار:

هما فخّارتا راحٍ وروحٍ

تكسرتا فأشقافٌ (1) وجيفه انتهى.

28 -

وذكر ابن بسام ما معناه (2) أن أبا عامر ابن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر المظفر ابن المنصور ابن أبي عامر بقرطبة، فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق (3) ، ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أ، هم جند الليل بالانهزام، وأخذ في تقويض خيام الظلام، وكانت تسمى أسيماء، فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها (4) على صغر سنها، فسأله المظفر وصفها، فصنع ارتجالاً:

أفدي أسيماء من نديمٍ

ملازمٍ للكؤوس راتب

قد عجبوا في السّهاد منها

وهي لعمري من العجائب

قالوا: تجافى الرقاد عنها

فقلت: لا ترقد الكواكب 29 - وحكى ابن بسام (5) ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوماً مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان، فجيء بباكورة باقلاّ، فقال ابن ذكوران: لا ينفرد بها إلا من وصفها، فقال ابن شهيد: أنا لها، وارتجل:

إنّ لآليك أحدثت صلفا

فاتّخذت من زمرّدٍ صدفا

تسكن ضرّاتها البحور وذي

تسكن للحسن روضةً أنفا

هامت بلحف الجبال فاتخذت

من سندسٍ في جنانها لحفا

(1) البدائع: فشقفات.

(2)

بدائع البدائه 2: 32.

(3)

البدائع: وصيفة صغيرة ظريفة الخلق.

(4)

البدائع: ليلها.

(5)

بدائع البدائه 2: 33؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 28.

ص: 244

شبهتها بالثغور من لطف

حسبك هذا من بر (1) من لطفا

جاز ابن ذكوان في مكارمه

حدود كعبٍ وما به وصفا

قدّم درّ الرّياض منتخباً

منه لأفراس مدحه علفا

أكلٌ ظريفٌ وطعم ذي أدبٍ

والفول يهواه كلّ من ظرفا

رخّص فيه شيخٌ له قدرٌ

فكان حسبي من المنى وكفى 30 - وقال ابن بسام (2) : إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له: يا أبا عامر، إنك لآتٍ بالعجائب، وجاذب بذوائب الغرائب، ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك، هازٌّ لعطفك عند النادر يتاح لك، ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا، وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت، لأن المعنى إذا كان جلفاً ثقيلاً على النفس، قبيح الصورة عند الحس، كلت الفكرة عنه وإن كانت ماضية، وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة، وكان في المجلس بابٌ مخلوع معترض على الأرض ولبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم (3) عند حاشيته، فقال مسرعاً:

وفتيةٍ كالنجوم حسناً

كلّهم شاعرٌ نبيل

متّقد الجانبين ماضٍ

كأنّه الصارم الصّقيل

راموا انصرافي عن المعالي

والغرب من دونها كليل (4)

فاشتدّ في إثرها (5) فسيحٌ

كلّ كثيرٍ له قليل

في مجلس زانه التصابي

وطاردت وصفه العقول

(1) دوزي: رفد.

(2)

بدائع البدائه 2: 32؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 27.

(3)

ب: قد رصت؛ البدائع: نعالهم.

(4)

في الأصول قليل، والتصويب عن البدائع والذخيرة؛ وفي الأصول أيضا: عن دونها.

(5)

في الأصول: فالشد في أمرها.

ص: 245

كأنّما بابه أسيرٌ

قد عرضت (1) دونه مصول

يراد منه المقال قسراً

وهو على ذاك لا يقول

ننظر من لبده لدينا

بحر دمٍ تحتنا يسيل

كأنّ أخفافنا عليه

مراكب ما لها دليل

ضلّت فلم تدر أين تجري

فهل على شطّه تقيل فعجب القوم من أمره، ثم خرج من عندهم فمر على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن حرشفاً (2) ، فجعل يده في لجام بغلته، وقال: لا أتركك أو تصف الحرشف، فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئاً، فقال له ابن شهيد: ويحك! أعلى مثل هذه الحال قال: نعم، فارتجل (3) :

هل أبصرت عيناك يا خليلي

قنافذاً تباع في زنبيل

من حرشفٍ معتمدٍ جليل

ذي إبرٍ تنفذ جلد الفيل

كأنّها أنياب بنت (4) الغول

لو نخست في است امرئ ثقيل

لقفزته نحو أرض النّيل

ليس يرى طيّ حشا منديل

نقل السّخيف المائن الجهول

وأكل قومٍ نازحي العقول

أقسمت لا أطعمها أكيلي

ولا طعمتها على شمولي انتهى.

31 -

وقال في " بدائع البدائه "(5) : دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر على الأمير عبد الملك ابن رزين في مجلس أنس، وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه، ويبدي درين من حبابه

(1) ب: عارضت.

(2)

ب: زنبيل حرشف.

(3)

الذخيرة 4 / 1: 28.

(4)

ب ودوزي: نبت.

(5)

بدائع البدائه 2: 42.

ص: 246

ولفظه، وقد بدا خط عذاره في خده، وكمل حسنه باجتماع الضد مع ضده، فكأنّه بسحر لحظه أبدى ليلاً في شمسن وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس، فسأله ابن رزين أن يصنع فيه، فقال بديهاً:

تضاعف وجدي إذ تبدّى عذاره

ونمّ فخان القلب منّي اصطباره

وقد كان ظنّي أن سيمحق ليله

بدائع حسنٍ هام فيها نهاره

فأظهر ضدٌّ ضدّه فيه إذا وشت

بعنبره في صفحة الخدّ ناره واستزاده، فقال بديهاً:

محيت آية النهار فأضحى

بدر تمّ وكان شمس نهار

كان يعشي العيون نوراً إلى أن

شغل الله خدّه بالعذار وصنع أيضاً:

عذار ألمّ فأبدى لنا

بدائع كنّا لها في عمى

ولو لم يجنّ النهار الظلا

م ولم يستبن كوكبٌ في السما وصنع أيضاً:

تمّت محاسن وجهه وتكاملت

لمّا استدار به عذارٌ مونق

وكذلك البدر المنير جماله

في أن يكنّفه سماء أزرق انتهى.

32 -

وحكى الحميدي (1) وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديباً شاعراً سريع البديهة، كثير النوادر، وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس، وحكموا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم،

(1) الجذوة: 245؛ وبدائع البدائه 2: 86.

ص: 247

وبين يديه غلام حسن المحاسن، جميل الزي، لين الأخلاق، فقال الأمير: يا ابن عاصم ما يصلح في يومنا هذا، فقال: عقار تنفّر الذبان (1) ، وتؤنس الغزلان، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفظ، وأرخي له عنان التبسط، يديرها هذا الأغيد المليح، فاستضحك الأمير، ثم أمر بمراتب الغناء، وآلات الصهباء، فلما دارت الكأس، واستمطر الأمير نوادره (2) ، أشار إلى الغلام أن يلح في سقيه، ويؤكد عليه، فلما أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة:

يا حسن الوجه لا تكن صلفاً

ما لحسان الوجوه والصّلف

تحسن أن تحسن القبيح ولا

ترثي لصبٍّ متيّمٍ دنف فاستبدع الأمير بديهيته، وأمر له ببدرة، ويقال: إنه خيره بينها وبين الوصيف، فاختارها نفيا للظنة عنه (3) ، انتهى.

[استطراد حول ابن ظافر]

قلت أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي ابن ظافر عن نفسه إذ قال (4) : كنت عند المولى الملك الأشرف ابن العادل ابن أيوب سنة 603 بالرها، وقد وردت إليه في رسالة، فجعلني بين سمعه وبصره، وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي، فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلا به، وهو قائم على رأسي، والسكر قد غلب عليه، والشمع تزهر حواليه (5) ، وقد حف مماليكه به، وكأنهم الأقمار الزواهر، في

(1) في أصول النفح: تنفد الدنان.

(2)

ب: نواره.

(3)

ويقال

عنه: سقطت هذه العبارة من ب.

(4)

بدائع البدائه 2: 61.

(5)

البدائع: والشموع تزهر بين يديه.

ص: 248

ملابس كالرياض ذات الأزاهر، فقمت مروعاً، فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد، وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنفاق بعد الكساد، ثم قال: غلبني الشوق إليك، ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك، ثم استدعى من كان في مجلسه من خواص القوالين، فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذاً، وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيرا سماء ملكه، وواسطتا در سلكه، وقطبا فلك طربه ووجده (1) ، وركنا بيت سروره ولهوه، وكانا يتناوبان في خدمته، فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر، وكان كثيراً ما يداعبني في أمرهما ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما، فقلت للوقت:

يا مالكاً لم يحك سيرته

ماضٍ ولا آتٍ من البشر

اجمع لنا تفديك أنفسنا

في الليل بين الشمس والقمر فطرب، وأمر في الحال باستدعاء الغائب منهما، فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيراً، ومعاطفه تكسيراً، فقلت بين يديه بديهاً في صفة المجلس:

سقى الرحمن عصراً قد مضى لي

بأكناف الرّهى صوب الغمام

وليلاً باتت الأنوار فيه

تعاون في مدافعة الظّلام

فنورٌ من شموع (2) أو ندامى

ونورٌ من سقاةٍ أو مدام

يطوف بأنجم الكاسات فيه

سقاةٌ مثل أقمار التّمام

تريك به الكؤوس جمود ماء

فتحسب راحها ذوب الضّرام

يميل به غصوناً من قدودٍ

غناء مثل أصوات الحمام

فكم من موصليٍّ فيه يشدو

فينسي النفس عادية الحمام

(1) البدائع: وزهوه.

(2)

ب: شعاع.

ص: 249

وكم من زلزلٍ للضرب فيه

وكم للزّمر فيه من زنام

لدى موسى بن أيوب المرجّى

إذا ما ضنّ غيثٌ بانسجام

ومن كمظفّر الدين المليك ال

أجلّ الأشرف النّدب الهمام

فما شمسٌ تقاس إلى نجومٍ

تحاكي قدره بين الكرام

فدام مخلّداً في الملك يبقى

إذا ما ضنّ دهرٌ بالدوام فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي، ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي، انتهى.

ولابن ظافر هذا بدائع: منها ما حكاه عن نفسه إذ قال (1) : ومن أعجب ما دهيت به ورميت، إلا أن الله بفضله نصر، وأعطى الظفر، وأعان خاطري الكليل، حتى مضى مضاء السيف الصقيل، أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب والحواشي والخدام، ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة، مرتضعون لأفاويق النعمة، فحضرت في جملة من حضر الهناء، من الفقهاء بالثغر والعلماء، والمشايخ والكبراء، وجماعة الديوان والأمراء، واتقف أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد، فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل العسكر إلا حضر مهنياً، ومثل شاكراً وداعياً، فحين غص المجلس بأهله، وشرق بجمع السلطان وحفله، وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه، واستقر في دسته، أخرج من بركة قبائه كتاباً ناوله للصاحب الأجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته، وكبير جملته، وهو مفضوض الختام، مفكوك الفدام، ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم كتبها إليها يتشوقه ويستعطفه لزيارته، ويرققه ويستحثه على عود ركابه إلى بلاد الشام، للمثاغرة

(1) بدائع البدائه 2: 55.

ص: 250

بها، وقمع عدوها، ويعرض بذكر مصر وشدة حرها، ووقد جمرها، وذلك بعد أن كان وصل لخدمته بالثغر ثم رجع إليها، والأبيات:

أروي رماحك من نحور عداكا

وانهب بخيلك من أطاع سواكا

واركب خيولاً كالسّعالي شزّباً

واضرب بسيفك من يشقّ عصاكا

واجلب من الأبطال كلّ سميدعٍ

يفري بعزمك كلّ من يشناكا

واسترعف السّمر الطّوال وروّها

واسق المنيّة سيفك السفّاكا

وسر الغداة إلى العداة مبادراً

بالضرب في هام العدوّ دراكا

وانكح رماحك للثغور فإنّها

مشتاقةٌ أن تبتني بعلاكا

فالعزّ في نصب الخيام على العدا

تردي الطّغاة وتدفع الملاّكا

والنصر مقرونٌ بهمّتك التي

قد أصبحت فوق السّماك سماكا

فإذا عزمت وجدت من هو طائعٌ

وإذا نهضت وجدت من يخشاكا

والنصر في الأعداء يوم كريهةٍ

أحلى من الكأس الذي روّاكا

والعجز أن تضحي بمصرٍ راهناً

وتحلّ في تلك العراص عراكا

فأرح حشاشتك الكريمة من لظى

مصرٍ لكي نحظى الغداة بذاكا

فلقد غدا قلبي عليك بحرقةٍ

شغفاً ولا حرّ البلاد هناكا

وانهض لإلى راجي لقاك مسارعاً

فمنه من كلّ الأمور لقاكا

وابرد فؤاد المستهام بنظرةٍ

وأعد عليه العيش من رؤياكا

واشف الغداة غليل صبّ هائمٍ

أضحى مناه من الحياة مناكا

فسعادتي بالعادل الملك الذي

ملك الملوك وقارن الأفلاكا

فبقيت لي يا ملكي في غبطةٍ

وجعلت من كلّ الأمور فداكا فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها، وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد (1) غاياتها، أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها،

(1) م: أبدع.

ص: 251

وتناسق التئامها، والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها، وأطلع من مشرق فكره آياتها، فقال السلطان: نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها، فالتفت مسرعاً إلي مأنا عن يمينه، وقال: يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان، والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان، ثم قطع وصلاً من درج كان بين يديه، وألقاه إلي، وعمد إلى دواته فأدارها (1) بين يدي، فقال له السلطان: أهكذا على مثل هدا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال: نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر، حاضر الذهن، سريع إجابة الفكر، فقال السلطان: وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين، وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين، وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس قيه منفرد، فقمت وقد فقدت رجلي انخذالاً، وذهني اختلالاً، لهيبة المجلس في صدري، وكثرة من حضره من المترقبين لي، المنتظرين حلوله فاقرة الشماتة بي، فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري، انثال الكلام على سرائري (2) ، فكنت أتوهم أن فكري كالباز الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسرة، ولا معنى إلا شك فيه ظفره، فقلت في أسرع وقت:

وصلت من الملك المعظّم تحفةٌ

ملأت بفاخر درّها الأسلاكا

أبيات شعرٍ كالنجوم جلالةً

فلذا حكت أوراقها الأفلاكا

عجباً وقد جاءت كمثل الروض إذ

لم تذوها بالحر نار ذكاكا

جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما

تجلو بغرّة وجهك الأحلاكا

كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريّ

اه شفتني مثله ريّاكا

قد أعجزت شعراء هذا العصر كلّ

هم فلم لا تعجز الأملاكا

ما كان هذا الفضل يمكن مثله

أن يحتويه من الأنام سواكا

(1) م: فألقاها.

(2)

البدائع: وانثال الشعر على ضمائري.

ص: 252

لم لا أغيب عن الشآم وهل له

من حاجةٍ عندي وأنت هناكا

أم كيف أخشى والبلاد جميعها

محميّةٌ في جاه طعن قناكا

يكفي الأعادي حرّ بأسك فيهم

أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا

ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها

فلذا صبرت فديت عن رؤياكا

أن البلاد علا عليها قدرها

لا سيّما مذ شرّفت بخطاكا

طابت وحقّ لها ولم لا وهي قد

حوت المعلاّ في القداح أخاكا

أنا كالسحاب أزور أرضاً ساقياً

حيناً، وأمنح غيرها سقياكا

مكثي جهادٌ للعدوّ لأنّني

أغزوه بالرأي السديد دراكا

لولا الرباط وغيره لقصدت بال

سير الحثيث إليك نيل رضاكا

ولئن أتيت إلى الشآم فإنّما

يحتثّني شوقٌ إلى لقياكا

إنّي لأمنحك المحبّة جاهداً

وهواي فيما تشتهيه هواكا

فافخر فقد أصبحت بي وببأسك ال

حامي وكلّ مملّكٍ يخشاكا

لا زلت تقهر من يعادي ملكنا

أبداً ومن عاداك كان فداكا

وأعيش أبصر ابنك الباقي أباً

وتعيش تخدم في السعود أباكا ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها، وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها، فلما رآني السلطان وقد عدت قال لي: هل عملت شيئاً ظناً منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر، وبلوغ الغرض فيها غير متصور، فقلت: قد أجبت، فقال: أنشدنا (1) ، فصمت الناس، وحدقت الأبصار، وأصاخت الأسماع، وظن الناس بي الظنون، وترقبوا مني ما يكون، فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجاباً، وتغامزت الأعين استغراباً، وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل، بأنه المعلى في البنين إذا ضربي قداحهم، وسردت أمداحهم، اغرورقت عيناه دمعاً لذكره، وأبان صمته

(1) ب: أنشد.

ص: 253

مخفي المحبة حتى أعلن بسره، وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه، ولم يمكنه دفعه، فمد يده مستدعياً للورقة، فناولتها إلى يد الصاحب، فناولها له، وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار منه إرادة القيام في خلده، ستراً لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد، وكتماً لما عليه من الوجد بهم والمحبة لهم، وانفض المجلس.

وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها علي فأنفذ فيها من بين يديه، ويخف الأمر منها علي لدالتي عليه، منها أنني كنت في خدمته سنة 599 بدمشق، فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة، وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه، فلما كتب بعضه التفت إلي وقال: اصنع أبياتاً أكتبها إليه في صدر الجواب، واذكر فيها شعره، فقلت له: على مثل هذه الحال فقال: نعم، فقلت بقد ما أنجز بقية النسخة:

أيا ملكاً قد أوسع الناس نائلاً

وأغرقهم بذلاً وعمّهم عدلا

فديناك هب للناس فضلاً يزينهم

فقد حزت دون الناس كلّهم الفضلا

ودونك فامنحهم من العلم والحجى

كما منحتهم كفّك الجود والبذلا

إذا حزت أوفى الفضل عفواً فما الذي

تركت لمن كان القريض له شغلا

وماذا عسى من ظلّ بالشعر قاصداً

لبابك أن يأتي به جلّ أو قلاّ

فلا زلت في عزٍّ يدوم ورفعةٍ

تحوز فناءاً يملأ الوعر والسهلا ووقع لابن ظافر أيضاً من هذا النمط (1) أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم، وبين يديه بركة قد راق ماؤها، وصحت سماؤها، وقد رصّ تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضّار وملأ بالمحاسن عيون النظار، فكأنما

(1) بدائع البدائه 2: 54.

ص: 254

رفعت صوالج فضة على كرات من النضار، فأشار الحاضرون إلى وصفها، فقال بديهاً:

أبدعت يا ابن هلال في فسقيّةٍ

جاءت محاسنها بما لم يعهد

عجباً لأمواه الدساتير التي

فاضت على نارنجها المتوقّد

فكأنّهنّ صوالجٌ من فضّةٍ

رفعت لضرب كراة خالص عسجد [قدرة ابن قلاقس في الارتجال]

ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال (1) : دخل الأعز أبو الفتوح ابن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزازي، فعرض عليه سيفاً قد نظم الفرند في صفحته جوهره، وأذكر الدهر ناره وجمد نهره، وألبسه من سلخ الأفاعي رداءً وجسمه ردىً أو داءً، لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر، ولا يسلم منحده من ثبت ولا ينجو بطوله من فر، وهو يبكي للنفاق ويضحك، ويرعد للغيظ ويفتك، وأمره بصفة شانه، فقال على لسانه:

أروق كما أروّع فإن تصفني

فإنّي رائق الصفحات رائع

تدافع بي خطوب الدهر حتى

نقلت إلى بلالٍ عن مدافع وقال أيضاً في:

ربّ يومٍ له من النّقع سحبٌ

ما لها غير سائل (2) الدم ودق

قد جلته يمنى بلالٍ بحدّي

فكأنّي في راحة الشمس برق

(1) المصدر نسفه 2: 47.

(2)

ب: مائر.

ص: 255

وقال أيضاً فيه:

أنا في الكريهة كالشّهاب الساطع

من صفحةٍ تبدو وحدّ قاطعي

فكأنّما استمليت تلك وهذه

من وصف كفّ بلالٍ ابن مدافع وقال أيضاً فيه:

انظر لمطّرد المياه بصفحتي

ولنار حدّي كم بها من صالي

قد عاد شدّي في المضايق شيمتي

كبلالٍ ابن مدافع بن بلال وسأله صاحبٌ له وصف مشط عاج قد أشبه الثريا شكلاً ولوناً، وشق ليلاً من الشعر جوناً، فقال:

ومتيّمٍ بالآبنوس وجسمه

عاجٌ ومن أدهانه شرفاته (1)

كتب الدياجي الشّعر منه بدرها

فوشت به للعين عيّوقاته وقال فيه:

وأبيض ليل الآبنوس إذا سرى

تمزّق عن صبحٍ من العاج باهر

وإن غاص في بحر الشعور رأيته

تبشّرنا أطرافه بالجواهر وقال فيه:

ومشرقٍ يشبه لون الضّحى

حسناً ويسري في الدّجى الفاحم

وكلّما قلّب في لمّةٍ

أضحكها عن ثغرٍ باسم وجلس بمصر في دار الأنماط يوماً مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك، وهي شمس تحت سحاب النقاب، وغصن في أوراق الشباب،

(1) ب: حرقاته.

ص: 256

فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب، فجعلت تتلفت تلفت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب، فسألوه العمل في وصفها، فقال: هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني:

أعرضن لمّا أن عرضن، فإن يكن

حذراً فأين تلفّت الغزلان ثم صنع:

لها ناظرٌ في ذرا ناضرٍ

كما ركّب السنّ فوق القناة

لوت حين ولّت لنا جيدها

فأيّ حياةٍ بدت من وفاة

كما ذعر الظبي من قانصٍ

فمرّ وكرّر في الالتفات (1) ثم صنع أيضاً:

ولطيفة الألفاظ لكن قلبها

لم أشك منه لوعةً إلاّ عتا

كملت محاسنها فودّ البدر أن

يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا

قد قلت لمّا أعرضت وتعرضت

يا مؤيساّ يا مطعماّ قل لي متى

قالت أنا الظبي الغرير وإنما

ولّى وأوجس نبأةً (2) فتلفّتا قال علي بن ظافر: وحضر يوماً عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما، وكاد يمزق بمزاحمته أبواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم، وابتسمت ثنايا شرفاته، واتسمت بالحسن حنايا غرفاته، وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها، والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد

(1) سقط هذا البيت من ب.

(2)

في الأصول: نبوة.

ص: 257

كرومه، والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه، والنخل قد أظهرت جواهرها، ونشرت غدائرها، والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد غيظاً من عبث الرياح به، فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه، وغبط به ساكنه، فجاشت لذلك لجج بحره، وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره، فقال:

قصرٌ بمدرجة النّسيم تحدثت

فيه الرياض بسرّها المستور

خفض الخورنق والسّدير سموّه

وثنى قصور الروم ذات قصور

لاث الغمام عمامةً مسكيّةً

وأقام في أرضٍ (1) من الكافور

غنّى الربيع به محاسن وصفه

فافترّ عن نورٍ يروق ونور

فالدّوح يسحب حلّةً من سندسٍ

تزهى بلؤلؤ طلّها المنثور

والنخل كالغيد الحسان تقرّطت

بسبائك المنظوم والمنثور

والرمل في حبك النسيم كأنما

أبدى غصون سوالف المذعور

والبحر يرعد متنه فكأنّه

درعٌ تشنّ بمعطفي مقرور

وكأنّنا والقصر يجمع شملنا

في الأفق بين كواكبٍ وبدور

وكذاك دهر بني خليفٍ لم يزل

يثني المعاطف في حبير حبور ثم قال ابن ظافر: وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه، قال: كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة، فمر بنا أبو الفضائل ابن فتوح المعروف بالمصري، وهو راجع من المكتب، ومعه دواته، وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفاً وجمالاً وراحة القلب قرباً ووصالاً، كل عين إلى وجهه محدقة، ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة، فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه، فصنع بديهاً:

(1) م ب: روض.

ص: 258

علّقته متعلّقاً

بالخطّ معتكفاً عليه

حمل الدواة ولا دوا

ء لعاشق يرجى لديه

فدماء حبّات القلو

ب تلوح صبغاً في يديه

لم أدر ما أشكو إلي

هـ أهجره أمقلتيه

والحبّ يخرسني على

أنّي ألكّع سيبويه

ما لي إذا أبصرته (1)

شغلٌ سوى نظري إليه وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذين حلا، وأبعدنا عنه بما مر النجعة، فنقول:

33 -

ذكر الفتح في قلائد العقيان، كما قال ابن ظافر، ما معناه (2) : أخبرني الوزير أبو عامر ابن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى ابن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات، ونامت عنه أعين المضرات، وأظهرت سقاته غصوناً تحمل بدوراً، وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نوراً، وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان، وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الجفان، وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي، وهو يومئذ قد بذل الجهد، في التحلي بالزهد، فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه، ويحييه بزبرجد آسه، ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه، ففعل ذلك عجلاً، فأنشد أبو الحسن مرتجلاً:

ومهفهفٍ مزج الفتور بشدّةٍ

وأقام بين تبذّلٍ وتمنّع

يثنيه من فعل المدامة والصّبا

سكران سكر طبيعةٍ وتطبّع

أوما إليّ بكأسه فكففتها

ورنا فشفّعها بلحظٍ مطمع

(1) البدائع: قابلته.

(2)

بدائع البدائه 2: 87؛ والقلائد: 139.

ص: 259

والله لولا أن يقال هوى الهوى

منه بفضل عزيمةٍ وتورّع

لأخذت في تلك السبيل بمأخذي

فيما مضى ونزعت فيها منزعي 34 - وحكى الحميدي (1) أن عبد الملك ابن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة، ويخفيه السحاب تارة، فقال بديهاً:

أرى بدر السّماء يلوح حيناً

فيبدو ثمّ يلتحف السحابا

وذاك لأنّه لمّا تبدّى

وأبصر وجهك استحيا فغابا

مقالٌ لو نما عنّي إليه

لراجعني بتصديقي جوابا 35 - وكان صاعد اللغوي (2) صاحب كتاب " الفصوص " - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيراً ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور ابن أبي عامر، ويصفها ويقرظها، فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك ابن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد ابن شهيد صاحب الغراءب، وقد تقدم بعض كلامه قريباً، إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات:

أما ترى برد يومنا هذا

صيّرنا للكمون أفذاذا

قد فطرت صحّة الكبود به

حتى لكادت تعود أفلاذا

فادع بنا للشّمول مصطلياً

نغذّ سيراً إليك إغذاذا

وادع المسمّى بها وصاحبه (3)

تدع نبيلاً وتدع أستاذا

ولا تبال أبا العلاء زها

بخمر قطربّلٍ وكلواذا

ما دام من أرملاط مشربنا

دع دير عمّى وطيزناباذا (4)

(1) جذوة المقتبس: 262؛ وبدائع البدائه 2: 96.

(2)

بدائع البدائه 2: 103؛ والذخيرة 4 / 1: 16.

(3)

يريد غلاما اسمه " شمول ".

(4)

سقط هذا البيت من م.

ص: 260

وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء، وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده، وأخذوا في شأنهم، فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، ووقت لم يعهدوا نظيره، وطما الطرب وسما بهم، حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة، حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد، فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل ويومئ إلى المنصور، وقد غلب عليه السكر (1) :

هاك شيخاً قاده عذرٌ لكا

قام في رقصته مستهلكا

لم يطق يرقصها مستثبتاً

فانثنى يرقصها مستمسكا

عاقه عن هزّها منفرداً

نقرسٌ أخنى عليه فاتّكا

من وزيرٍ فيهم رقّاصةٍ

قام للسكر يناغي ملكا

أنا لو كنت كما تعرفني

قمت إجلالاً على رأسي لكا

قهقه الإبريق مني ضاحكاً

ورأى رعشة رجلي فبكى قال ابن ظافر: وهذه قطعة مطبوعة، وطرفها الأخير واسطتها، وكان حاضرهم ذلك اليوم رجلٌ بغدادي يعرف بالفكيك، حسن النادر سريعها، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه، فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال: لله درك يا وزير! ترقص بالقائمة، وتصلي بالقاعدة، فضحك المنصور، وأمر لابن شهيد بمال جزيل، ولسائر الجماعة، وللبغدادي.

36 -

وقال ابن بسام (2) : حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

(1) الذخيرة 4 / 1: 17؛ وزاد في م: وقال ارتجالا.

(2)

بدائع البدائه 2: 106.

ص: 261

عثمان المصحفي قال، دخلت يوماً على أبي عامر ابن شهيد، وقد ابتدأت علته التي مات بها، فأنس بي، وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي (1) علي، ونفاره عني، فقال لي: سأسعى في إصلاح ذات البين، فخرجت عنه، واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي، فلما رآني ذلك الصديق مولياً عنه أنكر عليه، وسأله عن السبب الموجب، فأخبره، وزاد في مشيهما حتى لحقا بي، وعزم علي في مكالمة صاحبي، وتعاتبنا عتاباً أرق من الهواء، وأشهى من الماء على الظماء، حتى جئنا دار أبي عامر، فلما رآنا جميعاً ضحك وقال: من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده قلنا: قد كان ما كان، فاطرق قليلاً تم أنشد:

من لا أسمّي ولا أبوح به

أصلح بيني وبين من أهوى

أرسلت من كابد الهوى فدرى

كيف يداوى مواقع البلوى

ولي حقوقٌ في الحبّ ثابتةٌ

لكنّ إلفي يعدّها دعوى وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر ابن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب، وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكينا [ها] هناك بلفظ " المطمح " فلتراجع.

وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله (2) : إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان (3) ،فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة، قد كملت حسناً وظرفاً ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفاً، وقد حفت بها الجواري، كالبدر حف بالدراري، فحين رأت تلك الجماعة، المعروفة بالخلاعة، وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسودٍ رأت فريسة،

(1) البدائع: إخواني.

(2)

بدائع البدائه 2: 107.

(3)

من رمضان: سقطت من ب.

ص: 262

ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها (1) تلك الدرة النفيسة، فاستدنت إليها خشفها، وألزمته عطفها، فارتجل ابن شهيد قائلاً:

وناظرةٍ تحت طيّ القناع..إلخ

ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات.

37 -

وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي (2) : لما نعيت أبا عامر ابن شهيد إلى أبي عبد الله الحناط (3) الشاعر، وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة، بكى وأنشدني لنفسه بديهة:

لمّا نعى النّاعي أبا عامرٍ

أيقنت أنّي لست بالصابر

أودى فتى الظّرف وترب النّدر

وسيّد الأوّل والآخر 38 - وقال ابن بسام (4) : اصطبح المعتصم بن صمادح يوماً مع ندمائه، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك، وحضر أيضاً هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسناً، فارتجل أبو عبد الله بن الحداد:

كذا فلتلح قمراً زاهرا

وتجني الهوى ناظراً ناضرا

وسيبك سيب ندىً مغدقٍ

أقام لنا هامياً هامرا

وإنّ ليومك ذا رونقاً

منيراً كنور الضّحى باهرا

صباح اصطباحٍ بإسفاره

لحظنا محيّا العلا سافرا

وأطلعت فيه نجوم الكؤوس

فما زال كوكبها زاهرا

وأسمعتنا لاحناً فاتناً

وأحضرتنا لاعباً ساحرا

(1) منها: سقطت من ب.

(2)

بدائع البدائه 2: 109.

(3)

في الأصول: الخياط.

(4)

بدائع البدائه 2: 121.

ص: 263

يرفرف فوق رؤوس القيان

فننظر ما يذهل الناظرا

ويحفظها ذيل سرباله

فننظر طالعها غائرا

فظاهرها ينثني باطناً

وباطنها ينثني ظاهرا

وثنّاه ثانٍ لألعابه

دقائق تثني الحجى حائرا (1)

وفي سورة الرّاح من سحره

خواطر دلّهت الخاطرا

إذا ورد اللّحظ أثناءها

فما الوهم عن وردها صادرا

ومن حسن دهرك إبداعه

فما انفكّ عارضها ماطرا

وسعدك يجتلب المغربات

فيجعل غائبها حاضرا 39 - قال (2) : وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد ابن دري (3) بجيان، هو وأبو زيد ابن مقانا الأشبوني، فأحضر لهما (4) عنباً أسود مغطى بورق أخضر، فارتجل ابن الشقاق:

عنبٌ تطلّع من حشا ورقٍ لنا (5)

صبغت غلائل جلده بالإثمد

فكأنّه من بينهنّ كواكبٌ

كسفت فلاحت في سماء زبرجد 40 - قال (6) : وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون، وبحضرته وصيفة تحمل شمعة، فاستحسنها ابن مرزقان، فقال بديهاً:

يا شمعةً تحملها أخرى

كأنّها شمسٌ علت بدرا

امتحنت إحداكما مهجتي

بمثل ما تمتحن الأخرى

(1) اضطربت النسخة م بعد هذا البيت وسقط منها قسط كبير وسنشير إلى موضع التئامها مع النسختين ق ب.

(2)

بدائع البدائه 2: 122 وروى ابن بسام القصة (الذخيرة 1 / 2: 262) عن المنفتل عبد العزيز ابن خيرة القرطبي.

(3)

ق ب: ابن دريد.

(4)

ب: فأحضرهما.

(5)

ب: له؛ الذخيرة: ندي.

(6)

بدائع البدائه 2: 123.

ص: 264

41 -

قال (1) : ودخل الأديب غانم يوماً على باديس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال بديهاً:

صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً

سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين

ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ

فقلّما تتسع الدنيا بغيضين وأخذه من قول الخليل " ما تضايق سمّ الخياط بمتحابّين، ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين "(2) . وكان الخليل على نمرقة صغيرة، والمجلس متضايق، فدخل عليه بعض أصحابه، فرحب به وأجلسه معه على النمرقة، فقال له الرجل: إنها لا تسعنا، فقال ما ذكر.

42 -

وقال ابن بسام أيضاً (3) : أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض الأيام، ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال، فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك، فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالاً:

أعن بابلٍ أجفان عينيك تنفث

ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث

أفي الحقّ أن تحكي سرافيل نافخاً

وأمكث في رمث الصّدود وألبث

عساك، نبيّ الحسن، تأتي بآيةٍ

فتنفخ في ميت الصّدود فيبعث 43 - قال: وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له، فقال صاحبه: إنه لصبيح لولا صفرة فيه، فقال ابن فرج ارتجالاً (4) :

(1) المصدر نفسه: 123.

(2)

ب: بمتباغضين.

(3)

الذخير (3: 282) .

(4)

الذخيرة (3: 280) .

ص: 265

قالوا: به صفرةٌ عابت محاسنه

فقلت: ما ذاك من عيبٍ به نزلا

عيناه تطلب في أوتار من قتلت

فلست تلقاه إلاّ خائفاً وجلا قال: وكان يوماً مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس، فاحتاج رب المنزل إلى دينار، فوجه إلى السوق، فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال، فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجناً، فقال ابن فرج (1) :

أبصرت ديناراً بكفّ مهفهفٍ

يزهى به من كثرة الإعجاب

أوما به من فيه ثمّ رمى به

فكأنّه بدرٌ رمى بشهاب 44 - قال (2) : وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة، فتذكر إشبيلية، فقال بديهاً:

ذكرتك يا حمص ذكرى هوىً

أمات الحسود وتعنيته

كأنّك والشمس عند الغروب

عروسٌ من الحسن منحوته

غدا النهر عقدك والطّود تا

جك والشمس أعلاه ياقوته 45 - وعبر بعضهم، وهو صاحب " بدائع البدائه " عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى، فقال (3) : إن المستعين بن هودٍ ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوماً لتفقد بعض معاقله، المنتظمة بجيد ساحله، وهو نهر رقّ ماؤه وراق، وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق، قد اكتنفته البساتين من جانبيه، وألقت ظلالها عليه، فما تكاد عين الشمس أن

(1) الذخيرة (3: 280) .

(2)

بدائع البدائه 2: 124.

(3)

بدائع البدائه 2: 124.

ص: 266

تنظر إليه، هذا على اتساع عرضه، وبعد سطح مائه من أرضه، وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة، وأحاطت به إحاطة الطفاوة (1) بالغزالة، وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء، وأخاف حتى حوت السماء، وأهلة الهالات الطالعة من الموج في سحاب، وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب، فلا ترى إلا صيوداً كقصد الصوارم، وقدود اللهاذم، ومعاصم الأبكار النواعم، فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه، وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه:

لله يومٌ أنيقٌ واضح الغرر

مفضّضٌ مذهب الآصال والبكر

كأنّما الدهر لمّا ساء أعتبنا

فيه بعتب فأبدى صفح معتذر

نسير في زورقٍ حفّ السرور به

من جانبيه بمنظومٍ ومنتثر

مدّ الشراع به قدّاً على ملكٍ

بذّ الأوائل في أيامه الأخر

هو الإمام الهمام المستعين حوى

علياء مؤتمنٍ في هدي مقتدر

تحوي السفينة منه آيةً عجباً

بحرٌ تجمّع حتى صار في نهر

تثار من قعره النينان مصعدةً

صيداً كما ظفر الغواص بالدرر

وللندامى به عبٌّ ومرتشفٌ

كالريق يعذب في ورد وفي صدر

والشرب في ودّ مولى خلقه زهرٌ

يذكو وبهجته أبهى من القمر ثم قال ما معناه (2) : وقوله " نينان " غير معروف، فإن نوناً لم يجئ جمعها على نينان، وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة:

تلاعب نينان البحور وربّما

رأيت نفوس القوم من جريها تجري فغيره بشار ب " تيار البحور " وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً:

(1) الطفاوة: دارة الشمس.

(2)

بدائع البدائه 2: 127.

ص: 267

فهنّ مع السّيدان في البرّ عسلٌ

وهنّ مع النينان في البحر عوّم انتهى.

والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود، الجذامي، رحم الله تعالى الجميع.

46 -

وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه (1) :

خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال، وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره، وهو يومئذ غلام يخجل البدر، ويذوي (2) الغصن النضر، وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه، ووردة خده لم يسترها الشعر بآسه، فارتجل عبد الجليل:

يا هلال استتر بوجهك عنّي

إن مولاك قابضٌ بشمالي

هبك تحكي سناه خدّاً بخدٍّ

قم فجئني لقدّه بمثال وقد ذكرنا هذه الحكاية في غير هذا الموضع بلفظ الفتح في " القلائد " ولكننا أعدناها هنا لتعبير صاحب " البدائع " عنها محاكياً لطريقته.

47 -

وذكر ابن بسام (3) أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة، واستأذن عليه، فحجب عنه، فكتب إليه بديهاً (4) :

جئناك للحاجة الممطول صاحبها

وأنت تنعم والإخوان في بوس

وقد وقفنا طويلاً عند بابكم

ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس أشار به إلى قول الوزير أبي عامر ابن عبدوس:

(1) المصدر السابق 2: 128.

(2)

البدائع: ويزري.

(3)

بدائع البدائه 2: 147.

(4)

ب: بديهة.

ص: 268

لنا قاضٍ له خلق

أقلّ ذميمه النّزق

إذا جئناه يحجبنا

فنلعنه ونفترق وهو تلميح مليح، سامح الله تعالى الجميع.

48 -

وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي (1) :

وأبي المدامة ما أريد بشربها

صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي

لم يبق من عصر الشباب وطيبه

شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي

إن كنت أشربها لغير وفائها

فتركتها للناس لا لله وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام، والصواب - كما قال ابن الأبار (2) - الأول.

وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة (3) :

ما شغل الطّرف مثل فائرة

تمجّ صرف الحياة من فيها

اشرب بها والحباب في جذل

يظهره حسنها ويخفيها

تكاد من رقّةٍ تضمنها

تخطبها العين إذ توافيها

كأنّها درّةٌ منعّمةٌ

زهراء قد ذاب نصفها فيها ومن شعره أيضاً:

(1) انظر ما سبق ص: 228، وأبو جعفر هذا هو أحمد بن عبد الرحمن اللخمي الكاتب من أهل قرطبة ويعرف بالربضي لسكناه بالربض الشرقي منها؛ توفي سنة 610 (المقتضب من تحفة القادم: 126) .

(2)

قال ابن الأبار: وهذه الأبيات قد أنشدنيها بعض الأعلام لأبي القاسم عامر بن هشام وإنما هي لأبي جعفر هذا أنشدنيها صاحبنا أبو الحسن حازم بن محمد الأديب

إلخ (الوافي 7: 24 نقلا عن التحفة ولم يرد في المقتضب) .

(3)

الأبيات في الوافي 7: الورقة 24؛ وكذلك الأبيات التي تليها.

ص: 269

ضحك المشيب براسه

فبكى بأعين كاسه

رجلٌ تخوّنه الزّما

ن ببؤسه وبباسه

فجرى على غلوائه

طلق الجموح بناسه

أخذاً بأوفر حظّه

لرجائه من ياسه 49 - وقال أحد بني القبطرنة الوزراء (1) :

ذكرت سليمى ونار الوغى

بقلبي كساعة فارقتها

وأبصرت قدّ القنا شبهها

وقد ملن نحوي فعانقتها وهذا معنى بديع ما أراه سبق به.

50 -

وقال أبو الحسن ابن الغليظ المالقي (2) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز:

شربنا على ماء كأنّ خريره

فقال مبادراً:

بكاء محبٍّ بان عنه حبيب

فمن كان مشغولاً كئيباً بإلفه

فإني مشغوفٌ به وكئيب 51 - وكتب أبو بكر البلنسي (3) إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما:

(1) انظر القلائد: 155 والمغرب 1: 368.

(2)

بدائع البدائه 1: 73.

(3)

بدائع البدائه 1: 79.

ص: 270

خليلي أبا بحر وما قرقف اللّمى (1)

بأعذب من قولي خليلي أبا بحر

أجز غير مأمورٍ قسيماً نظمته

تأمّل على نحر المياه حلى الزّهر فأجازه:

تأمّل على حلى المياه حلى الزّهر

كعهدك بالخضراء والأنجم الزّهر

وقد ضحكت للياسمين مباسمٌ

سروراً بآداب الوزير أبي بكر

وأصغت من الآس النضير مسامعٌ

لتسمع ما يتلوه من سور الشعر 52 - وقال ابن خفاجة (2) :

وما الأنس إلاّ في مجاج زجاجةٍ

ولا العيش إلا في صرير سرير

وإني وإن جئت المشيب لمولعٌ

بطرّة ظلٍّ فوق وجه غدير وقال ابن خفاجة أيضاً (3) :

وأسودٍ يسبح في لجّةٍ

لا تكتم الحصباء غدرانها

كأنها في شكلها مقلةٌ

وذلك الأسود إنسانها [قصائد لابن زيدون]

53 -

وكتب الوزير الشهير أبو الوليد ابن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله ابن عبد العزيز إثر صدوره عن بلنسية (4) :

راحت فصحّ (5) بها السقيم

ريحٌ معطّرة النّسيم

مقبولةٌ هبّت قبو

لاً فهي تعبق في الشميم

(1) ب: الطلى.

(2)

ديوان ابن خفاجة: 181.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 363؛ وفي ق: وله.

(4)

ديوان ابن زيدون: 201، وهي في الذخيرة والقلائد.

(5)

الديوان: فراح.

ص: 271

أفضيض مسكٍ أم بلن

سيةٌ لريّاها نميم

بلدٌ حبيبٌ أفقه

لفتىً يحلّ به كريم

إيه أبا عبد الإل

هـ نداء مغلوب العزيم

إن عيل صبري من فرا

قك فاعذاب به أليم

أو أتبعتك حنينها

نفسي فأنت لها قسيم

ذكري لعهدك كالعرا

ر سرى فبرّج بالسليم

مهما ذممت فما زما

ني في ذمامك بالذميم

زمنٌ كمألوف الرضا

ع يشوق ذكراه الفطيم

أيّام أعقد ناظري

في ذلك المرأى الوسيم

وأرى الفتوّة غضّةً

في ثوب أوّاهٍ حليم

الله يعلم أنّ حبّ

ك من فؤادي في الصميم

ولئن تحمّل عنك لي

جسمٌ فعن قلبٍ مقيم

قل لي بأيّ خلال سر

ك فيك أفتن أو أهيم

ألمجدك العمم الذي

نسق الحديث مع القديم

أم ظرفك الغضّ الجنى

أم عرضك الصافي الأديم

أم برّك العذب الجما

م وبشرك الغضّ الجميم

إن أشمست تلك الطلا

قة فالندى منها مغيم

أم بالبدائع كاللآ

لي من نثيرٍ أو نظيم

لبلاغةٍ إن عدّ أه

لوها فأنت بها زعيم

فقرٌ تسوغ بها المدا

م وبشرك الغضّ الجميم

إن الذي قسم الحظو

ظ حباك بالخلق العظيم

لا أستزيد الله نع

مى فيك لا بل أستديم

فلقد أقرّ العين أن

ك غرّة الزمن البهيم

حسبي الثناء بحسن برّ

ك ما بدى برقٌ وشيم

ص: 272

ثمّ الدّعاء بأن ته

نّأ طول عيشك في نعيم

ثمّ السلام تبلّغن

هـ فغيب مهديه سليم ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر ابن مسلمة وهو يبني مجلساً، فصنع أبياتاً كتبت فيه (1) :

عمّر من يعمر ذا المجلسا

أطول عمرٍ يبهج الأنفسا

وبعد ذا عوّضٍ من داره

عدناً ومن ديباجه السّندسا

ولقّي النور (2) بها والرضى

ووقّي الأسواء والأبؤسا

ودام عبّادٌ لعضد (3) الهدى

يحرس حتى يفني الأحرسا

معتضدٌ بالله إحسانه

جمّ إذا ما الدهر يوماً أسا

الملك الغمر الندى المقتني

من كلّ حمدٍ علقه الأنفسا

إن رام يوماً وصف عليائه

مفوّهٌ مقتدرٌ أخرسا

لا زال بدراً طالعاً نيّراً

يكشف عن آمالنا الحندسا وقال فيه أيضاً (4) :

أدرها فقد حسن المجلس

وقد آن أن تترع الأكؤس

ولا تنس أنّ أوان الربيع (5)

إذا لم تجد فقده الأنفس

فإنّ خلال أبي عامرٍ

بها يحقر الورد والنرجس وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه (6) :

(1) ديوان ابن زيدون: 227.

(2)

الديوان: ووفي الفوز.

(3)

الديوان: لعهد.

(4)

ديوان ابن زيدون: 228.

(5)

الديوان: ولا بأس إن كان ولى الربيع.

(6)

الديوان: 228.

ص: 273

طابت لنا ليلتنا الخاليه

فلنتبعنها هذه الثانيه (1)

أبا المعالي نحن في راحةٍ

فانفل إلينا القدم العاليه

لأنها (2) عاطلةٌ إن تغب

عنّا فزرنا كي ترى حاليه

أنت الذي لو تشترى ساعةٌ

منه بدهرٍ لم تكن غاليه وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتباً (3) :

تباعدنا على قرب الجوار

كأنّا صدّنا شحط المزار

تطلع لي هلال الهجر بدراً

وصار هلال وصلك في سرار

وشاع شنيع قطعك لي بوصلي

فهلاّ كان ذلك في استتار

أيجمل أن ترى عنّي صبوراً

فأصبح (4) مولعاً دون اصطبار

وكنت أزيد سمعك من عتابي

ولكن عاقني فرط الخمار

فراع مودّتي واحفظ جواري

فإنّ الله أوصى بالجوار

وزرني منعماً من غير أمرٍ

وآنس موحشاً من عقر داري فكتب إليه ابن زيدون (5) :

هواي وإن تناءت عنك داري

كمثل هواي في حال الجوار

مقيمٌ لا تغيره عوادٍ

تباعد بين أحيان المزار

رأيتك قلت إنّ الهجر بدرٌ

متى خلت البدور من السرار

ورابك أنّني جلدٌ صبورٌ

وكم صبرٍ يكون عن اصطبار

(1) الديوان: فلتنسناها

التاليه.

(2)

الديوان: ليلتنا.

(3)

الديوان: 204.

(4)

ب: وأصبح.

(5)

الديوان: 205.

ص: 274

ولم أهجر لعتبٍ، غير أنّي

أضرّت بي معاقرة العقار (1)

وإنّ الخمر ليس لها خمارٌ

يبرّح بي فكيف مع الخمار

وهل أنسى لديك نعيم عيشٍ

كوشي الخدّ طرّز بالعذار

وساعاتٍ يجول اللهو فيها

مجال الطلّ في حدق البهار (2)

وإن يك فرّ عنك اليوم جسمي

فديت فما لقلبي من فرار

وكنت على البعاد أجلّ شيء

لديّ فكيف إذ أصبحت جاري وكان أبو العطاف إذا ورد إشبيلية رسولاً قد سأله أن يريه شيئاً من شعره فمطله به، حتى كتب إليه شعراً يستبطئه، فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية (3) :

أفدتني (4) من نفائس الدّرر

ما أبرزته غوائص الفكر

من لفظةٍ قارنت نظائرها

قران سقم الجفون للحور وهي أكثر مما ذكر (5) .

وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة (6) :

أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب دنيانا تجافينا

ألا وقد حان صبح الليل صبّحنا

حينٌ فقام بنا للحين ناعينا

من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم

حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا

أنّ الزمان الذي ما زال يضحكنا

أنساً بقربهم قد عاد يبكينا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغصّ فقال الدهر آمينا

(1) هذا البيت والذي يليه سقطا من ب.

(2)

في الأصول: الظل

النهار، والتصويب عن الديوان.

(3)

الديوان 206.

(4)

ب: أفادني.

(5)

هي في عشرين بيتا.

(6)

ديوان ابن زيدون: 121.

ص: 275

فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا

وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا

بالأمس كنّا (1) وما يخشى تفرّقنا

واليوم نحن وما يرجى تلاقينا

يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم

هل نال حظاً من العتبى أعادينا

لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم

رأياً ولم نتقلّد غيره دينا

كنّا نرى اليأس تسلينا عوارضه

وقد يئسنا فما لليأس يغرينا

بنّم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا

شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا

يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا

حالت لفقدكم أيّامنا فغدت

سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا

إذ جانب العيش طلقٌ من تألّفنا

ومورد اللهو صافٍ من تصافينا

وإذ هصرنا فنون الوصل دانيةٍ

قطوفها فجنينا منه. ما شينا

ليسق عهدكم عهد السرور فما

كنتم لأرواحنا إلا رياحينا

لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا

أن طال ما غيّر النّاي المحّبينا

والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً

منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا

يا ساري البرق غاد القصر فاسق به

من كان صرف الهوى والودّ يسقينا

واسأل هنالك هل عنّى تذكّرنا

إلفاً تذكره أمسى يعنّينا

ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا

من لو على البعد حيّا كان يحيينا

من لا يرى الدهر يقضينا مساعفةً

فيه وإن لم يكن عنّا يقاضينا

من بيت (2) ملكٍ كأنّ الله أنشأه

مسكاً وقد أنشأ الله الورى طينا

أو ساقه ورقاً محضاً وتوّجه

من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا

إذا تأوّد آدته رفاهيةً

توم العقود (3) وأدمته البرى لينا

(1) الديوان: وقد نكون.

(2)

الديوان: ربيب.

(3)

ب: تدمي العقول.

ص: 276

كانت له الشمس ظئراً في تكلّله

بل ما تجلّى لها إلاّ أحايينا

كأنما أثبتت في صحن وجنته

زهر الكواكب تعويذاً وتزيينا

ما ضرّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً

وفي المودة كافٍ من تكافينا

يا روضةً طالما أجنت لواحظنا

ورداً جلاه الصّبا غضّاً ونسرينا

ويا حياةً تملّينا بزهرتها

منىً ضروباً ولذّاتٍ أفانينا

ويا نعيماً خطرنا من غضارته

في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا

لسنا نسمّيك إجلالاً وتكرمةً

وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا

إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ

فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا

يا حنّة الخلد أبدلنا بسلسلها

والكوثر العذب زقّوماً وغسلينا

كأننا لم نبت والوصل ثالثنا

والسعد قد غضّ من أجفان واشينا

سرّان في خاطر الظّلماء تكتمنا

حتى يكاد لسان الصّبح يفشينا

لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت

عنه النّهى وتركنا الصّبر ناسينا

إنّا قرأنا الأسى يوم النّوى سوراً

مكتوبةً وأخذنا الصبر تلقينا

أمّا هواك فلم نعدل بمشربه

شرباً وإن كان يروينا فيظمينا

لم نجف أفق جمالٍ أنت كوكبه

سالين عنه ولم نهجره قالينا

ولا اختياراً تجنّبناك عن كثبٍ

لكن عدتنا على كرّه عوادينا

نأسى عليك إذا حثّت مشعشعةً

فينا الشمول وغنّانا مغنّينا

لا أكوس الرّاح تبدي من شمائلنا

سيم ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينا

دومي على العهد ما دمنا محافظةً

فالحرّ من دان إنصافاً كما دينا

فما استعضنا خليلاً عنك يحبسنا

ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا

ولو صبا نحونا من أفق مطلعه

بدر الدّجى لم يكن حاشاك يصبينا

أبلي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً

فالطّيف يقنعنا والذكر يكفينا

وفي الجواب متاعٌ لو شفعت به

بيض الأيادي التي ما زلت تولينا

عليك منّي سلام الله ما بقيت

صبابةٌ بك نخفيها وتخفينا

ص: 277

وإنما ذكرت هذه القصيدة - مع طولها - لبراعتها، ولأن كثيراً من الناس لا يذكر جملتها، ويظن أن ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها، وليس كذلك، فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلا القليل، وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب، ولم يحضرني منه الآن إلا قوله في المطلع:

ما للعيون بسهم الغنج تصمينا

وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا

تألّفٌ كان يحيينا ويضنينا

تفرّق عاث في شمل المحبّينا

أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب دنيانا تجافينا وما أحسن قوله في هذا التسديس:

ما للأحبّة دانوابالنّوى ورأوا

تعريض عهد اللّقا بالبعد حين نأوا

رعاهم الله كانوا للعهود رعوا

فغيّرتهم وشاةٌ بالفساد سعوا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغصّ فقال الدهر آمينا وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطأ فيها بنونية ابن زيدون هذه فلتراجع (1) .

رجع - وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزل (2) :

وضح الصبح (3) المبين

وجلا الشكّ اليقين

ورأى الأعداء ما غ

رتهم منك الظنون

أمّلوا ما ليس يمنى

ورجوا ما لا يكون

وتمنّوا أن يخون ال

عبد مولىً لا يخون

(1) انظر النفح ج ص: 632.

(2)

ديوان ابن زيدون: 176.

(3)

الديوان: الحق.

ص: 278

فإذا الغيب سليمٌ

وإذا العهد مصون

قل لمن دان بهجري

وهواني إذ يدين (1)

أرخص الحبّ فؤادي

لك والعلق ثمين

يا هلالاً تتراءا

هـ نفوسٌ لا عيون

عجباً للقلب يقسو

منك والعطف يلين

ما الذي ضرّك لو س

رّ بمرآك الحزين

وتلطّفت بصبٍّ

حينه فيك يحين

فوجوه اللّطف شتّى

والمعاذير فنون وقال أيضاً (2) :

إليك من الأنام غدا ارتياحي

وأنت من الزمان مدى اقتراحي

وما اعترضت هموم النفس إلاّ

ومن ذكراك ريحاني وراحي

فديتك إنّ صبري عنك صبري

لدى عطشي عن الماء القراح

ولي أملٌ لو الواشون كفّوا

لأطلع غرسه ثمر النجاح

وأعجب كيف يغلبني عدوٌّ

رضاك عليه من أمضى سلاح

ولما أن جلتك لي اختلاساً

أكفّ الدهر للحين المتاح

رأيت الشمس تطلع في نقابٍ

وغصن البان يرفل في وشاح

فلو أستطيع طرت إليك شوقاً

وكيف يطير مقصوص الجناح

على حالي وصال واجتناب

وفي يومي دنوٍّ وانتزاح

وحسبي أن تطالعك الأماني

بأفقك في مساءٍ أو صباح

فؤادي من أسىً بك غير خالٍ

وقلبي من هوىً لك غير صاح

(1) الديوان: وهواه لي دين.

(2)

ديوانه: 148.

ص: 279

وأن تهدي السّلام إليّ شوقاً

ولو في بعض أنفاس الرياح وقال (1) :

كم ذا أريد ولا أراد

لله ما لقي الفؤاد

أصفي الوداد إلى الذي (2)

لم يصف لي منه الوداد

كيف السّلوّ عن الذي

مثواه من قلبي السواد

يقضي عليّ دلاله

في كلّ حينٍ أو يكاد

ملك القلوب بحسنه

فلها إذا أمر انقياد

يا هاجري كم أستفي

د الصبر عنك فلا أفاد

أفلا رثيت لمن يبي

ت وحشو مقلته السهاد

إن أجن ذنباً في الهوى

خطأً فقد يكبو الجواد

كان الرضى وأعيذه

أن يعقب الكون الفساد وقال (3) :

متى أنبّيك ما بي

يا راحتي وعذابي

متى ينوب لساني

في شرحه عن كتابي

الله يعلم أنّي

أصبحت فيك لما بي

فما يلذّ منامي

ولا يسوغ شرابي

يا فتنة المتعزّي

وحجّة المتصابي

الشمس أنت توارت

عن ناظري بالحجاب (4)

(1) ديوان ابن زيدون: 178.

(2)

الديوان: مدللا.

(3)

ديوانه: 149.

(4)

إلى هنا ينتهي ما سقط من النسخة م.

ص: 280

ما النّور شفّ سناه

على رقيق السحاب

إلاّ كوجهك لمّا

أضاء تحت النّقاب وقال (1) :

هل لداعيك مجيب

أم لشاكيك طبيب

يا قريباً حين ينأى

حاضراً حين يغيب

كيف يسلوك محبٌّ

زانه منك حبيب

إنّما أنت نسيمٌ

تتلقّاه القلوب

قد علمنا علم ظنٍّ

هو لا شكّ مصيب

إنّ سرّ الحسن ممّا

أضمرت تلك القلوب وقال (2) :

أنّى تضيّع عهدك

أم كيف تخلف وعدك

وقد رأتك الأماني رضىً

فلم تتعدّك

يا ليت شعري وعندي

ما ليس في الحبّ عندك (3)

هل طال (4) ليلك بعدي

كطول ليلي بعدك

سلني حياتي أهبها

فلست أملك ردّك

الدهر عبدي لمّا

أصبحت في الحبّ عبدك وقال رحمه الله تعالى، وقد أمره السلطان أي يعارض قطعاً كان يغنى بها واستحسن ألحانها (5) :

(1) ديوان ابن زيدون: 164.

(2)

ديوانه: 165.

(3)

الديوان:

يا ليت ما لك عندي

من الهوى لي عندك (4) الديوان: فطال.

(5)

ديوانه: 512.

ص: 281

يقصّر قربك ليلي الطويلا

ويشفي وصالك قلبي العليلا

وإن عصفت منك ريح الصّدود

فقدت نسيم الحياة البليلا

كما أنّني إن أطلت العثار

ولم يبد عذري وجهاً جميلا

وجدت أبا القاسم الظّافر الم

ؤيّد بالله مولىً مقيلا

لأقلامه فعل (1) أسيافه

يظلّ الصّرير يباري الصليلا وقال يهنيه بالقدوم من السفر (2) :

أيّها الظّافر أبشر بالظّفر

واجتل التأييد في أبهى الصور

وتفيّأ ظلّ سعدٍ يجتنى

فيه من غرس المنى أحلى الثمر

ورد النّجح فكم مستوحشٍ

شائقٍ منك إلى أنس الصدر

كان من قربك في عيشٍ ندٍ

عاطر الآصال وضّاح البكر

فثوى دونك مثوى قلقٍ

يشتكي من ليله مطل السّحر

قل لساقينا يجد أكؤسه

ولشادينا يطل (3) قطع الوتر ومنها:

لي فيه المثل السائر في

جالب التمر إلى أرض هجر

ثمّ قد وفّق عبدٌ عظمت

نعمة المولى عليه فشكر

لا عدى حظّك إقبالٌ يرى

قاضياً أثناءه كلّ وطر

واصطبح كأس الرّضى من ملك

سرت في إرضائه أزكى السّير

حين صممت إلى أعدائه

فانتحتهم منك صمّاء الغبر (4)

(1) الديوان: وأقلامه وفق.

(2)

ديوانه: 514.

(3)

الديوان: يجز

يصل.

(4)

صماء الغبر: الداهية.

ص: 282

فاض غمرٌ للندى من فوقهم

كان يروي شربهم منه الغمر

سبق الناس فصلّى سابقٌ

إذ رأى آثاره مثل الزّهر (1) وهي طويلة.

وقال رحمه الله تعالى (2) :

لم يكن هجر حبيبي عن قلى

لا ولا ذاك التجنّي مللا

سرّه دعوى ادّعائي ثمّ لم

يدر ما غاية صبري فابتلى

أنا راضٍ بالذي يرضى به

لي ما لو قال ما قلت لا

مثلٌ في كلّ حسنٍ مثل ما

صار حالي في هواه مثلا

يا فتيت المسك يا شمس الضحى

يا قضيب البان يا ظبي الفلا

لإن يكن لي أملٌ غير الرّضى

منك لا بلّغت ذاك الأملا وقال رحمه الله تعالى (3) :

أذكرتني سالف العيش الذي طابا

يا ليت غائب ذاك الوقت (4) قد آبا

إذ نحن في روضةٍ للوصل أنعمها

من السرور غمامٌ فوقها صابا

إنّي لأعجب من شوقٍ يطالبني

فكلّما قيل فيه قد قضى ثابا

كم نظرةٍ لك عندي قد علمت بها

يوم الزيارة أنّ القلب قد ذابا

قلبٌ يطيل معاصاتي لطاعتكم

فإن أكلّفه يوماً سلوةً يابى وقال رحمه الله تعالى (5) :

(1) الديوان:

.......... منك من

إن رأى آثاره الزهر اقتفر (2) ديوانه: 165.

(3)

ديوانه: 123.

(4)

الديوان: العهد.

(5)

ديوانه: 192.

ص: 283

عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني

واستحدث القلب بعد العشق سلواني

من حبّ جاريةٍ يبدو بها صنمٌ

من اللّجين عليها تاج عقيان

غريرةٌ لم تفارقها تمائمها

تسبي القلوب بساجي الطّرف وسنان

لأستجدّنّ في عشقي لها زمناً

يحيي سوالف أيّامي وأزماني

حتى يكون لمن أحببت خاتمةً

نسخت في حبّها كفراً بإيمان وقال رحمه الله تعالى (1) :

أنت معنى الهوى وسرّ الدموع

وسبيل الهوى وقصد الولوع

أنت والشمس ضرّتان ولكن

لك عند الغروب فضل الطّلوع

ليس يا مؤنسي نكلّفك (2) العت

ب دلالاً من الرضى الممنوع

إنّما أنت والحسود معنّىً

كوكبٌ يستقيم بعد الرجوع وقال رحمه الله تعالى (3) :

يا ليل طل لا أشتهي

إلاّ كعهدي (4) قصرك

لو بات عندي قمري

ما بتّ أرعى قمرك

يا ليل خبّر أنّني

ألتذّ عنه خبرك

بالله قل لي هل وفى

فقال لا بل غدرك وقال رحمه الله تعالى (5) :

لئن فاتني منك حظّ النظر

لأكتفين بسماع الخبر

(1) ديوانه: 166.

(2)

الديوان: تكلفك.

(3)

ديوانه: 182.

(4)

الديوان: بوصل.

(5)

ديوانه: 168.

ص: 284

وإن عرضت غفلةٌ للرقيب

فحسبي بتسليمةٍ (1) تختصر

أحاذر أن يتجنّى (2) الوشاة

وقد يستدام الهوى بالحذر

فأصبر مستيقناً أنّه

سيحظى بنيل المنى من صبر وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) .

أيّها البدر الذي يم

لأ عيني من تأمّل

حمل القلب تباري

ح التجنّي فتحمّل

ثمّ لا تيأس (4) فكم قد

نيل أمرٌ لم يؤمّل وقال أيضاً رحمه الله تعالى (5) :

أجدّ ومن أهواه في الحبّ عابث

وأوفي له بالعهد غذ هو ناكث

حبيبٌ نأى عنّي مع القرب، والأسى

مقيمٌ له في مضمر القلب ماكث

جفاني بألطاف العدى وأزاله

عن الوصل رأيٌ في القطيعة حادث

تغيرت عن عهدي وما زلت واثقاً

بعهدك لكن غيّرتك الحوادث

وما كنت إذ ملّكتك القلب عالماً

بأنّي عن حقفي بكفي باحث

ستبلى الليالي والوداد بحاله

مقيمٌ، وغضٌّ وهو للأرض وارث

فلو أنّني أقسمت أنّك قاتلي

وأني مقتولٌ لما قيل حانث وقال رحمه الله تعالى (6) :

(1) الديوان: تسليمة.

(2)

الديوان: يتظنى.

(3)

الديوان: 182.

(4)

الديوان: لا يأس.

(5)

الديوان: 183.

(6)

الديوان: 186.

ص: 285

يا غزالاً أصارني

موثقاً في يد المحن

إنّني مذ هجرتني

لم أذق لذة الوسن

ليت حظّي إشارةٌ

منك أو لحظةٌ تعنّ (1)

شافعي يا معذبي

في الهوى وجهك الحسن

كنت خلواً من الهوى

وأنا اليوم مرتهن

كان سرّي مكتّماً

وهو الآن قد علن

ليس لي عنك مذهبٌ

فكما شئت لي فكن وقال رحمه الله تعالى (2) :

أيوحش لي الزمان وأنت أنسي

ويظلم لي النهار وأنت شمسي

وأغرس في محبّتك الأماني

وأجني الموت من ثمرات غرسي

لقد جازيت غدراً عن وفائي

وبعت مودّتي ظلماً ببخس

ولو أنّ الزمان أطاع حكمي

فديتك من مكارهه بنفسي (3) ومحاسن ابن زيدون كثيرة، وقد ذكرنا منها في غير هذا المحل جملة.

وسألت جارية من جواري الأندلس ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أن يزيد على بيت أنشدته إياه، وهو (4) :

يا معطشي من وصالٍ كنت وارده

هل منك لي غلّةٌ إن صحت: وا عطشي قال: وكانت الجارية المذكورة تتعشق فتىً قرشياً، والوزير يعلم ذلك، وهي لا تعلم أنه يعلم، فقال:

(1) الديوان: عنن.

(2)

الديوان: 185.

(3)

استطردت نسخة م بعد هذا البيت بإيراد أشعار أخرى لابن زيدون وذكر ترجمته من القلائد.

(4)

ديوان ابن زيدون: 170.

ص: 286

كسوتني من ثياب السّقم أسبغها

ظلماً وصيّرت من لحف الضنى فرشي

أنّى بصرف الهوى عن مقلةٍ كحلت

بالسّحر منك وخدٍّ بالجمال وشي

لمّا بدا الصّدغ مسودّاً بأحمره

أرى التشاكل (1) بين الروم والحبش

أوفى إلى الخدّ ثمّ انصاع منعطفاً

كالعقربان انثنى من خوف محترش

لو شئت زرت وسلك الليل (2) منتظمٌ

والأفق يختال في ثوبٍ من الغبش

جفا إذا التذّت الأجفان طيب كرىً

جفني (3) المنام وصاح الليل: يا قرشي

هذا وإن تلفت نفسي فلا عجبٌ

قد كان قتلي في تلك الجفون حشي 54 - وكان لابن الحاج صاحب (4) قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون، وعزون، وحسون، فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب " شرح أدب الكاتب " وغيره وقال فيهم:

أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني

وهمت في حبّ عزّونٍ فعزّوني

ثمّ ارحموني برحمونٍ وإن ظمئت

نفسي إلى ريقٍ حسّونٍ فحسّوني قال: ثم خاف على نفسه، فخرج عن قرطبة، وهو القائل:

نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى

مستحسنٍ بصدوده أفناني

في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظّما

لو علّني ببروده أحياني وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى.

55 -

وقال أبو بكر محمد ابن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض،

(1) الديوان: التسالم.

(2)

الديوان: النجم.

(3)

الديوان: صبا........ جفا.

(4)

انظر أزهار الرياض 3: 102، 134؛ والقطعة الثانية تنفك منها ست قطع.

ص: 287

في تهنئة بمولود، قال ابن دحية (1) : وهذا أبدع ما قيل في هذا المعنى:

أصاخت الخيل آذاناً لصرخته

واهتزّ كلّ هزبرٍ عندما عطسا

تعشّق الدرع مذ شدّت لفائفه

وأبغض المهد لمّا أبصر الفرسا

تعلّم الركض أيّام المخاض به

فما امتطى الخيل إلاّ وهو قد فرسا 56 - وقال الوزير الكاتب أبو عامر السالمي (2) في غلام يرش الماء على خديه فتزداد حمرتهما:

لقد نعمت بحمّامٍ تطلّع في

أرجائه قمرٌ والحسن يكمله

أبصرته كلّما راقت محاسنه

ونعمة الجسم والأرداف تخذله

يرشّ بالماء خدّيه فقلت له:

صف لي لما أحمر الياقوت تصقله

فقال: طرفي سفّاكٌ بصارمه

دماء قومٍ على خدّي فأغسله وقال أيضاً (3) :

أوقد النار بقلبي

ثمّ هبّت ريح صدّه

فشرار النار طارت

فانطفت في ماء خدّه وهو تخييل عجيب.

57 -

وقال ابن الحناط المكفوف الأندلسي في المعنى المشهور (4) :

لم يخل من نوب الزمان أديب

كلاّ فشأن النائبات عجيب

وغضارة الأيّام تأبى أن يرى

فيها لأبناء الذكاء نصيب

(1) المطرب: 76.

(2)

المطرب: 77 والشعر ليس للسالمي، وإنما أنشده السالمي وهو لأبي الحسين ابن مظفر.

(3)

المطرب: 78؛ وهذا الشعر صحيح النسبة للسالمي.

(4)

الذخير 1 / 1: 392.

ص: 288

وكذاك منصحب الليالي طالباً

جدّاً وفهماً فاته المطلوب [أشعار لابن الزقاق]

58 -

وكان ابن الزقاق الأندلسي الشاعر المشهور - وقد تكرر ذكره في هذه التآليف مرا تكثيرة - يسهر في الليل، ويشتغل بالأدب، وكان أبوه فقيراً جداً، فلامه، وقال له: نحن فقراء، ولا طاقة لن بالزيت الذي تسهر عليه، فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر، فقال في أبي بكر ابن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة أولها (1) :

يا شمس خدرٍ ما لها مغرب

أرامة خدرك أم يتثرب

ذهبت فاستعبر طرفي دماً

مفضّض الدمع به مذهب ومنها:

ناشدتك الله نسيم الصّبا

أنّى استقرّت بعدنا زينب

لم نسر إلاّ بشذا عرفها

أو لا فماذا النّفس الطيب

إيهٍ وإن عذّبني حبّها

فمن عذاب النفس ما يعذب فأطلق له ثلاثمائه دينار، فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مكبٌّ على صنعته، فوضعها في حجره، وقال: خذها فاشتر بها زيتاً.

وقال رحمه الله تعالى في غلام رمى حجراً فشدخ وجهه (2) :

وأحوى رمى عن قسيّ الحور

سهاماً يفوّقهنّ النّظر

يقولون وجنته قسّمت

ورسم محاسنه قد دثر

(1) ديوان ابن الزقاق: 80 والمغرب 2: 325 والغيث 2: 84.

(2)

ديوانه: 179 والمطرب: 101 ولمح السحر: 48 والمغرب 2: 332 والوافي: 134.

ص: 289

وما شقّ وجنته عابثاً

ولكنّها آيةٌ للبشر

جلاها لنا الله كيما نرى

بها كيف كان انشقاق القمر وقال أيضاً (1) :

بأبي وغير أبي أغنّ مهفهفٌ

مهضوم ما خلف الوشاح خميصه

لبس السّواد (2) ومزّقته جفونه

فأتى كيوسف حين قدّ قميصه وقال أيضاً (3) :

سقتني بيمناها وفيها فلم أزل

يجاذبني من ذا ومن هذه سكر

ترشّفت فاها إذ ترشّفت كأسها

فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر وقال (4) :

رقّ النسيم وراق الروض بالزّهر

فنبّه الكأس والإبريق بالوتر

ما العيش إلاّ اصطباح الراح أو شنبٌ

يغني عن الراح من سلسال ذي أشر

قل للكواعب غضّي للكرى مقلاً

فأعين الزّهر أولى منك بالسّهر

وللصباح ألا فانشر رداء سناً

هذا الدجى قد طوته راحة السّحر (5)

وقام بالقهوة الصهباء ذو هيفٍ

يكاد معطفه ينقدّ بالنظر

يطفو عليها إذا ما شجّها دررٌ

تخالها اختلست من ثغره الخصر

والكأس من كفّه بالراح محدقةٌ

كهالةٍ أحدقت في الأفق بالقمر

(1) الديوان: 196 والمطرب: 103 والشريشي 2: 164 والمغرب 2: 334.

(2)

الديوان: الفؤاد.

(3)

ديوان ابن الزقاق: 178 والمطرب: 104 والفوات 2: 126 والوافي: 134.

(4)

الديوان: 173 والمطرب: 106 والمغرب 2: 332.

(5)

الديوان: لوته راحة السمر.

ص: 290

وقال (1) :

تضوّعن أنفاساً وأشرقن أوجهاً

فهنّ منيرات الصباح بواسم

لئن كنّ زاهراً فالجوانح أبرجٌ

وإن كنّ زهراً فالقلوب كمائم وهو من بديع التقسيم.

59 -

وقال السميسر (2) :

تحفّظ من ثيابك ثم صنها

وإلاّ سوف تلبسها حدادا

وميّز في زمانك كلّ حبرٍ

وناظر (3) أهله تسد العبادا

وظنّ بسائر الأجناس خيراً

وأما جنس آدم فالبعادا

أرادوني بجمعهم فردّوا

على الأعقاب قد نكصوا فرادى

وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ

كبعض عقاربٍ رجعت جرادا 60 - وقال ابن رزين، وهو من رجال الذخيرة (4) :

لأسرحنّ نواظري

في ذلك الروض النضير

ولآكلنّك بالمنى

ولأشربنّك بالضّمير 61 - وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز (5) :

ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ

فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس

كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً

إذا ما توارت في مغاربها الشمس

(1) الديوان: 146 والمطرب: 108 والشريشي 2: 353.

(2)

الذخيرة 1 / 2: 383.

(3)

الذخيرة: كل حين، ونافر....

(4)

ترجمته في الذخيرة 3: 33 والمغرب 2: 428 والقلائد: 51.

(5)

المغرب 2: 300.

ص: 291

62 -

وتحاكم إلى أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي المعروف بالملتمس (1) غلامان جميلان لأحدهما وفرة شقراء، وللآخر سوداء: أيهما أحسن والملتمس المذكور هو صاحب كتاب " الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام " فقال:

وشادنين ألمّا بي على مقةٍ

تنازعا الحسن في غايات مستبق

كأنّ لمّة ذا نرجسٍ خلقت

على بهارٍ وذا مسكٍ على ورق

وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما

ولم يخافا عليه رشوة الحدق

فقام يدلي إليه الريم حجّته

مبيّناً بلسانٍ منه منطلق

فقال: وجهي بدرٌ يستضاء به

ولون شعري مصبوغٌ من الغسق

وكحل عيني سحرٌ للنّهى وكذا

والسحر أحسن ما يعزى إلى الحدق

فقال صاحبه: أحسنت وصفك ل

كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق

أنا على أفقي شمس النّهار، ولم

تغرب، وشقرة شعري حمرة الشفق

وفضل ما عيب في عينيّ من زرقٍ

أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق

قضيت للّمّة الشقراء حيث حكت

نوراً (2) كذا حبّها يقضي على رمقي

فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني

سهام أجفانه من شدّة الحنق

وقال جرت فقلت الجور منك على

قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق

فقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً

فقال دونك هذا الحبل فاختنق 63 - وقال أبو محمد عبد الله بن غالب:

ومهفهفٍ خنث الجفون كأنّما

من أرجل النمل استفاد عذارا

فتخاله ليلاً إذا استقبلته

وتخال ما يجري عليه نهارا

(1) ترجمته في الجذوة: 206 وبغية الملتمس رقم: 762 وقصيدته هذه في التشبيهات: 126.

(2)

الطالع: لونا.

ص: 292

64 -

وقال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر المتقدم (1) :

الناس مثل حبابٍ

والدهر لجّة ماء

فعالمٌ في طفوٍّ

وعالم في انطفاء 65 - وقال أحمد بن برد الأندلسي في النرجس، وهو البهار عند الأندلسيين، ويسمى العبهر (2) :

تنبّه فقد شقّ البهار مغلّساً

كمائمه عن نوره (3) الخضل الندى

مداهن تبرٍ في أنامل فضّةٍ

على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد 66 - وقال الوزير عبد المجيد بن عبدون في دار أنزله بها المتوكل بن الأفطس وسقفها قديم، فهطل عليه المطر منه:

أيا سامياً من جانبيه إلى العلا

" سموّ حباب الماء حالاً إلى حال "

لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها

" ديارٌ لسلمى عافياتٌ بذي الخال "

يقول لها لمّا رأى من دثورها

" ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي "

فقالت وما عيّت جواباً بردّها

" وهل يعمن من كان في العصر الخالي "

فمر صاحب الانزال فيها بفاضلٍ

" فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " قيل: وهو أبو عذرة تضمين لامية امرئ القيس، وقد أولع الناس بعده بتضمينها.

67 -

وقال أبو الفضل ابن حسداي (4) ، وكان يهودياً فأسلم، ويقال: إنه

(1) تقدم هذان البيتان في م على اللذين قبلهما (رقم: 63) .

(2)

الذخيرة 1 / 2: 48.

(3)

الذخيرة: زهره.

(4)

ترجمته في القلائد: 183 والأبيات فيه ص: 184 وانظر المجلد الأول: 640.

ص: 293

من ولد موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام:

توريد خدّك للأحداق لذّات

عليه من عنبر الأصداغ لامات

نيران هجرك للعشّاق نار لظىً

لكن وصالك إن واصلت جنّات

كأنما الراح والراحات تحملها

بدور تمٍّ وأيدي الشّرب هالات

حشاشةٌ ما تركنا الماء يقتلها

إلاّ لتحيا بها منّا حشاشات

قد كان من قبلها في كأسها ثقلٌ

فخفّ إذ ملئت منها الزجاجات وقد تبارى المشارقة والمغاربة من المتقدمين والمتأخرين في هذا الوزن والقافية، ولولا خوف السآمة لذكرت من ذلك الجملة الشافية الكافية (1) .

68 -

ومن سرعة جواب أهل الأندلس (2) أن ابن عبد ربه كان صديقاً لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر، ففسد ما بينهما بسبب أن ابن عبد ربه صاحب العقد (3) مر به يوماً وكان في مشيه اضطراب، فقال: أبا عمر ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيك، فقال له ابن عبد ربه: كذبتك عرسك أبا محمد، فعز على القلفاظ كلامه، وقال له: أتتعرض للحرم والله لأرينك كيف الهجاء، ثم صنع فيه قصيدة أولها:

يا عرس أحمد إني مزمعٌ سفرا

فودّ عيني سرّاً من أبي عمرا ثم تهاجيا بعد ذلك، وكان القلفاظ يلقبه بطلاس لأنه كان أطلس اللحية، ويسمس كتاب العقد حبل الثوم، فاتفق اجتماعها يوماً عند بعض الوزراء، فقال الوزير للقلفاظ: كيف حالك اليوم مع أبي عمر فقال مرتجلاً:

(1) م: جملة كافية شافية.

(2)

بدائع البدائه 1: 51.

(3)

صاحب العقد: سقطت من ب.

ص: 294

حال طلاسٌ لي عن رائه

وكنت في قعدد أبنائه فبدر ابن عبد ربه وقال:

إن كنت في قعدد أبنائه

فقد سقى أمّك من مائه فلانقطع القلفاظ خجلاً؛ وعاش ابن عبد ربه 82 سنة، رحمه الله تعالى.

69 -

ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب " الملتمس " في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة، وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقاً في قضاء الحواجز والسعي في حقوق الإخوان، وأنشدنا هنالك قوله:

" يحسب الناس بأني متعبٌ

إلخ.

وقد ذكر ذلك كله صاحب " الملتمس " ثم قال - أعني (1) صاحب " الملتمس " - ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس (2) على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس، فجعلته - يعني ابن جبير - الواسطة حتى تيسر ذلك، فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة، فجئته وشكوت له ذلك، فقال: أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما، ولكن سعيت جهدي في غرضك، وها أنا أسعى أيضاً في افتراكما، إذ هو من غرضك، وخرج في الحين ففصل القضية، ولم أر في وجهه أولاً ولا آخراً عنواناً لامتنانٍ ولا تصعيب، ثم إنه طرق بابي، ففتحت له، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية، ثم قال (3) : يا ابن

(1) أعني: سقطت من م.

(2)

الناس: سقطت من م.

(3)

م: فقال.

ص: 295

أخي، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية، ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك، فبالله إلا ما سررتني بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي (1) من أمور الشباب، ولا يحل لك أن تمكنني منه بعد أن شرحت لك أمري، فتبسم وقال: لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة، وانصرف بماله، انتهى.

70 -

ثم قال صاحب " الملتمس ": وتذاكرنا يوماً معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي، فقال: صحبته مدة فما رأيت مثله، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله (2) :

إلى كم أقول فلا أفعل

وكم ذا أحوم ولا أنزل

وأزجر عيني فلا ترعوي

وأنصح نفسي فلا تقبل

وكم ذا تعلّل لي ويحها

بعلّ وسوف وكم تمطل

وكم ذا أؤمّل طول البقا

وأغفل والموت لا يغفل

وفي كلّ يومٍ ينادي بنا

منادي الرحيل ألا فارحلوا (3)

أمن بعد سبعين أرجو البقا

وسبعٍ أتت بعدها تعجل

كأن بي (4) وشيكاً إلى مصرعي

يساق بنعشي ولا أمهل

فيا ليت شعري بعد السؤال

وطول المقام لما أنقل والثاني قوله:

اسمع أخيّ نصيحتي

والنّصح من محض الدّيانه

(1) م: مالي ومال أبي.

(2)

هاتان القطعتان في ترجمته في المغرب والغصون اليانعة، والثانية منهما مرت فيما تقدم ص:99.

(3)

المغرب: ألا فانزلوا.

(4)

م: كأني.

ص: 296

لا تقربنّ إلى الشّها

دة والوساطة والأمانه

تسلم من آن تعزى لزو

رٍ أو فضولٍ أو خيانه قال: فقلت له: أراك لم تعمل بوصيته في الوساطة، فقال: ما ساعدتني رقة وجهي على ذلك، انتهى.

رجع إلى نظم الأندلسيين:

71 -

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز (1) :

أفضل ما استصحب النّبيل فلا

تعدل به في المقام والسّفر

جرمٌ إذا ما التمست قيمته

جلّ عن التبر (2) وهو من صفر

مختصرٌ وهو إذ نفتّشه

عن ملح العلم غير مختصر

ذو مقلةٍ تستبين ما رمقت

عن صائب اللحظ صادق الخبر

تحمله وهو حاملٌ فلكاً

لو لم يدر بالبنان لم يدر

مسكنه الأرض وهو ينبئنا

عن كلّ ما في السماء من خبر

أبدعه ربّ فكرةٍ بعدت

في اللطف عن أن تقاس بالفكر

فاستوجب الشكر والثناء به

من كلّ ذي فتنةٍ من البشر

فهو لذي اللّبّ شاهدٌ عجبٌ

على اختلاف العقول والصور قلت: وهي أحسن ما سمعت في الاصطرلاب.

وأمر رحمه الله تعالى أن يكتب على قبره (3) :

سكنتك يا دار الفناء مصدّقاً

بأني إلى دار البقاء أصير

وأعظم ما في الأمر أنّي صائرٌ

إلى عادلٍ في الحكم ليس يجور

(1) الخريدة 4 / 1: 272.

(2)

ب: جل على التبر.

(3)

مرت في المجلد الثاني: 108.

ص: 297

فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها

وزادي قليلٌ والذنوب كثير

فإن أك مجزيّاً بذنبي فإنّني

بشرّ عقاب المذنبين جدير

وإن يك عفوٌ من غنيٍّ ومفضلٍ

فثمّ نعيمٌ دائمٌ وسرور 72 - وقال ابن خفاجة (1)، وهو مما أورده له صاحب الذخيرة:

لقد زار من أهوى على غير موعدٍ

فعابنت بدر التمّ ذاك التلاقيا

وعاتبته والعتب يحلو حديثه

وقد بلغت روحي لديه التراقيا

فلمّا اجتمعنا قلت من فرحي به

من الشعر بيتاً والدموع سواقيا

" وقد يجمع الله الشّتيتين بعدما

يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا " 73 - ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبي (2) عبد الله ابن الأزرق، وهي:

عم باتصال الزمن

ولا تبالي بمن

وهو يواسي بالرضى

من سمجٍ أو حسن

أو من عجوزٍ تحتظي (3)

والظهر منها منحني

أو من مليحٍ مسعدٍ

موافقٍ في الزمن

مهما تبدّى خدّه

يبدو لك الورد الجني

والغصن في أثوابه

إذا تمشّى ينثني

لا أمّ لي لا أمّ لي

إن لم أبرّد شجني

وأخلعنّ في المجو

ن والتصابي رسني

وأجعل الصبر على

هجر الملاح ديدني

(1) ديوان ابن خفاجة: 365 (نقلا عن النفح) .

(2)

م: لأبي.

(3)

م: تختطي.

ص: 298

يا عاذلي في مذهبي

أرداك شرب اللّبن

أعطيت في البطن سنا

ناً إن تخالف سنني

أيّ فتىً خالفني

يوماً ولمّا يلقني

فإنّني لناصحٌ

وإنّني وإنّني

فلا تكن لي لاحياً

وفي الأمور استفتني

فلم أزل أعرب عن

نصحي لمن لم يلحني

وإن تسفّه نظري

ومذهبي وتنهني

فالصفع تستوجبه

نعم ونتف الذّقن

والزبل في وجهك يع

لو باتصال الزمن

وبعد هذا أشتفي

منك ويبرا شجني

وأضرب الكفّ أما

م ذلك الوجه الدّني

طقطق طقٍ طقطق طقٍ

أصخ بسمع الأذن

شطر أولقحقح قح قحقح قح

الضحك يغلبلبني (1)

قد كان أولى بك عن

هذي المخازي تنثني

النّفي تستوجبه

لواسطٍ أو عدن

عرضت بالنفس كذا

إلى ارتكاب المحن

أفدي صديقاً كان لي

بنفسه يسعدني

فتارةً أنصحه

وتارةً ينصحني

وتارةً ألعنه

وتارةً يلعنني

وربما أصفعه

وربما يصفعني

أستغفر الله فه

ذا القول لا يعجبني

يا ليت هذا كلّه

فيما مضى لم يكن

(1) م: يغللبني.

ص: 299

أضحكت والله بذا ال

حديث من يسمعني

دهرٌ تولّى وانقضى

عنّي كطيف الوسن

يا ليتني لم أره

وليته لم يرني

دنّست فيه جانبي

وملبسي بالدّرن

وبعت فيه عيشتي

لكن ببخس الثّمن

كأنّني ولست أد

ري الآن ما كأنّني

والله ما التشبيه عن

د شاعرٍ بهيّن

لكنّه أنطقني

بالقول ضيق العطن

وا حسرتي وا أسفي

زلت وضاعت فطني

لو أنصف الدهر لما

أخرجني من وطني

وليس لي من جنّةٍ

وليس لي من مسكن

أسرّح الطّرف وما

لي دمنةٌ من الدمن

وليس لي من فرسٍ

وليس لي من سكن (1)

يا ليت شعري وعسى

يا ليت أن تنفعني

هل أمتطي يوماً إلى ال

شّرق ظهور السّفن

وأجتلي ما شئته

في المنزل المؤتمن (2)

حينئذٍ أخلع في

هذي القوافي رسني

وتحسن الفكرة في بال

عدوس (3) والسّمنسني (4)

واللحم مع شحمٍ ومع

طوابق الكبش الثّني

والبيض في المقلاة بال

زيت اللذيذ الدهن

(1) سقط البيت من م.

(2)

ب: المؤمن.

(3)

ب: بالغندوس.

(4)

ب: والشمشيني؛ م: والسمتني.

ص: 300

وجلدة الفرّوج مش

وياً كثير السمن

من منقذي أفديه من

ذا الجوع والتمسكن

وعلة (1) قد استوى

فيها الفقير والغني

هل للثريد عودةٌ

إليّ قد شوقني

تغوص فيه أنملي

غوص الأكول المحسن

ولي إلى الإسفنج شو

قٌ دائمٌ يطربني

وللأرزّ الفضل إذ

تطبخه باللّبن

وللشواء والرقا

ق من هيامٍ أنثني

واسكت عن الجبن فإنّ

بنته تذهلني

ظاهرها كالورد أو

باطنها كالسوسن

أيّ امرئٍ أبصرها

يوماً ولم يفتتن

تهيم فيها فكر الأس

تاذ والمؤذّن

لو كان عندي معدنٌ

لبعت فيها معدني

لكنني عزمت أن

أبيع كمّ البدن

والكمّ قد أكسبه

بعد ولا يكسبني

لا تنسبوا لي سفهاً

فالجوع قد أرشدني

وهات ذكر الكسكسو

فهو شريفٌ وسني

لا سيّما إن كان مص

نوعاً بفتلٍ حسن

أرفع منه كوراً

بهنّ تدوي (2) أذني

وإن ذكرت غير ذا

أطعمةً في الوطن

فابدأ من المثوّما

ت بالجبنّ الممكن

(1) م: وقلة.

(2)

ب: (بها) تداوى.

ص: 301

من فوقها الفرّوج قد

أنهي في التسمّن

وثنّ بالعصيدة ال

تي بها تطربني

لا سيّما إن صنعت

على يدي ممركن

كذلك البلياط بال

زيت الذي يقنعني

تطبخه حتى يرى

يحمرّ في التلوّن

والزبزبنّ في الصحا

ف حسب أهل البطن (1)

فاسمع قضاء ناصحٍ

يأتي بنصحٍ بيّن

من اقتنى التفين فه

والآن نعم المقتني

وإنّ في شاشية ال

فقير أنساً للغني

تبعدني عن وصلها

عن وصلها تبعدني

تؤنسني عن اللقا

عن اللقا تؤنسني (2)

فأضلعي إن ذكرت

تهفو كمثل الغصن

كم رمت تقريباً لها

لكنه لم يهن

وصدّني عن ذاك ق

لة الوفا باثمن

إيهٍ خليلي هذه

مطاعمٌ لكنني

أعجب من ريقك إذ

يسيل فوق الذقن

هل نلت منها شبعاً

فذكرها أشبعني

وإن تكن جوعان يا

صاح فكل بالأذن

فليس عند شاعرٍ

غير كلام الألسن

يصوّر الأشياء وه

ي أبداً لم تكن

(1) سقط من م؛ وأول لفظة فيه بياض في ب.

(2)

م: تؤيسني.

ص: 302

فقوله يريك ما

ليس يرى بالممكن

فاسمح وسامح واقتنع

واطو حشاك واسكن

ولننصرف فقصدنا

إطراف هذا الموطن انتهى.

74 -

وقال ابن خفاجة رحمه الله تعالى (1) :

درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم

فيها صدور مراتبٍ ومجالس

وتزهدوا حتى أصابوا فرصةً

في أخذ مال مساجدٍ وكنائس وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً.

75 -

وقال - فيما أظن - الفقيه الكاتب المحدث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي، وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب في مواضع:

لقد غضبت حتى على السّمط نخوةً

فلم تتقلّد غير مبسمها سمطا

وأنكرت الشّيب الملمّ بلمّتي

ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا [نقول من القدح المعلى]

76 -

وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقه (2) : كاتب مشهور، وشاعر مذكور، كتب عن ولاة بلنسية، وورد رسولاً حين أخذ النصارى بمخنق تلك الجهات، وأنشد قصيدته السينية:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا وعارضه جمعٌ من الشعراء ما بين مخطئٍ ومحروم، وأغري الناس بحفظها

(1) ديوان ابن خفاجة: 366 (عن النفح) .

(2)

اختصار القدح: 191.

ص: 303

إغراء بني تغلب بقصيدة عمر بن كلثوم، إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلك النعمة، وأخر عن تلك (1) العناية، وارتحل إلى بجاية، وهو الآن بها عاطلٌ من الرتب، خالٍ من حلى الأدب، مشتغلٌ بالتصنيف في فنونه، متنفل منه بواجبه ومسنونه، ولي معه مجاسات آنق من الشباب، وأبهج من الروض غب نزول السحاب، ومما أنشدنيه من شعره (2) :

يا حبّذا بحديقةٍ دولاب

سكنت إلى حركاته (3) الألباب

عنّى ولم يطرب وسقى وهو لم

يشرب ومنه العود والأكواب

لو يدّعي لطف الهواء أو الهوى

ما كنت في تصديقه أرتاب

وكأنّه ممّا شدى مستهزئ (4)

وكأنّه ممّا بكى ندّاب

وكأنّه بنثاره ومداره

فلكٌ كواكبه لها أذناب 77 - وقال أبو المعالي القيجاطي (5) :

فقلت يا ربعهم أين من

أحببته فيك وأين النديم

فقال عهدٌ قد غدا شمله

كمثل ما ينثر درٌّ نظيم 78 - وقال أبو عمرو ابن الحكم القبطلي (6)، وقبطلة من أعمال وادي إشبيلية:

كم أقطع الدهر بالمطال

ساءت وحقّ الإله حالي

(1) القدح: ظل تلك.

(2)

القدح: 192.

(3)

ب: بحركاتها.

(4)

القدح: مستهتر.

(5)

القدح: 211.

(6)

القدح: 200؛ وفي ب: عبد الحكم.

ص: 304

رحلت أبغي بكم نجاحاً

فلم تفيدوا سوى ارتحالي

وعدتم ألف ألف وعدٍ

لكنّني عدت بالمحال 79 - وقال أبو عمران القلعي (1) :

طلعت عليّ والأحوال سودٌ

كما طلع الصباح على الظلام

فقل لي كيف لا أوليك شعري

وإخلاص التّحيّة والسّلام 80 - وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي (2) :

أنا سكران ولكن

من هوى ذاك الفلاني

كلمّا رمت سلوّاً

لم يزل بين عياني وقال:

حبيبي ما لصبّك من مراد

سوى أن لا تدوم على البعاد

وإن كان ابتعادك بعد هذا

مقيماً فالسّلام على فؤادي قال ابن سعيد: وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار، مع أخلاق كريمة، وآداب كانسكاب الديمة، انتهى.

81 -

وقال ابن سعيد (3) في أبي بكر محمد بن عمار البرجي كاتب ابن هود القائل:

(1) القدح: 201.

(2)

القدح: 214 وفيه ابن لبون.

(3)

القدح: 217.

ص: 305

[قل] لمن يشهد حرباً

تحت رايات ابن هود إلخ

:

يا ابن عمّار لقد أح

ييت لي ذاك السميّا

في حلى نظمٍ ونثرٍ

علّقا في مسمعيّا

ولقد حزت مكاناً

من ذرى الملك عليّا

مثل ما قد حاز لكن

عش بنعماك هنيّا 82 - وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد (1) :

يا أبدع الخلق بلا مرية

وجهك فيه فتنة الناظرين

لا سيّما إذ نلتقي خطرةً

فيغلب الورد على الياسمين

طوبى لمن قد زرته خالياً

فمتّع النفس ولو بعد حين

من ذلك الثغر الذي ورده

ما زال فيه لذة الشاربين

وما حوى ذاك الإزار الذي

لم يعد عنه أمل الزائرين وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به، وكان مروره على داره.

وحكى عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينار، ومرت أيام ثم صادفه عند داره، فقال له: أتريد أن أزورك ثانية فقال له: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، وهذا الجواب على ما فيه من قلة الأدب، وهتك حجاب الشريعة - من أشد الأجوبة إصابةً للغرض، والله تعالى يسمح له، فقد قال ابن سعيد في حقه: إن بيته بإشبيلية من أجل البيوت، ولم يزل له مع تقلب الزمان ظهور

(1) القدح: 112 - 113.

ص: 306

وخفوت، وكان أديباً شاعراً ذواقاً لأطراف العلوم، انتهى.

83 -

ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس - مع البلاغة والبراعة - أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب (1) ، وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر، من عمل بلنسية، وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلب على الأندلس، وربما استوزره في بعض الأحيان، قال ابن سعيد: وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته، ولم أستفد منه إلا ما كنت أحفظه في مجالسته، وكان شديد التهور، كثير الطيش، ذاهباً بنفسه كل مذهب، سمعته مرة وهو في محفلٍ يقول: تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه فأهوى له شخصٌ له قحةٌ وإقدام، فقال: يا أبا جعفر، فأرنا برهان ذلك، ما أظنك تعني إلا نفسك، فقال: نعم، ولم لا وأنا الذي أقول ما لم يتنبه (2) إليه متقدم، ولا يهتدي لمثله متأخر:

يا هل ترى أظرف من يومنا

قلّد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مرقصةً كلّ قضيبٍ وريق

والشمس لا تشرب خمر الندى

في الروض (3) إلا بكؤوس الشقيق فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه في الغيظ إلى أضيق مكان (4)، فقلت له: يا سيدي، هذا هو السحر الحلال، فبالله إلا ما زدتني من هذا النمط، فقال:

أدرها فالسّماء بدت عروساً

مضخّمة الملابس بالغوالي

(1) ترجمته في اختصار القدح: 114 وعنه ينقل المقري، وانظر المغرب 2: 136 والمقتضب من التحفة: 157 والإحاطة 1: 244.

(2)

القدح: لم يهتد؛ دوزي: لم ينته.

(3)

ب ودوزي: الأرض.

(4)

القدح: إلى أشد مما كان

ص: 307

وخدّ الروض حمّره (1) أصيلٌ

وجفن النهر كحّل بالظلال

وجيد الغصن يشرق في لآلٍ

تضيء بهنّ أكناف الليالي فقلت: زد وعد، فعاد والارتياح ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، فقال:

لله نهرٌ عندما زرته

عاين طرفي منه سحراً حلال

إذ أصبح الطلّبه ليلةً

وجال فيه الغصن شبه الخيال فقلت: زد، فأنشد:

ولمّا ماج بحر الليل بيني

وبينكم وقد جدّدت ذكرا

أراد لقاءكم إنسان عيني

فمدّ له المنام عليه جسرا فقلت: إيه، فقال:

ولمّا أن رأى إنسان عيني

بصحن الخدّ منه غريق ماء

أقام له العذار عليه جسراً

كما مدّ الظّلام على الضياء فقلت: أعد، فأعاد، وقال: حسبك لئلا تكثر عليك المعاني، فلا تقوم بحق قيمتها، وأنشد:

هات المدام إذا رأيت شبيهها

في الأفق يا فرداً بغير شبيه

فالصبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت تخاصمه الحمائم فيه ثم قال: وكان قد تهتك في غلام لابن هود، ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج، وفيه يقول:

(1) القدح: خفره.

ص: 308

ألفت الحرب حتى علّمتني

مقارعة الحوادث والخطوب

ولم أك عالماً وأبيك حرباً

بغير لواحظ الرشإ الرّبيب

فها أنا بين تلك وبين هذي

مصابٌ من عدوٍّ أو حبيب ولما هرب بالعلج إلى سبتة أحسن غليه القائم بها أبو العباس الينشتي (1) ، فلم يقنع بذلك الإحسان، وكان يأتي (2) بما يوغر صدره، فقال يوماً في مجلسه: رميت مرةً بقوس، فبلغ السهم إلى كذا (3)، فقال ابن طلحة لشخصٍ بجانبه: لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا، فشعر بقوله، فأسرها في نفسه، ثم بلغه أن هجاه بقوله:

سمعنا بالموفّق فارتحلنا

وشافعنا له حسبٌ وعلم

ورمت يداً أقبّلها وأخرى

أعيش بفضلها أبداً وأسمو

فأنشدنا لسان الحال فيه

يدٌ شلاّ وأمرٌ لا يتمّ فزاد في حنقه، وبقي مترصداً له الغوائل، فحفظت عنه أبياتٌ قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان، وهي:

يقول أخو الفضول وقد رآنا

على الإيمان يغلبنا المجون

أتنتهكون شهر الصوم هلاّ

حماه منكم عقلٌ ودين

فقلت اصحب سوانا، نحن قوم

زنادقةٌ مذاهبنا فنون

ندين بكلّ دينٍ غير دين الر

عاع فما به أبداً ندين

بحيّ على الصّبوح الدّهر نحن ندعو

وإبليسٌ يقول لنا أمين

(1) في الأصول: البنتي؛ وصوابه ما اثبتناه، ويكتب أيضا " اليناشتي ".

(2)

القدح: يستريح.

(3)

زاد في القدح: ذكر مدى بعيدا.

ص: 309

فيا شهر الصّيام إليك عنّا

إليك ففيك أكفر ما نكون فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال، وأظهر أنه يرضي العامة بقتله، فقتله، وذلك سنة 631، انتهى. وحاكي الكفر ليس بكافر، والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر.

84 -

وقال محمد بن أحمد الإشبيلي ابن البناء (1) :

كأنك من جنس الكواكب كنت لم

يفتك طلوعاً حالها وتواريا

تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً

فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 85 - ولما أمر المستنصر الموحدي (2) بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه، وضرب بغشبيلية خمسمائة فمات، وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه، ثم صلب، قال ابنه أبو الربيع (3) يرثيه:

جهلاً لمثلك أن يبكي لما قدرا

وأن يقول أسىً يا ليته قبرا

فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه

وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا ومنها:

ضاقت به الأرض ممّا كان حمّلها

من الأيادي فمجّت شلوه ضجرا

وعزّ جسمك (4) أن يحظى به كفنٌ

فما تسربل إلاّ الشمس والقمرا 86 - وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى (5) :

(1) القدح: 118 والمغرب 1: 249.

(2)

القدح: 127 والتحفة: 83 والمغرب 2: 406.

(3)

ق: الربيع.

(4)

القدح: إذ ذاك.

(5)

القدح: 126.

ص: 310

يا أبا عمران دعني والذي

لم يمل خاطري إلاّ إليه

ما نديمي غير من يخدمني

لا الذي يجلسني بين يديه

يرفع الكلفة عنّي ويرى

أنها واجبةٌ منّي عليه 87 - وقال ابن غالب الكاتب بمالقة (1) :

لا تخش قولاً قد عقدت الألسنا

وابعث خيالك قد سحرت الأعينا

واعطف عليّ فإنّ روحي زاهقٌ

وانظر إليّ بنظرةٍ إن أمكنا

لا يخدعنّك أن تراني لابساً

ثوبي فقد أصبحت فيه مكفّنا

ما زال سحرك يستميل خواطري

بأرقّ من ماء الصفاء وألينا

حتى غدوت ببحر حبٍّ زاخرٍ

فرمت بي الأمواج في شطّ الضّنى وقال:

ما للنسيم لدى الأصيل عليلا

أتراه يشكو زفرةً وغليلا

جرّ الذيول على ديار أحبّتي

فأتى يجرّ من السّقام ذيولا 88 - وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة (2) :

أهواك يا بدر وأهوى الذي

يعذلني فيك وأهوى الرقيب

والجار والدار ومن حلّها

وكلّ من مرّ بها من قريب

ما إن تنصّرت ولكنّني

أقول بالتثليث قولاً غريب

تطابق الألحان والكاس إذ

تبسم عجباً والغزال الربيب 89 - وكان أبو أمية ابن عفير (3) قاضي إشبيلية - مع براعته، وتقدمه في

(1) القدح: 128.

(2)

القدح: 130.

(3)

القدح: 132.

ص: 311

العلوم الشرعية - أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية، وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال، وعدم المناظر له في ذلك المجال، قال ابن سعيد: رأيته كثيراً ما يصنع القصائد والمقاطعات، وهو يتحدث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات، ومن شعره:

ديارهم صاح (1) نصب عيني

وليس لي وصلةٌ إليها

إلاّ سلامي لدى ابتعادٍ

من بعد سكانها عليها وقوله رحمه الله تعالى:

ووجهٍ تغرق الأبصار فيه

ولكن يترك الأرواح هيما

أتاني ثمّ حيّاني حبيبٌ

به وأباحني الخدّ الرقيما

فمرّ لنا مجونٌ في فنونٍ

سلكت به الصراط المستقيما قلت: أما مجرد الارتجال فأمر عن (2) الكثير صادر، وأما كونه مع التحدث أو فصل الخصومات فهو نادر، وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر.

[عود للحديث عن ابن ظافر]

ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر، إذ قال (3) : بتّ ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيدات القصور، والانخفاض والقصور، وشهدت له ساميات البروج، بالاعتلاء والعروج، قد ابيضت حيطانه، وطاب استيطانه، وابتهج به سكانه وقطانه، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلا محياه (4) في زرقة قناع السماء، وكسا الجدران

(1) القدح: تلك؛ ب ق: ديارهم هي.

(2)

م: فما مر من.

(3)

البدائع 2: 206.

(4)

ق: وحكى محياه.

ص: 312

ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميّلها، وغصبها مباسم نورها فقبّلها، وعندنا مغنٍ قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا فالشمس طالعة، وإن شدا فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في إلطافه طاقته وجهده، فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونةً يكسوه أثواب شقيقه، فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصباح، واستيقظ نائم الصباح، فصنعت بديهاً في المجلس، وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتفعت على أيام العيد، كارتفاع الرؤوس عن الأجياد، بل فضلت ليلات الدهر، كفضل البدر على النجوم الزهر:

غبت عنّي يابن المؤيد في وق

تٍ شهيٍّ يلهي المحبّ المشوّقا

ليلة ظلّ بدرها يلبس الجد

ران ثوباً مفضّضاً مرموقا

وغدا الطّلّ فيه ينثر كافو

راً فيعلو مسك التراب السحيقا

وتبدّى النّسيم يعتنق الأغ

صان لمّا سرى عناقاً رفيقا

بتّ فيها منادماً لصديقٍ

ظلّ بين الأنام خلاًّ صدوقا

هو مثل الهلال وجهاً صبيحاً

ومثال النسيم ذهناً رقيقاً

وغزال كالبدر وجهاً وغصن ال

بان قدّاً والخمرة الصرف ريقا

مظهرٌ للعيون ردفاً مهيلاً

وحشاً ناحلاً وقدّاً رشيقا

إن تغنّى سمعت داود، أو لا

ح تأمّلت يوسف الصدّيقا

وإذا قابل السراج رأينا

منه بدراً يقابل العيّوقا

وأظنّ الصباح هام بمرآ

هـ فأبدى قلباً حريقاً خفوقا

ص: 313

هو نجمٌ ما لاح في الجدر كافو

ر بياضٍ إلاّ كساه خلوقا

ما بدا نرجس الكواكب إلا

قام من نومه يرينا الشقيقا

وإذا ما بدت جواهرها في الج

وّ وأبدى في الأرض منهم عقيقا

فغدونا تحت الدجى نتعاطى

من رقيق الآداب خمراً رحيقا

وجعلنا ريحاننا طيب ذكرا

ك فخلناه عنبراً مفتوقا

ذاك وقتٌ لولا مغيبك عنه

كان بالمدح والثناء خليقا قال فأجاب عنها من الوزن دون الروي:

قد أتتني من الجمال قصيدٌ

يا لها من قصيدةٍ غرّاء

جمعت رقّة الهواء وطيب ال

مسك في سبكها وصفو الماء

فأرتنا طباعه وشذاه

والذي حاز ذهنه من ذكاء

سيدي هل جمعت فيها اللآلي

يا أخا المجد أم نجوم السماء

أفحمتني حسناً وحقّ أيادي

ك التي لا تعدّ بالإحصاء

فتركت الجواب والله عجزاً

فابسط العذر فيه يا مولائي

هل يسامي الثّرى الثريّا وأنّى

يدّعي النجم فرط نور ذكاء رجع إلى أهل الأندلس:

90 -

وقال ابن السماك (1) :

إياك أن تكثر الإخوان مغتنماً

في كلّ يومٍ إلى أن يكثر العدد

في واحدٍ منهم تصفي الوداد له

من التكاليف ما يفنى به الجلد وله:

(1) القدح: 134؛ وفي م: السماد؛ ق: السماذ.

ص: 314

تحنّ ركابي نحو أرضٍ وما لها

وما لي من ذاك الحميم سوى الهمّ

وكم راغبٍ في موضعٍ لا يناله

وأمسيت منه مثل يونس في اليمّ

بهذا قضى الرحمن في كلّ ساخطٍ

يموت على كرهٍ ويحيى على رغم 91 - ولما قام الباجي (1) بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود، وأبدل أشعاره الأسود العباسي في البنود، قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك:

كأنما الراية السوداء قد نعبت

لهم غراباً ببين الأهل والولد

مات الهوى تحتها من فرط روعته

فأظهر الدهر منها لبسة الكمد وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة.

92 -

وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي (2) :

93 -

......................... ............................. (3)

أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا

إذ خالها تحت الدّجى قنديلا

ما زال يخفق حولها بجناحه

حتى رمته على الفراش قتيلا وله:

لاموا على حبّ الصبا والكاس

لمّا بدا وضح المشيب براسي

والغصن أحوج ما يكون لسقيه

أيّام يبدو بالأزاهر كاسي وله، وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفساً مصلوبين من قطاع الطريق:

(1) القدح: 135.

(2)

ترجمة أبي الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم في اختصار القدح: 140 ولقبه هناك " الأفلح " ولكن الشعر التالي ليس له.

(3)

هذه الأشعار التالية لأبي يحيى ابن هشام القرطبي في القدح: 89 - 92 والمعتقد أن سهوا حدث في نسخ النفح سقط فيه شعر الأعلم واسم القرطبي صاحب هذه المقطعات.

ص: 315

ثلاثون قد صففوا كلّهم

وقد فتحوا أذرعاً للوداع

وما ودّعوا غير أرواحهم

فكان وداعاً لغير (1) اجتماع وله في فتىً وسيم عضّ كلبٌ وجنته:

وأغيد وضّاح المحاسن باسمٍ

إذا قامر الأرواح ناظره قمر

تعمّد كلبٌ عضّ وجنته التي

هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثر

فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم

وقد أثّر العوّاء في صفحة القمر 94 - وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي (2) المؤرخ الأديب، المصنف الشهير، وكان حافظاً لنكت الأندلسيين حديثاً وقديماً، ذاكراً لفكاهاتهم التي صيرته للمملوك خليلاً ونديماً (3)، في صبي من أعيان الجزيرة الخضراء تهافت في حبه جماعة من الأدباء والشعراء (4) :

قد سلونا عن الذي تدريه

وجفوناه إذ جفا بالتيه

وتركناه صاغراً لأناسٍ

خدعوه بالزّور والتمويه

لمضلٍّ يسوقه لمضلٍّ

وسفيهٍ يقوده لسفيه وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور، وقاموا فيه المقام المشهور، أديبٌ يقال له الفار، فتسلط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقب بالقط، [فقال أحد الشعراء] :

عذرت أبا الحجاج من ربّ شيبةٍ

غدا لابساً في الحبّ ثوباً من القار

وألجأه الفار المشارك للنوى

ولم أر قطّاً قبله فرّ من فار

(1) ب: بغير.

(2)

القدح: 94 - 95.

(3)

القدح: جليسا ونديما.

(4)

كان هذا النص في النفح شديد الاضطراب، فصوبناه على حسب رواية القدح المعلى.

ص: 316

وله، وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكره بالأيام السوالف:

أبا حسنٍ لعمرك إنّ ذكري

لأيام النعيم من الصواب

أمثلي ليس يذكر عهد حمصٍ

وقد جمحت بنا خيل التصابي

ونحن نجرّ أثواب الأماني

مطرّزةً هنالك بالشباب

وعهدٌ بالجزيرة ليس ينسى

وإن أغفلته عند الخطاب

هو الأحلى لديّ وإن حماني

عن العسل اجتماعٌ للذّباب أشار (1) إلى المحبوب وكان كثير الاجتماع به في جنة لوالده على وادي العسل وقال (2) :

جنّة وادي العسل

كم لي بها من أمل

لو لم يكن ذبابها

يمنع ذوق العسل قال ابن سعيد: ولما التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق، وقد ولج (3) ظلام الشعر على [صبح] وجهه المشرق، قلت لأبي الحجاج مشيراً إلى محبوبه، وقد غطى هواه عنده على عيوبه:

خلّ (4) أبا الحجاج هذا الذي

قد كنت فيه دائم الوجد

وانظر إلى لحيته واعتبر

ممّا جنى الشّعر على الخدّ والله سبحانه يسمح للجميع، في هذا الهزل الشنيع، ويصفح عنا في ذكره، إنه مجيبٌ سميع.

(1) في أصول النفح: وسار، والتصويب عن القدح.

(2)

في الأصول: فقال - عطفا على سار - قال ابن سعيد: ولما اجتمعت به مستحسنا لهذا المقصد قال لي قد كنت ذكرته أيام تلك المزاحمات ثم أنشد " جنة وادي

إلخ ".

(3)

القدح: دلج.

(4)

القدح: خلي.

ص: 317

[عود إلى النقل عن بدائع البدائه]

95 -

وقال صاحب " البدائع "(1) ركب الأستاذ أبو محمد ابن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا، وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا، وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سرراً وأعكانا، في زورقٍ يجول جولان الطّرف، ويسودّ اسوداد الطّرف، فقال بديهاً:

تامّل حالنا والجوّ طلقٌ

محيّاه وقد طفل المساء

وقد جالت بنا عذراء حبلى

تجاذب مرطها ريحٌ رخاء

بنهرٍ كالسجنجل كوثريٍّ

تعبّس وجهها فيه السماء واتفق أن وقف أبو إسحاق ابن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها، فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها:

ألا يا حبّذا ضحك الحميّا

بحانتها وقد عبس المساء

وأدهم من جياد الماء مهرٍ (2)

تنازع جلّه ريحٌ رخاء

إذا بدت الكواكب فيه غرقى

رأيت الأرض تحسدها السماء 96 - وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه (3) : صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ابا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد، وكان أبو جعفر ابن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية، وشرع في النفاق فقطع السبيل، وأخاف الطريق، ولما حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير،

(1) بدائع البدائه: 2: 142.

(2)

ب: نهد؛ ق: نهر.

(3)

وردت هذه القصص المتعلقة بابن خفاجة في بدائع البدائه 2: 143، 145.

ص: 318

وملّ الركب رسيمه وزميله، وأخذ كلٌّ منّا يرتاد مقيله، اتفقنا على أن لا نطعم طعماً، ولا نذوق مناناً، حتّى نقول في صورة تلك الحال، وذلك التّرحال، ما حضر، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر، وأخذت عفو خاطري، فقلت أتربص به (1)، وأعرّض بعظم لحيته:

ألا قل للمريض القلب مهلاً

فإنّ السيف قد ضمن الشفاء

ولم أر كالنفاق شكاة حرٍّ

ولا كدم الوريد له دواء

وقد دحي النجيع هناك أرضاً

وقد سمك العجاج به سماء

وديس به انحطاطاً بطن وادٍ

مذ أعشب شعر لحيته ضراء وقال ابن خفاجة أيضاً: حضرت يوماً مع أصحاب لي، ومعهم صبي متهم في نفسه، واتفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب، فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب، فقلت بديهاً أعبث به:

صلني لك الخير برمّانةٍ

لم تنتقل عن كرم العهد

لا عنباً أمتصّ عنقوده

ثدياً كأني بعد في المهد

وهل يرى بينهما نسبةً

من عدل الخصية بالنّهد فخجل خجلاً شديداً وانصرف.

قال: وخرجت يوماً بشاطبة إلى باب السّمّارين، ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية، وذلك سنة 480، وإذا بالفقيه أبي عمران ابن أبي تليد رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك، فألفيته جالساً على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن، فسلمت عليه، مستأنساً به، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق:

(1) البدائع: أريض نار نزوته.

ص: 319

يا من يمرّ ولا تمرّ

به القلوب من الفرق

بعمامةٍ من خدّه

أو خدّه منها استرق

فكأنه وكأنها

قمرٌ تعمّق بالشفق

فإذا بدى وإذا انثنى

وإذا شدى وإذا نطق

شغل الخواطر والجوا

نح والمسمع والحدق فقلت، وقد أعجبت بها جدّاً، وأثنى عليها كثيراً: أحسن ما في القطعة سياقة الاعداد، وإلاّ فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كلّ واحدة منها ما يلائمها، وهل ينزل بإزاء قوله وإذا نطق قوله شغل الحدق، وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد، فقلت بديهاً:

ومهفهفٍ طاوي الحشا

خنث المعاطف والنظر

ملأ العيون بصورةٍ

تليت محاسنها سور

فإذا رنا وإذا مشى

وإذا شدا وإذا سفر

فضح الغزالة والغما

مة والحمامة والقمر فجنّ بها استحساناً، انتهى.

قال ابن ظافر: والقطعة القافيّة ليست لابن رشيق، بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة (1) .

97 -

وكان بين السميسر الشاعر (2) وبين بعض رؤساء المريّة واقع لمدح

(1) هذا وهم من ابن ظافر تابعه فيه المقري فإن أبا الحسن (لا أبا الحسين) علي بن أبي البشر الكاتب هو أحد شعراء الدرة الخطيرة لابن القطاع، وهو من ثم أحد شعراء الخريدة (4 / 1: 5 وسماه ابن البشائر) ؛ وقد ترجم له الصفدي في الجزء الثالث من الوافي، نسخة مكتبة أحمد الثالث؛ وذكره أبو الصلت في رسالته المصرية (نوادر المخطوطات 1: 22) .

(2)

البدائع 2: 148.

ص: 320

مدحه فلم يجزه عليه، فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية واحتفل فيها بما يحتفل مثله في دعوة سلطان مثل المعتصم، فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجهاً إلى الدعوة، فوقف له في الطريق، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله:

يا أيها الملك الميمون طائره

ومن لذي مأتم في وجهه عرس

لا تفرسنّ (1) طعاماً عند غيركم

إنّ الأسود على المأكول تفترس فقال المعتصم: صدق والله، ورجع من الطريق، وفسد على الرجل ما كان عمله.

[حكاية مشرقية]

ونظير هذه الحكاية (2) أن عبّاد بن الحريش كان قد مدح رجلاً من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير، فمطله بالجائزة، ثمّ أجازه بما لم يرضه، فرده عليه، وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج، ووصل أبو دلف، فلمّا عين عبّاد عليه وهو يساير بعض خواصه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته:

قل له يا فديته

قول عبّاد: ذا سمج

جئت في ألف فارسٍ

لغداء من الكرج

ما على النّفس بعد ذا

في الدناءات من حرج فقال أبو دلف، وكان أخوف الناس من شاعر: صدق والله، أجيء من

(1) البدائع: لا تقربن.

(2)

البدائع 2: 149.

ص: 321

الكرج إلى أصبهان حتّى أتغذى بها والله بعد هذا ما في دناءة النفس من شيء.

ثمّ رجع من طريقه، وفسد على الرجل كلّ ما غرمه، وعرف من أين أتي.

وتخوف أن يعود عبّاد عليه بشرّ (1) منها، فسيّر إليه جائزة سنيّة مع جماعة من أصحابه، فاجتمعوا به، وسألوه فيه، وفي قبول الجائزة، فلم يقبل الجائزة، ثمّ أنشد بديهاً:

وهبت يا قوم لكم عرضه

فقالوا: جزاك الله تعالى خيراً، فقال:

كرامةً للشعر لا للفتى

لأنه أبخل من ذرّةٍ

على الذي تجمعه في الشتا انتهى.

98 -

وذكر أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه (2) : أنه عزم بمصر هو ورفقة له على الاصطباح، فقصدوا بركة الحبش، في وقت ولاية الغبش، وحلّوا منها روضاً بسم زهره، ونسم عطره، فأداروا كؤوساً، تطلع من المدام شموساً، وعاينوها نجوماً، تكون لشاطين الهموم رجوماً، فطرب حتّى أظهر الطرب نشاطه، وأبرز ابتهاجه وانبساطه، فقال:

لله يومي ببركة الحبش

والجوّ بين الضياء والغبش

والنّيل تحت الرّياح مضطربٌ

كصارمٍ في يمين مرتعش

ونحن في روضةٍ مفوّقةٍ

دبّج بالنّور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من نورها على فرش

(1) ب: بأشد.

(2)

البدائع 2: 151، ونوادر المخطوطات 1: 20 - 21.

ص: 322

فعاطني الراح إنّ تاركها

من سورة الهمّ غير منتعش

وأسقني (1) بالكبار مترعةً

فهنّ أروى لشدّة العطش

فأثقل النّاس كلّهم رجلٌ

دعاه داعي الصّبا فلم يطش وهذا أبو الصّلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء، وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق.

99 -

وقال رحمه الله تعالى (2) : كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان، وقد وقف يرمي بالنشاب، فصنعت فيه بديهاً:

ياملكاً مذ خلقت كفّه

لم تدر إلاّ الجود والباسا

إنّ النّجوم الزّهر مع بعدها

قد حسدت في قربك الناسا

وودّت الأفلاك لو أنّها

تحوّلت تحتك أفراسا

كما تمنّى البدر لو أنه

عاد لنشّابك برجاسا انتهى.

100 -

وصنع الوزير (3) أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق ابن همشك صهر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديهاً:

وزنجيٍّ أتى بقضيب نورٍ

وقد زفّت لنا بنت الكروم

فقال فتى من الفتيان صفها

فقلت الليل أقبل بالنّجوم

(1) ب: وسقني.

(2)

البدائع 2: 152.

(3)

البدائع 2: 153؛ وهذان البيتان في الحلة 2: 266 للرصافي (ديوانه: 135) ؛ قال: وغلط أبو مروان ابن صاحب الصلاة الإشبيلي فنسبهما في تاريخه إلى بعض الأمراء (يعني الوقشي)، وفي المغرب 2: 257 أنهما لأبي الحسين بن أم الحور.

ص: 323

101 -

ولمّا أفرط أبو [بكر] يحيى اليكي (1) في هجاء أهل فاس تعسّفوا عليه، وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين (2) علي بن يوسف، والقائد عبد الله بن خيار الجياني (3) ، وكان يتولى أمورأً سلطانية بها، فقدّموا رجلاً ادعى عليه بدين، وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي، ورجل آخر يكنّى بأبي الحسين من مشايخ البلد، فأثبت الحق عليه، وأمر به إلى السجن، فرفع إليه، وسيق سوقاً عنيفاً، فلمّا وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه، وكتب فيها، وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن، فكان ما كتب:

ارشوا الزناتيّ الفقيه ببيضةٍ

يشهد بأنّ مظفّراً ذو بيضتين

واهدوا إليه دجاجةً يحلف لكم

ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين 102 - وقال أبو الحسن علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري: عمل والدي محملاً للكتب من قضبان تشبه سلّماً، فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد، فرآه، فقال ارتجالاً:

أيها السيّد الذكيّ الجنان

لا تقسني بسلّم البنيان

فضل شكل على السلالم أنّي

محملٌ للعلوم والقرآن

حزت من حلية المحبين ضعفي

واصفراري ورقّة الأبدان

فادع للصانع المجيد بفوزٍ

ثمّ وال الدعاء للإخوان ثمّ عمل أيضاً:

أيها السيد الكريم المساعي

التفت صنعتي وحسن ابتداعي

(1) البدائع 2: 157؛ وانظر بعض أهاجيه في أهل فارس في زاد المسافر.

(2)

ب: المؤمنين؛ وهو غير دقيق.

(3)

راجع ترجمة ابن خيار الجياني في الحلة 2: 235.

ص: 324

أنا للنّسخ محملٌ خفّ حملي

أنا في الشّكل سلّم الإطلاع 103 - وقال أحمد بن رضى المالقي:

ليس المدامة ممّا أستريح له

ولا مجاوبة الأوتار والنغم

وإنّما لذّتي كتبٌ أطالعها

وخادمي أبداً في نصرتي قلمي 104 - وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي:

لمن أشكو مصابي في البرايا

ولا ألقى سوى رجلٍ مصاب

أمورٌ لو تدبّرها حكيمٌ

لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب

أما في الدّهر من أفشي إليه

بأسراري فيؤنس بالجواب

يئست من الأنام فما جليسٌ

يعزّ على نهاي سوى كتابي 105 - وقال أبو زكريا يحيى، ابن صفوان بن إدريس صاحب كتاب " العجالة " و " زاد المسافر " وغيرهما:

ليت شعري كيف أنتم

وأنا الصبّ المعنّى

كلّ شيء لم تكونوا

فيه لفظٌ دون معنى وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد:

توحّد في الحسن من لم يزل

يثلث والقلب في صدّه

يشفّ لك الماء من كفّه

ويقتدح النّار من خدّه وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه، وأبوه صفوان سابق الميدان.

106 -

وقال ابن بسام (1) : ساير ابن عمّار في بعض أسفاره غلامان من

(1) بدائع البدائه 2: 130.

ص: 325

بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره.

فجعل يميل بحديثه لمخضر العذار. ثم قال ارتجالاً:

تعلّقته جهوريّ النّجار

حليّ (1) اللّمى جوهريّ الثنايا

من النّفر البيض أسد الزمان

رقاق الحواشي كرام السجايا

ولا غرو أن تغرب الشارقات

وتبقى محاسنها بالعشايا

ولا وصل إلاّ جمان الحديث

نساقطه من ظهور المطايا

شنأت المثلّث للزعفران

وملت إلى خضرةٍ في التفايا ومعناه أن ابن عمّار أبغض المثلّث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما، وأحبّ خضرة التفايا (2) ، وهو لون طعام يعمل بالكزبرة، لشبهها بعذار الأخضر منهما.

107 -

وقال أبو العرب ابن معيشة الكناني السبتي (3) : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عبّاد، وكان عليه من أثر كبر السن ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق، وينطق بأن قوله الحق، قال: كنت في صبايّ حسن الصورة، بديع الخلقة، لا تلمحني عين أحد إلاّ ملكت قلبه، وخلبت خلبه، وسلبت لبّه، وأطلت كربه، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر ابن عمّار قد أقبل في موكب زّجل، على فرس كالصخرة الصمّاء قدّت من قنّة الجبل، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأملني ثمّ دفع بمخصرة كانت بيده في صدري، وأنشد:

(1) ب: حلو.

(2)

راجع شرح التفايا ج 3 ص: 127 الحاشية: 2.

(3)

بدائع البدائه 2: 132 وفيه " ابن معوشة ".

ص: 326

كفّ هذا النّهد عني

فبقلبي منه جرح

هو في صدرك نهدٌ

وهو في صدري رمح 108 - وعبر في البدائع على طريقة القلائد بما صورته (1) : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو مطرف ابن عبد العزيز أنّه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه، ورمى بنبل ودقه، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها، والأزهار قد تفتحت عيونها، والكمائم قد ظهر مكنونها، والأشجار قد انصقلت بالقطر، ونشرت ما يفوق ألوان البزّ وبثّت ما يعلو العطر، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح، ومديرها قد ذاب ظرفاً فكاد يسيل من إهابه، وأخجل خدّها حسناً فتكلل بعرق حبابه، إذا بفتىً رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعاً كالبدر اجتاب سحاباً، والخمر اكتست حباباً، والطاووس انقلب حباباً، فهو ملكٌ حسناً إلاّ أنه جسد، وغزالٌ ليناً إلاّ أنّه في هيئة الأسد، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه، وأمره أن يتوجه إليه، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمّار والسكر قد استحوذ على لبّه، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه، فأشار إليه وقرّبه، واستبدع ذلك اللباس واستغربه، وجدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص، وأن يجلي عنه سهكه كما يجلى الخبث عن الخلاص، وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله، واحتذاء أمثاله، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها، ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمّار:

(1) بدائع البدائه 2: 133؛ وانظر النفح ج 1 ص: 654.

ص: 327

وهويته يسقي المدام كأنّه

قمرٌ يدور بكوكبٍ في مجلس

متناوح الحركات يندى عطفه

كالغصن هزّته الصبا بتنفسّ

يسقي بكأسٍ في أنامل سوسنٍ

ويدير أخرى من محاجر نرجس

يا حامل السيف الطويل نجاده

ومصرّف الفرس القصير المحبس

إيّاك بادرة الوغى من فارسٍ

خشن القناع على عذارٍ أملس

جهمٍ وإن حسر القناع فإنما

كشف الظلام عن النهار المشمس

يطغى ويلعب في دلال عذاره

كالمهر يلعب في اللجام المجرس

سلّم فقد قصف القنا غصن النقا

وسطا بليث الغاب ظبي المكنس

عنّا بكأسك قد كفتنا مقلةٌ

حوراء قائمةٌ بسكر المجلس وصنع فيه أيضاً:

وأحور من ظباء الروم عاطٍ

بسالفتيه من دمعي فريد

قسا قلباً وشنّ عليه درعاً

فباطنه وظاهره حديد

بكيت وقد دنا ونأى رضاه

وقد يبكي من الطرب الجليد

وإنّ فتىً تملّكه برقٍّ

وأحرز حسنه لفتىً سعيد انتهى.

109 -

وذكر في " البدائع " مؤلفه ما نصه (1) : خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوماً إلى بعض متنزهاته، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج، وتنفست عن مسكها الأريج، وماست معاطف أغصانها، وتكللت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها، فتشوّق إلى الوزير أبي طالب ابن غانم أحد كبراء دولته، وسيوف صولته، فكتب إليه بديهاً بورقة كرنب بعود من شجرة:

(1) البدائع 2: 139، وانظر أيضا 2: 140 للحكاية التالية عن المعتصم.

ص: 328

أقبل أبا طالبٍ إلينا

واسقط سقوط النّدى علينا 110 - وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوماً وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردها حرّ الأوار، والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار، فقال ارتجالاً:

انظر إلى الماء كيف انحطّ من صببه

كأنّه أرقمٌ قد جدّ في هربه 111 - وقال السميسر (1) :

بعوضٌ شربن دمي قهوةً

وغنيّنني بضروب الأغان

كأنّ عروقي أوتارهنّ

وجسمي الرباب وهنّ القيان (2) 112 - وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني (3) :

لك مجلس كملت بشارة لهونا

فيه، ولكن تحت ذلك حديث

غنّى الذباب فظلّ يزمر حوله

فيه البعوض ويرقص البرغوث 113 - والسابق إلى هذا المعنى أبو [الحسن] أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال (4) :

لا أعذل الليل في تطاوله

لو كان يدري ما نحن فيه نقص

لي والبراغيث والبعوض إذا

أجنّنا (5) حندس الظلام قصص

إذا تغنّى بعوضه طرباً

أطرب (6) برغوثه الغنا فرقص

(1) البدائع 2: 176.

(2)

زاد في مطبوعة التجارية بعد هذين البيتين مقطوعتين في البرغوث والبعوض يظهر أنهما من زيادات النساخ.

(3)

البدائع 2: 176 والمطرب: 70 ومعجم الأدباء: 19: 38.

(4)

بدائع البدائه 2: 176 واليتيمة 4: 383، ومنه تصويب الاسم.

(5)

اليتيمة: ألحفنا.

(6)

اليتيمة: ساعد.

ص: 329

114 -

ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية (1) :

ضاقت بلنسيةٌ بي

وذاد عني غموضي

رقص البراغيث فيها

على غناء البعوض رجع إلى أهل الأندلس، فنقول:

115 -

كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول، مفرط النسيان، ظاهر التغفل، على جوده نظمه، ورطوبة طبعه، وكان كثيراً ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له، فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادةً لها، واتفق أن عبر في السكة راجلاً، ومعه جماعة من أصحابه، فلمّا رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعاً

على عقبيه، فقال له أصحابه: ما هذا أيها الأستاذ فقال: البغلة نفرت، فعجبوا من تخلّفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له، فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه، فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب، وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب، فصنع بديهاً:

كتاب نجيعٍ (2) لاح في حومة الوغى

وقارنه نسرٌ هنالك أو ذيب

جوارح أهليه حروفٌ وربما

تولّته من نقط الطعان أنابيب 116 - وقال الحميدي (3) : ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوباً الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة:

(1) المطرب: 94 وبدائع البدائه 2: 176.

(2)

م: نجيح.

(3)

الجذوة: 328.

ص: 330

وذات حنينٍ ما تغيض جفونها

من اللجج الخضر الصوافي على شطّ

وتبكي فتحيي من دموع جفونها

رياضاً تبدّت بالأزاهر (1) في بسط

فمن أحمرٍ قانٍ وأصفر فاقعٍ

وأزهر مبيضٍّ وأدكن مشمطّ

كأنّ ظروف الماء من فوق متنها

لآلي جمانٍ قد نظمن على قرط وقال أبو الخطاب ابن دحية (2) : دخلت على الوزير الفقيه الأجلّ أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي، فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه، فقال بديهاً:

أيها العالم ادّركني سماحاً

فلمثلي يحقّ منك السماح

إن تخلني إذا نطقت عييّاً

فبناني إذا كتبت وقاح

أحرز الشأو في نظامٍ ونثرٍ

ثمّ أثني وفي العنان جماح

فبهزلٍ كما تأوّد غصنٌ

وبجدٍّ كما تهزّ الصفاح وقال (3) : دخلت عليه منزله بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه، فأنشد بديهاً:

أيها الواقف اعتباراً بقبري

استمع فيه قول عظمي الرميم

أودعوني بطن الضريح وخافوا

من ذنوبٍ كلومها بأديمي

ودعوني بما اكتسبت رهيناً

غلق الرهن عند مولى كريم 118 - وقال ابن طوفان (4) : دعا أبي أبا الوليد النّحلي، فلمّا قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم، وجعلت أترع الكاسات، فلمّا مشت في النّحلي

(1) الجذوة: من أزاهير.

(2)

بدائع البدائه 2: 171، ولم ترد في المطرب.

(3)

المصدر نفسه: 172.

(4)

بدائع البدائه 2: 191، وفي ب: طفوان.

ص: 331

سورة الحميّا ارتجل:

لابن طوفانٍ أيادٍ

قلّ فيها مشبهوه

ملأ الكاسات حتّى

قيل في البيت أبوه ونظيره قول المنفتل (1) من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء:

فإذا ما قال شعراً

نفقت سوق أبيه 119 - وذكر في " بدائع البدائه "(2) أن جماعة من الشعراء في أيّام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها، ويتأملوا ما سطره الدّهر من العبر فيها، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها، فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي:

بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً

على ما رأت عيناك من هرمي مصر

أنافا بأعنان (3) السّماء فأشرفا

على الجوّ إشراف السماك أو النسر

وقد وافيا نشزاً من الأرض عالياً

كأنهما نهدان قاما على صدر وصنع أبو منصور ظافر الحداد:

تأمّل هيئة الهرمين وانظر

وبينهما أبو الهول العجيب

كعماريتين (4) على رحيلٍ

بمحبوبين بينهما رقيب

وفيض البحر عندهما دموعٌ

وصوت الريح بينهما نحيب

وظاهر سجن يوسف مثل صبٍّ

تخلّف فهو محزون كئيب

(1) المصدر السابق: 192.

(2)

المصدر نفسه 1: 243 وانظر نوادر المخطوطات 1: 26.

(3)

م: بأسباب؛ البدائع: بأكناف.

(4)

العمارية: الهودج.

ص: 332

120 -

وقال ابن بسام (1) : كان للمتوكل ابن الأفطس فرس أدهم أغر محجل على كفله ست نقط بيض، فندب المتوكل الشعراء لصفته، فصنع النّحلي أبو الوليد فيه بديهاً:

ركب البدر جواداً سابحاً

تقف الريح لأدنى مهله

لبس الليل قميصاً سابغاً

والثريّا نقطٌ في كفله

وغدير الصبح قد خيض به

فبدا تحجيله من بلله

كلّ مطلوبٍ وإن طالت به

رجله من أجله في أجله ثمّ انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه، فصنع ابن اللبّانة:

لله طرفٌ جال يا ابن محمّدٍ

فحبت (2) به حوباؤه التأميلا

لمّا رأى أنّ الظّلام أديمه

أهدى لأربعه الهدى تحجيلا

وكأنما في الردف منه مباسمٌ

تبغي هناك لرجله تقبيلا وقال فيه أبو عبد الله ابن عبد البر الشنتريني من قطعة:

وكأنما عمرٌ على صهواته

قمرٌ تسير به الرياح الأربع ويعني بعمر المتوكل المذكور لأن اسمه عمر.

121 -

وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية:

لله إخوانٌ تناءت دراهم

حفظوا الوداد على النوى أو خانوا

يهدي لنا طيب الثناء ودادهم

كالندّ يهدي الطيب وهو دخان

(1) البدائع 1: 260.

(2)

البدائع: فجنت؛ ب: فجبت.

ص: 333

[أخبار عن المروانيين]

122 -

وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوماً عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك، فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب، فتشوف أبو الحسن ابن جودي لمعرفته، وكان إذ ذاك فتيّ السن، فقال له: من أنت أكرمك الله تعالى فقال: هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدباً ولي توقيراً، فقال ابن جودي: قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك، فقال: يا هذا، لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل، ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل، وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وأنشد:

أنا ابن الألى قد عوّض الدهر عزّهم

بذلٍّ وقلوا واستحبّوا التنكرا

ملوكٌ على مرّ الزمان بمشرقٍ

وغربٍ دهاهم دهرهم وتغيّرا

فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم

فإن حياة الرّزء أن يتذكّرا ففطن ابن جودي أنه منبني مروان، فقام وقبّل رأسه، واعتذر إليه، ثمّ انصرف المرواني، فقال ابن باجة لابن جودي: أساء أدبك بعد ما عهدت منك كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه فاحذر أن تكون لك عادة، فإنها من أسوء الأدب، فقال ابن جودي: لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام:

نأخذ من ماله ومن أدبه (1)

123 - وحكي أن بكاراً المرواني (2) لمّا ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل، قال صاحب السقط: إنه اجتمع به في أشبونة فقال: قصدت منزله بها، ونقرت

(1) صدر البيت: ننقل أسبابنا إلى ملك.

(2)

انظر أخبار بكار وأشعاره في المغرب 1: 415.

ص: 334

الباب، فنادى: من هذا فقلت: رجل ممّن يتوسل لرؤيتك بقرابة، فقال: لا قرابة إلاّ بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلاّ فتنحّ عني، فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه فإذا به في مصلاّه وسبحة أمامه، وهو يعدّ حبوبها ويسبّح فيها، فقال لي: ارفق عليّ حتّى أتمم وظيفتي من هذا التسبيح، وأقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ، فلمّا قضى شغله عطف عليّ وقال: ما القرابة التي بيني وبينك فانتسبت له، فعرف أبي وترحّم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت ممّا كان لديه شيءٌ فقلت له: إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلّم الأدب، وقد تعلقت من ذلك (1) بما أتميز به، فقال لي: هل تنظم شيئاً قلت: نعم، وقد ألجأني الدّهر إلى أن أرتزق به، فقال: يا ولدي إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:" إنّ من الشّعر لحكمةً " ولكن تحلّ الميتة عند الضرورة، فأنشدني أصلحك الله تعالى ممّا على ذكرك من شعرك، قال: فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به ممّا يوافق حاله فما وقع لي إلاّ فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك، فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم، فقلت: لا ولكن أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصّبا والسخف، وهو لائق بغير مجلسك، فقال: يا بني، ولا هذا كله، إنّا لا نبلغ من تقوى الله إلى حدّ نخرج به عن السلف الصالح، وإذا صح عندنا أن عبد الله ابن عباس ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومفسر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل:

إن يصدق الطير ننك لميسا

(1) م: بذلك.

ص: 335

فمن نحن حتّى نأبى أن نسمع مثل هذا والله لا نشذ عن السلف الصالح، أنشدني ما وقع لك غير متكلف، فلم يمدني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه:

أبطأت عنّي، وإني

لفي اشتياقٍ شديد

وفي يدي لك شيء

قد قام مثل العمود

لو ذقته مرة لم

تعد لهذا (1) الصدود فتبسم الشيخ وقال: أما كان في نظمك أطهر من هذا فقلت له: ما وفقّت لغيره، فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره، ففكرت إلى أن أنشدته قولي:

ولمّا وقفت على ربعهم

تجرعت وجدي بالأجرع

وأرسل دمعي شرار الدموع

لنارٍ تأجّج في الأضلع

فقال عذولي، لمّا رأى

بكائي: رفقاً على الأدمع

فقلت له: هذه سنّةٌ

لمن حفظ العهد في الأربع قال: فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب ثمّ أفاق وقال: أعد بحقّ آبائك الكرام، فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده، فقلت له: لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إيّاه، فقال: وهل حرك مني إلاّ خيراً وعظة يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت، وهي مستعده لهبوب الرياح، فإن هبّ عليها أقلّ ريحٍ لعب بها كيف شاء، وصادف منها طوعه، فأعجبني منزعه، وتأنست به، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الإنجماح والانكماش، بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره، فلمّا كثر تأنسي به

(1) م: تصد هذا.

ص: 336

أهويت إلى يده كي أقبّلها، فضمها بسرعة، وقال: ما شأنك فقلت: راغباً لك في أن تنشدني شيئاً من نظمك، فقال: أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأمّا نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته (1) ، فيأخذ كلانا بحظه، فضحك وقال: ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد، ثمّ أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة:

ثق بالذي سوّاك من

عدمٍ فإنّك من عدم

وانظر لنفسك قبل قر

ع السنّ من فرط الندم

واحذر وقيت من الورى

واصحبهم أعمى أصم

قد كنت في تيهٍ إلى

أن لاح لي أهدى علم

فاقتدت نحو ضيائه

حتّى خرجت من الظّلم

لكن قناديل الهوى

في نور رشدي كالحمم قال: فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلاّ بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك، والله مرشدك ومنقذك، ثمّ قال لي: يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع فيما مضى والله وليّ المغفرة، وإنّا لنرجو منه غفران الفعل، فكيف القول، وأنشد:

أطلّ عذارٌ على خدّه

فظنّوا سلوّي عن مذهبي

وقالوا غرابٌ لوشك النوى

فقلت اكتسى البدر بالغيهب

وناديت قلبي أين المسير

وبدر الدجى حلّ في العقرب

(1) ق ب: شيخه.

ص: 337

فقال ولو رمت عن حبّه

رحيلاً عصيت ولم أذهب قال: فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له: لم أر أحسن من نظمك في جدٍّ ولا هزل، ثمّ قلت له: أأرويه عنك فقال: نعم، ما أرى به بأساً بعد اطلاع من يعلم السرائر، على ما في الضمائر، فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر، ويغضي عن العظائم قال: فقلت له: فإن أسبغت عليّ النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدّهر، فقال: يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثمّ قال: ولا أجمع عليك ردّ قول ومنعاً، وأنشد:

أيها الشادن الذي

حسنه في الورى غريب

لحظ ذاك الجمال يط

فىء ما بي من اللهيب

وعليه أحوم ده

ري ولكنّني أخيب

كلّما رمت زورةً

قيّض الله لي رقيب قال: فمازج قلبي من الرقة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه، فقلت له: زدني زادك الله تعالى خيراً، فأنشدني:

ما كان قلبي يدري قدر حبّكم

حتّى بعدتم فلم يقدر على الجلد

وكنت أحسب أنّي لا أضيق به

ذرعاً فما حان حتّى فتّ في عضدي

ثمّ استمرّت على كرهٍ مريرته

فكاد يفرق بين الروح والجسد

عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي

فليس لي مهجةٌ تقوى على الكمد ثمّ قال: حسبك، وإن كلفتني زيادة فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم، فبالله إلاّ مازدتني، وأكببت لأقبّل رجليه، فضمهما وأنشد:

ص: 338

لله من قال لمّا

شكوت فيه نحولي

أمّا السبيل لوصولٍ

فما له من وصول

فقلت حسبي التماحٌ

بحسن وجهٍ جميل

وجهٌ تلوح عليه

علامةٌ للقبول

فقال دعني فهذا

تعرّضٌ للفضول

فقلت عاتب وخاطب

بالأمن أهل العقول فملأ سمعي عجائب، وبسط أنسي، وكتبت كل ما أنشدني، ثمّ قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتّى لا تجد ما تنشد، فقال: إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت، وأنشدتك، فما عندي ممّا أضيفك غير ما سمعت، وما تراه، ثمّ قام وجاء من بيت آخر في داره بصحفة فيها حساً من دقيق وكسور باردة، فجعل يفتّ فيها، ثمّ أشار إليّ أن أشرب فشبت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها (1)، ثمّ قال لي: هذا غذاء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها، قال: فقلت له: يا عم، ومن أين عيشك فقال: يا بني، عيشي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد فيه معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن النّاس خيرٌ كثير، جعلنا الله تعالى ممّن يلقاه على حالة يرضاها، وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة. قال: فتركته وقمت وفي نيّتي أن أعود إلى زيارته، ونويت أن يكون ذلك بعد أيّام خوف التثقيل، فعدت إليه بعد ثلاثة أيّام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر حزن، وقالت: إن الشيخ خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله كالجنون، فقلت له: ما شأنك فقال: أريد أن أموت شهيداً في الغزو، وهؤلاء جيران لي قد

(1) ب: على آخره.

ص: 339

عزموا على الغزو، وأنا إن شاء الله تعالى ماضٍ معهم، ثمّ احتل في سيفٍ ورمح وتوّجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتصّ منها فأقتلها قال: فقلت لها: ومن خلف للنظر في شأنكم فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلقنا لا نحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً، فقلت: إني قريبه، ويجب أن عليّ أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: يا هذا إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر منا ويبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا، فجزاك الله تعاىل عنّا خيراً، انصرف عنّا مشكوراً، فقلت لها هذه دراهم خذوها تستعينوا بها، فقالت ما اعتدنا أن نأخذ شيئاً من غير الله تعالى، وما كان لنا أن نخلّ بالعادة، فانصرفت نادماً على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه، ثمّ عدت بعد ذلك لدياره سائلاً عنه، فقالت لي المرأة: إنه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قد قتل، فقلت لها: أقتل فقرأت: " ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله00 الآية " فانصرفت معتبراً من حاله، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به. وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا، في الدين والدنيا.

انتهى.

124 -

وقال محمد بن أيوب المرواني، لمّا كلّف قوماً حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلّفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر، فنهض بها:

نهضت بما سألتك غير وانٍ

وقد صعبت لسالكها الطريق

وليس يبين فضل المرء إلاّ

إذا كلّفته ما لا يطيق وعتبه يوماً سعيد بن المنذر في كونه يتعرض لمدح خدام بني مروان، فقال له: أعز الله تعالى القائد الوزير، إنكم جعلتموني ذنباً وجعلوني رأساً، والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها وإن كان فوقها

ص: 340

وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلاّ الذي أبلاني به، ويا ويح الشجيّ من الخليّ، وأنا الذي أقول فيما يتخلل هذا المنزع:

نسبت لقومٍ ليتني نجل غيرهم

فلي نسبٌ يعلو وحظي يسفل

أقطّع عمري بالتعلّل والمنى

وكم يخدع المرء اللبيب التعلّل

فما لي مكانٌ أرتضيه لهمّة

ولا مال منه أستعفّ وأفضل

ولكنني أقضي الحياة تجمّلاً

وهل يهلك الإنسان إلاّ التجمّل فقال له: سعيد قصدنا لومك فعطف اللائمة علينا، ونحن أحق بها، وسننظر إن شاء الله تعالى فيما يرفع اللوم عن الجانبين، ثمّ تكلم مع الناصر في شأنه، فأجرى له رزقاً أغناه عن التكفف، فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه.

125 -

وقال المطرف بن عمر (1) المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر:

إنّ المظفّر لا يزال مظفّراً

حكماً من الرحمن غير مبدّل

وهو الأحقّ بكلّ ما قد حازه

من رفعةٍ ورياسةٍ وتفضّل

تلقاه صدراً كلمّا قلّبته

مثل السنان بمحفلٍ وبجحفل وحضر يوماً مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطليّ، فقال له القسطليّ: أنشدني أبياتك التي تقول فيها " على قدر ما يصفو الخليل يكدّر ".

فأنشده:

تخيّرت من بين الأنام مهذّباً

ولم أدر أني خائبٌ حين أخبر

فمازجني كالراح للماء، واغتدى

على كل ما جشّمته يتصبر

(1) ب: عمير.

ص: 341

إلى أن دهاني إذ أمنت غروره

سفاهاً وأدّاني لما ليس يذكر

وكدّر عيشي بعد صفوٍ، وإنما

على قدر ما يصفو الخليل يكدّر فاهتزّ القسطليّ وقال: والله إنّك في هذه الأبيات لشاعر، وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير:

لو كنت أعلم أنّ آخر عهدهم

يوم الفراق فعلت ما لم أفعل ولكن جعل نفسه فاعلاً وعرّضت نفسك لأن يقال: إنّك مفعول، فقال: ومن أين يلوح ذلك فقال القسطليّ: من قولك " وأدّاني لما ليس يذكر " فما يظن في ذلك إلاّ أنّه أداك إلى موضع فعل بك فيه، فاغتاظ الأموي وقال: بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم، فسكن غيظه.

وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابة يخرج عليها للفرجة والخلاعة: أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم، إنّ هذا اليوم قد تبسم أفقه، بعدما بكى ودقه، وصقلت أصداء أوراقه، وفتحت أحداق حدائقه، وقام نوره خطيباً على ساقه، وفضضت غدرانه، وتوّجت أغصانه، وبرزت شمسه من حجابها، بعدما تلفعت بسحابها، وتنبّه في أرجاء الروض أرج النسيم، وعرف في وجهه نضرة النعيم، وقد دعا كلّ هذا ناظر أخيك إلى أن يجيله في هذه المحاسن، ويجددّ نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن، والفحص اليوم أحسن ما ملح، وأبدع ما حرن فيه وجمح، فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال، بمناكفة الأنذال، لا زلت نهّاضاً بالآمال، مسعفاً بمراد كل خليل غير مقصر ولا آل.

126 -

وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فرّ كتاباً يقول في بعض فصوله: والعجب من فرارك دون أن

ص: 342

ترى شيئاً. فخاطبه بجواب يقول فيه: ولا تتعجب من فراري دون أن أرى شيئاً؛ لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده، ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعدما أفلتّ منك.

وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي: أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر، وتترك بلاد ملكك وملك أبيك فقال: ما أعرف ما تقول، وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار، بل هو محض العقل، وأوّل ما ينظر الأديب في حفظ رأسه، فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده.

127 -

وقال عبد الله بن بعد العزيز الأموي ويعرف بالحجر (1) :

اجعل لنا منك حظّاً أيها القمر

فإنما حظّنا من وجهك النظر

رآك ناسٌ فقالوا: إنّ ذا قمرٌ

فقلت: كفّوا فعندي منهما الخبر

البدر ليس بغير النّصف بهجته

حتّى الصباح وهذا كلّه (2) قمر 128 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (3) :

وكم من حديثٍ للنبيّ أبانه

وألبسه من حسن منطقه وشياً

وكم مصعبٍ للنحو قد راض صعبه

فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 129 - وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى، وكان من أعيان غرناطة، فمدحه بقصيدة، ثمّ بموشّحة، ثمّ بزجل، فلم

(1) الجذوة: 244 (وبغية الملتمس رقم: 933) .

(2)

الجذوة: البدر ليلة نصف الشهر.... وهذا دهره.

(3)

الذخيرة 1 / 2: 317.

ص: 343

يعطه شيئاً، بل شكا إليه فقراً، حتّى إنه بكى، فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه:

شكا مثال الذي أشكوه من عدمٍ

وساءه مثل ما قد ساءني فبكى

إنّ المقلّ الذي أعطاك دمعته

نعم الجواد فتىً أعطاك ما ملكا 130 - وقال ابن خفاجة (1) :

نهرٌ كما سال (2) اللّمى سلسال

وصباً بليلٌ ذيلها مكسال

ومهبّ نفحة روضةٍ مطلولةٍ

فيها لأفراس النسيم (3) مجال

غازلته والأقحوانة مبسمٌ

والآس صدغٌ والبنفسج خال وقال (4) :

وساقٍ كحيل الطّرف (5) في شأو حسنه

جماحٌ، وبالصبر الجميل حران

ترى للصّبا ناراً بخدّيه لم يثر

لها من سوادي عارضيه دخان

سقانا وقد لاح الهلال عشيّةً

كما اعوجّ في درع الكميّة سنان

عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ

ولم تزن بابن المزن فهي حصان

وقد جال من جون الغمامة أدهمٌ

له البرق سوطٌ والعنان عنان

وضمّخ ردع الشمس نحر حديقة

عليه من الطّلّ السقيط جمان

ونمّت بأسرار الرياض خميلةٌ

لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان

(1) ديوان ابن خفاجة: 119 والنفح 3: 202.

(2)

الديوان: ساغ.

(3)

الديوان: في جلهتيها للنسيم.

(4)

ديوان ابن خفاجة: 235 وقد تقدمت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد.

(5)

ديوانه: لخيل اللحظ؛ وهو أصوب.

ص: 344

وقال في وصف فرس أصفر، ولم يخرج عن طريقته (1) :

وأشقرٍ تضرم منه الوغى

بشعلةٍ من شعل الباس

من جلّنارٍ ناضرٍ لونه

وأذنه من ورق الآس

يطلع للغرة في شقرةٍ

حبابةً تضحك في الكاس 131 - وقال أبو بكر يحيى (2) بن سهل اليكي يهجو:

أعد الوضوء إذا نطقت به

مستعجلاً من قبل أن تنسى

واحفظ ثيابك إن مررت به

فالظلّ منه ينجّس الشّمسا 132 - وقال ابن اللّبّانة (3) :

أبصرته قصّر في المشيه

لمّا بدت في خدّه لحيه

قد كتب الشّعر على خدّه

" أو كالّذي مرّ على قريه " 133 - وقال الوزير الكاتب أبو محمد [ابن] عبد الغفور الإشبيلي في الأمير أبي بكر سير من أمراء المرابطين، وكتب بها إليه في غزاة غزاها (4) :

سر حيث سرت يحلّه النّوار

وأراك فيه مرادك المقدار

وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ

وغمامةٌ لا ديمةٌ مدرار

تنفي الهجير بظلّها وتنيم بال

رشّ القتام وكيف شئت تدار

وقضى الإله بأن تعود مظفّراً

وقضت بسيفك نحبها (5) الكفّار

(1) ديوانه: 123 ومرت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد.

(2)

في الأصول: محمد، وهو خطأ اقتضى التصويب.

(3)

القلائد: 252.

(4)

القلائد: 163 والمغرب 1: 137.

(5)

ب م: نحوها.

ص: 345

هذا غير ما تمناه الجعفي حيث قال (1) : حيث ارتحلت وديمة (2) ، وما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، فكان ذلك أبلغ في الإضرار، وما أحسن قول القائل:

فسر ذا رايةٍ خفقت بنصرٍ

وعد في جحفلٍ بهج الجمال

إلى حمصٍ فأنت بها حليٌّ

تغاير فيه ربّات الحجال 134 - وقال الحجاري في " المسهب ": كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي، فتوقّف عن ذلك وانقبض عني، فكتبت إليه:

يا مانعاً شعره عن سمع ذي أدب

نائي المحلّ بعيد الشخص مغترب

يسير عنك به في كلّ متّجهٍ

كما يمرّ نسيم الريح بالعذب

إنّي وحقّك أهلٌ أن أفوز به

واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي فكان جوابه:

يا طالباً شعر من لم يسم في الأدب

ماذا تريد بنظم غير منتخب

إنّي وحقّك لم أبخل به صلفاً

ومن يضنّ على جيدٍ بمخشلب

لكنني صنت قدري عن روايته

فمثلّه قلّ عن سامٍ إلى الرّتب

خذه إليك كما أكرهت مضطرباً

محلّلاً ذمّ مولاه مدى الحقب قال: ثمّ كتب لي ممّا أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار، وأرقّ من نسيم الأسحار.

(1) القلائد: هذا ما تمناه الولي ما تمناه الجعفي حيث قال.

(2)

يريد قول المتنبي:

وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة

حيث اتجهت وديمة مدرار

ص: 346

135 -

وقال صالح بن شريف في البحر وهو أحسن ما قيل فيه:

البحر أعظم ممّا أنت تحسبه

من لم ير البحر يوماً ما رأى العجبا

طامٍ له حببٌ طافٍ على زرقٍ

مثل السّماء إذا ما ملّئت (1) شهبا وقال أيضاً:

ما أحسن العقل وآثاره

لو لازم الإنسان إيثاره

يصون بالعقل الفتى نفسه

كما يصون الحرّ أسراره

لا سيّما إن كان في غربةٍ

يحتاج أن يعرف مقداره 136 - وقال ابن برطله (2) :

خطوب زماني ناسبتني غرابةً

لذلك يرميني بهنّ مصيب

غريبٌ أصابته خطوبٌ غريبةٌ

" وكلّ غريبٍ للغريب نسيب " وهذا من أحسن التضمين، الذي يزري بالدّرّ الثمين.

137 -

ودخل ابن بقيّ الحمّام وفيه الأعمى التّطيلي فقال له: أجز (3) :

حمّامنا كزمان القيظ محتدمٌ

وفيه للبرد صرٌّ غير ذي ضرر فقال الأعمى:

ضدّان ينعم جسم المرء بينهما

كالغصن ينعم بين الشمس والمطر ولا يخفى حسن ما قال الأعمى.

(1) م: حليت.

(2)

م: برطالة.

(3)

انظر مطالع البدور 2: 10.

ص: 347

وقد ذكر في " بدائع البدائه "(1) البيتين معاً منسوبين إلى ابن بقيّ، ولنذكر كلامه برمته لما اشتمل عليه من الفوائد، ونصه: ذكر ابن بسام قال: دخل الأديبان أبو جعفر ابن هريرة التّطيلي المعروف بالأعمى وأبو بكر ابن بقيّ الحمام، فتعاطيا العمل فيه، فقال الأعمى:

يا حسن حمّامنا وبهجته

مرأى من السحر كلّه حسن

ماءٌ ونارٌ حواهما كنفٌ

كالقلب فيه السرور والحزن ثمّ أعجبه المعنى فقال:

ليس على لهونا مزيد

ولا لحمّامنا ضريب

ماء وفيه لهيب نارٍ

كالشمس في ديمةٍ تصوب

وابيّض من تحته رخامٌ

كالثلج حين ابتدا يذوب وقال ابن بقيّ:

حمّامنا فيه فصل القيظ

البيتين

فقال الأعمى وقد نظر فيه إلى فتّى صبيح:

هل استمالك جسم ابن الأمير وقد

سالت عليه من الحمّام أنداء

كالغصن باشر حرّ النار من كثبٍ

فظلّ يقطف من أعطافه الماء [وصف حمّام مشرقي]

قلت: تذكرت هنا عند ذكر الحمّام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال (2) : رأيت في بغداد في دار الملك شرف الدين هرون ابن

(1) البدائع 1: 242 والذخيرة 1 / 1: 258.

(2)

مطالع البدور 2: 8.

ص: 348

الوزير الصحب شمس الدين محمد الجويني حمّاماً متقن الصنعة، حسن البناء، كثير الأضواء، قد احتفّت به الأزهار والأشجار، فأدخلني إليه سائسه، وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشىء الإربلي، وكان سائس هذا الحمّام خادماً حبشياً كبير السن والقدر، فطاف بي عليه، وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان، ثمّ منها إلى البستان، ثمّ أراني نحو عشر خلوات، كلّ خلوة صنعتها أحسن من صنعة أختها، ثمّ انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد، ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل كلّه مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعوداً وتسع اثنين إذا كانوا نياماً، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها، ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلّها متخذة من بلّور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر، فأما الأخضر فيقال إنّه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب، وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال، على هيئات مختلفة في اللون وغيره، وهي ما بين فاعل ومفعول به، إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته، وقال لي الخادم السائس: هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي، حتّى إنّه إذا نظر إلى ما يفعله هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعاً، فيبادر إلى مجامعة من يحبه.

قال الحاكي: وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل، إذا أراد الملك شرف الدين هرون الاجتماع في الحمّام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلاّ في هذه

ص: 349

الخلوة، من أجل أنه يرى كل محاسن الصور الجميلة مصوّرة في الحائط ومجسمة بين يديه، ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة، ورأيت في صدر الخلوة رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره، وأنبوب آخر (1) برسم الماء البارد، والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الندّ والعود، وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموالٌ كثيرة، وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة: من أي شيء صنعت فقال لي: ما أعلم.

قال الحاكي: فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة، ولا بأحسن من ذلك الحمّام، مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما، فإنه لم تتكرر رؤيتي لهما، ولا اتفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما، وفي الذي ذكرت كفاية.

انتهى.

[دار جمال الملك البغدادي]

ولمّا اتصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دوراً أخرى إلى جانبها، وهدم الكل وأنشأ داره الكبيرة، وأعانه الخليفة في بنائها، وأطلق له أموالاً وآلات البناء، وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرّة وأجريت الدار بالذهب، وصنع فيها الحمّام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يميناً خرج ماء حار وإن فركه شمالاً خرج ماء بارد، وكان على إيوان الدار مكتوباً (2) :

إن عجب الراءون من ظاهري

فباطني لو علموا أعجب

(1) ب: وعليه مركب في صورة أنبوب آخر برسم الماء؛ م: مركب في صدره أنبوب وآخر

(2)

ب م: مكتوب.

ص: 350

شيّدني من كفّه مزنةٌ

يهمل منها العارض الصّيّب

ودبجت روضة أخلاقه

فيّ رياضاً نورها مذهب

صدرٌ كسا صدري من نوره

شمساً على الأيّام لا تغرب وكتب على الطرز:

ومن المروءة للفتى

ما عاش دارٌ فاخره

فاقنع من الدنيا بها

واعمل لدار الآخره

هاتيك وافيةٌ بما

وعدت، وهذي ساخره (1) وكتب على النادي:

ونادٍ كأن جنان الخلود

أعارته من حسنها رونقا

وأعطته من حادثات الزما

ن أن لا تلمّ به موثقا

فأضحى يتيه على كلّ ما

بنى مغرباً كان أو مشرقا

تظلّ الوفود به عكفّاً

وتمسي الضيوف به طرّقا

بقيت له يا جمال الملو

ك والفضل مهما أردت البقا

وسالمه فيك ريب الزمان

ووقّيت فيه الذي يتقّى [أشعار للمشارقة في الحمّام]

وعلى ذكر الحمّام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظن (2) :

وما أشبه الحمّام بالموت لامرىءٍ

تذكر؛ لكن أين من يتذكر

يجرّد عن أهلٍ ومالٍ وملبسٍ

ويصحبه من كلّ ذلك مئزر

(1) ب: خاسرة.

(2)

مطالع البدور 2: 13.

ص: 351

وقال الشهاب بن فضل الله (1) :

وحمّامكم كعبةٌ للوفود

تحجّ إليه حفاةً عراه

يكرر صوت أنابيبه

كتاب الطهارة باب المياه وقد تمثل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمّام، وافتتح الجواب بقوله (2) :

قد أجبنا وأنت أيضاً فصبّح

ت بصبحي سوالفٍ وسلاف

وبساقٍ يسبي العقول بساقٍ

وقوامٍ وفق العناق خلافي ووصله بنثرٍ تمثل فيه بالبيتين كما مر.

ولبعضهم (3) :

إن حمّامنا الذي نحن فيه

أيّ ماءٍ به وأيّة نار

قد نزلنا به على ابن معينٍ

وروينا عنه صحيح البخار [ي] وألغز بعضهم في الحمّام بقوله (4) :

ومنزل أقوامٍ إذا ما تقابلوا

تشابه فيه وغده ورئيسه

ينفّس كربي إذ ينفّس كربه

ويعظم أنسي إذ يقلّ أنيسه

إذا ما أعرت الجوّ طرفاً تكاثرت

على من به أقماره وشموسه رجع إلى ما كنّا فيه من كلام أهل الأندلس، فنقول:

(1) مطالع البدور 2: 11، 17.

(2)

مطالع البدور 2: 16.

(3)

المصدر نفسه: 10.

(4)

المصدر نفسه: 9.

ص: 352

138 -

وكان محمد بن خلف بن موسى البيري (1) متكلماً متحققاً برأي الأشعرية، وذاكراً لكتب الأصول في الاعتقاد، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب، ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى:

حبّ حبرٍ يكنى أباً للمعالي

هو ديني ففيه لا تعذلوني

أنا والله مغرمٌ بهواه

عللوني بذكره عللّوني 139 - وكتب (2) أبو الوليد ابن الجنان الشاطبي (3) يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته: نحن في مجلس أغصانه الندامة، وغمامه الصهباء، فبالله إلاّ ما كنت لروض مجلسنا نسيماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً، وللطيب ريحاً، وبيننا عذراء زجاجتها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها، أو شربها مقهقهةً فحمامة على فننها، طافت علينا طوفان القمر على منازل الحلول، فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل. انتهى.

وقال أبو الوليد المذكور:

فوق خدّ الورد دمعٌ

من عيون السّحب يذرف

برداء الشمس أضحى

بعدما سال يجفّف [حكاية مشرقية عن الورد والياسمين]

وتذكرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل، وكان شيخاً ظريفاً فيه آداب كثيرة، إذ قال:

(1) م: البشيري.

(2)

م: وكتب الوزير.

(3)

مرت ترجمته رقم: 68 في الراحلين إلى المشرق (2: 120) .

ص: 353

كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير، وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين، فاتفق أن دخل علي شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن ابن البرقعيدي، فقلت لهما: اعملا في هاتين الدائرتين، ففكرّا ساعة ثمّ قال المهذب:

يا حسنها دائرةً

من ياسمينٍ مشرق

والورد قد قابلها

في حلّةٍ من شفق

كعاشقٍ وحبّه

تغامزا بالحدق

فاحمرّ ذا من خجلٍ

واصفرّ ذا من فرق قال: فقلت للحسن: هات، فقال: سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى، وهو قولي:

يا حسنها دائرةً

من ياسمينٍ كالحلي

والورد قد قابلها

في حلّةٍ من خجل

كعاشقٍ وحبّه

تغامزا بالمقل

فاحمرّ ذا من خجلٍ

واصفرّ ذا من وجل قال: فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد، والمبادرة إلى حكاية الحال.

انتهى.

وما ألطف قول بعضهم:

أرى الورد عند الصبح قد مدّ لي فماً

يشير إلى التقبيل في حالة اللّمس

وبعد زوال الشمس ألقاه وجنةً

وقد أثّرت في وسطها قبلة الشمس

ص: 354

140 -

وقال ابن ظافر في " بدائع البدائه "(1) : اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فقال ابن القبطرنة:

هذي البسيطة كاعبٌ أبرادها

حلل الربيع وحليها النّوّار فقال ابن صارة:

وكأنّ هذا الجوّ فيها عاشقٌ

قد شفّه التعذيب والإضرار ثم قال ابن صارة أيضاً:

وإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ

وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة:

من أجل ذلّة ذا وعزة هذه

يبكي الغمام وتضحك الأزهار [بديهة ابن ظافر]

وتذكرت هنا ما حكاه ابن ظافر (2) في الكتاب المذكور أنّه اجتمع مع القاضي الأعز يوماً فقال له ابن ظافر: أجز:

طار نسيم الروض من وكر الزّهر

فقال الأعز:

وجاء مبلول

الجناح بالمطر انتهى.

(1) بدائع البدائه 1: 186 ومطالع البدور 1: 123.

(2)

البدائع 1: 70.

ص: 355

ويعجبني قول ابن قرناص (1) :

أظنّ نسيم الروض والزهر قد روى

حديثاً ففاحت من شذاه المسالك

وقال دنا فصل الربيع فكلّه

ثغورٌ لما قال النسيم ضواحك رجع إلى الأندلسيين:

141 -

وما أرق قول ابن الزقاق (2) :

ورياضٍ من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها

زهراتٍ تفوق لون الراح

قلت: ما ذنبها فقال مجيباً:

سرقت حمرة الخدود الملاح 142 - وقال أبو إسحاق ابن خفاجة (3) :

تعلقته نشوان (4) من خمر ريقه

له رشفها دوني ولي دونه السكر

ترقرق ماءً مقلتاي ووجهه

ويذكي على قلبي ووجنته الجمر

أرقّ نسيبي فيه رقّة حسنه

فلم أدر أيٌّ قبلها منهما السحر

وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنّما

له منطقي ثغرٌ ولي ثغره شعر 143 - وقال أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز (5) :

وقائلةٍ: ما بال مثلك خاملاً

أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز

فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنّني

لما لم يحوزه من المجد حائز

(1) مطالع البدور 1: 125.

(2)

ديوان ابن الزقاق: 125 والمغرب 2: 324 والشريشي 1: 120 وقد مرت ص: 200.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 353.

(4)

الديوان: ريان.

(5)

الخريدة 4 / 1: 277.

ص: 356

وما فاتني شيء سوى الحظّ وحده

وأما المعالي فهي عندي غرائز وقال:

جدّ بقلبي وعبث

ثمّ مضى وما اكترث

وا حربا (1) من شادنٍ

في عقد الصبر نفث

يقتل من شاء بعي

نيه ومن شاء بعث 144 - وقال البليغ الفاضل يحيى بن هذيل (2) أحد أعيان شعراء الأندلس:

نام طفل النبت في حجر النّعامى

لاهتزاز الطّلّ في مهد الخزامى

وسقى الوسميّ أغصان النّقا

فهوت تلثم أفواه الندامى

كحل الفجر لهم جفن الدجى

وغدا في وجنة الصبح لثاما

تحسب البدر محيّاً ثملٍ

قد سقته راحة الصبح مداما

حوله الزهر كؤوسٌ قد غدت

مسكة الليل عليهنّ ختاما وتذكرت هنا قول الآخر، وأظنّه مشرقيّاً (3) :

بكر العارض تحدوه النّعامى

فسقاك الريّ يا دار أماما

وتمشّت فيك أرواح الصّبا

يتأرّجن بأنفاس الخزامى

قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي

للمحبين مناخاً ومقاما

وبجرعاء الحمى قلبي، فعج

بالحمى واقرأ على قلبي السلاما

وترحّل فتحدّث عجباً

أنّ قلباً سار عن جسمٍ أقاما

قل لجيران الغضا آهاً على

طيب عيش بالغضا لو كان داما

(1) الخريدة: وا حزني.

(2)

الكتيبة الكامنة: 74 منسوبة خطأ لابن شقرال، ونثير الفرائد:322.

(3)

هي لمهيار الديلمي، ديوانه: 3: 327.

ص: 357

حمّلوا ريح الصّبا من نشركم

قبل أن تحمل شيحاً وثماما

وابعثوا أشباحكم لي في الكرى

إن أذنتم لجفوني أن تناما 145 - وخرج بعض علماء (1) الأندلس من قرطبة إلى طليطلة، فاجتاز بحريز (2) بن عكاشة الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدل على شجاعته وقوته وأيده، بقلعة رباح، فنزل بخارجها في بعض جنباتها، وكتب إليه:

يا فريداً دون ثان

وهلالاً في العيان

عدم الراح فصارت

مثل دهن البلسان فبعث إليه بها، وكتب معها:

جاء من شعرك روضٌ

جاده صوب اللسان

فبعثناها سلافاً

كسجاياك الحسان [أشعار لابن شهيد]

146 -

وقال الوزير أبو عامر ابن شهيد يتغزل (3) :

أصباحٌ (4) شيم أم برقٌ بدا

أم سنا المحبوب أورى زندا

هبّ من مرقده منكسراً

مسبلاً للكمّ مرخٍ للرّدا

يمسح النعسة من عيني رشاً

صائدٍ في كلّ يومٍ أسدا

(1) ب: شعراء؛ ق ودوزي: أدباء.

(2)

كذا في م؛ وفي ق: بجدير.

(3)

انظرها في الذخيرة 1 / 1: 223 والمطمح: 18 وديوان ابن شهيد: 49.

(4)

الذخيرة: أصفيح.

ص: 358

أوردته لطفاً آياته

صفوة العيش وأرعته ددا

فهو من دلٍّ عراه زبدةٌ

من مريجٍ لم تخالط زبدا

قلت هب لي يا حبيبي قبلة

تشف من عمك تبريح الصّدى

فانثنى يهتزّ من منكبه

مائلاً لطفاً وأعطاني اليدا

كلّما كلّمني قبّلته

فهو إمّا قال قولاً ردّدا

كاد أن يرجع من لثمي له

وارتشاف الثغر منه أدردا

وإذا استنجزت يوماً وعده

أمطل الوعد وقال: اصبر غدا (1)

شربت أعطافه ماء الصّبا

وسقاه الحسن حتّى عربدا

فإذا بتّ به في روضةٍ

أغيد يقرو (2) نباتاً أغيدا

قام في الليل بجيدٍ أتلعٍ

ينفض اللّمّة من دمع الندى

ومكانٍ عازبٍ عن جيرة

أصدقاءٍ وهم عين العدا

ذي نباتٍ طيّبٍ أعراقه

كعذار الشّعر في خدّ بدا

تحسب الهضبة منه جبلاً

وحدور الماء منه أبردا وقال يرثي القاضي ابن ذكوان، نجيب ذلك الأوان، وقد افتنّ في الآداب، وسنّ فيها سنّة ابن داب، وما فارق ربع الشباب شرخه، ولا استمجد في الكهولة عفاره ولا مرخه، وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه، ونسيم أنسه (3) :

ظننّا الذي نادى محقّاً بموته

لعظم الذي أنحى من الرّزء كاذبا

وخلنا الصباح الطّلق ليلاً وأنّنا

هبطنا خداريّاً من الحزن كاربا

ثكلنا الدّنى لمّا استقلّ وإنمّا

فقدناك يا خير البريّة ناعبا

وما ذهبت إذ حلّ في القبر نفسه

ولكنّما الإسلام أدبر ذاهبا

(1) الذخيرة: قال لي يمطل ذكرني غدا.

(2)

الذخيرة: يعرو؛ ب م ق: يغزو.

(3)

المطمح: 19؛ وديوانه: 23.

ص: 359

ولمّا أبى إلاّ التحمّل رائحاً

منحناه أعناق الكرام ركائبا

يسير به النعش الأعزّ وحوله

أباعد كانوا للمصاب أقاربا

عليه حفيفٌ للملائك أقبلت

تصافح شيخاً ذاكر الله تائبا

تخال لفيف الناس حوله ضريحه

خليط قطاً وافى الشريعة هاربا

إذا ما امتروا سحب الدموع تفرعت

فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا

فمن ذا لفصل القول يسطع نوره

إذا نحن ناوينا الألدّ المناوبا

ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم

إذا الناس شاموها بروقاً كواذبا

فيا لهف قلبي آهٍ ذابت حشاشتي

مضى شيخنا الدّفّاع عنّا النوائبا

ومات الذي غاب السرور لموته

فليس وإن طال السّرى منه آيبا

وكان عظيماً يطرق الجمع عنده

ويعنو له ربّ الكتيبة هائبا

وذا مقولٍ عضب الغرارين صارمٍ

يروح به عن حومة الدين ضاربا

أبا حاتمٍ صبر الأديب (1) فإنّني

رأيت جميل الصبر أحلى عواقبا

وما زلت فينا ترهب الدهر سطوةً

وصعباً بها نعي الخطوب المصاعبا

سأستعتب الأيّام فيك لعلّها

لصحّة ذاك الجسم تطلب طالبا

لئن أفلت شمس المكارم عنكم

لقد أسأرت بدراً لها وكواكبا قال في " المطمح "(2) : ودبّت إلى أبي عامر ابن شهيد أيّام العلويين عقارب، برئت بها منه أباعد وأقارب، واجهه بها صرف قطوب، وانبرت إليه منها خطوب، نبا لها جنبه عن المضجع، وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع، إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله، وعقلته في عقال أذهب ماله، فأقام مرتهناً، ولقي وهناً، وقال:

(1) ب م ق: الأديم.

(2)

المطمح: 20 وانظر الذخيرة 1 / 1: 224.

ص: 360

قريبٌ بمحتلّ الهوان مجيد

يجود ويشكو حزنه فيجيد

نعى صبره عند الإمام فيا له

عدوّ لأبناء الكرام حسود

وما ضرّه إلاّ مزاحٌ ورقّةٌ

ثنته سفيه الذكر وهو رشيد

جنى ما جنى في قبّة الملك غيره

وطوّق منه بالعظيمة جيد

وما فيّ إلاّ الشّعر أثبته الهوى

فسار به في العالمين فريد

أفوه بما لم آته متعرضاً

لحسن المعاني تارةً فأزيد

فإن طال ذكري بالمجون فإنّها

عظائم لم يصبر لها جليد

وهل كنت في العشاق أول عاقلٍ

هوت بحجاه أعينٌ وخدود

فراقٌ وشجوٌ واشتياقٌ وذلة

وجبّار حفّاظٍ عليّ عتيد

فمن يبلغ الفتيان أنّي بعدهم

مقيمٌ بدار الظالمين وحيد

مقيمٌ بدارٍ ساكنوها من الأذى

قيامٌ على جمر الحمام قعود

ويسمع للجنّان في جنباتها

بسيطٌ كترجيع الصّدى ونشيد

ولست بذي قيدٍ يرنّ، وإنّما

على اللحظ من سخط الإمام قيود

وقلت لصدّاح الحمام وقد بكى

على القصر إلفاً والدّموع تجود

ألا أيّها الباكي على من تحبّه

كلانا معنّىً بالخلاء فريد

وهل أنت دانٍ من محبٍّ نأى به

عن الإلف سلطانٌ عليه شديد

فصفّق من ريش الجناحين واقعاً

على القرب حتّى ما عليه مزيد

وما زال يبكيني وأبكيه جاهداً

وللشوق من دون الضّلوع وقود

إلى أن أبكى الجدران من طول شجونا

وأجهش بابٌ جانباه حديد

أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ

تصرّف في الأموال كيف تريد

فللشمس عنها بالنهار تأخّرٌ

وللبدر شحنا بالظلام صدود

ألا إنّها الأيام تلعب بالفتى

نحوسٌ تهادى تارةً وسعود

وما كنت ذا أيدٍ فأذعن ذا قوىً

من الدهر مبدٍ صرفه ومعيد

وراضت صعابي سطوةٌ علويةٌ

لها بارقٌ نحو الندى ورعود

ص: 361

تقول التي من بيتها كفّ مركبي

أقربك دانٍ أم مداك بعيد (1)

فقلت لها أمري إلى من سمت به

إلى المجد آباء له وجدود ثمّ قال (2) : ولزمته آخر عمره علّة دامت به سنين، ولم تفارقه حتّى تركته يد جنين، وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه، وإطلاقه من ذنب كان قنيصه، فطهره تطهيراً، وجعل ذلك على العفو له ظهيراً، فإنّها أقعدته حتّى حمل في المحفّة، وعاودته حتّى غدت لرونقه مشتفّة، وعلى ذلك فلم يعطل لسانه، ولم يبطل إحسانه، ولم يزل يستريح إلى القول، ويزيح ما كان يجده من الغول، وآخر شعر قاله قوله:

ولمّا رأيت العيش لوّى برأسه

وأيقنت أن الموت لا شكّ لاحقي

تمنّيت أنّي ساكنٌ في عباءةٍ (3)

بأعلى مهبّ الريح في رأس شاهق

أردّ (4) سقيط الطّلّ في فضل عيشتي

وحيداً وأحسو الماء ثني المعالق

خليليّ من ذاق المنيّة مرّةً

فقد ذقتها (5) خمسين، قولة صادق

كأني وقد حان ارتحالي لم أفز

قديماً من الدنيا بلمحة بارق

فمن مبلغٌ عنّي ابن حزمٍ وكان لي

يداً في ملمّاتي وعند مضايقي

عليك سلام الله إني مفارقٌ

وحسبك زاداً من حبيبٍ مفارق

فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني (6)

وتذكار أيّامي وفضل خلائقي

وحرّك له بالله من أهل فننّا (7)

إذا غيبوني كلّ شهمٍ غرانق

(1) م: نواك؛ ق ب: نداك بعيد.

(2)

المطمح: 21، وانظر الذخيرة 1 / 1:282.

(3)

الذخيرة: غيابة.

(4)

الذخيرة: أدر.

(5)

ق ب: من رام

فقد رمتها.

(6)

الخذيرة: فقدتني.

(7)

ق ب: مهما ذكرتني، وسقط البيت من م.

ص: 362

عسى هامتي في القبر تسمع بعضه

بترجيع شادٍ أو بتطريب طارق

فلي في ادّكاري بعد موتي راحةٌ

فلا تمنعوها لي علالة زاهق

وإني لأرجو الله فيما تقدّمت

ذنوبي به ممّا درى من حقائق 147 - وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن مستولياً على وزارة ابن عبيدة ولسانه ينشد:

وشيّدت مجدي بين أهلي ولم أقل

ألا ليت قومي يعلمون صنيعي وهجا ابن ذي النون بقوله:

تلقبت بالمأمون ظلماً، وإنّني

لآمن كلباً حيث لست مؤمّنه

حرامٌ عليه أن يجود ببشره

وأما الندى فاندب هنالك مدفنه

سطور المخازي دون أبواب قصره

بحجّابه للقاصدين معنونه فلمّا تمكّن منه المأمون سجنه، فكتب إلى ابن هودٍ من أبيات:

أيا راكب الوجناء بلّغ تحيّةً

أمير جذامٍ من أسيرٍ مقيّد

ولمّا دهتني الحادثات ولم أجد

لها وزراً أقبلت نحوك أعتدي (1)

ومثلك من يعدي على كلّ حادثٍ

رمى بسهامٍ للردى لم ترصد

فعلّك أن تخلو بفكرك ساعةً

لتنقذني من طول همٍّ مجدّد

وها أنا في بطن الثرى وهو حاملٌ

فيّسر على رقبى (2) الشفاعة مولدي

حنانيك (3) ألفاً بعد ألفٍ فإنّني

جعلتك بعد الله أعظم مقصدي

وأنت الذي يدري إذا رام حاجةً

تضلّ بها الآراء من حيث يهتدي

(1) ب: أغتدي.

(2)

م: رمل؛ ق: قيل.

(3)

م: حنانك.

ص: 363

فرّق له ابن هود، وتحيّل حتّى خلّصه بشفاعته، فلمّا قدم عليه أنشده:

حياتي موهوبةٌ من علاكا

وكيف أرى عادلاً عن ذراكا

ولو لم يكن لك من نعمةٍ

عليّ وأصبحت أبغي سواكا

لناديت في الأرض هل مسعفٌ

مجيبٌ فلم يصغ إلاّ نداكا فطرب ابن هود، وخلع عليه ثوب وزارته، وجعله من أعلام سلطنته وإمارته.

148 -

وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي: كيف ترى حالك معي فقال فوق قدري ودون قدرك، فأطرق المنصور كالغضبان، فانسلّ الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأت، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضرّني لو قلت له: إنّي بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء، وأنشدته (1) :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةً

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

ولمّا خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور، فوجد فرصة فقال: وصل الله لمولانا الظفر والسعد، إنّ هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة، ولا يرعون إلاًّ ولا ذمّة، كلاب من غلب، وأصحاب من أخصب، وأعداء من أجدب، وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم " والشّعراء يتّبعهم الغاوون

إلى مالا يفعلون "، والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنّك بقوم الصدق يستحسن إلاّ منهم فرفع المنصور رأسه، وكان محبّاً في أهل الأدب والشعر، وقد اسودّ وجهه، وظهر فيه الغضب المفرط، ثمّ قال: ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه، ويسيئون الأدب بالحكم فيما

(1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه:10.

ص: 364

لا يدرون أيرضي أم يسخط وأنت أيّها المنبعث للشرّ دون أن يبعث، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة، وحسدك لهم، لأن الناس كما قال القائل:

من رأى الناس له فض

لاً عليهم حسدوه وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصّة، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلّغ أحداً غرضه في أحد، ولو بلّغناكم بلغنا في جانبكم، وإنّك ضربت في حديد بارد، وأخطأت وجه الصواب، فزدت بذلك احتقاراً وصغاراً، وإنّي ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكاراً عليه، بل رأيت كلاماً يجلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجبت من تهدّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلّته من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكّمته في بيوت الأموال لرأيت أنّها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة (1) ، وإيّاكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منّا التغيّر عليهم، فإنّنا لا نتغير عليهم بغضاً لهم وانحرافاً عنهم، بل تأديباً وإنكاراً، فإنّا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير، بل ننبذه مرّة واحدة، فإن التغير إنّما يكون لمن يراد استبقاؤه، ولو كنت مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سبا، وجونبت أنا مجانبة الأجرب، وإنّي قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي، فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم؛ ثمّ أمر أن يردّ الرمادي وقال له: أعد عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمر على خلاف ما قدرت، الثواب أولى بكلامك من العقاب، فسكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلّم به، فقال المنصور: بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة؛ وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيّش منه، ثمّ ردّ رأسه إلى المتكلّم في شأن الرمادي،

(1) قلبه ذرة: سقطت من م.

ص: 365

وقد كان يغوص في الأرض لو وجد لشدة ما حلّ به ممّا رأى وسمع، وقال: والعجب من قوم يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب، نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها، ولا أيادٍ يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم (1) :

على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلّين السماحة والبذل وأين الذي قيل فيه (2) :

إنّما الدنيا أبو دلفٍ

بين مبداه (3) ومحتضره

فإذا ولّى أبو دلفٍ

ولّت الدنيا على أثره أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممّن قيل فيه هذا القول بلى، ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم، وخصتهم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم، ودرس فخرهم، انتهى.

[بنو صمادح]

149 -

ومن حكاياتهم في العدل أنه لمّا بنى المعتصم بن صمادح ملك المرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنّة وأحقوها بالصمادحية، وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه، فبينا المعتصم يوماً يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع، فأمر من يأتيه به، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها: إذا وقفت أيّها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى " إنّ هذا أخي له تسعٌ

(1) البيت لزهير بن أبي سلمة، ديوانه: 22 (شرح الأعلم) .

(2)

الشعر لعلي بن جبلة، انظر طبقات ابن المعتز:172.

(3)

م: باديه.

ص: 366

وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب " لا إله إلاّ الله، أنت ملك قد وسّع الله تعالى عليك، ومكّن لك في الأرض، ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضم إلى جنّتك الواسعة العظيمة قطعة أرضٍ لأيتام حرّمت بها حلالها، وخبثت طيبها، ولأن تحجبت عني بسلطانك، واقتدرت عليّ بعظم شأنك، فنجتمع غداً بين يدي من لا يحجب عن حق، ولا تضيع عنده شكوى.

فلمّا استوعب قراءتها دمعت عيناه، وأخذته خشية خيف عليه منها، وكانت عادته رحمه الله تعالى، وقال: عليّ بالمشتغلين ببناء الصمادحية، فأحضروا، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل، فلم يسعهم إلاّ صدقه، واعتذروا بأن نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر، فاستشاط غضباً وقال: والله إنّ عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق، ثمّ أمر بأن تصرف عليه، واحتمل تعويرها لصمادحيته. ولقد مرّ بعض أعيان المرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنّة الأيتام فقال أحدهم: والله لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب، فقال له: اسكت، فوالله إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره، وكان المعتصم إذا نظر إليها قال: أشعرتم أنّ هذا المكان المعوج في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية ثمّ إن وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتّى باعوها عن رضىً بما اشتهوا من الثمن، وذلك بعد مدة طويلة، فاستقام بها بناء الصمادحية، وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس، والجزاء عند الله تعالى.

150 -

ولمّا مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه وليّ عهده الواثق عز الدولة أبو محمد عبد الله (1)، وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول (2) :

(1) انظر الحلة 2: 90 حيث سماه " أبو مروان عبيد الله ".

(2)

الشعر في المغرب 2: 1.

ص: 367

لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملاً

بأرض اغترابٍ لا أمرّ ولا أحلي

وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي (1)

كما نسيت ركض الجياد بها رجلي

فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعرٍ

وكفّي لا تمتدّ يوماٌ إلى بذل قال ابن اللبانة الشاعر: ما علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عز الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة وإحياء الفضائل، ونظرت إلى همته تنم من تحت خموله كما ينم فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه، ورقة طباعه ولطافة ذهنه، ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستاذنه في ذلك، فلما أعلمت عز الدولة قال: يا أبا بكر لتعلم أنا اليوم في خمول وضيق لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحد، لاسيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة التفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه وألحاظ تفجعه ما يجد لنا هما قد بلي، ويحيي كمداً قد فني، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر، فكأنا لم نكشف حالنا لسوانا، ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا، فلا تحمل غيرك محملك، قال ابن اللبانة: فملأ والله سمعي بلاغة لاتصدر إلا عن سداد ونفس أبية متمكنة من أعنة البيان، وانصرفت متمثلاً:

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده

ولم يبق إلا صورة اللحم والدم

وكائن ترى من صامت لك معجبٍ

زيادته أو نقصه في التكلم

(1) المغرب: الهوادة؛ دوزي: منهلي.

ص: 368

وكتب إليه ابن اللبانة (1) :

يا ذا الذي هز أمداحي بحليته (2)

وعزه أن يهز المجد والكرما

واديك لازرع فيه اليوم تبذله

فخذ عليه لأيام المنى سلما فتحيل في قليل بر ووجهه إليه وكتب معه:

المجد يخجل من يفديك من زمن

ثناك عن واجب البر الذي علما

فدونك النزر من مصفٍ مودته

حتى يوفيك أيام المنى السلما ومن شعر عز الدولة المذكور (3) :

أفدي أبا عمرو وإن كان عاتباً

ملا خير في ود يكون بلا عتب

وما كان ذاك الود إلا كبارقٍ

أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي وقال الشقندي في الطرف: إن عز الدولة أشعر من أبيه.

151 -

وأما أخوه رفيع الدولة (4) الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضاً نظم رائق، ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس (5) :

يا أخي بل سيدي بل سندي

في مهمات الزمان الأنكد

لح بأفقٍ غاب عنه بدره

في اختفاءٍ من عيون الحسد

وتعجل فحبيبي حاضرٌ

وفمي يشتاق كأسي في يدي فأجابه ابن مطروح، وهو من أهل باغه، بقوله:

(1) البيتان في الحلة 2: 91 ومعهما رد ابن صمادح.

(2)

ب م ق: بحيلته.

(3)

هذا الشعر منسوب في الحلة (2: 96) والمغرب (2: 200) لرفيع الدولة.

(4)

انظر ترجمة رفيع الدولة في المطمح: 30 والحلة 2: 92 والمغرب 2: 199.

(5)

المغرب 2: 200.

ص: 369

أنا عبدٌ من أقل الأعبد

قبلتي وجهٌ بأفق الأسعد

كلما أظمأني وردٌ فما

منهلي إلا بذاك المورد

ها أنا بالباب أبغي إذنكم

والظما قد مد للكأس يدي وكان قد سلط عليه إنسان مختل إذا رآه يقول: هذا ألف لاشيء عليه، يعني أن ملكه ذهب عنه وبقي فارغاً منه، فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه، فقال: أنا أكفيك مؤونته، واجتمع مع الأحمق، واشترى له حلواء، وقال له: إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلم عليه وقبل يده ولا تقل هذا ألف لاشيء عليه، فقال: نعم، واشترط الوفاء بذلك، إلى أن لقيه فجرى نحوه وقبل يده وقال: هذا هو باء، بنقطة من أسفل، فقامت قيامة رفيع الدولة، وكان ذلك أشد عليه، وكان به علة الحصى فظن أن الأحمق علم ذلك وقصده، وصار كلما أحس به في موضع تجنبه.

واستأذن يوماً على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه {تلك أمةٌ قد خلت} (البقرة: 134، 141) استحقاراً له واستثقالاً للإذن له، فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه:

خلت أمتي لكن ذاتي لم تخل

وفي الفرع ما يغني إذا ذهب الأصل

وما ضركم لو قلتم قول ماجدٍ

يكون له فيما يجيء به الفضل

وكل إناء بالذي فيه راشحٌ

وهل يمنح الزنبور ما مجه النحل

سأصرف وجهي عن جنابٍ تحله

ولو لم تكن إلاّ إلى وجهك السبل

فما موضعٌ يحتله بمرفعٍ

ولا يرتضى فيه مقالٌ ولا فعل

وقد كنت ذا عذ لٍ لعلك ترعوي

ولكن بأرباب العلا يجمل العذل 152 - وأما أخوهما أبو جعفر ابن المعتصم (1) فله ترجمة في المسهب

(1) المغرب 2: 200.

ص: 370

والمطرب، ومن شعره:

كتبت وقلبي ذو اشتياقٍ ووحشةٍ

ولو أنّه يسطيع مرّ يسلّم

جعلت سواد العين فيه سواده

وأبيضه طرساً وأقبلت ألثم

فخيّل لي أنّي أقبّل موضعاً

يصافحه ذاك البنان المسلم وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع.

153 -

وقال أبو العلاء ابن زهر (1) :

تمت محاسن وجهه وتكاملت

لمّا بدا وعليه صدغٌ مونق

وكذلك البدر المنير جماله

في أن تكنّفه سماء أزرق 154 - وقال أبو الفضل ابن شرف:

يا من حكى البيدق في شكله

أصبح يحكيك وتحكيه

أسفله أوسع أجزائه

ورأسه أصغر ما فيه 155 - وقال ابن خفاجة (2) :

يا أيّها الصبّ المعنّى به

ها هو لاخلٌّ ولا خمر

سوّد ما ورّد من خدّه

فصار فحماً ذلك الجمر 156 - وقال أبو عبد الله البياسي:

صغر الرأس وطول العنق

شاهدا عدلٍ بفرط الحمق ولما سمعه أبو الحسن ابن حريق قال:

(1) مر البيتان ص: 247.

(2)

ديوان ابن خفاجة: 190.

ص: 371

صغر الرأس وطول العنق

خلقةٌ منكرةٌ في الخلق

فإذا أبصرتها من رجلٍ

فاقض في الحين له بالحمق 157 - وقال أبو الحسن ابن الفضل (1) يذكر مقاماً قامه سهل بن مالك وابن عياش (2) :

لعمري لقد سرّ الخلافة قائماً

بخطبته الغرّاء سهل بن مالك

وأما ابن عياشٍ ومن كان مثله

فضلّوا جميعاً بين تلك المسالك

ومات وماتوا حسرةً وحسادةً

وغيظاً فقلنا هالكٌ في الهوالك وسهل بن مالك له ترجمةٌ مطولة، رحمه الله تعالى.

158 -

ومن حكاياتهم في الوفاء (3) وحسن الاعتذار والقيام بحق الإخاء أن الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقاً للوزير هاشم بن عبد العزيز، ثابتاً على مودته، ولما قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعةٍ من خدامه، والوليد حاضر، فاستقصره، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد، فقال: أصلح الله تعالى الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، مبلياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه، فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم، وأيضاً فإنه ما قصد

(1) ترجمته في القدح: 108.

(2)

ب: وابن يعيش.

(3)

انظرها في المقتبس (تحقيق مكي) : 232 (الورقة 282 - أ) .

ص: 372

أن يجود بنفسه إلا رضىً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضى جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ، فأعجب الأمير كلامه، وشكر له وفاءه، وأقصر فيما بعد على تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه، واتصل الخبر بهاشم، فكتب إليه: الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان، وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا - جعل الله تعالى نعمته سرمداً - ما زادني بمودتك اغتباطاً، وبصداقتك ارتباطاً، ولذلك ما كنت أسد يدي على وصلك، وأخصك بإخائي، وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء، وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتم ما شرعت فيه، حتى تتكمل لك المنة، ويستوثق عقد الصداقة، إن شاء الله تعالى، وكتب إليه بشعر منه:

أيا ذاكري بالغيب في محفلٍ به

تصامت جمعٌ عن جوابٍ به نصري

أتتني والبيداء بيني وبينها

رقى كلماتٍ خلّصتني من الأسر

لئن قرّب الله اللّقاء فإنّني

سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر فأجابه الوليد: خلصك الله أيها البدر من سرارك، وعجل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك، وصلني شكرك على أن قلت ما علمت، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته من ذلك، والله تعالى شاهد، على أن ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق، ما أردت بها إلا أن أداء بعض ما أعتقده لك، وكم سهرت وأنا نائم، وقمت في حقي وأنا قاعد، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ثم ذكر أبياتاً لم تحضرني الآن.

159 -

ومن حكاياتهم في علو الهمة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر ابن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة، وبه نحويٌ حوله شباب يقرؤون، فنظروا إليه، وقالوا له مستهزئين به: مكا يحمل الفقيه وما يحسن من العلوم وما يقول فقال لهم: أحمل اثني عشر ألف دينار، وها هي تحت إبطي

ص: 373

وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة، كل واحدة منها بألف دينار، وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علماً أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه، وأما الذي أقول فأنتم كذا، وجعل يسبهم، هكذا نقلت هذه الحكاية من خط الشيخ أبي حيان النحوي، رحمه الله تعالى.

160 -

ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس (1) ، حكيم الأندلس، أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى، وصنع الآلة المعروفة بالمنقانة (2) ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، فتأذى في مؤخره، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات:

يطمّ على العنقاء في طيرانها

إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم وصنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضاً:

سماء عباسٍ الأديب أبي ال

قاسم ناهيك حسن رائقها

أمّا ضراط استه فراعدها

فليت شعري ما لمع بارقها

لقد تمنيت حين دوّمها

فكري بالبصق في است خالقها

(1) المغرب 1: 333 والمقتبس (تحقيق مكي) الورقة 256 ب.

(2)

في الأصول ودوزي: بالمناقلة؛ وهذه صورة من صور الكلمة وأقربها إلى اللفظ المغربي ما أثبتناه، إذ تسمى في المغرب " المنجانة " وهي البنكام أو البنكان الفارسية أي الساعة أو آلة حساب الوقت، وقد تصحفت في المغرب إلى " الميقاتة ".

ص: 374

وأنشد ابن فرناس الأمير محمداً من أبيات:

رأيت أمير المؤمنين محمداً

وفي وجهه بذر المحبة يثمر فقال له مؤمن بن سعيد: قبحاً لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر، فخجل وسبه.

[المشهورون بعلوم الأوائل](1)

161 -

وأول من اشتهر في الأندلس بعلن الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة، لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالماً بحركات الكواكب وأحكامها، وكان صاحب فقه وحديث، دخل المشرق، وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز، وبمصر من المزني وغيره.

ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، من أهل قرطبة، وكان بصيراً بالحساب والنجوم والنحو (2) واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل، ودخل إلى المشرق، وقيل: إنه كان معتزلي المذهب.

وأبو القاسم أصبغ بن السمح، وكان بارعاً في علم النجوم (3) والهندسة والطب، وله تآليف منها كتاب " المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس "، وكتاب كبير في الهندسة، وكتابان (4) في الأسطرلاب، وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند.

وأبو القاسم ابن الصفار، وكان عالماً بالهندسة والعدد والنجوم، وله زيج مختصر على مذاهب السند هند، وله كتاب في عمل الأسطرلاب.

ومنهم أبو الحسن الزهراوي، وكان عالماً بالعدد والطب والهندسة، وله

(1) يعتمد المقري في هذا الفصل على طبقات صاعد 64 - 72 ويستمد أيضا من الطرب: 223 - 224، وللمقارنة انظر ابن أبي أصيبعة 2: 36 - 49.

(2)

والنحو: سقطت من م.

(3)

ق ب: علم النحو.

(4)

ب: وكتاب.

ص: 375

كتاب شريف في المعاملات على طريق البرهان.

ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني، من أهل قرطبة، من الراسخين في علم العدد والهندسة، ودخل المشرق، واشتغل بحران، وهو أول من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس.

ومنهم أبو مسلم ابن خلدون من أشراف إشبيلية، وكان متصرفاً في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب؛ وتلميذه ابن برغوث، وكان عالماً بالعلوم الرياضية، وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني، وكان بصيراً بالهندسة والنجوم، وعبد الله بن أحمد السرقسطي، كان نافذاً في علم الهندسة والعدد والنجوم، ومحمد بن الليث، كان بارعاً في العدد والهندسة وحركات الكواكب، وابن حي، قرطبي بصير بالهندسة والنجوم، وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، ولحق بمصر، ودخل اليمن، واتصل بأميرها الصليحي القائم بدعوة المستنصر (1) العبيدي، فحظي عنده، وبعثه رسولاً إلى بغداد إلى القائم بأمر الله، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد، وابن الوقشي الطليطلي، عارف بالهندسة والمنطق والزيوج، وغيرهم ممن يطول تعدادهم.

وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها، وهو كما قال الشاعر:

وكان من العلوم بحيث يقضى

له في كلّ فنٍّ بالجميع ومن شعره قوله:

قد بيّنت فيه الطبيعة أنّها

بدقيق أعمال المهندس ماهره

عنيت بمبسمه فخطّت فوقه

بالمسك خطّاً من محيط الدائره

(1) ب: من المستنصر؛ ق ودوزي: معن المستنصر.

ص: 376

وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك، فقال:

لا أركب البحر ولو أنّني

ضربت فيه بالعصا فانفلق

ما إن رأت عيني أمواجه

في فرقٍ إلا تناهى الفرق وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند (1) مصنف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره، حتى إنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة، وعرف ترتيب قواها ودرجاتها، وكان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو يقرب منها، وإذا اضطر إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركبة ما وجد سبيلاً إلى المفردة، وإذا اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب، بل يقتصر على أقل ما يمكنه، وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه.

ومنهم ابن البيطار (2) ، وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقب بضياء الدين، وله عدة مصنفات في الحشائش لم يسبق إليها، وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة، أكل عقاراً قاتلاً فمات من ساعته، رحمه الله تعالى.

162 -

ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية، بل الأندلس في عصره، أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد (3) : أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم تختبروني أجبتكم، فقالوا: بسم الله، إنّا نريد أن نتحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها، حتى

(1) في أصول النفح ودوزي: شهيد؛ والتصويب عن ابن أبي أصيبعة (2: 49) .

(2)

ابن أبي أصيبعة 2: 133 والنفح 2: 691.

(3)

اختصار القدح: 158 والمغرب 1: 258 والتكملة رقم: 2025.

ص: 377

تعجبوا (1) ، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر، وهو ينشد وزن:

أرق على أرقٍ ومثلي يأرق

وسماره قد نام بعض وضل بعض، وهو ما فارق قافية القاف.

وقال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الأشراف بإشبيلية، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة، فمد الهيثم يده (2) إلى الديوان المذكور، فمنعه منه أحد الأدباء، فقال: يا أبا عمران، أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتاً، وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة، فقال: اسمعوني وأمسكوه، فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه، فأقسمنا عليه أن يكف، وشهدنا له بالحفظ.

وكان آية في سرعة البديهة، مشهوراً بذلك، قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً، وعلى ثانٍ موشحه، وعلى ثالثٍ زجلاً، كل ذلك ارتجالاً.

ولما أخذ الحصار بمخنق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين (3) ، ولا يدري حيث ولا أين.

ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان، وكتب به إلى صاحب الأنزال:

كم من يدٍ لك لا أقوم بشكرها

وبها أشير إليك إن خرست فمي

وقد استشرتك في الحديث فهل ترى

أن يدخل الغربان وكر الهيثم

(1) ق ب: تعجبوا.

(2)

ب: فمد يده الهيثم.

(3)

يعني خرج ولم يعد، فعل القارظين المضروب بهما المثل في عدم الأوبة.

ص: 378

وله (1) :

يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبةً

باب الغنيّ، كذا حكم المقادير

وإنّما الناس أمثال الفراش فهم

بحيث تبدو مصابيح الدنانير وله:

عندي لفقدك أوجالٌ أبيت بها

كأنّني واضعٌ كفّي على قبس

ولا ملامة إن لم أهد نيّره

حتى تمدّ إليها كفّ مقتبس

قد كنت أودع سرّ الشوق في طرس

لكنّني خفت أن يعدو على الطّرس وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه:

قف بالكثيب لغيرك التأنيب

إنّ الكثيب هوىً لنا محبوب

يا راحلين لنا عليكم وقفةٌ

ولكم علينا دمعنا المسكوب

تخلى الديار من المحبّة والهوى

أبداً وتعمر أضلعٌ وقلوب وقال ارتجالاً في صفة فرس أصفر:

أطرفٌ فات طرفي أم شهاب

هفا كالبرق ضرّمه التهاب

أعار الصبح صفحته نقاباً

ففرّ به وصحّ له النقاب

فمهما حثّ خال الصبح وافى

ليطلب ما استعار فما يصاب

إذا ما انقضّ كلّ النجم عنه

وضلّت عن مسالكه السحاب

فيا عجباً له فضل الدراري

فكيف أذال أربعه التراب

سل الأرواح عن أقصى مداه

فعند الريح قد يلفى الجواب 163 - وقال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية، فتشبث بي أهلها

(1) القدح: 159 والمغرب؛ 258 وقد تأخر موضعهما في ب بعد وصف الفرس.

ص: 379

يسمعوا علي الغريب المصنف، فقلت: انظروا من يقرأ لكم، وأمسكت أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بان سيده، فقرأه (1) علي من أوله إلى آخره، فعجبت من حفظه، وكان أعمى ابن أعمى، وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده، وهو صاحب كتاب " المحكم ".

ومن نظمه مما كتب به إلى ابن الموفق:

ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى

سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنى ومنها:

ضحيت فهل في برد ظللك نومةٌ

لذي كبدٍ حرّى وذي مقلةٍ وسنى وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره نحو الستين، رحمه الله تعالى.

164 -

ومن حكاياتهم في حب العلم أن المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبار كثير الأدب، جم المعرفة، محباً لأهل العلم، جماعةً للكتب، ذا خزانة عظيمة، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة، قاله ابن حيان.

وقال ابن بسام (2) : كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجك بالتذكرة والمشتهر أيضاً اسمه بالكتاب المظفري، في خمسين مجلداً، يشتمل على فنون وعلوم من مغازٍ وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب، أبقاه للناس (3) خالداً، وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة. وكان يحضر العلماء للمذاكرة، فيفيد

(1) ب: قرأه.

(2)

الذخيرة 2: 255.

(3)

الذخيرة: في الناس.

ص: 380

ويستفيد، رحمه الله تعالى.

165 -

ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب " السماء والعالم "(1) الذي ألفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة، وهو مائة مجلد، رأيت بعضه بفاس، وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.

[روح الفكاهة عند الأندلسيين]

ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم، وأجوبة بديهية مسكتة، والظرف فيهم والأدب كالغريزة، حتى في صبيانهم ويهودهم، فضلاً عن علمائهم وأكابرهم.

ولنذكر جملة من ذكر الجلة فنقول:

166 -

حكي عن عالم المرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني، وكان فيه حلاوة ولوذعية ووقار وسكون، أنه استدعاه يوماً زهير ملك المرية من مجلس حكمه، فجاءه يمشي مشية قاضٍ قليلاً قليلاً، فاستعجله رسول زهير، فلم يعجل، فلما دخل عليه قال له: يا فقيه، ما هذا البطء فتأخر إلى باب المجلس، وطلب عصا، وشمر ثيابه، فقال له زهير: ما هذا قال: هذا يليق باستعجال الحاجب لي، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولاني الشرطة، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله.

وهذا القاضي هو القائل - وقد دخل حماماً فجلس بإزائه عاميٌ أساء الأدب عليه -:

ألا لعن الحمّام داراً فإنّه

سواءٌ به ذو العلم بالعلم والجهل في القدر

تضيع به الآداب حتى كأنّها

مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر

(1) الجذوة: 110، 381.

ص: 381

167 -

وروي أن المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه - وكانت فيه فطنة ولوذعية - أبطأ خروجه يوماً إلى تلامذته، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه، فلما خرج قال له: يا أستاذ، علمت نصف بيت، وأريد أن تتمه، فقال ما هو فقال:

ألا بأبي شادنٌ أوطف

فقال الأستاذ ابن الفراء بديهاً:

إذا كان وردك لا يقطف

وثغر ثناياك لا يرشف

فأيّ اضطرارٍ بنا أن نقول:

ألا بأبي شادنٌ أوطف وهذا ابن الفراء هو القائل (1) :

قيل لي: قد تبدّلا

فاسل عنه كما سلا

لك سمعٌ وناظرٌ

وفؤادٌ فقلت: لا

قيل: غالٍ وصاله

قلت: لمّا غلا حلا

أيّها العاذل الذي

بعذابي توكّلا

عد صحيحاً مسلّماً

لا تعيّر فتبتلى وتذكرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه " روضة التعريف بالحب الشريف ":

قلت للساخر الذي

رفع الأنف واعتلى

أنت لم تأمن الهوى

لا تعيّر فتبتلى

(1) زاد المسافر: 100.

ص: 382

ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله (1) :

شكوت إليه بفرط الدّنف

فأنكر من قصتي ما عرف

وقال: الشهود على المدّعي

وأمّا أنا فعليّ الحلف

فجئنا إلى الحاكم الألمعيّ

قاضي المجون وشيخ الطّرف

وكان بصيراً بشرع الهوى

ويعلم من أين أكل الكتف

فقلت له: اقض ما بيننا

فقال: الشهود على ما تصف

فقلت له: شهدت أدمعي

فقال: إذا شهدت تنتصف

ففاضت دموعي من حينها

كفيض السحاب إذا ما يكف

فحرّك رأساً إلينا وقال:

دعوا دعوا يا مهاتيك هذا الصلف

كذا تقتلون مشاهيرنا

إذا مات هذا فأين الخلف

وأوما إلى الورد أن يجتنى

وأوما إلى الريق أن يرتشف

فلمّا رآه حبيبي معي

ولم يختلف بيننا مختلف

أزال العناد فعانقته

كأنّي لامٌ وحبّي ألف

فظلت عتابه في الجفا

فقال: عفا الله عمّا سلف 168 - وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية - وكان أعرج - أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية، فصادف جماعة في مركب (2) ، وكان ذلك بقرب الأضحى، فقال بعضهم له: بكم هذا الخروف وأشار إلى ولده، فقال له الزهري: ما هو للبيع، فقال: بكم هذا التيس وأشار إلى الشيخ الزهري، فرفع رجله العرجاء وقال: هو معيب لا يجزئ في الضحية، فضحك كل

(1) زاد المسافر: 99.

(2)

ب: وكان ذلك في مركب.

ص: 383

من حضر، وعجبوا من لطف خلقه.

وركب مرة هذا النهر مع الباجي يوم خميس، فلما أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة، والباجي حاضر قدامه، فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محل الحدث، وأخرج لسانه، فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة، يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد، رحمه الله تعالى.

169 -

ومر العالم أبو القاسم ابن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنة لحد الأعيان فيها ورد فوقف بالباب وكتب إليه:

شاعر قد عراك يبغي أباه

عندما اشتاق حسنه وشذاه

وهو بالباب مصغياً لجوابٍ

يرتضيه النّدى فماذا تراه فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد فبادر من جملته إلبه، وأقسم في النزول عليه، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه.

170 -

وحكي أن أبا الحسين سليمان بن الطراوة نحوي المرية حضر مع ندماء، وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه، فلما بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب، وأبدى القطوب، فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه، ويا بردها على كبده، ثم قال بديهاً:

يشربها الشيخ وأمثاله

وكلّ من تحمد أفعاله

والبكر إن لم يستطع صولةً

تلقى على البازل أثقاله ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام بكأس في يده فقال:

ألا بأبي وغير أبي غزالٌ

أتى وبراحه للشرب راح

فقال منادمي في الحسن صفه

فقلت الشّمس جاء بها الصّباح

ص: 384

وقال فيمن جاء بالراح:

ولمّا رأيت الصبح لاح بخدّه

دعوتهم رفقاً تلح لكم الشمس

وأطلعها مثل الغزالة وهو كال

غزال فتمّ الطيب واكتمل الأنس وقال، وقد شرب ليلة القمر:

شربنا بمصباح السماء مدامةً

بشاطي غديرٍ والأزاهر تنفح

وظلّ جهولٍ يرقب الصبح ضلّةً

ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح 171 - وكان أبو عبد الله ابن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يشرب مع ندماء ظراف في جنة بهجة، فجاءت ورقة من ثقيل يرغب في الإذن، وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس:

سيّدي هذا مكانٌ

لا يرى فيه بلحيه

غير تيسٍ مصفعان

يّ له بالصّفع كديه

أو له ابنٌ شافعّ في

هـ فيلقى بالتحيّه

أيّها القابل بادر

سائقاً تلك المطيّه وكان مدغليس هذا مشهوراً بالانطباع والصنعة في الأزجال، خليفة ابن قزمان في زمانه، وكان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبي تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى، ومدغليس ملتفت للفظ وكان أديباً معرباً بكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه.

ومن شعره قوله:

ما ضرّكم لو كتبتم

حرفاً ولو باليسار

إذ أنتم نور عيني

ومطلبي واختياري

ص: 385

172 -

وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء - المذكور قبل هذا بقريب - الضرير، في صبي كان يقرأ عليه النحو اسمه حسن، وهو في غاية الجمال - بعد أن سأله: كيف تقول إذا تعجبت من حسنك فقال أقول: ما أحسني -:

يا حسناً مالك لم تحسن

إلى نفوسٍ بالهوى متعبه

رقمت بالورد وبالسسوسن

صفحة خدّ بالسنا مذهبه

وقد أبى صدغك أن أجتني

منه وقد ألدغني عقربه

يا حسنه إذ قال ما أحسني

ويا لذاك اللّفظ ما أعذبه

ففوّق السهم ولم يخطني

وإذ رآني ميّتاً أعجبه

وقال كم عاش وكم حبّني

وحبّه إيّاي قد عذّبه

يرحمه الله على أنّني

قتلي له لم أدر ما أوجبه وهذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة، ذكره ابن غالب في " فرحة الأنفس في فضلاء العصر من الأندلس " وكان شاعراً مجيداً، يعلم بالمرية القرآن والنحو واللغة، وكانت فيه فطنة ولوذعية، وذكاء وألمعية، خرق بها العوائد.

وحكي أن قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس، واختبره في ذلك بحكاية طويلة.

وذكره صفوان في " زاد المسافر " ووصفه بالخطيب.

[رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين]

وجده القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في " المغرب "، ولما كتب أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى أهل المرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه: فما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن

ص: 386

الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بضجيعه في قبره، ولا من لا يشك في عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام، انتهى.

173 -

وأما ابن الفراء الأخفش بن ميمون (1) الذي ذكره الحجاري فيه " المسهب " فليس هو من هؤلاء، بل هو من حسن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد، وتأدب في قرطبة، ثم عاد إلى حضرة غرناطة، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي، وهو القائل:

صابح محياه تلق النجح في الآمال

وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل

ما إن يلاقي خليلٌ فيه من خللٍ

وكلّما حال صرف الدهر لم يحل وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة، ومن هجاء المنفتل (2) له قوله:

لابن ميمون قريضٌ

زمهرير البرد فيه

فإذا ما قال شعراً

نفقت سوق أبيه ولما وفد على المرية مدح رفيع الدولة ابن المعتصم ابن صمادح بشعر، فقال له

(1) المغرب 2: 182.

(2)

ق ب: ومن هجائه المنفتل له؛ والبيتان في الذخيرة 2 / 1: 264.

ص: 387

بعض من أراد ضره: يا سيدي لا تقرب هذا اللعين، فإنه قال في اليهودي:

ولكنّ عندي للوفاء (1) شريعةً

تركت بها الإسلام يبكي على الكفر فقال رفيع الدولة: هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع، فلولا وفاؤه ما بكى كافراً بعد موته وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلماً في حياته. وقال فيه المنفتل (2) :

إن كنت أخفش عينٍ

فإنّ قلبك أعمى

فكيف تنثر نثراً

وكيف تنظم نظما ومن شعر الأخفش المذكور قوله:

إذا زرتم غبّاً فلم ألق بالبرّ

وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذكر

فإنّي إذن أولى الورى بفراقكم

ولا سيّما بعد التجلّد والصبر ولما وفد على المنصور ابن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني (3) اتهم برهق في دينه، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي، والطليق غلام وسيم، وكان ابن مسعود كلفاً به يومئذ وفيه يقول:

غدوت في السجن (4) خدناً لابن يعقوب

وكنت أحسب هذا في التكاذيب

رامت عداتي تعذيبي وما شعرت

أنّ الذي فعلوه ضدّ تعذيبي

راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها

فكان ذلك إدنائي وتقريبي

لم يعلموا أنّ سجني لا أبا لهم

قد كان غاية مأمولي ومرغوبي

(1) ب: في الوفاء.

(2)

المغرب 2: 184.

(3)

في الأصول ودوزي: البجالي؛ وترجمته في الجذوة: 86؛ وانظر الذخيرة 1 / 2: 79.

(4)

الذخيرة: الجب.

ص: 388

وانطلق ابن مسعود والطليق قبله، ووقع بينه وبين الطليق، وعاد المدح هجاء، فقال فيه (1) :

ولي جليسٌ قربه منّي

بعد الأماني كذباً (2) عنّي

قد قذيت من لحظه مقلتي

وقرحت من لفظه أذني

راهنني في السجن من قربه

أشدّ في السجن من السجن

لو أنّ خلقاً كان ضدّاً له

زاد على يوسف في الحسن

إذا ارتمى فكري في وجهه

سلّط إبطيه على ذهني

كأنّما يجلس من ذا وذا

بين كنيفين من النّتن وقال يخاطب المنصور من السجن:

دعوت لمّا عيل صبري فهل

يسمع دعواي المليك الحليم

مولاي مولاي ألا عطفةٌ

تذهب عنّي بالعذاب الأليم

إن كنت أضمرت الذي زخرفوا

عنّي فدعني للقدير الرحيم

فعنده نزّاعةٌ للشّوى

وعنده الفردوس ذات النعيم 175 - وركب بعض أهل المرية في وادي إشبيلية، فمر على طاقة من طاقات شنتبوس، وهو يغني:

خلّين من واد ومن قوارب

ومن نزاها في شنتبوس

غرس الحبق الذي في داري

أحب عندي من العروس (3) فأخرجت رأسها جارية وقال له: من أي البلاد أنت يا من غنى فقال:

(1) الذخيرة: 83.

(2)

الذخيرة: كلها.

(3)

في ق ب ودوزي: الفردوس، وهو خطأ؛ والعروس من متنزهات إشبيلية.

ص: 389

من المرية، فقالت: وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفاً أحرش، وهذا من أحسن تعييب، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية، فإن وجهها النهر العذب، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب، لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج، وأين إشبيلية من المرية، وفي المرية يقول السميسر شاعرها:

بئس دار المرية اليوم داراً

ليس فيها لساكنٍ ما يحبّ

بلدةٌ لا تمار إلا بريحٍ

ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ يشير إلى مرافقها مجلوبة، وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة، وفيها يقول أيضاً:

قالوا المريّة فيها

نظافةٌ قلت: إيه

كأنّها طست تبر

ويبصق الدم فيه 176 - وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخٌ ضخم الجثة مستثقل، فقال البياسي (1) :

اسقني الكأس ضاحيه

ودع الشيخ ناحيه فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي:

إن تكن ساقياً له

ليس ترويه ساقيه 177 - وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمالقة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي ابن حسون، وقال له: كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته فقال: وكيف أنت تركت ملكك لعدوك فقال: ضرورة القدرة حملتني على ذلك، فقال: وأنا أيضاً حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته.

(1) المغرب 1: 427.

ص: 390

ومن نظم القاضي المذكور:

رفعت من دهري إلى جائر

ويبتغي العدل بأحكامي

أضحت به أملاكه مثل أش

كال خيالٍ طوع أيام

هذا لما أبرم ذا ناقضٌ

كأنّهم في حكم أحلام 178 - وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي (1) قاضي مالقة جرى - كما قال الحجاري - في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح، إلى أن دعاه النذير، فاهتدى منه بسراج منير، وأحلته تلك الرجعة، فيما شاء من الرفعة. وقال بعض معاشريه: كنت أماشيه زمن الشباب، فكلما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب، أمال إليه طرفه، ولم ينح عنها صرفه، ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر، فرأيته يغض البصر، ويخلي الطريق معرضاً إلى ناحية، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية، فقالت له في ذلك، فقال:

ذاك وقتٌ قضيت فيه غرامي

من شبابي في سترة الإظلام

ثمّ لمّا بدا الصباح لعيني

من مشيبي ودّعته بسلام (2) ومن شعره في صباه:

لا ترتجوا رجعتي باللّوم عن غرضي

ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس

طلبتم ردّ قلبي عن صبابته

ومن يردّ عنان الجامح الشرس ولما أقصر باطله، وعريت أفراسه الصبا ورواحله، قال (3) :

(1) ترجمة الوحيدي في المغرب 1: 431 وبغية الملتمس (ص: 326) والصلة: 290 والمرقبة العليا: 104.

(2)

م: بالسلام.

(3)

البيتان في المغرب 1: 431.

ص: 391

ولمّا بدا شيبي عطفت على الهدى

كما يهتدي حلف السّرى بنجوم

وفارقت أشياع الصبابة والطّلا

وملت إلى أهلي علاً وعلوم 179 - ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله ابن الفخار، وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين، وهو قد غص بأربابه، وقال: إنه لمقام كريم، نبدأ فيه بحمد الله على الدنو منه، ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم، أما بعد فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميراً، وجعلك للدين الحنيف نصيراً وظهيراً، ونفزع إليك مما دهمنا في حماك، ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك، ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين، ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الحصين، شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده، وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام، ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته، ما علمنا عليه من سوء، ولا درينا له موقف خزي، ولم يزل جارياً على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو حسون إلى الطعن في أحكامه، والهد من أعلامه، ةلم يعلموا أن اهتضام المقدم، راجعٌ على المقدم، بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصموا، وفعلوا وأمضوا ما به هموا.

وإلى السحب يرفع الكف من قد

جف عنه مسيل عين ونهر فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه.

ومن شعر ابن الفخار المذكور، ويعرف بابن نصف الربض، قوله:

أمستنكرٌ شيب المفارق في الصّبا

وهل ينكر النّور الفتح في الغصن

أظنّ طلاب المجد شيّب مفرقي

وإن كنت في إحدى وعشرين من سني

ص: 392

وقوله:

أقلّ عتابك إنّ الكريم

يجازي على حبّه بالقلى

وخلّ اجتنابك إنّ الزّمان

يمرّ بتكديره ما حلا

وواصل أخاك بعلاته

فقد يلبس الثوب بعد البلى

وقل كالذي قال شاعرٌ

نبيلٌ وحقّك أن تنبلا

إذا ما خليلٌ أسا مرّةً

وقد كان في ما مضى مجملا

ذكرت المقدّم من فعله

فلم يفسد الآخر الأولا 180 - ولما وفد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته الفائقة وهي (1) :

مطل الليل بوعد الفلق

وتشكّى النجم طول الأرق

ضربت ريح الصّبا مسك الدجى

فاستفاد الروض طيب العبق

وألاح الفجر خدّاً خجلاً

جال من رشح الندى في عرق

جاوز الليل إلى أنجمه

فتساقطن سقوط الورق

واستفاض الصبح فيه فيضةً

أيقن النجم لها بالغرق

فانجلى ذاك السنا عن حلكٍ

وانمحى ذاك الدجى عن شفق

بأبي بعد الكرى طيفٌ سرى

طارقاً عن سكنٍ لم يطرق

زارني والليل ناعٍ سدفه

وهو مطلوبٌ بباقي الرّمق

ودموع الطّلّ تمريها الصّبا

وجفون الروض غرقى الحدق

فتأنّى في إزارٍ ثابتٍ

وتثنّى في وشاحٍ قلق

وتجلّى وجهه عن شعره

فتجلى فلقٌ عن غسق

نهب الصبح دجى ليلته

فحبا الخدّ ببعض الشفق

(1) انظرها في الذخيرة (3: 277) وبعضها في المغرب 2: 230.

ص: 393

سلبت عيناه حدّي سيفه

وتحلّى خدّه بالرونق

وامتطى من طرفه ذا خببٍ

يلثم الغبراء إن لم يعنق

أشوس الطرف علته نخوةٌ

يتهادى كالغزال الخرق

لو تمطّى بين أسراب المها

نازعته في الحشا والعنق

حسرت دهمته عن غرّةٍ

كشفت ظلماؤها عن يقق

لبست أعطافه ثوب الدجى

وتحلّى خدّه باليقق

وانبرى تحسبه أجفل عن

لسعةٍ أو جنةٍ أو أولق

مدركاً بالمهل ما لا ينتهي

لاحقاً بالرّفق ما لم يلحق

ذو رضىً مستترٍ في غضبٍ

ذو وقارٍ منطوٍ في خرق

وعلى خدٍّ كعضبٍ أبيضٍ

أذنٌ مثل سنانٍ أزرق

كلّما نصّبها مستمعاً

بدت الشهب إلى مسترق

حاذرت منه شبا خطّيّة

لا يجيد الخطّ ما لم يمشق

كلّما شامت عذاري خدّه

خفقت خفق فؤاد الفرق

في ذرا ظمآن فيه هيفٌ

لم يدعه للقضيب المورق

يتلقّاني بكفٍّ (1) مصقعٍ

يقتفي شأو عذارٍ مفلق

إن يدر دورة طرفٍ يلتمح

أو يجل جول لسانٍ ينطق

عصفت ريحٌ على أنبوبه

وجرت أكعبه في زئبق

كلّما قلّبه باعد عن

متن ملساء كمثل البرق

جمع السّرد قوى أزرارها

فتآخذن بعهدٍ موثق

أوجبت في الحرب من وخز القنا

فتوارت حلقاً في حلق

كلّما دارت بها أبصارها

صوّرت منها مثال الحدق

زلّ عنه متن مصقول القوى

يرتمي في مائها بالحرق

(1) دوزي: بكعب.

ص: 394

لو نضا وهو عليه ثوبه

لتعرى عن شواظٍ محرق

أكهبٌ من هبواتٍ أخضرٌ

من فرندٍ أحمرٌ من علق

وارتوت صفحاه حتى خلته

بحيا منٍّ لكفّيك سقي

يا بني معنٍ لقد ظلّت بكم

شجرٌ لولاكم لم تورق

لو سقي إحسان إحسانكم

ما بكى ندمانه في جلّق

أو دنا الطائيّ من حيّكم

ما حدا البرق لربع الأبرق

أبدعوا في الفضل حتى كلّفوا

كاهل الأيّام ما لم يطق فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه، وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم، فقال له: من أي البوادي أنت قال: أنا من الشرف في الدرجة العالية، وإن كانت البادية علي بادية، ولا أنكر حالي، ولا أعرف بخالي، فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كل من حضر.

وابن شرف المذكور (1) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي، ولد ببرجة، وقيل: إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين، ومن نظمه قوله:

رأى الحسن ما في خدّه من بدائعٍ

فأعجبه ما ضمّ منه وحرّفا

وقال لقد ألفيت فيه نوادراً

فقلت له لا بل غريباً مصنّفا وقوله:

قد وقف الشكر بي لديكم

فلست أقوى على الوفاده

ونلت أقصى المراد منكم

فصرت أخشى من الزياده

(1) ترجمة أبي الفضل ابن شرف في المغرب 2: 230 والذخيرة (3: 276) والقلائد: 252 والصلة: 129 والمطرب: 71 وبغية الملتمس ص: 239.

ص: 395

وقوله:

إذا ما عدوّك يوماً سما

إلى رتبةٍ لم تطق نقضها

فقبّل ولا تأفن كفّه

إذ أنت لم تستطع عضّها وقوله، وقد تقدم على كل شاعر:

لم يبقى للجور في أيامهم أثرٌ

إلا الذي في عيون الغيد من حور وأول هذه القصيدة قوله:

قامت تجرّ ذيول العصب والحبر

ضعيفة الخصر والميثاق والنظر وكان قد قصر أمداحه على المعتصم، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات، فوفد عليه مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها، وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله:

لم يبق للجور

البيت

فقال له: كم في القرية التي تحرث فيها فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال له: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقع له بها، وعزل عنها نظر كل والٍ.

وله ابنٌ فيلسوف شاعر مثله، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل (1) المذكور، وهو القائل:

وكريمٍ أجارني من زمانٍ

لم يكن منخطوبه لي بدّ

منشدٍ كلّما أقول تناهى

ما لمن يبتغي المكارم حدّ

(1) ترجمته في المغرب 2: 232 والمسالك 11: 238.

ص: 396

181 -

وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر (1) ، من أعيان مالقة، متفنن في علوم شتى، إلا أن الغالب عليه علم اللغة، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية، فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية، وهو القائل في ابن شرف المذكور:

قولوا لشاعر برجةٍ هل جاء من

أرض العراق فحاز طبع البحتري

وافى بأشعارٍ تضجّ بكفّه

وتقول هل أعزى لمن لم يشعر

يا جعفراً ردّ القربض لأهله

واترك مباراةً لتلك الأبحر

لا تزعمن ما لم تكن أهلاً له

هذا الرّضاب لغير فيك الأبخر وذكره ابن اليسع في معربه (2) وقال: إنه حدثه بداره في مقالة وهو ابن مائة سنة، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة، وله تآليف منها " شرح كتاب النبات " لأبي حنيفة الدينوري، في ستين مجلداً، وغير ذلك.

وغانٍ خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي، نسب إليه بشهرة ذكره، وعلو قدره.

182 -

ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد ابن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر، وكان قد ضجر منه، فقال:

الشعر خطّة خسف

فقال ابن عبدون معرضاً به حين كان مستجدياً بالنظم، وكان إذ ذاك شيخاً:

لكلّ طالب عرف

(1) ترجمته في المغرب 1: 433 وبغية الوعاة: 106 وأبياته في المغرب 1: 433.

(2)

في الأصول ودوزي: مغربه.

ص: 397

للشيخ عيبة عيبٍ

وللفتى ظرف ظرف وابن ضابظ هو القائل في المظفر ابن الأفطس:

نظمنا لك الشعر البديع لأنّنا

علمنا بأنّ الشعر عندك ينفق

فإن كنت منّي بامتداح مظّفرا

فإنّي في قصدي إليك موفقّ (1) ودخل غانم المخزومي السابق ذكره، وهو من رجال الذخيرة، على الملك ابن حبوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال (2) :

صير فؤادك للمحبوب منزلة

سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين

ولا تسامح بغيضاً في معاشرتي

فقلّما تسع الدنيا بغيضين وهو القائل:

وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحاً

فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا

وقد كنت في مدحيك سبحان وائل

فها أنا من فرط التأسّف باقلا وله أيضاً:

الصبر أولى بوقار الفتى

من ملك يهتك ستر الوقار

من لزم الصبر على حالةٍ

كان على أيامه بالخيار 184 - وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله ابن السراج، وقد قدم من سفر (3) :

(1) انظر التكملة: 407.

(2)

مر البيتان، انظر ص: 265 وانظر بدائع البدائه 2: 123.

(3)

البيتان في المغرب 1: 436.

ص: 398

يا من أقلّب طرفي في محاسنه

فلا أرى مثله في الناس إنسانا

لو كنت تعلم ما لقّيت بعدك ما

شربت كأساّ ولا استحسنت ريحانا فورد عليه من حينه وقال: أردت مجاوبتك، فخفت أن أبطئ، وصنعت الجواب في الطريق:

يامن إذا ما سقتني الراح راحته

أهدت إليّ بها روحاً وريحانا

من لم يكن في صباح السبت يأخذها

فليس عندي بحكم الظرف إنسانا

فكن على حسن هذا اليوم مصطحبا

مذكّراً حسناً فيه وإحسانا

وفي البساتين إن ضاق المحل بنا

مندوحةٌ لا عدمنا الدهر بستانا 185 - ووفد أبو علي الحسن بن كسرين (1) المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار، كل مطار، وهو:

قسماً بحمصٍ إنّه لعظيم

فهي المقام وأنت إبراهيم 186 - ووصف الشاعر عطاء المالقي غادةً جعلت على رأسها تاجاً فقال:

وذات تاج رصّعوا دوره

فزاد في لألائها باللآل

كأنّها شمسٌ وقد توّجت

بأنجم الجوزاء فوق الهلال

قد اشتكى الخلخال منها إلى

سوارها فاشتبها في المقال

وأجريا ذكر الوشاح الذي

لمّا يزل من خصرها في مجال

فقال: لم أرض بما نلته

وليتني مثلكما لا أزال

أغصّ بالخصر وأعيا به

كغصّ ظمآنٍ بماء زلال

وإنّما الدهر بغير الرضى

يقضي فكلٌّ غير راضٍ بحال

(1) في التحفة: 91 ابن كسرى، وكذلك في التكملة:264.

ص: 399

وهو القائل:

سل بحمّامنا الذي

كلّ عن شكره ثمي

كم أراني بقربه

جنّةً في جهنم 187 - وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته، فانقطع لعارضٍ، فخرج السهيلي ماراً في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه، فوجد قناة تصلح، فمنعته من المرور، فرجع وسلك طريقاً آخر، فمر على دار تلميذه الوضيء، فقال له بعض أصحابه ممازحاً بعبوره على منزله، فقال: نعم، وأنشد ارتجالاً:

جعلت طريقي على بابه

وما لي على بابه من طريق

وعاديت من أجله جيرتي

وآخيت من لم يكن لي صديق

فإن كان قتلي حلالاً لكم

فسيروا بروحي سيراً رفيق وأبو القاسم السهيلي مشهور، عرف به ابن خلكان وغيره، ويكنى أيضاً بأبي زيد، وهو صاحب كتاب " الروض الأنف " وغيره.

واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه، وكان غائباً عنهم، فاستأجر من أركبه دابة، وأتى به إليه، فوقف بإزائه، وأنشد (1) :

يا دار أين البيض والآرام

أم أين جيرانٌ عليّ كرام

راب المحبّ من المنازل أنّه

حيّا فلم يرجع غليه سلام

لمّا أجابني الصّدى عنهم ولم

يلج المسامع للحبيب كلام

طارحت ورق حمامها مترنّماً

بمقال صبّ والدموع سجام

" يادار ما فعلت بك الأيام

ضامتك والأيام ليس تضام "

(1) الأبيات في المغرب 1: 370.

ص: 400

وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي:

عفى الله عنّي فإنّي امرؤٌ

أتيت السلامة من بابها

على أنّ عندي لمن هاجني

كنائن غصّت بنشّابها

ولو كنت أرمي بها مسلماً

لكان السهيلي أولى بها وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزرت قبره بها مراراً سنة عشر وألف، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة، ولازم القاضي أبا بكر ابن العربي وابن الطراوة، وعنه أخذ لسان العرب، وكان ضريراً.

ومن شعره أيضاً لما قال: " كيف أمسيت " موضع " كيف أصبحت ":

لئن قلت صبحاً كيف أمسيت مخطئا

فما أنا في ذاك الخطا بملوم

طلعت وأفقي مظلمٌ لفراقكم

فخلتك بدراً والمساء همومي 188 - وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل ابن حسداي الإسلامي السرقسطي، وهو من رجال الذخيرة، عشق جاريةً ذهبت بلبه، وغلبت على قلبه، فجن به جنونه، وخلع عليها دينه، وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه، وجعل زمامها في يديه، فتجافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها، فحسن ذكره، وخفي على كثير من الناس أمره، ومن شعره قوله (1) :

وأطربنا غيمٌ يمازج شمسه

فيستر طوراً بالسحاب ويكشف

ترى قزحاً في الجوّ يفتح قوسه

مكبّاً على قطنٍ من الثلج يندف وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد، فدخل الوزير الكاتب أبو

(1) البيتان في الذخيرة (3: 164) .

ص: 401

الفضل ابن الدباغ وأراد أن يندر به، فقال له، وكان ذلك بعد إسلامه: يا أبا الفضل، ما الذي تنظر فيه من الكتب، لعله التوراة فقال: نعم، وتجليدها من جلدٍ دبغه من تعلم، فمات خجلاً، وضحك المقتدر.

189 -

وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له، فكتب إليه:

بالراح والريحان والياسمين

وبكرة الندمان قبل الأذين

وبهجة الروض بأندائه

مقلداً منه بعقدٍ ثمين

ألا أجب سبقاً ندائي إلى ال

كأس تبدّت لذة الشاربين

هامت بها الأعين من قبل أن

يخبرها الذوق بحقّ اليقين

لاحت لدينا شفقاً معلناً

فكن له بالله صبحاً مبين 190 - وكتب علي بن خير التطيلي (1) إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس: أنا - أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفم - في مجلس قد عبقت تفاحه، وضحكت راحه (2) ، وخفقت حولنا للطرب ألوية، وسالت بيننا للهو أودية، وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها (3) ، وصحيفة فكن (4) عنوانها، فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد، لنحصل بك في جنة الخلد، صقلت نفوساً أصدأها بعدك، وأبرزت شموساً (5) أدجاته فقدك.

(1) هذا النص في الذخيرة (3: 256) وقد صدره ابن بسام بقوله " وأخبرت أن بعض أدباء الثغر استدعى هذا الشيخ (يعني أبا الصمد؛ وكان في عصر أبي حفص ابن برد الأصغر، فهو غير أبي بحر ابن عبد الصمد) لمجلس أنس بهذا النثر: أنا أطال الله بقاء الكاتب

إلخ.

(2)

الذخيرة: وصفت أقداحه.

(3)

الذخيرة: فنحن لنأيك عنا مقلة تسأل إنسانها.

(4)

الذخيرة: نشر.

(5)

الذخيرة: وأنرت سرجا؛ وهو أجود.

ص: 402

فأجابه أبو (1) عبد الصمد: فضضت - أيها الكاتب العليم، والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك، فمنحني منه جوهر منتخب، لا يشوبه مخشلب، هو السحر إلا أنه حلال، دل على ود حنيت ضلوعك عليه، ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه، فسألت فالق الحب، وعامر القلب بالحب، أن يصون لي حظي منك، ويدرأ لي النوائب عنك، ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك، وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك، إلا عارض ألمٍ ألم بي فقيد بقيده نشاطي، وروى براحته بساطي، وتركني أتململ على فراشي كالسليم، وأستمطر الإصباح من الليل البهيم، وأنا منتظر لإدباره.

191 -

ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو ابن سالم المالقي قال: كنت جالساً بمنزلي بمالقة، فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يوماً شديد الحر، فراودتها على القعود، فلم تمكني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إني كنت أدعوا الله تعالى أن يأتيني بك، وقد فعل، فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني، ثم جلست عنده، فقال: أنشدني، فأنشدته لبعض الأندلسيين:

غصبوا الصباح فقسّموه خدودا

واستوعبوا قضب الأراك قدودا

ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم

فتقلدوا شهب النجوم عقودا

لم يكفهم حدّ الأسنّة والظّبى

حتى استعاروا أعيناً وخدودا فصاح الشيخ، وأغمي عليه، وتصبب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني اعذرني فشيئان يقهراني، ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع، انتهى. وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب

(1) في الأصول: ابن.

ص: 403

بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس، لا لابن دريد كما ذكره بعضهم، وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي، كما في كتاب " المغرب " لابن سعيد العنسي المشهور، رحمه الله تعالى.

192 -

وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار، وهو يبيع لحم ضأن (1) :

لحم إناث الكباش مهزول

فقال يحيى:

يقول للمشترين مه زولوا

193 - وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة (2) :

أسدٌ ولو أنّي أنا

قشه الحساب لقلت صخره

وكأنّه أسد السما

ء يمجّ من فيه المجرّه 194 - وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين، وافقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة، فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها (3) :

ضاحك عن جمان

سافر عن بدر

ضاق عنه الزمان

وحواه صدري خرق كل منهم موشحته.

195 -

وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللاردي الأصبحي،

(1) انظر زاد المسافر: 98.

(2)

ديوان التطيلي: 249.

(3)

أزهار الرياض 2: 208.

ص: 404

وكانت ذا جمال ونادرة، فحكم لزوجها عليها، فقالت له: من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا، تشير إلى قوله:

أين قلبي أضاعه كلّ طرفٍ

فاترٍ يصرع الحليم لديه

كلمّا ازداد ضعفه ازداد فتكاً

أيّ صبرٍ ترى يكون عليه 196 - وحضر أبو إسحاق ابن خفاجة مجلساً بمرسية مع أبي محمد جعفر ابن عنق الفضة الفقيه السالمي، وتذاكرا، فاستطال ابن عنق الفضة، ولعب بأطراف الكلام، ولم يكن ابن خفاجة يعرفه، فقال له: يا هذا لم تترك لأحد حظاً في هذا المجلس، فليت شعري من تكون فقال: أنا القائل:

الهوى علّمني سهد الليال

ونظام الشعر في هذي اللآل

كلّما هبّت شمالٌ منهم

لعبت بي عن يمينٍ وشمال

وأرقّت فكرتي أرواحها

فأتت منهنّ بالسحر الحلال

كان كالملح أجاجاً خاطري

وسحاب الحبّ أبدته زلال فاهتز ابن خفاجة، وقال: من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل، ولك المعذرة في جهلك، فإنك لم تعرفنا بنفسك، فبالله من تكون فقال: أنا فلان، فعرفه وقضى حقه.

197 -

وحكى ابن غالب في " فرحة الأنفس " أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير (1) وأبا عامر ابن غندشلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد، عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود، لإصلاح ما كان بين المعتمد مبين ابن ذي النون، فسر المعتمد بهم وأكرمهم، ودعاهم إلى طعام صنعه لهم، وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك، فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب، فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر:

(1) لعله: ابن بشتغير كما ورد من قبل ص: 259.

ص: 405

بقيت حاجة لعبد رغيب (1)

لم يدع غيرها له من نصيب

أنا خيرية المساء حديثاً

وأنا في الصباح أخشى رقيبي

فإذا أمس كان عندي نهاراً

لم تخفني عليه بعد الغروب

وإذا الليل جنّ حدّثت جلا

سي بما كان من حديثٍ عجيب

قيل إن الدّجى لديك نهارٌ

وكذاك الدّجى نهار الأريب

فتمنّيت ليلةً ليس فيها

لذ كا ذلك السّنا من مغيب

حيث أعطيك في الخلاء وتعطي

ني مداماً كمثل ريق الحبيب

ثم أغدو كأنّني كنت في النو

م وأخفي المنام خوف هزيب والهزيب: الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس، فسر المعتمد وانبسط بانبساطه، وضحك من مجونه، وكتب إليه:

يا مجاباً دعا إلى مستجيب

فسمعنا دعاءه من قريب

إن فعلت الذي دعوت إليه

كنت فيما رغبت عين رغيب واستحضره فنادمه خالياً، وكساه ووصله، وانقلب مسروراً، وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير، فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين، فكاد يتفطر حسداً وكتب إلى المعتمد:

أنا عبدٌ أوليته كلّ برّ

لم تدع (2) من فنون برّك فنّا

غير رفع الحجاب في شربك الرا

ح فماذا جناه أن يتجنّى

وتمنّى شراب سؤرك في الكأ

س فبالله أعطه ما تمنّى فسرته أبياته، وأجابه:

(1) م: غريب.

(2)

في الأصول: لم يدع.

ص: 406

يا كريم المحلّ في كلّ معنى

والكريم المحلّ ليس يعنّى

هذه الخمر تبتغيك فخذها

أو فدعها أو كيفما شئت كنّا 198 - وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان ابن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ، وكان القارئ فيه بله، فلما وصل إلى قوله:

حرام حرام زمان الفقير

اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به، فقال القارئ: أين وقفت فقال: في حر آم، فقام الملك، وقال: هذا موضع لا أقف معك فيه، ادخل أنت وحدك، ثم دخل إلى قصره، وانقلب المجلس ضحكاً.

199 -

وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر، وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي (1)، وذكره الحجاري في " المسهب " وقال: إن له شعراً أرق من نسيم السحر، وأندى من الطلّ على الزهر، ومنه قوله:

ما ضركم لو بعثتم

ولو بأدنى تحيّه

تهزّني من شذاها

إليكم الأريحيّه

خذوا سلامي إليكم

مع الرياح النّديّه

في كلّ سحرة (2) يومٍ

تترى وكلّ عشيّه

يا ربّ طال اصطباري

ما الوجد إلا بليّه

غيلان بالشرق أضحى

وحلّت الغرب ميّه وقوله:

سأبغي المجد في شرقٍ وغربٍ

فما ساد الفتى دون اغتراب

(1) انظر المغرب 2: 340 وبعض أبياته هنالك.

(2)

المغرب: غرة.

ص: 407

فإن بلّغت مأمولاً فإنّي

جهدت ولم أقصر في الطلاب

وإن أنا لم أفز بمراد سعيي

فكم من حسرةٍ تحت التراب 200 - وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه:

ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ

فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس

كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً

إذا ما توارت في مغاربها الشمس وقال ابن دحية: دخلت عليه وهو يتوضأ، فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالاً، فأنشدني لنفسه ارتجالاً (1) :

ولمّا رأيت الشيب أيقنت أنّه

نذيرٌ لجسمي بانهدام بنائه

إذا ابيضّ مخضرّ النبات فإنّه

دليلٌ على استحصاده وفنائه 201 - واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر ابن الفرج (2) وزير المأمون بن ذي النون، وهو من رجال الذخيرة والقلائد (3) ، فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق، وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئاً، فكتب إليه يستهديه (4) :

ابعث بها مثل ودّك

أرقّ من ماء خدّك

شقيقة النفس، فانضح

بها جوى ابني وعبدك وهو القائل معتذراً عن تخلّفه عمن جاءه منذراً (5) :

(1) المطرب: 80.

(2)

ترجم له صاحب المطمح: 15 وانظر الذخيرة (القسم الثالث) والمغرب 2: 303 والحلة 2: 171.

(3)

كذا قال ابن سعيد أيضا ولكن ليست لابن فرج ترجمة في القلائد المطبوع، وإنما ترجمته في المطمح.

(4)

البيتان في المطمح والحلة.

(5)

انظر المصدرين السابقين.

ص: 408

ما تخلّفت عنك إلاّ لعذرٍ

ودليلي في ذاك خوفي عليكا

هبك أنّ الفرار من غير عذرٍ

أتراه يكون إلاّ إليكا وله من رسالة هناء:

أهنئ بالعيد من وجهه

هو العيد لو لاح لي طالعا

وأدعو إلى الله سبحانه

بشملٍ يكون لنا جامعا وكتب إلى الوزير المصري (1) يستدعيه أن يكون من ندمائه، فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم، فلما أراده كتب إليه (2) :

ها قد أهبت بكم وكلّكم هوىً

وأحقّكم بالشكر منّي السابق

كالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها

فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن ابن طاهر، وكان ممتع المجالسة كثير النادرة:

قد رأينا منك الذي قد سمعنا

فغدا الخبر عاضد الأخبار

قد وردنا لديك بحراً نميراً

وارتقينا حيث النجوم الدراري

ولكم مجلسٍ لديك انصرفنا

عنه مثل الصّبا عن الأزهار 202 - وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق (3) عشيةً مع من يهواه، ورام الانفصال عنه لداره، فمنعه سيلٌ حال بينه وبين داره، فبات عنده على غير اختياره، فقال ابن حريق (4) :

(1) هو أبو محمد المصري: (أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي) .

(2)

الشعر في الحلة والمطمح.

(3)

ترجمته في المغرب 2: 318 وزاد المسافر: 23 والتكملة: 629 والفوات 2: 70.

(4)

هذه القطعة واللتان تليانها في المغرب: 319، 318.

ص: 409

يا ليلةً جادت الليالي

بها على رغم أنف دهري

للسيل فيها عليّ نعمى

يقصر عنها لسان شكري

أبات في منزلي حبيبي

وقام في أهله بعذر

فبتّ لا حالةٌ كحالي

ضجيع بدرٍ صريع سكر

يا ليلة القدر في اللّيالي

لأنت خيرٌ من ألف شهر ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله:

يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى

حلف النوى وحبيبه بالمشرق

لولا الحذار على الورى لملأت ما

بيني وبينك من زفيرٍ محرق

وسكبت دمعي ثمّ قلت لسكبه

من لم يذب من زفرةٍ فليغرق

لكن خشيت عقاب ربي إن أنا

أحرقت أو أغرقت من لم أخلق وله:

لم يبق عندي للصّبا لذّةٌ

إلا الأحاديث على الخمر وله:

فقبّلت إثرك فوق الثرى

وعانقت ذكرك في مضجعي وله (1) :

إنّ ماءً كان في وجنتها

وردته السنّ حتى نشفا

وذوى العنّاب من أنملها

فأعادته الليالي حشفا وأورد له بحر في " زاد المسافر " قوله:

(1) زاد المسافر، 22، 23، 24 (ثلاث قطع) .

ص: 410

كلّمته فاحمرّ من خجلٍ

حتى اكتسى بالعسجد الورق

وسألته تقبيل راحته

فأبى وقال أخاف أحترق

حتى زفيري عاق عن أملي

إنّ الشّقيّ بريقه شرق وقوله في السواقي:

وكأنّما سكن الأراقم جوفها

من عهد نوحٍ مدّة الطوفان

فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت

من كل خرقٍ حيّةٌ بلسان 203 - وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء (1) :

أيّها الفاضل الذي قد هداني

نحو من قد حمدته باختبار

شكر الله ما أتيت وجازا

ك ولا زلت نجم هدي لساري

أيّ برقٍ أفاد أيّ غمامٍ

وصباحٍ أدّى لضوء نهار

وإذا ما النسيم كان دليلي

لم يحلني إلاّ على الأزهار 204 - وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعراً يقول فيه:

ولو لم أكن عبداً لآل صمادحٍ

وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي

لما كان لي إلا إليهم ترحّلٌ

وفي ظلّهم أمسي وأضحي وأغتدي فارتاح، وقال: يا ابن عبادة، ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد، فاشرح لنا في أملك، فقال: أنا عبدكم كما قال ابن نباتة:

لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

(1) مرت الأبيات ص: 207.

ص: 411

فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال: إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع، ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به، ونبهني إليه كل وقت، فأقام نديماً لوليّ العهد المذكور.

وله فيهما الموشحات المشهورة، كقوله (1) :

كم في قدود البان

تحت اللمم من أقمر عواطي

بأنملٍ وبنان

مثل العنم لم تنبري للعاطي 205 - ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته، ثم قال له: أنشدني ما قلت في، فقال له: وحق من حصلني في يدك ما قلت شراً فيك، وإنما قلت:

رأيت آدم في نومي فقلت له:

أبا البرية إنّ الناس قد حكموا

أن البرابر نسلٌ منك، قال: إذن

حواء طالقةٌ إن كان ما زعموا فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي، فخرجت هارباً إلى بلادك فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك، ويكون الإثم عليك، فقال: وما قلت فيه خاصة مضافاً إلى ما قلته في عامة قومه فقال: لما رأيته مشغوفاً بتشييد قلعته التي فيها بغرناطة قلت:

يبني على نفسه سفاهاً

كأنّه دودة الحرير فقال له المعتصم: لقد أحسنت في الإساءة إليه، فاختر: هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه فارتجل:

خيّرني المعتصم

وهو بقصدي أعلم

(1) انظر هذه الموشحة في دار الطراز: 60.

ص: 412

وهو إذا يجمع لي

أمناً ومنّاً أكرم فقال: خاطرك خاطر شيطان، ولك المن والأمان، فأقام في إحسانه بأوطانه، حتى خلع عن ملكه وسلطانه.

206 -

ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها (1) :

سبط البنان كأنّ كلّ غمامةٍ

قد ركّبت في راحتيه أناملا

لا عيش إلا حيث كنت، وإنّما

تمضي ليالي العمر بعدك باطلا التفت إلي من حضر من الشعراء وقال: هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا فقال أبو جعفر ابن (2) الخراز البطرني (3) : نعم، ولكن للسعادة هبات، وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتاً أقول فيها (4) :

وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ

ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد

ثمار أيادٍ دانياتٍ قطوفها

لأغصانها ظلّ عليّ ممدّد

يرى جارياً ماء المكارم تحتها

وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد فارتاح المعتصم، وقال: أأنت أنشدتني هذا قال: نعم، قال: والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن، صدقت، للسعد هبات، ونحن نجيزك بجائزتين: الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها، انتهى.

(1) الذخيرة 1 / 2: 195.

(2)

ابن: سقطت من م ب.

(3)

هو أبو جعفر أحمد بن الخراز (الجزار في المغرب) البطرني (نسبة إلى بطرنة من قرى بلنسية) وهو الذي أثار ابن غرسية إلى كتابة رسالته في الشعوبية وعارضه أبو جعفر برسالة تناظرها (المغرب 2: 355 والحاشية) .

(4)

الأبيات في المغرب 2: 356.

ص: 413

207 -

وقال بعض ذرية (1) ملوك غشبيلية:

نثر الورد بالخليج وقد درّ

جه بالهبوب مرّ الرياح

مثل درع الكميّ مزقها الطع

ن فسالت بها دماء الجراح 208 - وقال ابن صارة في النارنج (2) :

كرات عقيق في غصون زبرجدٍ

بكفّ نسيم الريح منها صوالج

نقبّلها طوراً وطوراً نشمّها

فهنّ خدودٌ بيننا ونوافج [أشعار لابن الزقاق]

209 -

وقال أبو الحسن ابن زقاق ابن أخت ابن خفاجة (3) :

وما شقّ وجنته عابثاً

ولكنّها آيةٌ للبشر

جلالها لنا الله كيما نرى

بها كيف كان انشقاق القمر وقال:

ضربوا ببطن الواديين قبابهم

بين الصوارم والقنا الميّاد

والورق تهتف حولهم طرباً بهم

فبكلّ محنية ترنّم شادي

يا بانة الوادي كفى حزناً بنا

أن لا نطارح غير بانة وادي وقال:

نحن في مجلسٍ به كمل الأن

س ولو زرتنا لزاد كمالا

(1) ذرية: سقطت من م. والبيتان لابن الزقاق (ديوانه: 131) .

(2)

من أبيات في الذخيرة (2: 325) .

(3)

انظر هذه القطع في ديوان ابن الزقاق: 179، 144 والقطع الثلاث الأخيرة لم ترد في ديوانه؛ والقطعة الأولى مرت في النفح ص:290.

ص: 414

طلعت فيه من كؤوس الحميّا

ومن الزهر أنجمٌ تتلالا

غير أنّ النجوم دون هلالٍ

فلتكن منعماً لهنّ الهلالا وقال:

وهويتها سمراء غنّت وانثنت

فنظرت من ورقاء في أملودها

تشدو ووسواس الحليّ يجبيها

مهما انثنت في وشيها وعقودها

أوليس من بدع الزمان حمامة

غنّت فغنّى طوقها في جيدها وقال:

لئن بكيت دماً والعزم من شيمي

على الخليط فقد يبكي الحسام دما [أشعار للحجام]

210 -

وقال أبو تمام غالب ابن رباح الحجام (1) في دولابٍ طار منه لوحٌ فوقف (2) :

وذات شدوٍ وما لها حلمٌ

كلّ فتىً بالضمير حيّاها

وطار لوحٌ بها فأوقفها

كلمحة العين ثمّ أجراها وكان المذكور ربي في قلعة رباح غربي طليطلة، ولا يعلم له أب، وتعلم الحجامة فأتقنها، ثم تعلق بالأدب حتى صار آية، وهو القائل في ثريا الجامع (3) :

تحكي الثريّا الثريّا في تألّقها

وقد عراها نسيمٌ فهي تتّقد

(1) ترجمة أبي تمام غالب الحجام في الذخيرة (3: 256) والمغرب 2: 40 والمسالك 11: 451.

(2)

الذخيرة: 261.

(3)

المصدر نفسه: 260.

ص: 415

كأنّها لذوي الإيمان أفئدةٌ

من التخشّع جوف الليل ترتعد وقال:

زرت الحبيب ولا شيءٌ أحاذره

في ليلةٍ قد لوت بالغمض أجفارا

في ليلةٍ خلت من حسنٍ كواكبها

دراهماً وحسبت البدر دينارا وقال في الثريا أيضاً:

انظر إلى سرجٍ في الليل مشرقةٍ

من الزجاج تراها وهي تلتهب

كأنّها ألسن الحيّات قد برزت

عند الهجير فما تنفكّ تضطرب وقال (1) :

ترى النّسر والقتلى على عدد الحصى

وقد مزّقت أحشاءها والترائبا

مضرّجةً ممّا أكلن كأنّها

عجائز بالحنّا خضبن ذوائبا وقال، وقد أبدع غاية الإبداع، وأتى بما يحير الألباب، وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب:

وكأسٍ ترى كسرى بها في قرارةٍ

غريقاً ولكن في خليجٍ من الخمر

وما صورته فارساً عبثاً به

ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السحر

أشاروا بما كانوا له في حياته

فنومي إليه بالسجود وما ندري وما أحلى قوله (2) :

الأقحوان رمى عليك ظلامةً

لمّا عنفت عليه بالمسواك

(1) المصدر نفسه: 261.

(2)

الذخيرة: 262.

ص: 416

لا يحمل النّور الأنيق تمسّه

كفٌّ بعود بشامةٍ وأراك

وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى

من أن يراع عراره بسواك وقوله (1) :

صغار الناس أكثرهم فساداً

وليس لهم لصاحةٍ نهوض

ألم تر في سباع الطير سرباً

تسالمنا ويأكلنا البعوض وقد بلغ غاية الإحسن في قوله (2) :

فما للملك ليس يرى مكاني

وقد كحلت لواحظه بنوري

كذا المسواك مطّرحاً مهانا

وقد أبقى جلاءً في الثغور ومن حسناته قوله (3) :

لي صاحبٌ ما كان من صاحبٍ

فإنّه في كبدي جرحه

يحكي إذا أبصر لي ذلّةٍ

ذبابةٍ تبصر في قرحه ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرسٍ في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى، وكانا في جماعتين، فقال له: يا أبا تمام أنشدني قولك:

وتحتي ريحٌ تسبق الريح إن جرت

وما خلت أنّ الريح ذات قوائم

لها في المدى سبقٌ إلى كلّ غايةٍ

كأنّ لها سبقاً يفوق عزائمي

وهمّة نفسي نزهتها عن الوجا

فيا عجباً حتى العلا في البهائم فلما أنشده إياها رد رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال: ناشدتكم الله

(1) المغرب 2: 40 والذخيرة: 263.

(2)

المغرب: 41.

(3)

الذخيرة: 264.

ص: 417

أيجوز لحجام على فرس مثل هذه الرمكة الهزيلة العرجاء، أن يقول مثل هذا فضحك جميع من حضر، وأقبل أبو تمام في غيظه يسبه.

ومن شعر الحجام المذكور قوله:

لا يفخر السيف والأقلام في يده

قد صار قطع سيوف الهند للقصب

فإن يكن أصلها لم يقو قوّتها

" فإنّ في الخير معنىً ليس في العنب " وقال:

ثقلت على الأعداء إلاّ أنّها

خفّت على السّبّاب والإبهام

أخذت من الليل البهيم سواده

وبدت تنمّق أوجه الأيام وقال (1) :

نظر الحسود فازدرى لي هيئةً

والفضل منّي لا يزال مبينا

قبحت صفاتي من تغيّر ودّه

صدأ المرات يقبّح التحسينا وقال (2) :

تصبّر وإن أبدى العدوّ مذمّةً

فمهما رمى ترجع إليه سهامه

كما يفعل النّحل الملمّ بلسعه

يريد به ضرّاً وفيه حمامه وقال:

وبارد الشعر لم يؤلم به ولقد

أضرّ منه جميع النّاس واعتزلا

كأنّه الصلّ لا تأذيه ريقته

حتى إذا مجّها في غيره قتلا

(1) الذخيرة: 263.

(2)

المصدر نفسه: 263.

ص: 418

211 -

وقال ابن الزقاق (1) :

دعاك خليلٌ والأصيل كأنّه

عليلٌ يقضي مدة الرمق الباقي

إلى شطّ منسابٍ كأنّك ماؤه

صفاء ضميرٍ أو عذوبة أخلاق

ومهوى جناحٍ للصّبا يمسح الرّبى

خفيّ الخوافي والقوادق خفّاق

على حين راح البرقّ في الجوّ مغمداً

ظباه ودمع المزن من جفنه راق

وقد حان منّي للرياض التفاتةٌ

حبست بها كأسي قليلاً عن الساق

على سطح خيريّ ذكرتك فانثنى

يميل بأعناقٍ ويرنو بأحداق

فصل زهراتٍ منه هذا كأنّها

وقد خضلت قطراً محاجر عشّاق 212 - ولما مدح الحسيب أبو [محمد] القاسم بن مسعدة (2) الأوسي (3) أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله:

حنانيك مدعوّاً ولبّيك داعيا

فكلٌ بما ترضاه أصبح راضيا

طلعت على أرجائنا بعد فترةٍ

وقد بلغت منّا النفوس التراقيا

وقد كثرت منّا سيوفٌ لدى العلا

ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا

وغيرك نادينا زماناً فلم يجب

وعزمك لم يحتج علاه مناديا كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء، فلما وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال: إنما يكتب هذا في جملة الحسباء، لا تدنسوه بهذه النسبة، فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه، ثم أجزل صلته، وأمر له بضيعة يحرث له بها، يعني بذلك أنه من ذرية ملوك، لأن جده كان ملك وادي الحجارة.

(1) ديوانه: 286 (عن النفح) .

(2)

ب: سعدة.

(3)

م: الأونبي؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 26 وسماه في المغرب " أبو محمد القاسم " ولذلك صوبناه في النفح؛ والمطرب: 216 وبغية الوعاة: 377؛ وأبياته هذه في المغرب.

ص: 419

213 -

وقال أبو بكر محمد بن أزرق (1) :

هل علم الطائر في أيكه

بأنّ قلبي للحمى طائر

ذكّرني عهد الصّبا شجوه

وكلّ صبّ للصّبا ذاكر

سقى عهوداً لهم بالحمى

دمعٌ له ذكرهم ناثر 214 - وقال أبو جعفر ابن أزرق (2) :

أراك ملكت الخافقين مهابةً

بها ما تلحّ الشّهب بالخفقان

وتغضي العيون عن سناك كأنّها

تقابل منك الشمس في اللمعان

وتصفرّ ألوان العداة كأنّما

رموا منك طول الدهر باليرقان 215 - وقال أبو القاسم ابن أزرق:

ذاك الزمان الذي تقضّى

يا ليته عاد منه حين

بكلّ عمري الذّي تبقّى

وما أنا في الشّرا غبين 216 - وقال راشد بن عريف الكاتب (3) :

جمّع في مجلسٍ ندامى

تحسدني فيهم النجوم

فقال لي منهم نديم (4) :

ما لك إذ قمت لا تقوم

فقلت: إن قمت كلّ حين

فإن حظّي بكم عظيم

وليس عندي إذن ندامى

بل عندي المقعد المقيم

(1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 28 ويكتب فيه " أزراق ".

(2)

ترجمته وشعره في المغرب 2: 29.

(3)

ترجمته وشعره في المغرب 2: 32.

(4)

المغرب: خليل.

ص: 420

217 -

وقال الحسيب أبو جعفر ابن عائش (1) :

ولي أخٌ أورده سلسلاً

لكنّه يوردني مالحا

ألقاه كي أبسطه ضاحكاً

ويلتقيني أبداً كالحا

وليس ينفكّ عنائي به

ما رمت من فاسده صالحا قال الحجاري: وكتب إلى إبراهيم في يوم صحوٍ بعد مطر:

إذا رأيت الجو يصحو فلا

تصح، سقاك الله، من سكر

تعال فانظر لدموع الندى

ما فعلت في مبسم الزهر

ولا تقل إنّك في شاغلٍ

فليس هذا آخر الدهر

يخلف ما فات سوى ساعةٍ

تقنص فيه لذّة الخمر فأجابه:

لبّيك لبّيك ولو أنّني

أسعى على الرأس إلى مصر

فكيف والدار جواري وما

عندي من شغلٍ ولا عذر

ولو غدا لي ألف شغلٍ بلا

عذرٍ تركت الكلّ للحشر

وكلّما أبصرني ناظرٌ

بباكم عظّم من قدري

أنا الذي يشربها دائماً

ما حضرت في الصحو والقطر

وليس نقلي أبداً بعدها

إلا الذي تعهد من شكري قال الحجاري: ولم يقصر جدي في جرابه، وكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه، ولو لم يكن له إلا قوله " تعال فانظر - إلخ " لكفاه، قال: وفيه يقول جدي إبراهيم يمدحه:

(1) هو أحمد بن عائش أحد أعيان وادي الحجارة، وكان في زمان المأمون بن ذي النون ملك طليطلة (المغرب 2: 27) .

ص: 421

ولو كان ثانٍ في الندى لابن عائشٍ

لما كان في شرقٍ وغربٍ أخو فقر

يهشّ إلى الأمداح كالغصن للصّبا

وبشر محيّاه ينوب عن الزهر

فيا ربّ زد في عمره إنّ عمره

حياة أناسٍ قد كفوا كلفة الدهر وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها، ولما قدمه ليقتله قال: إرفق علي أخاصم عن نفسي، فقال: على لسانك قتلناك، فقال له: لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه! فقال بجبروته: ما رهبنا السيوف الحداد، نرهب دعاء الحساد!

218 -

وقال أبو [علي] الحسن بن علي [بن] شعيب (1) :

انزعي الوشي فهو يستر حسناً

لم تخزه برقمهنّ الثياب

ودعيني عسى أقبّل (2) ثغراً

لذّ فيه اللمى وطاب الرّضاب

وعجيبٌ أن تهجريني ظلماً

وشفيعي إلى صباك الشباب 219 - وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في أسر العدو (3) :

وكنت أعدّ طرفي للرزايا

يخلّصني إذا جعلت تحوم

فأصبح للعدا عوناً لأنّي

أطلت عناءه فأنا الظلوم

وكم دامت مسراتي عليه

وهل شيءٌ على الدنيا يدوم 220 - وقال أبو الحسن علي بن رجاء صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة:

(1) المغرب 2: 27.

(2)

المغرب: اتركني حتى أقبل.

(3)

المغرب 2: 28.

ص: 422

يا سائلي عن حالتي إنّني

لا أشتكي حالي لمن يضعف

مع أنّني أحذر من نقده

لا سيّما إن كان لا ينصف وأنشد له الحميدي في " الجذوة "(1) :

قل لمن نال عرض من لم ينله

حسبنا ذو الجلال والإكرام

لم يزدني شيئاً سوى حسناتٍ

لا ولا نفسه سوى آثام

كان ذا منعة فثقّل ميزا

ني بهذا فصار من خدّامي 221 - وقال أبو محمد القاسم ابن الفتح (2) :

أيام عمرك تذهب

وجميع سعيك يكتب

ثمّ الشهيد عليك من

ك فأين المهرب 222 - وقال أبو مروان عبد الملك بن غصن (3) :

فديتك لا تخف منّي سلوّاً

إذا ما غير الشعر الصّغارا

أهيم بدنّ خمرٍ صار خلاً

وأهوى لحيةً كانت عذارى وقال (4) :

قد ألحف الغيم بانسكابه

والتحف الجوّ في سحابه

وقام داعي السرور يدعوا

حيّ على الدنّ وانتهابه

وتاه فيه النديم ممّا

يزدحم الناس عند بابه وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف.

(1) الجذوة: 295.

(2)

م: أبو القاسم محمد بن الفتح.

(3)

الذخيرة (3: 113، 115) والمغرب 2: 33.

(4)

الذخيرة: 114.

ص: 423

ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس بلده ابن عبيدة، وبلغه أنه يقع فيه فنكبه أشر نكبة، وحبسه فكتب إليه من السجن:

فديتك هل لي منّك رحمى لعلّني

أفارق قبراً في الحياة فأنشر

وليس عقاب المذنبين بمنكرٍ

ولكن دوام السخط والعتب ينكر

ومن عجبٍ قول العداة مثقّلٌ

ومثلي في إلحاحه الدهر يعذر وألف للمأمون رسالة " السجن والمسجون والحزن والمحزون " ورسالة أخرى سماها ب " العشر كلمات "، وقال (1) :

يا فتيةً خيرةً فدتهم

من حادثات الزمان نفسي

شربهم الخمر في بكورٍ

ونطقهم عندها بهمس

أما ترون الشتاء يلقي

في الأرض بسطاً من الدمقس

مقطّبٌ عابسٌ ينادي

يوم سرورٍ ويوم أنس وقال عنه الحميدي في الجذوة (2) : إنه شاعرٌ أديب، دخل المشرق، وتأدب، وحج، ورجع، وشعره كثير.

وله أبيات كتبها في طريق الحج إلى أحد القضاة:

يا قاضياً عدلاً كأنّ إمامه

ملكٌ يريه واضح المنهاج

طافت بعبدك في البلاد علّةٌ

قعدت به عن مقصد الحجاج

واعتلّ في البحر الأجاج فكن له

بحراً من المعروف غير أجاج 223 - وقال الزاهد الورع المحدث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني:

(1) الذخيرة: 115.

(2)

الجذوة: 278 وهنالك الأبيات أيضا.

ص: 424

ألا أيّها العائب (1) المعتدي

ومن لم يزل مؤذياً ازدد

مساعيك يكتبها الكاتبون

فبيّض كتابك أو سوّد 224 - وقال ابنه أبو بكر محمد:

خاصم عدوّك باللسا

ن وإن قدرت فبالسّنان

إنّ العداوة ليس يص

لحها الخضوع مدى الزمان 225 - وقال إبراهيم الحجاري جد صاحبه " المسهب "(2) :

لئن كرهوا يوم الوداع فإنّني

أهيم به وجداً من آجل عناقه

أصافح من أهواه غير مساترٍ

وسرّ التلاقي مودعٌ في فراقه وقال:

كن كما شئت إنني لا أحول

غير مصغٍ لما يقول العذول

لك والله في الفؤاد محلٌّ

ما إليه مدى الزمان وصول

ومرادي بأن تزور خفيّاً

ليت شعري متى يكون السبيل وقال:

قد توالت في حالتينا الظنون

فلنصدق ما كذبته العيون

ومرادي بأن تلوح بأفقي

بدر تمّ وذاك ما لا يكون

أنا قد قلت ما دعاني إليه

كثرة اليأس، والحديث شجون

وإذا شئت أن تسفّه رأيي

فمحلّي من الرقيب مصون

وبه ما تشاء من كلّ معنى

كلّ من لم يجب له مجون

(1) م: الظالم.

(2)

المغرب 2: 33 - 34 وفيه البيتان.

ص: 425

وإلى كم تضلّ ليل الأماني

ومن اليأس لاح صبحٌ مبين وقال:

سألته عن أبيه

فقال خالي فلان

فانظر عجائب ما قد

أتت به الأزمان

دهرٌ عجيبٌ لديه

عن المعالي حران (1)

فما له غير ذمّ

كما تدين تدان 226 - وقال الكاتب العالم أبو محمد ابن خيرة الإشبيلي (2) صاحب كتاب " الريحان والريعان " يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي قصيدة:

كأنّما الأفق صرحٌ والنجوم به

كواعبٌ وظلام الليل حاجبه

وللهلال اعتراضٌ في مطالعه

كأنّه أسودٌ قد شاب حاجبه

وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه

وأدبر الليل فاستخفت كواكبه

كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي

حفصٍ لرحلته ضمّت مضاربه وأنشد له ابن الإمام في " سمط الجمان ":

رعياً لمنزله الخصيب وظلّه

وسقى الثرى النجديَّ سحّ ربابه

واهاً على ساداته لا أدّعي

كلفاً بزينبه ولا بربابه ويعرف (3) رحمه الله تعالى بابن المواعيني.

(1) هذا البيت والذي يليه سقطا من م.

(2)

ترجمته في المغرب 1: 242 والتكملة: 515 ومن كتابه " الريحان والريعان " جزء موجود بمكتبة الفاتح باستانبول (رقم: 3909) .

(3)

قوله: ويعرف

وكفا: سقط هذا كله من م.

ص: 426

227 -

وقال ابنه أبو جعفر أحمد:

يا أخي هاتها وحجّب سناها

عن مثير بها جنوناً وسخفا

هذه الشمس إن بدت لضعيف ال

عين زادت في ذلك الضعف ضعفا

إنّما يشرب المدامة من إن

خشنت كفّه جفاها وكفّا 228 - وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه (1) : لما خلق الربيع من أخلاقك الغر، وسرق زهره من شيمك الزهر، حسن في كل عين منظره، وطاب في كل سمعٍ خبره (2) ، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه، ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه، من النور الذي بسط على الأرض (3) حللا (4) ، لا ترى في أثنائها خللا، سلوكٌ نثرت على الثرى، وقد ملئت مسكاً وعنبرا، إن تنسمتها فأرجة، أو توسمتها فبهجة:

فالأرض في بزّة من يانع الزهر

تزري إذا قستها بالوشي والحبر

قد أحكمتها أكفّ المزن واكفةً

وطرزتها بما تهمي من الدرر

تبرّجت فسبت منّا العيون هوىً

وفتنةً بعد طول الستر والخفر فأوجد لي سبيلاً إلى إعمال بصري (5) فيها، لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها، والفصل على أن يكمل أوانه، ويتصرم وقته وزمانه، فلا تخلني من بعض التشفي منه، لأصدر نفسي متيقظة عنه، فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد، ومن سعى في جلائها (6) فهو الرشيد السديد.

(1) الذخيرة (2: 48) وكتاب البديع: 28.

(2)

ب: مخبره.

(3)

البديع: كسا الأرض.

(4)

ومالت

حللا: سقطت العبارة من م.

(5)

ب: نظري.

(6)

البديع: ومن أجمها.

ص: 427

ومن شعره يصف ورداً بعث به إلى أبيه (1) :

يا من تأزّر بالمكارم وابتلى

بالمجد والفضل الرفيع الفائق

انظر إلى خدّ الربيع مركباً

في وجه هذا المهرجان الرائق

وردٌ تقدّم تقدّم إذ تأخرّ واغتدى

في الحسن والاحسان أول سابق

وافاك مشتملاً بثوب حيائه

خجلاً لأن حيّاك آخر لاحق وله (2) :

أتى الباقلاء الباقل اللون لابساً

برود سماء من سحائبها غذي

ترى نوره يلتاح في ورقاته

كبلق جيادٍ في جلال زمرد وقال (3) :

إذا ما أدرت كؤوس الهوى

ففي شربها لست بالمؤتلي

مدامٌ تعتّق بالناظرين

وتلك تعتّق بالأرجل وكان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق، وينثر النثر الرائق، وأبو جعفر ابن الأبار هو الذي صقل مرآته، وأقام قناته، وأطلعه شهاباً ثاقباً، وسلك به إلى فنون الآداب طريقاً لاحباً، وله كتاب سماه ب " البديع في فصل الربيع " جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة، أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الحفظ موفور، وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، واستوزره داهية الفتنة، ورحى المحنة، قاضي إشبيلية عباد جد المعتمد، ولم يزل يصغي إلى مقامه، ويرضى بفعاله، وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك،

(1) الذخيرة: 50 والبديع: 128.

(2)

م: وله في نور الباقلاء؛ والشعر في كتاب البديع: 155.

(3)

الذخيرة: 52.

ص: 428

وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر، وذلك يدل على رقة نفسه، رحمه الله تعالى.

229 -

وقال الوزير الكاتب أبو الحسن علي بن حصن وزير المعتضد بن عباد (1) :

عليّ أن أتذلّل

له وأن يتدلّل

خدٌّ كأنّ الثريا

عليه قرطٌ مسلسل وقال:

طلّ على خدّه العذار

فافتضح الآس والبهار

وابيضّ هذا واسودّ هذا

فاجتمع الليل والنّهار 230 - وقال الوزير أبو الوليد ابن طريف في المعتمد بعد خلعه:

يا آل عبادٍ ألا عطفةٌ

فالدهر من بعدكم مظلم

من الذي يرجى لنيل العلا

ومن إليه يفد المعدم

ما أنكر الدهر سوى أنّه

بجودكم في فعله يرغم وله:

من حلقت لحية جارٍ له

فليسكب الماء على لحيته 231 - وقد أجرينا في هذا الكتاب ذكر جملة من أخبار المعتمد بن عباد ونظمه في أماكن متعددة فلتراجع؛ ومن نظمه (2) :

ثلاثةٌ منعتها عن زيارتنا

خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق

(1) الذخيرة 2: 63، 66.

(2)

م: ومن نظم المعتمد؛ والشعر في ديوانه: 22 وفي الشريشي 1: 225.

ص: 429

ضوء الجبين، ووسواس الحليّ، وما

تحوي معاطفها من عنبرٍ عبق

هب الجبين بفضل الكمّ تستره

والحلي تنزعه، ما حيلة العرق وقال (1) :

يوم يقول الرسول قد أذنت

فأت على غير رقبة ولج

أقبلت أهوي إلى رحالهم

أهدى إليها بريحها الهرج قالوا ويستدل على الملوكية بالطيب في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين كالحمام ومعارك الحرب ومواسم الحج.

رجع إلى ما كنا فيه (2) :

232 -

وقال أبو العباس أحمد الخزرجي (3) القرطبي:

وفي الوجنات مافي الروض لكن

لرونق زهرها معنىً عجيب

وأعجب ما التعجّب منه أنّي

أرى البستان يحمله قضيب 233 - وقال الوزير أبو [أيوب] سليمان بن أبي أمية (4) يخاطب رئيساً قد بلغه عن بعض أصحابه كلام فيه غض منه:

هوّن عليك كلامه

واسمح له فيمن سمح

ماذا يسوءك إن هجا

ماذا يسرّك إن مدح

أوما علمت بلى جهل

ت بأنّه غلٌّ طفح

وخفيٌّ حقدٍ كامنٍ

دأبوا له حتى اتضح

(1) ديوان المعتمد: 119.

(2)

رجع

فيه: سقطت من م.

(3)

الخزرجي: سقطت من ب.

(4)

ترجمته في المغرب 1: 243 والمطمح: 28 والمسالك 11: 424.

ص: 430

هذا بمستنّ الوقا

ر فكيف لو دار القدح

فاشكر عوارف ذي الجلا

ل بما وقى وبما منح 234 - وقال أبو علي عمر بن أبي خالد يخاطب أبا الحسن علي بن الفضل:

أبا حسنٍ وما قدمت عهودٌ

لنا بين المنارة والجزيره

أتذكر أنسنا والليل داجٍ

بخمرٍ في زجاجتها منيره

إذا الملاح ضلّ رنا إليها

فأبصر في مناحيه مسيره 235 - وقال الكاتب عبد الله المهيريس (1) ، وكان حلو النادرة، لما شرب عند الوزير أبي العلاء ابن جامع وقد نظر إلى فاختة فأعجبه حسنها ولحنها:

ألا خذها إليك أبا العلا

حلى الأمداح ترفل في الثّناء

وهبها قينةً تجلى عروساً

خضيب الكفّ قانية الرداء

لأجعلها محلّ جليس أنسي

وأغنى بالهديل عن الغناء وحكي أنه ناوله ليمونة وأمره بالقول فيها فقال:

أهدى إليّ بروضةٍ ليمونةً

وأشار بالتشبيه فعل السيد

فصمتّ حيناً ثم قلت: كجلجلٍ

من فضةٍ تعلوه صفرة عسجد 236 - وقال الكاتب أبو بكر ابن البناء يرثني أحد بني عيد المؤمن، وقد عزل من بلنسية وولي إشبيلية فمات بها (2) :

كأنّك من جنس الكواكب كنت لم

تفارق طلوعاً حالها وتواريا

(1) سماه في المغرب " عبد الله بن عمر الإشبيلي المهيرس وكنيته أبو محمد "(1: 248) وفي القدح: أبو عبد الله عمر المعروف بالمهيدر (198) وشعره في المصدرين.

(2)

القدح: 119 والمغرب 1: 249.

ص: 431

تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً

فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 237 - وكان محمد بن مروان بن زهر - كما في المغرب والمسهب والمطرب، وقد قدمنا بعض أخباره - منشأ الدولة العبادية وأول من تثنى عليه الخناصر، وتستحسنه البواصر، فضاقت الدولة العبادية عن مكانه، وأخرج عن بلده، فاستصفيت أمواله، فلحق بشرق الأندلس، وأقام فيه بقية عمره، ونشأ ابنه (1) الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد، فما بلغ أشده، حتى سد مسده، ومال إلى التفننفي أنواع التعاليم من الطب وغيره، ورحل إلى المشرق لأداء الفرض، فملأ البلاد جلالة، ونشأ ابنه ابو العلاء زهر بن عبد الملك، فاخترع فضلاً لم يكن في الحساب، وشرع نبلاً قصرت عنه نتائج أولي الألباب، ونشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه، والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه، ومال إلى علم الأبدان فلولا جلالة قدره، لقلنا جاذب هاروت طرفاً من سحره، ولولا أن الغلو آفة المديح، لتجاوزت طلق الجموح، ولكنني اكتفيت بالكناية عن التصريح (2) ، ولم يزل مقيماً بشرق الأندلس إلى أن كان من غزاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ومن انضم إليه من ملوك الطوائف ما علم، وشخص أبو العلاء معهم، فلقيه المعتمد بن عباد، واستماله واستهواه، وكاد يغلب على هواه، وصرف عليه أملاكه فحن إلى وطنه، حنين النيب إلى عطنه، والكريم إلى سكنه، ونزع إلى مقر سلفه، نزوع الكوكب إلى بيت شرفه، إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا من بعد خلع المعتمد، وحل عند يوسف بن تاشفين محلاً لم يحله الماء من العطشان، ولا الروح من جسد الجبان، ولما كتب إليه حسام الدولة ابن رزين ملك السهلة بقوله:

عاد اللئيم فأنت من أعدائه

ودع الحسود بغلّه وبذائه

(1) راجع الذخيرة (2: 91) وشعره مثبت هنالك.

(2)

أثبتنا هنا نص الذخيرة.

ص: 432

لا كان إلا من غدت أعداؤه

مشغولةً أفواههم بجفائه

أأبا العلاء لئن حسدت لطالما

حسد الكريم بجوده ووفائه

فخر العلاء فكنت من آبائه

وزها السناء فكنت من أبنائه

كن كيف شئت مشاهداً أو غائباً

لا كان قلبٌ لست في سودائه أجابه بقوله:

يا صارماً حسن العدا بمضائه

وتعبّد الأحرار حسن وفائه

ما أثّر العضب الحسام بذاته

إلا بأن سمّيت من أسمائه وكلفه الحسام المذكور القول في غلام قائم على رأسه، وقد عذر، فقال (1) :

محيت آية النهار فأضحى

بدر تمٍّ وكان الشمس نهار

كان يعشي العيون ناراً إلى أن

أشغل الله خدّه بالعذار وقال:

عذارٌ ألمّ فأبدى لنا

بدائع كنّا لها في عمى

ولو لم يحنّ النهار الظلا

م لم يستبن كوكبٌ في السما وقال:

يا راشقي بسهامٍ ما لها غرض

إلا الفؤاد وما منه له عوض

وممرضي بجفون لحظها غنجٌ

صحّت وفي طبعها التمريض والمرض

امنن ولو بخيالٍ منك يؤنسني

فقد يسدّ مسدّ الجوهر العرض وهذا معنى في غاية الحسن.

وكان بينه وبين الإمام أبي بكر ابن باجة - بسبب المشاركة - ما يكون

(1) مرت القطعة والتي تليها ص: 247.

ص: 433

بين النار والماء، والأرض والسماء، ولما قال فيه ابن باجة:

يا ملك الموت وابن زهرٍ

جاوزتما الحدّ والنهايه

ترفّقا بالورى قليلاً

في واحد منكما الكفايه قال أبو العلاء:

لا بد للزنديق أن يصلبا

شاء الذي يعضده أو أبى

قد مهّد الجذع له نفسه

وسدّد الرمح إليه الشّبا والذي يعضده مالك بن وهب جليس أمير المسلمين وعالمه.

238 -

وأما حفيده أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر فهو وزير إشبيلية وعظيمها وطبيبها وكريمها، ومن شعره:

رمت كبدي أخت السماء فأقصدت

ألا بأبي رامٍ يصيب ولا يخطي

قريبة ما بين الخلاخيل إن مشت

بعيدة ما بين القلادة والقرط

نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى

كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي وتوفيسنة خمس وتسعين وخمسمائة، وأمر أن يكتب على قبره:

تأمّل بفضلك يا واقفاً

ولاحظ مكاناً دفعنا إليه

تراب الضريح على صفحتي

كأنّي لم أمش يوماً عليه

أداوي الأنام حذار المنون

فها أنا قد صرت رهناً لديه رحمه الله تعالى، وعفى عنه.

وفي هذه الأبيات إشارة إلى طبه ومعالجته للناس، رحمه الله تعالى، وقد ذكرنا بعض أخباره في غير هذا الموضع.

ص: 434

239 -

وقال أبو الوليد ابن حزم (1) :

مرآك مرآك شمسٌ ولا قمر

وورد خدّيك لا وردٌ ولا زهر

في ذمّة الله قلبٌ أنت ساكنه

إن بنت بان فلا عينٌ ولا أثر وقال (2) :

لله أيامٌ على وادي القرى

سلفت لنا والدهر ذو ألوان

إذ نجتلي في ظله ثمر المنى

والطير ساجعةٌ على الأغصان

والشمس تنظر من محاجر أرمدٍ

والطّلّ يركض في النسيم الواني

فلثمت فاه والتزمت عناقه

ويد الوصال على قفا الهجران 240 - وقال ابن عبد ربه (3) :

يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضةً

فما أناملها للنّاس أرزاق

وغب إذا شئت حتى لا ترى أبداً

فما لفقدك في الأحشاء إقلاق وقال في المدح:

وما خلقت كفّاك إلاّ لأربعٍ

عقائل لم تخلق لهنّ يدان

لتقبيل أفواهٍ، وإعطاء نائل

وتقليب هنديّ، وحبس عنان 241 - وقال الكاتب أبو عبد الله ابن مصادق (4) الرندي الأصل:

صارمته إذ رأت عارضه

عاد من بعد الشّباب أشيبا

(1) ترجمته في المغرب 1: 239 والذخيرة 2: 231 والمسالك 11: 434.

(2)

الذخيرة (2: 238) .

(3)

هاتان المقطوعتان في الشريشي 1: 184.

(4)

دوزي: مصادف.

ص: 435

قلت ما ضرّك شيبٌ فلقد

بقيت فيه فكاهات الصّبا

هو كالعنبر غالٍ نفحه

وشذاه أخضراً أو أشهبا وقال:

ووردة وردت في غير موقتها

والسّحب قد هملت أجفانها هطلا

وإنّما الروض لمّا لم يفد ثمراً

يقريكه انفتحت في خده خجلا وله:

لم أحتفل لقدوم العيد من زمن

قد كان يبهجني إذ كنت في وطني

لم ألق أهلي ولا إلفي (1) ولا ولدي

فليت شعري سروري واقعٌ بمن وقال:

يقول لي العاذل تب عن هوى

من ليس يدنيك إلى مطلب

وكيف لي والدين دين الهوى

فلا أرى من مذهبي

أليس باب التوب قد سده

طلوعه شمساً من المغرب (2) وله:

امنع كرائمك الخروج ولا

تظهر لذلك وجه منبسط

لا تعتبر منهن مسخطةً

نيل الرضى في ذلك السخط

أولسن مثل الدرّ في شبهٍ (3)

والدرّ من صدفٍ إلى سفط

(1) ب: إلفي ولا أهلي.

(2)

هو كقول الصقلي:

أيأسني التوبة من حبه

طلوعه شمسا من المغرب. (3) م: سفط.

ص: 436

242 -

وقال المعتمد بن عباد (1) :

تمّ له الحسن بالعذار

واختلط الليل بالنّهار

أخضرٌ في أبيضٍ تبدّى

فذاك آسي وذاك بهاري

فقد حوى مجلسي تماماً

إن يك من ريقه عقاري 243 - وقال ابن فرج الجياني رحمه الله تعالى (2) :

وطائعة الوصال صددت عنها

وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرةً فباتت

دياجي الليل سافرة القناع

وما من لحظةٍ إلا وفيها

إلى فتن القلوب لها دواعي

فملّكت الهوى جمحات أمري

لأجري في العفاف على طباعي

كذاك الروض ما فيه لمثلي

سوى نظرٍ وشمّ من متاعٍ

ولست من السوائم مهملات

فأتخذ الرياض من المراعي وقال (3) :

بأيهما أنا في الشكر بادي

بشكر الطيف أم شكر (4) الرقاد

سرى فازداد لي أملي ولكن

عففت فلم أنل منه مرادي

وما في النوم من حرجٍ ولكن

جريت مع العفاف على اعتيادي 244 - وقال الرصافي (5) :

وعشيّ أنسٍ للسرور وقد بدا

من دون قرص الشمس ما يتوقّع

(1) ديوان المعتمد: 17.

(2)

مرت هذه الأبيات ص: 196 وانظر الشريشي 1: 211 والجذوة: 97.

(3)

انظر الجذوة: 97 والمطمح: 80 واليتيمة 2: 17 والشريشي 1: 211.

(4)

ب: بطيب.

(5)

ديوان الرصافي: 105.

ص: 437

سقطت فلم يملك نديمك (1) ردّها

فوددت يا موسى لو آنّك يوشع 245 - وقال ابن عبد ربه (2) :

يراعةٌ غرّني منها وميض سناً

حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا

فصادفت حجراً لو كنت تضربه

من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا

كأنّما صيغ من لؤمٍ ومن كذبٍ

فكان ذاك له روحاً وذا نفسا 246 - وقال ابن صارة في فروة (3) :

أودت بذات يدي فريّة أرنبٍ

كفؤاد عروة في الضّنى والرّقة

يتجشّم الفرّاء من ترقيعها

بعد المشقّة في قريب الشّقّة

لو أنّ ما أنفقت في ترقيعها

يحصى لزاد على رمال الرّقّة

إن قلت بسم الله عند لباسها

قرأت عليّ " إذا السماء انشقّت " 247 - وقال الغزال (4) :

والمرء يعجب من صغيرة غيره

أيّ امرئ إلاّ وفيه مقال

لسنا نرى من ليس فيه غميزةٌ

أيّ الرجال القائل الفعّال (5) 248 - وقال أبو حيان:

لا ترجونّ دوام الخير من أحدٍ

فالشرّ طبعٌ وفيه الخير بالعرض

ولا تظنّ امرءاً أسدى إليك ندىً

من أجل ذاتك بل أسداه للغرض

(1) م: نديمي.

(2)

العقد 1: 131 والشريشي 1: 127.

(3)

أبيات ابن صارة في أخبار وتراجم: 15 والقلائد: 261 والشريشي 1: 125.

(4)

في الأصول ودوزي: الغزالي.

(5)

ب: القائل البطال.

ص: 438

249 -

وقال ابن شهيد (1) :

ولما فشى بالدمع ما بين وجدنا

إلى كاشحينا ما القلوب كواتم

أمرنا بإمساك الدموع جفوننا

ليشجى بما نطوي عذولٌ ولائم

أبى دمعنا يجري مخافة شامتٍ

فنظّمه بين المحاجر ناظم

وراق الهوى منّا عيوناً كريمةً

تبسّمن حتى ما تروق المباسم وقال في الانتحال (2) :

وبلّغت أقواماً تجيش صدورهم

عليّ وإنّي فيهم فارغ الصدر

أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزاً

وغاصوا على سري فأعجزهم أمري

فقال فريقٌ: ليس ذا الشعر شعره

وقال فريقٌ أيمن الله ما ندري

فمن شاء فليخبر فإنّي حاضرٌ

ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر 250 - وينظر إلى مثل هذا قصة أبي بكر ابن بقي (3) حين استهدى من بعض إخوانه أقلاماً فبعث إليه بثلاث من القصب، وكتب معها:

خذها إليك أبي بكر العلا قصباً

كأنّما صاغها الصوّاغ من ورقه

يزهى بها الطرس حسناً ما نثرت بها

مسك المداد على الكافور من ورقه فأجابه أبو بكر:

أرسلت نحوي ثلاثاً من قناً سلبٍ

ميّادة تطعن القرطاس في درقه (4)

فالخطّ ينكرها والحظّ يعرفها

والرّقّ يخدمها بالرّقّ في عنقه

(1) الذخيرة 1 / 1: 276 وديوانه: 139 والشريشي 1: 46.

(2)

الذخيرة: 262 وديوانه: 68 والشريشي 1: 46.

(3)

الشريشي 1: 47.

(4)

ب م: منآدة

في ورقه.

ص: 439

فحسده عليه بعض من سمعه، ونسبه إلى الانتحال، فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول:

وجاهلٍ نسب الدعوى إلى كلمي

لمّا رماه بمثل النّبل في حدقه

فقلت من حنقٍ لما تعرّض لي

من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه

ما ذمّ شعري وأيم الله لي قسمٌ

إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه

والشعر يشهد أنّي من كواكبه

بل الصباح الذي يستنّ من أفقه 251 - وقال ابن شهيدٍ أيضاً في ضيف (1) :

وما انفكّ معشوق الثناء يمدّه (2)

ببشرٍ وترحيبٍ وبسط بنان

إلى أن تشهّى البين من ذات نفسه

وحنّ إلى الأهلين حنّة حاني

فأتبعه ما سدّ خلّة حاله

وأتبعني ذكراً بكلّ مكان وقال (3) :

وبتنا نراعي اللّيل لم يطو برده

ولم يجل شيب الصبح في فوده وخطا

تراه كملك الزنج من فرط كبره

إذا رام مشياً في تبختره أبطا

مطلاًّ على الآفاق والبدر تاجه

وقد جعل الجوزاء في أذنه قرطا 252 - وقال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن، مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد (4) :

ألا يا أهل أندلسٍ فطنتم

بلطفكم إلى أمرٍ عجيب

(1) الذخيرة: 267 وديوانه: 168.

(2)

الديوان: الثواء نمده.

(3)

الذخيرة: 237 وديوانه: 88 واليتيمة 2: 43 والشريشي 1: 63.

(4)

الشريشي 1: 49.

ص: 440

لبستم في مآتمكم بياضاً

فجئتم منه في زيّ غريب

صدقتكم فالبياض لباس حزنٍ

ولا حزنٌ أشدّ من المشيب 253 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة:

هل جسومٌ يوم النوى ودّعوها

باقياتٌ لسوء ما أودعوها

يا حداة القلوب ما العدل هذا

أتبعوها أجسامها أو دعوها 254 - وقال القسطلي يصف هول البحر (1) :

إليك ركبنا الفلك تهوي كأنّها

وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان

على لجج خضرٍ إذا هبّت الصّبا

ترامى بها فينا ثبيرٌ وثهلان

مواثل ترعى في ذراها موائلاً

كما عبدت في الجاهلية أوثان

يقلن وموج البحر (2) والهمّ والدجى

يموج بها فيها عيونٌ وآذان

ألا هل إلى الدنيا معادٌ وهل لنا

سوى البحر قبرٌ أو سوى الماء أكفان 255 - وقال الرمادي يهنئ ابن العطار الفقيه بمولود:

يهنيك ما زادت الأيام في عددك

من فلذةٍ برزت للسعد من كبدك

كأنّما الدهر دهرٌ كان مكتئباً

من انفرادك حتى زاد في عددك

لا خلّفتك الليالي تحت ظلّ ردىً

حتى ترى ولداً قد شبّ من ولدك 256 - وقال ابن صارة في النار:

هات التي للأيك أصل ولادها

ولها جبين الشمس في الأشماس

يتقشّع الياقوت في لبّاتها

بوساوسٍ تشفي من الوسواس

(1) ديوان ابن دراج: 87 والذخيرة 1 / 1: 74.

(2)

في الأصول: مقاتل موج.

ص: 441

أنس الوحيد وصبح عين المجتلي

ولباس من أمسى بغير لباس

حمراء ترفل في السواد كأنّما

ضربت بعرقٍ في بني العباس وقال فيها أيضاً (1) :

لابنة الزّند في الكوانين جمرٌ

كالدراري في الليلة (2) الظلماء

خبروني عنها ولا تكذبوني

ألديها صناعة الكيمياء

سبكت فحمها سبائك (3) تبرٍ

رصّعته بالفضّة البيضاء

كلمّا ولول النسيم عليها

رقصت في غلالةٍ حمراء

سفرت عن جبينها (4) فأرتنا

حاجب الليل طالعاً بالعشاء

لو تراها من حولنا قلت يومٌ

يتعاطون أكؤس الصّهباء 257 - وقال فيها الفقيه الأديب (5) ابن لبال:

فحمٌ ذكا في حشاه جمرٌ

فقلت مسكٌ وجلّنار

أو خدّ من قد هويت لمّا

أطلّ من فوقه العذار 258 - وكان أبو المطرف الزهري جالساً في باب داره مع زائر له، فخرجت عليهما من زقاقٍ ثانٍ جاريةٌ سافرة الوجه كالشمس الطالعة فحين نظرتهما على غفلةٍ منها نفرت خجلة، فرأى الزائر ما أبهته فكلّفه وصفها، فقال مرتجلاً:

(1) القلائد: 266.

(2)

القلائد: كالدراري في دجى.

(3)

القلائد: صفائح.

(4)

القلائد: سفرت في عشائها.

(5)

م: الأديب الفقيه؛ ولعله أبو الحسن علي بن أحمد بن البال الشريشي (- 583) وله ترجمة في التحفة: 74 والذيل والتكملة 5: 169.

ص: 442

يا ظبيةً نفرت والقلب مسكنها

خوفاً لختلي بل عمداً لتعذيبي

لا تختشي فابن عبد الحقّ أنحلنا

عدلاً يؤلف بين الظبي والذيب 259 - وقال ابن شهيد (1) :

أصباحٌ لاح أم بدرٌ بدا

أم سنا المحبوب أورى زندا

هبّ من نعسته منكسراً

مسبلٌ للكمّ مرخٍ للرّدا

يمسح النعسة من عيني رشا

صائد في كلّ يوم أسدا

قلت هب لي ياحبيبي قبلة

تشف من همّك (2) تبريح الصّدى

فانثنى يهتزّ من منكبه

قائلاً لا ثمّ أعطاني اليدا

كلّما كلّمني قبّلته

فهو ما قال كلاماّ ردّدا

قال لي يلعب صد لي طائراً

فتراني الدهر أجري بالكدا

وإذا استنجزت يوماً وعده

قال لي يمطل ذكّرني غدا

شربت أغصانه (3) خمر الصّبا

وسقاه الحسن حتى عربدا

رشأ بل غادةٌ ممكورةٌ

عمّمت صبحاً بليلٍ أسودا

أححت (4) من عضة في نهدها

ثم عضت حرّ وجهي عمدا

فأنا المجروح من عضّتها

لا شفاني الله منها أبدا 260 - وقال محمد بن هانئ في الشيب (5) :

بنتم فلولا أن أغبّر لمّتي

عبثاّ وألقاكم عليّ غضابا

(1) مرت هذه القصيدة ص: 358.

(2)

الرواية المشهورة: من عمك؛ وتصحف إلى " غمك ".

(3)

م: أعطافه، وهو أجود.

(4)

هذه رواية الذخيرة، وفي م: أحجمت.

(5)

ديوان ابن هانئ: 198 - 199 والشريشي 1: 214.

ص: 443

لخضبت شيباً في مفارق لمتي (1)

ومحوت محو النفس عنه شبابا

وخضبت مبيضّ (2) الحداد عليكم

لو أنّني أجد البياض خضابا

وإذا أردت على المشيب وفادةً

فاجعل مطيّك دونه الأحقابا

فلتأخذنّ من الزمان حمامةً

ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا 261 - وكتب ابن عمار إلى ابن رزين وقد عتب عليه أن اجتاز ببلده ولم يلقه (3) :

لم تثن عنك عناني سلوةٌ خطرت

ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري

لكن عدتني عنكم خجلةٌ خطرت

كفاني العذر منها بيت معتذر

" لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر " 262 - وقال ابن الجد (4) :

وإنّي لصبٌّ للتلاقي وإنّما

يصبّ ركابي عن معاهدك العسر

أذوب حياء من زيارة صاحبٍ (5)

إذا لم يساعدني على برّهالوفر 263 - وقال ابن عبد ربه (6) :

يا من عليه حجابٌ من جلالته

وإن بدا لك يوماً غير محجوب

ما أنت وحدك مكسوّاً ثياب ضنى

بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب

ألقى عليك يداً للضرّ كاشفةً

كشّاف ضرّ نبيّ الله أيوب

(1) الديوان: في عذاري كاذبا.

(2)

الديوان: مسود.

(3)

الذخيرة (2: 160) والشريشي 1: 234 والبيت المضمن للمعري.

(4)

الشريشي 1: 234.

(5)

م: سيد.

(6)

أبيات ابن عبد ربه في الشريشي 1: 305.

ص: 444

264 -

وقال النحلي في مغنية:

ولاعبة الوشاح كغصن (1) بانٍ

لها أثرٌ بتقطيع القلوب

إذا سوّت طريق العود نقراً

وغنّت في محبّ أو حبيب

فيمناها تقدّ بها فؤادي

ويسراها تعدّ بها ذنوبي 265 - وقال ابن شهيد (2) :

كلفت (3) بالحب حتى لو دنا أجلي

لما وجدت لطعم الموت من ألم

وعاقني (4) كرمي عمّن ولهت به

ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم 266 - وكان بشريش (5) صوفي حافظ للشعر، فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه، فاتفق أن عطس رجل بمجلسه، فشمته الحاضرون، فدعا لهم، فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم، وإن لم يشمته كان تقصيراً في البر، فرغب حين أصبح من الطلبة نظم هذا المعنى، فقال الوزير الحسيب أبو عمرو ابن أبي محمد (6) :

يا عاطساً يرحمك الله إذ

أعلنت بالحمد على عطستك

ادع لنا ربّك يغفر لنا

وأخلص النية في دعوتك

وقل له يا سيدي رغبتي

حضور هذا الجمع في حضرتك

وأنت يا ربّ النّوى

بارك ربّ الناس في ليلتك

فإن يكن منكم لنا عودةٌ

فأنت محمودٌ على عودتك

(1) ق ب: بغصن.

(2)

ديوان ابن شهيد: 148.

(3)

الديوان: ألمت.

(4)

الديوان: وذادني.

(5)

الشريشي 1: 341.

(6)

الشريشي: ابن محمد.

ص: 445

وهذا الوزير المذكور كان يصرف شعره في أوصاف الغزلان ومخاطبات الإخوان، وكتب إلى الشريشي - شارح المقامات (1) - يستدعي منه كتاب العقد:

أيا من غدا سلكاً لجيد معارفه

ومن لفظه زهرٌ أيقٌ لقاطفه

محبّك أضحى عاطل الجيد فلتجد

بعقدٍ على لبّاته وسوالفه ووعك في بعض الأعياد، فعاده من أعيان الطلبة جملة، فلما هموا بالانصراف أنشدهم ارتجالاً:

لله درّ أفاضل (2) أمجاد

شرف النّديّ بقصدهم والنادي

لمّا أشاروا بالسلام وأزمعوا

أنشدتهم وصدقت في الإنشاد

في العيد عدتم وهو يوم عروبةٍ

يا فرحتي بثلاثة الأعياد قال الشريشي في شرح المقامات: ولقد زرته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى أنا وثلاثة فتيان من الطلبة، فسألني عنهم وعن آبائهم، فلما أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة، وقال له: اكتب، وأملى عليه ارتجالاً:

ثلاثة فتيانٍ يؤلف بينهم

نديٌّ كريمٌ لا أرى الله بينهم

تشابه خلقٌ منهم وخليقةٌ

فإن قلت أين الحسن فانظره أين هم

وزيّنهم أستاذهم إذ غدا لهم

معلم آياتٍ فتمم زينهم

فإن خفت من عينٍ ففي الكلّ فل تقل

وقى الله ربّ الناس للكلّ عينهم 267 - وقال الشريشي (3) : حدثنا شيخنا أبو الحسين ابن زرقون، عن أبيه أبي عبد الله، أنه قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش

(1) م: صاحب كتاب شرح المقامات.

(2)

الشريشي: در عصابة.

(3)

الشريشي 1: 365.

ص: 446

الكاتب على بحر المجاز، وهو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز:

وملتطم الغوارب موّجته

بوارح في مناكبها غيوم فقال أبو عبد الله:

تمنّع لا يعوم به سفينٌ

ولو جذبت به الزّهر النجوم 268 - وكان لابن عبد ربه فتىً يهواه، فأعلمه أنه يسافر غداً، فلما أصبح عاقه المطر عن السفر، فانجلى عن ابن عبد ربه همه، وكتب إليه (1) :

هلا ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر

هيهات يأبى عليك الله والقدر

ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً

حتى رثى لي فيك الريح والمطر

يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ

نيرانها بغليل الشوق تستعر

آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً

حتى أراك فأنت الشمس والقمر وقال ابن عبد ربه (2) :

صل من هويت وإن أبدى معاتبةً

فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين

واقطع حبائل خدنٍ لا تلائمه

فقلّما تسع الدنيا بغيضين 269 - وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي (3) :

صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً

سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين

ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ

فقلّما تسع الدنيا بغيضين 270 - وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من

(1) أبيات ابن عبد ربه في المطمح: 51.

(2)

العقد 2: 316.

(3)

مر البيتان ص: 265، 398.

ص: 447

شنترين يوم الجمعة، فأتاه يوم السبت، فلما لقيه عانقه وأنشده:

تخيرت اليهود السبت عيداً

وقلنا في العروبة يوم عيد

فلمّا أن طلعت السبت فينا

أطلت لسان محتجّ اليهود 271 - وقال أبو بكر ابن بقي (1) :

أقمت فيكم على الإقتار والعدم

لو كنت حرّاً أبيّ النفس لم أقم

فلا حديقتكم يجنى لها ثمرٌ

ولا سماؤكم تنهلّ بالدّيم

أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلسٍ

جئت العراق فقامت لي على قدم

ما العيش بالعلم إلاّ عيشةٌ ضعفت

وحرفةٌ وكلت بالقعدد البرم 272 - وقال الأبيض بالفقهاء المرائين (2) :

أهل الرياء لبستم ناموسكم

كالذئب يدلج (3) في الظلام العاتم

فملكتم الدنيا بمذهب مالكٍ

وقسمتم الأموال بابن القاسم

وركبتم شهب البغال بأشهبٍ

وبأصبغٍ صبغت لكم في العالم وقال (4) :

قل للإمام سنا الأئمّة مالكٍ

نور العيون ونزهة الأسماع

لله درّك من همامٍ ماجدٍ

قد كنت راعينا فنعم الراعي

فمضيت محمود النقيبة (5) طاهراً

وتركتنا قنصاً لشرّ سباع

(1) أبيات ابن بقي في القلائد: 281.

(2)

زاد المسافر: 71 وهي في المعجب: 235 منسوبة لابن البني؛ وانظر الشريشي 1: 185.

(3)

زاد المسافر: يختل.

(4)

زاد المسافر: 71.

(5)

م: المناقب.

ص: 448

أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ

طاوي الحشا متكفّت الأضلاع

تشكوك دنيا لم تزل بك برّةً

ماذا رفعت بها من الأوضاع 273 - وقال ابن صارة:

يا من يعذّبني لمّا تملّكني

ماذا تريد بتعذيبي وإضراري

تروق حسناً وفيك الموت أجمعه

كالصقل في السيف أو كالنور في النار 274 - وقال عبدون البلنسي (1) :

يا من محيّاه جنّاتٌ مفتّحةٌ

وهجره لي ذنبٌ غير مغفور

لقد تناقضت في خلقٍ وفي خلقٍ

تناقض النار بالتدخين والنّور 275 - وقال الوزير ابن الحكيم:

رسخت أصول علاكم تحت الثرى

ولكم على خطّ المجرّة دار

إنّ المكارم صورةٌ معلومةٌ

أنتم لها الأسماع والأبصار

تبدو شموس الدّجن من أطواقكم

وتفيض من بين البنان بحار

ذلّت لكم نسم الخلائق مثل ما

ذلّت لشعري فيكم الأشعار

فمتى مدحت ولا مدحت سواكم

فمديحكم في مدحه إضمار 276 - وقال القاضي أبو جعفر ابن برطال (2) :

(1) هو أبو محمد عبد الله بن يحيى الحضرمي ابن صاحب الصلاة ويعرف بعبدون من أهل دانية وسكن شاطبة وتوفي ببلنسية (- 578) وترجمته في التحفة: 68 والتكملة رقم: 1402.

(2)

هو أحمد بن محمد بن علي الأموي ويكنى أبا جعفر ويعرف بابن برطال، كان من أهل الخير والانقباض والعفة والوقار يتكسب بصناعة التوثيق، ثم أصبح قاضيا لغرناطة وإماما بمسجدها الأعظم حتى عام 741 وتوفي بمالقة سنة 750 (انظر ترجمته وشعره في الإحاطة 1: 177 - 179) .

ص: 449

أستودع الرحمن من لوداعهم

قلبي وروحي آذنا بوداع

بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي

باكٍ ومسلوب العزاء وداع

فتولّ يا مولاي حفظهم ولا

تجعل تفرّقنا فراق وداع (1) 277 - وقال ابن خفاجة (2) :

وما هاجني إلاّ تألّق بارقٍ

لبست به برد الدّجنّة معلما وهي طويلة.

وقال من أخرى (3) :

جمعت ذوائبه ونور جبينه

بين الدّجنّة والصباح المشرق 278 - وقال ذو الوزارتين أبو الوليد ابن الحضرمي البطليوسي في غلام للمتوكل بن الأفطس يرثيه (4) :

غالته أيدي المنايا

وكنّ في مقلتيه

وكان يسقي الندامى

بطرفه ويديه

عصنٌ ذوى وهلالٌ

جار الكسوف عليه 279 - وقال الفقيه العالم أبو أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي عالمها في المذهب المالكي، وقد تحاكم إليه وسيمان أشقر وأكحل فيمن يفضل بينهما (5) :

وشادنين ألمّا بي على مقةٍ

تنازعا الحسن في غايات مستبق

(1) سقط البيت من م.

(2)

ديوانه: 173.

(3)

ديوانه: 150

(4)

انظر ترجمته في المغرب 1: 365.

(5)

مرت الأبيات ص: 292.

ص: 450

كأنّ لمّة ذا من نرجسٍ خلقت

على بهار وذا مسك على ورق

وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما

ولم يخافا عليه رشوة الحدق

فقال يبدي هلال الدّجن حجّته

مبيّناً بلسان منه منطلق

فقال وجهي بدرٌ يستضاء به

ولون شعري مقطوعٌ من الغسق

وكحل عينيّ سحرٌ للنّهى وكذا

ك الحسن أحسن ما يعزى إلى الحدق

وقال صاحبه أحسنت وصفك ل

كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق

أنا على أفقي شمس النّهار ولم

تغرب وشقرة شعري شقرة الشفق

وفضل ما عيب في العينين من زرق

أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق

قضيت للمّة الشقراء حيث حكت

نوراً كذا حبّها يقضي على رمقي

فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني

سهام أجفانه من شدّة الحنق

وقال جرت فقلت الجور منك على

قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق

وقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً

فقال دونك هذا الحبل فاختنق وكان فيه ظرف وأدب، وعنوان طبقته هذه الأبيات.

وقال:

وغاب من الأكواس فيها ضراغم

من الراح ألباب الرجال فريسها

قرعت بها سنّ الحلوم فأقطعت

وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها وله رحمه الله تعالى " شرح البخاري " وأكثر ابن حجر من النقل عنه في " فتح الباري "، وله كتاب " الأحكام " وغير ذلك، وترجمته شهيرة.

280 -

وقال الأديب النحوي المؤرخ أبو إسحاق إبراهيم بن [قاسم] الأعلم البطليوسي صاحب التواليف التي بلغت نحو خمسين (1) :

(1) انظر ترجمته في المغرب 1: 369 واختصار القدح: 157 وبغية الوعاة: 185 والبيتان في المغرب والقدح.

ص: 451

يا حمص لا زلت داراً

لكلّ بؤسٍ وساحه

ما فيك موضع راحه

إلاّ وما فيه راحه وهوشيخ أبي الحسن ابن سعيد صاحب " المغرب " وأنشده هذين البيتين لما ضجر من الإقامة بإشبيلية أيام فتنة الباجي.

281 -

وقال الأديب الطبيب أبو الأصبغ عبد العزيز البطليوسي الملقب بالقلندر (1) :

جرت منّي الخمر مجرى دمي

فجلّ حياتي من سكرها

ومهما دجت ظلمٌ للهموم

فتمزيقها بسنى بدرها وخرج يوماً وهو سكران، فلقي قاضياً في نهاية من قبح الصورة، فقال: سكران خذوه، فلما أخذه الشرطي قال للقاضي: بفضل من ولاك على المسلمين بهذا الوجه القبيح عليك إلا ما أفضلت علي وتركتني، فقال القاضي: والله لقد ذكرتني بفضلٍ عظيم؛ ودرأ عنه الحد.

282 -

وقال ابن جاخ الصباغ البطليوسي (2) ، وهو من أعاجيب الدنيا، لا يقرأ ولا يكتب:

ولمّا وقفنا غداة النّوى

وقد أسقط البين ما في يدي

رأيت الهوادج فيها البدور

عليها البراقع من عسجد

وتحت البراقع مقلوبها

تدبّ على ورد خدٍّ ندي

تسالم من وطئت خدّه

وتلدغ قلب الشّجي المكمد

(1) المغرب 1: 369 وفيه " القلمندر ".

(2)

ترجمته في الجذوة: 381 (وبغية الملتمس رقم: 1562) ؛ والأبيات التي أوردت هنا ذكر صاحب المطرب (184) أنها لعلي بن إسماعيل الأشبوني وأخذها ابن جاخ وادعاها لنفسه.

ص: 452

وقال في المتوكل، وقد سقط عن فرس:

لا عتب للطّرف إن زلّت قوائمه

ولا يدنّسه من عائبٍ دنس

حمّلت جوداً وبأساً فوقه ونهىً

وكيف يحمل هذا كلّه الفرس 283 - وقال الشاعر المشهور بالكميت البطليوسي (1) :

لا تلوموني فإنّي عالمٌ

بالذي تأتيه نفسي وتدع

بالحميّا والمحيّا صبوتي

وسوى حبّهما عندي بدع

فضّل الجمعة يوماً وأنا

كلّ أيامي بأفراحي جمع 284 - وقال أبو عبد الله محمد بن البين البطليوسي، وهو ممن يميل إلى طريقة ابن هانئ (2) :

غصبو الصباح فقسّموه خدودا

واستنهبوا قضب الأراك قدودا

ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم

فاستبدلوا منه النجوم عقودا

واستودعوا حدق المها أجفانهم

فسبوا بهنّ ضراغماً وأسودا

لم يكفهم حمل الأسنّة والظّبى

حتى استعاروا أعيناً وقدودا

وتضافروا بضفائرٍ أبدوا لنا

ضوء النّهار بليلها معقودا

صاغوا الثغور من الأقاحي بينها

ماء الحياة لو اغتدى مورودا 285 - وكان عند المتوكل مضحك يقال له الخطارة، فشرب ليلة مع المتوكل، وكان في السقاة وسيم، فوضع عينه عليه، فلما كان وقت السحر دب إليه، وكان بالقرب من المتوكل، فأحس به، فقال له: ما هذا يا خطارة

(1) ترجمة الكميت في الجذوة: 314 (وبغية الملتمس رقم: 1215) وهو الكميت بن الحسن أبو بكر من شعراء عماد الدولة ابن هود بسرقسطة؛ وانظر المغرب 1: 370.

(2)

الشعر في الذخيرة (2: 307) والمغرب 1: 370 وانظر ما تقدم ص: 403.

ص: 453

فقال له: يا مولاي هذا وقت تفرغ الخطارة الماء في الرياض، فقال له: لا تعد لئلا يكون ماء أحمر، فرجع إلى نومه، ولم يعد في ذلك كلمة بقية عمره معه، ولا أنكر منه شيئاً، ولم يحدث بها الخطارة حتى قتل المتوكل، رحمه الله تعالى.

والخطارة: صنف من الدواليب الخفاف يستقي به أهل الأندلس من الأدوية، وهو كثير على وادي إشبيلية، وأكثر ما يباكرون العمل في السحر.

286 -

وقال الوزير أبو زيد عبد الرحمن بن مولود:

أرني يوماً من الده

ر على وفق الأماني

ثمّ دعني بعد هذا

كيفما شئت تراني 287 - وقال أديب الأندلس وحافظها أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الفهري اليابري، وهو من رجال الذخيرة والقلائد، وشهرته مغنية عن الزيادة، يخاطب المتوكل وقد أنزله في دار وكفت عليه (1) :

أيا سامياً من جانبيه كليهما

" سموّ حباب الماء حالاً على حال "

لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها

" ديار لسلمى عافياتٌ بذي خال "

يقول لها لمّا رأى من دثورها

" ألا عم صباحاً أيّها الطّلل البالي "

فقالت وما عيّت جواباً بردّها

" وهل يعمن من كان في العصر الخالي "

فمر صاحب الانزال فيها بعاجلٍ

" فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " وقال في جمع حروف الزيادة حسبما ذكره عنه في " المغرب "(2) :

سألت الحروف الزائدات عن اسمها

فقالت ولم تكذب: أمان وتسهيل

(1) مرت هذه الأبيات ص: 293 وانظر المطرب: 182.

(2)

لم يرد البيت في ترجمة ابن عبدون في المغرب (1: 374) وإنما أورده صاحب المطرب: 180.

ص: 454

[ضوابط حروف الزيادة]

قلت وعلى ذكر حروف الزيادة فقد أكثر الناس في انتقاء الكلمات الضابطة لها، وقد كنت جمعت فيها نحو مائة ضابط، ولنذكر الآن بعضها، فنقول: منها " أهوى تلمسانا " ونظمتها فقلت:

قالت حروف زياداتٍ لسائلها

هل هويت بلدة: أهوى تلمسانا وجمعها ابن مالك في بيت واحد بأربعة أمثلة من غير حشو، وهو:

هناء وتسليم، تلا يوم أنسه،

نهاية مسؤول، أمان وتسهيل ومنها " هويت السمان ". وحكي أن أبا عثمان المازني سئل عنه فأنشد:

هويت السمان فشيّبنني

وقد كنت قدماً هويت السمانا فقيل له: أجبنا، فقال: أجبتكم مرتين، ويروى أنه قال: سألتمونيها، فأعطيتكم ثلاثة أجوبة، هكذا حكاه بعض المحقققين، وهو أرق مما حكاه غير واحد على غير هذا الوجه، ومنها:" سألتمونيها "، ومنها: اليوم تنساه، الموت ينساه، أسلمني وتاه، هم يتساءلون، التناهي سمو، تنمي وسائله، أسلمي تهاون، تهاوني أسلم، التمس هواني، ما سألت يهون، مؤنس التياه، لم يأتنا سهو، يا أويس هل نمت، نويت سؤالهم، نويت مسائله، سألتم هواني، تأملها يونس، أتاني وسهيل، هوني مسألتها، سألت ما يهون، وسليمان أتاه، تسأل من يهوى، استملاني هو، أسلمت وهناي، هو استمالني، سايل وأنت هم، يا هول استنم، أتاه وسليمان.

قلت: وليس هذا تكراراً مع السابق الذي هو " وسليمان أتاه " لأن التقديم والتأخير يصيرهما شيئين.

ومنها: الوسمي هتان، أوليتم سناه، واليتم أنسه، أمسيت وناله، أنله

ص: 455

توسيماً، أملتني سهواً، أتوسل يمنها، سألتهن يوماً، سألت يومنها، سألت ما يوهن، نهوي ما سألت، يهون ما سألت، وقد سبق " سألت ما يهون " وعدهما شيئين من أجل التقديم والتأخير كما مر نظيره، ألا تنس يومه، ليتأس ماؤه، سله موتي أنا، أنسته اليوم، سألم هوينا، آوي من تسأله، وهين ما سألت، وهني ما سألت، مسألتي نواه.

ومنها: مسألتي هاون، سهوان يتألم، أيلتم سهوان، أو يلتم ناسه، مسألتي أهون، أو ميت تنساه، سموتهن إليها، أمليت سهوان، وسألتم هينا، يهون ما تسأل، أتلو من سهيا، أسلم وانتهى، يتأمل سهوان، يتأمل ناسوه، يتأملن سواه، ايتأمل نسوه، الهوى أتنسم، وليت ماه آسن، تولين أسهما، اتلوا سهمين، أول ساهمتني، أسماؤه تنيل، يتأملنه سوا، أولم يتسناه، آمن ويتساهل، أمسيتن لهواً، توسميه لناء، هو ما تسألين، لأيهما نتوسم، أيهما نتوسل، أتاني لسموه، سميتهن أولاً، أولاهن سميت، سلمتني أهوا، أسلمتني هوا، أو نستميلها، أيستمهلونا، هنأت الموسى، سليم انتهوا، وأنت سائلهم، ساءلته ينمو، تهنأ لا يسمو، اسألي مؤنته، سألتي موهناً، التمس هوناً، استملي أهون، التناه موسى، لهواء يتسنم، نهوى ما تسأل، ماؤه ليتأسن، تنسمي لهواء، تلومي إن سها، ألمتني سهواً، ستولينا أمه، يتمهلون أسا، أمهلتني سوا، التناسي وهم، أهويت سلمان، هويت المأنس، المأنس تهوي، هويت أم ناسل، أوليس تم هنا، استوهن أملي، استهون ألمي، استلمنا وهيأ، أتسلمونيها، أيتسلمونها، ألا يتسمونه، أليس توهمنا، ألا يتسنموه.

فهذه مائة وأربعة وثلاثون تركيباً، منها ما هو متين، ومنها ما هو غير متين، وقد جمع ابن خروف فيها اثنين وعشرين تركيباً محكياً وغير محكي، وأحسنها بيت ابن عبدون السابق، ويليه بيت ابن مالك، وقال الطغمي جامعاً لها أربع مرات:

ص: 456

آلمتني سهواً، تلومي إن سها

أو ليس تم هنا، الهوا يتسم هكذا بخطه يتسنم، ولو قال يتنسم لكان أنسب، وقال أيضاً:

وليت ما سناه والتمسي هنا

ما تسألين هو الهنا يتوسم قلت: وقد جمعت في المغرب زيادة على ما تقدم، وكنت قدرت رسالة فيها أسميها " إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة ".

288 -

وقال أبو محمد عبد الله بن الليث يستدعي الوزير أبا الحسن اليابري في يوم غيم:

رقم الربيع بروضنا أزهاره

فجرى على صفحاته أنهاره

فعسى تشرفنا ببهجة سيّدٍ

ألقى على ليل الخطوب نهاره

تتمتّع الآداب من نفحاته

فيشمّ منها ورده وبهاره

يا سيداً بهر البرية سؤدداً

أبدى إلينا سرّه وجهاره

يومٌ أظلّ الغيم وجه ضيائه

فعليك يا شمس العلا إظهاره 289 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش (1) :

أدر كاس المدام فقد تغنّى

بفرع الأيك طائره الصّدوح

وهبّ على الرياض نسيم صبحٍ

يمرّ كما دنا سارٍ طليح

ومال النهر يشكو من حصاه

جراحاتٍ كما أنّ الجريح وقال:

حلفت ويشهد دمعي بما

أقاسيه من هجرك الزائد

(1) هو أبو القاسم خلف بن يوسف بن فرتون الأبرش النحوي (توفي: 532) وترجمته في التحفة: 13 والصلة: 174 وبغية الملتمس رقم: 722 وبغية الوعاة: 234.

ص: 457

فإن كنت تجحد ما أدّعي

وحاشاك تعرف بالجاحد

فإنّ النبيّ عليه السلام

قضى باليمين مع الشاهد 290 - وقال أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني صاحب الذخيرة، وشهرته تغني عن ذكره، ونظمه دون نثره، يخاطب أبا بكر ابن عبد العزيز:

أبا بكرٍ المجتبى للأدب

رفيع العماد قريع الحسب

أيلحن فيك الزمان الخؤون

ويعرب عنك لسان العرب

وإن لم يكن أفقنا واحداً

فينظمنا شمل هذا الأدب وقد ذكرنا له في غير هذا المحل قوله:

ألا بادر فلا ثانٍ سوى ما

عهدت الكأس والبدر التمام

الأبيات

وتأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وهو منسوب إلى " شنترين " من الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس.

291 -

وقال أبو عمر يوسف بن كوثر:

مررت به يوماً يغازل مثله

وهذا على ذا بالملاحة يمتنّ

فقلت: اجمعا في الوصل رأيكما فما

لمثلكما كان التغزل والمجن

عسى الصب يقضي الله بينكما له

بخيرٍ فقالا لي: اشتهى العسل السّمن 292 - وقال أبو محمد ابن سارة (1) :

أعندك أن البدر بات ضجيعي

فقضّيت أوطاري بغير شفيع

(1) الذخيرة (2: 324) .

ص: 458

جعلت ابنة العنقود بيني وبينه

فكانت لنا أمّاً وكان رضيعي وقال (1) :

أيا من حارت الأوهام فيه

فلم تعلم له الأقدار كنها

يجيد النبل منّاعقد أنسٍ

أقام بغير واسطةٍ فكنها 293 - وقال أبو الحسن [ابن] منذر الأشبوني:

فديتك إنّي عن جنابك راحلٌ

فهل لي يوماً من لقائك زاد

وحسبك والأيام خونٌ غوادرٌ

فراقٌ كما شاء العدا وبعاد 294 - وقال خلف بن هرون القطيني:

من أنبت الورد في خدّيك يا قمر

ومن حمى قطفه إذ ليس مصطبر

الزّهر بالرّوض مقرونٌ بأزمنةٍ

وروض خدّك موصولٌ به الزّهر 295 - وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس حسون وعزون ورحمون، فأولع بهم الإمام أبو محمد ابن السيد النحوي، وقال فيهم (2) :

أخفيت سقمي حتّى كاد يخفيني

وهمت في حبّ عزّون فعزّوني

ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت

نفسي إلى ريق حسّون فحسّوني ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة، هكذا رأيته بخط بعض المؤرخين والله أعلم.

(1) الذخيرة (2: 326) .

(2)

مر البيتان ص: 287 وقد حذفهما في م وقال: " وقد تقدمت هذه الحكاية ".

ص: 459

296 -

وقال ابن خفاجة يداعب من بقل عذاره (1) :

أيّها التائه مهلا

ساءني أن تهت جهلا

هل ترى فيما ترى

إلاّ شباباً قد تولّى

وغراماً قد تسرّى

وفؤاداً قد تسلّى

أين دمعٌ فيك يجري

أين جنبٌ يتقلّى

أين نفسٌ بك تهذي

وضلوعٌ فيك تصلى

أيّ باكٍ كان لولا

عارضٌ وافى فولّى

وتخلّى عنك إلاّ

أسفاً لا يتخلّى

وانطوى الحسن فهلاّ

أجمل الحسن وهلاّ أما بعد أيها النبيل النبيه، فإنه لا يجتمع العذار والتيه، قد كان ذلك وغصن تلك الشبيبة رطب، ومنهل ذلك المقبل عذب، وأما والعذار فقد بقل، والزمان قد انتقل، والصب قد صحا فعقل، فقد ركدت رياح الأشواق، ورقدت عيون العشاق، فدع عنك من نظرة التجني، ومشية التثني، وغض من عنانك، وخذ في ترضي إخوانك، وهش عند اللقاء هشة أريحية، واقنع بالإيماء رجع تحية، فكأني بفنائك مهجوراً، وبزائرك مأجوراً والسلام.

297 -

وقال الرصافي لما بعث إليه من يهواه سكيناً (2) :

تفاءلت بالسكين لمّا بعثته

لقد صدقت منّي العيافة والزجر

فكان من السكين سكناك في الحشا

وكان من القطع القطيعة والهجر

(1) ديوان ابن خفاجة: 129.

(2)

ديوان الرصافي: 99 (عن النفح) .

ص: 460

298 -

وحضر الفقيه أبو بكر ابن جبيش ليلة مع بعض الجلة وطفئ السراج، فقال ارتجالا:

أذك السراج يرينا غرة سفرت

فباتت الشمس تستحيي وتستتر

أو خله فكانا وجه سيدنا

لا يطلب النجم من في بيته (1) القمر 299 - وقصد أحد الأدباء بمرسية أحد السادات من بني عبد المؤمن، فأمر له بصلة خرجت على يد ابن له صغير، فقال المذكور ارتجالا:

تبرك بنجل جاء باليمن والسعد

يبشر بالتأييد طائفة المهدي

تكلم روح الله في المهد قبله

وهذا براء بدل اللام في المهد 300 - وخرج الأستاذ أبو الحسن ابن جابر الدباج (2) ، يوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبيلية، وأحضرت مجبنات ما خبا نارها (3) ، ولا هدأ أوراها، فما خام عنها ولا كف، ولا صرف حرها عن اختضابها البنان ولا الكف، فقال:

أحلى مواقعها إذا قربتها

وبخارها فوق الموائد سام

إن أحرقت لمسا فإن أوراها

في داخل الأحشاء برد سلام 301 - وقال أبو بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة (4) :

أمير المؤمنين نداء شيخ

أفادك من نصائحه اللطيفة

(1) م: في وجهه.

(2)

القصة والبيتان في القدح: 156 وانظر المغرب 1: 256.

(3)

كانت عادة أهل إشبيلية أكل هذه المجبنات يوم خميس إبريل.

(4)

زاد المسافر: 69.

ص: 461

تحفظ أن يكون الجذع يوما

سريرا من أسرتك المنيفه

أفكّر فيك مطويّاً فأبكي

وتضحكني أمانيك السخيفه 302 - وقال صفوان:

ونهار أنسٍ لو سألنا دهرنا

في أن يعود بمثله لم يقدر

خرق الزّمان لنا به عاداته

فلو اقترحنا النجم لم يتعذر

في فتيةٍ علمت ذكاء بحسنهم

فتلفّعت من غيمها في مئزر

والسرحة الغنّاء قد قبضت بها

كفّ النسيم على لواء أخضر

وكأن شكل الغيم (1) منخل فضّةٍ

يلقي على الآفاق رطب الجوهر 303 - واجتاز بعض الغلمان على أبي بكر ابن يوسف، فسلم عليه بإصبعه، فقال أبو بكر في ذلك وأشار في البيت الثالث إلى أن والد الغلام كان خطيب البلد:

مرّ الغزال بنا مروعاً نافراً

كشبيهه في القفر ريع بصائده

لثم السّلامى في السّلام تستراً

ثم انثنى حذر الرقيب لراصده

هلاّ تكلّف وقفةً لمحبّه

ولو آنها قصراً كجلسة والده 304 - وقال أبو القاسم القبتوري:

واحسرتا لأمورٍ ليس يبلغها

مالي وهنّ منى نفسي وآمالي

أصبحت كلآل لا جدوى لديّ وما

آليت جدّاً ولكن جدّي الآلي 305 - وقال أبو الحسن ابن الحاج (2) :

(1) ب: الماء.

(2)

هو جعفر بن الحاج، ترجم له القلائد: 139 والمغرب: 2: 277 وانظر الحاشية، وورد البيتان فيه ص: 281 والمطرب: 175 وقد وقعا في م قبل بيتي القبتوري.

ص: 462

كفى حزناً أنّ المشارع جمّةٌ

وعندي إليها غلّةٌ وأوام

ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى

كريمٌ وأنّ المكثرين لئام 306 - وقال أحمد بن أمية البلنسي:

قال رئيسي حين فاوضته

وما درى أنّ مقامي عسير

أقم فقلت الحال لا تقتضي

فقال سر قلت جناحي كسير 307 - وقال ابن برطله:

لله ما ألقاه من همّةٍ

لا ترتضي إلا السّها منزلا

ومن خمولٍ كلما رمت أن

أسمو به بين الورى قال لا 308 - وكتب ابن خروف لبعض الرؤساء:

يا من حوى كلّ مجدٍ

بجدّه وبجدّه

أتاك نجل خروفٍ

فامنن عليه بحدّه وكتب أيضاً لبعضهم يستدعي فروة:

بهاء الدين والدنيا

ونور المجد والحسب

طلبت مخافة الأنوا

ء من جدواك جلد أبي

وفضلك عالمٌ أنّي

خروفٌ بارع الأدب

حلبت الدهر أشطره

وفي حلبٍ صفا حلبي وبعد كتبي لما ذكر خشيت أن لا يكون لابن خروف المشرقي لا الأندلسي (1) ، والله تعالى أعلم.

(1) هو كما قدر المقري فإن هاتين القطعتين لابن خروف أبي الحسن علي بن خمد، ولكنه أيضا قرطبي الأصل استقر بحلب (انظر الغصون اليانعة: 138 وزاد المسافر: 20) .

ص: 463

309 -

وركب محبوب أبي بكر ابن مالك (1) كاتب ابن سعد بغلةً رديف رجل يعرف بالدب، فقال أبو بكر في ذلك:

وبغلةٍ ما لها مثال

يركبها الدّب والغزال

كأنّ هذا وذا عليها

سحابةً خلفها هلال 310 - وخرج محبوب لأبي الحسن ابن حريق (2) يوماً لنزهة وعرض سيل عاقه عن دخول البلد، فبات ليلة عند أبي الحسن، فقال في ذلك:

يا ليلةً جادت الأماني

بها على رغم أنف دهري

تسيل فيها عليّ نعمى

يقصر عنها لسان شكري

أبات في منزلي حبيبي

وقام في أهله بعذر

وبتّ لا حالةٌ كحالي

صريع سكرٍ ضجيع بدر

يا ليلة القدر في اللّيالي

لأنت خيرٌ من آلف شهر 311 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق (3) :

عذيري من هضيم الكشح أحوى

رخيم الدّل قد لبس الشّبابا

أعدّ الهجر (4) هاجرةً لقلبي

وصيّر وعده فيها سرابا 312 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي:

ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه

فلا تكتسب بالمال شيئاً سوى الذكر

فقد أبلت الأيّام كعباً وحاتماً

وذكرهما غضٌّ جديدٌ إلى الحشر

(1) زاد المسافر: 33.

(2)

هذا الخبر والشعر سقطا من م؛ وقد مرت الأبيات ص: 410.

(3)

ديوان ابن الزقاق: 98.

(4)

ب: العتب.

ص: 464

313 -

وقال الأديب أبو عبد الله الجذامي (1) : كان لشخصٍ من أصحابنا قينة، فبينما هو ذات يوم قد رام تقبيلها على أثر سواك أبصره بمبسمها إذ مرّ فوال ينادي على فول يبيعه، قال فكلفني أن أقول في ذلك شيئاً، فقلت:

ولم أنس يوم الأنس حين سمحت لي

وأهديت لي من فيك فول سواك

ومرّ بنا الفوّال للفول مادحاً

وما قصده في المدح فول سواك وشرب يوماً أبو عبد الله المذكور عند بعض الأجلة وذرعه القيء، فارتجل في العذر:

لا تؤاخذ من أخلّ به

قهوةٌ في الكاس كالقبس

كيف يلحى في المدام فتىً

أخذته أخذ مفترس

دخلت في الحلق مكرهةً

ضاق عنها موضع النفس

خرجت من موضعٍ دخلت

أنفت من مخرج النجس 314 - وجلس سلمة بن أحمد إلى جنب وسيم يكتب من محبرة فانصب الحبر منها على ثوب سلمة، فخجل الغلام، فقال سلمة:

صبّ المداد وما تعمّد صبّه

فتورّد الخدّ المليح الأزهر

يا من يؤثّر حبره في ثوبنا

تأثير لحظك في فؤادي أكبر 315 - وكان لأبي الحسن ابن حزمون (2) بمرسية محبوب يدعى أبا عامر، وسافر أبو الحسن، فبينما هو بخارج المرية لإذ لقي فتىً يشبه محبوبه، وسأله عن اسمه، فأخبره بأنه يدعى أبا عامر، فقال أبو الحسن في ذلك:

إلى كم أفرّ أمام الهوى

وليس لذا الحبّ من آخر

(1) الخبر والبيتان التاليان ساقطة من م.

(2)

من شعراء زاد المسافر: 64 وله شعر في المعجب والبيان المغرب.

ص: 465

وكيف أفرّ أمام الهوى

وفي كلّ وادٍ أبو عامر 316 - وحضر أبو بكر ابن مالك كاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوال، فأغمي على الناس ورآه محبوبه، فقال أبو بكر في ذلك (1) :

توارى هلال الأفق عن أعين الورى

ولاح لمن أهواه منه فحيّاه (2)

فقلت لهم: لم تفهموا كنه سرّه

ولكن خذوا عنّي حقيقة معناه

بدا الفق كالمرآة راق صفاؤه

فأبصر دون الناس فيه محيّاه 317 - وكتب أبو بكر ابن حبيش لمن يهواه بقوله:

متى ما ترم شرحاً بحالي وتبيينا

فصحّف على قلبي " علومك تحيينا " أراد " إني بحبك مولع ".

318 -

وكتب القاضي ابن السليم (3) إلى الحكم المستنصر بالله:

لو أنّ أعضاء جسمي ألسنٌ نطقت

بشكر نعماك عندي قلّ شكري لك

أو كان ملّكني الرحمن من أجلي

شيئاً وصلت به يا سيدي أجلك

ومن تكن في الورى آماله كثرت

فإنّما أملي في أن ترى أملك 319 - وقال الوزير ابن أبي الخصال:

وكيف أؤدّي شكر من إن شكرته

على برّ يومٍ زادني مثله غدا

فإن رمت أقضي اليوم بعض الذي مضى

رأيت له فضلاً عليّ مجدّدا

(1) زاد المسافر: 33.

(2)

م: محياه.

(3)

ب: ابن سليم.

ص: 466

320 -

وقال الرصافي (1) :

قلّدت جيد الفكر من تلك الحلى

ما شاءه المنثور والمنظوم

وأشرت قدّامي كأنّي لاثمٌ

وكأن كفّي ذلك الملثوم وقال:

ويا لك نعمةً رمنا مداها

فما وصل اللسان ولا الضمير

عجزنا أن نقوم لها بشكرٍ

على أنّ الشكور لها كثير 321 - وقال ابن باجة:

قومٌ إذا انتقبوا رأيت أهلّةً

وإذا هم سفروا رأيت بدوراً

لا يسألون عن النوال عفاتهم

شكراً ولا يحمون منه نقيرا

لو أنهم مسحوا على جدب الرّبى

بأكفهم نبت الأقاح نضيرا (2) 322 - وقال ابن الأبار يمدح أبا زكريا سلطان إفريقية:

تحلّت بعلياك اللّيالي العواطل

ودانت لسقياك السحاب الهواطل

وما زينة الأيام إلا مناقبٌ

يفرّعها أصلان: بأسٌ ونائل

إذا الطّول والصّول استقلاّ براحةٍ

ترقّت لها نحو النجوم أنامل وقال أيضاً في سعيد بن حكم رئيس منرقة:

سيّدٌ أيّدٌ رئيسٌ بئيسٌ

في أساريره صفات الصباح

قمرٌ في أفق المعالي تجلّى

وتحلّى بالسؤدد الوضّاح

سلم البحر في السماحة منه

لجوادٍ سموّه بحر السماح

(1) ديوان الرصافي: 131، 87.

(2)

ب: صغيرا.

ص: 467

323 -

وقال أبو العباس أحمد الإشبيلي:

يا أفضل الناس إجماعاً ومعرفتي

تغني وما الحسن في ريب ولا ريب

ورثت عن سلفٍ ما شئت من شرفٍ

فقد بهرت بموروثٍ ومكتسب 324 - وقال ابن زهر الحفيد:

يا من يذكّرني بعهد أحبّتي

طاب الحديث بذكرههم ويطيب

أعد الحديث عليّ من جنباته

إنّ الحديث عن الحبيب حبيب

ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها

قلبٌ إذا ذكر الحبيب يذوب

ما زال يضرب خافقاً بجناحه

يا ليت شعري هل تطير قلوب وقال في زهر الكتان:

أهلاً بزهر اللاّزورد ومرحبا

في روضة الكتّان تعطفه الصّبا

لو كنت ذا جهلٍ لخلتك لجّةً

وكشفت عن ساقٍ كما فعلت سبا ولما قال الموشحة المشهورة التي أولها:

صادني ولم يدر ما صادا

قال أبو بكر ابن الجد: لو سئل عما صاد لقال: تيس بلحية حمراء.

ولما قال الموشحة التي أولها:

هات ابنة العنب

واشرب إلى قوله:

وفدّه بأبي

ثمّ بي سمعها أبوه فقال: يفديه بالعجوز السوء أمه، وأما أنا فلا.

ص: 468

325 -

وهنالك أبو بكر ابن زهر الأصغر (1)، وهو ابن عم هذا الأكبر. ومن نظم الأصغر:

والله ما أدري بما أتوسّل

إذ ليس لي ذاتٌ بها أتوصّل

لكن جعلت مودتي مع خدمتي

لعلاك أحظى شافعٍ يتقبّل

إن كنت من أدوات زهرٍ عاطلاً

فالزّهر منهنّ السّماك الأعزل وهذه الأبيات خاطب ها المأمون بن المنصور صاحب المغرب.

326 -

وقال الأديب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة:

وما زالت الدنيا طريقاً لهالك

تباين في أحوالها وتخالف

ففي جانبٍ منها تقوم مآتمٌ

وفي جانبٍ منها تقوم معازف

فمن كان فيها قاطناً فهو ظاغنٌ

ومن كان فيها آمناً فهو خائف 327 - وقال أبو بكر محمد ابن صاحب الصلاة يخاطب أخيل (2) لما انتقل إلى العدوة:

لا تنكرنّ زماناً

رماك منه بسهم

وأنت غاية مجدٍ

في كلّ علمٍ وفهم

هذي دموعي حتى

يراك طرفي تهمي

يا ليت ما كنت أخشى

عليك عدوان همّ

وإنّما الدهر يبدي

ما لا يجوز بوهم

ما زال شيهم مسٍّ

لكلّ يقظان شهم ولما وفد اهل الأندلس على عبد المؤمن قام خطيباً ناثراً وناظماً، فأتى

(1) هو أبو بكر محمد بن قسورة الإيادي، وترجمته وأبياته في القدح: 150 - 151.

(2)

بياض في ب؛ م: اخال.

ص: 469

بالعجب، وباهى به أهل الأندلس في ذلك الوقت.

وله في عبد المؤمن:

هم الألى وهبوا للحرب أنفسهم

وأنهبوا ما حوت أيديهم الصّفدا

ما إن يغبّون كحل الشمس من رهجٍ

كأنّما عينها تشكو لهم رمدا 328 - وقال ابن السيد البطليوسي في أبي الحكم عمرو بن مذحج ابن حزم، وقد غلب على لبه، وأخذ بمجامع قلبه (1) :

رأى صاحبي عمراً فكلّف وصفه

وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق

فقلت له: عمرٌ كعمرٍ فقال لي

صدقت ولكن ذاك شبّ (2) عن الطوق وفيه يقول ابن عبدون (3) :

يا عمرو ردّ على الصّدور قلوبها

من غير تقطيعٍ ولا تحريق

وأدر علينا من خلالك أكؤساً

لم تأل تسكرنا بغير رحيق وفيه يقول أحدهما:

قل لعمرو بن مذحج

جاء ما كنت أرتجي

شاربٌ من زبرجدٍ

ولمىً من بنفسج وكتب إليه ابن عبدون:

سلامٌ كما هبّت من المزن نفحةٌ

تنفّس عند الفجر في وجهها الزهر

(1) مر البيتان في المجلد الأول: 636 وهنا خطأ فصاحب البيتين كما هو أبو الحسن البطليوسي (ابن القبطورنة)، ذكر ذلك ابن بسام في الذخيرة وابن سعيد في المغرب 1:238.

(2)

ب م: ولكن ذا أشب.

(3)

الذخيرة (2: 232) .

ص: 470

ومنها:

أبا حسن أبلغ سلام فمي يدي

أبي حسنٍ وارفق فكلتاهما بحر

ولا تنس يمناك التي (1) هي والندى

رضيعا لبانٍ لا اللّجين ولا التّبر فأجابه من أبيات:

تحيّر ذهني في مجاري صفاته

فلم أدر شعرٌ ما به فهت أم سحر

أرى الدهر أعطاك التقدّم في العلى

وإن كان قد وافى أخيراً بك الدهر

لئن حازت الدنيا بك الفضل آخراً

ففي أخريات الليل ينبلج الفجر ولعمرو في أبي العلاء ابن زهر (2) :

قدمت علينا والزمان جديد

وما زلت تبدي في الندى وتعيد

وحقّ (3) العلا لولا مراتبك العلا

لما اخضرّ في أفق المكارم عود

فلوحوا بني زهرٍ فإنّ وجوهكم

نجومٌ بأفلاك العلاء سعود وقوله لأبي الوليد ابن عمه (4) :

إنّي لأعجب أن يدنو بنا وطنٌ

ولا يقضّى من اللّقيا لنا وطر

لا غرو إن بعدت دارٌ مصاقبة

بنا وجدّ بنا للحضرة السّفر

فمحجر العين لا يلقاه ناظرها

وقد توسّع في الدنيا به النظر وقال ابن عمه أبو بكر محمد بن مذحج يخاطب ابن عمه أبا الوليد (5) :

(1) الذخيرة: لي تلك التي.

(2)

الذخيرة (2: 234) ؛ وفي م: ولعمرو في ابن زهر.

(3)

الذخيرة: وعيش.

(4)

الذخيرة (2: 235) .

(5)

الذخيرة (2:234) .

ص: 471

ولمّا رأى حمص استخّفت بقدره

على أنّها كانت به ليلة القدر

تحمّل عنها والبلاد عريضةٌ

كما سلّ من غمد الدّجى صارم الفجر وقال أبو الوليد المذكور (1) :

أتجزع من دمعي وأنت أسلته

ومن نار أحشائي وأنت لهيبها

وتزعم أنّ النّغس غيرك علّقت

وأنت ولا منٌّ عليك حبيبها

إذا طلعت سمشٌ عليّ بسلوةٍ

أثار الهوى بين الضلوع غروبها وله أيضاً (2) :

لمّا استمالك معشرٌ لم أرضهم

والقول فيك، كما علمت، كثير

داريت دونك مهجتي فتماسكت

من بعد ما كادت إليك تطير

فاذهب فغير جوانحي لك منزلٌ

واسمع فغير وفائك المشكور وقال:

يقول وقد لمته في هوى

فلانٍ وعرّضت شيئاً قليلا

أتحسدني قلت: لا والذي

أحلّك في الحبّ مرعىً وبيلا

وكيف وقد حلّ ذاك الجناب

وقد سلك الناس ذاك السبيلا وله مما يكتب على قوس (3) :

إنّا إذا رفعت سماء عجاجةٍ

والحرب تقعد بالرّدى وتقوم

وتمرّد الأبطال في جنباتها

والموت من فوق النّفوس يحوم

(1) الذخيرة: 237.

(2)

المغرب 1: 240.

(3)

الذخيرة (2: 244) ؛ م: ومما يكتب على قوس قوله.

ص: 472

مرقت لهم منّا الحتوف كأنّما

نحن الأهلّة والسهام نجوم (1) 329 - وقال أبو الحسين ابن فندلة في كلب صيد (2) :

فجعت بمن لو رمت تعبير وصفه

لقلّ ولو أنّي غرفت من البحر

بأخطل وثّابٍ طموحٍ مؤدّبٍ

ثبوتٍ يصيد النّسر لو حلّ في النسر

كلون الشباب الغضّ في وجهه سناً

كأنّ ظلاماً ليس فيه سوى البدر

إذا سار والبازيّ أقول تعجّباً

ألا ليت شعري يسبق الطير من يجري ولا يلتفت إلى أقول أبي العباس ابن سيد فيه (3) :

الموت لا يبقي على مهجةٍ

لا أسداً يبقي ولا نعثله (4)

ولا شريفاً لبني هاشمٍ

ولا وضيعاً لبني فندله وكان ابن سيد مسلطاً على هذا البيت، قال ابن سعيد: وإنما ينبح الكلب القمر.

330 -

قال أبو العباس النجار (5) : كان أبو الحسين يلقب بالوزغة، فوصلت إلى بابه يوماً، فتحجب عني، فكتبت على الباب:

تحجّب الفندليّ عنّي

فساء من فعله ضميري

ينفر من رؤيتي كأنّي

مضمّخ الجيب بالعبير قال: ومن عادة الوزغة أن تكره رائحة الزعفران وتهرب منه.

(1) الذخيرة: رجوم.

(2)

ترجمته في المغرب 1: والحاشية؛ وكنيته فيه أبو الحسن.

(3)

هو أحمد بن سيد الملقب (المغرب 1: 252 والحاشية) .

(4)

ب: تتفله؛ م: شكله.

(5)

ب: الأبار؛ ق: النبار.

ص: 473

331 -

وقال أبو القاسم ابن حسان (1) :

ألا ليتني ما كنت يوماً معظّماً

ولا عرفوا شخصي ولا علموا قصري

أكلّف في حال المشيب بمثل ما

تحمّلته والغصن في ورقٍ نضر

فما عاش في الأيام في حرّ عيشةٍ

سوى رجل ناءٍ عن النّهي والأمر 332 - وقال أبو بكر ابن مرتين (2) :

صحبت منك العلا والفضل والكرما

وشيمةً في النّدى لا ترتضي السأما

مودّةٌ في ثرى الإنصاف راسخةٌ

وسمكها فوق أعناق السّماء سما وقال:

أنصفتني فمحضتك الودّ الذي

يجزى بصفوته الخليل المنصف

لا تشكرنّ سوى خلالك إنّها

جلبت إليك من الثنا ما يعرف وقال:

يا هلالاً يتجلّى

وقضيباً يتثنّى

كلّ أنسٍ لم تكنه

فهو لفظٌ دون معنى 333 - وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن زرقون:

ذكر العهد والديار غريب

فجرى دمعه ولجّ النّحيب

ذكر العهد والنّوى من حبيبٍ

حبّذا العهد والنّوى والحبيب

إذ صفاء الوداد غير مشوبٍ

بتجنٍّ وودّنا مشبوب

(1) ترجمته في القدح: 148 (توفي سنة 625) .

(2)

أبو بكر محمد بن مرتين وزر للظافر بن المعتمد أثناء ولايته على قرطبة؛ (انظر المغرب 1: 234 وفيه البيتان الأولان) .

ص: 474

وإذا الدهر دهرنا وإذا الدا

ر قريبٌ وإذ يقول الرّقيب ومنها:

أسأل الله عفوه فلئن سا

ء مقالي لقد تعفّ القلوب

قد ينال الفتى الصغائر ظرفاً

لا سواها وللذّنوب ذنوب

وأخو الشّعر لا جناح عليه

وسواءٌ صدوقه والكذوب 334 - وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عمر الإشبيلي (1) :

وكلٌّ إلى طبعه عائدٌ

وغن صدّه المنع عن قصده

كذا الماء من بعد إسخانه

يعود سريعاً إلى برده وقال:

يا معدن الفضل وطود الحجى

لا زلت من بحر العلا تغترف

عبدك بالباب فقل منعماً

يدخل أو يصبر أو ينصرف 335 - وقال إمام اللغة أبو بكر محمد بن الحسن (2) الزبيدي الإشبيلي:

ما طلبت العلوم إلاّ لأنّي

لم أزل من فنونها في رياض

ما سواها له بقلبي حظٌّ

غير ما كان للعيون المراض وقال:

أشعرن قلبك ياسا

ليس هذا الناس ناسا

ذهب الإبريز منهم

فبقوا بعد نحاسا

(1) هو المعروف بالمهيرس، وقد مرت الإشارة إلى ترجمته، قتل في واقعة تالمست سنة 625.

(2)

ق ب: الحسين.

ص: 475

سامريّين يقولو

ن جميعاً لا مساسا وكان كتاب " العين " للخليل مختل القواعد، فامتعض له هذا الإمام، وصقل صدأه كما يصقل الحسام، وأبرزه في أجمل منزع، حتى قيل: هذا مما أبدع واخترع، وله كتاب في النحو يسمى " الواضح " وصيره الحكم المستنصر مؤدباً لولده هشام المؤيد، وبالجملة فهو في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق (1) .

336 -

وقال النحوي أبو بكر محمد بن طلحة الإشبيلي (2) ، وشعره رقيق خارج عن شعر النحاة، ومنه:

إلى أيّ يومٍ بعده يرفع الخمر

وللورق تغريدٌ وقد خفق النّهر

وقد صقلت كفّ الغزالة أفقها

وفوق متون الروض أرديةٌ خضر

وكم قد بكت عين السماء بدمعها

عليها ولولا ذاك ما بسم الزهر وقال (3) :

بدا الهلال فلمّا

بدا نقصت وتمّا

كأنّ جسمي فعلٌ

وسحر عينيه " لمّا " وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصور الحسان، وأتاه يوماً أحد أصحابه بولد له فتان الصورة، فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه، ولم يلتفت إلى والده، وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله، وقد افتضح في طاعة هواه، فقال له الرجل: يا أبا بكر حقق النظر فيه لعله مملوك ضاع لك، وقد

(1) م ب: بالمشرق.

(2)

ترجمته في المغرب 1: 253 والتكملة: 605 وبغية الوعاة: 49 وبرنامج الرعيني: 79.

(3)

البيتان في المغرب.

ص: 476

جبره الله تعالى عليك، ولكن على من يتركه عندك لعنة الله، هذا ما علمت بمحضري، والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلن به ما اشتهر عنك؛ وأخذ ولده وانصرف به، فانقلب المجلس ضحكاً.

337 -

وقال أبو جعفر أحمد ابن الأبار الإشبيلي (1)، وهو من رجال " الذخيرة ":

زارني خيفة الرقيب مريبا

يتشكّى منه القضيب الكثيبا

رشأٌ راش لي سهام المنايا

من جفونٍ يسبي بهنّ القلوبا

قال لي ما ترى الرقيب مطلاًّ

قلت دعه أتى الجناب الرحيبا

عاطه أكؤس المدام دراكاً

وأدرها عليه كوباً فكوبا

واسقنيها من خمر عينيك صرفاً

واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا

ثمّ لمّا أن نام من نتّقيه

وتلقّى الكرى سميعاً مجيبا (2)

قال لا بدّ أن تدبّ عليه

قلت أبغي رشاً وآخذ ذيبا

قال فابدأ بنا وثنّ عليه

قلت عمري لقد أتيت قريبا

فوثبنا على الغزال ركوباً

وسعينا على الرقيب دبيبا

فهل آبصرت أو سمعت بصبٍّ

ناك محبوبه وناك الرّقيبا وأنشد له ابن حزم (3) :

أوما رأيت الدهر أقبل معتباً

متنصلاً بالعذر ممّا أذنبا

بالأمس أذبل في رياضك أيكةً

واليوم أطلع في سمائك كوكبا

(1) انظر الذخيرة (2: 52) والمغرب 1: 253 والجذوة: 107 وبغية الملتمس رقم: 364 ووفيات الأعيان 1: 64 والمسالك 11: 418.

(2)

سقط من م؛ وفي ب: ثم لما أتى الرقيب سريعا.

(3)

يعني في الجذوة: 107.

ص: 477

وقيل: إنه خاطب بهما ابن عباد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنتٌ وولد له ابنٌ، وبعضهم ينسبهما لغيره.

338 -

ودخل الأديب أبو القاسم [ابن](1) العطار الإشبيلي حماماً بإشبيلية، فجلس إلى جانبه وسيم خمري العينين، فافتتن بالنظر إليه إلى أن قام وقعد في مكانه أسود، فقال:

مضت جنّة المأوى وجاءت جهنّم

فها أنا أشقى بعدما كنت أنعم

وما كان إلا الشمس حان غروبها

فأعقبها جنحٌ من الليل مظلم 339 - وقال الأديب المصنف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان ابن الإمام الإشبيلي صاحب " سمط الجمان ":

عذيري من اليام لا درّ درّها

لقد حمّلتني فوق ما كنت ارهب

وقد كنت جلداً ما ينهنهني النوى

ولا يستبيني الحادث المتغلّب

يقاسي صروف الدهر مني مع الصّبا

جذيل حكاكٍ أو عذيقٌ مرجّب

وكنت إذا ما الخطب مذّ جناحه

عليّ تراني تحته أتقلّب

فقد صرت خفّاق الجناح يروعني

غرابٌ إذا أبصرته وهو ينعب

وأحسب من ألقى حبيباً مودّعاً

وأنّ بلاد الله طرّاً محصّب وقد امتعض للاداب في صدر دولة بني عبد المؤمن، فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنه منها في ذلك الأوان، واستولى بذلك على خصل الرهان، وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلا فلان وفلان.

340 -

وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماماً في فنون العربية، ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد ونوادر

(1) زيادة من المغرب 1: 254 وانظر القلائد: 284 والمسالك 11: 394.

ص: 478

القالي وما أشبه ذلك، وكان - مع زهده - فيه لوذعية، ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة: بالله أعطني قبلة تمسك رمقي، فشكاه إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، قال لي هذا كله، فقال له الشيخ: وأعطيته ما طلب فقال: لا، فقال له: ما هذه الثقالة ما كفام أن حرمته حتى تشتكي به أيضاً وحسبك من جلالة قدره أن أهل إشبيلية رضوا به إماماً في جامع العدبس.

وله (1) :

لمّا تبدّت وشمس الأفق باديةٌ

أبصرت شمسين من قربٍ ومن بعد

من عادة الشمس تعشي عين ناظرها

وهذه نورها يشفي من الرّمد 341 - وقال مالك بن وهب:

أراميتي بالسحر من لحظاتها

نعيذك كيف الرمي من دون أسهم

ألا فاعلمي أن قد أصبت، فواصلي

سهامك أو كفّي فلست بمسلم

فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري

مطالبةً بالقلب واليد والفم

أما هو في غيلٍ إذا غابه القنا

تحفّ به آساد كلّ ملثّم

ولو أنّ لي ركناً شديداً بنجوة

أويت له من بأس لحظك فارحمي وهو إشبيلي، كان من أهل الفلسفة كما في " المسهب "، قال: وهو فيلسوف المغرب، ظاهر الزهد والورع، استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين إلى حضرة مراكش، وصيره جليسه وأ، يسه، وفيه يقول بعض أعدائه:

دولةٌ لابن تاشفين عليٍّ

طهرت بالكمال من كلّ عيب

غير أنّ الشيطان دسّ إليها

من خباياه مالك بن وهيب

(1) القدح: 156.

ص: 479

وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن.

[أشعار لأبي الصلت]

342 -

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه (1) :

بمعاليك وجدّك

جد بلقياك لعبدك

حضر الكلّ ولكن

لم يطب شئ لفقدك وقال:

وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ

لكنّه في القبول جلمود

فهو كذي عنّةٍ به شبقٌ

ومشتهي الأكل وهو ممعود وقال:

لئن عرضت نوى وعدت عواد

أدالت من دنوّك بالعاد

فما بعدت عن اللقيا جسومٌ

تدانت بالمحبّة والوداد

ولكن قرب دارك كان أندى

على كبدي وأحلى في فؤادي وله في مجمرة:

ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى

ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد

إذا ما بدا برق المدام رأيتها

تثير غماماً في النديّ من النّدّ

ولم أر ناراً كلّما شبّ جمرها

رأيت الندامى منه في جنّة الخلد

(1) معظم هذه القطع لأبي الصلت وردت في الخريدة 4 / 1: 258 - 320.

ص: 480

وقوله من قصيدة:

وإن هم نكصوا يوماً فلا عجبٌ

قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر

العود أحمد والأيّام ضامنةٌ

عقبى النجاح ووعد الله منتظر وقال:

تقريب ذي الأمر لأهل النّهى

أفضل ما ساس به أمره

هذا به أولى وما ضرّه

تقريب أهل الهوى في النّدره

عطاردٌ في جلّ أوقاته

أدنى إلى الشمس من الزّهره وقوله:

تفكّر في نقصان مالك دائماً

وتغفل عن نقصان جسمك والعمر

ويثنيك خوف الفقر عن كلّ بغيّةٍ

وخوفك حال الفقر شرّ من الفقر وقوله:

يا ليلة لم تبن من القصر

كأنّها قبلةٌ على حذر

لم تك إلاّ كلا ولا مضت

تدفع في صدرها يد السّحر وقال فيمن نظر إليه فأعرض عنه:

قالوا: ثنى عنك بعد البشر صفحته

فهل أصاخ إلى الواشي فغيّره

فقلت: لا بل درى وجدي بعارضه

فردّ صفحته عمداً لأبصره وقال:

حكت الزمان تلوّناً

لمحبّها العاني الأسير

فوصالها برد الأصي

ل وهجرها حرّ الهجير

ص: 481

وقال يستدعي:

هو يومٌ كما تراه مطير

كلب القرّ فيه والزمهرير

وأرانا الغمام والبرد ثوبي

ن علينا كلاهما مجرور

ولدينا شمسان شمسٌ من الرّا

ح وشمسٌ تسعى بها وتدور

فمن الرأي أن تشبّ الكواني

ن بأجذالها وترخى الستور

فاترك الاعتذار فيه فترك ال

شرب في مثل يومنا تعذير وقال:

هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً

على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا وقال:

غبت عنّا فغاب كلّ جمالٍ

ونأى إذ نأيت كلّ سرور

ثمّ لمّا قدمت عاودنا الأن

س وقرّت قلوبنا في الصدور

فلو آنّا نجزي البشير بنعمى

لوهبنا حياتنا للبشير وقال:

كم ضيّعت منك المنى حاصلاً

كان من الأحزم أن يحفظا

فالفظ بها عنك فمن حقّ ما

يخفي صواب الرأي أن يلفظا

فإن تعللت بأطماعها

فإنّما تحلم مستيقظا وقال:

يقولون لي صبراً وإنّي لصابرٌ

على نائبات الدهر وهي فواجع

سأصبر حتى يقضي الله ما قضى

وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع

ص: 482

وقال:

بأبي خودٌ شموعٌ (1)

أقبلت تحمل شمعه

فالتقى نوراهما واخ

تلفا قدراً ورفعه

ومسير الشمس تسته

دي بضوء النجم بدعه وقال في فرس أشهب:

وأشهبٍ كالشهاب أضحى

يلوح في مذهب الجلال

قال حسودي وقد رآه

يخبّ تحتي (2) إلى القتال:

من ألجم الصبح بالثريا

وأسرج البرق بالهلال وقال:

رمتني صروف الدهر بين معاشرٍ

أصحّهم ودّاً عدوٌّ مقاتل

وما غربة الإنسان في غير داره

ولكنّها في قرب من لا يشاكل وقال:

أصبحت صبّاً دنفاً مغرما

أشكو جوى الحبّ وأبكي دما

هذا وقد سلّم إذ مرّ بي

فكيف لو مرّ وما سلّما وقال:

وقفنا للنّوى فهفت قلوبٌ

أضرّ بها الجوى وهمت شؤون

يناجي بعضنا باللحظ بعضاً

فتعرب عن ضمائرنا العيون

فلا والله ما حفظت عهودٌ

كما ضمنوا ولا قضيت ديون

(1) الشموع: اللعوب.

(2)

الخريدة: يجنب خلفي.

ص: 483

ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ

لأنصف من يفي ممّن يخون

أمرّ بداركم وأغضّ طرفي

مخافة أن تظنّ بي الظنون 343 - ولما رأى عبد الرحمن بن شبلاق (1) الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مر على قبرٍ وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر، وهو أبو نواس الحسن بن هانئ، قال:

جادك يا قبر انسكاب (2) الغمام

وعاد بالروح عليك السلام

ففيك أضحى الظّرف مستودعاً

واستترت عنّا عيون الظلام 344 - وقال أبو بكر محمد بن نصر الإشبيلي (3) :

وكأنّما تللك الرياض عرائسٌ

ملبوسهنّ معصفرٌ ومزعفر

أو كالقيان لبسن موشيّ الحلى

فلهنّ في وشي اللباس تبختر 345 - وقال أحمد بن محمد الإشبيلي (4) :

أما ترى النرجس الغضّ الذكيّ بدا

كأنّه عاشقٌ شابت ذوائبه

أو المحبّ شكا لمّا أضرّ به

فرط السّقام فعادته حبائبه وقال (5) :

ربّ نيلوفرٍ غدا مخجل الرا

ئي إليه نفاسةً وغرابه

كمليكٍ للزنج في قبّةٍ بي

ضاء يدنو الدجى فيغلق بابه

(1) في الأصول: سبلاق، والتصويب عن الجذوة:255.

(2)

الجذوة: نشاص؛ وهو السحاب المرتفع.

(3)

البيتان في كتاب البديع: 27.

(4)

هو أبو جعفر ابن الأبار الذي سبق ذكره؛ وترجم له صاحب المغرب 1: 259 وفيه القطعتان.

(5)

البديع: 146.

ص: 484

346 -

وقال أبو [الحسن](1) الأصبغ بن سيد:

كأنّما النرجس في منظر ال

حسن الذي أمثاله تبتغى

أناملٌ من فضّةٍ فوقه

كأسٌ من التبر أفرغا 347 - وقال أبو إسحاق إبراهيم ابن خيرة الصباغ مما أنشده له أبو عامر ابن مسلمة في كتاب " حديقة الارتياح "(2) :

يومٌ كأنّ سحابه

لبست عمامي المصامت

حجبت به شمس الضحى

بمثال أجنحة الفواخت

فالغيث يبكي فقدها

والبرق يضحك مثل شامت

والرعد يخطب مفصحاً

والجوّ كالمحزون ساكت

والروض يسقيه الحيا

والنّور ينظر مثل باهت

فاشرب ولذّ بجنّةٍ

واطرب فإنّ العمر فائت وله:

ربّ ليلٍ طال لا صبح له

ذي نجومٍ أقسمت أن لا تغور

قد هتكنا جنحه من فلقٍ

من خمورٍ ووجوهٍ كالبدور

إذ بدت تشبهها في كأسها

نار إبراهيم في بردٍ ونور

صرعتنا إذ علونا ظهرها

في ميادين التصابي والسرور

وكأنّا حين قمنا معشرٌ

نشروا بعد مماتٍ من قبور 348 - وقال أبو بكر ابن حجاج (3) :

(1) زيادة من الجذوة: 164؛ قال الحميدي: وهو شاعر إشبيلي رأيته قبل الخمسين واربعمائة.

(2)

الجذوة: 145 وفيه بعض الأبيات التائية، ونسبها لأبي عامر ابن مسلمة في المطمح: 23 وهي في المغرب 1: 260 لابن خيرة.

(3)

هو ابو بكر عبد الله بن حجاج من شعراء المعتضد، هجر إشبيلية إلى الجزيرة الخضراء وأخذ يمدح محمد بن القاسم بن حمود (المغرب 1: 261) .

ص: 485

لمّا كتمت الحبّ لا عن قلىً

ولم أجد إلاّ البكا والعويل

ناديت والقلب به مغرمٌ

يا حسبي الله ونعم الوكيل وقال:

يقولون إنّ السحر في أرض بابلٍ

وما السحر إلاّ ما أرتك محاجره

وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده

وما الدّعص إلاّ ما طوته مآزره

وما الدّرّ إلاّ ثغره وكلامه

وما الليل إلا صدغه وغدائره وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمود ملك الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى.

349 -

وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور، وهو ابن رومي الأندلس، في حريري (1) :

وبنفسي من لا أسميه إلاّ

بعض إلمامةٍ وبعض إشاره

هو والظبي في المجال سواءٌ

ما استفاد الغزال منه استعاره

أغيدٌ يمسك الحرير بفيه

مثل ما يمسك الغزال العراره وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي:

لو جئت نار الهدى من جانب الطّور

قبست ما شئت من علمٍ ومن نور 350 - ولأبي جعفر أحمد بن الجزار (2) :

وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ

ولا ثمرٌ يجنى ولا زرع يحصد

ثمار أيادٍ دانياتٌ قطوفها

لأوراقها ظلٌّ عليّ ممدّد

(1) ديوان الرصافي: 100 (عن النفح) ؛ 77.

(2)

مرت الأبيات ص: 314، وانظر المغرب 2:356.

ص: 486

يرى جارياً ماء المكارم تحتها

وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد 351 - ولما نفي أبو جعفر ابن البني (1) من ميورقة، وأقلع في البحر ثلاثة أميال، ونشأت ريح ردته، لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه، فكتب إليهم:

أحبّتنا الألى عتبوا علينا

وأقصونا وقد أزف الوداع

لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً

فما بالعيش بعدكم انتفاع

أقول وقد صدرنا بعد يومٍ:

أشوقٌ بالسفينة أم نزاع

إذا طارت بنا حامت عليكم

كأنّ قلوبنا فيها شراع وله (2) :

غصبت الثريا في البعاد مكانها وأودعت في عينيّ صادق نوئها

وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها

وله في غلام يرمي الطيور:

قالوا تصيب طيور الجوّ أسهمه

إذا رماها فقلنا: عندنا الخبر

تعلمت قوسه من قوس حاجبه

وأيّد السهم من أجفانه الحور

يلوح في بردةٍ كالنّقس حالكةٍ

كما أضاء بجنح الليلة القمر

وربما راق في خضراء مونقةٍ

كما تفتّح في أوراقه الزّهر 352 - وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي،

(1) هو شخص آخر غير أبي جعفر أحمد بن عبد الولي الذي أحرقه السيد الكنبيطور في بلنسية، وقد خلط بعض الناس بينهما ونبه ابن الأبار على ذلك في التكملة:24. انظر ترجمة البني في القلائد: 298 والمطمح: 91 والمغرب 2: 357 والحاشية؛ وكتب اسمه في م ب " ابن البنا ".

(2)

القلائد: 300، والقطعتان الأخيرتان فيه وفي المغرب.

ص: 487

لما قص شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين، في يوم رفع فيه أبو المطرف شعراً، فخرجت صلة المزين، ولم تخرج صلة أبي المطرف (1) :

أرى من جاء بالموسى مواساً

وراحة من أذاع المدح صفرا

فأنجح سعي ذا إذ قصّ شعراً

وأخفق سعي ذا إذ قصّ شعرا واسم أبي المطرف أحمد، وهو من جزيرة شقر، من كورة بلنسية.

353 -

وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجاً من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته، وفيه يقول (2) :

ما أحضر الغزو من صلاحٍ

كلاّ ولا رغبة في الجهاد

لكن لكيما يكون داعٍ

لقربنا خيرة الجياد ولقد تقدمت حكايته فلتراجع.

354 -

وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق ابن خفاجة، وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب، وشهرته تغني عن اإطناب فيه، مغرىً بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها، وأهل الأندلس يسمونه الجنان، ومن أكثر من شيء عرف به، وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة، وولد سنة خمسين وأربعمائة، ومن نظمه قوله (3) :

ربّما استضحك الحباب حبيبٌ

نفضت لونها عليه المدام

كلّما مرّ قاصراً من خطاه

يتهادى كما يمرّ (4) الغمام

(1) القدح: 43.

(2)

القدح 114 - 117. وانظر ما تقدم ص 307 - 310.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 62، 183، 360، 356.

(4)

م: كما تهادى.

ص: 488

سلّم الغصن والكثيب علينا

فعلى الغصن والكثيب السّلام وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره، فقال:

وأغرّ ضاحك وجهه مصباحه

فأنار ذا قمراً وذلك فرقدا

ما إن خبا تلقاء نور جبينه

حتى ذكا بذكائه فتوقّدا وله:

كتبت وقلبي في يديك أسير

يقيم كما شاء الهوى ويسير

وفي كلّ حينٍ من هواك وأدمعي

بكلّ مكانٍ روضةٌ وغدير وله:

كتابنا ولدينا البدر ندمان

وعندنا أكؤسٌ للراح شهبان

والقضب مائسةٌ، والطير ساجعة

والأرض كاسيةٌ، والجوّ عريان 355 - ولما سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ " الغريب المصنف " فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال، فارتاعت، فقال:

ريعت عجوزي أن رأتني لابساً

حلق الحديد ومثل ذاك يروع

قالت: جننت فقلت: بل هي همّةٌ

هي عنصر العلياء والينبوع

سنّ الفرزدق سنّةً فتبعتها

إنّي لما سنّ الكرام تبوع وكان شاعراً وشاحاً وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لما هجاه بمثل قوله:

عكف الزبير على الضلالة جاهداً

ووزيره المشهور كلب النار

ما زال يأخذ سجدةً في سجدةٍ

بين الكؤوس ونغمة الأوتار

ص: 489

فإذا اعتراه السهو سبّح خلفه

صوت القيان وزنّة المزمار ولما بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمر بإحضاره، فقرعه، وقال: ما دعاك إلى هذا فقال: إني لم أر أحق بالهجو منك، ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافاً، ولم تكلها إلى أحد، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته، وأمر بقتله.

وأنشد له ابن غالب في " فرحة الأنفس " قوله في حاقة خائط:

وحلقةٍ كشعاع الشمس صافيةٍ

لو قابلت كوكباً في الجوّ لالتهبا

تأنّق القين في إحكام صنعتها

حتى أفاض على أطرافها الذهبا

كأنّها بيضةٌ قد قدّ قونسها

وكلّ جنبٍ لها بالطعن قد ثقبا وقال فيمن يحدث نفسه بالخلافة (1) :

أمير المؤمنين، نداء شيخٍ

أفادك من أماليه اللّطيفه

تحفّظ أن يكون الجذع يوماً

سريراً من أسرّتك المنيفه

وأذكر منك مصلوباً فأبكي

وتضحكني أمانيك السخيفه وهاجى ابن سارة، فقال فيه ابن سارة (2) :

ومن العجائب أن يكون الأبيض

بحماره بين السوابق يركض 356 - وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم (3) :

(1) مرت الأبيات ص: 461؛ وقد سقطت من نسخة " م ".

(2)

زاد المسافر: 67.

(3)

القدح: 153.

ص: 490

وممّا شجى قلبي وفضّ مدامعي

هوىً قد قدّ قلبي إذ كلفت بقاسم

وكنت أظنّ الميم أصلاً فلم تكن

وكانت كميمٍ ألحقت بالزراقم والزراقم: الحيات، مشتقة من الزرقة، والميم زائدة، يريد أن ميم قاسم كميمها، فهو قاسٍ، وهو منسوب إلى حصن شلوبينة (1) على ساحل غرناطة، وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه، وله " التوطئة " و " شرح الجزولية " وغيرهما، وكان مغفلاً، ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية، وكان في لسانه لكنة، ولما اراد مأمون بني عبد المؤمن التوجه إلى مرسية، وقد ثار بها ابن هود، وأنشده الشعراء، وتكلم في مجلسه الخطباء، قام الشلوبين وقال دعاء منه: ثلمك الله ونثرك، يريد سلمك الله ونصرك، لأن بلكنته يرد السين والصاد ثاء، فكان كما قال: عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر.

357 -

ولما مرض الفقيه الزاهد أبة إسحاق إبراهيم الإلبيري (2) دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء، فرأى ضيق مسكنه، فقال: لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك، فقال وهو آخر شعر قاله:

قالوا ألا تستجيد بيتاً

تعجب من حسنه البيوت

فقلت: ما ذلكم صواباً

عشٌّ (3) كثير لمن يموت

لولا شتاء، ولفح قيظٍ

وخوف لص، وحفظ قوت

ونسوةٌ يبتغين ستراً

بنيت بنيان عنكبوت

(1) هكذا قال ابن سعيد في القدح، ولكن يبدو أنه سمي بذلك لأن أحد أجداده كان أبيض أشقر، وذلك هو معنى كلمة " شلوبين "؛ انظر ترجمته في الذيل والتكملة 5: 460 والحاشية؛ وفي م: شلوبينية.

(2)

انظر ديوان الالبيري: 109.

(3)

الديوان: حفش.

ص: 491

358 -

وقال أبو بكر ابن عبادة القزاز الموشح في ابن بسام صاحب " الذخيرة ":

يا منيفاً على السماكين سام

حزت خصل السباق عن بسّام

إن تحك مدحةً فأنت زهيرٌ

أو تشبّب فعروة بن حزام

أو تباكر صيد المها فابن حجرٍ

أو تبكّ الديار فابن حذام

أو تذمّ الزمان وهو حقيقٌ

فأبو الطيّب البعيد المرامي 359 - ولما انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرق ملك الأندلس رؤساء البلاد، وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن ابن نزار لما له من الأصالة في وادي آش، فحسده أهل بلده، وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة، فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، ووجه لهم عماله وأوصاهم أن يخرج هذا الأسد من غيله، ويفرق بينه وبين تأميله، ورفعوا له أشعاراً كان يستريح بها على كاسه، ويبثها بمحضر من يركن إليه من جلاسه، ومنها قوله، وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم، مستحقة لطلب سلفه القديم:

الآن أعرف قدر والضّرر

فكيف أصدر ما للملك من صدر

وكيف أطلع في أفق العلا قمراً

ويستهلّ بكفّي واكف الدرر

وكيف أملأ صدر الدهر من رعبٍ

وأستقلّ بحمل الحادث النّكر

وأستعدّ لما ترمي الخطوب به

وأستطيل على الأيام بالفكر

لكنّني ربما بادرت منتهزاً

لفرصةٍ مرقت كاللمح بالبصر

في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به

شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فعندما وقف ابن مردنيش على هذا القول وجه إلى وادي آش من حمله إليه وقيده، وقدم به إلى مرسية أسيراً، بعدما كان مرتقباً أن يقدم أميراً، فلما وقعت عين ابنمردنيش عليه قال له: أمكن الله منك يا فاجر، فقال:

ص: 492

أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر، ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول، فاستحيا منه، وأمر به للسجن، فمكث فيه مدة، وصدرت عنه أشعار في تشوقه إلى بلاده، منها قوله:

لقد بلغ الشوق فوق الذي

حسبت فهل للتّلاقي سبيل

فلو أنّني متّ منشوقكم

غراماً لما كان إلا قليل

تعلّلني بالتداني المنى

وينشدني الدهر: صبرٌ جميل

فقل لبثينة إن أصبحت

بعيداً فلم يسل عنها جميل

أغضّ جفوني عن غيرها

وسمعي عن اللوم فيها يميل ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيّل في جارية محسنة للغناء حسنة الصوت وضع موشحته التي أولها:

نازعك البدر اللّياح

بنت الدنان

فلم يدع لك اقتراح

على الزمان وفيها يقول:

يا هل أقول للحسود

والعيس تحدى

يا لائمي على السّراح

كانت أماني

أخرجها ذاك السماح

إلى العيان وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها، وأحكمت الغناء بها، وأهداها إلى ابن مردنيش بعدما أوصاها أنّها متى استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرها غنته بهذه الموشحة، وتلطّفت في شأن رغبتها في سراح قائلها، فلعلّ الله تعالى يجعل في ذلك سبباً، واتفق أن ظفرت بما أوصاها به، وأحسنت غناء الموشحة، فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه، وأعجبه مقاصد قائلها

ص: 493

فسألها: لمن هي فقالت: لمولاي عبدك ابن نزار، فقال: أعيدي عليّ قوله " يا لائمي على السراح " فأعادته، فداخلته عليه الرأفة والأريحية بما أصابه، فأمر في الحين بحل قيده، واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت، فلما دخل خلع عليه وأدناه وقال له: يا أبا الحسن، قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود، فارجع إلى بلدك مباحاً لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت، فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس، لا وادي آش، فقال له: والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك وغلإقرار بأنك بعثتني من قبر زماني فيه الحساد والوشاة، ثم شربا حتى تمكنت بينهما المطايبة، فقال له: يا ابن نزار، الآن أريد أن أسألك عن شيء، قال: وما هو يا سيدي قال: عما في أم رأسك حين قلت:

في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به

شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فقال له: يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألفته على لسان نشوان لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال، والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك، ومنعتني منها (1) زوجتي، فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس فضحك ابن مردنيش، وجدّد له الإحسان، وجهزه إلى بلده، وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير، ويستأذنوه في الصغير والكبير، فتأثّل به مجده، وعظم سعده.

ومن شعره قوله:

انظر إلى الروض سحيراً وقد

بثّ به الطلّ علينا العيون

ترقب منّا يقظةً للمنى

فقل لها أهلاً بداعي المجون

وحثّها شمساً إلى أن ترى

شمس الضحى تطرق تلك الجفون

(1) ب: من ذلك.

ص: 494

وقوله:

تنبه لمعشوقٍ وكأسٍ وقينةٍ

وروضٍ ونهرٍ ليس يبرح خفّاقا

فقد نبّهت هذي الحدائق ورقها

وفتّح فيها الصبح بالطّلّ أحداقا

ومهما تكن في ضيقةٍ فأدر لها

كؤوس الطلا فالسكر يوسع ما ضاقا وقوله:

عطف القضيب مع النسيم تميّلا

والنخر موشيّ الخمائل والحلى

تركته أعطاف الغصون مظلّلا

ولنا عن النهج القويم مضلّلا

أمسى يغازلنا بمقلة أشهلٍ

والطرف أسحر ما تراه أشهلا وقال بعضهم: استدعاني أبو الحسن ابن نزار لمجلس بوادي آش، فلما احتفل مجلسنا، وطابت لذتنا، قال: والله ما تمام هذه المسرة إلا حضور أبي جعفر ابن سعيد وهو الآن بوادي آش، فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما، وأنهما لا يأتيان إلا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض، فخلا في موضع وكتب له:

يا خير من يدعى لكاسٍ دائر

ووجوه أقمارٍ وروضٍ ناضر

إنّا حضرنا في النّديّ عصابةً

معشوقةً من ناظمٍ أو ناثر

كلٌّ مخلّىً للذي يختاره

في الأمن من ناهٍ له أو زاجر

ما إن لهم شغلٌ بفنٍّ واحدٍ

بل كلّ ما يجري بوفق الخاطر

شدوٌ ورقصٌ واقتطاف فكاهةٍ

وتعانقٌ وتغامزٌ بنواظر

وهم كما تدري بأفقي أنجمٌ

لكن لنا شوقٌ لبدرٍ زاهر سيدي، لا زلت متقدماً لكل مكرمة، هل يجمع التخلف عن نادٍ قام فيه

ص: 495

السرور على ساق، وضحك فيه النس ملء فيه، وانسدل (1) به ستر الصون، وفاء عليه ظلّ النعيم، وسفرت فيه وجوه الطرب، وركضت خيل اللهو، وثار قتام الند، وهطلت سحاب ماء الورد، وطيبت الكؤوس، كالعرائس على كراسي العروس (2) ، المثقلة بالعاج والآبنوس، وكأن قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام، أو بني حام قد خالطت بني سام، وعلى رؤوس الأقداح، تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح، فطوراً تستحيي فيبدو خجلها، وطوراً تمتزج (3) فيظهر وجلها، والعود ترجمان المسرة قد جعلته أمه في حجرها، كولد ترضعه بدرها، وساقي الشرب كالغصن الرطيب، أوراقه أردية الشرب، وأزهاره الكؤوس، التي لا تزال تطلع وتغرب كالشمس، ساقٍ يفهم بالإشارة، حلو الشمائل عذب العبارة، ذو طرف سقيم، وخد كأنه من خفره لطيم، ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر، ما يحار فيه الناظر، وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد، وعيون النرجس، وأصداغ الآس، ونهود السفرجل، وقدود قصب السكر، ومباسم قلوب اللوز، وسرر التفاح، ورضاب ابنة العنب، فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب:

فطر بجناح الشوق عند وصولها

إليك ولا تجعل سواك جوابها

فلا عين إلا وهي ترنو بطرفها

إليك فيسّر في المطال حسابها

فقد أصبحت تعلو عليها غشاوةٌ

لبعدك فاكشف عن سناها ضبابها قال أبو جعفر: فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر، والفيت الحالة يقصر عن خبرها الخبر، فانغمسنا في النعيم، انغماس عرف الزهر في

(1) ب: فانسدل.

(2)

ب: العرائس.

(3)

م ودوزي: يخلف.

ص: 496

النسيم، ومر لنا يومٌ غض الدهر عنه جفنه، حتى حسبناه عنواناً لما وعد الله تعالى به في الجنة.

وشرب يوماً مع أبي جعفر ابن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة، وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار، وعليه أنبوب ماء تتحرك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخامٍ يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء، فقالوا: نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة، فقال أبو جعفر يصف الراقصة:

وراقصةٍ ليست تحرّك دون أن

يحركها سيفٌ من الماء مصلت

يدور بها كرهاً فتنضى صوارماً

عليه فلا تعيا ولا هو يبهت

إذا هي دارت سرعة خلت أنّها

إلى كلّ وجه في الرياض تلفّت وقال ابن نزار في خباء الماء:

رأيت خباء الماء ترسل ماءها

فنازعها هبّ الرياح رداءها

تطاوعه طوراً وتعصيه تارةً

كراقصةٍ حلّت وضمّت قباءها

وقد قابلت خير الأنام فلم تزل

لديه من العلياء تبدي حياءها

إذا أرسلت جوداً أمام يمينه

أبى العدل إلاّ أن يردّ إباءها وقد قيل: إن هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وإنه لما ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئاً، وكانت هذه عنده معدة، فزعم أنه ارتجلها، قال أبو عمرو ابن سعيد: وهذا هو الصحيح، فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام، فإن كل واحد منهما كفؤ الآخر.

وقال الكتندي:

وصهريجٍ تخال به لجيناً

يذاب وقد يذهّبه الأصيل

ص: 497

كأن الروض يعشقه فمنه

على أرجائه ظلّ ظليل

وتمنحه أكفّ الشمس عشقاً

دنانير فمنه لها قبول

إذا رفع النسيم القضب عنها

فحينئذٍ يكون لها سبيل

وللنّارنج تحت الماء لمّا

تبدّى عكسها جمرٌ بليل

ولليمون فيه دون سبكٍ

جلاجل زخرفٍ بصبا تجول

فيا روضاً به صقلت جفوني

وأرهف متنه الزهر الكليل

تناثر فيك أسلاك الغوادي

وقبّل صفح جدولك الشّمول

بدورٌ تستدير بها نجومٌ

مع الإصباح ليس لها أفول

يهيم بهم نسيم الروض إلفاً

فمن وجدٍ له جسم عليل 360 - وروي أن الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقموزير المعتصم ابن صمادح رأى رايةً خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علجٍ من علوج المعتصم نشرها على رأسه، فقال:

نشرت عليك من النعيم جناحا

خضراء صيّرت الصباح وشاحا

تحكي بخفقٍ قلب من عاديته

مهما يصافح صفحها الأرواحا

ضمنت لك النعمى برأيٍ ظافرٍ

فترقّب الفأل المشير نجاحا وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء، وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عباد، فأعجبت المعتمد محاولته، ووقع في قلبه، فأراد إفساده على صاحبه، وأخذ معه في أن يقيم عنده، فقال له: ما رأيت من صاحبي ماأكره فأوثر عند غيره ماأحب، ولو رأيت ماأكره لما كان من الوفاء تركي في حين فوّض إلي أمره، ووثق بي، وحملني أعباء دولته، فاستحسن ذلك ابن عباد، وقال له: فاكتم علي، فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له، فقال له

ص: 498

في أثناء ذلك: وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار، وتظن أن خاطري فسد به، وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقها، وخفت أن تطلع عليه من غيري، فيحطني ذلك من عينك، وتحسب فيه كيداً، فحمل عليه في أن يعلمه، فأعلمه بعد أن تلطف هذا التلطف، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد.

ومن نظم أبي عامر:

فتى الخيل يقتادها ذبّلاً

خفاقاً تبارى القنا الذابلا

ترى كلّ أجرد سامي التّليل

وتحسبه غصناً مائلا 361 - وللوزير الكاتب أبي محمد ابن فرسان واسمه عبد البر، وهو حسنة وادي آش، يخاطب يحيى الميورقي (1) :

أنعم بتسريح عليّ فعلّه

سبب الزيارة للحطيم ويثرب

ولئن تقوّل كاشح أن الهوى

درست معالمه وأنكر مذهبي

فمقالتي ما إن مللت وإنّما

عمري أبى حمل النّجاد بمنكبي

وعجزت عن أن أستثير كمينها

وأشقّ بالصّمصام صدر الموكب وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسن ومل من الجهد معه، يرغب في سراحه إلى الحجاز، رحمه الله تعالى، وتقبل نيته بمنه ويمنه.

362 -

وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي (2) ، وكان صاحب سيف وقلم، وعلم وعلم:

يا دانياً مني وما أنا زائر

لا أنت معذورٌ ولا أنا عاذر

(1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 142 وانظر التحفة: 115.

(2)

ترجمته والشعر في المغرب 2: 168 والإحاطة 1: 310.

ص: 499

ماذا يضرك إذ ظللت بظلمة

أن لا يطالع منك بدرٌ زاهر وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

363 -

وقال التطيلي الأعمى في أسد نحاس يقذف الماء (1) :

أسد ولو أنّي أنا

قشه الحساب لقلت صخره

فكأنّه أسد السّما

ء يمجّ من فيه المجرّه [من بدائه ابن ظافر]

قال ابن ظافر (2) : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل، فرأينا فيه بئراً عليها دولابان متحاذيان (3) ، قد دارت أفلاكهما بنجومالقواديس، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس، وهما يئنان أنين الأشواق، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشاق، والروض قد جلا للأعين زبرجده، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون، والسواقي قد أذالت من سلاسل فضتها كل مصون، والنبت قد اخضر شاربه وعارضه، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه، ورضاب الغيث (4) قد استقر من الطين في لمى، وحيات المجاري حائرة تخاف من زمرد النبات أن يدركها العمى، والبحر (5) قد صقل النسيم درعه، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجو ردعه، فأوسعنا ذلك المكان

(1) مر البيتان ص: 404.

(2)

بدائع البدائه 1: 232.

(3)

البدائع: يتجاذبان.

(4)

البدائع: الماء.

(5)

البدائع: والنهر.

ص: 500

حسناً وقلوبنا استحواذاً (1) ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرةً والتذاذاً، وملنا إلى الدولابين شاكين أزمرا حين سجعت قيان الطير بألحانها، وشدت على عيدانها، أم ذكرا أيام نعما وطابا، وكانا أغصاناً رطبة، فنفيا عنهما لذيذ الهجوع، ورجعا النوح وأفاضا الدموع طلباً للرجوع، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب، من الأعاجيب، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار، الغالية الأسعار، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون، إلى ذكر قول الأعمى التطيلي في أسد نحاس يقذف الماء:

أسد ولو أنّي

إلخ

فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى: يتولد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع، ويطرب الرائي والسامع، فتأملت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة، واستمددت مادة غريزة يالغريزة، فظهر لي معنىً ملأني أطراباً، وأوسعني إعجاباً (2) ، وأطرق كل منا ينظم ما جاش به مد بحره، وأنباه به شيطان فكره، فلم يكن إلا كنقرة العصفور، الخائف من الناطور، حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منا على ما صنعه الآخر، فكان الذي قال:

حبّذا ساعة العشيّة والدّو

لاب يهدي إلى النفوس المسرّه

أدهم لا يزال يعدو ولكن

ليس يعدو مكانه قدر ذرّه

ذو عيون من القواديس تبكي

كل عين من فائض الدمع ثرّه (3)

فلكٌ دائر يرينا نجوماً

كلّ نجم يبدي لدينا (4) المجرّه

(1) البدائع: فاستحوذ علينا ذلك الموضع استحواذا.

(2)

واستمددت

إعجابا: تغيرت صياغة هذه العبارة في البدائع.

(3)

البدائع: تبدي

عبرة.

(4)

البدائع: منها يرينا.

ص: 501

وكان الذي قلت:

ودولاب يئنّ أنين ثكلى

ولا فقداً شكاه ولا مضرّه

ترى الأزهار في ضحكٍ إذا ما

بكى بدموع عين منه ثرّه

حكى فلكاً تدور به نجومٌ

تؤثّر في سرائرنا المسرّه

يظلّ النجم يشرق بعد نجمٍ

ويغرب بعد ما تجري المجرّه فعجبنا من اتفاقنا، وقضى العجب منه سائر رفاقنا، انتهى.

رجع:

364 -

وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي (1) ابنٌ شاعرٌ، فعرض عليه شعراً نظمه، فأعجبه، فقال:

شعرك كالبستان في شكله

يجمع بين الآس والورد

فاصنع به إن كنت لي طائعاً

ما يصنع الفارس بالبند 365 - ولشاعر الأندلس أبي عبد الله ابن الحداد الوادي آشي (2)، وهو من رجال الذخيرة:

لزمت قناعتي وقعدت عنهم

فلست أرى الوزير ولا الأميرا

وكنت سمير أشعاري سفاهاً

فعدت بها لفلسفتي سميرا وله في العروض تأليفٌ مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الخليلية، ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار.

(1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 140.

(2)

ترجمته في الذخيرة 1 / 2: 201 والمطمح: 80 والوافي 2: 86 والإحاطة 2: 250 والمسالك 11: 400 والفوات 2: 167 والمغرب 2: 143 واسمه محمد بن أحمد بن الحداد، والقطعة الأولى في الذخيرة.

ص: 502

وله في المعتصم بن صمادح (1) :

لعلّك بالوادي المقدّس شاطئ

فكالعنبر الهنديّ ما أنا واطئ

وإنّي في ريّاك واجد ريحهم

فجمر (2) الأسى بين الجوانح ناشئ

ولي في الّرى من نارهم ومنارهم

هداةٌ حداةٌ، والنجوم طوافئ

لذلك ما حنّت ركابي وحمحمت

عرابي وأوحى سيرها المتباطئ

فهل هاجها ما هاجني ولعلّها

إلى الوخد من نيران قلبي لواجئ

رويداً فذا وادي لبيني وإنّه

لورد لباناتي وإنّي لظامئ

موارد (3) تهيامي ومسرح ناظري

فللشوق غاياتٌ بها ومبادئ واعترض عليه بعضهم بأنه همز في هذه القصيدة ما لا يهمز، فقال (4) :

عجبت لغمازين علمي بجهلهم

وإنّ قناتي لا تلين على الغمز

تجلّت لهم آيات فهمي ومنطقي

مبيّنة الإعجاز ملزمة العجز

ولاحت لهم همزيةٌ أوحديةٌ

وويلٌ بها ويلٌ لذي الهمز واللمز

رموها بنقصٍ بينت فيه نقصهم

ومن لمس الأفعى شكا ألم النكز

فإن أنكرت أفهامهم بعض همزها

فقد عرفت أكبادهم صحّة الهمز وله وهو مما يتغنى به بالأندلس (5) :

فذر العقيق مجانباً لعقوقه

ودع العذيب عذيب ذات الخال

أفقٌ محلّى بالقواضب والقنا

للأغيد المعطار لا المعطال

(1) الذخيرة: 218.

(2)

الخريدة: فروح.

(3)

الخريدة: ميادين.

(4)

الذخيرة: 219.

(5)

الذخيرة: 223.

ص: 503

حجبوك إلاّ من توهّم خاطري

وحموك إلاّ من تصوّر بالي

والقارظان حميل صبري والكرى

فمى أرجّي منك طيف خيال ومن بدائعه قوله (1) :

سامح (2) أخاك إذا أتاك بزلّةٍ

فخلوص شيء قلما يتمكّن

في كلّ شيء آفةٌ موجودةٌ

إنّ السراج على سناه يدخّن وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثلاً، فأعجبا المعتصم، وسأل عن قائلهما، فأخبر، فتبسم وقال: أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى قال: ما أعرف إلا أنه مليح، فقال المعتصم: كنت في الصبا وهو معي ألقب بسراج الدولة، فقاتله الله ما أشعره، فسلوه، فلما باحثوه في ذلك أقر بحسن حدس المعتصم. واكتنفته سعايات، وكان ممن يغلب لسانه على عقله، ففر من المرية، وحبس أخوه بها فقال (3) :

الدهر لا ينفكّ من حدثانه

والمرء منقادٌ لحكم زمانه

وعلمت أن السعد ليس بمنجح

ما لا يكون السعد من أعوانه

والجدّ دون الجدّ ليس بنافع

والرمح لا يمضي بغير سنانه وبلغت الأبيات المعتصم فقال: شعره أعقل منه، صدق فإنّه لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه، وهو منه بمنزلة السنان من الرمح، ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به.

ولما قال في المعتصم:

(1) الذخيرة: 235.

(2)

الذخيرة: واصل.

(3)

الذخيرة: 231.

ص: 504

يا طالب المعروف دونك فاتركن

دار المرية وارفض ابن صمادح

رجل إذا أعطاك حبّة خردل

ألقاك في قيد الأسير الطائح

لو قد مضى لك عمر نوحٍ عنده

لا فرق بينك والبعيد النازح اغتاظ عليه، وأبعده، ففر عن بلده.

ومن المنسوب إليه في النساء:

خن عهدها مثل ما خانتك منتصفاً

وامنح هواها بنسيان وسلوان

فالغيد كالروض في خلق وفي خلق

إن مرّ جانٍ أتى من بعده جان وله:

حيثما كنتا ظاغناً أو مقيما

دم رفيعاً وعش منيعاً سليما 366 - وقال ابن دحية في " المطرب "(1) : إن من المجيدين في الجدّ والهزل، ورقيق النظم والجزل، صاحبنا الوزير أبا بلال (2)، وقال لي: إنه كان وبرد شبابه قشيب، وغصن اعتداله رطيب، بقميص النسك متقمص، وبعلم الحديث متخصص، فاجتاز يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض ملوك الأكابر، ومن بعض مناظره ناظر، ومجلسه بخواص ندمائه حالٍ، وصوت المثاني والمثالث عالٍ، فقال: أطلعوا لنا هذا الفقيه، فعلنا نضحك منه. فلما مثل بين يديه وحيا، أمر الساقي بمناولته كأس الحميا، فتقبض متأففاً، وأبدى تمعراً وتقشفاً، والسلطان يستغرب ضحكاً بما هجم عليه، ويد

(1) المطرب: 241.

(2)

في المطرب: كصاحبنا الوزير أبي القاسم ابن البراق، ومعنى ذلك أن هذا الخبر والأشعار التالية بعده كان يجب أن تعطي رقما واحدا؛ ولابن البراق ترجمة في المغرب 2: 149 وكنيته هنالك أبو عمرو، وتحفة القادم: 80 والوافي 4: 156.

ص: 505

الساقي مدودة إليه، واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة، فظهر من السلطان التطير من ذلك، فأنشد الفقيه مرتجلاً:

ومجلس بالسّرور مشتمل

لم يخل فيه الزجاج من أدب

سرى بأعطافه يرنّحه

فشقّ أثوابه من الطرب فسر السلطان وسري عنه، واستحسن من الفقيه ما بدا منه، وأمر له بجائزة سنية، وخلعة رائقة [بهية] .

367 -

وماأحسن قول ابن البراق (1) :

يا سرحة الحيّ يا مطول

شرح الذي بيننا يطول

ولي ديون عليك حلّت

لو أنّه ينفع الحلول وقوله:

انظر إلى الوادي إذا ماغرّدت (2)

أطياره شقّ النسيم ثيابه

أتراه أطربه الهديل وزاده

طرباً وحقّك أن حللت جنابه وله في الغلام على فمه أثر المداد:

يا عجباً للمداد أضحى

على فمٍ ضمّن الزّلالا

كالفار أضحى على الحميّا

واللّيل قد لامس الهلالا 368 - وكتب أبو محمد عبد الله بن عذرة (3) إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة:

(1) المغرب: 149، 150.

(2)

المغرب: الذي مذ غردت.

(3)

في الأصول ودوزي: في معذرة؛ وفي م: بن مغدرة والتصويب عن المغرب 2: 148 وفيه الأبيات.

ص: 506

لو كنت حيث تجيبني

لأذاب قلبك ما أقول

يكفيك منّي أنني

لا أستقلّ من الكبول

وإذا أردت رسالة

لكم فما ألفي رسول

هذا وكم بتنا وفي

أيماننا كأس الشّمول

والعود يخفق والدخا

ن العنبريّ به يجول

حال الزمان ولم يزل

مذ كنت أعهده يحول 369 - ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني (1) في أبي بكر ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثمين:

لولا النهود لما عراك تنهّد

وعلى الخدود القلب منك يخدّد

يا نافذاً قلبي بسهم جفونه

ما لي على سهم رميت به يد 370 - وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطل عذاره (2) :

يا حسنه كاتباً قد خطّ عارضه

في خدّه حاكياً ما خطّ بالقلم

لام العذول عليه حين أبصره

فقلت دعني فزين البرد بالعلم

وانظر إلى عجب ممّا تلوم به

بدرٌ له هالة قدّت من الظّلم

قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجبٌ

من عنبر الشّحر او من در مبتسم وله، وقد عزل عن مالقة والٍ غير مرضي، ونزل المطر على إثره، وكان الناس في جدب:

وربّ والٍ سرّنا عزله

فبعضنا هنّأه البعض

قد واصلتنا السّحب من بعده

ولذّ في أجفاننا الغمض

(1) ترجمته في المغرب 2: 150 وفيه البيتان؛ وفي ب: " الجياني ".

(2)

ترجمته والشعر في المغرب 2: 155.

ص: 507

لو لم يكن من نجسٍ شخصه

ما طهّرت من بعده الأرض 371 - وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي (1) مختصاً بوزير عبد المؤمن أبي جعفر ابن عطية، فقال فيه:

أبا جعفر نلت الذي نال جعفر

ولا زلت بالعليا تسرّ وتحبر

عليك لنا فضل وبرٌّ وأنعمٌ

ونحن علينا كلّ مدح يحبّر وحدث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحس من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله، وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة، فتغير وجه أبي جعفر، لأن جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب، فكأن هذا عمّم الدعاء، والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك.

وهذا الشاعر هو القائل:

وما أنا عن ذاك الهوى متبدّلٌ

وذا الغدر بالإخوان غير كريم

بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى

كما قد جرى بالروض هبّ نسيم

وإن كان عندي للجديد لذاذة

فلست بناسٍ حرمةً لقديم 372 - ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي (2) يخاطب صاحب " المسهب ":

بي إليكم شوقٌ شديدٌ ولكن

ليس يبقى مع الجفاء اشتياق

إن يغيّركم الفراق فودّي

لو خبرتكم يزيد فيه الفراق وله:

لو أنّ لي قلباً كقلب

ك كنت أهجر هجركا

(1) ترجمته والبيتان في المغرب 2: 156.

(2)

ذكره ابن سعيد في المغرب باسم " محمد بن عبد المولى "(1: 158) وفيه البيتان الأولان.

ص: 508

يكفيك أنّك قد نسي

ت ولست أنسى ذكركا

ومن العجائب أنّني

أفنى وأكتم سرّكا

كن كيفما تختاره

فالحبّ يبسط عذركا وله:

هل عندكم علمٌ بما فعلت بنا

تلك الجفون الفاتكات بضعفها

نصحاً لكم أن تأمنوها إنّها

سحر النّهى ما تبصرون بطرفها 373 - ولابنه أبي محمد عبد المولى، وكان ماجناً، لما نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلاً:

إنّما دنياك أكلٌ

وشرابٌ وقحاب

ثم من بعد صراخٌ

ووداعٌ وتراب وله:

يا نديم اشرب على أف

قٍ صقيلٍ وحديقه

واسقني ثمّ اسقني ث

مّ اسقني خمراً وريقه

من غزالٍ تطلع الشم

س بخدّيه أنيقه

لا تفوّت ساعة من

كأس خمرٍ وعشيقه

واجتنب ما سخرت جه

لاً له هذي الخليقه

رغبوا في باطل زو

ر بزهدٍ في الحقيقه

ليس إلا ما تراه

أنا أدرى بالطريقه قال أبو عمران موسى بن سعيد: قلنا له: ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به فقال: هذا قول لا فعل، وقد قال الله تعالى:

ص: 509

{ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون} (الشعراء: 224) .

ثم قال ابن سعيد: ولولا أن حاكي الكفر ليس بكافر ماذكرتها، وهذا منزع من قال من المجوس:

خذ من الدّنيا بخطٍّ

قبل أن ترحل عنها

فهي دارٌ لا ترى من

بعدها أحسن منها وهذا كفرٌ صراح، وقائله قد تقمص كفراً، اللهم غفراً.

وطلب منه بعض الأرذال، أن يكتب له شفاعة عند أحد العمال، فكتب له رسالة فيها هذه الأبيات:

كتبته مولاي في طالع

ما طار فيه طائر اليمن

وفكرةٌ حائلةٌ والحشا

ينهب بالهمّ وبالحزن

كلّفنيه ساقطٌ أخرقٌ

مشتهرٌ بالطحن والقرن

أكذب خلق الله أرداهم

أخوفهم في الخوف والأمن

يكفر ما يسدى إليه ولا

يعذر خلقاً سيء الظنّ

فإن صنعت الخير ألفيته

شراً وأضحى المجد ذا غبن

وانتقد الناس عليك الذي

تسدي له في أيّ مافنّ

فافعل به ما هو أهلٌ له

واسمعه تفسيراً ولا أكني (1)

أهنه واصفعه ولا تترك ال

بوّاب يكرمه لدى الإذن

واقطع بفيه القول واحرمه من

ردّ جوابٍ أنسه يدني

وكلما استنبط رأياً فس

فهه ودعه مسخن الجفن

فهو إذا أكرمته فاسد

وصالحٌ بالهون واللّعن

(1) ب: ولا تكن.

ص: 510

شفاعتي في مثله هذه

فلا سقله هاطل المزن ودفع إليه الكتاب مختوماً، فسر به، وحمله إلى العامل، وسافر إليه أياماً، فلما دفعه إليه قرأه وضحك، ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه، فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه، فلما عاد منه قال له: أخرجتني لأرذل شغل وأخسه فما فائدة الشفاعة إذن فقال له: أوتريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك قال: لا أقل من ذلك، قأمر من يأتيه بالأبيات، فقرئت عليه، فانصرف في أسوإ حال، فلما دخل غرناطة - وكان عبد المولى تزوج فيها امرأة اغتبط بها - تزيا هذا الرجل بزي أهل البادية، وزور كتاباً على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى، وقال في الكتاب: وقد بلغني أنك تزوجت غيري، وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني، فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك، وأنك ناظر في طلاقها، فردني ذلك عما عزمت عليه، فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها، فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبداً، فلما مر بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها: أنا رجل بدوي اتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى، فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها، وأخذت الكتاب، فوقفت على مافيه غير شاكة في صحته، فلما دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه، فسألها عن حالها، فقالت: أريد الطلاق، فقال: ماسبب هذا وأنا ارغب الناس فيك فألقت إليه الكتاب، فلما وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح، وأن عدواً له اختلقه عليه، فلم يفد ذلك عندها شيئاً، ولم يطب له بعد ذلك معها عيش، فطلقها، وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك، فقال له: لا جزاك الله خيراً، ولا أصلح لك حالاً! فقال: وأنت كذلك، فهذه بتلك، والبادي أظلم، فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقي ما كتبت فقال له: مثلك لا يقول " ماذنبي " أنت كلك ذنوب:

ص: 511

ألست بألأم الثّقلين طرّاً

وأثقلهم وافحشهم لسانا

فمهما تبغ برّاً عند شخص

تزد منه بما تبغي هوانا فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته.

وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتاباً بموضع منفرد، فخطر له يوماً جلد عميرة، واتفق أن مر السيد يوماً بذلك الموضع، فنظر إليه في تلك الحال، فقال له السيد (1) : ما تصنع فقال: الدواة جفت، ولم أجد ما أسقيها (2) به إلا ماء ظهري، فضحك السيد، وأمر له بجارية، فقال:

قل للعميرة طلّق

ت بعد طول زواج

قد كان مائي ضياعاً

يمرّ في غير حاج

حتى حباني بحسنا

ء قابلٍ للنتاج

فكان ناقل خمرٍ

من حنتم لزجاج

كانت تمرّ ضياعاً

فأصبحت كالسراج 374 - وقال حاتم بن سعيد:

جنّبوني عن المدامة إلا

عند وقت الصباح أو في الأصيل

واشفعوها بكلّ وجه مليح

ودعوني من كلّ قالٍ وقيل

وإذا ماأردتم طيب عيشي

فاحجبوني عن كلّ وجهٍ ثقيل 375 - وقال مالك بن محمد بن سعيد (3) :

أتاني زائراً فبسطت خدّي

له ويقلّ بسط الخدّ عندي

(1) ق ب: الخادم؛ وسقطت اللفظة من م.

(2)

دوزي: ماء أسقيها.

(3)

ترجمته في المغرب 2: 171.

ص: 512

فقلت له أيا مولاي ألفاً

فقال وأنت ألفاً عبد عبدي

وعانقني وقبّلني ونادى

بلطف منه كيف رأيت وعدي وقال في استهداء مقص:

ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا

يفصّل إذ نبغي الوصال موصّلا

نشقّ به صدر النهار وقد بدا

ظلاماً بأمثال النجوم مكلّلا وقال:

سارت كبدرٍ وليل الخدر يسترها

ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق

ودونها من صليل اللامعات حمىً

فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق 376 - واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد ابن عبد الرحمن الكتندي (1) الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء، فأخذوا يوماً في أن يخرجوا لنجد أو لحور مؤمل، وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة، ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلع في ظاهر البلد، وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة، فقالوا: ما لنا غنى عن أبي جعفر ابن سعيد، اكتبوا له، فصنعوا هذا الشعر وكتبوا له، وجعلوا تحته أسماءهم:

بعثنا إلى ربّ السّماحة والمجد

ومن ما له في ملّة الظرف من ندّ

ليسعدنا عند الصبيحة في غدٍ

لنسعى إلى الحور المؤمل أو نجد

نسرّح منّا أنفساً من شجونها

ثوت في شجونٍ هنّ شرٌّ من اللحد

ونظفر من بخل الزّمان بساعة

ألذّ من العليا وأشهى من الحمد

على جدول ما بين ألفاف دوحة

تهزّ الصّبا فيها لواء من الرّند

ومن كان ذا شربٍ يخلّى بشأنه

ومن كان ذا زهدٍ تركناه للزّهد

وما ظرفه يأبى الحديث على الطّلى

ولا أن يديل الهزل حيناً من الجدّ

(1) ترجمة الكتندي في المغرب 2: 264 والتكملة: 535 وأدباء مالقة، الورقة:27.

ص: 513

تهزّ معاني الشعر أغصان ظرفه

ويمرح في ثوب الصبابة والوجد

وما نغّص العيش المهنّأ غير أن

يمازجه تكليف ما ليس بالودّ

نظمنا من الخلاّن عقد فرائد

ولما نجد إلاّك واسطة العقد

فماذا تراه لا عدمناك ساعةً

فنحن بما تبديه في جنّة الخلد

ورشدك مطلوب وامرك نحوه ار

تقابٌ وكلٌّ منك يهدي إلى الرشد فكان جوابه لهم:

هو القول منظوماً أو الدرّ في العقد

هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ

أتاني وفكري في عقالٍ من الأسى

فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد

ومن قبل علمي أين مبعث وجهه

علمت جناب الورد من نفس الورد

وايقنت ان الدهر ليس براجع

لتقديم عصرٍ أو وقوفٍ على حدّ

فكلّ أوانٍ فيه أعلام فضله

ترادف موج البحر رداً إلى ردّ

فكم طيها من فائتٍ متردّم

يهزّ بما قد أضمرت معطف الصّلد

قيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم

قياد المعاني ما سوى قصدكم قصدي

فسمعاً وطوعاً للّذي قد أشرتم

به لا أرى عنه مدى الدهر من بدّ

فقوموا على اسم الله نحو حديقةٍ

مقلّدة الأجياد موشية البرد

بها قبّةٌ تدعى الكمامة (1) فاطلعوا

بها زهراً أذكى نسيماً من الندّ

وعندي ما يحتاج كلّ مؤمّلٍ

من الرّاح والمعشوق والكتب والنرد

فكلٌّ إلى ماشاءه لست ثانياً

عناناً له إنّ المساعد ذو الودّ

ولست خليّاً من تأنس قينةٍ

إذا ما شدت ضلّ الخليّ عن الرشد

لها ولدٌ في حجرها لا تزيله

أوان غناء ثمّ ترميه بالبعد

فيا ليتني قد كنت منها مكانه

تقلّبني ما بين خصر إلى نهد

ضمنت لمن قد قال إنّي زاهدٌ

إذا حلّ عندي أن يحول عن الزهد

(1) دوزي: الحمامة.

ص: 514

فإن كان يرجو جنّة الخلد آجلاً

فعندي له في عاجلٍ جنّة الخلد فركبوا إلى جنته، فمر لهم أحسن يومٍ على ما اشتهوا، ومازالوا بالرصافي إلى أن شرب لما غلب عليه الطرب، فقال الكتندي:

غلبناك عمّا رمته يا ابن غالب

براحٍ وريحانٍ وشدوٍ وكاعب فقال أبو جعفر:

بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل

به ناصلاً حتى بدا زور كاذب فلما غربت الشمس قالوا: ما رأينا أقصر من هذا اليوم، وما ينبغي ان يترك بغير وصف، فقال أبو جعفر: أنا له، ثم قال بعد فكرة، وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدمين وأعجز المتأخرين (1) :

لله يوم مسرّةٍ

أضوا وأقصر من ذباله

لما نصبنا للمنى

فيه بأوتارٍ حباله

طار النّهار به كمر

تاع فأجفلت الغزاله

فكأنّنا من بعده

بعنا الهداية بالضّلاله والنهار: ذكر الحبارى، وإليه أشار بقوله " طار النهار " والغزالة: الشمس، ولا يخفى حسن التوريتين، فسلم له الجميع، تسليم السامع المطيع.

وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضاً فيها، وهو من بدائعه، قوله (2) :

بدا ذنب السرحان ينبئ أنّه

تقدّم سبتٌ (3) والغزالة خلفه

(1) المغرب 2: 167.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

كذا في الأصول، ولعل الصواب " سيد " بمعنى الذئب.

ص: 515

ولم ترعيني مثله من متابع

لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه وقوله:

اسقني مثل ما أنار لعيني

شفقٌ ألبس الصباح جماله

قبل أن تبصر الغزالة تستد

رج منه على السماء غلاله

وتأمّل لعسجد سال نهراً

كرعت فيه، أو تقضّى، غزاله ومن نظم أبي جعفر قوله:

لو لم يكن شدو الحمائم فاضلاً

شدو القيان لما استخف الأغصنا

طربٌ ثنى حتّى الجماد ترنحاً

وافاض من دمع السحائب أعينا وقوله (1) :

في الروض منك مشابهٌ من أجلها

يهفو له طرفي وقلبي المغرم

الغصن قدٌّ، والأزاهر حلية،

والورد خدٌّ، والأقاحي مبسم وقوله:

ألا حبّذا نهر إذا ما لحظته

أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس

ترى القمرين الدهر قد عنيا به

يفضّضه بدرٌ وتذهبه شمس وقوله، وقد مر بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه (2) :

قصر الخليفة لا أخليت من كرمٍ

وإن خلوت من الأعداد والعدد

جزنا عليك فلم تنقص مهابته

والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد

(1) المغرب 2: 167.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 516

وقوله من أبيات:

سرّح لحاظك حيث شئت فإنّه

في كلّ موقع لحظةٍ متأمّل وقوله أيضاً:

ولقد قلت للذي قال حلّوا

ههنا: سر فإننا ما سئمنا

لا تعيّن لنا مكاناً ولكن

حيثما مالت اللواحظ ملنا وقال:

ألا هاتها إنّ المسرّة قربها

وما الحزن إلاّ في توالي جفائها

مدام بكى الإبريق عند فراقها

فأضحك ثغر الكاس عند لقائها وقال:

عرّج على الحور وخيّم به

حيث الأماني ضافيات الجناح

واسبق له قبل ارتحال النّدى

ولا تزره دون شادٍ وراح

وكن مقيماً منه حيث الصّبا

تمتار مسكاً من أريج البطاح

والقضب مال البعض منها على

بعض كما يثني القدود ارتياح

وسقّ جيب الصبح نور كما (1)

شقّت جيوب الطلّ منها الرّياح

لم أحص كم غاديته ثابتاً

واسترقصتني الراح عند الرواح وقوله:

ألا حبّذا روضٌ بكرنا له ضحىً

وفي جنبات الروض للطّل أدمع

وقد جعلت بين الغصون نسيمةٌ

تمزّق ثوب الطلّ منها وترقع

ونحن إذا ما ظلّت القضب ركّعاً

نظلّ لها من هزة السكر نركع

(1) هذه رواية م؛ وفي ق ب: وشق جيب الصبر قصف إذا.

ص: 517

377 -

وكان ابن الصابوني (1) في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية، فقدم فيما قدم خيار، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين، فخطف ابن الصابوني السكينمن يده، فألح عليه في استرجاعها، فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها، فقال له صاحب المنزل: اكفف عنه لءلا يجرحك ويكون جرحك جباراً، تعريضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار "، فاغتاظ ابن الصابوني، وخرج من الاعتدال، وأخطأ بلسانه، وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع.

ومن نظم ابن الصابوني (2) :

بعثت بمرآةٍ إليك بديعةٍ

فأطلع بسامي أفقها قمر السعد

لتنظر فيها حسن وجهك منصفاً

وتعذرني فيما أكنّ من الوجد

فأرسل بذال الخدّ لحظك برهةً

لتجني منه ما جناه من الورد

مثالك فيها منك أقرب ملمساً

وأكثر إحساناً وأبقى على العهد وقوله في لابس أحمر (3) :

أقبل في حلّةٍ مورّدةٍ

كالبدر في حلّة من الشّفق

تحسبه كلّما أراق دمي

يمسح في ثوبه ظبى الحدق ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه، ولا عول عليه، وكان شديد الانحراف، فانقلب على عقبه يعض يديه، على ماجرى عليه، فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمداً، ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار.

(1) هو أبو بكر محمد بن أحمد الصابوني شاعر إشبيلية في عصره، رحل إلى تونس ثم إلى القاهرة وتوفي سنة 636 (القدح: 69 والمغرب 1: 236 والوافي 2: 9 والتحفة: 161 والفوات 2: 209)

(2)

المغرب والقدح: 72.

(3)

البيتان في القدح، وأكثر اعتماد المقري عليه في سائر أخبار ابن الصابوني.

ص: 518

وحضر يوماً بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكت باسمه، فأنشد:

قد فخر الدينار والدرهم

لمّا علا ذين لكم ميسم

كلاهما يفصح عن مجدكم

وكلّ جزءٍ منه فرد فم ومر فيها إلى أن قال في وصف الدنانير (1) :

كأنها الأنجم والبعد قد

حقّق عندي أنّها الأرجم فأشار السلطان إلى وزيره، فأعطاه منها جملة، وقال له: بدل هذا البيت لئلا يبقى ذماً.

وكان يلقب بالحمار، ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب:

يا عير حمصٍ عيرتك الحمير

بأكلك البرّ مكان الشّعير وهو أبو بكر محمد ابن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر، والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن، وله فيه قصائد عدة، منها قوله في مطلع:

استول سبّاقاً على غاياتها

نجح الأمور يبين في بدآتها وله الموشحات المشهورة، رحمه الله تعالى.

378 -

ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال (2) ، وهو من شقورة، اجتاز بأبدة وهو صبي صغير يطلب الأدب، فأضافه بها القاضي ابن مالك،

(1) سقط هذا السطر من م.

(2)

الشريشي 1: 364.

ص: 519

ثم خرج معه إلى حديقة معروشة، فقطف لهما منها عنقوداً أسود، فقال القاضي:

انظر إليه في العصا

فقال ابن أبي الخصال:

كرأس زنجي عصى

فعلم أنه سيكون له شأن في البيان.

379 -

وحدث أبو عبد الله ابن زرقون (1) أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشلبيين كانا متواخيين متصافيين، وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب، فتهاجى الابنان بأقذع هجاء، فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله، فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له: قد قطعت مابيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه، فقال له ابنه: إنه بدأني والبادي أظلم، وإنما يجب أن يلحى من بالشر تقدم، فعذره أبوه، فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنق فيه الضفادع، فقال أبو جعفر لابنه: أجز:

تنقّ ضفادع الوادي

فقال ابنه:

بصوتٍ غير معتاد

فقال الشيخ:

كأنّ نقيق مقولها

فقال ابنه:

بنو الملاح في النادي

(1) المصدر نفسه وانظر زاد المسافر: 88.

ص: 520

فلما أحست الضفادع بهما صمتت، فقال أبوبكر:

وتصمت مثل صمتهم

فقال ابنه:

إذا اجتمعوا على زاد

فقال الشيخ:

فلا غوثٌ لملهوف

فقال الابن:

ولا غيثٌ لمرتاد

ولا خفاء أن هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة، فكيف ممن هو في سن الصبا.

380 -

ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس - أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب، إنه سميع مجيب - ما حكي أن ابن المرعزي (1) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول:

لم أر ملهىً لذي اقتناص

ومكبساً مقنع (2) الحريص

كمثل خطلاء (3) ذات جيد

أتلع في صفرة القميص (4)

كالقوس في شكلها ولكن

تنفذ كالسهم للقنيص

إن تخذت أنفها دليلاً

دلّ على الكامن العويص

لو أنها تستثير برقاً

لم يجد البرق من محيص

(1) في المغرب (1: 264) المرعز؛ وفيه الأبيات؛ وقد تصحف الاسم في الأصول وأثبتناه ما في ب.

(2)

المغرب: ومقنع الكاسب.

(3)

في الأصول: خطار؛ والخطلاء: المسترخية الأذن.

(4)

المغرب: أغيد تبرية القميص.

ص: 521

ومنها في المديح:

يشفع تنويله بودّ

شفع القياسات بالنّصوص وقال:

الله أكبر أنت بدرٌ طالعٌ

والنّقع دجنٌ والكماة نجوم

والجود أفلاكٌ وأنت مديرها

وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم وقال:

نزلت في آل مكحول وضيفهم

كنازل بين سمع الأرض والبصر

لا تستضيء بضوء في بيوتهم

ما لم يكن لك تطفيلٌ على القمر وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجاً.

381 -

[شعراء اليهود]

1 -

وقال نسيم الإسرائيلي:

يا ليتني كنت طيراً

أطير حتى أراكا

بمن تبدّلت غيري

أو لم تحل عن هواكا هو شاعر وشاحمن أهل إشبيلية، وذكره الحجاري في المسهب.

2 -

وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالاً (1) :

كان محيّاك له بهجة

حتى إذا جاءك ماحي الجمال

(1) انظر دراسة عنه في مقدمة ديوانه (ط. دار صادر 1967) وفيها إلمام بمصادر ترجمته. وهذه الأبيات الواردة هنا مثبتة في ديوانه.

ص: 522

أصبحت كالشمعة لما خبا

منها الضياء اسودّ فيها الذّبال وهو شاعر إشبيلية ووشاحها، وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الباج وغيرهما، وقال العزّ في حقه، وكان أظهر الإسلام، ما صورته: كان يتظاهر بالإسلام، ولا يخلو مع ذلك من قدح واتهام، انتهى. وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل، فقال: لأنه اجتمع فيه ذلان، ذل العشق، وذل اليهودية. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدر إلى وطنه. ومن نظم ابن سهل المذكور قوله:

وألمى بقلبي منه جمرٌ مؤجّجٌ

تراه على خدّيه يندى ويبرد

يسائلني من أي دين مداعباً

وشمل اعتقادي في هواه مبدّد

فؤادي حنيفي، ولكنّ مقلتي

مجوسية من خدّه النار تعبد ومنه قوله:

هذا أبو بكر يقود بوجهه

جيش الفتور مطرّز الرايات

أهدى ربيع عذاره لقلوبنا

حرّ المصيف فشبّها لفحات

خدٌّ جرى ماء النعيم بجمره

فاسودّ مجرى الماء في الجمرات وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلتهالكبيرة القدر والجرم المسماة ب " ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة " خلافاً في إسلام ابن سهل باطناً، وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق ما نصه: صحح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام، انتهى.

ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس، فسألوه لما أخذت منه الراح عن إسلامه: هل هو في الظاهر والباطن أم لا فأجابهم بقوله: للناس ما ظهر، ولله ما استتر، انتهى.

ص: 523

واستدل بعضهم على صحة إسلامه بقوله:

تسلّيت عن موسى بحبّ محمدٍ

هديت ولولا الله ما كنت أهتدي

وما عن قلىً قد كان ذاك، وإنّما

شريعة موسى عطّلت بمحمد وله ديوان كبير مشهور بالمغرب، حاز به قصب السبق في النظم والتوشيح.

وماأحسن قوله من قصيدة:

تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها

" تجد خير نار عندها خير موقد " وأنشد بعضهم له قوله:

لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي

فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد

فبالله برّد ما بقلبي من الجوى

بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد وقال الراعي رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي رحمه الله تعالى يقول: شيئان لا يصحان: إسلام إبراهيم بن سهل، وتوبة الزمخشري من الاعتزال، ثم قال الراعي: قلت: وهما في مروياتي، أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب على ظني صحته لعلمي بروايته، وأما الثاني - وهو توبة الزمخشري - فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسماً بالبلاد المشرقية محكوماً فيه يتضمن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية، انتهى باختصار.

وقال الراعي أيضاً ما نصه: وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزله حيث قال:

أموسى أيا بعضي وكلّي حقيقة

وليس مجازاً قولي الكلّ والبعضا

خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي

فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا

ص: 524

وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية، فإن إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه، والله تعالى أعلم. وقد روينا أنه مات مسلماً غريقاً في البحر، فإنه كان حقاً فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة، انتهى.

ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله:

رفعت (1) عوامله وأحسب رتبتي

بنيت على خفض فلن تتغيرا ومنه:

تنأى وتدنو والتفاتك واحدٌ

كالفعل يعمل ظاهراً ومقدّرا وقوله:

إذا كان نصر الله وقفاً عليكم

فإنّ العدا التنوين يحذفه الوقف وقوله:

ليتني نلت منه وصلاً وأجلى

ذلك الوصل عن صباح المنون

وقرأنا باب المضاف عناقاً

وحذفنا الرقيب كالتنوين وقوله:

بنيت بناء الحرف خامر طبعه

فصار لتأثير العوامل مانعا (2) وقوله:

لك الثناء فإن يذكر سواك به

يوماً فكالرابع المعهود في البدل

(1) في الأصول: رقت.

(2)

هذا البيت مضطرب في الأصول وقافيته " جازما " وقد صوبناه عن الديوان.

ص: 525

يعني الغلط، وقوله:

إذا اليأس ناجى النفس منك بلن ولا

أجابت ظنوني ربّما وعساني (1) وقوله:

وقلت عساه عن أقمت يرقّ لي

وقد نسخت لا عنده ما اقتضت عسى وقوله:

ينفي لي الحال ولكنّه

يدخل لا في كل مستقبل وقوله:

خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي

فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا وقوله في غلام شاعر:

كيف خلاص القلب من شاعرٍ

رقت معانيه عن النّقد

يصغر نثر الدرّ عن نثره

ونظمه جلّ عن العقد

وشعره الطائل في حسنه

طال على النابغة الجعدي وحدث أبو حيان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي نصر الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أن إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهودياً ثم أسلم، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة طويلة بارعة، قال أبو حيان: وقفت عليها، وهي من أبدع مانظم في معناها، وكان سن ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة، وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة، وقيل: إنه جاوز الأربعين، وكان يقرأمع المسلمين ويخالطهم، وما أحسن قوله:

(1) في الأصول: وعسائي، وهو من قصيدة نونية (ص: 214) .

ص: 526

مضى الوصل إلاّ منية تبعث الأسى

أداري بها همّي إذا الليل عسعسا

أتاني حديث الوصل زوراً على النوى

أعد ذلك الزور اللّذيذ المؤنسا

ويا أيّها الشوق الذي جاء زائراً

أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا

كساني موسى من سقام جفونه

رداء وسقّاني من الحبّ أكؤسا ومن أشهر موشحاته قوله (1) :

ليل الهوى يقظان

والحبّ ترب السّهر

والصبر لي خوّان

والنوم عن عيني بري وقد عارضه غير واحد فما شقوا له غباراً.

3 -

وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي (2) فكان قد تمكن عند الأذفونش ملكطليطلة النصراني، وصيره سفيراً بينه وبين ملوك المغرب، وكان غارفاً بالمنطق والشعر، قال ابن سعيد: أنشدني لنفسه يخاطب أديباً مسلماً كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك، ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال، فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه:

أيا جاعلاً أمرين شبهين ماله

من العقل إحساسٌ به يتفقّد

جعلت الغنى والفقر والذلّ والعلا

سواءً فما تنفكّ تشقى وتجهد

وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة

فتطلب تسهيلاً وسيرك مصعد

وما كنت ذا ميز لمن كنت طالباً

بما كنت في حال الفراغ تعوّد

وقد حال ما بيني وبينك شاغلٌ

فلا تطلبنّي بالذي كنت تعهد

فإن كنت تأبى غير إقدام جاهلٍ

فإنك لا تنفكّ تلحى وتطرد

(1) ديوانه: 296.

(2)

ترجم له في المغرب 2: 23 وأورد بيتيه في مدح الأذفونش.

ص: 527

ألا فأت في أبوابه كلّ مسلك

ولا تك محلاً حيثما قمت تقعد قال ابن سعيد: وأنشدني لنفسه:

ولمّا دجا ليل العذار بخدّه

تيقنت أنّ الليل أخفى وأستر

وأصبح عذّالي يقولون صاحبٌ

فأخلو به جهراً ولا أتستّر وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى:

حضرة الأذفنش لا برحت

غضة (1) أيامها عرس

فاخلع النعلين تكرمةً

في ثراها إنّها قدس قال: وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة، ورأيت على بابه بواباً في غاية القبح، فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت: رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان، وهذه على بابها مالك، فضحك واخبر الخليفة بما جرى، فقال له: قل له إنا قصدنا ذلك، فلو كان رضوان عليها بواباً لخشينا أن يرده عنها، ويقول له: ليس هذا موضعك، ولما كان هناك مالك أدخله فيها، وهو لا يدري ما وراءه، ويخيل أنها جهنم، قال: فلما أعلمني الوزير بذلك قلت له: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: 124) .

4 -

وكان في زمان الياس بن المدور (2) اليهودي الطبيب الرندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة، فأصلح الناس بينهما مراراً، وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفر الناس منه فكتب إليه:

(1) في الأصول: غادة.

(2)

ترجمة الياس في المغرب 1: 336 وهو من شعراء المائة السادسة.

ص: 528

لا تخدعنّ فما تكون مودّة

ما بين مشتركين أمراً واحدا

انظر إلى القمرين حين تشاركا

بسناهما كان التلاقي واحدا يعني أنهما معاً لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة: هذا يطلع ليلاً وهذه تطلع نهاراً، واعتراضهما يوجب الكسوف.

5 -

وكتب أيوب بن سليمان المرواني (1) إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير: لما كنت - وصل الله تعالى إخاءك وحفظك - مطمح نفسي، ومنزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل، هزتني خواطر الطرب والارتياح، في هذا اليوم المطير، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح، واستنطاق البم والزير، فلم أر معيناً على ذلك، ومبلغاً إلى ما هنالك، إلا حسن نظرك، وتجشمك من المكارم ماجرت به عادتك، وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة، وجعل في تركها الخير والبركة، فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكءاً على دن مستنداً إلى خابية، ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات إلا هو، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير، وكرمك بتكلفه جدير:

ولا يعين المرء يوماً على

راحته إلاّ كريم الطباع

وها أنا والسمع مني إلى ال

باب وذو الشوق حليف استماع

فإن أتى داعٍ بنيل المنى

ودّع أشجاني ونعم الوداع وهذا المرواني من ذرية عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان، وهو من أهل المائة السادسة.

(1) ترجمة أيوب المرواني في المغرب 1: 60.

ص: 529

6 -

وكانت بالأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي، وكان أبوها شاعراً، واعتنى بتأديبها، وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمتها هي بقسم آخر، وقال لها أبوها يوماً: أجيزي:

لي صاحبٌ مهجةٍ قد قابلت

نعمى بظلمٍ (1) واستحلّت جرمها ففكرت غير كثير وقالت:

كالشمس منها البدر يقبس نوره

أبداً ويكسف بعد ذلك جرمها فقام كالمختبل، وضمها إليه، وجعل يقبل رأسها، ويقول: أنت والعشر كلمات أشعر مني.

ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزويج ولم تتزوج، فقالت:

أرى روضةً قد حان منها قطافها

ولست أرى جانٍ يمدّ لها يدا

فوا أسفا يمضي الشّباب مضيّعاً

ويبقى الّذي ماإن أسمّيه مفردا فسمعها أبوها، فنظر في تزويجها.

وقالت في ظبية عندها:

يا ظبيةً ترعى بروضٍ دائماً

إنّي حكيتك في التوحّش والحور

أمسى كلانا مفرداً عن صاحبٍ

فلنصطبر أبداً على حكم القدر 382 - واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي (2) ظثم الغرناطي بعض أصحابه إلى أنس، بقوله:

سيدي عندي أتر

جٌّ ونارنجٌ وراح

(1) في الأصول: ذو بهجة

منعا بظهر.

(2)

ترجمته في المغرب 2: 180.

ص: 530

وجنى آسٍ وزهرٍ

وحمانا لا يباح

ليس إلاّ مطربٌ يس

لي النّدامى، والملاح

ومكانٌ لانهتاكٍ

قد نأى عنه الفلاح

لا يرى يطلع فيه

دون أكواسٍ صباح

فيه فتيانٌ لهم في

لذة العيش جماح

طرحوا الدّنيا يساراً

فاستراحت واستراحوا

لا كقومٍ أوجعتهم

لهم فيها نباح وله:

قال العذول: إلى كم

تدعو لمن لا يجيب

فقلت: ليس عجيباً

أن لا يجيب حبيب

هوّن عليك فإنّي

من حبّه لا أتوب قال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية، وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذات نفسه، فلما لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الطريفة، فقلت له: قالوا: إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار، وما أحسبك إلا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرة والاستبشار، فزاد ضحكاً، وقال: يا أبا عمران، أتراني إذا لزمت الهم والفكر يرجع علي ذلك العدد الذي أفسدت ثم فكر ساعة وأنشدني (1) :

ليس عندي من الهموم حديثٌ

كلّما ساءني الزمان سررت

أتراني أكون للدهر عوناً

فإذا مسّني بضرّ ضجرت

(1) الأبيات في المصدر السابق.

ص: 531

غمرةٌ ثم تنجلي فكأنّي

عند إقلاع همّها ما ضررت 383 - وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي (1) :

بدا ألف التعريف في طرس خدّه

فيا هل تراه بعد ذاك ينكر

وقد كان كافوراً فهل أنا تارك

له عندما حيّاه مسك وعنبر

وما خير روضٍ لا يرفّ نباته

وهل أفتن الأثواب إلاّ المشهر وقال:

أبى لي أن أقول الشّعر أنّي

أحاول أن يفوق السحر شعري

وأن يصغي إليه كلّ سمعٍ

ويعلق ذكره في كلّ صدر قال الحجاري: أخبرني أنه أحب أحد أولاد الأعيان ممن كان يقرأ عليه، فلما خلا به شكا إليه ما يجده، فقال له: الصبيان يفطنون بنا، فإذا أردت أن تقول شيئاً فاكتبه لي في ورقة، [قال] : فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني فيه، وكتبت له:

يا من له حسنٌ يفوق به الورى

صل هائماً قد ظلّ فيك محيّرا

وامنن عليه بقبلةٍ أو غيرها

إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا وكتبت بعدها من الكلام ما رأيته، فلما حصلت الورقة عنده كتب إلي في غيرها: أنا من بيتٍ عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول، وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهداً على ما قابلتني به لئلا أشكوك إلى أبي فيقول لي: حاش لله أن يقع الفقيه في هذا، وإنما أنت خبيث، رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليه لأخرجك من عنده، فأبقى معذباً معك ومعه، وإن

(1) ترجمته في المغرب 2: 180 وبغية الوعاة: 383 وفي المغرب أبياته الأولى.

ص: 532

أنا أوقفته على خطك صدقني واسترحت، ولكن لا أفعل هذا إلا إذا لم تنته عني، وإن انتهيت فلا أخبر به أحداً، قال ابن عبد الوارث: فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه، وجعلت أرغب إليه في أن يرد الرقعة إلي، فأبى وقال: هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلم في ذلك الشأن، قال: فكان والله يبطل القراءة ولا أجسر أكلمه، لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده، وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله.

384 -

وقال جابر بن خلف الفحصي - وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد، وقرأمع أبي جعفر ابن سعيد وتهذّب معه - يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه:

أيا قائداً قد سما في العلا

وساد علينا بذاتٍ وجدّ

غدا الذئب في غنمي عائثاً

وقد جئت مستعدياً بالأسد وكثر عليه الدين، فكتب إليه أيضاً:

أفي أيّامك الغرّ

أموت كذا من الضرّ

وأخبط في دجى همّي

ووجهك طلعة الفجر فضحك وأدى دينه.

385 -

ولما خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن، وقتلوا نائبه ابن مخلوف، قدموا عليهم أبا يحيى ابن الرميمي (1) ، ثم كان عليه من النصارى ما علم، ففر إلى مدينة فاس، وبقي بها ضائعاً حاملاص، يسكن في غرفة، ويغيش من النسخ، فقال:

(1) ترجمته في المغرب 2: 198، وانظر البيان المغرب (ج 3) والمعجب للمراكشي.

ص: 533

أمسيت بعد الملك في غرفةٍ

ضيقة الساحة (1) والمدخل

تستوحش الأرزاق من وجهها

فما تزال الدّهر في معزل

النسخ بالقوات لديها ولا

تقرعها كفّ أخٍ مفضل وأنشدها لبعض الأدباء، فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج إذا بالباب يقرع، ففتحه، فإذا شخص متنكر لا يعرفه، وقد مد يده إليه بصرة فيها جملة دنانير، وقال: خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه، وأنت المفضل بقبولها، فأخذها، وحسن بها حاله.

وقال له بعضٌ: هذا شعرك أيام خلعك، فهل قلت أيام أمرك قال: نعم، لما قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولى أمرهم قلت:

أرى فتناً تكشّف عن لظاها

رمادٌ بالنّفاق له انصداع

وآل بها النظام إلى انتثارٍ

وساد الأسافل والرعاع

سأحمل كلّ ما جشّمت منها

بصدرٍ فيه للهول اتساع وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس، ونسبوا إلى رميمة قريةٍ من أعمال قرطبة.

386 -

وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد (2) :

فوصلت أقطاراً لغير أحبّةٍ

ومدحت أقواماً بغير صلات

أموال أشعاري نمت فتكاثرت

فجعلت مدحي للبخيل زكاتي وهذا من غريب المعاني.

(1) ب: الساحات.

(2)

ترجمة ابن عبد الصمد في الذخيرة (3: 251) والمغرب 2: 203 ومسالك الأبصار 11: 450.

ص: 534

387 -

وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم، لما رأى من كثرة عددهم، والتباسهم بالسلطان:

ملأت قلبي هموماً مثل ما

ملأ الدّنيا بنو عبد الصمد

كاثر الشيخ أبوهم آدماً

فغدا أكثر نسلاً وولد

كلهم ذئب إذا آمنته

والرّعايا بينهم مثل النّقد 388 - وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس (1) وزير زهير الصقلبي ملك المرية بذ الناس في وقته بأربعة أشياء: المال، والبخل، والعجب، والكتابة، قال ابن حيان: وكان قبل محنته صير هجيراه أوقات لعب الشطرنج أو ما يسنح له هذا البيت:

عيون الحوادث عني نيام

وهضمي على الدهر شيء حرام وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال:

سيوقظها قدرٌ لا ينام

وكان حسن الكتابة، جميل الخط، مليح الخطاب، عزيز الأدب، قوي المعرفة، مشاركاً في الفقه، حاضر الجواب، جماعاً للدفاتر، حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد، وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها، وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك، وكان مقتله بيد باديس ابن حبوس (2) ملك غرناطة، وكفى دليلاً على إعجابه قوله:

لي نفس لا ترتضي الدهر عمراً

وجميع الأنام طرّاً عبيدا

لو ترقّت فوق السّماك محلاًّ

لم تزل تبتغي هناك صعودا

(1) انظر الذخيرة 1 / 2: 151 والمغرب 2: 205 والإحاطة 1: 129.

(2)

تفصيل الخبر عن مقتله في الذخيرة: 166.

ص: 535

أنا من تعلمون شيّدت مجدي

في مكاني ما بين قومي وليدا وكان يتهم بداء أبي جهل فيما ينقل، حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية:

خلوت بالبرج فما الذي

تصنع فيه ياسخيف الزّمان فلما نظر إليه أمر أن يكتب:

أصنع فيه كلّ ما أشتهي

وحاسدي خارجه في هوان 389 - وكان الأعمى التطيلي (1) شاعراً مشهوراً، وكان الصبيان يقولون له " تحتاج كحلاً يا أستاذ " فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية، وقيل له: يا أبا بكر، كم تقع في الناس فقال: أنا أعمى، وهم لا يبرحون حفراً فما عذري في وقوعي فيهم فقال له السائل: والله لا كنت قط حفرة لك، وجعل يواليه بره ورفده.

ومن شعره:

وجوهٌ تعزّ على معشرٍ

ولكن تهون على الشاعر

قرونهم مثل ليل المحبّ

وليل المحبّ بلا آخر وله:

زنجيّكم بالفسوق داري

يدلي من الحرص كالحمار

يخلو بنجل الوزير سرّاً

فيولج الليل في النّهار

(1) أغلب الظن أن هذا الشاعر هو التطيلي الأصغر، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد التطيلي (التحفة: 27 ونكت الهميان: 90) إلا إن قدرنا أن المقري وقع في الوهم فإن القطعة الثانية أوردها ابن سعيد للمخزومي الأعمى (المغرب 1 227) وهو الذي يكنى بأبي بكر.

ص: 536

390 -

ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الاستبي (1) كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه " فضل الله ":

من الناس من يؤتى بنقدٍ ومنهم

بكرهٍ ومنهم من يناك إذا انتشى

ومنهم فتى يؤتى على كلّ حالةٍ

وذلك فضل الله يؤتيه من يشا 391 - ولعبد الملك بن سعيد الخازن (2) :

ما حمدناك إذ وقفنا ببابك

للذي كان من طويل حجابك

قد ذممنا الزّمان فيك فقلنا

أبعد الله كلّ دهرٍ أتى بك 392 - وقال في " المسهب ": كنت بمجلس القاضي ابن حمدين، وقد انشده شعراء قرطبة وغيرها، وفي الجملة هلال شاعر غرناطة، ومحمد بن الاستجي شاعر استجة الملقب بزحكون، فقام الاستجي وأنشد قصيدة، منها:

إليك ابن حمدين انتخلت قصائداً

بها رقصت في القضب ورق الحمائم

أنا العبد لكن بالمودّة أشترى

إذا كان غيري يشترى بالدراهم فشكره ابن حمدين، ونبه على مكان الإحسان، فحسده هلال البياني على ذلك، فلما فرغ من القصيدة قال له هلال: اعد علي البيت الذي فيه " رقص الحمام " فأعاده، فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق، فقال له في الحين: ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن.

وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب، وعمل فيه.

(1) في القدح: 66 أبو عبد الله ابن الخيال الاستجي وكان يكتب لابن الأحمر وأورد له البيتين المثبتين هنا؛ وفي ب: السبتي وسقطت اللفظة من م.

(2)

ترجمته في الجذوة: 267 (وبغية الملتمس رقم: 1067) والمغرب 1: 228 وهنالك البيتان وانظر اليتيمة (ج 2) وكتاب التشبيهات.

ص: 537

393 -

ولما قال المقدم بن المعافى (1) في رثاء سعيد بن جودي:

من ذا الذي يطعم أو يكسو

وقد حوى حلف الندى رمس

لا اخضرّت الأرض ولا أوراق ال

عود ولا أشرقت الشمس

بعد ابن جوديّ الذي لن ترى

أكرم منه الجنّ والإنس فقيل له: أترثيه وقد ضربك فقال: والله إن نفعني حتى بذنوبه، ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي، أفلا أرعى له ذلك والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي له بعد موته

وقيل له: لم لا تهجو مؤمن بن سعيد فقال: لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها.

394 -

وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف (2) :

لا أشرب الراح إلاّ

مع كلّ خرق كريم

ولست أعشق إلاّ

ساجي الجفون رخيم 395 - ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها:

عرّج على ذاك الجناب العالي

واحكم على الأموال بالآمال

فيه ابن حمدين الّذي لنواله

من كلّ أرضٍ شدّ كلّ رحال فقال له القاضي: ما هذا الوثوب على المدح من أول وهلة، ألا تدري أنهم عابوا ذلك، كما عابوا الطول أيضاً، وأن الأولى التوسط فقال: يا سيدي، اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبة، فإني كلما ابتدأت في مدحك لم

(1) ترجمة مقدم في الجذوة: 333 وبغية الملتمس رقم: 1386 وشعره في سعيد بن جودي في الحلة السيراء 1: 156 - 157.

(2)

ترجمته في الجذوة: 268 وبغية الملتمس (رقم: 1081) .

ص: 538

يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت، فاستحسن ذلك منه، وأحسن إليه.

ومن هذه القصيدة:

قاضٍ موالٍ برّه ونواله

فله جميع العالمين موالي وكان يهوى وسيماً من متأدبي قرطبة، فصنع فيه شعراً أنشده منه:

وكّلت عيني برعي النّجم في الظلّم

وعبرني قد غدت ممزوجةً بدم فقال له الغلام: أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلاً ولا نهاراً، وعاشقاً وغير عاشق، فخجل هلال، وكان على عينه نقطة.

396 -

وحكى ابن حيّان (1) ان الأمير عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره، وتطأطأت، فكاد يكبو لفيه، ولحقه جزع، وتمثل إثره بقول الشاعر:

وما لا ترى ممّا يقي الله أكثر

وطلب صدر البيت فعزب عنه، وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي، وكان يلقب بالأصمعي لذكائه وحفظه، فأنشد الأمير:

ترى الشيء ممّا يتّقى فتهابه

فأعجب الأمير، واستحسن شكله، فقال له: الزم السرادق.

وأعقب ابناً يسمى حامداً.

(1) انظر المغرب 1: 330 والمقتبس (تحقيق مكي) : 34.

ص: 539

وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء، فعرض عليهم فرس مطهم، فتمثل فيه الواحد بقول امرئ القيس:

بريد السّرى بالليل من خيل بربرا

ففهم الزجالي أنه عرض بأنه من البربر، فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب، فقال مدبجاً لما أراده ومعرضاً: أحسن عندي من ليل يسرى بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل:

ويومٍ كظلّ الرمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر وإنما عرض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء، فقلق الوزير، وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد، فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك، فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر، وأنشد:

وما الحرّ إلاّ من يدين بمثل ما

يدان ومن يخفي القبيح وينصف

هم شرعوا التعريض قذفاً فعندما

تبعناهم لاموا عليه وعنّفوا ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى {الزانية والزاني} (النور: 2) بأن قال " فانكحوهما " فأنشده حامد (1) :

أبدع القارئ معنىً

لم يكن في الثّقلين

أمر النّاس جميعاً

بنكاح الزانيين وقال لبعض أصحابه حينئذ: أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود وتضاحكا.

(1) المغرب: 331.

ص: 540

397 -

[تراجم من المطمح]

1 -

وكتب الوزير أبو عبد الله ابن عبد العزيز (1) إلى المنصور صاحب بلنسية، ويعرف بالمنصور الصغير، قطعةً أولها:

يا أحسن الناس آداباً وأخلاقا

وأكرم الناس أغصاناً وأوراقا

ويا حيا الأرض لم نكّبت عن سنني

وسقت نحوي إرعاداً وإبراقا

ويا سنا الشمس لم أظلمت في بصري

وقد وسعت بلاد الله إشراقا

من أيّ بابٍ سعت غير الزمان إلى

رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا

قد كنت أحسبني في حسن رأيك لي

أنّي أخذت على الأيّام ميثاقا

فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما

آسى عليه وأبدي منه إشفاقا فأجابه بهذه القطعة:

مازلت أوليك إخلاصاً وإشفاقا

وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا

وكان من أملي أن أقتنيك أخاً

فأخفق الأمل المأمول إخفاقا

فقلت غرسٌ من الإخوان أكلؤه

حتى أرى منه إثماراً وإيراقا

فكان لمّا زهت أزهاره ودنت

أثمارها حنظلاً مرّاً لمن ذاقا

فلست أوّل إخوانٍ سقيتهم

صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا

فما جزوني بإحساني ولا عرفوا

قدري ولا حفظوا عهداً وميثاقا والوزير المذكور قال في حقه في المطمح: إنه وزير المنصور بن عبد العزيز، ورب السبق في وده والتبريز، ومنقض الأمور ومبرمها، ومخمد الفتن ومضرمها، اعتقل بالدهي، واستقل بالأمر والنهي، على انتهاض بين الأكفاء، واعتراض المحو لرسومه والإعفاء، فاستمر غير مراقب، وأمر

(1) المطمح: 11 - 13.

ص: 541

ما شاء غير ممتثل للعواقب، ينتضي عزائم تنتضى، فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا، إلى أن أودى، وغار منه الكوكب الأهدى، فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر، فناهيك من أي عرف ونكر، فقد أربى على الدهاة، وما صبا إلى الظبية ولا إلى المهاة، واستقل بالهول يقتحمه، والأمر يسديه ويلحمه، فأي ندىً أفاض، وأي أجنحة بمدىً هاض، فانقادت إليه الآمال بغير خطام، ووردت من نداه ببحرٍ طامٍ، ولم يزل بالدولة قائماً، وموقظاً من بهجتها ما كان نائماً، إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب، ومسد الثغور والدروب، فاعتمد عليه واتكل، ووكل الأمر إلى غير وكل، فما تعدى الوزارة إلى الرياسة، ولا تردى بغير التدبير والسياسة، فتركه مستبداً، ولم يجد من ذلك بداً. وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة، وآراء لم تكن آفلة، أدرك بها ما أحب، وقطع غارب كل منافس وجب، إلى أن طلحه العمر وأنضاه، وأغمده الذي انتضاه، فخلى الأمر إلى ابنيه، فتبلدا في التدبير، ولم يفرقا بين القبيل والدبير، فغلب عليهما القادر بن ذي النون، وجلب إليهما كل خطبٍ (1) ما خلا المنون، فانجلوا، بعدما ألقوا ما عندهم وتخلوا، وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع، يوضع بين الجوانح ويودع، انتهى المقصود من الترجمة.

2 -

وكان للوزير أبي الفرج (2) ابنٌ مكبود قد أعياه علاجه، وتهيأ للفساد مزاجه، فدل على خمر قديمة، فلم يعلم بها إلا عند حكم، وكان وسيماً، وللحسن قسيماً، فكتب إليه (3) :

أرسل بها مثل ودّك

أرقّ من ماء خدّك

(1) ب: جلب.

(2)

المطمح 15 - 16.

(3)

انظر ما سبق ص: 408.

ص: 542

شقيقة النفس فانضح

بها جوى ابني وعبدك وكتب رحمه الله تعالى معتذراً، عما جناه منذراً:

ما تغيّبت عنك إلاّ لعذر

ودليلي في ذاك حرصي عليكا

هبك أن الفرار من عظم ذنبٍ

أتراه يكون إلا إليكا وقال في المطمح في حق أبي الفرج: من ثنية رياسة، وعترة نفاسة، مامنهم إلا من تحلى بالإمارة، وتردى بالوزارة، وأضاء في آفاق الدول، ونهض بين الخيل والخول، وهو أحد أمجادهم، ومتقلد نجادهم، فاتهم أدباً ونبلاً، وباراهم كرماً تخاله وبلاً، إلا أنه بقي وذهبوا، ولقي من الأيام ما رهبوا، فعاين تنكرها، وشرب عكرها، وجال على الآفاق، واستدر أخلاف الأرزاق، وأجال للرجاء (1) قداحاً متواليات الإخفاق، فأخمل قدره، وتوالى عليه جور الزمان وغدره، فاندفعت آثاره، وعفت أخباره، وقد أثبت له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت، والخطوب إليه قد انبرت، أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه، وعنده استقرت نواه، وعليه كان قادماً، وله كان منادماً، أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه، وأن لا يحجب عنه وتكون منةً من أعظم نعمائه، فأجابه بالإسعاف، واستساغ منه ما كان يعاف، لعلمه بقلته، وإفراط خلته، فلما كان ظهر (2) ذلك اليوم كتب إليه:

أنا قد أهبت بكم وكلكم هوىً

وأحقّكم بالشكر مني السابق

فالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها

فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق

(1) م ب: الرجاء.

(2)

ظهر: سقطت من ب.

ص: 543

3 -

وقال الوزير أبو عامر ابن مسلمة (1) :

حجّ الحجيج منىً ففازوا بالمنى

وتفرقت عن خيفه الأشهاد

ولنا بوجهك حجةٌ مبرورةٌ

في كلّ يومٍ تنقضي وتعاد وقال الفتح في حقه ما صورته: نبتة (2) شرفٍ باذج، ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ، وزروا للخلفاء، فانتجعتهم الأدباء واتبعتهم العظماء، وانتسبت لهم النعماء، وتنفست عن نور بهجتهم الظلماء، وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل، وجوادهم الذي لا يبخل، وزعيمهم المعظم، وسلك مفخرهم المنظم، وكان فتى المدام، ومستفتى الندام، وأكثر من النعت للراح والوصف، وآثر الأفراح والقصف، وأرى قينات السرور مجلوة، وآيات الحسن متلوة، وله كتاب سماه " حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح "، واختص بالمعتضد اختصاصاً جرعه رداه، وصرعه في مداه، فقد كان في المعتضد من عدم تحفظه للأرواح، وتهاونه باللوام في ذلك واللواح، فاطمأن إليه أبو عامر واغتر، وأنس إلى مابسم من مؤانسته وافتر، حتى أمكنته في اغتياله فرصة، لم يعلق فيها حصة، ولم يطلق عليه إلا أنه زلت به قدمه فسقط في البحيرة وانكفا، ولم يعلم به إلا بعدما طفا، فأخرج وقد قضى، وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى، فمن محاسنه قوله يصف السوسن، وهو مما أبدع فيه وأحسن:

وسوسنٍ راق مرآه ومخبره

وجلّ في أعين النظّار منظره

كأنّه كؤس البلّور قد صنعت

مسندساتٍ تعالى الله مظهره

وبينها ألسنٌ قد طوّقت ذهباً

من بينها قائمٌ بالملك يؤثره

(1) المطمح: 23 - 24.

(2)

المطمح: بيت.

ص: 544

إلى أن قال: واجتمع بجنة بخارج إشبيلية مع إخوانٍ له علية، فبينما هم يديرون الراح، ويشربون من كأسها الأفراح، والجو صاح، إذا بالأفق قد غيم، وأرسل الديم، بعدما كسا الجو بمطارف اللاذ (1) ، وأشعر الغصون زهر قباذ (2) ، والشمس منتقبة (3) بالسحاب، والرعد يبكيها بالانتحاب، فقال (4) :

يومٌ كأن سحابه

لبست عمامات الصوامت

حجبت به شمس الضّحى

بمثال أجنحة الفواخت

والغيث يبكي فقدها

والبرق يضحك مثل شامت

والرعد يخطب مفصحاً

والجوّ كالمخزون ساكت وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداه، ونثر على معاطف الغصون نداه، فأقام بها وقال:

وخميلةٍ رقم الزّمان أديمها

بمفضّضٍ ومقسّمٍ ومشوب

رشفت قبيل الصبح ريق غمامةٍ

رشف المحب مراشف المحبوب

وطردت في أكنافها ملك الصّبا

وقعدت واستوزرت كلّ أديب

وأدرت فيها اللهو حقّ مداره

مع كلّ وضّاح الجبين حسيب (5) 4 - وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد (6) :

قلبي وقلبك لا محالة واحدٌ

شهدت بذلك بيننا الألحاظ

(1) م: الرذاذ.

(2)

م: دهر قباذ.

(3)

ب: متنقبة.

(4)

مرت الأبيات ص: 485.

(5)

ب والمطمح: مهوب.

(6)

المطمح: 24 - 25.

ص: 545

فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا

إنّ الحسود بمثل ذاك يغاظ وقال:

يا من حرمت لذاذتي بمسيره

هذي النوى قد صعّرت لي خدّها

زوّد جفوني من جمالك نظرة

والله يعلم إن رأيتك بعدها وقال في المطمح في ابن برد المذكور: إنه غذي بالأدب (1) ، وعلا إلى أسمى (2) الرتب، وما من أهل بيته إلا شاعر كاتب، لازم لباب السلطان راتب (3) ، ولم يزل في الدولة العامرية بسبقٍ يذكر، وحق لا ينكر، وهو بديع الإحسان، بليغ القلم واللسان، مليح الكتابة، فصيح الخطابة، وله " رسالة السيف والقلم "(4) ، وهو أول من قال بالفرق بينهما، وشعره مثقف المباني، مرهف كالحسام اليماني، وقد أثبت منه ما يلهيك سماعاً، ويريك الإحسان لماعاً، فمن ذلك قوله يصف البهار:

تأمل فقد شقّ البهار كمائماً

وأبرز عن نوّاره الخضل الندي

مداهن تبرٍ في أنامل فضةٍ

على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد وله يصف معشوقاً، أهيف القد ممشوقاً، أبدى صفحة ورد، وبدا في ثوب لازورد:

لمّا بدا في لازور

ديّ الحرير وقد بهر

كبّرت من فرط الجما

ل وقلت: ما هذا بشر

فأجابني لا تنكرن

ثوب السماء على القمر

(1) المطمح: هذه ثنية غذيت بالأدب.

(2)

المطمح: وربت في سماء.

(3)

ق ب ودوزي: مراتب.

(4)

راجع هذه الرساله في الذخيرة 1 / 2: 435.

ص: 546

5 -

وقال الوزير الكاتب أبو جعفر ابن اللمائي (1) :

ألمّا فديتكما نستلم

منازل سلمى على ذي سلم

منازل كنت بها نازلاً

زمان الصّبا بين جيدٍ وفم

أما تجدنّ الثرى عاطراً

إذا ما الرياح تنفسن ثم وقال في المطمح فيه: إمامٌ من أئمة الكتابة ومفجر ينبوعها، والظاهر على مصنوعها بمطبوعها، إذا كتب نثر الدر في المهارق، ونمت فيه أنفاسه كالمسك في المفارق، وانطوى ذكره على انتشار إحسانه، وقصر أمره مع امتداد لسانه، فلم تطل لدوحته فروع، ولا اتصل لها من نهر الإحسان كروع، فاندفنت محاسنه من الإهمال في قبر، وانكسرت الآمال بعدم بدائعه كسراً بعد جبر، وكان كاتب علي بن حمود العلوي وذكر أنه كان يرتجل بين يديه ولا يروي، فيأتي على البديه، بما يتقبله المروي ويبديه (2)، فمن ذلك ما كتب معتنياً من بعض رسالة: روض القلم في خنائك مونق وغصن الأدب بمائك مورق، وقد قذف بحر الهند درره، وبعث روض نجدٍ زهره، فأهدى ذلك على يدي فلان الجاري في حمده، على مباني قصده.

6 -

وقال الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة في المهرجان (3) :

أرى المهرجان قد استبشرا

غداة بكى المزن واستعبرا

وسربلت الأرض أمواهها

وجللت السندس الأخضرا

وهزّ الرياح صنابيرها

فضوّعت المسك والعنبرا

تهادى به الناس ألطافه

وسامى المقلّ به المكثرا

(1) المطمح: 25 - 26.

(2)

المطمح: ويفديه؛ وفي م: بما يفصله؛ ب: يفعله؛ دوزي: يتقبله.

(3)

المطمح: 26 - 27.

ص: 547

وقال في حقه في المطمح: من بيت جلالة، وعترة (1) أصالة، كانوا مع عبد الرحمن الداخل، وتوغلوا معه في متشعبات تلك المداخل، وسعوا في الخلافة حتى حضر مبايعها، وكثر مشايعها، وجدوا في الهدنة وانعقادها، وأخمدوا نار الفتنة عند اتقادها، فانبرمت (2) عراها، وارتبطت أولاها وأخراها، فظهرت البيعة واتضحت، وأعلنت الطاعة وأفصحت، وصاروا تاج مفرقها، ومنهاج طرقها، وهو ممن بلغ الوزارة بعد ذلك وأدركها، وحل مطلعها وفلكها، مع اشتهار في اللغة والآداب، وانخراط في سلك الشعراء والكتاب، وإبداع لما ألف، وانتهاض بما تكلف، ودخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف، وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتاباً، سماه " ربيعة وعقيل "، جرد له من ذهنه أي سيفٍ صقيل، وأتى به منتسخاً مصوراً في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأبرزه والحسن يتبسم عنه ويتفرى، فسر به المنصور وأعجب، ولم يغب عن بصره ساعة ولا حجب، وكان له بعد هذه المدة حين أدجت الفتنة ليلها وأزجت إبلها وخيلها، اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض، واضطراب بين القوافي والمواضي، كالحية النضاض، ثم اشتهر بعد، وافتر له السعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله:

سقى بلداً أهلي به وأقاربي

غوادٍ بأثقال الحيا وروائح

وهبّت عليهم بالعشيّ وبالضحى

نواسم بردٍ والظًلال فوائح

تذكرتهم والنأي قد حال دونهم

ولم أنس لكن أوقد القلب لافح

وممّا شجاني هاتفٌ فوق أيكةٍ

ينوح ولم يعلم بما هو نائح

فقلت اتّئد يكفيك أني نازحٌ

وأن الذي أهواه عني نازح

ولي صبيةٌ مثل الفراخ بقفرةٍ

مضى حاضناها فاطّحتها الطوائح (3)

(1) المطمح: وغرة؛ ب: ومحمدة؛ م: ومجرة.

(2)

المطمح: فأبرمت.

(3)

المطمح: متى حضناها طوتها الطوائح.

ص: 548

إذا عصفت ريحٌ أقامت رؤوسها

فلم يلقها إلاّ طيورٌ بوارح

فمن لصغارٍ بعد فقد أبيهم

سوى سانحٍ في الدهر لو عنّ سانح واستوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أيام الفتنة فلم يرض بالحال، ولم يمض في ذلك الانتحال، وتثاقل عن الحضور في كل وقت، وتغافل في ترك الغرور بذلك المقت، وكان المستظهر يستبد بأكثر تلك الأمور دونه، وينفرد مغيباً عنه شؤونه، فكتب إليه:

إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل

فسيّان منّي مشهدٌ ومغيب

فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها

لتيمٍ ولكنّ الشبيه نسيب وله:

رأت طالعاً للشيب بين ذوائبي

فباحت بأسرار الدّموع السواكب

وقالت: أشيبٌ قلت: صبح تجاربي

أنار على أعقاب ليل نوائبي ولما مات رثاه الوزير أبو عامر ابن شهيد بقوله:

أفي كلّ عامٍ مصرعٌ لعظيم

أصاب المنايا حادثي وقديمي

وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت

وقد فقدت عيناي ضوء نجوم

مضى السلف الوضّاح إلا بقيةً

كغرّة مسودّ القميص بهيم

فإن ركبت مني اللّيالي هضيمة

فقبلي ما كان اهتضام تميم

أبا عبدةٍ إنّا غدرناك عندما

رجعنا وغادرناك غير ذميم

أنخذل من كنّا نرود بأرضه

ونكرع منه في إناء علوم

ويجلو العمى عنّا بأنوار رأيه

إذا أظلمت ظلماء ذات غيوم

كأنّك لم تلقح بريحٍ من الحجى

عقائم أفكار بغير عقيم

ولم نعتمد مغناك غدواً ولم نزر

رواحاً (1) لفصل الحكم دار حكيم

(1) المطمح: ولم نزل نؤم.

ص: 549

7 -

وقال الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية (1) :

أمسك دارين حيّاك النّسيم به

أم عنبر الشّحر أم هذي البساتين

بشاطئ النهر حيث النّور مؤتلقٌ

والراح تعبق أم تلك الرياحين وحلاه في المطمح بقوله: واحد الأندلس الذي طوقها فخاراً، وطبقها بأوانه افتخاراً، ماشئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه، ومقدار يتمنى مخبرٌ ان يكونه، إذا لاح رأيت المجد مجتمعاً، وإذا فاه أضحى كل شيء مستمعاً، تكتحل منه مقل المجد، وتنتحل المعالي أفعاله انتحال ذي كلف بها ووجد، لوتفرقت في الخلق سجاياه لحمدت الشيم، ولو استسقيت بمحياه لما استمسكت الديم، ودعي للقضاء فمارضي، وأعفي عنه فكأنه ما استقضي، لديه تثبت الحقائق، وتنبت العلائق، وبين يديه يسلك عين الجدد (2) ، ويدع اللدد اللدد (3) ، وله أدب إذا حاضر به فلا البحر إذا عصف، ولا أبو عثمان إذا وصف، مع حلاوة مؤانسةٍ تستهوي الجليس، وتهوي حيث شاءت بالنفوس، وأما تحبيره وإنشاؤه، ففبهما للسامع تحييره وانتشاؤه، وقد اثبت له بدعاً، يثني إليها الإحسان جيداً وأخدعاً، فمن ذلك قوله في منزل حله متنزهاً:

يا منزل الحسن أهواه وآلفه

حقاً لقد جمعت في صحنك البدع

لله ما اصطنعت نعماك عندي في

يومٍ نعمت به والشمل مجتمع وحل منية صهره الوزير أبي مروان ابن الدب بعدوة إشبيلية المطلة على النهر، المشتملة على بدائع الزهر، وهو معرس ببنته (4) ، فأقام بها أياماً متأنسا،

(1) المطمح: 28 - 29؛ وقد سقط " أبو أيوب " من م.

(2)

ب: مسلك؛ ودوزي: يسلك من الحق الجدد.

(3)

ق: الألد اللدد.

(4)

ب: معرس مبيته؛ م: معرس بابنته.

ص: 550

ولجذوة السرور مقتبساً، فوالى عليه من التحف، وأهدى إليه من الطرف، ما غمر كثرة، وبهر نفاسة وأثرة، فلما ارتحل وقد اكتحل من حسن ذلك الموضع بما اكتحل، كتب إليه:

قل للوزير وأين الشكر من مننٍ

جاءت على سننٍ تترى وتتّصل

غشيت مغناك والروض الأنيق به

يندى وصوب الحيا يهمي وينهمل

وجال طرفي في أرجائه مرحاً

وفق اجتيازي يستعلي ويستفل

ندعو بلفتته حيث ارتمى زهرٌ

عليه من منثني أفنانه كلل

محلّ أنسٍ نعمنا فيه آونةً

من الزّمان وواتانا به الأمل وحل بعد ذلك متنزهاً بها على عادته، فاحتفل في موالاة ذلك البر وإعادته، فلما رحل كتب إليه:

يا دار أمنّك الزّما

ن صروفه ونوائبه

وجرت (1) سعودك بالذي

يهوى نزيلك آيبه

فلنعم مأوى الضيف أن

ت إذا تحاموا جانبه

خطرٌ شأوت به الديا

ر وأذعنت (2) لك قاطبه وصنع له ولد ابن عبد الغفور (3) رسالة سماها ب " الساجعة " حذا بها حذو أبي العلاء المعري في " الصاهل والشاحج " وبعث بها إليه، فعرضها عليه، فأقامت عنده أباماً ثم استدعاها منه فصرفها إليه، وكتب معها: بكرٌ زففتها أعزك الله تعالى نحوك، وهززت بمقدمها سناك وسرورك، فلم ألفظها عن شبع، ولا

(1) ب والمطمح: ودنت.

(2)

ب: فأذعنت.

(3)

هو صاحب إحكام صنعة الكلام؛ وقد تحدث عن رسالة " الساجعة " هنالك، وسقطت لفظة " ولد " من م.

ص: 551

جهلت ارتفاعها عما يجتلى من نوعها ويستمع، ولكن لما أنسته (1) من أنسك بانتجاعها، وحرصك على ارتجاعها، دفعت في صدر الولوع، وتركت بينها وبين مجاثمها تلك الربوع، حيث الأدب غضٌّ، وماء البلاغة مرفضٌّ، فأسعد أعزك الله بكرتها، وسلها عن أفانين معرتها، بما تقطفه من ثمارك، وتغرفه من بحارك، وترتاح له ولإخوانه من نتائج أفكارك، وغنها لشنشنة أعرفها فيكم من أخزم، وموهبة حزتموها وأحرزتم السبق فيها منذ كم. انتهى.

8 -

وابن عبد الغفور هو الوزير أبو القاسم الذي قال فيه الفتح (2) : فتى زكا فرعاً وأصلاً، وأحكم البلاغة معنىً وفصلاً، وجرد من ذهنه على الأغراض نصلاً، قد هابه وفراها، وقدح زند المعالي حتى أوراها، مع صون يرتديه، ولا يكاد يبديه، وشبيبة ألحقته بالكهول، فأقفرت منه ربعها المأهول، وشرف ارتداده، وسلفٍ اقتفى أثره الكريم واقتداه، وله شعر بديع السرد، مفوف البرد، وقد أثبت له منه ما ألفيت، وبالدلالة عليه اكتفيت، فمن ذلك قوله:

تركت التّصابي للصّواب وأهله

وبيض الطّلى للبيض والسّمر للسّمر

مدامي مدادي والكؤوس محابري

وندامي أقلامي ومنقلتي سفري وله:

لا تنكروا أنّنا في رحلةٍ أبداً

نحثّ في نفنفٍ (3) طوراً وفي هدف

فدهرنا سدفةٌ ونحن أنجمها

وليس ينكر مجرى النّجم في السّدف

لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري

وملت عن كلفي بهذه الكلف

(1) ب م: أنست.

(2)

المطمح: 29 - 30.

(3)

ب م: ثقف.

ص: 552

وله من قصيدة:

رويدك يا بدر التّمام فإنّني

أرى العيس حسرى والكواكب ظلعّا

كأن أديم الصبح قد قدّ أنجماً

وغودر درع الليل فيها مرقّعا

فإنّي وإن كان الشباب محبّباً

إليّ وفي قلبي أجلّ وأوقعا

لآنف من حسنٍ بشعري مفترى

وآنف من حسنٍ بشعري قنّعا 9 - وقال الوزير أبو الوليد ابن حزم (1) :

إلك أبا حفصٍ وما عن ملالة

ثنيت عناني والحبيب حبيب

مقالاً يطير الجمر عن جنباته

ومن تحته قلبٌ عليك يذوب

مضت لك في أفياء ظلّي قولة

لها بين أحناء الضّلوع دبيب

ولكن أبى إلا إليك التفاته

فزاد عليه من هواك رقيب

وكم بيننا لو كنت تحمد ما مضى

إذ العيش غضٌّ والزمان قشيب

وتحت جناح الغيم أحشاء روضةٍ

بها لخفوق العاصفات وجيب

وللزهر في ظلّ الرياض تبسّمٌ

وللطير منها في الغصون نحيب وقال في الزهد:

ثلاثٌ وستون قد جزتها

فماذا تؤمّل أو تنتظر

وحلّ عليك نذير المشيب

فما ترعوي أو فما تزدحر

تمرّ لياليك مراً حثيثاً

وانت على ماأرى مستمر

فلو كنت تعقل ما ينقضي

من العمر لاعتضت خيراً بشرّ

فما لك لا تستعدّ إذن

لدار المقام ودار المقرّ

أترغب عن فجأةٍ للمنون

وتعلم أن ليس منها مفرّ

(1) المطمح: 31 - 34.

ص: 553

فإمّا إلى جنّة أزلفت

وإمّا إلى سقرٍ تستعر 10 - وقال ابن أبي زمنين (1) :

الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا

ونحن في غفلةٍ عمّا يراد بنا

لا تطمئنّ إلى الدنيا وبهجتها

وإن توشّحت من أثوابها الحسنا

أين الأحبّة والجيران ما فعلوا

أين الذين هم كانوا لنا سكنا

سقاهم الموت كأساً غير صافيةٍ

فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا

تبكي المنازل منهم كلّ منسجمٍ

بالمكرمات وترثي البر والمننا

حسب الحمام لو ابقاهم وأمهلهم

ان لا يظنّ على معلوّةٍ حسنا وقال في المطمح: الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين فقيه متبتل، وزاهد لا منحرف إلى الدنيا ولا منفتل (2) ، هجرها هجر المنحرف، وحل أوطانه فيها محل المعترف، لعلمه بارتحاله (3) عنها وتقويضه (4) ، وإبداله منها وتعويضه، فنظر بقلبه لا بعينه، وانتظر يوم فراقه وبينه، ولم يكن له بعد ذلك بها اشتغال، ولا في شعاب تلك المسائل إيغال، وله تواليف في الوعظ والزهد وأخبار الصالحين تدل على تخليته عن الدنيا واتراكه، والتلفت من حبائل الاغترار وأشراكه، والتنقل من حال إلى حال، والتأهب للارتحال، ويستدل به على ذلك الانتحال، فمنها قوله:

الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا

فذكر الأبيات، انتهى.

(1) المطمح: 49 - 50 وزاد في م: في الزهد.

(2)

المطمح: متنقل.

(3)

ق ب: بارتحالها عنه.

(4)

في الأصول: وتفويضه.

ص: 554

11 -

وقال خلف بن هرون يمدح الحافظ أبا محمد ابن حزام (1) :

يخوض إلى المجد والمكرمات

بحار الخطوب وأهوالها

وإن ذكرت للعلا غايةُ

ترقّى إليها وأهوى لها وقال في المطمح فيه:

فقيه مستبط، ونبيه بقياسه مرتبط، ما تكلم تقليداً، ولا عدا (2) اختراعاً وتوليداً، ما تمنت به الأندلس أن تكون كالعراق، ولا حنت الأنفس معه إلى تلك الآفاق، أقام بوطنه، وما برح عن عطنه فلم يشرب ماء الفرات، ولم يقف عيشة الثمرات (3) ، ولكنه أربى على من من ذلك غذي، وأزرى على من هنالك نعل وحذي، تفرد بالقياس، واقتبس نار المعارف أي اقتباس، فناظر بها أهل فاس، وصنف وحبر حتى أفنى الأنقاس، ونابذ الدنيا، وقد تصدت له بأفتن محيا، وأهدت إليه أعبق عرف وريا، وخلع الوزارة وقد كسته ملاها، وألبسته حلاها، وتجرد للعلم وطلبه، وجد في اقتناء نخبه، وله تآليف كثيرة، وتصانيف أثيرة، منها " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال " وكتاب " الإحكام لأصول الأحكام " وكتاب " الفصل (4) في الأهواء والملل والنحل " وكتاب " مراتب العلوم "(5) وغير ذلك، مما لم يظهر مثله من هنالك، مع سرعة الحفظ، وعفاف اللسان واللحظ، وفيه يقول خلف بن هرون:

يخوض إلى المجد والمكرمات

ولابن حزم في الأدب سبقٌ لا ينكر، وبديهة لا يعلم انه روى فيها ولا

(1) المطمح: 55 - 56.

(2)

المطمح: تعدى.

(3)

كذا، ولعله: عشية السمرات.

(4)

م ب ق: القصد.

(5)

هذه رسالة نشرتها ضمن " رسائل ابن حزم "(القاهرة 1954) .

ص: 555

فكر، وقد أثبت من شعره ما يعلم أنه أوحد، وما مثله فيه أحد، ثم ذكر جملة من نظمه ذكرناها في غير هذا الموضع.

12 -

وكتب أبو عبد الله ابن مسرة (1) إلى أبي بكر اللؤلؤي يستدعيه في يوم طين ومطر، لقضاء أرب من الأنس ووطر:

أقبل فإنّ اليوم يوم دجن

إلى مكانٍ كالضمير مكني

لعلّنا نحكم أشهى فنّ

فأنت في ذا اليوم أمشى مني وقال في المطمح: إن ابن مسرة كان على طريق من الزهد والعبادة سبق فيها، وانتسق في سلك مقتفيها، وكانت له إشارة غامضة، وعبارة عن منازل الملحدين غير داحضة، ووجدت له مقالات ردية، واستباطات مردية، نسب بها إليه رهق، وظهر له فيها مزحل عن الرشد ومزهق، فتتبعت مصنفاته بالحرق، واتسع في استباحتها الخرق، وغدت مهجورة، على التالين محجورة، وكان له تنميق في البلاغة وتدقيق لمعانيها، وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها، انتهى. وهو من نمط الصوفية الذين تكلم فيهم، والتسليم أسلم، والله تعالى بأمرهم أعلم.

13 -

ومن حكايات أهل الأندلس في الانقباض عن السلطان، والفرار من المناصب، مع العذر اللطيف: ما حكاه في المطمح في ترجمة الفقيه أبي عبد الله الخشني (2) إذ قال: كان فصيح اللسان، جزيل البيان (3) ، وكان أنوفاص منقبضاً عن السلطان، لم يتشبث بدنيا، ولم ينكث له مبرم عليا، دعاه الأمير محمد إلى

(1) المطمح: 58.

(2)

المطمح: 56 - 57 وفي ب م: الحسني.

(3)

ب: التبيان.

ص: 556

القضاء فلم يجب، ولم يظهر رجاءه المحتجب، وقال: أبيت عن أمانة هذه الديانة، كما أبت السموات والأرض عن حمل الأمانة، إباية إشفاق، لا إباية عصيان ونفاق، وكان الأمير قد أمر الوزراء بإجباره، أو حمل السيف إن تمادى على تأبيه وإصراره، فلما بلغه قوله هذا أعفاه، قال: وكان الغالب عليه علم النسب، واللغة والأدب، ورواية الحديث، وكان مأموناً ثقة، وكانت القلوب على حبه متفقة، وله رحلة دخل العراق، ثم عاد إلى هذه الآفاق، وعندما اطمأنت داره، وبلغ أقصى مناه مداره، قال:

كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ

الأبيات، انتهى.

وهذه الأبيات قدمناها في الباب الخامس في ترجمة القاضي ابن أبي عيسى.

فأنت ترى كلام الفتح قد اضطرب في نسبتها، فمرة نسبها إلى هذا ومرة نسبها إلى ذاك، وهي قطعة عرفها ذاكٍ.

398 -

ومن دعابات أهل الأندلس وملحهم: ما يحكى عن ابن أبي حلى، وهو علي بن أبي حلى المكناسي (1) أبو الحسن، قال لسان الدين: كان شيخاً مليح الحديث، حافظاً للمسائل الفقهية، قائماً على المدونة (2) ، مضطلعاً بمشكلاتها، كثير الحكايات، يحكي أنه شاهد غرائب وتملحاً فينمقها عليه بعض الطلبة، ويتعدون ذلك إلى الافتعال والمداعبة، حتى جمعوا من ذلك جزءاً سموه " السالك والمحلى في أخبار ابن أبي حلى "، فمن ذلك أنه كانت له هرة فدخل البيت يوماً فوجدها قد بلت إحدى يديها وجعلتها في الدقيق حتى علق بها ونصبتها

(1) م: الكناني.

(2)

م ب: الدولة.

ص: 557

بإزاء كوة فأر ورفعت اليد الأخرى لصيده، فناداها باسمها، فردت رأسها، وجعلت إصبعها على فمها، على هيئة المشير بالصمت، وأشباه ذلك، وتوفي المذكور سنة 406، قاله في الإحاطة.

399 -

ومن أجوبة ملوك الأندلس: ان نزاراً العبيدي صاحب مصر كتب إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه المرواني: أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام، فاشتد ذلك على نزار وأفحمه عن الجواب، وحكي أنه كتب إلى العبيدي ملك مصر مفتخراً (1) :

ألسنا بني مروان كيف تبدلت

بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منا تهللت

له الأرض واهتزت إليه المنابر [حريز بن عكاشة]

400 -

ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم: أن الأمير حريز بن عكاشة (2) من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بساحة أذفونش (3) ملك ملوك الروم، فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر، فكتب إليه حريز: ليس من أخلا ق القدير، الفساد والتدمير، فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك، ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة، ولا تمكن منها براحة، فلما وصلته الرسالة عف، وأمر بالكف، وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به، فاسترهنه في نفسه عدة من ملوك

(1) مر البيتان ص: 188.

(2)

قد مر شيء عنه ص: 358 وانظر الحلة 2: 176 - 179.

(3)

الحلة: 179 والمطمح: 30.

ص: 558

الروم، فأجاب إلى ما ارتهن، ولما صاروا بالمدينة البيضاء - وهي قلعة رباح غربي طليطلة - خرج حريز لابساً لأمة حربه، يرمق الروم منه شخصاً أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه، ويتحدثون بشجاعة قلبه. ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة، ولما أراد النزول عن فرسه ركز رمحه، فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث، وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث، فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم، فقال له الملك: يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل، فقال له حريز: المبارز لا يبارز إلا أكفاءه، وإن لي بينة إلى صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء، هذا رمحي قد ركزته، فمن ركب واقتلعه بارزته، كان واحداً أو عشرة، فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه، ثم فعل ذلك مراراً، فقال له الملك: أرني يا حريز كيف تقلعه، فركب وأشار بيده واقتلعه، فعجب القوم، ووصله الملك وأكرمه، انتهى.

وكان حريز هذا شاعراً، ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه (1) :

يا فريداً دون ثان

وهلالاً في العيان

عدم الراح فصارت

مثل دهن البلسان فجاوبه حريز، وهو يومئذٍ أمير قلعته:

يا فريداً لا يجارى

بين أبناء الزّمان

جاء من شعرك روضٌ

جاده صوب البيان

فبعثناها سلافاً

كسجاياك الحسان

(1) مرت هذه الحكاية ص: 358 وانظر الحلة 2: 179 والمطمح: 30.

ص: 559

وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد، فأمره ان يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شان حصنٍ دخله النصارى، فكتب: وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى، فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان، فإنا لله على هذه المصيبة التي هدت قواعد المسلمين، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين. فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض، وكتب لابن عكاشة جوابه، وفيه: وقد عهدناك منتقياً لأمورك، نقاداً لصغيرك وكبيرك، فكيف جاز عليك أمر هذا الكتاب الأبله الجلف، وأسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه، ورائد عقله خطابه، وما أدري من أي شيء يتعجب منه، هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام أم من تهويله لما طرأ على من يخاطبه أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه في القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهو له شيئاً ولو أن حقيراً يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن، ناهيك من صخرة حيث لا ماء ولا مرعى، منقطع عن بلاد الإسلام، خارج عن سلك النظام، لا يعبره إلا لص فاجر، أو قاطع طريق غير متظاهر، حراسه لا يتجاوزون الخمسين، ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين، باعه أحدهم بعشرين ديناراً، ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه، وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل.

فلما وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جواباً منه: وإن المذكور ممن له حرمة قديمة، تغنيه عن أن يمت بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها، ولسنا ممن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنما نحن أحلاس ثغور، وكتاب كتائب

ص: 560

لا سطور، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك يقدح عندنا فيه، بل زاده لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه، انتهى.

ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء، وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء، فمنه قوله في قصيدة يمدح حريزاً المذكور مطلعها:

يذكرني بهم العنبر

وظلم ثناياهم سكّر إلى أن قال:

ولولا معاليك يا ذا النّدى

لما كان في الأرض من يشعر

فلا تنكرنّ زحاماً على

ذراك وفي كفّك الكوثر ومشى في موكبه وهم في سفر، وكان في فصل المطر والطين، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة، فلما أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره، ففطن لذلك الأمير، فقال له: يا أبا محمد، تقدم، فقال: معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري، فقال: فإن كان ذلك فتأخر مع الخيل، فقال: مثلي لا يزال عن ركابك في مثل هذه المواضع، فقال له: فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك علي من الطين، فقال: أعز الله الأمير، يعذرني، فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك، فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه.

401 -

وكان بسرقسطة غلام اسمه يحيى بن يطفت من بني يفرن، قد نشأ عند ملكها المقتدر بن هود، وتخلق بالركوب والأدب، وكان في غاية الجمال والحلاوة والظرف فعلق بقلب ابن هود، وكتم حبه زماناً فلم ينكتم، فكتب له:

يا ظبي بالله قل لي

متى ترى في حبالي

ص: 561

يمرّعمري وحالي

في خيبتي منك خالي فكتب له الغلام في ظهر الرقعة:

إن كنت ظبياً فأنت ال

هزبر تبغي اغتيالي

وليس يخطر يوماً

حلول غيلٍ ببالي ثم كتب بعدهما: هذا ما اقتضاه حكم الجواب في النظم، وأنا بعد قد جعلت رسني بيد سيدي، فعسى أن يقودني إلى ما أحب، لا ما أكره، والذي أحبه أن يكون بيننا من المحبة ما يقضي بدوام الإخلاص، ونأمن في مغبته من العار والقصاص، فتركه مدة، ثم كتب له يوماً على الصورة التي ذكرها:

ماذا ترى في يوم أمنٍ طرّزت

حلل السحاب به البروق المذهبة

وأنا وكاسي لا جليسٌ غيره

ملآن لا يخلو إلى أن تشربه

والأنس إن يسّرته متيسّرٌ

ومتى تصعّبه فيا ما أصعبه فأجابه:

يا مالكاً بذّ الملوك بعلمه

وخلاله وعلوّه في المرتبه

وافى نداك فحرت عند جوابه

إذ ما تضمّن ريبةً مستغربه

إنّا إذا نخلو، تقوّل حاسدٌ

وغدا بهذا الأمر ينصر مذهبه

هبني إلى يومٍ تطيش به النّهى

والبيض تنضى والقنا متأشبّه

وهناك فانظرني بعين بصيرةٍ

فالشّبل يعرف أصله من جرّبه ثم أعلاه إلى درجة الوزارة والقيادة، إلى أن قتل في جيش كان قدمه عليه، فقال فيه من قصيدة:

يا صارماً أغمدته

عن ناظريّ الصّوارم

ص: 562

وزهرة غيّبتها

من الطيور كمائم

يا كوكباً خرّ من أن

جمي وأنفي راغم

بكت عليّ وشقّت

جيوبهنّ الغمائم

قل للحمائم إنّي

أصبحت أحكي الحمائم

وأنثر الدمع مهما

رأيت للزهر باسم

تالله لا لذّ عيشٌ

لمترفٍ لك عادم 402 - ولما رحل الوزير عبد البر بن فرسان من وادي آش إلى علي الميورقي صاحب فتنة إفريقية أقبل عليه، ثم ولي أخوه يحيى الإمارة بعده، فأسند جميع أموره إليه، فقال يخاطبه:

أجبناً ورمحي ناصري وحسامي

وعجزاً وعزمي قائدي وإمامي

ولي منك بطّاش اليدين غضنفر

يحارب عن أشباله ويحامي

ألا غنّياني بالصّهيل فإنّه

سماعي ورقراق الدماء مدامي

وحطّا على الرمضاء رحلي فإنّها

مهادي وخفّاق البنود خيامي 403 - وكان الأمير أبو عبد الله ابن مردنيش (1) ملك شرق الأندلس من أبطال عصره، وكان يدفع في المواكب، ويشقها يميناً وشمالاً منشداً:

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع مرة في مواكب النصارى، فصرع منهم وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشخص من خواصه عالم بأمور الحرب: كيف رأيت فقال: لو رآاك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك من

(1) مرت هذه الحكاية ص: 210.

ص: 563

معه فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي.

404 -

ومن حكاياتهم في الظرف (1) : أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش، فعزم عليه في الميل إليه، فنزل وأحضر له طعاماً، وغنت جارية:

طابت بطيب لثاتك الأقداح

وزهت بحمرة وجهك التفاح

وإذا الربيع تنسمت أرواحه

نمت بعرف نسيمك الأرواح

وإذا الحنادس ألبست ظلماءها

فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتبها القاضي طرباً على ظهر يده (2)، قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده.

405 -

ومن حكاياتهم في البلاغة ما ذكر في " المطمح " أن أبا الوليد ابن عيال (3) لما انصرف من الحج اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر، ففاوضه قليلاً، ثم قال له: أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه، فأنشده:

يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا

ورشاً بتعذيب القلوب رفيقا

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

درّاً يعود من الحياء عقيقا

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه

أبصرت وجهك في سناه غريقا

يا من تقطّع خصره من رقّةٍ

ما بال قلبك لا يكون رقيقا

(1) انظر الجذوة: 70.

(2)

الجذوة: على باطن كفه.

(3)

المطمح: 52 وفيه أبا الوليد ابن عباد؛ وفي م: ابن عتال.

ص: 564

فلما كمل إنشادها استعادها، ثم صفق بيديه وقال: يا ابن عبد ربه، لقد تأتيك العراق حبواً، انتهى.

406 -

وقال مؤلف كتاب " واجب الأدب "(1) : مما يجب حفظه من مخترعات الأندلسيين قول ابن عبد ربه (1) :

يا ذا الذي خطّ العذار بخدّه

خطيّن هاجا لوعةً وبلابلا

ما كنت أقطع أنّ لحظك صارمٌ

حتى حملت من العذار حمائلا 407 - وحكي أن الوزير أبا الوليد ابن زيدون (3) توفيت ابنته، وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد، قال الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء، وهذا كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساعٍ أو صافن، أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون، فقد

(1) هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد.

(1)

هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد.

(3)

انظر الذخيرة 1 / 1: 200 وسرح العيون: 4.

ص: 565

قطعةً من كبده:

ولكنه صوب العقول إذا انبرت

سحائب منه أعقبت بسحائب وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها: يأيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عن هذه النكتة فيه، انتهى كلام الصفدي ملخصاً.

وقال في الوافي، بعد ذكره جملةً من أحوال ابن زيدون، ما نصه: وقال بعض الأدباء: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون، فقد استكمل الظرف. وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه، وسهولة معانيه، انتهى.

رجع إلى كلام أهل الأندلس:

408 -

وكان الأديب المحدث أبو الربيع سليمان بن علي الشلبي الشهير بكثير (1) يهوى من يتجنى عليه ويقول: إنه أبرد من الثلج، فخاطبه كثير بقوله:

يا حبيباً له كلامٌ خلوب

قلّبت في لظى هواه القلوب

كيف تعزو إلى محبّك برداً

ومن الحبّ في حشاه لهيب

أنت شمسٌ وقلت إني ثلجٌ

فلهذا إذا طلعت أذوب

(1) هناك من يترجم له ابن سعيد (في المغرب 1: 398 والقدح: 189) باسم كثير العلياوي نسبة إلى العليا وهي من قرى شلب، وهو يقول فيه: أديب مشهور في عصرنا، كان بإشبيلية ورحل إلى بجاية فأكثر كلامه فيما لا يعنيه فضرب وجرس ونفي في البحر؛ ويقول إنه كان يتجنب مجالسته بإشبيلية لأنها تجلب مشارته لحدة فيه، ولا أقطع بأنه علي بن سليمان الشلبي هذا.

ص: 566

409 -

وقال ابن مهران مما يشتمل على أربعة أمثال (1) :

المال زينٌ، والحياة شهيّةٌ،

والجود يفقر، والشجاعة تقتل

والبخل عيبٌ، والجبان مذمّمٌ،

والقصد أحكم، والتوسط أجمل 410 - وقال ابن السيد البطليوسي متغزلاً (2) :

نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى

مستحسن بصدوده أضناني

في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظما

لو علّني ببروده أحياني ويخرج من هذه القطعة عدة قطع.

411 -

وقال ابن صارة مضمناً (3) :

إلى كم ينفر (4) الدينار منّي

ويطلب كفّ من عنه يحيد

ألم أنشده في وادي هيامي

به لو كان يعطفه النشيد

حبيبي أنت تعلم ما أريد

ولكن لا ترقّ ولا تجود

وكم غنّيت حين تنكبتني

منىً شيطانها أبداً مريد

" يريد المرء أن يؤتى مناه

ويأبى الله إلا ما يريد " 412 - وقال ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين (5) :

بالله إن لم تزدجر

يا مشبه البدر المنير

(1) لعله سليمان بن مهران السرقسطي (الجذوة: 209 وبغية الملتمس رقم: 773 والذخيرة 3: 157 والمغرب 2: 442 والمسالك 11: 447) .

(2)

مر البيتان، انظر ص:287.

(3)

الأبيات في الذخيرة (2: 327) .

(4)

في الأصول: ينفد، والتصويب عن الذخيرة.

(5)

مر بيتان من هذه الثلاثة ص: 291.

ص: 567

لأسرّحنّ نواظري

في ذلك الورد النضير

ولآكلنّك بالمنى

ولأشربنّك بالضمير 413 - وقال ابن عبد ربه (1) :

اشرب على المنظر الأنيق

وامزج بريق الحبيب ريقي

واحلل وشاح الكعاب رفقاً

خوفاً على خصرها الرقيق

وقل لمن لام في التصابي

خلّ قليلاً عن الطريق وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً من بلاغة أهل الأندلس في الجد والهزل ما فيه مقنع لمن اقتصر عليه.

414 -

ومن حكاياتهم في عدم احتمال الضيم والذل والوصف بالأنفة: أنه لما ثار أيوب بن مطروح في المائة الخامسة في الفتنة على ملك غرناطة عبد الله بن بلقين بن حبوس وخاض بحار الفتنة حتى رماه موجها فيمن رمى على الساحل، وحصل فيما بث عليهم يوسف بن تاشفين من الحبائل، وكانت له همة وأنفة عظيمة، وخلع عن إمارته، وحصل في حبالته، أدخل رأسه تحته، فانتظر من حضر معه أن يتكلم أو يخرج رأسه، فلم يكن إلا قليل حتى وقع ميتاً، رحمه الله تعالى.

415 -

ولما ثار الميورقي بإفريقية على بني عبد المؤمن الثورة المشهورة، وخدمه جملة من أعيان أهل الأندلس، وكان من جملتهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي (2)، كتب عنه من رسالة: وبعد، فإنا لا نحتاج لك إلى برهان على أمير لسانه الحسام، وأيده التأييد الرباني الذي لا يرام، قد نصب خيامه

(1) العقد 6: 285، 427.

(2)

انظر ترجمة مالك في المغرب 2: 171.

ص: 568

بالبراح، ولم يتخذ سوراً غير سمر القنا وبيض الصفاح، له من العزم ردء (1) ومن الرأي كمين (2) :

إذا صدق الحسام ومنتضيه

فكلّ قرارةٍ حصنٌ حصين وهو من القوم الذين لا يجورون على جار، ولا يرحلون بخزية ولا يتركون من عار، دينهم دين التقوى، وإن كنت من ذلك في شك فاقدم علينا حتى يصح لك اختبار الذهب بالسبك، وأنت بالخيار في الظعن والإقامة، فإن حللت نزلت خير منزل، وإن رحلت ودعت أفضل وداع، وسرت في كنف السلامة، إذ قد شهرنا بأنا لا نقيد إلا بالإحسان، وأن ندع لاختياره كل إنسان.

416 -

ومن حكايات أهل الأندلس في الجود والفضل ومكارم الأخلاق (3) : أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد بن عباد، فأدخلت عليه جملة من دنانير السكة، فأمر له بخريطتين منها، وبين يديه تصاوير عنبر من جملتها صورة جمل مرصع بنفيس الدر، فقال أبو العرب: ما يحمل هذه الدنانير إلا جمل، فتبسم المعتمد وأمر له به، فقال:

أعطيتني (4) جملاً جوناً شفعت به

حملاً من الفضّة البيضاء لو حملا

نتاج جودك في أعطان مكرمةٍ

لا قدّ تعرف من منعٍ ولا عقلا

فاعجب لشأني فشأني كله عجبٌ

رفّهتني فحملت الحمل والجملا ومن نظم أبي العرب المذكور:

إلام اتباعي للأماني الكواذب

وهذا طريق المجد بادي المذاهب

(1) في الأصول: رداء.

(2)

البيت للأعمى التطيلي، ديوانه: 202 (البيت رقم: 21) .

(3)

بدائع البدائه 2: 136.

(4)

البدائع: أجديتني.

ص: 569

أهمّ ولي عزمان: عزمٌ مشرّقٌ

وآخر يثني همّتي للمغارب

ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجةً

تشقُّ على أخفاقها والغوارب

إذا كان أصلي من ترابٍ فكلّها

بلادي وكلّ العالمين أقاربي 417 - وذكر الحافظ الحجاري في " المسهب " أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله بن إبراهيم (1) عن أفضل من لقي من أجواد تلك الحلبة، فقال: ياابن أخي، لم يقدر أن يقضي لي الاستمطار بهم، في شباب أمرهم قد هرم، وساءت بتغير الأحوال ظنونهم، وملوا الشكر، وضجروا من المروءة، وشغلتهم المحن والفتن، فلم يبق فيهم فضل للإفضال وكانوا كما قال أبو الطيب:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم فإن يكن أتاه على الهرم فإنا أتيناه وهو في سياق الموت، ثم قال: ومع هذا فإن الوزير أبا بكر ابن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبسم في موضع القطوب، ويظهر الرضى في حالة الغضب، ويجهد ألا ينصرف عنه أحدٌ غير راضٍ، فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول. قلت له: فالمعتمد بن عباد كيف رأيته فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة، فرفعت له قصيدة منها:

لا روّع الله سرباً في رحابهم

وإن رموني بترويعٍ وإبعاد

ولا سقاهم على ما كان من عطشٍ

إلا ببعض ندى كفّ ابن عباد

ذي المكرمات التي مازلت تسمعها

أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد

يا ليت شعري ماذا يرتضيه لمن

ناداه يا موئلي في جحفل النادي

(1) ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري في المغرب 2: 34.

ص: 570

فلما انتهيت إلى هذا البيت قال: أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان، وأمر خادماً له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن، فإني انصرفت به المرية، وكان يعجبني سكناها والتجارة بها، لكونها ميناء لمراكب التجار من مسلم وكافر، فتجرت فيها فكان إبقاء ماء وجهي على يديه، رحمة الله تعالى عليه. ثم أخذ البطاقة وجعل يجيل النظر والفكر في القصيدة، وانا مترقب لنقده، لكونه في هذا الشأن من أئمته، وكثيراً ما كان الشعراء يتحامونه لذلك إلا من عرف من نفسه التبريز، ووثق بها، إلى أن انتهى إلى قولي:

لا سقاهم على ما كان من عطش

إلا ببعض ندى كف ابن عبّاد فقال: لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه فقلت: إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله:

ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر (1)

وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك، فتألقت غرته، وبدت مسرته، وقال: إنا لله على أن لم يعنا الزمان على مكافأة مثلك. قال: وكنت ممن زاره بسجنه بأغمات، وحملتني شدة الحمية له والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلاً:

فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه

ولا تسجنوا معروفه في القبائل ثم تفقدت الكتابة بعد أيام، فوجدت تحت البيت: لذلك سجناه (2) :

(1) صدر البيت:

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى

(2) البيت التالي للمتنبي.

ص: 571

ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه

تصيّده الضرغام فيما تصيدا فما أدرى من جاوب بذلك، ثم عدت له ووجدته قد محي، وأعلمت بذلك ابن عباد، فقال: صدق المجاوب، وأنا الجاني على نفسه، والحافر بيده لرمسه، ولما أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع، فارتجلت:

آليت لا أقبل إحسانكم

والدّهر فيما قد عراكم مسي

ففي الذي أسلفتم غنيةٌ

وإن يكن عندكم قد نسي قال: وفيه أقول من قصيدة:

يا طالب الإنصاف من دهره

طلبت أمراً غير معتاد

فلو يكون العدل في طبعه

لما عدا ملك ابن عبّاد وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه " الحديقة " وأنشد لنفسه فيه (1) :

وشادنٍ ينصف من نفسه

أمنّني من سطوة الدهر

ينام للشرب على جنبه

ويصرف الذنب إلى الخمر وله في فرس:

ومستبقٍ يّحار الطّرف فيه

ويسلم في الكفاح من الجماح

كأنّ أديمه ليلٌ بهيمٌ

تحجّل باليسير من الصباح

إذا احتدم التسابق صار جرماً

تقلّب بين أجنحة الرياح 418 - وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية، وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز (2) :

(1) البيتان في المغرب 2: 34.

(2)

انظر ترجمته وشعره في الجذوة: 88 وبغية الملتمس رقم: 298.

ص: 572

ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي

عهدت من النّعمى لديكم بلا جهد

فوالله مذ فارقتكم ما تخلّصت

من الدهر عندي ساعةٌ دون ما كدّ

فمنّوا بإذنٍ كي أطير إليكم

فلا عار في شوقٍ إلى المال والمجد ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات، فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصداً ضرره، وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ، فقال: والله لقد ذكرتني أمره، ولقد أحسن الدلالة على حاله، فإن الرجل كريم، وعلينا موضع اللوم، لا عليه، ووالله لأوسعنه مالاً ووجداً بقدر وسعي، ثم أخذ في الإحسان إليه حتى برّ يمينه، رحمه الله تعالى:

هكذا هكذا تكون المعالي

طرق الجدّ غير طرق المزاح 419 - ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس فنقول:

1 -

قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب " أخبار الشعراء "(1) :

وروضةٍ من رياض الحزن حالفها

طلٌّ أطلت به في أفقها الحلل

كأنما الورد فيما بينها ملكٌ

موفٍ ونوّارها من حوله خول وكان في مدة الناصر، وأدخل عليه يوماً ليذاكره، فاستحسنه، وأمره بالتزام بينه ليؤدبهم بحسن أدبه، ويتخلقوا بخلقه، فاستعفى من ذلك، وقال: إن الفتيان لا يتعلمون إلا بشدة الضبط والقيد والإغلاظ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر.

قالوا: وكان يتعشق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام، وله فيه:

(1) ترجمته في الجذوة: 139 وبغية الملتمس رقم: 457.

ص: 573

متّع بوجهك جفني

يا كوكباً فوق غصن

يا من تحجّب حتّى

عن كلّ فكرٍ وأذن

وخامر الخوف فيه

فما يجول بذهن

فليس للطّرف والقل

ب غير دمعٍ وحزن

فإنّني ذو ذنوبٍ

وأنت جنّة عدن 2 - وقال أخوه أحمد بن هشام:

قطعت اللّيالي بارتجاء وصالكم

وما نلت منكم غير متّصل الهجر

وما كنت أدري ما التصبر قبلكم

فعّلمتموني كيف أقوى على الصبر

وما كنت ممّن يعلق الصبر فكرة

ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر ومن حكاياتهم في علو الهمة: أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنّه حضر مجلساً فيه القائد أحمد بن أبي عبدة، وهو غلام، فاستخبره القائد، فرآه بعيداً من الأدب والظرّف، ورأى له ذهناً قابلاً للصلاح، فقال: أيّ سيف لو كانت عليه حلية! فقامت من هذه الكلمة قيامته، وثابت له همة ملوكية عطف بها على الأدب والتعلم، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولاً، فحضر بعد ذلك معه، وجالا في مضمار الأدب، فرأى ابن أبي عبدة جواداً لا يشق غباره، فقال: ما هذا أين هذا مما كان فقال: عن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا، فقال: والله إن هذه حلية تليق بهذا السيف، فجزاك الله عن همتك خيراً.

ثم قال له: سر، إن لي عليك حقاً إذ بعثتك على التأديب والتميز، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء غيري علي، فقال: لك ذلك وزيادة.

3 -

وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيء الخلق في أول

ص: 574

أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مفرط القلق مما يقال في جانبه، معاقباً على ذلك لمن يقدر على معاقبته، مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلفه به: الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر، وأوصاه بالاجتهاد فيه، ففرغ منه، وعاد إليه، فقال له: تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه، ولاتترك أحداً من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره، ولا يتكلم معه البتة، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له: هكذا أمر أبوك، فتولى الثقة ذلك على ما أمر به، ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (1) ، ونظر إلى ماسلبه من الملك ضجر، فقال للثقة: عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم، فقال له الثقة: إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه: إني قد توحشت في هذا الموضع توحشاً ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقاباً لذنبٍ كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه:

وإنّ أمير المؤمنين وفعله

لكالدهر، لا عارٌ بما فعل الدهر فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حقه، استدعاه فقال له: وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه

(1) ب: يفزع إليه.

ص: 575

أن تطول سكناك في ذلك المكان، ومافعلت ذلك عقاباً لك، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل، فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم، حتى تستريح منهم، فقال له: سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مماأنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي، فقال له: فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته، وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم "، واعلم أنك أقرب الناس إلي وأحبهم في، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك، ما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطمح، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل، ويبدل العقاب بالثواب، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر، ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله وقوله، ولو (1) قطعتهم عضواً عضواً لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لا سيما عند الاقتدار، أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسناً، والمحسن يعود مسيئاً، وصرت أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب، فالزم يا بني معالي الأمور، وإن جماعها في التغاضي، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب، ولا يقرب منه جانب، ولا ينال ما تترقى إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معيناً حين يحتاج إليه، فقبل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه

(1) ب: من لو.

ص: 576

به أبوه، ورفع قدره.

ومن شعره في ابن عم له:

ومولىً أبى إلاّ أذاي وإنّني

لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد

توددته فازداد بعداً وبغضةً

وهل نافعٌ عند الحسود التودد وقوله:

خالف عدوك فيما

أتاك فيه لينصح

فإنما ينبغي أن

تنام عنه فتربح ومن كرم نفسه أن أحد (1) التجار أهدى له جارية بارعة الحسن، واسمها طرب، ولها صنعة في الغناء حسنة، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه، فقال لأحد خدامه: ماترى أن ندفع لهذا التاجر عوضاً عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع فقال: تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها، فقومت بخمسمائة دينار، فقال المنذر للخديم: ما عندك فيما ندفع له فقال: الخمسمائة، فقال: إن هذا للؤم، رجل أهدى لنا جارية، فوقعت منا موقع استحسان، نقابله بثمنها، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا، فقال له: إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء، وأقل القليل يقنعهم، فقال: وإنا كرماء سمحاء، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه، فادفع له ألف دينارٍ، واشكره على كونه خصنا بها، وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى.

وفيها يقول:

(1) م: بعض.

ص: 577

ليس يفيد السرور والطرب

إن لم تقابل لواحظي طرب

أبهت في الكأس لست أشربها

والفكر بين الضلوع يلتهب

يعجب مني معاشرٌ جهلوا

ولو رأوا حسنها لما عجبوا وقال له أبوه يوماً: إن فيك لتيهاً مفرطاً، فقال له: حق لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يابني إن العيون تمج التائه، والقلوب تنحرف عنه، فقال: ياأبي لي من العز والنسب وعلو المكان والسلطان ما يجمل من ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلة علي، ولا الأسماع إلا مصغية إلي، وإن لهذا السلطان رونقاً يرنقه (1) التبذل، وعلواً يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرفه إلا التيه والانقباض، وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا، فإن رأوه راجحاً عرفوا له قدر رجاحته، وإن رأوه ناقصاً عاملوه بنقصه، وصيروا تواضعه صغراً، وتخضعه (2) خسةً، فقال له أبوه: لله أنت فابق وما رأيت.

4 -

وكان له أخ أديب أيضاً اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط، ومن شعره:

أفنيت عمري في الشّر

ب والوجوه الملاح

ولم أضيّع أصيلاً

ولا اطلاع صباح

أحيي الليالي سهداً

في نشوةٍ ومراح

ولست أسمع ماذا

يقول داعي الفلاح والعياذ بالله من هذا الكلام، وحاكي الكفر ليس بكافر.

وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال: إني قلته وأنا لا أعقل، ولم أعلم أنه يحفظ عني، وأنا أستغفر الله تعالى منه، والذي يغفر الفعل أكرم من

(1) م ب: يريقه.

(2)

ب: وتخفضه.

ص: 578

أن يعاقب على القول.

ومن جيد شعره قوله:

يا أخي فرّقت صروف الليالي

بيننا غير زورة الأحلام

فغدونا بعد ائتلافٍ وقربٍ

نتناجى بألسن الأقلام 5 - وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان:

أحبك يا ريحان ما عشت دائماً

ولو لامني في حبك الإنس والجان

ولولاك لم أهو الظّلام وسهده

ولا حبّبت لي في ذرا الدار غربان

وما أعشق الريحان إلاّ لأنّه

شريكك في اسمٍ فيه قلبي هيمان

على أنّه لم يكمل الظرف مجلسٌ

إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان وله فيه:

إذا أنا مازحت الحبيب فإنّما

قصدت شفاء الهمّ في ذلك المزح

فما العيش إلاّ أن أراه مضاحكاً

كما ضحك الليل البهيم عن الصبح 6 - وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن (1) :

إذا أنا لم أجد يوماً وقومي

لهم في الجود آثار عظام

فمن يرجى لتشييد المعالي

إذا قعدت عن الخير الكرام ومدحه بعض الشعراء، فأمر له بمال جزيل، فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر، فقال أحد خدام يعقوب: هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه فقال الأمير: يا هذا، إن كان الله تعالى خلقك مجبولاً على كره رب الصنائع

(1) ترجمة يعقوب في الحلة السيراء 1: 124 وقال فيه: " كان أديبا شاعرا مطبوعا كلفا بالعلوم جوادا لا يليق شيئا ".

ص: 579

فاجر على ما جبلت عليه نفسك، ولا تكن كالأجرب يعدي غيره، وإن هذا الرجل قصدنا قبل، فكان منا له ما أنس به وحمله على العودة، وقد ظن فينا خيراً، فلا نخيب ظنه، والحديث أبداً يحفظ القديم، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده، ويديم نعمنا حتى نجد ماننعم به عليه، ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه، ولا يبلينا بجليس مثلك يقبض أيدينا عن إسداء الأيادي، وأمر للشاعر بما كان أمر له به قبل، وأوصاه بالعود عند حلول لك الأوان ما دام العمر.

7 -

وقال أخوهم الخامس الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن (1) لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة: هل لك أمل نبلغك إياه فقال: لم يبق لي أملٌ إلاّ أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك، فأعجب ذلك الأمير، وقال: ما مالت إليك نفسي من باطل، وكان واحد منهما يهيم بالآخر، وفي ذلك يقول أبان:

يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف

تونٌ لو ابصرته ما كنت تلحاني

من مازجت روحه روحي وشاطرني

يا حسنه حين أهواه ويهواني وكان للأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء: القاسم، والمطرف، ومسلمة، ولهم أخ رابع اسمه عثمان.

8 -

فمن نظم القاسم (2) في عثمان أخيه، وقد زاره فاستسقاه ماء، فأبطأ عليه غلامه لعلة لم يقبلها القاسم:

الماء في دار عثمان له ثمن

والخبز شيء له شأن من الشّان (3)

(1) ترجمته في الحلة 1: 119.

(2)

ترجمة القاسم في الحلة 1: 127 والمقتبس (تحقيق مكي) : 200.

(3)

قال ابن الأبار بعد أن أورد البيتين: كذا قال ابن حيان (المقتبس: 201) وهو غلط لا خفا به وإنما البيتان من قطعة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أنشدها ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس.

ص: 580

فاسلح على كلّ عثمان مررت به

غير الخليفة عثمان بن عفان وله:

شغلت بالكيمياء دهري

فلم أفد غير كلّ خسر

إتعاب فكرٍ، خداع عقلٍ

فساد مالٍ، ضياع عمر 9 - وقال شقيقه المطرف (1) ، ويعرف بابن غزلان، وهي أمه، وكانت مغنية بديعة محسنة عوادة أديبة:

هل أتّكي مشرفاً على نهرٍ

أرمي بطرفي إليه من قصري

عند أخٍ لو دهته حادثةٌ

أعطيته ما أحبّ من عمري 10 - وقال أخوهما مسلمة (2) :

إنّ شيباً وصبوةً لمحال

أولم يأن أن يكون زوال

فدع النفس عن مزاحٍ ولهوٍ

تلك حالٌ مضت وجاءتك حال وكان يقول: إني لا أفارق إلا من اختار مفارقتي، ومن خادعني انخدعت له، وأريته أني غير فطن بخداعه، ليعجبه أمره، وأدخل عليه مسرة بنفسه ورأيه.

11 -

وقال محمد ابن الأمير منذر ابن الأمير محمد في جاريته الأراكة:

قل للأراكة قد زا

د بالدنوّ اشتياقي

(1) انظر ترجمة المطرف في الحلة 1: 128 والمقتبس (تحقيق مكي) : 205 والجمهرة: 98 وبيتاه في الحلة: 129 والمقتبس: 208.

(2)

راجع المقتبس ص: 211.

ص: 581

وهاج ما بي إليها

تمثّلي للعناق

وإنّني وبقلبي

جمرٌ جرى في المآقي

طويت ما بي ليومٍ

يكون فيه التلاقي

فإن أعد لاجتماعٍ

حرّمت يوم افتراق

لا يعرف الشوق إلاّ

من ذاق طعم الفراق 12 - وقال عبد الله بن الناصر (1) ، وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسميناً أبيض وأصفر، وكتب معه (2) :

مولاي قد أرسلت نحوك تحفةً

بمراد ما أبغيه منك تذكّر

من ياسمين كاللّجين تبرجت

بيضاً وصفراً والسماح يعبّر فأجابه بما نصه:

أتاك تفسيري ولمّا يحل

عني على أضغاث أحلام

فاجعله رسماً دائماً زائراً (3)

منك ومنّي غرّة العام وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق من دنانير ودراهم، فقال ابن فرج:

قد سمعنا بجود كعبٍ وحاتم

ما سمعنا جوداً مدى العمر لازم

فدعائي بأن تدوم دعاءٌ

لي لا زال طول ما عشت دائم

ما سمعنا كمثل هذا اختراعاً

هكذا هكذا تكون المكارم وتشبه هذه الحكاية حكاية اتفقت لبعض ملوك إفريقية، وذلك أن رجلاً

(1) عبد الله بن الناصر: له ترجمة في الجذوة: 244 وبغية الملتمس رقم: 949 والمغرب 1: 182 والحلة السيراء 1: 206.

(2)

البيتان وجوابهما في المغرب.

(3)

المغرب: باقيا.

ص: 582

أهدى له في قادوس ورداً أحمر وأبيض، فأمر أن يملأ له دراهم، فقالت له جارية من جواريه: إن رأى الأمير أن يلون ما أعطاه، حتى يوافق ما أهداه، فاستحسن ذلك الأمير، وامر أن يملأ دنانير ودراهم.

وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء، فمرا بجميل، فمال عبد الله بطرفه على وجهه، وظهر ذلك لمسايره، فتبسم، ففهم عبد الله عنه، فقال: إن هذه الوجوه الحسان خلابة، ولكنا لا نتغلغل في نظرها، ولا ندعي العفة عنها بالجملة، وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى، فقال له الفقيه: احتج لروحك بما شئت. فقال: أوما هي حجة تقبل فقال الفقيه: يقبلها من رق طبعه، وكاد يضيق عن الصبر وسعه، فقال: وأراك شريكاً لي، فقال: ولولا ذلك للمتك، فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد:

أفدي الذي مرّ بي فمال له

لحظي ولكن ثنيه غضبا

ما ذاك إلا مخاف منتقدٍ

فالله يعفو ويغفر الذنبا فقال له الفقيه: إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه، ولا تنسب إلي ما نسبت، فتبسم عبد الله وقال: ولا هذا كله، وقال له: إن مثلك في الفقهاء لمعدوم، فقال له: ما كنت إلا أديباً، ولكني لما رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به، فقال له: ومن عقل المرء أن لايفني عمره فيما لا ينفقه عصره.

وكان (1) عبد الله المذكور يسمى الزاهد، فبايع قوماً على قتل والده الناصر وأخيه الحكم المستنصر ولي العهد، فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فذبح بين يديه، رحمه الله تعالى.

13 -

وقال أخوه أبو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر (2) ، وقد دخل ابن له

(1) ورد في المغرب نقلا عن الرقيق.

(2)

ترجمة عبد العزيز بن الناصر في الجذوة: 270 وبغية الملتمس رقم: 1093 والمغرب 1: 184 والحلة 1: 208 وأبياته الأولى في المصادر السابقة ما عدا المغرب والقطعة الثانية في المغرب وحده.

ص: 583

الكتاب، فكتب أول لوح، فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس، ومعه:

هاك يا مولاي خطّا

مطّه في اللوح مطّا

ابن سبعٍ في سنيه

لم يطق للوح ضبطا

دمت يا مولاي حتى

يلد ابن ابنك سبطا وله:

زارني من همت فيه سحراً

يتهادى كنسيم السّحر

أقبس الصبح ضياء ساطعاً

فأضا والفجر لم ينفجر

واستعار الروض منه نفحةً

بثّها بين الصّبا والزهر

أيّها الطّالع بدراً نّيراً

لا حللت الدهر إلاّ بصري وكان مغرىً مغرماً بالخمر والغناء، فقطع الخمر، فبلغه أن المستنصر لما بلغه تركه الخمر قال: الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته، ودله على ما نريد منه، ثم قال: لو ترك الغناء لكمل خيره، فقال: والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها، ثم قال (1) :

أنا في صحّة وجاه ونعمى

هي تدعو لهذه الألحان

وكذا الطير في الحدائق تشدو

للذي سرّ نفسه بالقيان 14 - وقال أخوه محمد بن الناصر (2) لما قدم أخوهما المستنصر من غزوة:

قدمت بحمد الله أسعد مقدم

وضدّك أضحى لليدين وللفم

(1) المغرب: 184.

(2)

ترجمة محمد بن الناصر في المغرب 1: 184 وفيه البيتان.

ص: 584

لقد حزنت فيها السبق إذ كنت أهله

كما حاز " بسم الله " فضل التقدّم 15 - وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر (1) فقال الحجاري فيه: إنه لم يكن في ولد الناصر ممن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه، وكتب إلى العزيز صاحب مصر (2) :

ألسنا بني مروان كيف تبدّلت

بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منّا تهلّلت

له الأرض واهتزت إليه المنابر وكان جواب العزيز له: أما بعد فإنك علمتنا فهجوتنا، ولو علمناك لهجوناك.

وله في الصنوبر:

إن الصنوبر حصنٌ

لديه حرزٌ وباس

خفّت من أجل إرها

ب من عداه تراس

كأنّما هو ضدٌّ

لما حواه الرئاس وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرئاس على صورة قشور الصنوبر إلاّ أن تلك ناتئة وهذه محفورة، وقال (3) :

أتاني وقد خطّ العذار بخدّه

كما خطّ في ظهر الصفيحة عنوان

تزاحمت الألحاظ في وجناته

فشقت عليه للشقائق أردان

وزدت غراماً حين لاح كأنّما

تفتّح بين الورد والآس سوسان (4)

(1) ترجمته في الحلة 1: 208 والمغرب 1: 185 واليتيمة 1: 355.

(2)

مرالبيتان ص: 188؛ وانظر المصادر السابقة، وفي اليتيمة نسبا للحكم المستنصر وتعقبه ابن الأبار في ذلك.

(3)

هذه القطعة والتي تليها في المغرب: 185.

(4)

المغرب: آس وسوسان.

ص: 585

وقال:

لئن كنت خلاّع العذار بشادنٍ

وكأسٍ فإنّي غير نزر المواهب

وإنّي لطعّانٌ إذا اشتجر القنا

ومقحم طرفي في صدور الكتائب

وإنّي إذا لم ترض نفسي بمنزلٍ

وجاش بصدري الفكر جمّ المذاهب

جليدٌ يودّ (1) الصخر لو أنّ صبره

كصبري على ما نابني للنّوائب

وأسري إلى أن يحسب الليل أنّني

لطول مسيري فيه بعض الكواكب 16 - وأما ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر (2) فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس، بملاحة شعره وحسن تشبيهه.

ومن شعره القصيدة المشهورة (3) :

غصنٌ يهتزّ في دعص نقا

يجتني منه فؤادي حرقا

سال لام الصدغ في صفحته

سيلان التّبر وافى الورقا

فتناهى الحسن فيه إنّما

يحسن الغصن إذا ما أورقا ومنها:

أصبحت شمساً وفوه مغرباً

ويد الساقي المحيّي مشرقا

فإذا ما غربت في فمه

تركت في الخدّ منه شفقا

(1) في الأصول: يؤدد، والتصويب عن المغرب.

(2)

هو المشهور باسم الشريف الطليق وله ترجمة في الحلة 1: 220 والجذوة: 321 رقم: 1343 واليتيمة 2: 61 والذخيرة 1 / 2: 81 والمغرب 1: 186 والمعجب: 285 والمسالك 11: 176 وانظر كتاب التشبيهات وفهرسته.

(3)

أوردها ابن بسام في الذخيرة، ومنها قطع في المصادر المذكورة، وفي الحلة منها قسط وافر.

ص: 586

ومنها:

وكأن الورد يعلوه النّدى

وجنة المحبوب تندى عرقا قالوا: وهذا النمط قد فاق به أهل عصره، ويظن أنّه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذاً بمجامع القلوب من قوله:

ودّعت من أهوى أصيلاً، ليتني

ذقت الحمام ولا أذوق نواه

فوجدت حتى الشمس تشكو وجده

والورق تندب شجواها بهواه

وعلى الأصائل رقّةٌ من بعده

فكأنها تلقى الذي ألقاه

وغدا النسيم مبلّغاً ما بيننا

فلذاك رقّ هوىً وطاب شذاه

ما الروض قد مزجت به أنداؤه

سحراً بأطيب من شذا ذكراه

والزهر مبسمه ونكهته الصّبا

والورد أخضله النّدى خدّاه

فلذاك أولع بالرّياض لأنّها

أبداً تذكّرني بمن أهواه ولله قوله:

وعشيٍّ كأنّه صبح عيدٍ

جامعٍ بين بهجةٍ وشحوب

هبّ فيه النسيم مثل محبٍّ

مستعيراً شمائل المحبوب

ظلت فيه ما بين شمسين هذي

في طلوعٍ وهذه في غروب

وتدلّت شمس الأصيل ولكن

شمسنا لم تزل بأعلى الجيوب

ربّ هذا خلقته من بديعٍ

من رأى الشمس أطلعت في قضيب

أي وقتٍ قد أسعف الدهر فيه

وأجابت به المنى عن قريب

قد قطعناه نشوةً ووصالاً

وملأناه من كبار الذنوب

حين وجه السعود بالبشر طلقٌ

ليس فيه أمارةٌ للقطوب

ضيّع الله من يضيّع وقتاً

قد خلا من مكدّرٍ ورقيب

ص: 587

وبات عند أحد رؤساء بني مروان، فقدّم إليه ذلك الرئيس قدحاً من فضة فيه راح أصفر، وقال: اشرب وصف فداك ابن عمك، فقام إجلالاً وشرب صائحاً بسروره، ثم قال: الدواة والقرطاس، فأحضرا، فكتب:

اشرب هنيئاً لا عداك الطرب

شرب كريم في العلا منتخب

وافاك بالراح وقد ألبست

برد أصيلٍ (1) معلماً بالحبب

في قدحٍ لم يك يسقى به

غير أولي المجد وأهل الحسب

ما جار إذ سقّاك من كفّه

في جامد الفضة ذوب الذهب

فقم على رأسك براً به

واشرب على ذكراه طول الحقب (2) ويحكى أنه لما قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور ابن أبي عامر مدة، إلى أن رأى في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمره بإطلاقه فأطلقه، فمن أجل ذلك عرف بالطليق.

17 -

وقال أحمد ابن سليمان بن أحمد بن [عبد الرحمن بن] عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لما عاداه علماء عصره (3) :

لما تحلّى بخلقٍ

كالمسك أو نشر عود

نجل الكرام ابن حزمٍ

وقام في العلم عودي

فتواه جدّد ديني

جدواه أورق عودي وله في أبي عامر ابن المظفر بن عامر من قصيدة يمدحه بها:

بأبي عامرٍ وصلت حبالي

فزماني به زمانٌ سعيد

(1) م: بردا أصيلا.

(2)

متقدم على سابقه في م.

(3)

الجذوة: 116 وبغية الملتمس رقم: 107 والقطعة الأولى فيهما.

ص: 588

فمتى زدت فيه وداً وشكراً

فنداه وقد تناهى يزيد

كيف لي وصفه وفي كلّ يومٍ

منه في المكرمات معنى جديد 18 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (1) :

وكم من حديث للنبي أبانه

وألبسه من حسن منطقه وشيا

وكم مصعب للنحو قد راض صعبه

فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 19 - وقال عبيد الله بن محمد المهدي، وهو من حسنات بني مروان، ويعرف بالأقرع:

أقول لآمالي ستبلغ إن بدا

محيّا ابن عطّافٍ ونعم المؤمل

فقالت دعاني كلّ يومٍ تعلّلٌ

فقلت لها: إن لاح يفنى التعلل

لئن كان مني كلّ حينٍ ترحّلٌ

فإني إن أحلل به لست أرحل

فتىً ترد الآمال في بحر جوده

وليس على نعمى سواه المعوّل وقال هذه في الوزير ابن عطاف، فضن عليه حتى برجع الجواب، فكتب إليه بقصيدة منها:

أيّها الممكن من قدرته

لا يراك الله إلاّ محسنا

إنّما المرء بما قدّمه

فتخيّر بين ذمٍّ وثنا

لا تكن بالدهر غرّاً وإذا

كنت فانظر فعله في ملكنا

كل ما خوّلت منه ذاهبٌ

والذي تصحب منه الكفنا

مدّ كفّاً نحو كفٍّ طالما

أمطرت فيه السحاب الهتّنا

أو أرحني بجوابٍ مؤيسٍ

فمطال البرّ من شرّ العنا

(1) مر البيتان، انظر ص:343.

ص: 589

فلم يعطه شيئاً، وكان له كاتب فتحيل في خمسين درهماً فأعطاها له، فلما سمع الوزير بذلك طرده، وقال له: من أنت حتى تحمل نفسك هذا وتعطيه قال: فوالله ما لبث إلا قليلاً حتى مات الوزير، وتزوج الكاتب بزوجته، وسكن في داره، وتخول في نعمته، فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره:

أيا دار قولي أين ساكنك الذي

أبى لؤمه أن يترك الشكر خالدا

تسمّى وزيراً والوزارة سبّةٌ

لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا

وولّى ولكن ليس يبرح ذمّه

فها هو قد أرضى عدوّاً وناقدا

وأضحى وكيلٌ كان يأنف فعله

نزيلك في الحوض الممنّع واردا

جزاءً بإحسانٍ لذا وإساءةٍ

لذاك، وساعٍ ورّث الحمد قاعدا والمثل السائر في هذا " ربّ ساعٍ لقاعد ".

20 -

وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وكان في غاية الجمال، ويلقب بالغزال:

قدم الربيع عليك بعد مغيب

فتلقّه بسلافةٍ وحبيب

فصلٌ جديدٌ فلتجدّد حالةً

يأتي الزمان بها على المرغوب

الجوّ طلقٌ فالقه بطلاقةٍ

وإذا تقطّب فالقه بقطوب

لله أيامٌ ظفرت بها ومن

أهواه منقادٌ بغير رقيب وله:

لي في كفالات الرماح لو أنها

وفّت ضمانٌ يبلغ الآمالا

وكّلت دهري في اقتضاء ضمانها

ضناً به أن لا يحول فحالا وكان مولعاً بالفكاهة والنادر، محباً في الظرفاء، وكان يلتزم خدمته المضحك

ص: 590

المشهور بالزرافة، ويحضر معه، ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسموا اثنين اثنين،

كل شخص ورفيقه، فقال سليمان: ومن يكون رفيقي: فقال له المضحك: يا مولاي، وهل يكون رفيق الغزال إلا الزرافة فضحك منه على عادته. ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره، وقد أطل عذاره، فقال له: ما تطلب الزرافة فقال: ترعى الحشيش، وأشار إلى عذاره، فقال له: اعزب لعنك الله!

ومر سليمان به يوماً وهو سكران، وقد أوقف ذكره وجعل يقول له: ماذا رأيت في القيام في هذا الزمان أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل والله إنك سيء الرأي، فقال له سليمان: وبم لقبت هذا الثائر فقال: يا مولاي بصفته القائم، فقال: ويحتاج إلى خاتم فقال: نعم ويكون خاتم سليمان، فقال له: أخزاك الله، إن الكلام معك لفضيحة.

21 -

وقال سعيد بن محمد المرواني (1) ، وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدة لكلام بلغه عنه، فدخل المجلس غاصٌ، وأنشد:

مولاي مولاي أما آن أن

تريحني بالله من هجركا

وكيف بالهجر وأنى به

ولم أزل أسبح في بحركا فضحك ابن أبي عامر (2) على ما كان يظهره من الوقار، وقام وعانقه وعفا عنه، وخلع عليه.

وله:

والبدر في جوّ السماء قد انطوى

طرفاه حتى عاد مثل الزورق

(1) قال الحميدي (214) اختلف علي في نسبه: فهو سعيد بن عثمان بن مروان القرشي المعروف بالبلينه وقيل: سعيد بن محمد، وقيل: سعيد بن مروان؛ ويقال له ابن عمرون؛ وانظر المغرب 1: 192 واليتيمة 2: 54 وكتاب التشبيهات.

(2)

ضحك ابن أبي عامر لأن سعيدا كان يلقب " البلينه " أي الحوت وقد ماثل بقوله " ولم أزل أسبح

".

ص: 591

فتراه من تحت المحاق كأنّما

غرق الكثير وبعضه لم يغرق وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:

وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ

قد أثقلته حمولةٌ من عنبر 22 - وقال قاسم بن محمد المرواني (1) يستعطف المنصور بن أبي عامر، وقد سجنه لقول صدر عنه:

ناشدتك الله العظيم وحقّه

في عبدك المتوسّل المتحرّم

بوسائل المدح المعاد نشيدها

في كلّ مجمع موكبٍ أو موسم

لا تستبح مني حمىً أرعاكه

يا من يرى في الله أحمى محتمي 23 - وقال الأصم المرواني (2) يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضاً بائية أبي تمام:

السيف أصدق أنباء من الكتب

بقصيدة طويلة منها:

ما للعدا جنّةٌ أوقى من الهرب

أين المفرّ وخيل الله في الطلب

وأين يذهب من في رأس شاهقةٍ

إذا رمته سماء الله بالشّهب ومنها:

وطود طارق قد حلّ الإمام به

كالطّور كان لموسى أيمن الرّتب

لو يعرف الطّود ما غشّاه من كرمٍ

لم يبسط النور فيه الكفّ للسّحب

(1) ترجمة قاسم بن محمد هذا في الجذوة: 310 وبغية الملتمس رقم: 1296 وفيهما أبياته.

(2)

من شعراء زاد المسافر: 84 وقال المراكشي في المعجب: 284 إن جده هو الشريف الطليق؛ وبعض البائية في المصدرين والقطعة الثانية والخامسة في زاد المسافر.

ص: 592

ولو تيقّن بأساً حلّ ذروته

لصار كالعين من خوفٍ ومن رهب

منه يعاود هذا الفتح ثانيةً

أضعاف ما حدّثوا في سالف الحقب

ويلبس الدين غضّاً ثوب عزّته

كأنّ أيام بدرٍ عنه لم تغب وقال في نارنجة:

وبنت أيكً دنا من لثمها قزحٌ

فصار منه على أرجائها أثر

يبدو لعينيك منها منظرٌ عجبٌ

زبرجدٌ ونضارٌ صاغه المطر

كأنّ موسى نبيّ الله أقبسه

ناراً وجرّ عليها كفّه الخضر وقال (1) :

وشادنٍ قلت له صف لنا

بستاننا هذا ونارنجنا

فقال لي بستانكم جنّةٌ

ومن جنى النارنج ناراً جنى وقال في زلباني (2) :

لله سفّاحٌ بدا لي مسحراً

فأفاد علم الكيميا بيمينه (3)

ذهّبت فضة خدّه بلواحظي

وكذاك تفعل ناره بعجينه وقال، وقد نزل في فندق لا يليق بمثله:

يا هذه لا تفنّديني

أن صرت في منزلٍ هجين

فليس قبح المحلّ ممّا

يقدح في منصبي وديني

فالشمس علويّةٌ ولكن

تغرب في حمأةٍ وطين

(1) زاد في م: في النارنج.

(2)

يريد قالي الزلابية؛ وفي م: زلفاني.

(3)

م ب: بحسنه، ولا يستقيم مع القافية.

ص: 593

24 -

وقال أحمد المرواني:

حلفت بمن رمى فأصاب قلبي

وقلّبه على جمر الصدود

لقد أودى تذكّره بجسمي

ولست أشكّ أن النفس تودي

فقيدٌ وهو موجودٌ بقلبي

فواعجبا بموجودٍ فقيد 25 - وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه:

نأى من به كان السرور مواصلاً

وأسلم قلبي للصّبابة والفكر ومنها:

لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت

وجوههم عني ولا فسحة العمر 26 - وقال سليمان بن عبد الملك الأموي:

وذي جدل أطال القول منه

بلا معنى وقد خفي الصواب

فقلت أجيبه فازداد رداً

فقلت له قد ازدحم الجواب

ولم أر غير صمتي من مريحٍ

إذا ما لم يفد فيه الخطاب 27 - وقال أبو يزيد ابن العاصي:

عابه الحاسد الذي لام فيه

أن أرى فوق خدّه جدريّا

إنّما وجهه هلال تمامٍ

جعلوا برقعاً عليه الثريا وله:

إذا شئت أن يصفو صديقك فاطرح

نزاع الذي يبديه في الهزل والجدّ

وإن كنت من أخلاقه في جهنمٍ

فأنزله من مثواك في جنّة الخلد

إلى أن يتيح الله من لطف صنعه

فراقاً جميلاً فاجعل العذر في البعد

ص: 594

وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله تعالى.

ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة، فنقول:

420 -

أمر الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره (1) :

قالت لي النفس: أتاك الرّدى

وأنت في بحر الخطايا مقيم

هلا ادّخرت الزاد قلت: اقصري

لا يحمل الزاد لدار الكريم وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع (2) .

وقال ابن مرج الكحل (3) : اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية، فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده، وتعذرت المنفعة عليه من أجلنا، فأنشدنا:

خفّفوا عنّا قليلاً

ربّ ضيقٍ في براح

هل شكوتم من سقامٍ

أو جلسنا للصحاح فأضفت إليهما ثالثاً، وأنشدته إياه على سبيل المداعبة:

إن أتيتم ففرادى

ذاك حكم المستراح 421 - ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس، فوسّع له على ضيق كان فيه، فقال (4) :

(1) أبو الحجاج يوسف المنصفي زاهد مشهور سكن سبتة (والمنصف التي ينسب إليها من قرى بلنسية) راجع المغرب 2: 354.

(2)

انظر المغرب.

(3)

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس يعرف بمرج كحل (توفي بجزيرة شقر سنة 634) انظر: زاد المسافر: 27 والإحاطة 2: 634 والتكملة: 636 وشرح المقصورة 1: 25، 20، 195 والوافي 2: 181 والمغرب 2: 373.

(4)

انظر ما سبق ص: 265، 398، 447.

ص: 595

صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً

سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين

ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ

فقلّما تسع الدنيا بغيضين 422 - ودخل على أبي جعفر اللمائي بعض أصحابه عائداً في علته التي مات فيها، وجعل يروح عليه بمروحة، فقال أبو جعفر على البديهة:

روّحني عائدي فقلت له:

لا لا تزدني على الذي أجد

أما ترى النار وهي خامدةٌ

عند هبوب الرياح تتقد 423 - وقال الأعلم: ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة (1) :

دعاك خليلك واليوم طل

وعارض وجه الثرى قد بقل

لقدرين فاحا وشمّامةٍ

وإبريق راحٍ ونعم المحل

ولو شاء زاد ولكنه

يلام الصديق إذا ما احتفل 424 - وقال أبوعامر ابن ينق الشاطبي (2) :

ما أحسن العيش لو أن الفتى أبداً

كالبدر يرجو تماماً بعد نقصان

إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرةٍ

إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان 425 - وقال أبو الحسن اللورقي (3) :

عجباً لمن طلب المحا

مد وهو يمنع ما لديه

ولباسط آماله

للغير لم يبسط يديه

لم لا أحبّ الضيف أو

أرتاح من طربٍ إليه

(1) المغرب 1: 368 والقلائد: 152.

(2)

ترجمة أبي عامر محمد بن ينق في القلائد: 186 والمغرب 2: 388 والتكملة: 479 ومعجم الصدفي: 162.

(3)

هو أبو الحسن جعفر بن الحاج اللورقي وأبياته في المغرب 2: 280 والقلائد: 142.

ص: 596

والضّيف يأكل رزقه

عندي ويحمدني عليه 426 - وقال أبو عيسى ابن لبون، وهو من قواد المأمون بن ذي النون (1) :

نفضت كفّي من الدنيا وقلت لها

إليك عنّي فما في الحقّ أغتبن

من كسر بيتي لي روضٌ ومن كتبي

جليس صدقٍ على الأسرار مؤتمن

أدري به ما جرى في الدهر من خبرٍ

فعنده الحقّ مسطورٌ ومختزن

وما مصابي سوى موتي ويدفنني

قومٌ وما لهم علمٌ بمن دفنوا 427 - وقال أبو عامر ابن الحمارة (2) :

ولي صاحبٌ أحنو عليه وإنّه

ليوجعني حيناً فلا أتوجّع

أقيم مكاني ما جفاني وربما

يسائلني الرّجعى فلا أتمنّع

كأني في كفّيه غصن أراكةٍ

تميل على حكم النسيم وترجع 428 - وقال أبو العباس ابن السعود (3) :

تبّاً لقلب عن الأحباب منصرفٍ

يهوى أحبّته ما خالس النظرا

مثل السّجنجل فيه الشخص تبصره

حتى إذا غاب لم يترك به أثرا 429 - ومرض أبو الحكم ابن غلندة (4) ، فعاده جماعة من أصحابه فيهم

(1) أبياته في المغرب 2: 377 والقلائد: 102.

(2)

ترجمته في المغرب 2: 120 والحاشية؛ وفي م: وقال أبو عامر الملقب بابن الجبارة.

(3)

هو أبو العباس أحمد بن السعود كاتب ابن همشك (المغرب 2: 52) ؛ وفي م: وقال الفقيه الأديب

إلخ.

(4)

هو أبو الحكم عبيد الله بن علي بن غلندة الكاتب من أهل سرقسطة وسكن إشبيلية وتوفي بمراكش (- 581) وقد أسن (التحفة: 71 وفيها البيتان) .

ص: 597

فتى صغير السن، فوفّاه من بره ماأوجب تغيرهم، ففطن لذلك وأنشد ارتجالاً:

تكثّر من الإخوان للدهر عدّةً

فكثرة درّ العقد من شرف العقد

وعظّم صغير القوم وابدأ بحقّه

فمن خنصري كفّيك تبدأ بالعقد [ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالاً قوله:

مغيث أيوب والكافي لذي النون

يحلّني فرجاً بالكاف والنّون

كم كربة من كروب الدهر فرّجها

عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني] (1) 430 - وقال القاضي أبو موسى ابن عمران:

ما للتجارب من مدىً

والمرء منها في ازدياد

قد كنت أحب ذا العلا

من حاز علماً واستفاد

فإذا الفقيه بغير ما

لٍ كالخباء بلا عماد

شرف الفتى بنضاره

إنّ الفقير أخو الجماد

ما العلم إلا جوهرٌ

قد بيع في سوق الكساد 431 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي:

إياك من زلل اللسان فإنّما

عقل الفتى في لفظه المسموع

والمرء يختبر الإناء بنقره

ليرى الصحيح به من المصدوع 432 - وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد (2) : تناول بعض أصحابنا نرجسة، فركّبها في وردة، ثم دفعها إليّ وإلى صاعد، وقال: قولا،

(1) ما بين معقفين زيادة من م.

(2)

راجع هذه القصة فيما تقدم: 76، والزهيري قد اضطربت في الأصول، وقد تقرأ " الزميري " في م.

ص: 598

فأبهمت دوننا أبواب القول، فدخل الزهيري، وكان أمياً لا يذكر من الكلام إلا ما علق بنفسه في المجالس، وينفذ مع هذا في المطولات من الأشعار، فأشعر بأمرنا، فجعل يقول دون روية:

ما للأدبين قد اعيتهما

مليحةٌ من ملح الجنّه

نرجسةٌ في وردةٍ ركبّت

كمقلة تطرف في وجنه 433 - وقال أبو محمد ابن حزم في " طوق الحمامة "(1) :

خلوت بها والرّاح ثالثةٌ لنا

وجنح ظلام الليل قد مدّ واعتلج (2)

فتاةٌ عدمت العيش إلا بقربها

فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج

كأني وهي والكأس والخمر والدجى

حياً وثرىً والدرّ والتبر والسبج قال: وهذه خمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعاريض عنه.

قال أبو عامر ابن مسلمة: ولا أذكر مثلها إلا قول بعض:

فأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ فسقت

ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد (3) إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم، بل اكتفى بالعلم في التشبيهات.

قال: ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيتٍ قول ابن برون الأكشوني (4) الأندلسي يصف فرساً ورداً أغر محجلاً:

(1) طوق الحمامة: 16.

(2)

الطوق: قد مد ما انبلج.

(3)

هامش م: المراد به الوأواء الدمشقي من قصيدته الفريدة

إلخ. قلت انظر ديوانه: 84.

(4)

لعلها " الأكشونبي "؛ وسقطت لفظة " برون " من ب.

ص: 599

فكأنّ غرّته وتحجيلاته

خمسٌ من السوسان وسط شقائق قال: وهذا على التحقيق ستةٌ على ستة، ولم أسمع بمثله لأحد من [الأندلسيين ولا من المشارقة](1) .

قال ابن الجلاب: وكلام أبي عامرٍ هذا لا يخلو من النقد.

434 -

وقال ابن صارة:

انظر إلى البدر وإشراقه

على غديرٍ موجه يزهر

كمشحذٍ من حجرٍ أخضرٍ

خطّ عليه ذهبٌ أحمر 435 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي (2) :

ركبنا (3) سماء النّهر والجوّ مشرقٌ

وليس لنا إلا الحباب نجوم

وقد ألبسته الأيك برد ظلالها

وللشمس في تلك البرود رقوم 436 - وقال ابن صارة (4) :

والنهر قد رّقت غلالة صبغه

وعليه من ذهب الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنّها

عكن الخصور تضمّها الأعجاز 437 - وقال سهل بن مالك (5) :

وربّ يومٍ وردنا فيه كلّ منىً

وقلّ في مثل ذلك اليوم أن نردا

في روضتين بشطّي سلسلٍ شبمٍ

كما اجتليت من المحبوب مفتقدا

(1) زيادة من م.

(2)

القلائد: 285.

(3)

القلائد: عبرنا.

(4)

انظر القلائد: 270؛ وفي م: وقال الأديب البارع

إلخ.

(5)

زاد في م: في صفة النهر.

ص: 600

يبدّد القطر في أثنائه حلقاً

فتنظم الريح منها فوقه زردا (1) 438 - وقال ابن صارة:

انظر النهر في رداء عروسٍ

صبغته بزعفران العشيّ

ثمّ لمّا هبّ النسيم عليه

هزّ عطفيه في دلاص الكميّ 439 - ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفاً مثل الخباء وتمزقه الريح أحياناً:

ومطنّب لماء ما أوتاده

إلا نتائج فكر طبٍّ حاذق

لعبت به أيدي الصّبا فكأنّها

أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق 440 - وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في الماء:

ولم أر فيما تشتهي العين منظراً

كتفاحةٍ في بركةٍ بقرار

يفيض عليها ماؤها فكأنّها

بقيّة خدٍّ في اخضرارعذار (2) 441 - وقال أبو جعفر ابن وضاح في دولاب:

وباكيةٍ والروض يضحك كلّما

ألحّت عليه بالدموع السّواجم

يروقك منها إن تأمّلت نحوها

زئير أسةدٍ والتفات أراقم

تخلّص من ماء الغدير سبائكاً

فتنبتها في الروض مثل الدّراهم

(1) زاد في م قطعتين بعد هذه لابن مالك؛ وقال أيضا من التشبيهات العجيبة:

وتحدث الماء الزلال مع الحصى

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا

وكأن تحت الماء درا مضمرا وقوله أيضا في تشبيه الخمرة وهو عجيب:

إذا كان عندي قوت يوم وليلة

من الخمر تنفي الهم إذا امتنع

فلست تراني سائلا عن خليفة

ولا عن وزير للخليفة ما صنع (2) زاد بعدهما هنا في م بيتين لسهل بن مالك:

شربنا وجفن الليل يغسل كحله

............ .. البيتين.

ص: 601

442 -

وقال الوزير ابن عمار:

يومٌ تكاثف غيمه فكأنّه

دون السماء دخان عودٍ أخضر

والطّل مثل برادةٍ من فضّةٍ

منثورةٍ في تربةٍ من عنبر

والشمس أحياناً تلوح كأنّها

أمةٌ تعرّض نفسها للمشتري 443 - وقال أبو الحسن ابن سعد الخير (1) :

لله دولابٌ يفيض بسلسلٍ

في روضةٍ قد أينعت أفنانا

قد طارحته بها الحمائم شجوها

فيجيبها ويرجّع الألحانا

فكأنّه دنفٌ يدور بمعهدٍ

يبكي ويسأل فيه عمّن بانا

ضاقت مجاري طرفه عن دمعه

فتفتحت أضلاعه أجفانا 444 - وقال ابن أبي الخصال:

ووردٍ جنيٍّ طالعتنا خدوده

ببشرٍ ونشرٍ يبعثان على السكر

وحفّ ترنجانٌ به فكأنّه

خدود العذارى في مقانعها الخضر 445 - وقال ابن صارة (2) :

يا ربّ نارنجةٍ يلهو النديم بها

كأنّها كرةٌ من أحمر الذهب

أو جذوةٌ حملتها كفّ قابسها

لكنّها جذوةٌ معدومة اللهب 446 - وقال الخفاجي (3) :

(1) أبو الحسن علي بن سعد الخير من شعراء زاد المسافر: 103 وانظر المغرب 2: 317 والتكملة رقم: 1867 والتحفة: 51 والذيل والتكملة 5: 187 ووصفه للدولاب ورد في أكثرها؛ م: وقال أبو الحسن

في دولاب.

(2)

القلائد: 267؛ م: وقال ابن صارة في نارنجة يشبهها.

(3)

ديوانه: 69؛ م: وقال الخفاجي الأندلسي في أيكة.

ص: 602

وميّاسةٍ تزهو وقد خلع الحيا

عليها حلىً حمراً وأرديةً خضرا

يذوب بها ريق الغمامة فضّةً

ويجمد في أعطافها ذهباً نضرا 447 - وقال ابن صارة أيضاً (1) :

ونارنجةٍ لم يدع حسنها

لعيني في غيرها مذهبا

فطوراً أرى لهباً مضرماً

وطوراً أرى شفقاً مذهبا 448 - وقال ابن وضاح في السرو (2) :

أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا

ولا يدعن أعطافك الخضل النضر

فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما

تلفّ على الخطيّ راياته الخضر 449 - وقال أبو إسحاق الخولاني (3) :

نيلوفرٌ شكله كشكلي

يعوم في أبحر الدموع

قد ألبست عطفه دروعاً

خودٌ لريح الصّبا شموع

يلوح إذ لونه كلوني

من فوق فضفاضةٍ هموع

مثل مسامير مذهباتٍ

في حلقاتٍ من الدروع 450 - وقال ابن الأبار (4) :

وسوسناتٍ أرت من حسنها بدعاً

ولم يزل عصر مولانا يري بدعه

شبيهةٌ بالثريّا في تألّفها

وفي تألّقها تلتاح ملتمعه

(1) زاد في م: في تشبيه نارنجة.

(2)

م: شجر السرو.

(3)

زاد في م: في النيلوفر.

(4)

زاد في م: الأديب المشهور في السوسن.

ص: 603

هامت بيمناه تبغي أن تقبّلها

واستشرفت تجتلي مرآه مطّلعه

ثم انثنى بعضها من بعضها غلباً

على البدار فوافت وهي مجتمعه ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا (1) .

451 -

وقال حازم:

لا نور يعدل نور اللوز في أنقٍ

وبهجةٍ عند ذي عدلٍ وإنصاف

نظام زهرٍ يظلّ الدرّ منتثراً

عليه من كلّ هامي القطر وكّاف

بينا ترى وهي أصداف لدرّ حياً

بيضٍ غدت في خضر أصداف 452 - وقال ابن سعد الخير في رمّانة (2) :

وساكنةٍ في ظلال الغضون

بروضٍ (3) يروقك أفنانه

تضاحك أترابها فيه إذ

غدا الجوّ تدمع أجفانه

كما فتح الليث فاه وقد

تضرّج بالدم أسنانه 453 - وقال ابن نزار الوادي آشي (4) :

ورمّانةٍ قد فضّ عنها ختامها

حبيبٌ أعار البدر بعض صفاته

فكسّر منها نهد غذراء كاعبٍ

وناولني منها شبيه لداته 454 - وقال بعضهم في القراسيا (5)، ويقال له بالمغرب " حب الملوك ":

ودوحٍ تهدّل أشطانه

رعى الدهر من حسنه ما اشتهى

(1) ب م: أبي زكريا.

(2)

التحفة: 53.

(3)

التحفة: بخدر.

(4)

زاد في م: في رمانة.

(5)

م: القرسيا.

ص: 604

فما احمرّ منه فصوص العقيق

وما اسودّ منه عيون المها 455 - وقال بعضهم (1) :

وأين معاهدٌ للحسن فيها

وللأنس التقاء البهجتين

وللأوتار والأطيار فيها

لدى الأسحار أطرب ساجعين (2)

فكم بدرٍ تجلّى من رباها

ومن بطحائها في مطلعين

وأغيد يرتعي من تلعتيها

ومن ثمر القلوب بمرتعين

إذا أهوى لسوسنة يميناً

عجبت من التقاء السوسنين

وكم يومٍ توشّح من سناه

ومن زهراتها في حلتين

وراح أصيله ما بين نهرٍ

ودولابٍ يدور بمسمعين

بنهرٍ كالسماء يجول فيه

سحائب من ظلال الدوحتين

تدرّع للنّواسم حين هزت

عليها كلّ غصن كالرّديني

ملاعب في غرامي عند ذكري

صباه وغصنه المتلاعبين 456 - وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانئ:

يا حرقة البين كويت الحشا

حتى أذبت القلب في أضلعه

أذكيت فيه النار حتى غدا

ينساب ذاك الذّوب من مدمعه

يا سؤل هذا القلب حتى متى

يؤسى برشف الرّيق من منبعه

فإنّ في الشهد شفاء الورى

لا سيّما إن مصّ من مكرعه

والله يدني منكم عاجلاً

ويبلغ القلب إلى مطمعه 457 - ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب " شذور الذهب " لكفاهم دليلاً على البلاغة، ومؤلفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو

(1) زاد في م: في خضرة وروض واجتماع أحباب.

(2)

ب م: سامعين.

ص: 605

الحسن الأنصاري، الجياني، نزيل فاس، وولي خطابتها، ولم ينظم أحدٌ في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معانٍ، وفصاحة ألفاظٍ، وعذوبة تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب. وفي عبارة بعضهم: إن فاتك ذهبه، لم يفتك أدبه. وقيل فيه: إنه شاعر الحكماء، وحكيم الشعراء. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

[عود إلى النقل عن بدائع البدائه]

ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس، وإن مرت من ذلك جملة، وستأتي أيضاً زيادة على الجميع، فنقول:

458 -

قال في " بدائع البدائه " ما صورته (1) : روى عبد الجبار بن حميدس الصقلي قال: صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا، فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضّن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا:

حاكت الريح من الماء زرد

فأجازه كل منهم بما تيسر له، فقال لي أبو تمام غالب بن رباح، الحجاج: كيف قلت يا أبا محمد فأعدت القسيم له، فقال:

أيّ درعٍ لقتالٍ لو جمد

وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا، فليراجع في محله (2) .

ثم قال صاحب " بدائع البدائه "(3) بعد ما سبق ما صورته: وقد نقله ابن

(1) البدائع 1: 63.

(2)

سيجيء ما يخالفه في ترجمة الرميكية في الجزء الرابع من النفح.

(3)

ص: 64 - 65.

ص: 606

حميدس إلى غير هذا الوصف، فقال:

نثر الجوّ على الترب برد

أيّ درٍّ لنحورٍ لو جمد فتناقض المعنى بذكر البرد، وقوله " لو جمد " إّ ليس البرد إلا ما جمده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله " لو جمد " دام جموده، فيصح وينعقد على التحقيق.

ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة:

ولربّما سلّت لنا من مائها

سيفاً وكان عن النواظر مغمدا

طبعته لجيّاً فزانت صفحةً

منه ولو جمدت لكان مهنّدا وقد أخذت أنا هذا المعنى (1) فقلت أصف روضاً:

فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً

ولو جمدت أنهاره كنّ بلّورا وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة:

ألؤلؤٌ قطر هذا قطر هذا الجوّ أم نقط

ما كان أحسنه لو كان يلتقط وهذا المعنى كثير للقدماء، قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي:

لو أنّه يبقى على الدهور

قرّط آذان الحسان الحور 459 - قال علي بن ظافر (2) : وأخبرني من أثق به قال: ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه، وخواص شعرائه، فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول، فجاء فرسه بين البساتين سابقاً،

(1) يعني ابن ظافر.

(2)

البدائع 1: 66 - 67.

ص: 607

فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت، فسدد إليها عصاً كانت في يده فأصابها، وثبتت على أعلاها، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها، والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه، فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال: أجز:

كأنّها فوق العصا

فقال:

هامة زنجيٍّ عصا

فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله، وأمر له بجائزة سنية.

قال علي بن ظافر (1) : وأخبرني أيضاً أن سبب اشتهار ابن جاخ (2) هذا أن الوزير أبا بكر ابن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس، لا يستقر ببلد ولا يستفزه عن وطره وطن، وكان كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن، من الأدب الحسن، فبلغه خبر ابن جاخ عذا قبل اشتهاره، فمر على حانوته وهو آخذ في صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلاً، وأعاد نهارهما ليلاً، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء، وأشار إلى يده وقال:

كم بين زندٍ وزند

فقال:

ما بين وصلٍ وصدّ

فعجب من حسن ارتجاله، ومبادرة العمل واستعجاله، وجذب بضبعه، وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه.

(1) المصدر نفسه: 67.

(2)

ب م: ابن جامع، حيثما وقعت، وهو خطأ.

ص: 608

460 -

وبلغني أيضاً أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه، ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم، وقال (1) :

لحم سباط الخرفان مهزول

فقال:

" يقول يا مشترين (2) مه زولوا "

461 - ولما صنع المتوكل (3) على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم:

الشّعر خطّة خسف

أرتج عليه، فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أولها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب، وهو أحد وزراء دولته، وخواص حضرته، فاستجازه إياه، فقال:

لكلّ طالب عرف

للشيخ عيبة عيبٍ

وللفتى ظرف ظرف وذكر ابن بسام في الذخيرة أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد ابن ضابط، وأن عبد المجيد أجازه ارتجالاً، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب.

(1) انظر ما تقدم ص: 404.

(2)

البدائع: للمفلسين.

(3)

البدائع 1: 72، وقد مرت الحكاية ص:397.

ص: 609

462 -

وقال ابن الغليظ المالقي (1) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز:

شربنا على ماءٍ كأنّ خريره

فقال بديهاً:

بكاء محبٍّ بان عنه حبيب

فمن كان مشغوفاً كئيباً بإلفه

فإنّي مشغوفٌ به وكئيب 463 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (2) أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بالمرية، فنظر إلى وسيم يسبح في البحر، وقد تعلق بسكان بعض المراكب، فقال ابن عبادة: أجز:

انظر إلى البدر الذي لاح لك

فقال ابن القابلة:

في وسط اللّجّة تحت الحلك

قد جعل الماء سماء له

واتخذ الفلك مكان الفلك 464 - وقال أبو عامر ابن شهيد (3) : لما قدم زهير الصقلبي (4) إلى حضرة قرطبة من المرية وجه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمة من أصحابنا منهم ابنبرد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني، فحضروا إليه، فسألهم عني،

(1) البدائع 1: 73 ومرت الحكاية ص: 270.

(2)

البدائع 1: 73.

(3)

البدائع 1: 75.

(4)

ب م: الصقلي، وهو خطأ، وكان زهير من فتيان الصقالبة بالأندلس.

ص: 610

وقال: وجهوا إليه، فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلىً ثقيل، فسرت إليه، ودخلت المجلس، وأبو جعفر غائب، فتحفز المجلس لدخولي، وقاموا جميعاً لي، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحباً ذيلاً لم أر أحداً سحبه قبله، وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال، فرد رداً لطيفاً، فعلمت أن في أنفه نعرة ر تخرج إلا بسعوط الكلام، ولا ترام إلا بمستحصد النظام، ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه.

فقال لي ابن الحناط، وكانكثير الانحاء علي، جالباً في المحافل ما يسوء إلي: إن الوزير حضر قسيم، وهو يسألنا إجازته، فعلمت أني المراد، فاستنشدته، فأنشد:

مرض الجفون ولثغةٌ في المنطق

فقلت لمن حضر: لا تجهدوا أنفسكم، فما المراد غيري، ثم أخذت الدواة فكتبت:

سببان جرّا عشق من لم يعشق

من لي بألثغ لا يزال حديثه

يذكي على الأحشاء جمرة محرق

ينبي فينبو في الكلام لسانه

فكأنّه من خمر عينيه سقي

لا ينعش الألفاظ من عثراتها

ولو آنها كتبت له في مهرق ثم قمت عنهم، فلم ألبث أن وردوا علي، وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة، وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره، فقلت:

أبو جعفرٍ كاتبٌ محسنٌ

مليح سنا الخطّ حلو الخطابه

تمّلأ شحماً ولحماً وما

يليق تملّؤه بالكتابه

له عرقٌ ليس ماء الحياء

ولكنّه رشح ماء الجنابه

جرى الماء في سفله جري لينٍ

فأحدث في العلو منه صلابه

ص: 611

465 -

وذكر الوزير أبو بكر ابن اللبانة الداني (1) في كتابه " سقيط الدرر ولقيط الزهر " أن المعتمد بن عباد صنع قسيماً في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي، وهو:

سعد السعود يتيه فوق الزاهي

ثم استجاز الحاضرين فعجزوا، فصنع ولده عبد الله الرشيد:

وكلاهما في حسنه متناهي

ومن اغتدى سكناً لمثل محمدٍ

قد جلّ في العليا عن الأشباه

لا زال يبلغ فيهما ما شاءه

ودهت عداه من الخطوب دواهي 466 - وخرج القاضي الفقيه (2) أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى ابن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح، ثقيل الجسم، فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم، فصنع القاضي أبو الحسن معابثاً له:

وشاعرٍ أثقل من جسمه

ثم استجاز ابن سوار، فقال:

.........

تأتي معانيه على حكمه

يهجو فلا يهجا فهل عندكم

ظلامةٌ تعدي على ظلمه

لسانه في هجوه حيّةٌ

منيّة الحيّة في سمّه

(1) البدائع 1: 78.

(2)

البدائع 1: 78.

ص: 612

يصيب سرّ المرء في رميه

كأنّما العالم في علمه

أمّا أبو موسى ففي كفّه

عصا ابنه والسحر في نظمه 467 - وفي " المقتبس في تاريخ الأندلس "(1) أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيال جاريته طروب أم ولده عبد الله، وكانت أعظم حظاياه عنه، وأرفعهن لديه، لا يزال كلفاً بها، هائماً بحبها، فانتبه وهو يقول:

شاقك من قرطبة الساري

في الليل لم يدر به الداري ثم أنبه عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت، فقال:

زار فحيّا في ظلام الدجى

أحبب به من زائرٍ ساري وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيماً (2)، وهو:

نرى الشيء ممّا يتّقى فنهابه

ثم أرتج عليه، وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائباً عن حضرته، فأراد من يجيزه، فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي، وكان يكتب له، فأنشده القسيم فقال:

وما لا نرى ممّا يقي الله أكثر

فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.

(1) البدائع 1: 87.

(2)

انظر المقتبس (تحقيق مكي) : 34 ومنه يفهم أن الأمير لم يصنع القسيم وإنما تمثل به ونسي تمامه فأتمه الرجالي من حفظه، وانظر ما سبق ص:539.

ص: 613

468 -

وذكر ابن بسام (1) أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب، فصيغا، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال، فأهدى الغزال إلى السيدة ابنة مجاهد، والهلال إلى ابنه الرشيد، فوقع له إلى أن قال:

بعثنا بالغزال إلى الغزال

وللشمس المنيرة بالهلال ثم أصبح مصطحباً، وجاء الرشيد فدخل عليه، وجاء الندماء والجلساء، وفيهم أبو القاسم ابن مرزقان (2) ، فحكى لهم المعتمد البيت، وأمرهم بإجازته، فبدر ابن مرزقان فقال:

فذا سكني أبوّئه فؤادي

وذا نجلي أقلّده المعالي

شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي

ولكني بذاك رخيّ بال

دفعت إلى يديه زمام ملكي

محلّىً بالصوارم والعوالي

فقام يقرّ عيني في مضاءٍ

ويسلك مسلكي في كلّ حال

فدمنا للعلاء ودام فينا

فإنّا للسماح وللنزال 469 - ولما أنشد أبو القاسم ابن الصيرفي قول عبد الله بن السمط:

حار طرفٌ تأمّلك

ملكٌ أنت أم ملك قال بديهاً:

بل تعاليت رتبةً

فلك الأرض والفلك 470 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (3) أنه غني يوماً بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيتٌ لعبد الله بن المعتز:

(1) البدائع 1: 107.

(2)

م: ابن مرزبان.

(3)

الذخيرة 1 / 2: 355 والبدائع 1: 148.

ص: 614

هل ترين البين يحتال

أن غدت للحي (1) أجمال فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته، فقال بديهاً:

إنّما العالي إمام هدىً

حليت في عصره الحال

ملكٌ أقيال دولته

لذوي الأفهام إقبال

قل لمن أكدت مطالبه

راحتاه الجاه والمال 471 - وغنى أبو الحسن زرياب (2) يوماً بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين، وهما لأبي العتاهية:

قالت ظلوم سميّة الظّلم

مالي رأيتك ناحل الجسم

يا من رمى قلبي فأقصده

أنت الخبير بموقع السهم فقال عبد الرحمن: هذان البيتان منقطعان، فلو كان بينهما ما يصلهما لكان أبدع، فصنع عبيد الله (3) بن فرناس بديهاً:

فأجبتها والدمع منحدرٌ

مثل الجمان وهى من النّظم فاستحسنه، وأمر له بجائزة.

472 -

وذكر ابن بسام أيضاً أن المعتمد بن عباد غني بين يديه بقول ابن المعتز (4) :

وخمّارةٍ من بنات المجوس

ترى الزقّ في بيتها شائلا

وزنّا لها ذهباً جامدا

فكالت لنا ذهباً سائلا

(1) الذخيرة: للبين.

(2)

البدائع 1: 155.

(3)

ب: عبد الرحمن.

(4)

البدائع 1: 154.

ص: 615

فقال بديهاً يجيزه:

وقلت خذي جوهراً ثابتاً

فقالت خذوا عرضاً زائلاً 473 - وركب المعتمد (1) في بعض الأيام قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر ابن عمار يسايره، فسمع اذان مؤذن، فقال المعتمد:

هذا المؤذّن قد بدا بأذانه

فقال ابن عمار:

يرجو بذاك العفو من رحمانه

فقال المعتمد:

طوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ

فقال ابن عمار:

إن كان عقد ضميره كلسانه

474 - وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي (2) : أقمت بإشبيلية لما قدمتها على المعتمد بن عباد مذة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي، حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام (3) معه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان، فركبت من فوري، ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبة فنك (4) ، وقال لي افتح الطاق التي تليك، ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد، والنار تلوح من بابيه، وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى، ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:

(1) البدائع 1: 171.

(2)

البدائع 1: 171.

(3)

البدائع: إذ أتاني غلام.

(4)

البدائع: على مرتبته.

ص: 616

انظرهما في الظلام قد نجما

فقلت:

كما رنا في الدّجنّة الأسد

فقال:

يفتح عينيه ثمّ يطبقها

فقلت:

فعل امرئٍ في جفونه رمد

فقال:

فابتزّه الدهر نور واحدةٍ

فقلت:

وهل نجا من صروفه أحد

فاستحسن ذلك، وأمر لي بجائزة سنية، وألزمني خدمته.

وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب، ولكن ما هنا أتم مساقاً فلذلك نبهت عليه.

475 -

وذكر صاحب " فرحة الأنفس في أخبار أهل الأندلس "(1) أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر جلس في جماعة من خواصه، ومعهم أبو القاسم لب، وكان يعده للمجون والتطايب، فقال له: اهج عبد الملك بن جهور، يعني أحد وزرائه، فقال: أخافه، فقال لعبد الملك: فاهجه أنت، فقال: أخاف على عرضي منه، فقال: أهجوه أنا وأنت، ثم صنع:

لبٌّ أبو القاسم ذو لحيةٍ

طويلةٍ أزرى بها الطول (2)

(1) البدائع 1: 185.

(2)

ب م: كبيرة في طولها ميل.

ص: 617

فقال عبد الملك:

وعرضها ميلان إن كسّرت

والعقل مأفونٌ ومخبول فقال الناصر للب: اهجه فقد هجاك، فقال بديهاً:

قال أمين الله في عصرنا

لي لحيةٌ أزرى بها الطول

وابن جهيرٍ قال قول الذي

مأكوله القرضيل والفول

لولا حيائي من إمام الهدى

نخست بالمنخس شو

ثم سكت، فقال له الناصر: هات تمام البيت، فامتنع، فقال له " قولو " يعني تمام البيت، كلمة قالها الناصر مسترسلاً غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واواً، إذ صوابها " قله " على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف، فقال لب: يا مولانا أنت هجوته، ففطن الناصر والحاضرون، وضحكوا، وأمر له بجائزة.

والقرضيل: شوك له ورق عريض تأكله البقر، وقوله " شو " اسم لذكر الرجل (1) بالرومية، و " قولو " اسم للاست بها، فكأنه قال: لولا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس - الذي هو الذكر - استه.

انتهى المجلد الثالث

(1) م: اسم الرجل.

ص: 618