الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث:
أن يقال إذا ثبت ضعف العقل البشري وقصوره عن إدراك كثير من الحقائق الثابتة فاعلم أنه لا مجال له في إدراك ذات الباري وصفاته وأسمائه وحِكَم أفعاله وأوامره ونواهيه وإنما يُتَلقى ذلك من الوحي وأما العقل فلا يقوده اجتهاده إلا لإثبات خالق لهذا الكون دون معرفة مفصلة له.
قال شيخ الإسلام ((ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر، وقد اعترف عامة الروؤس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال بها الظن والحسبان)) (1) .
وقال الإمام أبو يعلى ((إن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته ولا تحليل شيء ولا تحريمه)) (2) .
وقال الشيخ ابن عثيمين ((السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي طريق الشرع ولم يكن للعقل فيها مدخل وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار فهي حق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا أو غاب عنا وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)(3) .
(1) الصارم المسلول (249) .
(2)
الأحكام السلطانية (19) .
(3)
شرح لمعة الاعتقاد (59) .
وقال سيد قطب: ((إن هنالك مجالاً للعقل البشري معيناً في ارتياد آفاق المجهول: والإسلام يدفعه إلى هذا دفعاً.. ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده. وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه، ولا حكمة في إعانته عليه. لأنه ليس من شأنه، ولا داخلاً في حدود اختصاصه. والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له، لأنه أكبر من طاقته. وبالقدر الذي يدخل في طاقته. ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير.. فأما الذين اهتدوا بهدى الله، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله. وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق، وحكمته في الخلق، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح. وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم. واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها، على هدى من الله، متجهين إليه، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع.
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين: فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى: والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة. وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلاً شاهقاً لا غاية لقمته، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء! وكانت لهم تصورات مضحكة – وهم كبار فلاسفة – مضحكة حقاً حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن. مضحكة بعثراتها. ومضحكة بمفارقاتها. ومضحكة بتخلخلها. ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها.. لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير. ولا فلاسفة العصر الحديث! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود.
فهذه فرقة. فأما الفرقة الأخرى، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة. فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي. ضاربة صفحاً عن المجهول.، الذي ليس إليه سبيل. وغير مهتدية فيه بهدى الله. لأنها لا تستطيع أن تدرك الله! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع ((مجهول الكنه)) ويكاد يكون مجهول القانون! وبقي الإسلام ثابتاً على صخرة اليقين. يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير. ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض. ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن. ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول!)) (1) .
(1) في ظلال القرآن (6/3731) .