الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء". أخرجه أبو داود وابن ماجه، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. اهـ.
توضيحات:
1-
وصف الله سبحانه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بصفات كريمة: أولها: صدق الوعد، وثانيتها: أنه كان رسولا نبيا أنزل الله عليه وحيه، وأرسله لهداية خلقه، وثالثتها: كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وأخيراً: أنه كان عند ربه مرضياً، فلماذا قدّم صفة صدق الوعد على ذكر الرسالة والنبوة، وأمر أهله بالصلاة والزكاة؟ والجواب: لأن صدق الوعد دليل على الإخلاص، فمن لم يكن صادق الوعد لم يقبل الله منه صلاة ولا زكاة، ولنا على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
وبيان ذلك أنّ العبادات كلها من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة، وتعلم وتعليم، وجهاد للنفس، وجهاد للعدو، وغير ذلك إنما هي وسائل لتهذيب النفس، وليست في أنفسها غايات، فإذا لم يحصل بها التهذيب المطلوب فهي لغو لا قيمة لها، يزاد على ذلك أنها تدل على عدم إخلاص فاعلها، وريائه ومخادعته لله ولعباده المؤمنين.
وقد وصف الله المنافقين بقوله في سورة (النساء: 143-143) : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} ، فصلاة هؤلاء المنافقين لم تغن عنهم شيئا وهم في الدنيا مجللون بالخزي، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي يقصدون بعبادتهم أن يراهم الناس فيمدحوهم وقلوبهم خربة ليس فيها خير، فلذلك (يمنعون الماعون) المراد بالماعون على تفسير عبد الله بن مسعود وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما يُعِيرُهُ الناس بعضهم لبعض كالفأس والقدر والدلو والميزان والمد ونحو ذلك، قال ابن كثير رحمه الله:"والذي يمنع الماعون مع بقاء عينه أجدر وأحرى أن يمنع الزكاة، والصدقة والإحسان".
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً يمتحن به الناس، يميّز به المؤمن من المنافق، وهو قوله فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" زاد مسلم في روايته: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض أن من اجتمعت فيه الخصال الثلاث، وصارت له خلقا وديدنا لا يتحرج منها، هو كافر خالص الكفر من شرار الكفار، وهم المنافقون، وأن هذه الخصال لا تكاد أن تجتمع في مؤمن البتة، فإن قال: أنا مسلم، فقد أمرنا أن لا نصدقه، وإن صلى وصام فلا صلاة له ولا صيام.
وقد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلامات لنستدل بها على المؤمن الصادق، ونعرف بفقدها أعداء الإسلام المتقمصين ثوبه لمآرب يبتغونها، ودسائس يروجونها، وليس معنى أن نطردهم من المساجد، ولا من المجتمعات الإسلامية، ولا نحكم عليهم بالردة، ونعاملهم معاملة غير المسلمين في الأحكام الشرعية، بل نعتبرهم مسلمين ظاهرا، ونحترز منهم، ولا نأمنهم على مصالح الإسلام.
2-
قوله: "وهو ولد عرب الحجاز كلهم" من المعلوم أن العرب فريقان: العرب العاربة، وهم أبناء يعرب بن قحطان، وهم سكان جنوب الجزيرة العربية، ولهم تاريخ حافل، وآثار قديمة باقية، وقد كانت لهم دول عظيمة عريقة في القدم، كدولة حمير ودولة سبأ ودولة معين.
وأما الشماليون فيسمون العرب المستعربة؛ لأن أباهم إسماعيل لم يكن عربيا في الأصل، وإنما تعلم العربية لأنه نشأ بين العرب في مكة وتزوج منهم، وبارك الله في ذريته كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الباب السادس عشر أن ساراى امرأة أبرام لم تلد له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لأبرام:"إن الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراى، فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها أبرام رجلها زوجة له، فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينها، فقالت ساراي لأبرام: "ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينها، يحكم الله بيني وبينك"، فقال أبرام لساراي: "هذه جاريتك في يديك افعلي بها ما يحسن في عينك"، فأذلتها ساراي فهربت من وجهها، فوجدها ملك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: "يا هاجر جارية ساري، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟ " قالت:"أنا هاربة من وجه مولاتي ساري"، فقال لها ملك الرب:"ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها"، وقال لها ملك الرب:"تكثيرا أكثر من نسلك فلا يعد من الكثرة". وقال لها ملك الرب: "ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسان وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه وأمام جميع أخواته يسكن". اهـ.
وهذه بشارة جاءت في العهد القديم بأن الله يكثر أولاد إسماعيل، وقول المترجمين للتوراة:"إنه يكون إنسانا وحشياً يده على كل واحد ويد كل واحد عليه" من أفسد الترجمات
التي ارتكبها أولئك المترجمون تعصباً وتحريفاً للكتاب، ولم يتفطنوا إلى التناقض الذي بين الصفتين، فالإنسان الوحشي لا يتصل بالناس ولا يألفهم ولا يألفونه، ويحبهم ويحبونه.
ولا يستغرب التحريف من المترجمين فقد أخبر العالم اللغوي الأديب المحقق إبراهيم اليازجي أنهم دعوه إلى لندن ليعينهم على ترجمة التوراة، فكان يختلف معهم كثيراً فكلما ذكر لهم عبارة فصيحة تؤدي المعنى يرفضونها، ويقولون:"إنها تشبه عبارات القرآن"، وهم يريدون أن يبتعدوا عن عبارات القرآن كل الابتعاد، وقد نظرت في الكلمة التي ترجموها وهي (بري آدم) في معجم (روبين أفنيوم كوسمن) فوجدت لها المعاني التالية أنقلها بأمانة من الإنكليزية إلى العربية: 1- الحمار الوحشي، 2- الحيوان الوحشي، 3- ساكن الصحراء، 4- خشن الطبع، 5- وحشي، 6- همجي، 7- إنسان وحشي سيء الخلق.
فأيّ هذه الألفاظ يصلح لترجمة ذلك اللفظ الوارد في مقام البشارة والمدح والثناء على مولود، علم الله أنه يكون رسولا نبياً، أباً لأمة عظيمة، ولأفضل خلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لاشك أن اللفظ الوحيد الذي تصح به الترجمة هو الثالث، وهو أنه ساكن الصحراء وهو المطابق للواقع، فإن إسماعيل كان يسكن بمكة - شرفها الله - ويعيش في الصحراء على لحم الصيد، وفي الحديث:"ارموا بني إسماعيل، فإنّ أباكم كان رامياً "، وفي صحيح البخاري أنّ إبراهيم توجّه لزيارة ابنه إسماعيل في مكة فلم يجده، فسأل زوجته عنه فأخبرته أنه ذهب للصيد، ثم ذهب لزيارته مرة ثانية وثالثة فلم يجده، إنه كان غائباً يصطاد للمعيشة لا للتنزه، وفي كل مرة كان يوصي زوجته بشيء تقوله له إذا رجع.
وقد تبيّن أنّ أولئك المترجمين أخطأوا خطأ فاحشا في ترجمة ذلك اللفظ، وأغلب الظن أن يكونوا متعمدين، فقبّح الله التعصب، فإنه ما دخل شيئا إلاّ أفسده، والمراد بعرب الحجاز: ربيعة ومضر.
3-
انتظر إسماعيل الرجل الذي وعده في المكان الذي وعده أن يجتمع به يوماً وليلة، وانتظر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تبايع معه في الجاهلية قبل أن يكون نبياًًً في المكان الذي وعده ثلاثة أيام، فما المراد بهذا الانتظار؟ هل هو حرص على قضاء تلك الدريهمات؟ لا والله، ولكنه تلقين درس في الأخلاق، يعتبر به كل موفق، ويلتزمه كل إنسان ذو شرف ومروءة يحترم نفسه. والعادة الجارية في الشعوب الراقية التي تقدّس الأخلاق أنّ المتواعدين إذا مرت خمس دقائق إلى ربع ساعة ولم يجيء أحدهما فقد برئت ذمة المنتظر، وبقيت ذمة صاحبه معلقة، فإن كان له عذر قاهر برئت ذمته هو أيضا، وألا توجه اللوم إليه، وكان هو الخاسر الذي يجب عليه أن يعتذر لصاحبه ويخجل كل الخجل.
وكل أمة شاع فيها الوفاء بالوعد وتنافس أبناؤها في التخلق بهذا الخلق الجميل الذي هو أحد أركان
الأخلاق سعدت وقويت، وانتصرت على أعدائها، وبلغت من ذلك فوق ما أملت، كما أن كل أمة شاع فيها أخلاق الوعد ونقض العهد، وما إلى ذلك من الكذب والخيانة والغدر والظلم والخداع، فإنها لن تفلح أبدا ولن تكتب الحياة لها الحقيقة ما دامت متخلقة بتلك الأخلاق المرذولة، سواء استوطنت الصحراء أم استوطنت أغنى الأراضي وأجملها، فإنها تعيش في شقاء دائم، وظلام مدلهم.
وهذه الحقيقة لا تتغير أبداً بتغير المكان أو الزمان أو القوم، ومساويء الأخلاق سبب شقاء الشعوب الأعظم. ومن ينتسب إلى إسماعيل بالنبوة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإتباع يجب عليه أن يعتبر هذا الدرس أكثر من غيره ليكون وارثاً لهما إرثاً حقيقياً يرفعه ويعلي درجته، فإن لم يفعل فإن انتسابه إليهما لا يزيده إلا خزياً وعاراً.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
4-
قوله: "وقد أثنى على أبي العاص": هو أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، اشتهر بكنيته كان من أعيان مكة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب، فولدت له أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها على كتفه، وصلى بالناس في المسجد وهو حاملها، فإذا ركع وضعها، وإذا سجد وضعها، وإذا وقف حملها.
ولما كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة خرج أبو العاص مع المشركين فأسر، فبعثت زينب بقلادة لتفديه بها، وكانت أمها خديجة رضي الله عنها قد وهبتها لها حين تزوجت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك القلادة رقّ لابنته، وقال للمسلمين:"إن رأيتم أن تردّوا لها قلادتها وتطلقوا أسيرها"، فأطلق سراح أبي العاص، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ابنته زينب فوفّى بوعده وبعثها.
وفي السنة السابعة للهجرة سافر أبو العاص ومعه قافلة لأهل مكة متوجهاً إلى الشام فأسره المسلمين مرة ثانية، فلما سمعت بذلك زينب قالت:"يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟ "، قال:"نعم"، قالت:"فاشهد أني أجرت أبا العاص، فأطلقوا سراحه، فتوجه إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها ثم قام فقال: "يا أهل مكة، أوفّيت ذمتي؟ "، قالوا: "اللهم نعم"، فقال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرا فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد، والأول أرجح. وماتت زينب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أما أبو العاص فتوفي في السنة الثانية عشر للهجرة في خلافة أبي بكر الصديق.
5-
وينبغي لنا أن نتأمل تأملا طويلا في وفاء الخليفة أبي بكر الصديق بوعد النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي
الجليل جابر بن عبد الله على أحسن وجه، وزاده مثلي ذلك، فمبلغ مجموع ما أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتننا يا جرير المحافل
بمثل هذه الأخلاق بلغ المسلمون الأولون من المجد والسؤدد غايتهما حتى وصلوا إلى بلادنا وفتحوها، وهي أقصى المعمور وجهة الغرب حسبما كان معروفاً في ذلك الزمان، وبهذه الأخلاق نفسها يمكن أن ينهض المسلمون المتأخرون من كبوتهم، وينفضوا غبار الذل عنهم، ويستأنفوا الحياة من جديد، وإلا فلا بعث لهم من مرقدهم بإعراضهم عن أخلاق سلفهم الصالح، واستبدالها بمحاولة التشبه بالأجانب، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
6-
قوله: "وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" ويشهد لذلك ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الآية 18 وما بعدها من الباب السابع عشر: "وقال إبراهيم لله: "ليت إسماعيل يعيش أمامك"، فقال الله:"أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة" اهـ.
7-
حديثا أبي سعيد وأبي هريرة في إيقاظ الرجل زوجته وصلاتهما ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، والذاكرون الله كثيرا أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في سورة (الأحزاب:35) وهذا الأجر العظيم كفيل بسعادة الدنيا والآخرة، وقال تعالى في سورة (البقرة: 152) : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ، فإذا كان رجال الأمة ونساؤها متخلقين بهذا الخلق فبشّرهم بالعظمة والقوة والمد والرفعة، وإذا كانوا عنه معرضين فبشّرهم بعذاب أليم.
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل رجل قام من الليل لذكر الله بالصلاة، وأيقظ زوجته لتشاركه في هذه الغنيمة، فإن امتنعت رشّ على وجهها ماء يطير النوم من عينيها وينشطها للقيام، وبمثل ذلك دعا للمرأة الصالحة التي تقوم من الليل لذكر الله ومناجاة ربها في صلاتها، فتوقظ بعلها ليشاركها في الخير، فإن أبى رشّت على وجهه ماء يوقظه من سِنته، وينشطه للقيام. فهذه صفة الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيدة، وخلافها صفة الأمة الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية.
فنسأل الله أن يوفّقنا لإحياء ما اندثر من مجدنا، واسترداد ما فقدناه من تراثنا حتى نكون خير خلف لخير سلف. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.