المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره - نقد مراتب الإجماع

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يُرجع إليه، ويُفزع نحوه، ويُكفَّرُ من خالفه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع

- ‌وقوم قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط

- ‌إنما نعني بقولنا العلماء من حُفظ عنه الفتيا

- ‌وأجمعوا أنه لا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات وغيرها، حاشا الماء والنبيذ

- ‌وأما الماء الجاري فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تظهر فيه نجاسة

- ‌واتفقوا على أن غسلَ الذراعين إلى منتهى المرفقين فرضٌ في الوضوء

- ‌واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر - ما لم يكن طعاما أو رجيعا أو نجسا أو جلدا أو عظما أو فحما أو حممة - جائز

- ‌واتفقوا أن كل إناء - ما لم يكن فضةً ولا ذهبًا ولا صفرًا ولا رصاصًا ولا نحاسًا ولا مغصوبًا ولا إناءَ كتابيٍّ ولا جلدَ ميتةٍ ولا جلدَ ما لا يُؤكلُ لحمُه وإن ذُكِّيَ - فإن الوضوءَ منه والأكلَ والشربَ جائزٌ كلُّ ذلك

- ‌وأجمعوا أن الحائض - وإن رأت الطهر - ما لم تغسل فرجها أو تتوضأ فوطؤُها حرام

- ‌واتفقوا أن الصلاة لا تسقط، ولا يحل تأخيرها عمدا عن وقتها، عن العاقل البالغ بعذر أصلا، وأنها تُؤَدَّى على قدرِ طاقة المرء من جلوسٍ واضطجاعٍ بإيماء، وكيف أمكنه

- ‌واتفقوا أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتهم فاسدة بالإجماع

- ‌وروي عن أشهب أن من ائتم بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم علم فصلاتُه تامةٌ، وكذا من ائتم بكافر وهو لا يعلم أنه كافر

- ‌واتفقوا على أن وضعَ الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرضٌ

- ‌واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تفسد الصلاة

- ‌واتفقوا على جواز الصلاة في كل مكان ما لم يكن جوف الكعبة، أو الحجر، أو ظهر الكعبة، أو معاطن الإبل، أو مكانا فيه نجاسة، أو حماما، أو مقبرة، أو إلى قبر، أو عليه، أو مكانا مغصوبا يقدر على مفارقته، أو مكانا يستهزأ فيه بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمو

- ‌واتفقوا على أن صلاة العيدين، وكسوف الشمس، وقيام ليالي رمضان، ليست فرضا، وكذلك التهجد على غير النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌واتفقوا أن كل صلاة - ما عدا الصلوات الخمس، وعدا الجنائز، والوتر، وما نذره المرء - ليست فرضا

- ‌واتفقوا أن من أسقط الجلسة الوسطى من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعتمة ساهيا أن عليه سجدتي السهو

- ‌واتفقوا أن في مائتي درهمٍ خمسةُ دراهم، ما لم يكن حليَّ امرأةٍ، أو حليةَ سيف، أو منطقةً، أو مصحفًا، أو خاتمًا

- ‌واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة

- ‌واتفقوا أنه من فعل - مِن كُلِّ ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامه - شيئا عامدا أو ناسيا أنه لا يَبطُلُ حَجُّهُ ولا إحرامه.واتفقوا أن من جادل في الحج فإن حجَّه لا يبطل ولا إحرامه.واختلفوا فيمن قتل صيدا متعمدا، فقال مجاهد: بطل حجه وعليه الهدي

- ‌قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث، ولم يبطلوه بالفسوق.وقال: كل من تعمَّدَ معصية - أيَّ معصية كانت - وهو ذاكر لحجه منذ يحرم إلى أن يُتِمَّ طوافَه بالبيت للإفاضة ورميَ جمرةِ العقبة فقد بطلَ حجه.قال: وأعجب شيء دعواهم ا

- ‌واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أداه بمكة أجزأه، واختلفوا فيمن أدى ذلك في غير مكة - حاشا جزاء الصيد - فإنهم اتفقوا أنه لا يجزئ إلا بمكة

- ‌واتفقوا أن مِن يومِ النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - إلى انسلاخ ذي الحجة وقتًا لطواف الإفاضة، ولِما بقي من سنن الحج

- ‌واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرضٌ على المحصر

- ‌واتفقوا على أن من حلف لخصمه دون أن يُحَلِّفَه حاكمٌ أو مَن حَكَّمَاه على أنفسهما أنَّه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب

- ‌وأجمعوا على أن كلّ من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحد فُرض عليه أداءُ الحق إلى من هو له عليه - إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أياما هو ومن تلزمه نفقته

- ‌وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحها، ولا على أن يطأها - وإن طلبت هي ذلك - ولا على بيعها مِن أجلِ منعِه لها الوطءَ والإنكاحَ

- ‌واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلال إذا كانت العدة في غير رجعية أو كانت من وفاة

- ‌واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفة واقعٌ إن وافق وقت طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه: فَمِن قائلٍ الآن، ومن قائلٍ هو إلى أجله

- ‌واتفقوا أن عِدَّةَ المسلمة الحرة المطلَّقَةِ - التي ليست حاملا، ولا مستريبة، وهي لم تحض أو لا تحيض إلا أن البلوغ متوهمٌ منها - ثلاثةُ أشهرٍ متصلةٍ

- ‌واتفقوا أن استقراض ما عدا الحيوان جائز.واختلفوا في جواز استقراض الرقيق والجواري والحيوان

- ‌واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصيةَ بالبِرِّ وبما ليس بِبِرٍّ ولا معصية ولا تضييعا للمال جائزة

- ‌واتفقوا على أنه إن أَعطَى - يعني: من يُقبَلُ منه الجزيةُ عن نفسه وحدَها - أربعةَ مثاقيلَ ذهبٍ في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط الذمة، فقد حَرُمَ دمُ مَن وفَّى بذلك ومالُه وأهلُه وظُلمُه

- ‌واتفقوا أنه لا يُنَفَّلُ من ساق مغنمًا أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج

- ‌واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران إذا أَمَّنَ أهلَ الكتابِ الحربِيِّينَ على أداءِ الجزيةِ على الشروط التي قدمنا، أو على الجلاء، أو أمَّنَ سائرَ الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم وترك بلادهم واللحاق بأرض حرب أخرى لا بأرض ذمة ولا ب

- ‌واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومَن تناسل منهم فإن الحكم الذي عقده أجدادهم وإن بعدوا جارٍ على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم

- ‌واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في

- ‌وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد

- ‌واتفقوا أنه إذا كان الإمام من وَلَدِ علي، وكان عدلا، ولم تتقدم بيعتَه بيعةٌ أخرى لإنسان حي، وقام عليه من هو دونه، أن قتالَ الآخر واجب

- ‌وإنما أدخلنا هذا الاتفاق على جوازه لخلاف الزيدية: هل تجوز إمامة غير علويٍّ أم لا؟ وإن كنا مُخَطِّئين لهم في ذلك، ومعتقدين صحة بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فِهرَ بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بد في صفة الاجماع الجاري عند ا

- ‌واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقَّنَ بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر

- ‌واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع أنه لا يؤكل

- ‌واتفقوا أن مَن نَذَرَ معصيةً فإنَّه لا يجوز له الوفاء بها.واختلفوا أيلزمه لذلك كفارة أم لا؟واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس معلَّقًا بصفةٍ، وفي النذر الخارج مخرج اليمين، أيلزم أم لا؟ وفيه كفارة أم لا؟واتفقوا أن مَن نَذَرَ ما لا طاعة فيه ولا معصية

- ‌واتفقوا أن ازالة المرء عن نفسه ظلما بأن يظلم من لم يظلمه قاصدا إلى ذلك لا يحل، وذلك مثل أن يحل عدوُّ المسلمين بساحةِ قومٍ، فيقول أعطوني مال فلان، أو أعطوني فلانا، وهو لا حقَّ له عنده بحكم دين الإسلام، أو قال أعطوني امرأةَ أو أمةَ فلان، أو افعلوا كذا

- ‌اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره

الفصل: ‌اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره

بأسرى المسلمين، وخيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصد الكفار، وإن أفضى إلى قتل هؤلاء المعصومين؛ لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين.

وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.

ولو لم يُخشَ على جيش المسلمين: ففي جواز الرمي قولان لهم:

أحدهما: يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.

والثاني: لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي.

وكذلك لو أكره رجلٌ رجلًا على إتلاف مالِ غيره، وإن لم يتلفه قتله، جاز له إتلافه بشرط الضمان.

والعدو المحاصر للمسلمين إذا طلب مال شخصٍ وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدو، فإنهم يدفعون ذلك المال ويضمنون لصاحبه، وأمثال ذلك كثيرة.

وقد ذكر رحمه الله تعالى إجماعاتٍ من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرف انتقاضها، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه، لا نعلم فيه نزاعا، وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبرزه في ذلك على غيره، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع.

وسبب ذلك: دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أنَّ الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره.

فهاتان قضيتان لا بد لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع.

فمن ادَّعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدم المنازع، فقد قفا ما ليس له به علم، وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد.

وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع، فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل.

وقد ختم الكتاب ببابٍ من الإجماع في الاعتقادات، فكَفَّرَ مَن خالفه فقال:

‌اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره

،

ص: 302

وأنه تعالى لم يزل وحده، ولا شيء غيرُه معه، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق. (1)

قلت:

أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيءٍ فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك:

فإن القدرية الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله أكثر من أن يمكنَ ذكرهم، من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة، بل عامة الشيعة المتأخرين، وكثير من المرجئة والخوارج، وطوائف من أهل الحديث والفقه، نُسبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء، بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه: أنه لا يكفر هؤلاء.

والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إن جحدوا العلم كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا.

وأيضا: فقد ذكر في كتابه " الملل والنحل " أن الصحابة وأئمة الفتيا لا يكفرون من أخطأ في مسألةٍ في الاعتقاد ولا فتيا، وإن كان أراد بقوله:" أتى المسلمون على هذا " فهذا أبلغ.

ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ثم اعتقد أن مَن خالف الإجماع كفر بإجماع، فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنيةً على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كل منهما.

وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه " لم يزل وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء ".

ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله، ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذي في " الصحيح " عنه حديثُ عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:

(1) ص: (167)

ص: 303

" كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبلَه، وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِيْ الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ " وفي لفظ: " ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ".

وروي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ:

رُوي: (كان الله ولا شيء قبله)

ورُوي: (ولا شيء غيره)

ورُوي: (ولا شيء معه)(1)

والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال واحدا من هذه الألفاظ، والآخران رُويا بالمعنى، وحينئذ فالذي يناسب لفظَ ما ثبتَ عنه في الحديث الآخر الصحيح، أنه كان يقول في دعائه:(أَنتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبلَكَ شَيْءٌ، وَأَنتَ الآخِرُ فَلَيسَ بَعدَكَ شَيْءٌ، وَأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)(2)

فقوله في هذا: " أنت الأول فليس قبلك شيء " يناسب قوله: (كان الله ولا شيء قبله) وقد بسط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات، فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصا فيما ذكر فليس هو متواترا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاعٌ كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر، ولا نعرف في هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف يُدَّعى فيها إجماع! ويُدَّعى الإجماعُ على كفر من خالف ذلك!

ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بيَّنه في القرآن، وهو أنَّ خَلقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع، فإذا ادعى المدعي الإجماعَ على هذا وتكفير من خالف هذا كان قوله متوجها، وليس في خبر الله - أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام - ما ينفي وجودَ مخلوق قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادَّةٍ كانت قبلهما، كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجن، وإنما خلق الإنسان من مادة، وهي الصلصال كالفخار،

(1) لفظ (ولم يكن شيء قبله) في صحيح البخاري/كتاب التوحيد/باب (وكان عرشه على الماء/حديث رقم (7418) .

ولفظ (ولم يكن شيء غيره) في صحيح البخاري/كتاب بدء الخلق/باب ما جاء في قول الله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) /حديث رقم (3191)

أما لفظ: (ولم يكن شيء معه) فلم أجده في صحيح البخاري، بل ولا في شيء من كتب السنة، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره كالذهبي وابن كثير وابن القيم عزوا هذا اللفظ للبخاري، إلا أن الحافظ ابن حجر يقول في "فتح الباري" (6/289) :" وفي رواية غير البخاري: (ولم يكن شيء معه) " اهـ فقد يكون اختلاف نسخ الصحيح هو السبب في هذا الاختلاف، إلا أني أستبعد ذلك؛ إذ لو كان البخاري رواه فعلا بهذا اللفظ لوجدناه عند غيره ممن أخرج الحديث من كتب السنة، وهم كثير، فلما لم نجد هذا اللفظ عند أحد منهم غلب على الظن أنه وهم، والله أعلم بالصواب.

(2)

رواه مسلم/كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار/باب (17) ما يقول عند النوم وأخذ المضجع/ حديث رقم (2713)

ص: 304

وخلق الجان من مارج من نار.

فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف - الذي لا يعلم فيه نزاع - أن الله لَمَّا خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء قبل ذلك، فكان العرش موجودا قبل ذلك، وكان الماء موجودا قبل ذلك.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(إن الله قدر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وكان عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)(1)

وقد أخبر سبحانه أنه (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(2)

وثبت عن غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق السماء من بخار الماء، ونحوُ ذلك من النقول التي يُصَدِّقُها ما يُخبِرُ به أهلُ الكتاب عن التوراة، وما عندَهم من العلم الموروث عن الأنبياء، وشهادةُ أهلِ الكتاب الموافقةِ لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى:(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(3)

ونظائر ذلك في القرآن.

وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان:

طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم، ظنوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضى أنهما لم يُخلَقا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله.

ومعلوم أنَّ خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه خلق الإنسان والجان من مادة ذكرها، والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء وغيرهم يعتقدون أنَّ خَلْقَ الإنسانِ وغيرِه مما يخلقه

(1) رواه مسلم/كتاب القدر/باب (2) حجاج آدم وموسى عليهما السلام/ حديث رقم (2653)

(2)

فصلت/11

(3)

الرعد/43

ص: 305

في هذا العالم ليس هو خلقا لجوهرٍ قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراضٍ يُحَوِّلُ بها الجواهرَ المنفردةَ من حال إلى حال.

وهذا مخالف للشرع والعقل - كما قد بسط في موضعه - فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهد خَلْقَ عينٍ من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهر المنفردةَ ثم الخلقَ بعد ذلك، إنما هو إحداث أعراض قائمة بها.

وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء: يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته، لم يزل ولا يزال، وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنما حصل عن غيره بغير اختيار منه، فقد تولد عنه، لا سيما إن كان حيا.

وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك، وأنه لم يزل ولا يزال، فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفر من قال بقولهم كان متوجها، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادعى أن الصانع لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الرب قادرا على الفعل، أو الفعل والكلام، بعد أن لم يكن قادرا على ذلك.

فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل، مع فسادها في الشرع.

ومعلوم عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط، ولكن ظن من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم، من أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل، الذي خالفوا فيه الشرع والعقل.

وقد بُسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وذِكرِ منشئِ غلط الطائفتين، حيث لم يفرقوا بين النوع والعين، وذِكرِ قولِ السلف والأئمة: أن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه لا نهاية لكلمات الله، وأن وجود ما لا نهاية له من

ص: 306

كلمات الله في الماضي كما ثبت في المستقبل وجودُ ما لا نهاية له أيضا، وأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلا باطل شرعا، فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء، والقول بأن الخالق علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطل عقلا وشرعا، وموجبه أن تمتنع ضرورةُ وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنة معلولها بها، بل قد بين أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطل، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء، لكن فرقٌ بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء، وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل هو موجب بالذات: فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه فهذا لا ينافي فعله بمشيئته وقدرته، وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه: من أن ذاتا مجردة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة فهذا من أفسد الأقوال عقلا وسمعا، فإن إثبات ذات مجردة عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مُجَرَّدٍ عن جميع القيود أو مقيد بالسلوب لا يختص بأمر وجودي، مما لا يمكن تحققه في الخارج، إنما يقدره الذهن كما يقدر سائر الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما يقوله هؤلاء المتفلسفة، وأن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة واللذيذ والملتذ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بسط الكلام على فسادها وتناقضها في غير هذا الموضع، هي دعاوٍ باطلة.

والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعض الناس من الإجماع لنوع من الاشتباه، فيظن أمورا داخلة في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظن أمورا خارجة عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يدخلونه في نصوص الكتاب والسنة وفيما يخرجونه.

ص: 307

ولهذا يذكر هؤلاء أمورا مختلفا فيها، وإذا نظر إلى مستندهم في الخلاف وجد فيه من الخطأ أمورا أخرى كذلك: إما نقل ضعيف، وإما لفظ مجمل، وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة، وفي فهمه تارة، كما يقع مثل ذلك فيما ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلط، ويكون قد نشأ من الإسناد تارة، ومن فهم المتن تارة.

والله سبحانه أعلم.

انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 308