المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الفصل الأول)ترجمة العلائي - التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

[صلاح الدين العلائي]

الفصل: ‌(الفصل الأول)ترجمة العلائي

‌القسم الأول

(الفصل الأول)

ترجمة العلائي

لم يطل المتقدمون البحث في نسب العلائي، فأوائل المترجمين له من أمثال الذهبي 1والحافظ ابن حجر، والسبكي 2، لم يزيدوا على أن ذكروا اسمه، واسم أبيه، والنسبة، وزاد ابن العماد 3 اسم الجد.

اسمه ونسبه:

هو صلاح الدين، أبو سعيد، خليل بن كيكَلدي بن عبد الله، العلائي 4، الشافعي 5.

ولادته:

ولد سنة أربع وتسعين وستمائة (694هـ) من الهجرة في دمشق 6.

نشأته:

نشأ في مدينة دمشق، وتلقى العلم على علمائها وخطبائها، فختم القرآن العظيم، وسمع الحديث الشريف، وابتدأ قراءة العربية، وغيرها من العلوم 7.

أسرته:

لم تفصح المصادر بشيء عن أسرة العلائي، وكل ما تيسر الوقوف عليه في هذا الشّأن،

1 المعجم المختص ص93.

2 الدرر الكامنة 2/179.

3 طبقات الشافعية 10/36.

4 شذرات الذهب 6/190.

5 نسبه إلى البلدة الأصل لأسرته، والعلاية بلد بالروم، منها الصلاح خليل بن كيكلدي، العلائي، حافظ بيت المقدس (شرح القاموس 10/253) .

6 نسبة إلى المذهب.

7 المعجم المختص ص93، وطبقات الشافعية 10/36، والدرر الكامنة 2/179، وشذرات الذهب 6/190، وغيرها كثير من كتب التراجم.

ص: 13

هو أن العلائي تركي الأصل، وأن أباه كان جنديا 1 وقد نسبه الدكتور زهير الناصر، فقال:"ابن الأمير سيف الدين كيكلدي " 2 " وهذا يعني أن العلائي من أسرة ذات شأن، لكن يعكر على هذه المعلومة أمران:

الأول: عدم الوقوف على المصدر الذي أورد هذه المعلومة.

الثاني: أن الأسنوي قال عن العلائي: "منسوبا إلى بعض الأمراء"3.

وهذا يعني عكس ما تقدم. لكن ثبت أن جده لأمه كان عالماً 4، أسهم في تعليم حفيده العلائي 5.

سعيه في طلب العلم:

الذي أراه أن العلائي توجه إلى العلم بعناية جده لأمه، وكان الجد عالماً يحفظ متوناً ويذاكر بفوائد، وما من شك في أنه دفع حفيده لأخذ الرواية والسماع، حتى أصبح على قدر من الوعي والعلم، واستيعاب المعلقات، وسنه لم يجاوز التاسعة، أي أنه بلغ هذه الرتبة العلمية وهو في عمر طالب في السنة الثالثة الابتدائية في زماننا هذا، ولا عجب، فالفارق كبير، فإن الذاكرة غير الذاكرة، والهمة غير الهمة، والتربية غير التربية.

إن العلائي في هذا السن كان يتعامل مع صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ففي سنة ثلاث وسبعمائة (703هـ) سمع صحيح مسلم على شرف الدين الفزاري، وعمره يومذاك تسع سنوات، وفي سنة أربع وسبعمائة (704هـ) سمع صحيح البخاري على علي بن مشرف 6، وفيها ابتدأ بقراءة العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكوي 7 كل هذا ولم يجاوز عشر سنوات، وهو يحظى برعاية جده لأمه، وبعد هذا بدأ العلائي استقلاله العلمي في سنة إحدى عشرة وسبعمائة (711هـ) . أي: في السابعة عشرة من عمره، فاشتغل بالفقه والعربية، وطلب الحديث بنفسه، وقرأ فأكثر 8.

1 المستدرك على معجم المؤلفين ص235، ولعل النسبة ليست إلى العلاية من بلاد الروم، بل إلى سكة العلاء ببخارى، والأتراك أصولهم بخارية، انظر معجم البلدان 4/144.

2 انظر دراسته لكتاب: جامع التحصيل.

3 طبقات الأسنوي 2/858.

4 الدرر الكامنة 1/41.

5 الدرر الكامنة 2/180.

6 الدرر الكامنة 2/180.

7 الدارس 1/60.

8 الدرر الكامنة 2/180.

ص: 14

رحلاته:

سبق القول أن العلائي- رحمه الله ولد بدمشق 1، وبها تأهل لطلب العلم، والرحلة في سبيله، ومنها تأهب للرحلة، إذ خرج في سنة سبع عشرة وسبعمائة بصحبة شيخه ابن الزملكاني 2، في طريقهما إلى القدس ولازم شيخه المذكور، وتخرج به، وعلق عنه كثيراً، ولازم البرهان الفزاري وخرج له مشيخة 3، ورحل إلى الحجاز- مكة- سنة (720 هـ) بصحبة شيخه ابن الزملكاني، حيث سمع من الشيخ رضي الدين الطبري 4، ثم رحل إلى مصر وأقام بها مدة، وسمع، وعاد إلى مكة مرات للحج، وأقام مجاورا، رحل إلى القدس واستوطنها 5.

وهكذا قضى العلائي- رحمه الله قدراً من عمره في الرحلة بين الشام والحجاز ومصر 6 والقدس، بحثا عن الخير والعطاء، نال بذلك شرفا، وأعطى عطاء العلماء الصالحين الشرفاء.

شيوخه:

لم تكن همة العلائي رحمه الله قاصرة في البحث عن العلم وأهله بل كان يفتش عن مصادره، ويرتوي من منابعه، بدأ حياته بتحصيله، وختمها بجمعه وتصنيفه، ذكر أنه أخذ عن سبعمائة من الشيوخ في مختلف العلوم 7 منهم:

1-

شرف الدين الفزاري، أحمد بن إبراهيم بن سباع، كان فصيحاً لا يكاد يلحن، مع طيب النغمة، ولين الكلمة، وحسن التودد والدين والأمانة، متوسط المعرفة بالرجال 8، تلا بالقراءات السبع، وحدّث بالصحيح، والسنن الكبير، وولي مشيخة الحديث بالظاهرية 9. وقد سمع عليه العلائي صحيح مسلم في سنة ثلاث وسبعمائة، وفيه كمل عليه ختم القرآن الكريم 10.

1 ص 4.

2 الدرر الكامنة 2/180.

3 الدرر الكامنة 2/180.

4 الدارس 1/62.

5 الدارس 1/62. وشذرات الذهب 6/190.

6 النجوم الزاهرة 10/337.

7 الدرر الكامنة 2/180.

8 المعجم المختص ص 8. والدرر الكامنة 1/94.

9 المعجم المختص ص 8. والدرر الكامنة 1/94.

10 الدارس 1/60.

ص: 15

2-

ابن مشرف الفزارى، محمد بن أبي العز، كان فصيحا، مناظرا متدينا، مرضي الأحكام 1، وقد سمع عليه العلائي صحيح البخاري.

3-

ابن الزملكاني، محمد بن علي بن عبد الواحد، كان من بقايا المجتهدين، ومن أذكياء أهل زمانه، درس وأفتى وصنف، وتخرج به الأصحاب 2، ومنهم العلائي، فقد لازمه وتأثّر به، وقرأ عليه الحافظ الذهبي أربعين حديثاً، وكان لا يقرّب إلا المهرة من تلاميذه 3.

4-

برهان الدين الفزاري، إبراهيم بن عبد الرحمن بن سباع، الإمام الفقيه، شيخ الإسلام، برهان الدين أبو إسحاق ابن الفقيه الإمام شيخ الإسلام تاج الدين، انتهت إليه معرفة المذهب ودقائقه ووجوهه مع علم بمتون الأحكام، وعلم بالأصول والعربية 4. وقد لازمه العلائي واستفاد منه، وخرّج له مشيخة.

5-

رضي الدين الطبري، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، الإمام القدوة، العابد، له علم وفهم وديانة 5، وكان إمام المقام الشافعي، وأتقن المذهب، قال العلائي:"هو أجلّ شيوخي"6.

6-

نجم الدين القحفازي، علي بن داود بن يحيى، ساق الحافظ نسبه إلى عبد الله بن الزبير، سمع عدة أجزاء، وسمع الموطأ وغيره، ولم يحدث، وقرأ القراءات بالروايات، وكان بقية أعيان الشاميين في العربية 7 وكان من أذكياء وقته، مع الديانة والورع 8.

7-

ابن تيمية: تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن تيمية، كان شيخاً إماماً، عالماً، علامة فقيها، حافظا، زاهدا، عابدا، مجاهدا، قدوة، لقبه العلماء بـ "شيخ الإسلام " 9، كان ذكيا، كثير المحفوظ، قلّ أن سمع شيئا إلا حفظه، حتى قيل: إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها 10، فخالف

1 الدرر الكامنة 4/167.

2 المعجم المختص ص55.

3 الدرر الكامنة 4/193.

4 المعجم المختص ص55.

5 المعجم المختص ص62. بتصرف.

6 الدرر الكامنة 1/56.

7 الدرر الكامنة 3/116-117.

8 عزاها الحافظ إلى معجم الذهبي. ولم أقف فيه على ترجمة القحفازي ولعلها في المعجم الكبير.

9 ابن كثير في البداية والنهاية 14/135.

10 البداية والنهاية 14/137.

ص: 16

الأئمة الأربعة في عدة مسائل، صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة 1، وما قوطع في مجلس، ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، وكان حاملا راية الحديث، حفظا ونقدا وتمييزا، ناظر واستدل، وهو دون البلوغ، وأفتى ودرّس، وهو دون العشرين، "صنف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه 2، اجتمعت فيه شروط الاجتهاد 3، وحاز ثناء العلماء وعمره ثلاثون سنة 4، صنف أكثر من أربعة آلاف كراسة 5، رحمه الله رحمة واسعة.

8-

المزي: يوسف بن عبد الرحمن، أبو الحجاج، المزي، حامل لواء معرفة الرجال، والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله، ولم تعرف له صبوة، ترافق هو وابن تيمية كثيرا، وكان يقرر طريقة السلف في السنة، ويعضد ذلك بمباحث نظرية، وقواعد كلامية 6، أثنى عليه الإمام ابن تيمية، وأخرجه من السجن، وكان سبب سجنه قراءته لكتاب خلق أفعال العباد 7. وبعد موته جمع تلميذه الحافظ العلائي جزءا سماه "سلوان التعزي عن الحافظ المزي" 8.

حالته الاجتماعية:

إن المسلم يرقى إلى الفضائل، ويأخذ بأسباب الكمال، لا سيما في مجال الدين والأخلاق، وقد اعتنى الدين الإسلامي بهذا الجانب، وحث على التعامل مع أسبابه المعنوية والمادية، ومنها الزواج الذي شرعه الله عز وجل وبناه على أسس متينة، تشكل الحقوق والواجبات للطرفين.

وقد أخذ العلائي رحمه الله بأسباب الفضل والكمال، معنوية ومادية فكما أوضحت المصادر إقدامه على طلب العلم، وكسبه الوفير لفنونه وصنوفه بيّنت أنه لم يبلغ الثلاثين من عمره إلا وهو رب أسرة لها حقوقها، وعليه التزامات الرعاية والتوجيه، فابنته أسماء، ولدت في سنة خمس وعشرين وسبعمائة 9، والذي نستجليه من المصادر، أنه تزوج بعد عودته من

1 الدرر الكامنة 1/160.

2 الدرر الكامنة 1/168.

3 البداية والنهاية 14/137. والدرر الكامنة 1/168.

4 البداية والنهاية 14/137.

5 الدرر الكامنة 1/168.

6 تذكرة الحفاظ ص1498-1499.

7 الدرر الكامنة 5/234، 1/516.

8 الدرر الكامنة 5/237.

9 الدرر الكامنة 1/384.

ص: 17

الرحلة مع شيخه الزملكاني إلى بيت المقدس، وخلال إقامته بدمشق 1 أنجب أبناءه أحمد، وأسماء، وأمة الرحيم، الذين تجلت محبته لهم في الرعاية الفكرية إذ أفادهم من علمه الوافر، وعرضهم على حفاظ دمشق والقاهرة 2.

الآخذون عنه:

لا يساور الشك أحدا اطلع على ترجمة العلائي، وعرف مباشرته التدريس في العديد من دور العلم، مع وجود أفاضل العلماء، في كثرة الآخذين عنه، بل يجزم بأنهم من الكثرة بمكان، ولولا الرغبة في عدم الإطالة، لتتبعت الأمر وقدمت ما يؤيد هذا الميول، غير أنه لابد من تعريف القارئ الكريم بأن في مقدمة الآخذين عنه: ابنه، وبنتيه، وهم:

1-

أبو الخير، أحمد بن خليل العلائي، اعتنى به والده، فأسمعه من حفاظ دمشق، ورحل به إلى القاهرة، وسمع من حفاظها، سكن بيت المقدس، وصار من أعيانها، شدت إليه الرحال للسماع منه، وممن رحل إليه الحافظ ابن حجر، لكنه لم يدركه، بلغه موته وهو بالرملة فعرج عن القدس إلى الشام 3، مات سنة 802هـ، لكن الحافظ أخذ عنه بالإجازة 4.

2-

أم محمد، أسماء بنت خليل العلائي، اعتنى بها والدها وأسمعها من حفاظ دمشق، والقاهرة، ولعلها زوجة شيخ الفقهاء الشافعية: إسماعيل بن علي القلقشندي 5. توفيت ببيت المقدس سنة 975هـ 6.

3-

أمة الرحيم، زينب بنت خليل العلائى، سمعت وحدثت، وتوفيت قبل أختها بأيام7.

4-

الحافظ الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، التركماني، طلب الحديث وله ثمان عشرة سنة، وتعب فيه وخدمه، إلى أن رسخت فيه قدمه 8، ومهر فيه، وفي غيره من

1 لأنه رحل لزيارة بيت المقدس مع الزملكاني في سنة سبع عشرة وسبعمائة ودرس بالناصرية سنة ثمان عشرة، والناصرية إحدى مدرستين تسمى بهذا الاسم، فالتي في دمشق الناصرية الجوّانية، والتي في قاسيون تسمى الناصرية البرانية، (الدارس 1/115،117) .

2 شذرات الذهب 7/15.

3 شذرات الذهب 7/15.

4 الدرر الكامنة 1/384. وانظر ترجمته: (الضوء اللامع 1/296) .

5 شذرات الذهب 6/256-257. والدرر الكامنة 1/394-395. وذيل التذكرة ص183.

6 ذيل تذكرة الحفاظ ص183، وشذرات الذهب 6/344، وأعلام النساء 1/54.

7 ذيل تذكرة الحفاظ ص183، وشذرات الذهب 7/154، وأعلام النساء 1/58.

8 طبقات الحفاظ ص518.

ص: 18

العلوم، حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفاً، وكان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم 1، والقائم بأعباء صناعة الحديث 2، عرف العلائي، وأثنى عليه، وأخذ عنه، قال:"وثنا في درسه عن جماعة"3. (673-774 هـ) وهو من شيوخه.

5-

ابن كثير: إسماعيل بن عمر، فقيه متفنن، ومحدث متقن، مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة 4، كان من محدثي الفقهاء، ولم يكن على طريقة المحدثين في تحصيل العوالي، وتمييز العالي من النازل 5، قال السيوطي:"العمدة في علم الحديث معرفة صحيح الحديث وسقيمه، وعلله واختلاف طرقه، ورجاله جرحا وتعديلا،، وأما العالي والنازل ونحو ذلك، فهو من الفضلات، لا من الأصول المهمة"6. قلت: وما ذكره السيوطي- رحمه الله متحقق لدى الحافظ الإمام ابن كثير وتفسيره وغيره ينبئ بذلك. (700-774 هـ) . أخذ عن العلائي 7.

6-

زين الدين العراقي: أبو الفضل، عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، اشتغل بالعلوم، وأحب الحديث فأكثر من السماع، وتقدم في فن الحديث، كان حافظ العصر 8، أخذ عن العلائي. وقال:"مات حافظ المشرق والمغرب صلاح الدين العلائي"9. (725-806 هـ) .

7-

القلقشندي: أبو الفداء، إسماعيل بن علي بن الحسن، حفظ القرآن، ومختصرات في العلوم، وتفقه فدرس وأفتى، وبرع وتصدر لنشر العلم، حتى صار أوحد عصره، مرجعا في المذهب، مستحضرا للروضة، صاهر العلائي على ابنته 10. (702-778هـ) .

8-

السبكي: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، صاحب الطبقات كان عارفا بالأمور،

1 الدرر الكامنة 3/426، 427.

2 طبقات الحفاظ ص517.

3 المعجم المختص ص93.

4 المعجم المختص ص75.

5 الدرر الكامنة 1/400.

6 ذيل التذكرة ص362. وطبقات الحفاظ 530.

7 الدارس 1/59.

8 طبقات الحفاظ 539.

9 طبقات الحفاظ 528. وذيل التذكرة 361.

10 الدرر الكامنة 1/395. وشذرات الذهب 6/256-257.

ص: 19

جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاضي قبله، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله 1. أخذ عن العلائي قال:"حدثنا الفقيه أبو سعيد خليل بن كيكلدى العلائي من لفظه بالمسجد الأقصى، وذكر سنده إلى أبي داود بحديث قدر الدية"2.

دراسة عصر العلائي بإيجاز

الناحية السياسية:

تميز عصر العلائي في الجانب السياسي بكثرة الحروب والفتن، فقد كان عهد المماليك ميدانا فسيحا لتلك الأحداث المؤلمة من الداخل والخارج فقد وقعت بين المسلمين مطاحنات جسيمة كلفت الطرفين خسائر مادية ومعنوية وكان ضررها على المسلمين بالغ الأثر لأسباب منها: شتات القيادة الإسلامية، وكثرت النزاعات والخلافات الداخلية، السبب الذي جعل التتر يكلفون المسلمين خسائر فادحة في المجالين العسكري والاقتصادي، وتوالت الملاحم الشرسة بين الطرفين من أمثال ملحمة وادي الخزندار قرب حمص، قتل فيها فوق عشرة آلاف من المسلمين 3، وحدث أن دخل التتر دمشق، وكلفوا المسلمين خسائر في الأرواح، ونهبت الأموال وأسر أكثر من أربعة آلاف، وحرقت المدارس، ضربا من أولئك الأعداء للجوانب العسكرية والاقتصادية والتعليمية 4، فكان لتلك الهجمات الشرسة أثرها السلبي على مناشط الحياة في البلاد، على أن نفحات من الإصلاح السياسي، وإقامة الحصون والقلاع تخللت هذا العصر، وكان لها الأثر البالغ في انتصارات المسلمين.

الناحية الاجتماعية:

كان الناس في الإطار العام للدولة يعانون من الشتات الاجتماعي مما سهل لكثير من الآفات الاجتماعية أن تنشط في الحياة الاجتماعية، فانتشرت الأمراض، وتوسعت دائرة الفقر، وظهرت المفاسد الخلقية في مواقع من البلاد، وهذا كان منفذا للأعداء، سهل لهم الوصول إلى كثير من الأمصار الإسلامية، وغايتهم إضعاف الدولة الإسلامية، وكسر

1 الدرر الكامنة 3/40،41.

2 طبقات الشافعية 10/224.

3 دول الإسلام 2/202.

4 دول الإسلام 2/203.

ص: 20

شوكتها ثم القضاء عليها، على أن هذا العصر لم يخل من ومضات إصلاحية في شتى المجالات، كثيرا ما تعرقلها الخلافات الداخلية، وتهاجمها الحملات الخارجية، وقد أبطلت الفواحش والقمار، والخمور، وقرئت بذلك المراسيم 1، وعممت على البلاد في بعض الأحيان. وكان لها الأثر الإيجابي في حياة المسلمين.

الناحية العلمية:

لقد كان للهجمة التترية الشرسة على العالم الإسلامي أثرها السيء، فقد أخرت عجلة التقدم الحضاري في المجالات السياسية والعلمية والاقتصادية بوجه خاص، وكان المجال العلمي أقل الثلاثة تأثرا، وذلك ليقظة علماء المسلمين الذين كان لهم دور بارز في الإصلاح العلمي، إذ جردوا عن سواعد الجد، ونشطوا في دفع عجلة الحضارة العلمية، وكان لدعم الولاة أثر بارز في بناء المدارس، وتكريم العلماء، حتى ارتفعت ألوية العلم والمعرفة وازدهر التأليف في مختلف العلوم والفنون، فبرز علماء أفذاذ، أثروا المكتبة الإسلامية بذخائر، تجسدت آثارها في الحياة عند المسلمين عبر الأجيال.

الناحية الحضارية بوجه عام:

حاول أعداء الإسلام غير مرة القضاء على الحضارة الإسلامية من خلال ضرب المراكز الثقافية، ومن أعظم ما منيت به الثورة المعرفية الإسلامية إسقاط الدولة العباسية، والاستيلاء على مهد حضارتها ببغداد في عام 656 هـ.

وكانت الهجمة التترية في غاية الحقد والهمجية، انتقاما من الإسلام وأهله، غير أن تلك القسوة لم تكن محققة لأطماع الأعداء من التتر وغيرهم، فقد احتضنت مصر والشام الحضارة الإسلامية، وحاول القطران القيام بأعباء الحضارة في مختلف الأدوار على غرار ما قدمت بغداد، لاسيما في المجال العلمي، وقد كان للمماليك دور بارز في إقامة الجوامع الكبيرة ودور العلم، حتى أضحت القاهرة بديلا عن بغداد، شيدت فيها مراكز العلم والمعرفة، وتوزعت جهود المماليك في محاولة جادة لإقامة الحضارة الإسلامية من خلال بناء المدارس، وتشييد الجوامع، ورفع الحصون والقلاع لحماية الثغور والمدن، ونصب الجسور على الأنهار، وحفر القنوات، وسك العملات وكانت إيجابيات الحضارة العلمية ملموسة في حياة المسلمين في ذلك العصر، رغم الاضطرابات السياسية في الداخل والخارج 2.

1 دول الإسلام 2/224-232.

2خلاصة من تتبع أحداث عصر العلائي (695-761هـ) في دول الإسلام والبداية والنهاية.

ص: 21

مكانة العلائي العلمية:

تقدم القول أن الزملكاني كان لا يقرب إلا المهرة من تلاميذه 1، وقد كان العلائي مكتسبا لهذه الصفة، مما جعل الزملكاني يحتفظ به تلميذا بارزا وملازما له سفرا وحضرا 2، وكانت صحة الذهن، وسرعة الفهم صفتين تتمع بهما العلائي، مع جد واجتهاد في طلب العلم، حتى تقدم في العلوم وفاق على أقرانه 3، واحتل مكانة علمية عالية، السبب الذي جعل شيخه المزي - وهو المشهود له بالحفظ وعلو المرتبة في العلم والإمامة - ينزل للعلائي عن مشيخة حلقة صاحب حمص، فدرس بها العلائي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان 4، وكان عمره حينذاك ثلاثا وثلاثين سنة 5، بلغ الإمامة والتفنن في عدد من العلوم، ومصنفاته تنبىء عن إمامته في كل فن، كان حافظ زمانه لم ير السبكي خلفا له سواه، ولم يخلف العلائي مثله 6، وما يأتي في ذكر مناصبه وألقابه العلمية شاهد على علمه وتقدمه، وقد نقل السبكي عن والده قوله:"ما أعلم أحداً يصلح لمشيخة دار الحديث غير ولدي عبد الوهاب وشخص آخر غائب عن دمشق"

قال السبكي: "وأنا أعرف أنه الشيخ صلاح الدين العلائي"7.

وفي ما تقدم برهان يوقف القارئ الكريم على ما كان يتمتع به العلائي رحمه الله من مكانة علمية رفيعة، أقر بها كبار العلماء، فقد فاق الأقران وانتزع المناصب من الشيوخ والأعيان 8، لأنه العالم المتبحر، والناقد المنظّر، والمؤلف المحرر، تقدم في علم الرجال والعلل، والمتون والأسانيد 9 كان حافظ زمانه 10، يستحضر الرجال والعلل 11، بلغ الإمامة في علوم كثيرة 12، برع وحقّق ودقّق، قال الصفدي: "اجتمعت به مرة بدمشق،

1 انظر ترجمة شيخ الزملكاني ص8 ت3.

2 الدارس 1/61.

3 المعجم المختص ص92. بتصرف.

4 الدارس 1/59-60.

5 لأنه درس في الحلقة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، يوم الأربعاء ثاني المحرم. (الدارس 1/59) .

6 الدرر الكامنة 2/181.

7 طبقات الشافعية 10/209.

8 الدرر الكامنة 2/181.

9 المعجم المختص ص92، طبقات الشافعية 10/36. ذيل العبر الدارس 1/63.

10 طبقات الأسنوي 2/858.

11 طبقات الحفاظ ص529، نقلا عن الذهبي في المختص، وليست بهذا النص.

12 ذيل العبر 186. الأسنوي 2/858، الدارس 1/63، طبقات الحفاظ 529.

ص: 22

والقدس، والقاهرة، وارتويت من فوائده في كل علم، وقلّ أن رأيت مثله في تحقيق ما يقوله، وتدقيقه 1، ولم يكن أحد يدانيه في الحديث في عصره" 2.

عقيدته:

لم يسعف الوقت بدراسة مؤلفات العلائي- رحمه الله للوقوف على نصوص تحدد اتجاهه في الاعتقاد، لكن وقفت على قول السبكي في أثناء ترجمته للعلائي:"كان حافظا، ثبتا، ثقة، عارفا بأسماء الرجال، والعلل والمتون، فقيها، متكلما، أديبا، شاعرا، ناظما، ناثرا، متفننا، أشعريا، صحيح العقيدة، سنيا"3.

وقال الحسيني: "لبس خرقة التصوف"4.

ولا أعتقد أن السبكي يطلق القول في تحديد المعتقد مجازفة، فلابد أن يكون كلامه عن علم ويقين، لا سيما وهو معاصر للعلائي، وأخذ عنه وهو في بيت المقدس. أما خرقة التصوف، فلعلها شعار للصوفية، أو لمرتبة منها. والله أعلم.

ولا علم لي بنوعية هذا التصوف، أهو من جنس التصوف الذي وصفه به ابن تيمية شيخ العلائي، أو من جنس آخر؟ غير أن الذي أعرفه أن الأشاعرة وقفوا من شيخ الإسلام وقفات ناله منها الأذى، وكفره بعض العلماء، وناصره آخرون، فما موقف العلائي من شيخه ابن تيمية؟.

هذا السؤال يجيب عنه العلائي- رحمه الله وهو ما وقف عليه الحافظ ابن حجر، قال:

"وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: "وسمع بهاء الدين- المذكور- على الشيخين، شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى، شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه أحسن طريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج الباهرة، التي أقرت الأمم كافة، أن هممها عن حصرها قاصرة، ومتعنا الله بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام الأئمة، بركه الأمة، علامة العلماء، وارث

1 الدارس 1/62.

2 طبقات الشافعية 10/36.

3 طبقات الشافعية 10/36. وقد نقل عبارته هذه: ابن العماد في: شذرات الذهب 6/190. والداودي في: طبقات المفسرين (1/169) .

4 ذيل تذكرة الحفاظ ص44.

ص: 23

الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف الناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق، علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة: أبو العباس ابن تيمية" 1.

هذا الثناء العطر من العلائي، قد يجر الواقف عليه إلى الميل لمخالفة ما حكاه السبكي، غير أن الثناء ليس دليلا على المسايرة في الاعتقاد، فالسبكي يذكر ما يشبه التأييد لقوله السابق. قال عن العلائي:"وكان بينه وبين الحنابلة خصومات كثيرة 2، ولا يبعد أن يكون سبب هذه الخصومات مباحث في العقيدة". والله أعلم.

ذكر بعض صفاته:

لابد من النظر في جانبين للتعرف على الصفات بصورة شاملة. وهذا:

1-

الجانب الحسي من الصفات:

هذا الجانب لم أقف على بيان وصفي للناحية الشكلية لشخص العلائي- رحمه الله، من حيث الطول والقصر، واللون وغيره من الصفات الحسية، غير أن الحافظ ابن حجر يذكر أنه كان بزي الجند 3، وهذا يقودنا إلى معلومة هامة، وهي أن العلائي عمل في الرباط، وروّض نفسه على الجهاد في سبيل الله، يؤيد هذا قول النعيمي:"وكان أولا يعاني الجندية"4. ومعاناة الجندية والعلم، وصف لا يكاد يجتمع إلا لقلة من الناس، من أمثال ابن المبارك، وابن تيمية، الذين متعوا بحظ وافر من الشجاعة والعلم، لكن العلائي لم يقض حياته في الجندية، بل عاود الاشتغال بالفقه والأصول 5، وتزي بزي الفقهاء 6- ألبسه شيخه كمال الدين بن الزملكاني- ولبس خرقة التصوف- ألبسه أبو المجامع بن حمويه الجويني - 7، وإن كان التصوف في عصره منذر بخطر.

1 الدرر الكامنة 1/169-170.

2 طبقات الشافعية 10/36، وتبعه الداودي أيضا (طبقات المفسرين 1/169) .

3 الدرر الكامنة 2/180.

4 الدارس 1/61.

5 الدارس 1/61.

6 الدرر الكامنة 2/180.

7 ذيل التذكرة ص44.

ص: 24

2-

الجانب المعنوي:

تمتع العلائي- رحمه الله بحظ وافر من الصفات المعنوية، وكان في مقدمتها صحة الذهن، وسرعة الفهم، الشيء الذي جعله يحفظ الكتب، وينظر في العلل والرجال، ولتقدم في مبدأ العلم والمعرفة 1، وبرز في مجال التصنيف، فألف كتبا كثيرة جدا، سائرة مشّهورة، نافعة متقنة محررة 2، وكان شجاعا قوي الشخصية، ذا سطوة، جمع بين العلم والدين، والكرم والمروءة 3، والبراعة والذكاء والفصاحة، وقوة المناظرة 4.

ألقابه العلمية:

إن المتتبع لأقوال الأئمة النقاد والعارفين بأحوال الرجال، يبهره ذلك الاتفاق والتواتر على نقل أعلى رتب الألقاب العلمية، وتصوير ترجمة العلائي بها، فتأتي في مقدمة الحلل العلمية الباهرة. من ذلك:

الحافظ 5:

وهو لقب لا يناله إلا ذووا الأذهان الصافية والأفهام السريعة.

الإمام 6:

وهو لقب علمي لا يطلقه العلماء إلا على من نال أعلى الرتب العلمية، واستطاع بعلمه الغزير وإبداعه في مختلف العلوم، أن يخضع العلماء للاعتراف بتقدمه وقدرته العلمية، وقد وصف العلائي بالإمامة في علوم عدّة 7.

الفقيه 8:

وهو لقب علمي لا يدركه إلا من خرّج المسائل الفقهية، وعرف اختلاف العلماء، وبرع في المذهب.

1 المعجم المختص ص92. بتصرف.

2 الدرر الكامنة 2/180.

3 الدرر الكامنة 2/180.

4 المعجم المختص ص92. وطبقات الأسنوي 2/858. والدرر الكامنة 2/180.

5 المعجم المختص ص92. وطبقات السبكي 10/35. والدرر الكامنة 2/181. والنجوم الزاهرة 10/337.

6 المعجم المختص ص92. والنجوم الزاهرة 10/337. والدرر الكامنة 2/181.

7 الدرر الكامنة 2/181، عن الحسيني. ولم أقف عليه في الذيل، وهو في المعجم، كما ذكر ابن العماد 5/90.

8 المعجم المختص 92، وطبقات الشافعية للسبكي 10/36.

ص: 25

المفتي 1:

منصب عظيم، وحمل جسيم، لا أراه مستحقا إلا لمن جمع أصناف الألقاب السابقة وزيادة، وقد لقب به العلائي، وأجازه بذاك شيخه الزملكاني وقاضي القضاة سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وعمره ثلاثون سنة 2.

وخلاصة القول: جمع العديد من الألقاب العلمية، وتصانيفه تشهد بجدارته واستحقاقه لما لقب به. وقد سرد له السيوطي جملة من الألقاب. فقال:"الشيخ الإمام العلامة، الحافظ الفقيه"3. وقال النعيمي:" الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، المحدث الفقيه، الأصولي الأديب" 4. وله على كل لقب دليل من مؤلفاته رحمه الله.

مناصبه:

إن ما تمتع بها العلائي- رحمه الله من نباهة وعلم، وفصاحة وسطوة ومناعة، كانت أسبابا - بعد فضل الله - أنالته مناصب رفيعة، كان أولها ممارسة التدريس وعمره ثلاث وعشرون سنة، ولم يكن هذا المنصب الرفيع سهل الارتقاء، لكثرة الناقدين، والمبارزين في ميادين شتى من العلوم والفنون، فلا يجرؤ على كرسي الحلقة إلا من نال علما غزيرا، وتفقه، وقد درس العلائي في دمشق في المدارس التالية:

1-

دار الحديث الناصرية 5:

وكان ذلك في سنة ثمان عشرة وسبعمائة من الهجرة 6، وهي المدرسة الأولى التي بدأ فيها نشر علومه على طلاب العلم، وأول تلك العلوم، علم الحديث وعمره أربع وعشرون سنة.

2-

دار الحديث الأسدية 7:

وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة - أي: في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة 8.

1 المعجم المختص 92.

2 الدارس 1/62، وشذرات الذهب 6/190.

3 طبقات الحفاظ ص528.

4 الدارس 1/60.

5 إحدى مدرستين بهذا الاسم، والفارق بينهما، أن إحداهما برانية تقع خارج دمشق في سفح قاسيون، والأخرى جوانية داخل دمشق. كلاهما أنشأهما الملك الناصر صلاح الدين. (الدارس 1/115-117) .

6 الدرر الكامنة 2/180. والدارس 1/62.

7 تقع في ظاهر دمشق، وهي على الطائفتين، الشافعية والحنفية، أنشأها أسد الدين شيركوه الكبير. (الدارس 1/152) .

8 الدرر الكامنة 2/180. والدارس 1/62.

ص: 26

3-

حلقة صاحب حمص:

درس بها وعمره أربع وثلاثون سنة، في يوم الأربعاء، ثاني المحرم، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر درسه، القضاة والفقهاء والأعيان، وقد نزل له عن هذه الحلقة: المزي- رحمه الله 1.

أما بالقدس فدرس في المدارس التالية::

1-

المدرسة الصلاحية بالقدس 2:

درس بها العلائي وعمره سبع وثلاثون سنة، أي: سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، انتزعها من علاء الدين علي بن أيوب المقدسي 3، وقد كانت كنيسة زمن الروم، ونزل عنها العلائي لزوج ابنته القلقشندي 4.

2-

مدرسة دار الحديث السيفية 5:

تولى العلائي مشيختها، وهي من مدارس القدس 6.

3-

دار الحديث والقرآن التنكزية 7:

درس بها العلائي 8.

وكان تاج هذه المناصب الإفتاء، والإمامة في العلوم، وكان العلائي قديرا على مزاولة هذه المناصب، والقيام بأعبائها 9.

مؤلفات العلائي:

كان العلائي- رحمه الله واعيا بأساليب الجمع والتصنيف، محيطا بطرق التخريج والتأليف، مجيدا الانتقاء للأبواب والأجزاء 10، فكان له من المصنفات أجودها، ومن

1 العبر 4/83. والدارس 1/59. والبداية والنهاية 1/132. بتصرف.

2 بانيها نور الدين محمود بن زنكي الشهيد، ونسبت إلى الملك الناصر صلاح الدين، فاتح بيت المقدس (الدارس 1/331) .

3 الدرر الكامنة 2/181.

4 الأنس الجليل 2/41.

5 نسبة إلى الأمير سيف الدين بكتمر. (هامش الدارس 1/275) . والأنس الجليل (2/35) .

6 الدارس 1/62.

7 الدارس 1/123.

8 الدارس 1/62-63.

9 الدارس 1/62-63.

10 بتصرف. انظر: (طبقات الشافعية 10/35. والنجوم الزاهرة 10/237. وطبقات الحفاظ ص529) .

ص: 27

المؤلفات أحسنها، أثرى بعطائه، في هذا الميدان، المكتبة الإسلامية بالنفائس مما خزنته ذاكرته، ووعاه قلبه، وسطره قلمه، ما يقارب خمسين كتابا في مختلف العلوم الإسلامية، منها الكتاب ذو الأجزاء الكثيرة، والمجلد ذو الفوائد المنثورة، والجزء النافع المتتبع لمواطن الإشكال، وقد أحصاها الدكتور زهير الناصر 1. أذكر عددا منها للتمثيل، ولا حاجة في نظري للتطويل:

1-

التفسير:

في هذا العلم العظيم، تفسير القرآن العظيم، كتب العلائي رحمه الله سبعة مصنفات منها:

أ- السفينة الكبرى في تفسير القرآن العظيم.

ب - برهان التيسير في عنوان التفسير.

2-

الحديث:

صنف في الحديث الشريف وعلومه، تسعة عشر كتابا. منها:

أ- التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة، وهو موضوع تحقيقنا.

ب - النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح.

3-

الفقه:

صنف فيه العلائي، تسعة كتب. منها:

أ- الأشباه والنظائر في فروع الفقه الشافعي.

ب- فتاوى صلاح الدين العلائي.

4-

أصول الفقه:

صنف العلائي في هذا العلم، ستة كتب. منها:

أ- تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال.

ب- تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد.

1 في دراسة كتاب جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي.

ص: 28

5-

الأخلاق والسلوك:

أ- الأمالي الأربعين في أعمال المتقين.

ب - عقيلة المطالب في ذكر أشرف الصفات والمناقب.

ومن يقف على مؤلفات العلائي، يعلم إلى أي مدى كان الحسيني صادقا حين قال:"كان إماما في الفقه والنحو، والأصول، متفننا في علوم الحديث وفنونه، حتى صار بقية الحفاظ، عارفا بالرجال، علامة في المتون والأسانيد، ومصنفاته تنبئ عن إمامته في كل فن، ولم يخلف بعده مثله"1.

وكان العلائي ناظما للشعر 2، له في الأدب مشاركة جيدة، بل إن السبكي يقول:

" كان

متكلما، أديبا، شاعرا، ناظما، ناثرا " 3.

ومن نظم العلائي- رحمه الله:

ألا إنما الدنيا مطية راكب

تسير به في مهمه وسباسب

فإما إلى خير يسر نواله

وإما إلى شر وسوء معاطب

فلولا ثلاث هنّ أفضل مقصد

لما كنت في طول الحياة براغب

ملازمة خير اعتقاد منزها

عن النقص والتشبيه رب المواهب

ونشر علوم للشريعة ناظما

عقود معانيها لتفهيم طالب

وصوني نفسي عن مزاحمة على

دنيّ حطام أو عليّ مناصب

ففي ذاك عز بالقنوع وراحة

معجلة من خوف ند مغالب

وحسبك في ذا قول عالم عصره

مقال حق صادق غير كاذب

كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب

ورتبة أهل العلم أسنى المراتب 4

ومع ذاك أرجو من إلهي عفوه

وخاتمة الحسنى ونيل الرغائب

ويطعمني في ذي الثلاثة ثلاثة

بهن اعتصامي من وبيل المصائب

محبة خير الخلق أحمد مصطفى الـ

مهيمن من عليا لؤي بن غالب

وإني موال للصحابة كلهم

ومن بعدهم من تابع في المذاهب

1 ذيل العبر ص186، الدرر الكامنة 2/181.

2 الدرر الكامنة 2/181.

3 طبقات الشافعية 1/36.

4 هذا البيت تمثل به العلائي، وهو من قول تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي مطلع قصيدته، حين أخذت منه مشيخته جامع طولون في سنة تسع عشرة وسبعمائة. طبقات الشافعية (10/180-181) .

ص: 29

وبالأولياء الغر حسن تعلقي 1

أرى حبهم حتم عليّ كواجب

فحسبي بهذا كله لي عدة

حياتي وموتي والإله محاسبي " 2

وقد رثى العلائي رحمه الله شيخه الزملكاني بقصيدة 3.

وفاته:

ذكرت المصادر 4 أن الإمام العلائي- رحمه الله توفي في الخامس- أو الثالث- من المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة 5، ودفن بمقبرة باب الرحمة إلى جوار سور المسجد 6، بعد رحلة علمية استمرت أكثر من ستين سنة، كان حصادها العلم النافع، والثناء الواسع. فالله نسأل أن يثيبه على أعماله الصالحة، وأن يعفو عن زلته، ولا يحرمه لقاء البررة الأخيار في الجنة، مسكن الأبرار.

وتجدر الإشارة إلى أنني وقفت على دراسة الأخوين الكريمين الدكتور: زهير الناصر - عند تحقيقه لجامع التحصيل-، والدكتور: عبد الرحيم القشقري - عند تحقيقه منيف الرتبة -. واستفدت من جهودهما. فجزاهما الله خيرا.

وفي نظري لا يعتبر الجهد مكررا من حيث العرض وإثارة المعلومات فلكل أسلوبه ومنهجه. والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1 لا أعتقد أن العلائي أراد التعلق غير المشروع، يشير إلى أنه يريد ما شرع، وهو حبهم لعلمهم بالكتاب والسنة، فإن كان الواقع خلاف ذلك، فلا شك أنها شائبة في الاعتقاد.

2 طبقات الشافعية 10/181-182.

3 الدرر الكامنة 2/182.

4 الأسنوي. فإنه قال:"سنة ستين". (الطبقات 2/585) .

5 طبقات الشافعية 10/36. والدرر الكامنة 2/181.

6 الأنس الجليل 2/107.

ص: 30