المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقديم رفاعة الطهطاوى - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - المقدمة

[رفاعة الطهطاوى]

الفصل: ‌تقديم رفاعة الطهطاوى

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تقديم رفاعة الطهطاوى

ومدخل حديث لكتابة السيرة النبوية

(1)

مثل رفاعة الطهطاوى (1801- 1873 م) نموذجا للمثقف العربى المجدد في أولى مراحل النهضة العربية الحديثة التى بزغت مع بدايات القرن التاسع عشر، وقد فرضت تلك المرحلة على ذلك المثقف الحديث والمحدّث أن يسهم بكتاباته في مجالات ثقافية واجتماعية متعددة، وقد جسد الطهطاوى هذا النموذج إذ جمعت كتاباته بين عمل المفكر الاجتماعى والتعليمى، والصحفى، والأديب (الشاعر والناثر) ، والمؤرخ غير المحترف، ومثل منحاه الإصلاحى العنصر الأساسى الرابط بين كتاباته التى تؤكد، بتنوعها، سعى الطهطاوى إلى الوفاء بما تطلبه واقعه.

وقد تنوعت إسهامات الطهطاوى في مجالات الأدب العربى في القرن التاسع عشر؛ ورغم كونه واحدا من شعراء المرحلة الأولى من مراحل حركة الإحياء، على نحو ما يتجلى في ديوانه، فإن من اللافت أن إسهاماته في ميادين الكتابة النشرية هى التى وضعت اسمه في قائمة الأدباء المجددين في القرن التاسع عشر؛ إذ جمع بين تقديم شكل الرحلة في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» (1834) والإسهام في تأصيل الرواية التعليمية وذلك بترجمته لرواية فينيلون (1651- 1715) المسماة" وقائع تليماك"(1699) والتى أعطاها الطهطاوى عنوان" مواقع

ص: 19

الأفلاك في وقائع تليماك" (1868) . كما أن له إسهامات بارزة في مجال الكتابة التاريخية يعكسها كتابه" أنوار توفيق الجليل في توثيق مصر وبنى إسماعيل" (1868) ، كما يعكسها كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية" وإن لم يكن من نمط الكتابة التاريخية الخالصة.

وقد كتب الطهطاوى السيرة النبوية وقدمها تحت عنوان" نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز"، وهى تمثل أوّل نموذج للكتابة الحديثة لمتن السيرة النبوية. وتحمل تلك العنونة أكثر من دلالة؛ فالطهطاوى قد ربط" نهاية الإيجاز" بكتاب" أنوار توفيق الجليل" وهذا ما يسوغ النظر إلى" نهاية الإيجاز" بوصفه جزا من كتابات الطهطاوى التاريخية، ويدعم ذلك

تقسيم الطهطاوى كتابه إلى أبواب وفصول تحمل عناوينها دلالات مرتبطة بتتبعه حياة الرسول (ص) وبعض هذه العناوين- مثل" الأسباب الباعثة على الهجرة"- يبدو أكثر اتصالا بعمل المؤرخ منه بعمل الأديب.

وفي مقابل الدلالات السابقة هناك دلالات مضادة تشير إلى إمكانية قراءة" نهاية الإيجاز" بوصفه كتابا مستقلا عن" أنوار توفيق الجليل"، من ناحية، وبوصفه كتابة تقع في المنطقة الواصلة بين الأدب والتاريخ من ناحية أخرى. فالطهطاوى أعطى كتابته عن السيرة اسما مستقلا عن كتابه التاريخى، كما أن كتابة الطهطاوى للسيرة ذات وشائج قوية في ارتباطها بأنماط كتابات السابقين عليه للسيرة النبوية، بقدر ما هى مختلفة عن كتابات اللاحقين له مباشرة أو الأجيال التالية له؛ فكتاب محمد الخضرى" نور اليقين في سيرة خير المرسلين"(1895) بمثابة سيرة تاريخية بالغة الاختصار، بينما كتاب محمد حسين هيكل" حياة محمد"(1935) يمثل، فيما نرى، أول دراسة تاريخية يقدمها كاتب أو مؤرخ مصرى حديث يفيد من مناهج البحث التاريخى الغربى، ويتجادل مع كتابات بعض المستشرقين حول سيرة النبى" ص".

ويعد" نهاية الإيجاز" وكتاب" المرشد الأمين للبنات والبنين" اخر كتابات الطهطاوى، وقد نشرت فصول" نهاية الإيجاز" فى ثلاثة وأربعين عددا من أعداد مجلة" روضة المدارس" فى سنواتها الثالثة والرابعة والخامسة. ويتكون النص المنشور

ص: 20

فى" روضة المدارس" من ستة أبواب، وتتفق الأبواب الخمسة الأولى منه مع الطبعة المحققة التى تقوم عليها دراستنا هذه (1) . بينما عنون الطهطاوى الباب السادس على النحو التالى: الباب السادس في الوظائف والعمالات البلدية، خصوصية وعمومية، أهلية داخلية جهادية، التى هى عبارة عن نظام السلطنة الإسلامية، وما يتعلق بها من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه فصول" (2) ، ولكن المحققين (عبد الرحمن حسن محمود وفاروق حامد بدر) جعلا من هذا الباب وما يليه كتابا سمياه (الدولة الإسلامية: نظامها وعمالاتها) ثم ووصفاه بأنه المتمم لكتاب" نهاية الإيجاز" (3) .

وفي نهاية العدد الثالث والأربعين من" روضة المدارس" هناك فقرات- حذفها المحققان- يقرر فيها على رفاعة أن الطهطاوى قد أتم قبل موته تسويد كتابى" نهاية الإيجاز" و" المرشد الأمين"، وقد راجع نهاية الإيجاز حتّى الفصل التاسع من الباب الثالث، بينما تتبع على رفاعة بقية الكتاب (قراءة وتصحيحا، حذفا وإثباتا)(4) .

واللافت أن المحققين قد حذفا المقدمة التى وضعها الطهطاوى لكتابه، والتى نشرها في العدد الرابع من السنة الثالثة من سنوات" روضة المدارس" وهى مقدمة مكونة من صفحتين يشير فيها الطهطاوى إلى أن" نهاية الإيجاز" يمثل الجزء الثانى من" أنوار توفيق الجليل"، ويشير أيضا إلى أن على مبارك هو الذى رأى التعجيل ينشر هذه السيرة منجمة في" روضة المدارس" على تطبع كاملة بعد ذلك (5) . ولما كان" نهاية الإيجاز" متمماك" أنوار توفيق الجليل" فقد احتل في هذا النسق ترتيب المقالة الخامسة على النحو التالى: المقالة الخامسة: فى ظهوره صلى الله عليه وسلم وأحواله وشئونه ووقائعه والدخول في الحياة البرزخية وذكر الخطط والعمالات الإسلامية التى كانت في عهده صلى الله عليه وسلم إلى استخلاف أبى بكر رضى الله عنه وفيه أبواب.

ويمكن للقارئ المعاصر أن يقرأ" نهاية الإيجاز" من منظور التشكيل السردى الذى وضع فيها لطهطاوى السيرة النبوية، بما ينطوى عليه ذلك التشكيل من واحدات وتقنيات وطرائق سردية اعتمدها الطهطاوى لينقل بواسطتها، من ناحية، رسالة ضمنية حملتها كتابته، وليسهم، من ناحية ثانية، فى تقدم نمط جديد من

ص: 21

أنماط كتابة السيرة النبوية بوصفها نصّا سرديا، وليساهم، من ناحية ثالثة، فى إنشاء تقاليد كتابة بعض الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى.

وبقدر ما تكشف النواحى الثلاث السابقة عن منحى التجديد الأدبى لدى الطهطاوى فإنها تتطلب إضاءة عدة أطر تتمثل في أنماط كتابة السيرة النبوية- بوصفها نصا سرديا- لدى السابقين على الطهطاوى، وعلاقة كتابة الطهطاوى السيرة بلحظة نشأة الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى، ووعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة، ومستويات تلقى نص الطهطاوى ودور الوسيط الثقافى الذى نقله إلى المتلقى في تحديد طرائق التلقى، وعلاقة كتابة الطهطاوى بالموقف أو الرسالة التى ضمّنها تلك الكتابة.

وستتبدى طبيعة كتابة الطهطاوى عبر الأطر المختلفة التى نضع" نهاية الإيجاز" فى سياقاتها المتداخلة والمتفاعلة معا.

(2)

مرّ متن السيرة النبوية بمراحل متعددة ومتشابكة، ومتوالية أيضا، إلى أن استوى نصّا سرديا مكتملا؛ إذ شكلت المرويات التى رواها بعض الصحابة عن حياة النبى (ص) وصفاته وسلوكه المادة الأولى لمتن السيرة، وطوال القرنين الأوّل والثانى الهجريين برزت أسماء بعض التابعين- مثل عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة والزهرى وعبد الله ابن أبي بكر وغيرهم- ممن تخصصوا في رواية أخبار النبى. وقد وازى تطور الاهتمام بجمع أخبار النبى التطور في علوم الحديث والتفسير والتاريخ (6) وهذا ما برز، منذ بداية القرن الثالث الهجرى، إذ توزع الاهتمام بسيرة النبى بين أصحاب كتب طبقات المحدثين، من ناحية وكتّاب التاريخ العام من ناحية ثانية، وكتّاب سيرة النبى من ناحية ثالثة. فابن سعد (ت 230 هـ) صاحب (الطبقات الكبرى) قد دوّن سيرة النبى في الأجزاء الأربعة الأولى من كتابه، حيث كان يعنون الفقرات، ثم يسوق داخل كل فقرة مجموعة المرويات: أي الأحاديث والأخبار التى تقع في دائرتها، ولا يكاد يقدم رأيا فيما يرويه (7) . على حين أصّل الطبرى (ت 310 هـ) فى كتابه (تاريخ الرسل والملوك) تقليدا يتمثل في تقديم

ص: 22

سيرة الرسول (ص) بوصفها جزا من التاريخ العام، وقد تابعه في ذلك المؤرخون التالون له كابن الأثير (ت 630 هـ) فى كتابه (الكامل في التاريخ) وابن كثير (ت 774 هـ) فى كتابه (البداية والنهاية) وغيرهما.

وتشكلت كتابة السيرة النبوية في ثلاثة أنماط مختلفة؛ نمطان منها يمكن وصفهما بأنهما نمطان سرديان خالصان، على حين يمكن وصف ثالثهما بأنه يضيف إلى المتن السردى نصا اخر شارحا بعض الوقائع أو يضيف معارف من علوم متنوعة. ويمثل نمط السيرة المكتملة التى تقدم وقائع حياة النبى (ص) وغزواته وعلاقاته المختلفة النمط السردى الأوّل، ونموذجه الأجلى سيرة ابن إسحاق (ت 151 هـ) التى رواها ابن هشام (ت 218 هـ) ، وقد قسم ابن إسحاق السيرة إلى ثلاثة أقسام كبرى هى المبتدأ، والمبعث، ثم المغازى، وكان يقدم- سواء داخل كل قسم من الأقسام الكبرى أو الأقسام الصغرى التى تشكل الأقسام الكبرى- الأخبار المختلفة، ويقدم الوقائع مستشهدا بالأشعار سواء في إطار سرده الوقائع، أو في نهايتها؛ كما في تقديمه- فى نهاية الغزوات- الأشعار المختلفة التى قيلت فيها.

وإذا كان ابن هشام قد هذب نص ابن إسحاق فإنه قد أهمل بعض مرويات ابن إسحاق كما خذف أشعارا لم ير (أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به (8) .

ولقد تحول متن ابن هشام إلى المصدر الأساسى الذى اعتمده اللاحقون له سواء كانوا من المؤرخين الخلّص أو من كتاب السيرة النبوية، ويمثل كتاب" عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير" لابن سيد الناس (ت 734 هـ) نموذجا لكتابة تتابع تقاليد سرد السيرة النبوية المكتملة التى أصّلها ابن إسحاق وابن هشام، ثم تضيف إليه تقاليد جديدة مثل تقديم مرويات مختلفة عن رواة اخرين غير ابن إسحاق، وتقديم مرويات تمثل تحديدات أدق لمضامين بعض مرويات ابن إسحاق، أو تصحيح بعض المرويات التى قدمها ابن إسحاق (9) .

ولما كان معنى مصطلح السيرة النبوية قد انصرف- لا سيما في المراحل المبكرة من رواية السيرة وتدوينها- إلى دلالة تقصره على تقديم المرويات الخاصة بمغازى الرسول (ص) فإن كتاب محمد بن عمر الواقدى (ت 207 هـ)" المغازى" يمثل نمط

ص: 23

الكتابة في السيرة طبقا لهذا الفهم. ويبدو أن اقتصار عمل الواقدى على فترة قصيرة من حياة النبى (ص) قد منحه فرصة وضع تقاليد خاصة في سرد المغازى؛ إذ ثبّت طرائق واحدة اتبعها في سرد الغزوات المختلفة؛ فبعد أن افتتح كتابه بذكر أسماء الرواة الذين نقل عنهم أخباره مشيرا إلى اختلاف مروياتهم أخذ يسرد (المغازى واحدة واحدة مع تاريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازى التى غزاها النبى بنفسه وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب مواحد، فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها، ويكرر في بعضها اسم المستخلف على المدينة وتفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها في مقدمة الكتاب. وفي أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدى قصة

الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها ايات كثيرة من القران، فإن الواقدى يفردها واحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة. وفي المغازى الهامة يذكر الواقدى أسماء الذين شهدوا الغزوة وأسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها) (10) .

ويشكل نمط الكتابة المختصرة النمط السردى الثانى من أنماط كتابة السيرة النبوية، وهو يشترك مع النمط السابق في تقديم الأخبار الخاصة بحياة الرسول (ص) ووقائع دعوته وغزواته المختلفة، وتقسيم هذه الأخبار طبقا للمسار الزمنى لحياة الرسول (ص) ، ولكن كتّاب ذلك النمط كانوا يركزون على اختيار الوقائع، ويعرضون عن تقديم المرويات المختلفة حول الوقائع التى يعرضونها، كما يندر لدى بعضهم- كابن عبد البر- تقديم الأشعار المرتبطة بوقائع السيرة، بينما لا يورد بعضهم الاخر- كابن حزم- أيّا من أشعار السيرة. ومن أبرز النماذج التى تمثل هذا النمط كتاب" الدرر في اختصار المغازى والسير" لابن عبد البر (ت 463 هـ) ، وكتاب" جوامع السيرة" لابن حزم الأندلسى (ت 459 هـ)(11) .

وثمة احتمال أن يكون تأصل هذا النمط في إطار كتابة السيرة النبوية قد أثر على كتابة بعض النصوص التى تنتمى إلى النمط الأوّل؛ فكتاب المقريزى (ت 845 هـ)(إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع) يقوم على

ص: 24

إيجاز المرويات المختلفة التى يعيد المقريزى صياغتها بلغته هو، مقدما- فى ثنايا سرده- بعض المرويات المسندة إلى قائليها الأوّل، ومستشهدا بالقليل من أشعار الوقائع، (12) ، ولعل قيام كتاب المقريزى على لغة مؤلفه في الصياغة جعل منه متنا مختلفا عن متون النمو الأوّل التى كانت تنظيما لمجموعات من الأخبار ذات الأسانيد.

إن متن السيرة النبوية في كتابات النمطين السابقين يشكل نصا سرديا يقوم على تتابع عدد من الواحدات السردية الكبرى التى تصور حياة النبى (ص) ، وإذا كانت كل واحدة سردية كبرى تقدم مرحلة مهمة ودالة من حياة شخصية النبى (ص) فإن الواحدة السردية الكبرى يمكن أن توصف بأنها مقطع سردى طويل يبدأ من نقطة زمنية محددة وينتهى عند نقطة زمنية محددة، وتحمل كل نقطة منهما قيمة دالة في حياة الشخصية، وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية يتشكل امتداد زمنى تملؤه عناصر سردية متنوعة كالوقائع والأخبار والأحداث وغيرها. وإذا كانت كل واحدة كبرى تشكل (سلسلة من الأفعال المتعاقبة)(13) فإن الراوى لا يكتفى بتقديم تلك السلسلة عبر مسار زمنى صاعد، وإنما يستطيع دائما أن يكسر ذلك المسار بالعودة المطولة إلى الماضى أو ماضى الماضى أحيانا- ولا سيما لتأصيل نسب الشخصية- أو تقديم نبوات بمصائر بعض الشخصيات- ولا سيما أعداء البطل- أو الاستطراد نحو كثير من التفريعات السردية التى تضعف- أحيانا- من ظهور المسار الزمنى الأساسى للوقائع.

وتشكل بعض الوقائع في السيرة النبوية ما يمكن أن يسمى واحدة سردية وسطى إذ تقع- من ناحية- فى مدى زمنى أقل من المدى الذى تستغرقه وقائع الواحدة السردية الكبرى، كما تقوم- من ناحية ثانية- على نواة صراع مباشر يحدد للراوى طريقة معينة في سرد الوقائع وتنظيمها وصياغة التفاصيل، مما يجعل السرد أدنى إلى التركيز على خيوط متوالية زمنيا، ومتوالدة سببيا. وتمثل الغزوات الكبرى نماذج دالة لتلك الواحدات السردية الوسطى، ولعل هذا" التميز" الذى تتصف به واحدات المغازى هو الذى جعل عبد الله إبراهيم يصفها بأنها قد جاءت- فى سيرة ابن إسحاق (بشكل واحدات شبه قصصية)(14) ، بينما وصف عبد

ص: 25

الحميد بورايو الغزوة بأنها (تمثل قصة مكتملة، لها بداية ووسط ونهاية، وهى في الوقت نفسه ترتبط بمثيلاتها بواحدة ملحمية)(15) .

وتمثل الأخبار والحكايات المختلفة نمط الواحدة السردية الصغرى ليس في متن السيرة النبوية واحدها، ولكن في كل أشكال السرد العربى الوسيط.

وتمثل السيرة المشروحة النمط الثالث من أنماط كتابة السيرة النبوية، ويقوم هذا النمط على الموازاة بين نصين مختلفين ومتصلين في الان نفسه، ويتمثل النص الأوّل في متن ابن إسحاق أو ابن هشام الذى يتحول لدى كتاب هذا النمط إلى نص أصلى، بينما يتمثل النص الثانى في نص شارح يقدم فيه مؤلفه شرحا للألفاظ الغريبة أو إعرابا لبعض الكلمات أو العبارات الغامضة، وتجلية لأنساب بعض الشخصيات، وإكمالا لبعض الأخبار الناقصة، وتناولا لبعض الجوانب الفقهية أو الكلامية التى تثيرها بعض وقائع السيرة أو مواقفها.

ويبدو أن هذا النمط قد تشكل في مرحلة تالية لتشكل النمطين الأولين، كما يبدو أنه كان يؤدى بعض الوظائف التعليمية المباشرة، ومن الكتب الممثلة لهذا النمط كتاب" الروض الأنف في شرح السيرة" الذى ألفه عبد الرحمن السهيلى (ت 581 هـ) ، وهو يقرر في مقدمته أنه قد جمع فيه (من فوائد العلوم والاداب، وأسماء الرجال والأنساب؛ ومن الفقه الباطن اللباب، وتعليل النحو وصنعة الإعراب، ما هو مستخرج من نيف على مائة وعشرين ديوانا، سوى ما أنتجه صدرى ونفحه فكرى ونتجه نظرى ولقنته عن مشيختى، من نكت علمية لم أسبق إليها ولم أزحم عليها)(16) .

ولعل ذلك النص أن يكون كاشفا عن أن اكتمال نص السيرة النبوية لدى ابن هشام- فى بداية القرن الثالث الهجرى- قد جعل من شراحه يسعون إلى إفادة القارئ بتقديمهم مجموعة من المعارف المختلفة المستمدة من مجالات الحديث والفقه وعلوم اللغة وعلم الكلام والتاريخ، والقراات أحيانا، فى إضاءة النص الأصلى للسيرة، وذلك ما يخرج بعض هذه النصوص، وربما معظمها، عن إطار الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية؛ يستوى في هذا كتاب" الروض الأنف" وكتاب" الشفا فى حقوق المصطفى" الذى ألفه القاضى عياض (ت 544 هـ) وجعل من شروحه

ص: 26

وسيلة لعرض بعض المسائل الكلامية أو تقديم تفسيرات لبعض الايات القرانية، أو تقديم بعض الأحاديث والأخبار، أو عرض بعض مسائل القراات القرانية (17) .

شكل كل نمط من الأنماط السابقة مجموعة من التقاليد الكتابية الخاصة بمتن السيرة النبوية بوصفه نصا سرديا، أو بشرحه لغايات مختلفة. وكانت هذه الأنماط متاحة أمام الطهطاوى وهو يكتب" نهاية الإيجاز"، وقد نقل الطهطاوى كثيرا من النصوص السابقة عليه، وكان يردها إلى مصادرها، لكنه أعاد صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية حيث أفاد من تقاليد كتابتها لدى أصحاب الأنماط الثلاثة السابقة عليه (وذلك ما سيتضح تفصيلا في فقرات تالية) . وبقدر ما كان سعى الطهطاوى إلى إعادة صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية دالّا على منحاه التجديدى الذى يبدأ بتمثل الموروث- مع السعى إلى تجاوزه- فإن فعل التجاوز لدى الطهطاوى يمثل بدوره، دالا اخر على أن كتابة.

الطهطاوى السيرة النبوية لم تنفصل عن لحظتها التاريخية والأدبية؛ أى لحظة ميلاد الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى.

(3)

إذا كان الطهطاوى قد قدم صياغته للسيرة النبوية في أوائل العقد الثامن من القرن التاسع عشر فإن عمله هذا يمكن تفهمه في تقاطعه مع إطار التيار الأساسى السائد على الرواية العربية الحديثة في المرحلة الأولى من مراحل تبلورها، والتى تمتد من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى. وقد ساد فيها نمطان روائيان هما الرواية التاريخية والرواية التعليمية ويتفق النمطان في كون التعليم الهدف المشترك لكليهما؛ وإن اختلفت طبيعته بينهما؛ فبينما كانت الرواية التاريخية تعلّم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بفترة أو شخصية ما من التاريخ العربى والإسلامى فإن الرواية التعليمية قد تغيت تقديم معارف من علوم متنوعة، على نحو ما يتجلى في رواية" علم الدين"(1883) لعلى مبارك (1823- 1893) والتى تعد النموذج الأساسى لها في هذه المرحلة (18) .

ومن اللافت أن بدايات الرواية التاريخية قد بدأت في لبنان في وقت معاصر

ص: 27

لتقديم الطهطاوى" نهاية الإيجاز"؛ إذ قدم سليم البستانى (1848- 1884) روايات: " زنوبيا"(1871) ، و" بدور"(1872) ، و" الهيام في فتوح بلاد الشام"(1874) ؛ وقد نشرت كلها في أعداد مجلة الجنان. بينما قدم جميل نخلة المدور روايته" حضارة الإسلام في دار السلام" فى عام 1888 ثم بدأ جرجى زيدان (1856- 1914) مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أى عام 1891، تقديم سلسلة روآياته عن تاريخ الإسلام؛ إذ قدم- فى الفترة من 1891 إلى 1914- اثنتين وعشرين رواية صاغ في معظمها أحداث التاريخ العربى الإسلامى (19) ؛ وركز فيها على بعض المراحل والشخصيات المؤثرة فيه مثل:

الحجاج بن يوسف (1902) ، وأبو مسلم الخراسانى (1905) ، والعباسة أخت الرشيد (1906) ، والأمين والمأمون (1907) ، وعبد الرحمن الناصر (1909) ، ثم صلاح الدين ومكائد الحشاشين (1913) . على حين أنه اعتمد في القليل من روآياته التاريخية على وقائع بعض الفترات التاريخية الحديثة أو المعاصرة له، أو بعض شخصيات التاريخ العربى المصرى الحديث، كما في روايتيه محمد على (1907) والانقلاب العثمانى (1911) .

إن تلاقى نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية في الهدف التعليمى العام هو الذى يفسر مظاهر التلاقى بينهما في طرائق الصياغة والتشكيل واستخدام تقنيات بعينها. فلما كان تعليم التاريخ- بالمعنى العام والمباشر لهذه العبارة- هو مبتغى كتاب الرواية التاريخية فإن ذلك الهدف كان يضم إلى تقديم الحقائق التاريخية المتعلقة بفترة ما، من ناحية، تصوير بعض الجوانب الحضارية التى تميز هذه الفترة، من ناحية ثانية، وتصوير الأخلاق والعادات، من ناحية ثالثة. وكان حرص كاتب الرواية التاريخية على أن يقدم لقارئه الحقائق والأحداث التاريخية الكبرى في الفترة يكتب عنها دافعا له إلى أن يثبت المراجع التاريخية التى اعتمد عليها سواء في بداية الرواية أو في نهايتها أو في مواضع مختلفة، على نحو ما يبدو لدى جرجى زيدان وجميل نخلة المدور. وقد أفرز ذلك ظاهرة متكررة تتمثل في حرص كتاب الرواية التاريخية على إسناد الأخبار والمعلومات إلى مصادرها. وبقدر ما تشير هذه الظاهرة إلى ارتباط هؤلاء الكتاب ببعض طرائق نقل الأخبار التاريخية وغير التاريخية- فى

ص: 28

الأشكال السردية العربية الوسيطة- فإنها تشير أيضا إلى أن الجمهور الذى كان يتوجه إليه هؤلاء الكتاب إنما هو جمهور كانت" التقليدية" سمة مؤثرة في ثقافته؛ إذ كان يطالب كتاب هذا الشكل بالحرص على" المرويات الصحيحة" مما كان يدفع بعض الكتاب- مثل جميل نخلة المدور- إلى إعادة صياغة بعض الوقائع وتناولها (بشىء من التهذيب والتنقيح وتبديل الروايات الضعيفة بما هو أصح وأثبت عند أئمة النقل)(20) .

وكان كتاب الرواية التاريخية يسعون إلى تقديم وصف تاريخى وجغرافى دقيق ومفصل وموثق للأماكن التى تدور فيها أحداث رواياتهم، بينما نحا بعضهم أحيانا إلى الاهتمام بإيراد التفاصيل التاريخية أكثر من العناية بإحكام (الخيال في خلق صورة حية واقعية)(21) للمجتمعات أو الفترات التاريخية التى يصورونها.

وقد دفع المسعى التعليمى المباشر كتاب الرواية التاريخية إلى الاتكاء على تقنية الاستطراد؛ إذ كان كاتب هذا الشكل يتخذ من أحداث روايته وسيلة لتقديم معلومات عن عصرها، أو تقديم النصائح والمواعظ والحكم والتوجيهات المباشرة (22) . كما تتجلى الظاهرة نفسها في" علم الدين" حيث ينتقل الراوى بين عدة مسامرات تختلف في موضوعاتها مما يضعف من دور الرابطة الأساسية التى تربط هذه المسامرات (23) .

لقد كان كتّاب نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية يسعون- كل بطريقته إلى اتخاذ التشكيل السردى وسيلة ناجعة لتعليم جمهور المتلقين، وهذا ما حدد دور" الخيال" فى تشكيل حبكات أعمالهم؛ إذ ثمة صيغ مختلفة لتشكيل الحبكة؛ منها صيغة تقوم على الجمع بين حكاية وقائع تاريخية وحكاية متخيلة غالبا ما تكون حكاية عاطفية؛ وإذا كانت الحكاية الأولى تتشكل من عناصر قدمتها المصادر العربية القديمة عن الشخصية أو الفترة موضوع الرواية فإن الحكاية المتخيلة قد تستند إلى شخصيات تاريخية يملك الكاتب حرية الإفاضة في سلوكها أو ابتكار أحداث تنسب إليها أو مجاوزة بعض الأطر التاريخية في تصويرها له، على نحو ما يبدو في تصوير جرجى زيدان لشخصية أبى العتاهية في روايته" العباسة أخت الرشيد"(24) .

ص: 29

وبينما قامت معظم روايات زيدان على تلك الصيغة من الحبكات فإن ثمة صيغة أخرى قدمها جميل نخلة المدور هى صيغة الرحلة الخيالية إلى فترة تاريخية سابقة؛ فروايته" حضارة الإسلام في دار السلام" تصور رحالة فارسيا يطوف معظم البلدان الإسلامية في المائة الثانية للهجرة، ويلتقى بعدد من رجال العصر العباسى ويتصل بالبرامكة بصفة خاصة، ويقدم رحلته- إلى المتلقى- فى إطار مجموعة من الرسائل التى تصور للمتلقى كثيرا من جوانب العصر الذى ارتحل إليه.

وتمثل حبكة رواية" علم الدين" الصيغة الثالثة من صيغ الحبكات، وهى صيغة تقوم على الجمع بين حكاية رئيسية تمثل حكاية الإطار، وهذا ما تجسده علاقة علم الدين بالرجل الإنجليزى، سواء في مبتدأها أو تطورها أو نهايتها- وحكايات أخرى فرعية تتصل- بطريقة أو بأخرى- بحكاية الإطار، وتنشأ هذه الحكايات- دائما- من دورانها حول شخص واحد كما في قصة يعقوب أو قصة المصرى المغترب (25) .

إن وضع كتابة الطهطاوى السيرة النبوية في" نهاية الإيجاز" فى توازيها الزمنى مع تأصيل الرواية التاريخية والرواية التعليمية يكشف عن كثير من جوانب التلاقى بينهما، والتى يمكن أن يكون بعضها دالا، بدوره، على بعض صور التفاعل بين تشكيل الرواية التاريخية وبنية بعض الأشكال السردية العربية الوسيطة؛ فإذا كان كاتب الرواية التاريخية يحرص على الاعتماد على مرويات تاريخية" موثقة" ويشير إلى مصادره، فإن كتابة الطهطاوى كانت تحقق الشرط ذاته مستجيبة في ذلك إلى" خصوصية" متن السيرة في إطار الثقافة العربية الوسيطة؛ بمعنى أن حرص المهتمين بالسيرة النبوية- فى عديد من العلوم في الحضارة الإسلامية- على تحقيق نسبة الأحداث والوقائع إلى النبى (ص) قد حدد مجال الابتكار أمام كاتب السيرة إذ أصبح ماثلا في التأكد من صحة الأخبار، ثم اصطفاء بعضها، أو الكثير منها أحيانا، مع التخلى عن كثير من التفصيلات أو المرويات الخلافية. ولعل ذلك ما شكل مبدأ لكتابة السيرة النبوية حتّى لدى الأجيال التالية للطهطاوى؛ على نحو ما يبدو عند طه حسين في" على هامش السيرة"(1933)(26) .

وبقدر ما كان الشرط السابق يقيد خيال كاتب السيرة في ابتكار أحداث أو

ص: 30

وقائع فإن ضخامة مرويات السيرة- لا سيما عند كتاب النمط المطول- كانت تعطى كاتب السيرة المحدث فرصة اختيار مجموعة من الأحداث والوقائع ليشكل منها هيكلا سرديا متصلا، وهو الموقف نفسه الذى كان يتخذه كاتب الرواية التاريخية إزاء المواد التى تقدمها له المصادر التاريخية العربية القديمة والوسيطة.

ولما كان هدف الطهطاوى من كتابة السيرة يتصل بأهداف كتاب الرواية التاريخية والتعليمية، فقد كانت تقنية الاستطراد في السرد تقنية مشتركة بين كتابته وكتابتهم.

وستتبدى تلك الجوانب بتفصيل أكبر في فقرات تالية، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بعد الوقوف على مدى وعى الطهطاوى بالأشكال السردية المختلفة ووظائفها.

(4)

تقع سيرة الطهطاوى في المنطقة الواصلة بين التاريخ والأدب، وكانت كتابة الطهطاوى لها تتصل- بقدر تماسها مع الرواية التاريخية والرواية التعليمية- بمرحلة

الإحياء التى ينتسب إليها فكر الطهطاوى وكتاباته المختلفة. ويتبدى اتصال الإحيائية بكتابة الطهطاوى" نهاية الإيجاز" من كون الطهطاوى قد أعاد إحياء ذلك الشكل السردى بعد أن توقفت كتابتة في مصر لمدة أربعة قرون؛ إذ إن اخر الكتابات المصرية السابقة على الطهطاوى هو كتاب المقريزى" إمتاع الأسماع"(27) . ويتصل بذلك الإحياء بعدان يتعلق أولهما بالصلة بين الأدب والتاريخ ودورها في تحديد طريقة كتابة السيرة وتقديمها بوصفها شكلا سرديا. بينما يرتبط ثانيهما بوعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة والقديمة. ولا ينفصل عن هذين البعدين تصور الطهطاوى لمهمة الأشكال السردية والأنواع الأدبية الحديثة.

يتبدى البعد الأوّل الكاشف عن الصلة بين الأدب والتاريخ لدى الطهطاوى فيما يظهر في مواضع مختلفة- على قلتها- من كتابات الطهطاوى بتناول الأدب أو بعض جوانبه أو بعض قضاياه أو ما يبدو من اهتمامه النسبى بتناول مسائل كتابة

ص: 31

التاريخ ووظائفه. واللافت أن تناول الطهطاوى لمسائل الأدب يركز فيه- على عادة غيره من الإحيائيين- على الشعر، بينما يغلب أن يتصل تناوله للنثر عامة أو السرد خاصة بتناوله للتاريخ. ولعل تقديم الطهطاوى لتناول الشعر في مقابل التغييب النسبى لتناول النثر أو السرد بوصفه الطرف الثانى من أطراف ثنائية الشعر والنشر أن يشير إلى انتماء الطهطاوى إلى اللحظة التاريخية التى كان الأديب والناقد الإحيائى يسعى فيها، حثيثا، لصياغة موقف من الأشكال النثرية بتأثير اتصاله بالثقافة الأوروبية. وبالمثل يبدو تناول الطهطاوى لبعض الأشكال السردية العربية الوسيطة في إطار تناوله للتاريخ دالا على منحى إحيائى يتصل باستعادة تناول المؤرخ العربى الوسيط- فى مرحلة نضج الكتابة التاريخية- لأوجه التشابه والتلاقى بين بعض الأشكال السردية والكتابة التاريخية، وأوجه الاختلاف والتمايز بينهما (28) .

إن التاريخ عند الطهطاوى ينقسم إلى أثرى وبشرى (فالأوّل ما كان من طريق الشرع

كالقصص الواردة في الكتب السماوية والثانى ما وقف عليه الناس من الوقائع والحوادث الحاصلة في الأعصر القديمة والحديثة فأرخوه) (29) .

وإذا كان التاريخ أحداثا ووقائع تنتمى إلى الماضى دائما أو إلى الحاضر أحيانا، فإن الكتابة التاريخية عند الطهطاوى تستهدف تحقيق مهمة مزدوجة، وتعود هذه الازدواجية إلى المتلقى الذى كان الطهطاوى يتوجه إليه؛ إذ كان بحكم موقعه الثقافى والطبقى وطبيعة المرحلة يتوجه بكثير من كتاباته إلى الحاكم من ناحية، وإلى عامة القراء- ولا سيما طلاب المدارس من أبناء النظام التعليمى الذى أنشأه محمد على ودعمه إسماعيل- من ناحية أخرى، فالطهطاوى يقرر أن (تعلم التاريخ أليق بأبناء الأمراء والسلاطين، إذ هو معرفة أحوال الأمم والدول والملوك الماضين، فتقف الملوك به على أحوال من مضى من الأنبياء والأصفياء وغيرهم من أرباب الرياسات والسياسات، ممن مرّ زمانهم وانقضى، فيعتبر القارئ لسيرتهم من تلك الأحوال، ويتحصل على ملكة التجارب من تعرفه تقلبات الزمان والانتقال، فيحترز عن تجرع غصص ما نقل عن المضار، وينتهز التمتاع بفرص ما قيل

ص: 32

من المنافع والمضار، فالتاريخ عمر ثان للناظرين، فمن تعلمه فكأنما زاد في عمره وأحسن عاقبة أمره) (30) .

إن كتابة التاريخ لدى الطهطاوى بمثابة (معاد معنوى لأنه يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت اثارهم وعفت)(31) . وليست هذه سوى عملية استحضار للماضى، بأحداثه وشخصياته إلى وعى المتلقى الذى يتوجه إليه الكاتب المؤرخ، وتنهض تلك العملية على مجموعة من الأشكال السردية المختلفة التى يشير الطهطاوى إلى عدد منها عرفه التراث العربى القديم كالخبر والقصة والسيرة، ثم المقامة التى جمعت بين التعليم والنقد الاجتماعى. بينما يبدو تناول الطهطاوى للأسطورة بوصفها- شكلا سرديا- نابعا من اتصال الطهطاوى بالأدب الفرنسى وجذوره اليونانية. ومن اللافت أن كل الأشكال السردية العربية التى تناولها الطهطاوى قد كانت لها فاعليتها في تبلور أشكال الرواية العربية في مرحلة نشأتها بصفة خاصة.

يبدو مصطلح الخبر أو الأخبار لدى الطهطاوى مقترنا بالتاريخ من حيث كون التاريخ نقلا أو تقديما للأخبار، ومن هنا يربط الطهطاوى بين التاريخ والأخبار من ناحية، والكتب السماوية- فى جانب من جوانبها السردية- من ناحية أخرى. إذ يؤكد أنه لمكان العناية به (أى بالتاريخ) لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتانا بأخباره المجملة ومنها ما أتانا بأخباره المفصلة) (32) .

ولعل تلك الأهمية التى نالتها الأخبار التاريخية هى التى جعلت الطهطاوى يرفض الأخبار التى أولع بها (الإخباريون والقصاص) من (الأقاويل غير المرضية) و (ما يظهر بعرضه على ميزان العقل أنه من محض الخرافات) أو من (الأباطيل والخزعبلات)(33) . ويمثل موقف الطهطاوى استمرارا لمواقف فئات مختلفة في المجتمع العربى الوسيط من نشاط القصاصين وحكاياتهم وأخبارهم (34) ، كما أنه يمثل دافعا من الدوافع المباشرة التى دفعته إلى تلخيص السيرة النبوية وتقديمها في شكل موجز.

ويتردد مصطلحا القصة والقصص في مقدمة ترجمة الطهطاوى لرواية" مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" وفي كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب

ص: 33

العصرية"، ومن اللافت أن الطهطاوى في مقدمة ترجمته تلك يمدح النبى" ص" بأنه (خير من اختص بالقصص والنبأ، وأنبأ عن قصة بلقيس وسبأ، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من أخبار العرب والعجم) (35) . ولقد قرن الطهطاوى رواية" تليماك" ببعض الأشكال السردية العربية الوسيطة، فتليماك- كما يراها الطهطاوى- موضوعة (على هيئة المقامات الحريرية في صورة مقالات) (36) ، كما أطلق الطهطاوى مصطلح" قصة" على بعض السير الشعبية العربية، ثم فضل رواية تليماك عليها وعلى بعض الأشكال السردية العربية الاخرى كألف ليلة وليلة؛ إذ يقرر (وأين منها (أى من تليماك) عند القوم ألف ليلة وليلة وألف يوم ويوم، وهل تقاس بها قصة ذى يزن أو عنتر، فكيف وموضوعهما أقطع أبتر، فقد اشتهرت هذه المقالات بين الملل والأمم اشتهار نار على علم وترجمت بفصاحتها الركبان في سائر الجهات لما اشتملت عليه من المعانى الحسنة مما هو نصايح للسلاطين والملوك وبها لسائر الناس تحسين السلوك تارة بالتصريح والتوضيح وأخرى بالرمز والتلويح) (37) .

ولما كان الطهطاوى بترجمته رواية" تليماك" يقدم نصّا يقوم على استلهام أصل أسطورى فقد توقف أمام مصطلحى الأسطورة والأساطير؛ إذ قدم- فى ديباجة ترجمته- تعريفا بتليماك وعرّف بأصله الأسطورى، ونصّ على أنه يستقى معلوماته من (كتب الخرافات اليونانية)(38) . وفي ضوء ذلك حاول أن يبرر ميلاد تليماك من مواقعة المشترى للكمينة زوجة انفتريون، وسعى إلى تقريب هذا إلى ذهن المتلقى العربى بتقديمه عدة أخبار من التراث العربى تتحدث عن زواج الأنس بالجان أو الأنس بالملائكة (39) . وفي هذا ما يشير إلى أن الطهطاوى قد أدرك أن الأسطورة شكل سردى يقوم على مجموعة من الأخبار التى تحوى أفعالا خارقة أو مجاوزة للمألوف، من ناحية، كما أنها- من ناحية ثانية- تجسيد لعقيدة جماعة معينة، ولكنها يمكن- من ناحية ثالثة- أن توظف لأهداف تعليمية أو أخلاقية.

وفي ضوء ذلك يتبدى وصفه للأدب اليونانى بأنه مبنى (على إفراط العبارة) فى الاعتماد على الأساطير مؤكدا أنه (لما كان الفرنج يحذون في ادابهم حذو اليونان اتخذوا الخرافات اليونانية قدوة في ذلك وألفوا فيها تاليف تسمى المثيولوجيا ووقائع تليماك مشحونة بهذه الأشياء)(40) .

ص: 34

ويتضمن تناول الطهطاوى للأسطورة ودورها في الأدبين اليونانى والفرنسى دلالات متعددة لعل أبرزها تأكيده على ضرورة التفريق بين الظاهر والباطن فيها (41) وهو تمييز قد يسهم في تأويل الرسالة الضمنية التى ينطوى عليها" نهاية الإيجاز" على نحو ما سيتضح في فقرات تالية.

ويمثل مصطلح المقامة واحدا من مصطلحات الأشكال السردية التى أشار إليها الطهطاوى، وتشير بعض سياقات استخدامه لديه إلى إطلاقه إياه على القصص الفرنسية (42) . وأما مصطلح سيرة فمن المؤكد أن الطهطاوى قد عرفه- منذ البداية إبان دراسته بالأزهر قبل سفره إلى باريس، ثم أتيح له في باريس أن يقرأ سيرا أوروبية متنوعة كسير فلاسفة اليونان وسيرة نابليون، وقد قرأها في إطار دراسته" النظامية" للتاريخ، واللافت أنه وصف مادة بعضها مستخدما بعض المصطلحات المستخدمة في السرد العربى الوسيط كالقصص والحكايات والنوادر (43) .

إن تحليل المصطلحات السردية التى استخدمها الطهطاوى يكشف عن أنه كان على دراية واسعة بكثير من الأشكال السردية العربية القديمة والوسيطة، كما أتيح له التعرف على عدد من الأشكال السردية الأوروبية القديمة والوسيطة والحديثة، ولما كانت معرفته بهذه الأشكال قد تمت في إطار تشكل معرفته بالتاريخ فقد كان ذلك دافعا له لأن يرى دور هذه الأشكال في تحقيق مهام تعليمية وتهذيبية يحققها التاريخ. كما قادته تلك المعرفة إلى الوعى بالأدوار التى يمكن أن يؤديها السرد في توصيل معارف مختلفة، ولهذا اعتمد عليه في عدد من مؤلفاته سواء التاريخية مثل" أنوار توفيق الجليل" أو التعليمية التوجيهية العامة مثل" المرشد الأمين" و" مناهج الألباب". وقد قاده ذلك الوعى إلى إعادة كتابة السيرة النبوية بوصفها نصّا سرديا، ولعله كان يدرك- على نحو ضمنى- أن مثل هذه الكتابة هى صورة من صور التجادل مع تقاليد راسخة تثبتت في كتابة السيرة النبوية لدى السابقين عليه، وإذا كانت كتابته تلك قد استندت إلى توجهاته الإصلاحية التى حكمت مجمل مؤلفاته، فإنها قد تأسست، من ناحية، على رؤيته التاريخية، بينما قامت، من ناحية أخرى ومن حيث هى إعادة تشكيل لتقاليد شكل سردى راسخ في الثقافة العربية الوسيطة، على أداة الذوق الذى رأى الطهطاوى أنه ملكة متجددة يتغير

ص: 35

دورها بتغير البيئة والأزمان ويرتقى مع تقدم العمران (44) . وفي هذا ما يؤسس للطرائق والتقنيات التى اعتمدها الطهطاوى في إعادة تشكيل كتابة السيرة النبوية ليواجه متطلبات جديدة طرحها واقع جديد.

(5)

تتصل كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بتقاليد كتابة السيرة النبوية في التراث العربى السابق عليه، كما ترتبط بطرائق الكتابة والتشكيل في الرواية التاريخية والرواية التعليمية المعاصرتين له. وتتكشف تلك الصلات- أكثر ما تتكشف- فى التشكيل السردى الذى صاغ فيه الطهطاوى كتابته، ويقوم على ذلك التشكيل على عدة عناصر هى: تنظيم الواحدات السردية الكبرى، والاعتماد على تقنية الإيجاز والحذف، والركون إلى تقنية الاستطراد، ثم توظيف الشعر داخل الكتابة السردية.

وبقدر ما تمارس تقنيتا الإيجاز والحذف والاستطراد تأثيرات متعددة في إطار الواحدات السردية (الكبرى والوسطى والصغرى) فى سيرة الطهطاوى فإن أدوارهما في تشكيل.

الواحدات الوسطى تحمل دلالات واضحة على المنحى التجديدى في كتابة الطهطاوى للسيرة النبوية، ومن هنا ضرورة التوقف أمام نموذج من نماذج تشكل الواحدات الوسطى.

وبقدر ما تمثل العناصر السابقة متن السيرة النبوية عند الطهطاوى فإنها تكشف عن كون الطهطاوى نموذجا لذلك الراوى المفارق لمرويه.

(1/ 5) تنتظم السيرة النبوية لدى الطهطاوى في ست واحدات سردية كبرى، هى على تتابعها: المولد، والمبعث، والهجرة، وظواهر ما بعد الهجرة، ثم وفاة النبى (ص) وذكر بعض أخلاقه وصفاته ومعجزاته وأزواجه وأعمامه وعماته وأخواله ومواليه وخدمه وحشمه، ثم الوظائف والعمالات البلدية.

ص: 36

ومن البين أن الواحدات الأربع الأولى- بالإضافة إلى نقطة الوفاة في بداية الواحدة الخامسة- قد رتبت على أساس زمنى قائم على التوالى التاريخى. وتشكل العلاقة بين هذه الواحدات نمطا من أنماط البنية المركبة التى تقوم على منطق النظم أو التنضيد- عند شلوفسكى- حيث تتتابع مجموعة من القصص القصيرة يغلب أن تكون واحدات سردية (مستقلة كل واحدة عن الاخرى، لكن تصل فيما بينها شخصية مشتركة)(45) ، ويؤدى تعاقبها في نص واحد إلى إنشاء (واحدة جديدة لها بنية مخصوصة، ولعل أظهر ما تتجلى فيه هذه البنية القصص التاريخية أو قصص السيرة)(46) . وتشكل تلك الواحدات الهيكل الأساسى لمتن السيرة النبوية، ومن اللافت تأمل العلاقات التى ينشئوها نص الطهطاوى مع الكتابات السابقة عليه؛ فهو من ناحية يتابع كتّاب نمط السيرة المختصرة- كابن عبد البر وابن حزم- الذين قصروا متن السيرة على متابعة حياة النبى (ص) من ميلاده إلى وفاته. بينما يبدو- من ناحية ثانية- معدّلا في بعض التقاليد السائدة لدى كتاب النمط المطول والنمط المشروح؛ فإذا كانت سيرة ابن هشام تنتهى بوفاة النبى (ص) فإنها قد توقفت عند القصائد التى قيلت في رثائه، بينما وضع ابن سيد الناس- قبل تقديمه واحدة الوفاة- أخبارا مختلفة عن الجوانب الاجتماعية والأسرية للنبى كأولاده وأعمامه وأزواجه وأسرته ومواليه وكتابه وحراسه وجمل من صفاته وغيرها (47) ، وهذه هى نفسها الواحدات الصغرى التى ساقها الطهطاوى بعد ذكره الوفاة. ومن اللافت أن المنطق الكامن خلف ذلك التنظيم الذى قدمه الطهطاوى يبدو متصلا- بقوة- ببعض السير الغيرية التراثية، كما يرتبط أيضا بنظام الترجمة في بعض كتب التراجم العربية ككتاب الأغانى؛ فسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى (ت 597 هـ) تقوم على سرده وقائع حياته من مولده إلى توليه الخلافة عبر تتابع زمنى محكم، ثم تلجأ إلى السرد القائم على الموازاة بين عرض سلوكه وتصرفاته من ناحية وصفاته وسماته من ناحية أخرى، مما يخرق الترتيب الزمنى لسرد الوقائع الذى تجلى في الواحدات الأولى. ولا تمثل حادثة مقتل عمر نهاية السيرة إذ تتلوها مجموعة من الواحدات التى يقدم فيها المؤلف عددا من الواحدات أو الموضوعات المتصلة بعمر كبعض صفاته، وبكاء الناس عليه، والمنامات التى راها أو التى رؤى فيها، وذكر ثناء الناس عليه (48) .

ص: 37

ورغم أن نظام الترجمة في كتاب الأغانى يقوم على الابتداء بنسب المترجم له والانتهاء بوفاته، فإن بعض التراجم كانت تنتهى بأخبار تتصل بالمترجم له بعد وفاته (49) .

وإذا كانت الواحدة السادسة التى قدم فيها الطهطاوى الوظائف والعمالات البلدية قد مثلت لدى دارسى كتاباته التاريخية دالا من دوال تجديده (50) فإنها- من حيث علاقتها بواحدات السيرة- تبدو متصلة بها في اعتمادها على تقديم كم كبير من المرويات السردية المختلفة، بينما تبدو- فى الان نفسه- منفصلة عن متن السيرة؛ إذ تبدو عرضا لجوانب اجتماعية وسياسية تنظيمية يستعين ببعض العناصر السردية كالأخبار والحكايات، كما تبدو إيجازا لكتاب الخزاعى (ت 789 هـ)" تحرير الدلالات السمعية"(51) . وقد صرح الطهطاوى بأن إضافته تلك الواحدة إلى السيرة تمثل نمطا من أنماط التجديد في كتابتها (52) ، ولعل هذه الإضافة دال يشير إلى أن كتابة الطهطاوى السيرة لم تقف فقط عند حد التغيير في تقاليد كتابة السيرة النبوية، بل جمعت إليها لونا من النصوص المقالية- الاجتماعية والسياسية- التى قد تنهض- بدورها- دالا على تغير ما في توجهات الطهطاوى الفكرية في أخريات حياته.

وتختلف أطوال الواحدات السردية الكبرى في سيرة الطهطاوى نتيجة عاملين يتمثل أولهما في حجم العناصر السردية وغير السردية التى يعتمد عليها الطهطاوى، وتبدو الواحدة الرابعة، وهى الخاصة بظواهر ما بعد الهجرة، أطول هذه الواحدات، ولذا قسمها الطهطاوى إلى واحدات أصغر حيث جعل من أحداث كل عام وما فيه من غزوات واحدة واحدة. على حين يتمثل ثانيهما في بروز تقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد حيث تبدو فاعلية كل منهما سببا من أسباب تحديد حجم الواحدة السردية، من ناحية، ودالا- من ناحية أخرى- على أهمية هذه الواحدة أو تلك في متن الطهطاوى.

ص: 38

(2/ 5)

مارست تقنية الحذف والإيجاز تأثيرات متعددة في تشكيل الطهطاوى لمادة سيرته، ويعد إدخال كلمة الإيجاز في العنوان" نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" دالا أوليا على تلك التأثيرات. وتبدو فاعلية هذه التقنية بعنصريها- الحذف والإيجاز- جلية في حذف الطهطاوى للواحدة السردية الكبرى الأولى في سيرة ابن هشام وهى واحدة المبتدأ، واستعاضته عنها بتقديم بعض الجوانب الأساسية في حياة العرب في الجاهلية وانتهائه إلى الحديث عن الإرهاصات الداخلية والخارجية بمولد النبى (ص) ، وذلك في الجزء الأوّل من" أنوار توفيق الجليل"(53) ، واللافت هنا أن الطهطاوى قد قدم نبوءة سيف بن ذى يزن بمولد النبى (ص) ، وذلك في لقائه بعبد المطلب، وهذا ما يتناقص مع ما يبدو من ميل الطهطاوى إلى تجاهل كثير من الرؤى والنبوات التى اعتمدت عليها كثير من نصوص السير السابقة، على نحو ما يظهر، على سبيل المثال، فى سرده وقائع غزوة بدر.

وبقدر ما كان الحذف دالا على مسعى الطهطاوى إلى استبعاد عناصر متعددة من متن السيرة السابقة عليه فإن الطهطاوى كان يعمد إلى الاتكاء على عنصر الإيجاز حيث كان يقدم بإيجاز شديد الدلالة الأساسية التى تشير إليها تلك الواحدة المحذوفة؛ فإذا كانت سيرة ابن هشام قد أفاضت في تقديم أخبار العرب قبل ميلاد الرسول ولذلك لتمجد شخصية الرسول (ص) بوصفه المثل الأعلى للبطولة العربية (54) فإن الطهطاوى قد

حذف تلك الواحدة، وقدم في، إطار تناوله للإرهاصات بمولد النبى" ص"، تفسيرا سياسيا يثبت حاجة الجماعة العربية إلى رسالته.

وإذا كان الطهطاوى قد بدأ سيرته بمولد النبى" ص" فإنه قدم نسبه بإيجاز مقارنة بسيرة ابن هشام (55) ، ومتفقا في هذا مع كتّاب النمط المختصر للسيرة كابن عبد البر وابن حزم.

وتبدو تقنية الحذف والإيجاز بارزة في حذف الطهطاوى لمعظم أسانيد المرويات المختلفة من أخبار وأحاديث وحكايات واكتفائه دائما بالراوى الأوّل أو الأصلى لكل منها. ويلتقى الطهطاوى في ذلك مع كتّاب النمط المختصر من السيرة، كما يلتقى

ص: 39

مع كتب المختصرات في التراث السردى العربى الوسيط (56) . وتبرز تقنية الحذف فى استبعاد الطهطاوى لكثير من الأشعار- مقطوعات كانت أم قصائد- التى قدمها ابن هشام وغيره من كتاب النمط المطول من السيرة كابن سيد الناس، دون أن يمنعه هذا من توظيف الشعر وظائف مختلفة في سيرته.

ويبدو أن تلك التقنية كانت تمارس فاعليتها في كتابة الطهطاوى اعتمادا على عنصر الحذف في عدد من المواضع التى كانت كتابات السيرة السابقة تستخدم فيها عناصر تشويق تدفع المتلقى إلى متابعة السرد؛ ففى سرده أخبار حفر عبد المطلب بئر زمزم حذف كل المرويات التى قدمتها السير السابقة، والتى جعلت من ذلك الفعل استجابة لرؤيا راها عبد المطلب (57) . كما تجلى النمط نفسه في حذفه لعدد من النبوات المرتبطة بوقائع غزوة بدر (وهذا ما سيتضح تفصيلا في فقرة تالية) .

وإذا كان ارتكان الطهطاوى إلى تقنية الحذف والإيجاز يقرنه بطرائق كتابة الرواية التاريخية في مرحلته التاريخية- الأدبية فإن حضور تلك التقنية في كتابة الطهطاوى إنما كان يقترن بتغييبه تقنية الاستطراد، بينما يمثل حضور تقنية الاستطراد دالا على فعالياتها المختلفة عن فاعلية تقنية الحذف والإيجاز.

(3/ 5) الاستطراد تقنية سردية محورية اعتمد عليها الطهطاوى في تشكيله لمتن السيرة النبوية، وتقوم تلك التقنية على تطرق الطهطاوى- والذى يمثل نمط الراوى المفارق لمرويه- إلى بعض الجوانب الفرعية التى تتصل بالوقائع أو الشخصيات أو المواقف التى يدور حولها السرد. ويقوم الاستطراد على تصور الراوى وجود صلة بين ما يحكيه وما يستطرد إليه، دون أن يتطلب السياق السردى الاتكاء على هذه الصلة فى الموضع الذى يبرز فيه الاستطراد. وتبدو الصلة واضحة بين هذه التقنية لدى الطهطاوى ومفهومها الذى استقر لدى كثير من النقاد والبلاغيين العرب؛ إذ تحدد الاستطراد لديهم بأنه (أن يأخذ المتكلم في معنى فبينا يمر فيه يأخذ في معنى اخر وقد جعل الأوّل سببا فيه)(58) مما يشير إلى أن الصلة الفكرية أو الشعورية بين المعنيين- والتى قد ترتد إلى التقاليد الجمالية والثقافية أو إلى إرادة المتكلم- هى

ص: 40

دافع المتكلم إلى الاستطراد. ولعل أهمية المعنى الأوّل الذى يحدث عنده أو منه الاستطراد هى التى دفعت بعض البلاغيين العرب القدامى إلى اشتراط أن يعود إليه المتكلم مرة أخرى بعد انتهاء استطراده (59) .

وبقدر ما يمثل الاستطراد في متن الطهطاوى صورة من صور إيقاف السرد مما ينتج وقفات سردية كثيرة، فإنه دال يشير إلى الغايات الدفاعية والتعليمية التى أراد الطهطاوى تحقيقها لدى من توجه إليهم بمتن سيرته.

وهناك نمطان من تقنية الاستطراد بارزان في سيرة الطهطاوى، ورغم أن ما يجمعهما هو الهدف التعليمى" العام" فإن ثانيهما يبدو فيه ذلك الهدف أكثر مباشرة، ولهذا يمكن وصفه بأنه استطراد تعليمى مباشر، بينما يمكن وصف أولهما بأنه استطراد سردى.

ويتمثل نمط الاستطراد السردى في جنوح الطهطاوى الراوى إلى تقديم عدة أخبار أو وقائع تصور بعض سمات الشخصية التى يدور حولها السرد أو تقديم جزء من" تاريخ" الشخصية التى تسهم في الحدث. وتكشف معاينة السياقات التى برز فيها هذا النمط أن المنطق الكامن وراءه يتمثل- دائما- فى علاقات النسب أو الاتصال التى تربط بين الشخصيات التى يسرد الراوى عنها. وثمة نموذج دال على بروز هذه التقنية يتمثل في سرد الطهطاوى لواقعة زواج النبى (ص) من السيدة خديجة (60) حيث يقوم نمط هذه التقنية على قطع الخيط الأساسى لزمن الوقائع، والانتقال منه إلى زمن اخر أسبق تاريخيا، يضم وقائع أخرى ترتبط بالشخصية التى يدور حولها السرد؛ فإذا كان زمن واقعة الزواج ينتمى إلى ما قبل المبعث فإن بعض الوقائع التى يقدمها الطهطاوى تنتمى إلى الزمن نفسه، وبذلك يتحقق قدر من الاتساق في المسار الزمنى للوقائع المقدمة، بينما تنتمى وقائع أخرى إلى مرحلة ما بعد المبعث وبذلك تمثل- بمعنى أو باخر- استكمالا لبعض الجوانب التى تكمل صورة الشخصية التى يدور حولها السرد (أى شخصية السيدة خديجة) ، بينما يقوم السرد على نوع من الانتقال" الحر" بين المراحل الزمنية للوقائع المقدمة....

وتبرز فاعلية هذا النمط الاستطرادى في سرد تلك الواقعة على النحو التالى:

يأخذ الطهطاوى في سرد حادثة زواج النبى (ص) بالسيدة خديجة (65- 66) ،

ص: 41

ثم في تقديم بعض الأخبار عن أولاده منها؛ فيشير بإيجاز إلى أبى القاسم (66- 67) ، ثم يتوقف عند زينب وزواجها بالعاص (67- 69) ، حيث يبدو ما يقدم عن العاص أكثر بكثير مما يقدم عن زينب، ثم يتحدث عن رقية (69) ، ثم عن أم كلثوم (69) ، ثم عن فاطمة (70) . وحينئذ تبرز تقنية السرد التعليمى الخالص التى يستخدمها الطهطاوى في تناول مسألة فضائل أهل البيت معتمدا على حشد تفسير بعض الايات القرانية، والاستشهاد ببعض الأحاديث النبوية، مضيفا إليهما شواهد شعرية مختلفة (ص- ص 70- 74) . واللافت أن الاستطرادين السردى والتعليمى يتماثلان في الطول

ثم يعود الطهطاوى إلى سرد موجز عن بنات فاطمة (زينب وأم كلثوم ورقية)(ص 75) ، وينتقل منه إلى سرد وفاة السيدة خديجة وتقديم جوانب من حياتها قبل زواجها بالنبى (ص)(78- 79) ، ثم يتوقف مستطردا أمام مقولة بعض الصوفية عن أن (أربعة من النساء أنجبن أربعا من الأنبياء عليهم السلام فوجدن بذلك المغفرة)(ص 80) .

ويتكرر هذا النمط الاستطرادى في تقديم الطهطاوى لعدد من الشخصيات منها: عبد المطلب، وفاطمة الزهراء، ثم حليمة السعدية التى يبدو أن تقنية الاستطراد السردى تتحول- عند تقديمها- إلى استطراد عكسى؛ إذ يبدأ الطهطاوى بتقديم بعض جوانب حياتها وسلوكها بعد الإسلام، ويتبع ذلك بتلخيص القصة المتواترة عن إرضاعها النبى (ص)(61) .

إن ذلك النمط السردى يقوم، دائما، على تغييب زمن الوقائع المسرودة عن طريق تحرير الراوى من الالتزام بتنسيقها وضبطها في مسار زمنى قائم على تتابعها في زمن

الحدوث. ومن اللافت أن ذلك التغييب الزمنى يبدو ظاهرة بارزة في كثير من كتب التراجم والطبقات في التراث السردى العربى (62) ، وكذلك في عدد من السير الغيرية التراثية كسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ت 214 هـ) ؛ فبعد أن ضبط ابن عبد الحكم وقائع حياة عمر من بدايتها إلى توليه الخلافة أخذ يقدم العناصر السردية- كالأخبار والحكايات والقصص- وغير السردية- كالمواعظ والرسائل- دون حرص على ترتيبها أو العمل على إبراز الترابط الزمنى فيها (63) .

ص: 42

ولعل هذا ما يشير إلى قوة تأثير التراث السردى العربى في تقنيات كتابة الطهطاوى السيرة النبوية.

وتمثل تقنية الاستطراد التعليمى المباشر تقنية متواترة بكثرة وفي مواضع مختلفة من نص الطهطاوى (64) ، وبقدر ما يمثل بروزها لديه تجديدا في نمط كتابة السيرة الموجزة أو المختصرة؛ إذ لم يلجأ إليه ابن عبد البر أو ابن حزم، فإن استخدامها يشير إلى متابعة الطهطاوى ما استقر في متون شرح السيرة النبوية من العروج إلى قضايا ومسائل دينية وأخلاقية وكلامية وتاريخية ولغوية وأدبية مختلفة يرى الشارح أنها ذات صلة بوقائع السيرة النبوية.

ويختلف نمط هذه التقنية عن نمط تقنية الاستطراد السردى في كون الاستطراد السردى غالبا ما كان يقوم على صياغة الطهطاوى الوقائع بلغته هو (وإن استعان أيضا بالايات القرانية والأحاديث النبوية) ، بينما غلب على الاستطراد التعليمى المباشر أن يكون نقلا أو تلخيصا لمرويات وكتابات من مصادر سابقة على الطهطاوى، كان الطهطاوى يتصور أن ما قدمته مفيد للمتلقى الذى يتوجه إليه.

وتتسم بعض نماذج هذه الاستطرادات بالطول حتّى أن الواحد منها قد يستغرق فصلا كاملا أو ما يقل عنه بقليل، على نحو ما يبدو في الاستطراد الخاص بمسألة الاحتفال بالمولد النبوى الذى يتمثل في مجموعة من النصوص المنقولة عن مصادر فقهية وتشريعية وغيرها (65) . ومن اللافت أن ذلك النموذج يمثل قطعا ممتدا ومطولا في مسار الوقائع التى يقدمها الراوى، كما يغيب فترة من حياة النبى (ص) ؛ إذ انتهى الطهطاوى في

الفقرة السابقة عليه إلى قص وقائع حياة النبى حتّى بلوغه السادسة، بينما استأنف السرد- فى نهاية هذا الاستطراد- وقد صار عمر النبى (ص) ثلاثة عشرة عاما. وبذلك أدى الاستطراد إلى قطع يتمثل في إسقاط أخبار ووقائع عدة سنوات من طفولة النبى (ص) .

وقد تكررت الظاهرة نفسها في سرد الطهطاوى لوقائع الهجرة إلى الحبشة (66) .

وتشكل الاستطرادات المختلفة الناتجة عن حادثة الإسراء والمعراج نموذجا اخر دالا

ص: 43

على مهام تقنية الاستطراد التعليمى المباشر لدى الطهطاوى؛ فبينما لا يحتل سرد الطهطاوى لوقائع الإسراء والمعراج سوى مساحة محدودة تزيد قليلا عن الصفحة، ملتقيا في هذا مع ابن عبد البر وابن حزم (67) - فإنه يجنح إلى استطرادات مختلفة معظمها يدور حول مسائل كلامية ناتجة عن الإسراء والمعراج (68) وهى تمضى على النحو التالى:

مسألة شق الصدر (125) ، ماء زمزم وأفضليته (126- 127) ، ضرورة الامتثال للأفعال التى أمرنا الله بها (129)، كيفية الإسراء: هل كان بالروح والجسد أم بالروح فقط (130- 132) رؤية النبى (ص) لله (132- 140) ، ثم مسألة رؤية المؤمنين النبى في الدنيا وفي المنام (141- 144) ، ويتناول أخيرا مسألة المفاضلة بين الليل والنهار (144- 148) ، وليس غريبا أن تكون تلك المفاضلة قد نتجت عن كون الإسراء ليلا.

ومن اللافت أن هذا النمط من الاستطراد قد تحول لدى الطهطاوى إلى وسيلة تجعل من بنية بعض الواحدات السردية الكبرى بنية قائمة على سرد وقائع هذه الواحدة، من ناحية، وتقديم استطرادات تعليمية تمثل قطعا متكررا لمسار تلك الوقائع، من ناحية أخرى. ويشكل سرد الطهطاوى لواحدة الهجرة نموذجا دالا على ذلك، حيث يراوح الطهطاوى بين قص الوقائع، وتقديم استطرادات تعليمية مباشرة يتصف معظمها بالطول (69) .

ويبدو الاستطراد بنمطيه تقنية راسخة في بعض كتابات الطهطاوى غير الأدبية (70) ، واللافت أن الطهطاوى كان يدرك أن الاستطراد خصيصة متواترة في كتاباته التاريخية والأدبية، وكان يبرر اعتماده عليه بالغاية التعليمية التى تهدف إلى تبصير المتلقى؛ إذ يصف كتابه" أنوار توفيق الجليل" بأنه (اشتمل على ذكر الحنفاء والخلفاء والعلماء

والسلاطين والأساطين والأمراء والوزراء، وجميع ما اقتضاه فن الاستطراد، وأوجبته المناسبة وحكم به الأسلوب الحكيم لبيان المرام والمراد) (71) . كما نص الطهطاوى- فى سرده لوقائع غزوة بدر- على بعض استطراداته.

إن بروز الاستطراد تقنية أساسية في كتابة الطهطاوى السيرة النبوية دال يقرن

ص: 44

كتابته بتقاليد كتابة الرواية التعليمية والتاريخية (1870- 1914) حيث اعتمد كتابها دائما على تلك التقنية لتحقيق غايات تعليمية وإصلاحية تشبه غايات الطهطاوى.

(4/ 5) أصلت كتابات السيرة النبوية السابقة على الطهطاوى ثلاثة تقاليد تتصل بتوظيف الشعر في إطار سرد السيرة، يتمثل أولها في الإكثار من تقديم الأشعار- مقطوعات كانت أم قصائد- فى إطار السرد، وهذا ما يتجلى لدى كتاب النمط المطول كابن هشام والواقدى؛ إذ اعتادوا تقديم كثير من المقطوعات الشعرية التى قالتها بعض الشخصيات المساهمة في الوقائع المسرودة، مما جعل منها وسيلة لاستكمال بعض جوانب هذه الوقائع أو تأكيد أو تدعيم جانب أو أكثر من جوانبها. بينما انفرد ابن هشام بتقديم عدد كبير من القصائد والمقطوعات التى قيلت في غزوات النبى (ص) بصفة خاصة، وكان يوردها بعد انتهائه من سرد الوقائع، وقد تابعه في ذلك ابن سيد الناس (72) .

ويتمثل ثانى هذه التقاليد في تحجيم دور الشعر في سياقات سرد السيرة النبوية، ويبرز هذا التقليد لدى ابن عبد البر حيث اكتفى بإيراد اثنى عشر شاهدا شعريا يتراوح الواحد منها من بيت إلى سبعة أبيات، وقد وردت هذه الشواهد في سياق سرده للوقائع، ومعظمها منسوبة إلى شخصيات مشاركة في الوقائع مما يجعلها جزا من تلك الوقائع (73) . بينما يتمثل التقليد الثالث في الاستبعاد التام للشعر من دائرة سرد السيرة النبوية، ويبرز هذا التقليد لدى ابن حزم؛ إذ تخلو" جوامع السيرة" من الأشعار تماما وتقتصر على تقديم الأخبار والوقائع.

ولقد كانت تلك التقاليد ماثلة أمام الطهطاوى والذى اختار متابعة التقليد السائد الذى يقرن السرد بالشعر، فاعتمد في صياغته السيرة على نماذج كثيرة من الأشعار،

وندر أن يسرد وقائع دون أن يورد فيها أشعارا (74) ، ومع هذا فقد أبقى الطهطاوى قليلا من الأشعار التى وردت في سيرة ابن هشام، وأضاف إليها نماذج

ص: 45

كثيرة نقلها عن التالين لابن هشام، وغلب على الأشعار عنده أن تكون مقطوعات أو قصائد قصيرة، بينما ندرت لديه القصائد الطويلة (75) كما ندر تقديمه لأشعار من تأليفه هو (76) .

وقد تنوعت وظائف الشعر في سرد الطهطاوى تبعا لاختلافات السياقات التى وردت فيها نماذجه؛ ففى بعض السياقات يبدو الشعر جزا متمما للواقعة التى يرويها الطهطاوى أو ينقلها عن السابقين، كما يبدو في الأبيات المنسوبة إلى أبى طالب عند موته، أو المقطوعة التى قيلت في غزوة بدر (77) . على حين يتحول الشعر- فى سياقات أخرى- إلى وسيلة لإثبات الفكرة التى يقدمها، أو بالأحرى، يناقشها الطهطاوى؛ فحين يشير إلى الخلاف حول إيمان عبد المطلب، ويرجح القول بأنه من أهل الفترة ينقل مقطوعة شعرية من خمسة أبيات تعبر عن الرأى الذى يتبناه هو (78) .

ويجعل من المقطوعات الشعرية أحيانا وسيلة لشرح الفكرة؛ إذ يقدم فكرة ما فى السرد أو الوصف أولا، ثم يجعل من الشعر سبيلا لصياغة الفكرة وشرحها، على نحو ما يبرز في الشاهد التالى: (هل يجوز أن يكنى غيره صلى الله عليه وسلم بأبى القاسم أو لا؟ خلاف، وإليه أشار بعضهم بقوله:

فالشافعى مطلقا لها منع فى كنية بقاسم خلف وقع على الحياة، والنواوى جعل ومالك جوز، والنهى حمل يمنع من سمى محمدا، فعى) (79) هذا هو الأقرب، أما الرافعى

وتشير النماذج السابقة إلى أن بعض الأشعار التى قدمها الطهطاوى كانت تمثل إضافات إلى المتن السردى الذى صاغه، أو وسيلة لتقديم صياغة شعرية لبعض الأفكار التى ناقشها. غير أن توظيف الشعر، فى سياقات أخرى لدى الطهطاوى، يكشف عن تلك العلاقة الوثيقة التى ربطته بتقنية الاستطراد والتى هيمنت على كثير من المواضع السردية. إذ قد يجعل من الشعر- فى عدد من المواضع- وسيلة

ص: 46

لتقديم صياغة شعرية للفكرة التى قدمها في السرد (80) ، وإذا كانت الفكرة- بهذه الطريقة- تصاغ سردا وشعرا فإن النماذج الشعرية تنتمى إلى دائرة الشعر التعليمى الذى يقدم نظما لأفكار أو وقائع ليسهل حفظها وتردادها.

ويبدو الشعر، فى مواضع أخرى، وسيلة لنظم الوقائع التى قدمها الطهطاوى سردا؛ فبعد أن سرد وقائع حياة النبى منذ مولده إلى كفالة عبد المطلب له، ثم وفاة عبد المطلب، قدم خمسة عشر بيتا للحافظ العراقى نظم فيها هذه الوقائع ذاتها (81) .

وقد يجعل من الشعر وسيلة لتحقيق الاستطراد؛ فحين يشير إلى قصيدة أبى طالب في مدح النبى (ص) يذكر أنها تزيد على ثمانين بيتا، ويشير إلى أن ابن إسحاق ذكرها، ثم ينقل منها بيتا واحدا فقط، هو:

وشق له اسمه ليجلهفذو العرش محمود وهذا محمد ثم يقول (وحسان بن ثابت ضمن شعره هذا البيت) ويأتى بمقطوعة له من ستة أبيات فيها البيت المضمن (82) .

واللافت أن الشعر، لدى الطهطاوى، قد يكون وسيلة لتحقيق استطراد داخل الاستطراد؛ ففى بعض أنماط الاستطراد التعليمى المباشر يستطرد الطهطاوى من السرد أو الوصف إلى الشعر، ففى نهاية استطراده إلى مسألة المولد النبوى والاحتفال به يستطرد مرة أخرى إلى ذكر همزية عبد العزيز الزمزى، ومطلعها:

أثغور منها الصباح أضاء أم بروق على النقا تتراءى ويستغرق هذا الاستطراد الشعرى سبع صفحات إلا قليلا (83) . كما يتكرر الاستطراد الشعرى داخل الاستطراد النثرى في مسألة المفاضلة بين الليل والنهار (84) .

إن توظيف الشعر داخل متن سيرة الطهطاوى سواء لاستكمال بعض الوقائع، أو لإعادة صياغتها، أو لتحقيق صورة من صور الاستطراد يقرب كتابته من تقاليد استخدام الشعر لدى كتاب الرواية التاريخية والتعليمية (1870- 1914) الذين أكثروا من استخدام الشعر لتحقيق وظائف تتلاقى مع وظائفه في متن سيرة الطهطاوى (85) .

ص: 47

(5/ 5)

تمثل صياغة الغزوات الكبرى- كبدر وأحد والخندق- دوال بارزة على الطرائق التى اعتمدها الطهطاوى في تشكيل الغزوة بوصفها واحدة سردية وسطى، وتتبدى فيها الفعاليات المختلفة لتقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد وتوظيف الشعر في إطار السرد، كما تبرز فيها الطريقة التى يعتمدها الكاتب الراوى لتنظيم الوقائع التى يقدمها، وهى طريقة تتضمن دلالات متعددة، وستكشف دراسة الواحدة السردية الوسطى عن هذه الجوانب جميعا، وذلك ما سيتحقق عبر المقارنة بين نص الطهطاوى ونصوص السابقين عليه من كتاب السيرة النبوية.

وردت وقائع غزوة بدر عند كتاب السيرة المطولة كابن هشام، وكتاب المغازى كالواقدى، وكتاب النمط المشروح كابن سيد الناس، كما وردت لدى كتاب النمط المختصر كابن عبد البر وابن حزم، بينما وضعها الطهطاوى في إطار ظواهر السنة الثالثة للهجرة (86) ورغم ما يشير إليه ذلك من جعلها تابعة للإطار الزمنى المتمثل فى إفراد الحوادث وضمها إلى سنوات حدوثها، فإن ذلك لا ينفى أهمية هذه الواحدة فى إطار ذلك التقسيم الزمنى.

إن كل كاتب من أولئك الكتاب يمكن وصفه بأنه الراوى الأساسى لأنه هو الذى يقوم باختيار الوقائع، واستبعاد بعضها، وإيجاز بعضها الاخر، ثم يقوم- فى النهاية- بعملية تنظيم المرويات المختلفة، وإن اختلفت- بطبيعة الحال- ماهية هذه العمليات لدى كل واحد من هؤلاء الرواة.

ويبدو لدى كتاب النمط المطول اهتمام واضح بتقديم سلاسل الأسانيد التى نقلت المرويات، فالواقدى ساق، فى بداية كتابه، أسماء الرواة الذين نقل عنهم مغازيه قائلا إن كلّا منهم (قد حدثنى بطائفة، وبعضهم أوعى لحديثه من بعض، وغيرهم قد حدثنى أيضا فكتبت كل الذى حدثونى)(87) . ولذا بدأت معظم مروياته بعبارة" قالوا" إشارة إلى أن مضمونها أو متنها منقول عن هؤلاء الرواة أو معظمهم، بينما كان يتوقف في بداية خبر من الأخبار المفردة- التى تقدم جانبا مختلفا أو متناقضا مع الأخبار المنقولة عن مجموعة الرواة الذين نقل عنهم- ليقدم سلسلة الرواة الذين نقلوا هذا الخبر. على حين تبدو الأخبار عند ابن هشام متتابعة

ص: 48

ومسندة إلى رواتها، وتقدم الأخبار متوالية حتّى حين تتضمن معلومات متشابهة أو قريبة من التكرار. أما عند ابن سيد الناس فرغم اعتماده على مرويات ابن إسحاق فإنه قد أضاف إليها مرويات أخرى عن رواة اخرين أهمهم ابن عقبة، وهو يهتم بها حين تقدم إضافات أو تصحيحات لمرويات ابن إسحاق، وذلك ما يمكن وصفه بأنه عملية تقوم على الية التدقيق (88) . ولما كانت مرويات ابن إسحاق تشكل الخيط السردى الأساسى الذى يتابعه ابن سيد الناس فإنه كان حريصا دائما على استخدام عدد من التعبيرات والصيغ التى تشير إلى عودته إلى ذلك الخيط السردى الأساسى، مثل:" رجع إلى خبر ابن إسحاق" و" رجع إلى الخبر عن ابن إسحاق" و" رجع إلى خبر الأوّل" أى ابن إسحاق.

أما كتاب النمط المختصر كابن عبد البر وابن حزم والطهطاوى فقد كانوا يختارون بعض المرويات ليشكلوا منها واحداتهم السردية، وقليلا ما كانوا يقدمون سلسلة أسانيد هذه المرويات، كما كانوا يميلون إلى الاكتفاء بالراوى الأوّل للخبر.

وقبل سرد الوقائع حرص هؤلاء الرواة جميعا على تقليد يتمثل في تقديم مجموعة من الأوصاف التى حملتها هذه الغزوة أو تلك؛ فغزوة بدر هى" بدر الكبرى" و" بدر القتال"، ورغم" بساطة" هذا التقليد فإنه يكشف عن وظيفة من وظائف الراوى المفارق لمرويه حيث يسعى إلى تحديد الأهمية الاعتبارية للأبطال أو لبعض الوقائع (89) .

ويمثل تقديم البداية الزمنية للوقائع نقطة مشتركة عند أولئك الرواة جميعا، فكل منهم جعل من علم النبى (ص) بأمر قافلة قريش وإرساله اثنين من المسلمين لتحسس أخبارها نقطة منشأ الوقائع، وإن اختلفت الكيفية التى قدمت بها نقطة البداية تلك؛ فبينما يشير ابن هشام إلى معرفة أبى سفيان قائد قافلة قريش بتصرف النبى (ص) ، فإن الواقدى يؤجل هذه الواقعة، ويأخذ في سرد تحرك المسلمين والنبى (ص) وانتقالهم من المدينة إلى بدر، ويحدد مختلف الأماكن التى مروا بها، ويتشابه ابن حزم معه في ذلك (90) ، وهذا ما يشير إلى ملمح متكرر لدى بعض رواة السيرة من حرص على تتبع الانتقالات المكانية المفصلة للوقائع، بينما

ص: 49

أعمل الطهطاوى تقنية الحذف؛ إذ لم يشر إلى الأماكن التى انتقل عبرها جيش النبى (ص) إلا مرة واحدة فقط (91) .

وتبدو البنية السردية لنقطة البداية" السابقة" عند الواقدى قائمة على توالى الأخبار، ويشير الواقدى، دائما، إلى الأيام التى وقعت فيها الانتقالات المكانية، كما يقدم تفصيلات لبعض الجوانب الثانوية (92) .

وتمثل رؤيا عائشة بنت عبد المطلب النقطة المحورية التالية في تحريك الوقائع وتوجيهها، وهى تقدم نبوءة ضمنية أولية بخسائر قريش. ويبدو حرص الواقدى وابن هشام على تقديم هذه الرؤيا مفصلة (93) ولكن الواقدى قدم، بعدها، بعض التفصيلات التى تصور جانبا من جوانب الصراع بين بنى هاشم وبنى أمية، كما قدم الواقدى عدة أخبار منسوبة إلى شخصيات قرشية مختلفة، يمثل كل خبر منها نبوءة بمصير قريش أو بعض رجالها، وأفاد الواقدى من هذه النبوات في تصوير دعوة بعض القرشيين إلى عدم الخروج لقتال محمد (ص) كما صور قيام بعض رجال قريش باستسقام الأقداح، فخرج النهى إليهم، لكنهم خالفوا ذلك (94) .

إن النبوءة تقنية من التقنيات السردية التى تشير إلى مستقبل أو مصير بعض الشخصيات المهمة، ومن هنا لعبت دورا أساسيا في السير الشعبية العربية (95) ، وبها يحقق الراوى وظيفة الاستباق إذ يشير بها إلى أحداث ستقع (96) فيما بعد.

إن راوى السيرة النبوية في نمطها المطول كان يتعامل دائما مع الواحدة السردية بوصفها إطارا عاما مرنا لا يقيد حريته في تقديم الأخبار التى تقدم بعض التفصيلات، أو الأخبار التى تمثل تكرارا لما قدمه من قبل، أو الأخبار التى تدعم منحى ضمنيا- تعبيريا أو أيديولوجيا- يعمل على تثبيته لدى المتلقى. وبقدر ما كانت تلك الحرية تفيد الراوى في تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية المتصلة بالسياقات والقوى الاجتماعية التى كان يروى السيرة في إطارها- فإنه كانت تمنحه إمكانية تقديم بعض التفصيلات التى تهدف إلى إقناع المتلقى، من ناحية، وتشويق المتلقى وإثارة رغبته في تتبع الوقائع، من ناحية أخرى

وذلك ما يبدو واضحا في سرد الواقدى وابن هشام للنقطة التالية لرؤيا عاتكة؛ إذ يقدمان الأخبار المختلفة عن سعى قريش- قبل خروجها إلى بدر- إلى إصلاح ما بينها وبين بنى

ص: 50

بكر، حينئذ يلجأ الراوى (الواقدى وابن هشام) إلى تصوير ظهور إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجى أحد زعماء بنى كنانة ليؤكد لقريش أن بنى بكر لن تهاجمها (97) . وذلك ما يدفع الراوى إلى التوقف عن سرد وقائع الغزوة ليعود إلى الماضى فيقدم تفاصيل الخلاف بين قريش وبنى بكر (98) . وبقدر ما يمثل ذلك التوقف قطعا لتقديم الوقائع فإنه يهدف إلى تفسير بعض الجوانب المرتبطة بقريش بوصفها طرفا من طرفى الصراع.

إن محورية الدور الذى تؤديه الرؤيا في كثير من مواقف السيرة النبوية والسير الشعبية العربية هى التى تفسر سعى الراوى- فى إطار النمط المطول للسيرة النبوية إلى الإبقاء عليها في اللحظات تسبق حدوث الوقائع المهمة. وقد توقف الواقدى وابن هشام عند تقديم رؤيا جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب التى تمثل نبوءة بمصير عدد من القرشيين الذين سيقتلون في القتال (99) . وتلعب هذه الرؤيا دورا مزدوجا في تشكيل الأحداث؛ إذ ينكص بعض القرشيين عن الذهاب إلى بدر، بينما يزداد إصرار أبى جهل على القتال. وعلى مستوى تشكيل الوقائع يبدو الواقدى أكثر من ابن هشام ميلا إلى تقديم الحواريات- بينما يبدو ابن هشام ساعيا إلى ضغط هذه الحواريات أو حذف فقرات منها أو تقديمها سردا (100) .

ومن الملاحظ أن الطهطاوى قد استبعد تماما تلك الرؤيا والأخبار التى سبقتها، ملتقيا في هذا مع ابن عبد البر وابن حزم.

أما الوقائع الأساسية المرتبطة بأحداث الغزوة فهى: استشارة النبى أصحابه، واستطلاعه أخبار مسير قريش، ثم تحرك المسلمين لقتال قريش، ثم تشاور النبى (ص) مع أصحابه واقتراح الحباب بن المنذر مكان عسكرة جيش المسلمين، ثم وقائع القتال ونتائجه، ولا يختلف ترتيب هذه الوقائع" الأساسية" عند هؤلاء الرواة جميعا، وإن بدت بعض الطرائق التى استخدمها هذا الراوى أو ذاك ذات دلالة على منحاه في الصياغة والتشكيل. فبينما اعتمد السرد لدى ابن هشام والواقدى وابن سيد الناس على تقديم مجموعة من الأخبار المتوالية والمتعاقبة فإن اهتمام كل منهم بتقديم سلاسل أسانيد هذه الأخبار يجعل منها- أى من هذه السلاسل- وسيلة موجهة نحو تحديد كيفية للتلقى تقوم على تأكيد الفواصل بين المتلقى والوقائع التى تقدم له.

ص: 51

وإذا كان ابن عبد البر وابن حزم قد قدما الوقائع ذاتها موجزة فإنهما قد اختلفا في اعتمادهما على الاستطرادات في تناولهما لبعض جوانب هذه الوقائع (101) . ورغم أن كتابة الطهطاوى تشترك معهما في انضوائها إلى النمط الموجز من كتابة السيرة النبوية فإن من اللافت أن صياغة الطهطاوى لهذه الوقائع تكشف عن بروز منحيين مختلفين لدى الطهطاوى؛ أولهما يعد إعادة صياغة وتشكيل للوقائع، بينما يعد ثانيهما بمثابة استطراد (102) . ويبرز المنحى الأوّل في سرد الطهطاوى الوقائع بلغته هو، وترتيبه الوقائع ترتيبا قائما على منطق السببية مما يدفعه إلى تقديم الوقائع على أساس تواليها الزمنى، من ناحية، ويتيح له من ناحية أخرى إمكانية تقديم أو تأخير بعض الأخبار التى قدمها الرواة السابقون ليضعها في سياق سببى مباشر (103) ، ويمكن أن توصف تلك العملية بأنها نوع من التركيب السياقى الذى يتمثل في إنشاء سياق سردى (يستلزم ترتيب مجموعة من الأحداث، بحيث تصبح هذه الأحداث سلسلة متتالية قابلة للفهم والتتبع)(104) وتحمل دلالة. ولعل تلك العملية كانت تتطلب الارتكان إلى الية الإيجاز والحذف، وقد ظهرت فاعليتها في حذف الطهطاوى لأسانيد المرويات التى كانت تشكل عائقا أمام" ضغط" السياق السردى وتركيزه، والإشارة الموجزة التى قدمها في نهاية صياغته الوقائع إلى أسماء عدد من شهداء المسلمين وقتلى قريش، مختلفا في هذا عن كتاب النمطين المطول والموجز للسيرة النبوية الذين حرصوا- فى نهاية سرد وقائع الغزوة- على تقديم قوائم كاملة بأسماء من أسهموا في الغزوة، وأسماء الشهداء وأسماء القتلى، واللافت أن هذه القوائم كانت تحتل دائما مساحة أكبر من المساحة أكبر من المساحة التى تحتلها وقائع الغزوة نفسها (105) .

وبقدر ما أدت تقنية الحذف والإيجاز إلى مساعدة الطهطاوى على التركيز على سلسلة الوقائع الأساسية، فإنها لم تمنعه من الإشارة الموجزة إلى تعدد المرويات أو اختلافها حول هذا الجانب أو ذاك. ورغم صياغة الطهطاوى لوقائع الغزوة بلغته هو فإنه قد قدم، فى إطار ذلك، الايات القرانية المرتبطة بالغزوة، كما قدم أيضا عددا من المرويات الحوارية أو الحديثية كما هى. وتابع الطهطاوى تقليدا من تقاليد كتاب السيرة بنمطيها يتمثل في شرح أو تفسير بعض الكلمات أو أسماء الأماكن داخل المتن السردى (106) .

ص: 52

ويبرز المنحى الثانى في استخدام الطهطاوى لتقنية الاستطراد بنمطيها؛ وإن كان من الواضح أن نمط الاستطراد السردى قد أصبح عنده مرتبطا بتقديم حكايات موجزة، أو

مطولة أحيانا، عن بعض قتلى أو أسرى بدر؛ كحكاية النضر بن علقمة وقتله بأمر النبى (ص) ، وحكاية عمر بن وهب الجمحى وصفوان أمية وهى منقولة عن ابن إسحاق، وحكاية أسر العباس بن عبد المطلب في بدر ثم إسلامه وهى تتضمن استطرادات أخرى عن زوجته وعن دعائه وإجابته، وحكاية نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وأخيرا حكاية إسلام عمرو بن العاص (107) .

أما نمط الاستطراد التعليمى المباشر فيبدو أقل استخداما من النمط السردى، ويبرز في حديث الطهطاوى عن لون من الألوان البديعية يسمى غريب الاتفاق، وتناوله لمسألة الشهادة وأنواع الشهداء (108) .

وتبدو وظائف الشعر داخل تلك الواحدة السردية متسقة مع وظائفه في إطار سيرة الطهطاوى؛ فبعض الأشعار كانت جزا من الأحداث أو متممة لحكاية من الحكايات، بينما كان بعضها الاخر بمثابة إعادة لما قيل سردا أو وصفا، فى حين أن بعض الأشعار قد سيقت بهدف تأكيد الفكرة، بينما مثلت بعض النماذج الشعرية استطرادا على الاستطراد السردى أو النثرى في كتابة الطهطاوى (109) .

(6/ 5) تقضى دراسة عناصر التشكيل السردى للسيرة عند الطهطاوى- بداية من تنظيم الواحدات السردية الكبرى، واستخدام تقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد لتأدية وظائف مختلفة ترتبط بتقديم المواد السردية، وانتهاء بتوظيف الشعر في سياقات السرد، وكيفية بنية الواحدة السردية الوسطى- إلى الكشف عن تجليات التجديد في كتابة السيرة النبوية لدى الطهطاوى. فإذا كانت كتابة الطهطاوى قد انطلقت من التماس مع كتابة الرواية التاريخية والرواية التعليمية في مرحلة (1870- 1914) فإن هذا المنطلق هو الذى حدد للطهطاوى التجديد في تقاليد كتابة السيرة النبوية بوصفها نصا سرديا، وذلك ما حققه بإعادة تقديم السيرة في

ص: 53

شكل جديد يفيد من التقاليد الكتابية والصياغية المختلفة التى تجلت في أنماط كتابة السيرة النبوية السابقة عليه.

وقد بدت في التشكيل السردى الذى قدمه الطهطاوى ملامح تماس" قوية" مع الرواية التاريخية المعاصرة له، سواء في الاعتماد على أحداث تاريخية، وحذف أسانيد المرويات، واستخدام تقنية الاستطراد لتؤدى وظائف تعليمية مباشرة أو غير مباشرة، أو توظيف الشعر داخل السياقات السردية المختلفة ليؤدى وظائف مماثلة لوظائفه في الرواية التاريخية المعاصرة له. وأما خاصية تنظيم الوقائع تنظيما قائما على منطق السببية، مع إعمال تقنية الحذف والإيجاز، والتى تبدت في صياغة الطهطاوى للواحدة السردية الوسطى الممثلة في الغزوة- فهى دال كاشف عن التماس الشديد بين التشكيل السردى لبعض واحدات السيرة عند الطهطاوى والرواية التاريخية المعاصرة له، بل إن سبق الطهطاوى لمعظم نماذج هذه الشكل الروائى- فى مرحلة (1870- 1914) - يشير إلى إمكانية النظر إلى كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بوصفها فعلا إبداعيا مسهما بفاعلية في التمهيد للرواية التاريخية. وذلك ما يكشف عن جانب جديد من جوانب ريادة الطهطاوى في مجال كتابة أو تقديم الأشكال السردية الحديثة؛ إذ لا تقتصر ريادته- فى هذا المجال على كتابه" تخليص الإبريز" وترجمة" وقائع تليماك" أو عمله الصحافى الذى أسهم فيما يرى الن روجر- فى تطور الرواية العربية (110) ، بل تمتد أيضا إلى إعادة صياغة متن السيرة النبوية وجعله شكلا مسهما في التمهيد للرواية التاريخية.

وبقدر ما يبدو في كتابة الطهطاوى السيرة من تماس مع الرواية التاريخية فإن ذلك التماس هو الذى يمكن أن يفسر" خفوت" تأثير الكتابات الغربية- والفرنسية تحديدا- عن النبى" ص" على كتابة الطهطاوى؛ فعند إقامة الطهطاوى فى باريس (1826- 1831) واتصاله بالثقافة والأدب الفرنسيين كان هناك خمسة عشر عملا فرنسيا تناول النبى" ص" سواء بكتابة سيرته، أو بتقديم وصف تاريخى له، أو بتقديم فهم جديد له يكشف عن رؤية جديدة له تخالف رؤية القرون الوسطى، واستلهام شخصيته في بعض الأعمال الإبداعية الكبرى (111) . ولا يبدو تأثير هذه الكتابات على كتابة الطهطاوى السيرة على الرغم مما يبدو في" أنوار

ص: 54

توفيق الجليل" من اتصال الطهطاوى بكتابات المستشرقين حول بعض جوانب الثقافة" الدينية" العربية (112) ، فلعل الطهطاوى لم يعن بما كتبه المستشرقون الفرنسيون السابقون عليه والمعاصرون له عن سيرة النبى" ص".

لقد كانت كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بصياغة تشكيلها السردى نابعة من الموقف الذى كان الطهطاوى يسعى إلى تأصيله لدى من توجه إليهم بها.

(6)

إذا كان درس التشكيل السردى للسيرة النبوية لدى الطهطاوى قد كشف عن جوانب التجديد في كتابته لها، فإن استنباط الموقف الذى تنطوى عليه تلك الكتابة سيفضى إلى إدراك مستويات الدلالة فيها، وهذا ما يتطلب الالتفات إلى أنماط المتلقين الذين تلقوا نص الطهطاوى، ودور الوسيط الثقافى الذى حمل كتابة الطهطاوى إليهم.

تركزت في شخصية الرسول (ص) الصفات الأساسية التى شكلت مرتكزات البطولة لدى الجماعة العربية عبر عصورها المتوالية، وتلخصت هذه الصفات في (اتصال نسبه بما يثبت عروبته وشرفه وأهمية ابائه جميعا)(113) و (دفاعه عن مبدأ أو عقيدة، وأيا كان هذا المبدأ أو تلك العقيدة فلا بد أن تكون خيرة مؤمنة)(114) ، وتعضيد أفعاله بقوة (غيبية خارقة تثبت صحة ما يدافع عنه من مبدأ)(115) ، والاتساق بين أفعاله وأقواله التى تهدف إلى تحرير الإنسان، وإرساء قيمة العدالة، وتأسيس السلوك على قيم أخلاقية مثالية.

ولعل هذا ما يفسر، من ناحية، بقاء سيرة الرسول (ص) طوال حياة المجتمع العربى، وتأثيرها في تشكيل نموذج البطل في السير الشعبية العربية، من ناحية أخرى، ولا ينفى انقطاع المصريين- قبل الطهطاوى بأربعة قرون عن كتابة السيرة النبوية- بقاءها حية وفاعلة في الوجدان الشعبى المصرى/ العربى. ومن هنا كانت كتابة الطهطاوى" نهاية الإيجاز" بمثابة إعادة تقديم النموذج البطولى الذى تعكسه شخصية الرسول (ص) ، ليجعل منه وسيلة مباشرة وضمنية في الان نفسه لنقل موقفه أو رسالته الإصلاحية إلى دوائر المتلقين الذين يتوجه إليهم.

ص: 55

وتتمثل الدائرة الأولى في شرائح من المتعلمين والمثقفين الذين أنجبهم النظام التعليمى الذى أنشأه محمد على ودعمه إسماعيل فيما بعد، وقد كان الوسيط الثقافى الذى نقل" نهاية الإيجاز" إلى تلك الدائرة مؤسسة" جديدة" من مؤسسات إرساء التحديث وتثبيت التمدن؛ إذ أسهمت مجلة" روضة المدارس"- طوال سنوات صدورها (1870- 1877) - فى مسيرة التحديث سواء بتقديم العلوم الجديدة التى كان المجتمع المصرى يحتاجها، أو تقديم المعارف الجديدة التى ترتبط بمجالات التاريخ والفلسفة والاجتماع، أو بالإسهام في إعادة تشكيل بعض الأشكال الأدبية القديمة كالمقامة، أو بتشجيع الأشكال الأدبية الجديدة، ثم بمحاولة تطويع اللغة العربية لتصبح قادرة على الوفاء بالتعبير عن الأفكار والصيغ الفنية الجديدة (116) .

وقد كان نشر" نهاية الإيجاز" فى" روضة المدارس" وسيلة لنقل الرسالة الإصلاحية التعليمية التى يتضمنها إلى فئات واسعة من المتلقين، وهذا ما تؤكده طريقة توزيع" روضة المدارس"؛ إذ (كان ديوان المدارس يرسل إلى المدارس بعض أعدادها ليشتريها المدرسون منبها إلى الحذر من عدم ارتداد أى نسخة من الروضة، ثم قرر الديوان أن يشتريها جميع الموظفين في المدارس، والمكاتب الأهلية ممن يزيد مرتبهم عن 250 قرشا في الشهر، وكان ديوان المدارس أيضا يرسل أعدادا من روضة المدارس إلى أعيان البلاد ليقوموا بتوزيعها)(117) .

وأما الدائرة الثانية التى توجه إليها الطهطاوى بكتابته" نهاية الإيجاز"- بما تنطوى عليه من تقديم شخصية الرسول (ص) بوصفه النموذج البطولى العربى الإسلامى- فهى دائرة السلطة والحاكم، وهذا ما يحتاج إلى إضاءة موسعة تكشف عن تحولات علاقة الطهطاوى المثقف بالسلطة وتأثيرها في تحولات بعض أفكاره.

إن الطهطاوى- كما وضعه غالى شكرى في إطار تصنيفه للمثقفين المصريين فى القرن التاسع عشر من منظور علاقة المثقف بالسلطة- يمثل نموذج" المثقف الشامل"؛ أى المثقف ذى الرؤية الشاملة الواعية بجوانب النهضة ووسائلها وغاياتها، وذلك في مقابل المثقف الداعية السياسى كعمر مكرم، والمثقف الخبير كعلى مبارك. وإذا كانت هذه الأنماط الثلاثة قد ولدت في رحم السلطة فإن الطهطاوى المثقف الشامل كان- فى صياغته" مشروع" (تحديث القوة الاجتماعية

ص: 56

والفكرية القادرة على إقامة مجتمع النهضة المتصل والمشارك في الحضارة الحديثة (

) ينطلق أو يكفئ داخل مؤسسة الدولة، يتقاطع مشروعه ومشروعها ويتوازيان، ولكنه لا يخرج عن المؤسسة) (118) .

وإذا كانت كتابات الطهطاوى التجديدية قد واكبت مساعى محمد على لتحديث المجتمع المصرى، فإن نفيه إلى السودان لمدة خمس سنوات (1850- 1854) فى عهد عباس الأوّل- الذى امتد ست سنوات فقط (1849- 1854) - قد جعل سلبيات الحكم المطلق والمستبد تتجسد بقوة في وعيه. فبعد أن كان الطهطاوى يستمد معرفته بتلك السلبيات من اتصاله بالفكر السياسى الأوروبى، أصبحت تجربة منفاه تجربة عيانية جسدت له تلك السلبيات. واللافت أن استبداد عباس الأوّل قد ارتبط بقضائه على كثير من المشروعات الإصلاحية- فى مجال التعليم خاصة- التى أسسها محمد على. وذلك ما كشف لرفاعة عن السلبيات الاجتماعية التى تتولد عن الاستبداد.

وإذا كانت هناك أسباب مختلفة حول أسباب نفى رفاعة- أو على الأقل إبعاده- إلى السودان (119) فإن واحدا من أقواها يتمثل في (احتواء الطبعة الثانية من تخليص الإبريز عام 1849 على فقرات تنقد مبدأ الحكم المطلق)(120) .

ولقد كان ذلك التحول في علاقة الطهطاوى بالسلطة الممثلة في الحاكم، وبروز سلبيات الحكم المطلق أمامه دافعا إلى ترجمته" وقائع تليماك"؛ إذ كانت هذه الترجمة وسيلة لنقد ذلك الحكم، وذلك بما تضمنته هذه الرواية من حواريات كثيرة يقوم فيها الحكيم منظور بتعليم تليماك طريقة تسيير الحكم على أساس من الحرية، ويكشف له عن خطورة الاستبداد وعواقبه الوخيمة.

وعلى الرغم من أن علاقة الطهطاوى بإسماعيل- الذى تولى الحكم في الفترة من 1863- 1879- كانت" جيدة" فليس من المستبعد أن تكون كتابته" نهاية الإيجاز" بمثابة رسالة ضمنية إلى الحاكم، تقوم على تقديم صورة الرسول (ص) بوصفه نموذجا يجمع بين البطولة، من ناحية، والإصلاح من ناحية ثانية، والخلق المثالى من ناحية ثالثة

وتعضد هذا" التأويل" مجموعة من الدوال التى تتبدى في كتابات الطهطاوى بعد المنفى بصفة خاصة.

ص: 57

ويتصل أوّل هذه الدوال بما تكشف عنه قراءة" مناهج الألباب"(1869) مقارنة بتخليص الإبريز (1834) من بروز قيمة العدالة في الأوّل، بينما كانت قيمة الحرية هى السائدة والمسيطرة على خطاب الطهطاوى في الكتاب الثانى (121) .

ويبدو حرص

الطهطاوى على تقديم قيمة العدالة في" مناهج الألباب" قرين الكشف عن تعدد جوانبها؛ فهى- من ناحية- أسّ قيام المجتمع وبقائه واستمراره، أو هى- حسب وصف الطهطاوى- أساس التمدن، فالعدل هو (الأصل في سعادة الممالك)(122) ، وهى- من ناحية ثانية- الأساس الذى في ضوئه تقام قوانين توزيع السلطة داخل مؤسسة الحكم؛ إذ (لما كانت السياسة جسيمة لا يقوم بها واحد اختص الملك بمعالى الأحكام وكلياتها وخلع بعض نفوذه في جزئيات الأحكام على المحاكم والمجالس وجعل لهم لوائح وقوانين خصوصية ترشد أفعالهم ولا يتعدونها. قال بعضهم ليست في الدنيا جمعية منتظمة ولا مملكة معتدلة الأحكام إلا وتكون القوة فيها بالأصول العدلية، فالأصول العادلة تصون ناموس الدولة عن الملامة)(123) . بينما يجعل الطهطاوى العدالة- من ناحية ثالثة- حقا تاما من حقوق الرعية إذ إن (مأمورية العدل أوّل واجبات ولاة الأمور وهو وضع الأشياء في مواضعها، وإعطاء كل ذى حق حقه والإنصاف بميزان القوانين)(124) .

وبقدر ما كان ذلك الدال الأوّل يقترن بسعى الطهطاوى إلى التأكيد على ترسيخ العدالة قيمة شاملة في تنظيمها المجتمع وتحديدها توزيع السلطة وكونها السمة التى ينبغى أن تحكم علاقة الحاكم برعيته- فإن الدال الثانى يتصل بالتصور الذى يطرحه الطهطاوى للعلاقة بين الكاتب أو المفكر والحاكم، ويكشف هذا الدال- عبر مجموعة من النصوص المنقولة التى" يجيد" الطهطاوى انتقاءها وتقديمها- عن إعلاء الطهطاوى لشأن الكاتب والمفكر على الحاكم، وهذا ما يتجلى في تكرار نقوله على شدة احتياج الحاكم إلى الكاتب والمفكر؛ فإذا كان (الكاتب مالك الملك يصرفه بقلم الإنشاء كيف يشاء)(125) فإن الكتاب هم (سياسة الملك وعماده وأركان السلطان وأطواده، بأقلامهم تبسط الأرزاق وتبيض الامال، وبها تصان المعاقل إذا عجزت عن

ص: 58

صونها الرجال) (126) . ويقرن الطهطاوى فعل الكتاب بالحكمة ورجاحة العقل؛ فبالكتابة (والكتّاب قامت الرياسة والسياسة وإليهم ألقى تدبير الأعنّة والأزمّة)(127) .

ومن هذا المنظور الذى يعلى من فعل الكتابة كاشفا عن المهام الاجتماعية والسياسية التى يستطيع ذلك الفعل تحقيقها- احتفى الطهطاوى بمقولة ابن المقفع إن (الملوك أحوج

إلى الكتّاب من الكتّاب إلى الملوك، ومن فضل الكتابة أن صاحب السيف يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه) (128) .

وإذا كان الطهطاوى قد قرن العدل بالتمدن، من ناحية، وجعل من الكاتب والحكيم مرشدا للحاكم وسائسا له من ناحية ثانية، فإن الدال الثالث الذى يتولد عن الدالين السابقين قد تبدى في سعى الطهطاوى- على ما يبدو بوضوح في" مناهج الألباب"- إلى تقديم أمثلة مختلفة من تاريخ مصر القديمة وغيرها من الدول تكشف عن انصياح الملك الحاكم للحكماء وعمله بنصائحهم ضمانا لبقاء الدولة وترسيخا للعدل (129) .

وقد أسس ذلك الدال الثالث لدال رابع أنشأه الطهطاوى بقران وصل فيه بين عدالة الحاكم/ الملك من ناحية، ودور الرأى العام، من ناحية ثانية، ووظيفة التاريخ من ناحية ثالثة، فكشف ذلك القران عن صورة من الجدل بين عدالة الحاكم التى تتجلى في أفعاله، وتأثيرها في الرأى العام بوصفه متلقيا لهذه الأفعال، ودور التاريخ بوصفه وسيلة سردية تبقى ذكر الحاكم أو تخمله؛ فمما يحمل الملوك على العدل (ويحاسبهم محاسبة معنوية الرأى العمومى أى رأى عموم أهل مملكتهم أو ممالك غيرهم ممن جاورهم من الممالك (

) ومما يحاسب الملوك أيضا على العدل والإحسان التاريخ، أى حكاية وقائعهم لمن بعدهم من ذراريهم وخلفهم من الأجيال التالية، فإن المؤرخ يذكر للأمة أخبار ملوكها فينتقل من العين إلى الأثر ومن البيان إلى الخبر فيثبت محاسن الملوك ومثالبهم لأعقابهم ليعتبروا) (130) .

ص: 59

ويتضام مع الدوال الأربعة السابقة دال خامس يتمثل- فيما لاحظناه من قبل- من تأكيد الطهطاوى إمكانية تعدد مستويات الدلالة في النص السردى، وما لاحظه بعض دارسيه من لجوئه إلى بعض طرائق التحفظ والتخفى لتقديم أفكاره الإصلاحية والنقدية (131) .

إن تلك الدوال الخمسة السابقة تشير إلى أن" نهاية الإيجاز" بتقديمه صورة النبى (ص) بوصفه نموذجا للبطل العربى في صفاته المثالية أخلاقيا وإنسانيا وسلوكيا- إنما كان يمثل رسالة ضمنية إلى الحاكم، وهذا ما يكشف عن المستوى الثانى من مستويات تلقى نص الطهطاوى، أو إمكانات إرساله التى تتحقق على نحو رمزى.

د. سامى سليمان أحمد

ص: 60