الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الرابع:
ويكشف مجال العقل ودوره في الإسلام فيقال: ((إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض –بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص – ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له – ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها..
إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه..
إن دور العقل – في هذا الصدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره.. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير.. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة.. أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى.. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا.. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها – أي إذا فهم ماذا يعني النص – لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها. وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات، وفق مفهوم نصوصها.. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها.. وقد علم أنها جاءته من عند الله. الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير.
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة – بعد أن يدرك المقصود بها – بمقررات له سابقة عليها، كونها لنفسه من مقولاته ((المنطقية)) ! أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة.. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة – ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!.. إن العقل ليس إلهاً، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله)) (1) .
(1) ظلال القرآن (2/806) .
قال الشيخ محمد قطب: ((يمنح الإسلام العقل مجالاً واسعاً للعمل هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها أو ينكر عليه حق التفكير. وهي أمور ثلاثة: التفكير في ذات الله والتفكير في القَدَر والتشريع من دون الله)) ((وإذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثة التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر أو منع منعاً جازماً منها كقضية التشريع فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل ومتاحة له بل هو – في الإسلام – مدعو إليها دعوة صريحة ويعتبر مقصراً إذا لم يقم بها. وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الإسلام.
أولاً: في قضية الإيمان يخاطب الإسلام الإنسان كله، بكل جانب من جوانبه، ويركز على الجانب الوجداني لأن العقيدة دائماً تخاطب الوجدان وتحيى فيه وتتحرك به، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل، لتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة، حقيقة الألوهية، وما يترتب على معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك.
يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق.. خلق الكون وخلق الإنسان.. هل من خالق غير الله؟ (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السماوات والأرض. بل لا يوقنون)(خلق السموات بغير عمدٍ ترونها. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم. وبث فيها من كل دابة. وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) .
وما زال هذا التحدي قائماً.. وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي، بالقول بالمصادفة تارة، وبالخلق الذاتي تارة، وبأي كلام تارة أخرى إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها ((العقل)) لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره، وليصل إلى النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شيء، ويتخلى عن الهوى الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل.. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين. (أفمن يخلق كمن لا يخلق. أفلا تذكرون)(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)(إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض..) وكما يخاطبه ليستيقن –بطرق استدلالاته الخاصة من استقراء واستنباط وقياس ومنطق.. الخ – من حقيقة الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير.. يخاطبه ليرتب على يقينه ذلك ما يستتبعه من تبعات.. فإذا كان الله متصفاً بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره، ومن الجدير بالطاعة غيره؟ .
كذلك يخاطبه ليستيقن من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب:(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذي كفروا..)(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. ويتفكرون في خلق السموات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا. وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد) .
إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن عقلاً أن يخلق شيئاً عبثاً، أو أن يخلق شيئاً باطلاً، إنما يخلق كل شيء بالحق، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الحياة الدنيا، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يرى الإنسان بنفسه.. فكم من ظالم ظل يظلم حتى مات، وكم من مظلوم ظل مظلوماً حتى مات. فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون على السيئة والحسنة، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق.. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فإن ((العقل)) يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.. وألا تفتنه اللذة العاجلة عن النعيم المقيم. (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) .
وهذه الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان – مع العقل – لتترتب عليها حركة سلوكية واقعية، ولكن العقل فيها واضح لا يحتاج إلى تأكيد.
ثانياً: يوجه العقل بعد ذلك إلى تدبر آيات الله في الكون للتعرف على أسراره. للتعرف على خواص ذلك الكون، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض. والتسخير قائم من عند الله ابتداء، (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك، فهو ليس إلهاً يقول للشيء كن فيكون. إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان. جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج.
وكل ذلك يوجه العقل لأدائه. بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره. وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيراً ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون. ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة. ولذلك حكمة واضحة.
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق- كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يفكر – مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من ((المتاع)) الذي قدره الله للإنسان في الأرض. (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) .
ولكن العبرة في حياة ((الإنسان)) ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما ((الإنسان)) خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل ((الأمانة)) التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال:(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها. وحملها الإنسان..) وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من ((القيم)) .. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة. ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولاً –والكيان الإنساني كله في الحقيقة – للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتدياً بالهدى الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة.
وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على ((قيم)) أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق.
فتوجيه العقل – في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة ((الإنسان الصالح)) الذي تسعى البشرية –نظرياً- إلى تنشئته، ولكنها تخفق دائماً حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار.
وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال، فهو أن الأمة المسلمة –بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة ((إنسانية)) حقيقية، تمثل ((الإنسان)) كله لا جانباً واحداً من جوانبه وتمثله متوازناً كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض. ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حيث رفضت الهدى الرباني وجعلت ((عقلها)) يرسم لها الطريق!.
ثالثاً: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه. ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد. وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين، لأنه لا يتيسر لكل الناس –وإن كانوا مؤمنين – أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان.
ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة –ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة – فيسقط التكليف عن الآخرين. فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة. فالتشريع أولاً لا ينطبق انطباقاً آلياً على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر.
إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه.
ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير حياة الناس.
فأما الثابت –الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فساداً في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات.
وأما المتغير – الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل –بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نمواً سليماً في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدى الرباني، المتفقة في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره.
لذلك كان الفقه عملاً دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة.
ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقه في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع، ما زال يُعد تراثاً إنسانياً ثميناً إلى هذه اللحظة، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!.
والذي يطلع على هذا الفكر يدرك مدى شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها على مواكبة النمو البشري من جهة، ويدرك من جهة أخرى ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام.
رابعاً: ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدره في حياة البشر. وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق. ويوجه العقل إلى تدبر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها ولا يصادمها.
فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضى بلا ضابط. إنما يضبطها نظام رباني دقيق، يسير بحسب سنن ثابتة، ترتب نتائج محددة على السلوك البشرى في جميع أحواله. ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه، لا رجماً بالغيب، ولكن تحقيقاً لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
وهذه السنن تتناول حياة الجماعة، فهي سنن اجتماعية في غالبها، أما ما يرد بشأن الفرد فغالباً ما يكون متعلقاً بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالى:(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) .
خامساً: يوجه العقل إلى دراسة التاريخ: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .
وواضح أن دراسة التاريخ المطلوبة هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ، ولكن ينبغي أن نعرف مواطن العبرة من دراسة التاريخ..
إن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية، والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلى تدبرها والتفكر فيها من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم على المنهج الرباني.. هذه السنن – بطبيعتها –نادراً ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق أجيالاً متوالية حتى يتم التحول الاجتماعي سواء إلى الخير أو إلى الشر (فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير، تأييداً لنبي أو تمكيناً لجماعة مؤمنة، كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار) .
وانظر مثلاً إلى هذه السنة: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) .
فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوربي في وقته الحاضر.. نسوا ما ذكروا به، وكفروا وجحدوا، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة عملية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية.. وكل ما يمكن أن يدخل في ((أبواب كل شيء)) . وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان، ولد فيه أفراد –بل أجيال- قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية، (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلى الأبد لا تغلق ولا تتهدم على أصحابها مهما ارتكبوا من آثام!.
واليوم بدأ مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن ((حضارتهم)) آيلة إلى الانهيار.. وبدءوا ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن ((القيم الروحية)) كما يسمونها (1) أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمماً من قبلهم.. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان؟ جيلاً أو أجيالاً كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله!.
لذلك يوجه الله ((العقل)) أن يتدبر التاريخ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال، والأغلب هو الأخير!.
(1) لأنهم مازالوا في جاهليتهم يكرهون أن يذكروا الدين باسمه الصريح! .
تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون، وبرؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها، ولا يقول قائل لنفسه –على سبيل المثال- ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفسي في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي.. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تسنده وتمنعه من الدمار! ولا يقول قائل لنفسه: ما قيمة ((القيم)) ؟ وما فائدة ((الدين)) ؟ وما معنى ((الأخلاق)) ؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكاً قوياً بغير ذلك كله عدة قرون؟!. تلك عبرة دراسة التاريخ)) (1) .
ويقول الدكتور فهد الرومي: ((ليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالى بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له.
ولذلك نجد عبارات (لعلكم تعقلون) و (لقومٍ يتفكرون) و (لقومٍ يفقهون) ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل.
ولقد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل واهتمامه به في مواضع عدة نذكر منها:-
أولاً: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي:
فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد بل دعاه إلى إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها، وقد وجه الإسلام هذه الطاقة بتوجيهات عدة لتصل إلى ذلك:
(1) مذاهب معاصرة (533-551) بتصرف.
فوجهها إلى التفكر والتدبر.
في كتابه.
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .
ثم يستثير العقل الإنساني ويتحداه أن يأتي بمثل هذا القرآن حتى إذا ما أدرك عجزه عرف أنه من عند الله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين) .
وفي مخلوقاته:
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون)(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) .
ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللا في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير)
وفي تشريعاته:
(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)(وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) .
فأمر بالتفكر في تلك التشريعات لتحري الحكمة فيها لأن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقاً آلياً، وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة، وما لم يكن الإنسان مدركاُ للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهماً لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية وقد عني الإسلام بإيقاظ العقل لتدبر هذه التشريعات ليستطيع تطبيقها على خير وجه.
وفي أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم المعاصي إليه:
(قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) .
هـ- وفي الدنيا ونعيمها الزائل:
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً) .
وهذا التأمل والتدبر ليس هو المقصود لذاته وإنما ليؤدي ثمرة نافعة لا أعني بها فلسفة يتشدق بها الفلاسفة ويتبارون في إغماض الكلام فيها وإبهامه ثم لا ينتهون إلى شيء، وإنما أعني بها الإصلاح
…
إصلاح القلب.. إصلاح العقيدة
…
إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح.
2-
ووجه الإسلام الطاقة العقلية لمراقبة نظام الحياة الاجتماعية مراقبة توجيه وإصلاح لتسير الأمور على منهج صحيح (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) .
وحمل المسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع وهدده بالعقاب إذا علم ولم يصلح ولو كان صالحاً في نفسه (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) .
وقال صلى الله عليه وسلم ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
ثانياً: ولم يقصر الإسلام بعد هذا العقل على الإيمان وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر (لا إكراه في الدين)(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) فلم يكره الإسلام العقل على الإيمان (1) .
(1) ولا يقصد بلا إكراه في الدين- التقليل من شأن الجهاد كما حصره بعضهم بأن المراد به الدفاع وعللوا كل حركة بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق فأسقطوا – وهم مشتطون في حماسة الدفاع عن الإسلام ضد من اتهموه بأنه دين السيف – إن للإسلام بوصفه المنهج الأخير للبشرية حقه الأصيل في أن يقيم ((نظامه)) الخاص في الأرض. فـ (لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أما من ناحية إقامة ((النظام الإسلامي)) ليظلل البشرية كلها مسلمين وغير مسلمين فتوجب الجهاد لإنشائه وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة ولا يتم هذا إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض)) أهـ.
…
((بتلخيص من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)) لسيد قطب ص 18.
ثالثاً: وحرص على قيام العلاقة بين العبد وربه على الوضوح العقلي في العقيدة والشريعة وعدم تقييده له بعد اقتناعه وإيمانه بالرهبانية فلا رهبانية في الإسلام (1) لما فيها من تقييد للعقل (2) فضلاً عن الغرائز والحواس ولما فيها من تعطيل للطاقة والقوى البشرية والمخالفة لنظام الحياة مخالفة تقضي بالفناء على البشر فيما لو اعتنق الناس الترهب والانعزال ديناً.
رابعاً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل نعيه على المقلدين الذين لا يُعملون أذهانهم وحذر من التقليد الأعمى والتعصب الأصم لنظريات واهية وآراء زائفة ناشئة عن الخرافات والأهواء (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)(أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)(فلا تكُ في مريةٍ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) .
(1) لما روى أحمد في مسنده 6/226 ((....فقال يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أفمالك فيَّ أسوة.. الحديث ولما روى الدارمي في سننه ك النكاح ب3 من حديث سعد بن أبي وقاص قال ((
…
يا عثمان إني لم أؤمر بالرهبانية أرغبت عن سنتي)) وعثمان هذا هو ابن مظعون رضي الله عنه.
(2)
ولا يصح القول بأن الرهبانية تفتح آفاق العقل وتضمن له الصفاء للتفكير بل النزول إلى معترك الحياة هو الذي يزيد العقل اشتعالاً ويوري زناده ويفتح له أبواب التفكير عكس الرهبانية التي تخبو فيها نار العقل لانطواء صاحبها على نفسه واعتزاله المجتمع، فتؤدي إلى خمود الذهن وعدم الاطلاع على المعارك الضارية بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر وعلى كيد الملحدين ومكر الماكرين والرد على ذلك والنزول إلى معتركهم وحلبتهم.
وأمر بالتثبت في كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) .
خامساً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل أمره بالتعلم والحث على ذلك فكما أن نمو الجسم بالطعام فإن نمو العقل بالعلم إذ بهذا يكون الإيمان عن إدراك أوسع وفهم أعمق وإقناع أتم، بل قرن سبحانه ذكر أولي العلم بذكره عز وجل وذكر ملائكته (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)(إنما يخشى الله من عباده العلماءُ)(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ) .
وجعل العلم مشاعاً لأنه غذاء العقل الذي به ينمو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) .
لذا لم يعرف الإسلام ((رجل الدين)) الذي يحتكر علومه ويعطي صكوك الغفران ويملك التحليل والتحريم ولكنه يعرف فكرة ((عالم الدين)) الذي يرجع إليه لمعرفة حكم الله فيما اشتبه على الناس من أمور دينهم مستنداً إلى دليل معتبر شرعاً من غير إلزام إلا بحجة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع مسلم به.
سادساً: ومن ذلك إسناده استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى العقل وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً قال: ((كيف تقضي يا معاذ؟)) قال: بكتاب الله قال: ((فإن لم تجد)) قال: سنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) (1) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم وقاعدة للقضاء عند فقدان النص.
سابعاً: ومنها الأمر بتكريمه والمحافظة عليه والنهي عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله.
فحرم لذلك شرب الخمر (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه) وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) (2) وامتد التحريم إلى الكمية التي لا تسكر منها ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) (3) كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه.
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، وضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة 2/274) لإرساله وجهالة بعض رواته في بحث طويل له.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب وابن حبان.
…
وصححه وقال الحافظ بن حجر رجاله ثقات (صحيح أبي داود 3128) .
وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته عن آخر، قال ابن قدامة (لا نعلم في هذا خلافاً وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ((وفي العقل الدية)) ولأنه أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس) (1) .
ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك، لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوص فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوية متن العديد من الأخطار.
فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام (قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين) فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه، فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة.
(1) المغني لابن قدامة (8/37) .
لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسله)) (2) . وعن الروح قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من المغيبات التي ليست في متناول العقل ومداركه)) (3) .
ويقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: ((قيمة العقل في الإسلام)) :
قد يتبادر لأذهان البعض، عند ما يقرأ مثل هذا البحث، في ذم الاتجاهات العقلية – أن الإسلام، يمقت العقل والفكر، أو يستنقص منهما ويهضمهما قيمتهما، وأننا إنما نذم أصحاب الاتجاهات والفرق العقلية لمجرد أنهم استعملوا عقولهم، التي وهبهم الله.
(1) رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159 وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح. والحديث صححه الألباني –رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1788) .
(2)
رواه البخاري ومسلم.
(3)
منهج المدرسة العقلية (29-39) وكتاب الدكتور الرومي هذا من أجود الكتب التي درست منهج المدرسة العقلية في التفسير.
والحق: أن الأمر ليس كذلك، لأن الإسلام بحق قد رفع قيمة العقل وأعلى من شأنه، وجعل التعقل والتفكير فريضة إسلامية، يلزم كل مسلم أن يؤديها حقها، وجعل العقل هو مناط التكليف، ونعى على أولئك الذي لم يستعملوا عقولهم في معرفة الحق والهداية، فهلكوا. (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير)(1) .
وإذا كان العقل هو وسيلة النظر، ووسيلة التفكير والتدبر، فقد جعل الله ذلك كله واجباً، مفروضاً على كل إنسان ومن تركه فهو آثم لا محالة قال تعالى:(فسيروا في الأرض فانظروا)(2) .
وقد وردت في مواضع كثيرة.
وقال تعالى في ذم الذين لا يعقلون:
(وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون)(3) .
وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة.
وقال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(4) . وقد وردت في القرآن (لعلكم تعقلون) أكثر من سبع مرات.
وقال تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون)(5) .
وقال تعالى:
(كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعقلون)(6) .
وإذا كان العقل وسيلة النظر والاعتبار فقد قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)(7) .
وقال تعالى:
(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)(8) .
وكذلك الأمر بالتفكر، قال تعالى:
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)(9) . (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)(10) . (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنّة)(11) . (أولم يتفكروا في أنفسهم)(12) .
(1) 10-11) الملك.
(2)
36 النحل) .
(3)
80 المؤمنون) .
(4)
2، يوسف) .
(5)
62، يس) .
(6)
28، الروم) .
(7)
2، الحشر) .
(8)
101، يونس) .
(9)
219، البقرة) .
(10)
50، الأنعام) .
(11)
184، الأعراف) .
(12)
8، الروم) .
وقد ذكر التفكر في القرآن في أكثر من سبعة عشر موضعاً. وقد ذم الله أولئك الذين يتابعون آباءهم دون تعقل ولا تفكير. فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)(1) .
وقال تعالى:
(إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون)(2) .
والإسلام إنما كرّم الإنسان وفضله على سائر المخلوقات بل جعله سيد الكون بالعقل، وبالعقل سخّر له ما في السماوات وما في الأرض وجعله خليفة فيها يعمرها.
فهل يبقى بعد ذلك شك عند أحد في أن الإسلام يحترم العقل ويقدره كل التقدير؟
ثم إن الإسلام عندما حظر على العقل التفكر في ذات الله تعالى، والخوض في أمور الغيب، وألزمه بالتسليم والتوقف عند كل ما ورد عن الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم، مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وما يتعلق بالغيب كله- إنما فعل ذلك إشفاقاً على هذا العقل الكريم من العماية في متاهات المجهول.
ثم إن الإسلام في الوقت نفسه فتح للعقل البشري مجالات الانطلاق الواسع في حدود الواقع في حياته هو والمخلوقات من حوله، بل وفي الأرض كلها والسماء، وهذا الكون الرحب الواسع الفسيح.
فللعقل البشري أن يبدع، وأن ينظر ويحكم، وأن يتفكر ويعتبر ما وسعه الإبداع والنظر والتفكر والاعتبار، عليه أن يفعل ذلك كله، وله مع ذلك عليه الأجر والمثوبة إذا هو امتثل أمر الله.
أما الغيب والتفكر في ذات الله، بأكثر مما ورد عن الله، فإنه ليس بمقدور العقل، وليس من وظيفته أن يفعل ذلك، وإن فعل ذلك خرج عن نطاق الواجب عليه، ولن يعود عليه فعله إلا بالحرج والعنت العقلي والنفسي، والخروج عن نطاق مصلحة الإنسان في معاشه ومعاده.
(1) 170، البقرة) .
(2)
69، 70 الصافات) .
والعقلية الحديثة، هي التي دعت أتباعها إلى الخوص في أمور الغيب ومعارضة أمر الله، ولم تسلّم بما جاء عن الله تعالى، مما هو خارج عن نطاق العقل، وأقحمته فيما لا طاقة له به، ونحن نذمها من هذا الوجه.
فإن مُقْتَضى الإيمان بالغيب:- التسليم لله فيه، بما ورد في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإنسان في هذا العصر أكثر العصور تقدماً في الكشوف والاختراعات- أعلن عجزه وقصوره عن إدراك أكثر حقائق الكون وكُنْهِ طاقاته، حتى تلك الأشياء التي يمارسها ويعيشها ويومياً، إن العقل يجهل نفسه، ويجهل الروح التي تُمدّه بالحياة بأمر الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(1) .
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)(2) .
فإكراماً لهذا الإنسان، وإشفاقاً عليه، وعلى عقله المحدود، من التشرد والتبدد والتيه، وإشفاقاً عليه بعد ذلك من الضلال والهلاك، وسوء العاقبة، أراحه الله من الخوض في الغيب بعقله؛ فجاءه الوحي يخبره عما فيه صلاحه من أصول العقيدة السليمة، ومسائل الغيب، ورسم له سبيل الخير والسعادة في الدنيا، وأطلق لعقله فيما عدا ذلك الحرية كل الحرية.
فقد فتح الإسلام للعقل من مجالات البحث والفكر والتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض، ما يكفي لانشغال العقل، وإشباع رغبة التطلع والإنتاج المفطورة فيه)) (3) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن الزنيدي – حفظه الله -:
(1) 21، الذاريات) .
(2)
85، الإسراء) .
(3)
المدرسة العقلية الحديثة في ضوء العقيدة الإسلامية، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام. (ص18-22) .
((لعل من أبرز السمات التي امتاز بها الدين الإسلامي عن سائر المذاهب والأديان الأخرى، هو ذلك المقام السامي الذي وضع الإسلام العقل الإنساني فيه والدور الجليل الذي أناطه به، والآفاق الواسعة التي فتحها أمامه، بشكل لم تصل المذاهب البشرية إليه حتى تلك المذاهب التي تنادي بأنها حررت العقل البشري، وأطلقته من آساره، واحتكمت إليه، هي في الحقيقة التي سخرت منه، واستهانت به:
فمن جانب دفعته إلى الإيغال في مجالات ليست من اختصاصه فتاه فيها وضل.
ومن جانب آخر تجد هذه المجتمعات العلمانية – التي تدعى أنها تحكم العقل في أمورها- قد نبذته وراءها ظهرياً، فأحكامه وتقريراته في جانب وواقعها في جانب آخر، فالعقل يحكم بأن الخمر والزنا ضار ومفسد للجنس البشري والواقع يبيحها، بل ويحببها، والعقل يقول إن المرأة تختلف عن الرجل والواقع يقول يجب أن نجعلها كالرجل تماماً
…
، فأي إهانة للعقل بعد هذا، ونعود لنقول إن أبعاد تلك المنزلة التي جعلها الإسلام للعقل تتلخص فيما يأتي:
تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها:
الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها: فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)(1) .
وكذلك حينما يأمر بشيء فإنه يخصهم بالخطاب لأنهم يسارعون إلى امتثال أمر الله، والنهوض به، يقول سبحانه (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب)(2) ،فقد خص أولي الألباب بعد حث جميع العباد على التقوى (3) .
(1) البقرة – 179.
(2)
البقرة، 197.
(3)
فتح القدير 1/201.
ومدحهم بأنهم هم الذين يتذكرون موجبات الهدى، ودلائله، وينتفعون بها خلاف اللاهين الغافلين، يقول سبحانه (وما يذكر إلا أولوا الألباب)(1) ، وأثنى عليهم بأنهم هم الذين يعتبرون بقصص التاريخ وحوادث الحياة فيتخذون منها عبرة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)(2) ، وقال سبحانه بعد قصة لوط وقومه (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون)(3) .
جعله مدخلاً تأسيسياً لإثبات أخطر قضايا الدين وهي العقيدة: فقد جعل القرآن هذا العقل إذا تجرد عن الهوى والمصلحة والتأثر بالمحيط الخارجي الفاسد هو الطريق الموصل إلى الحق، وإثبات صحة العقيدة، وصدق النبوة يقول سبحانه (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بِصاحبكم من جِنّة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد)(4) .
وإنها لدعوة جليلة إلى إعمال الذهن، وتشغيل الطاقة العقلية، لتقتنع بالحق فتأخذ به، وتعرف الزيف فترفضه، لا دعوة إلى إطفاء مصباح العقل، والاعتقاد على عمى فيما لا يقبله العقل كما في المسيحية الكنسية.
ذم المقلدين الذين ألغو عقولهم:
أزرى القرآن الكريم بمن عطلوا تفكيرهم وأغلقوا منافذ الهداية والمعرفة، وأخذوا أمور حياتهم عن طريق التقليد، والتبعية، والوراثة لآبائهم، ولما وجدوا عليه مجتمعاتهم، قال سبحانه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون)(5) .
(1) البقرة 269، آل عمران 7.
(2)
يوسف آخر آية.
(3)
العنكبوت 35.
(4)
سبأ 46.
(5)
البقرة 170-171.
فالله يشبههم بالأنعام التي تسمع صوت المنادي، ولا تفقه ما يقول، كل هذا بسبب جمودهم على ما هم عليه، وتعطيل عقولهم عن التفكر لتبحث عن الحق فتتبعه، فكان نتيجة اهدارهم هذه النعمة التي تميزوا بها عن البهائم أن أصبحوا مثلها، بل أحط منزلة (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(1) .
بيان عظيم ثمرات استخدام العقل:
وقد بين القرآن أن من أبرز النتائج التي يحصل عليها العقل المتجرد إذا تفكر وتدبر:
التوصل إلى الإيمان بوحدانية الله، والشعور بعظمته سبحانه، ومعرفة الحق الذي خلقت به السموات والأرض، يقول سبحانه (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذي يذكرون الله قياماُ وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)(2) .
ولذلك يعقب سبحانه كثيراً بعد ذكر آياته في الأنفس والآفاق بقوله (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) – وكفى بهذه النتيجة نفعاً وعظمة.
الثبات على الحق الذي توصل إليه، والاطمئنان القلبي الذي يصاحبه، خلافاً للذي انعدمت بصيرته فهو في أمر مريج، لا يستقر على حال، ولا يطمئن إلى وجهة معينة، فهو مشتت تتنازعه الأهواء، يقول سبحانه (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب)(3) .
هـ- حثه على العلم والمعرفة التي تقود الإنسان في حياته العملية خلافاً لما عليه الجهلة:
ولقد أثنى الله سبحانه على العلماء ورفع مقامهم، فقرنهم سبحانه بذكره حينما قال (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)(4) .
وقال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ)(5) .
(1) الأنفال 22.
(2)
آل عمران 190-191.
(3)
الرعد 19.
(4)
آل عمران 18.
(5)
فاطر من آية 28.
وقال سبحانه (يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(1) .
وحث العلماء على إشاعة المعرفة بين الناس، وتعليمهم الحق (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)(2) .
الحث على تحريك العقل، واستثارة طاقاته في كل وقت، وعلى كل حالة بشتى الأساليب:(قل انظروا ماذا في السموات والأرض)(3)(أولم يتفكروا في أنفسهم)(4) (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء
…
) (5) الآية.
موافقة الإسلام للفطرة وإقناعه للعقل:
خلق الله الإنسان على هيئة خاصة به لا يشترك فيها معه شيء من مخلوقات الله – (فجاء فذاً في هذا الكون، إن في تكوينه العضوي، أو في خاصيته الجوهرية- التي هي التفكير العقلي)(6) .
ومن مميزات فردية هذا الإنسان أن الهيئة التي فطر عليها معجزة حيرت العلم القديم والحديث " حيث تمتزج الفرديات العقلية، والتركيبية والأخلاطية بطريقة غير معروفة للإنسان"(7) .
كذلك فإن مما لاحظه علم الإنسان أن هذا المخلوق يشتمل على عوالم متفردة متعددة بتعدد أفراده، فكل فرد له خاصية لا يشاركه فيها غيره من بني البشر "كل فرد يدرك أنه فريد، وهذه الوحدانية حقيقية"(8) .
ولقد قرر القرآن الكريم من قبل هذه الحقيقة، حقيقة تفرد الإنسان في خلقه وطبيعته ووظيفته:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(9) .
(1) المجادلة من آية 11.
(2)
البقرة 159-160.
(3)
يونس من 101.
(4)
الروم من 8.
(5)
الأعراف من 185.
(6)
الإنسان في العالم الحديث – جوليان هكسلي نقلاً عن الإسلام ومشكلات الحضارة – سيد قطب / (39) .
(7)
الإنسان ذلك المجهول (287) .
(8)
المصدر السابق (289) .
(9)
البقرة من آية 30.
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً)(1) .
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(2) .
والإنسان بهذه الطبيعة الخاصة التي فطر عليها، والسنن التي قام عليها وجوده يحتاج إلى نظام حياة خاص به يتسق مع ما فطر عليه، ويراعي هذه السنن فلا يصطدم معها.
وهنا تبدو ميزة كبرى للإسلام عن غيره من المذاهب باتساقه مع فطرة الإنسان وتكوينه العقلي، يقول سبحانه (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(3) .
قال العلماء "الفطرة هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل، التي هي معدة، ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه ويؤمن به"(4) .
والله سبحانه هو الذي خلق هذا الإنسان، وهو أعلم بالسنن، والأسرار التي خلقه عليها، وقد أنزل له نظاماً شاملاً لجوانب حياته، ومطابقاً لهذه الفطرة وهو الإسلام" إذ هو في سننه وفروضه وأحكامه ومبادئه يشمل الفطرة كلها ويطابقها تمام المطابقة"(5) .
(1) الإسراء 70.
(2)
التين 4.
(3)
آية 30 الروم.
(4)
الجامع لأحكام القرآن (7/29) .
(5)
الإسلام في عصر العلم للغمراوي (23) .
فالإنسان أي إنسان يحس بجوع روحي عارم، ولم تستطع فلسفة أو منهج بشري أن يسد هذا الجوع، أما الإسلام فقد أشبع هذه الروح وسد هذه الجوعة وهذه حقيقة أقر بها حتى غير المسلمين، تقول الباحثة فاجليري (إن الناس ليشعرون بالحاجة إلى الدين، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون منه أن يكون ديناً يفي بحاجاتهم، قريباً من مشاعرهم، يقدم الأمن والراحة للحياة الدنيا كما يقدمها للآخرة، ويلبي الإسلام هذه الحاجات بدقة لأنه عقيدة وفلسفة للحياة، فهو يعلم التفكير الصحيح، والتصرف السليم، والكلام الأمين، ولذا يجد طريقه في غير صعوبة إلى كل من العقل والقلب الإنساني)(1) .
ولعل من أبرز الجوانب التي جاء الإسلام بالقول الفصل فيها، وقد تاهت البشرية فيها، ولا تزال تائهة ضالة جانب تصور الكون المشهود وما وراءه.
ذلك أن هذا الكون من حولنا ينطوي في تضاعيفه على أسرار كبيرة في بدئه ومصيره، والهدف من ورائه، والعقل البشري طلعة يقف أمام المجهول ليستبين منه ما استطاع غير قانع بالعالم المحس ومظاهره الواضحة، ولقد جاء الإسلام يحل هذه الألغاز فأعطى تصوراً عن الكون والحياة وخالقهما – يلبي فطرة الإنسان، ويجد فيه العقل ما يشبع نهمته -.
وقد توهم البعض أن العلم المادي الذي قفز قفزاته الكبيرة إبان نهضة الغرب المعاصرة، سيجهز على الدين تماماً، ذلك أنه سيحل ألغاز الكون كلها وسيكتشف مجهولاته جميعها، فعند ذاك ينطفئ ذلك الشوق العقلي إلى ما وراء المجهول، وبذا تزول غريزة التدين.
(1) تفسير الإسلام لفاجليري (51) .
ولكن العلم أثبت – واقعا- عكس هذه النتيجة، إذ كلما زاد ما يكتشفه العلم من دلائل عظمة الكون وامتداده كلما انفتح معه أفق أوسع للسؤال عما يكتنفه من أسرار وغوامض " وأقرب مثال لذلك الذرة التي كانت إلى عهد قريب متماثلة الأجزاء، فظهر أنها مركبة من نوعين من الكهرباء – سالب وموجب- وأنه من الممكن تحطيمها وفصل أجزائها، فتعود قوة مجردة – طاقة – تحتاج إلى بحث عن مصدرها خارج هيكل الذرة المحطم (1) .
وهكذا يعود الإنسان بعد تطوافه في الكون أكثر تساؤلاً عما يحيط به من رموز وأسرار، ويبقى "الإسلام" الذي أنزله خالق الكون والحياة والعليم بهما هو الذي يقدم الحل الناجع لهذه المشكلة، فيقنع العقل ويريحه من القلق والشقاء الذي يساوره أثناء وقوفه أمام هذه المجهولات.
محاربة الإسلام للخرافات والعوامل التي تحطم العقل:
جاء الإسلام والمجتمعات البشرية –خاصة العربية- تعج بأنواع الخرافات، والشعوذة، والأوهام التي استعبدت عقول الناس، وتلاعبت بها، من كهانة، وعيافة، وعرافة، وسحر، واعتقاد بتصرف بعض المخلوقات في أجزاء من هذا الكون، كالجن، والشياطين (2) .
فحارب الإسلام هذه الخرافات، وحرر العقل البشري من سيطرتها، وتلاعبها به، جاء في صحيح مسلم ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) (3) . قال العلماء: هو من يذهب إلى من يدعي معرفة الأمور الغيبية، فيسأله على وجه التصديق لما يقول (4) .
(1) الدين لدراز (119) .
(2)
ليس هذا خاصاً بالمجتمعات القديمة، فحتى مجتمعات القرن العشرين –البعيدة عن هدى الله- ما تزال مرتعاً خصباً لهذه الخرافات مع بلوغها هذا الشأو البعيد في العلم المادي.
(3)
صحيح مسلم، كتاب السلام، حديث رقم 2230 جـ 4.
(4)
انظر مجموعة التوحيد 119 (قرة عيون الموحدين شرح كتاب التوحيد) .
وقال صلى الله عليه وسلم ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (1) .
فقوله: لا عدوى: نهي لهم عن الاعتقاد بأن المُعدي يخلق العدوى بالصحيح كما كان سائداً عندهم.
ونهاهم عن التشاؤم بالطير، حيث كانوا ينصرفون عن المضي في مقاصدهم بسبب اتجاه الطير إلى الجهة المخالفة لاتجاههم، أو بسبب نوع الطير الذي يقابلهم فور خروجهم.
والهامة: البومة: وكانوا يتصورون أن من وقعت على داره، فإنها تنذره بموت أحد أفراد عائلته- أو أن المقصود ما كانوا يتصورونه من أن روح المقتول- تخرج من القبر وتصيح مطالبة بأخذ الثأر من القاتل.
وصَفَر: هو الشهر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر دماء، وقتل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت كسائر الأوقات لا يقتضي بذاته شؤماً ولا ضرراً إلا ما يفعله الإنسان.
وفي حديث آخر عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والِتَولة شرك)) (2) .
التميمة: شيء يعلق على الأولاد يعتقدون أنه يدفع عنهم الشياطين.
والتولة: شيء يصنع، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
عدا عن هذا فإن القرآن والسنة حينما يعرضان حوادث الطبيعة والكون فإنهما يبعدان الخرافات، ويربطان بين الحوادث ربطاً موضوعياً- بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات -كما في قوله سبحانه (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله)(3) .
(1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الجذام.
(2)
رواه أبو داود في كتاب الطب باب تعليق التمائم 4/112، وابن ماجه في نفس الكتاب والباب 7/1167.
(3)
الروم من آية 48.
وعندما كسفت الشمس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في اليوم الذي مات فيه (إبراهيم) ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب موت إبراهيم، ووصل هذا التعليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (1) .
(1) صحيح البخاري، كتاب الكسوف، الباب رقم 6.