الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحكام بتغير الأزمان والأحوال بل على العكس من ذلك فقد كان دأبه في كل ما ذكره: إزالة اللبس عما يمكن أن يعد من هذا القبيل.
فلا ندري: كيف فهم هذا الكاتب –من كلام ابن القيم- ما فهم إلا أن يكون قد خدع بالعنوان الذي أدرج ابن القيم كلامه تحته. فقد كان (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغيير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) ففهم من عبارة (تغير الفتوى) تغير الحكم. وليس الأمر كذلك. فإن الفتوى غير الحكم. وإنما هي بيانه1، وكيفية تطبيقه على المسألة. ولا يختلف الأمر في هذه المسألة –التي سردها ابن القيم- عن الصيام في رمضان مثلا. فإن حكمه هو الوجوب ولكن يفتى بإسقاطه عن الحامل المرضع. ولا يقال –حينئذ- بأن حكما قد أسقط، أو بدل، أو عطل وإنما هو تطبيق له من وجه آخر.
1 انظر: المصباح المنير 2/175.
استدلالهم بعمر
رابعا: أما استدلالهم بما فعله، عمر –رضي الله عنه عام الرمادة حين عطل حد السرقة –على حد زعمهم- حيث اعتبروا عدم قطع عمر لغلمان حاطب بن أبي بلتعة- لما سرقوا: 2 تصرفا في النص وتعطيلا للحد-: فهو استدلال مرفوض. لأن ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه ما هو إلا: محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة الغراء- التي جعلت لكل حكم علة وشروطا يدور الحكم معها وجودا وعدماً.
فإن آية السرقة: ليست نصا بالمعنى المقابل للظاهر. بل هي عام قابل للتخصيص 3. فهي لا تستعمل
2 رواه مالك في الموطأ: أن غلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر: كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم؟ ثم قال: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم. فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم. انظر: المنتقى على الموطأ 5/64.
3 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/602 تفسير الرزاي 3/415.
وحدها بالدلالة على حكم السرقة بالتفصيل قبل البحث عن المخصصات. وإذا فالتمسك بظاهر الآية وحدها دون النظر إلى ما يتعلق بها من مخصصات في السنة الصحيحة، إنما هو تنكب عن جملة الدليل. وقد خصصت السنة الصحيحة –كما ذكرنا في أكثر من مكان- كثيرا من آخذي مال الغير فلم تعتبرهم سراقا بالمعنى الذي تقطع به يد السارق. كآخذ الشيء التافه. وآخذ الثمر والكثر، والآخذ من غير حرز. وآخذ ما دون النصاب. وغير ذلك.
ومن هذا القبيل –أيضا- من يأخذ مال الغير بدون حق، للضرورة 1. وكأن تكون السنة سنة مجاعة وشدة بحيث يغلب على الناس الحاجة الملحة لحفظ الحياة.
فحينئذ يكون المظنون الغالب: أن لا يسلم سارق من ضرورة تدعوه إلى الحصول على ما يسد به رمقه. مما يجعل المالكين بحال يجب معها البذل والعطاء بالثمن، أو بدونه على خلاف في ذلك. والناس أرجح 2.
فإذا سرق السارق في هذه الحالة خرج عن مدلول قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وإلى هذا أشار أمير المؤمنين حين قال لحاطب بن أبي بلتعة: "إنكم تستعملونهم وتجيعونهم.. حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له" فهل من قواعد الشريعة الإسلامية: أن تقطع أيديهم بعد ذاك؟ والضرورات تبيح المحظورات. ثم إن شبهة الضرورة في هذا المكان أقوى من كثير من الشبه التي جعلها الفقهاء سببا لدرء الحد. مثل كون المال المسروق مما يتسارع إليه الفساد، أو ادعاء السارق ملكية الشيء المسروق دون حجة قائمة، وغير ذلك من الشبه الضعيفة التي لا تعد شيئاً إلى جانب هذه الشبهة القوية التي ألجأت الإمام العادل إلى درء القطع عن غلمان حاطب3. لولا ذلك لقطعهم. كما صرح هو بذلك حين قال: "لولا أعلم أنكم
1 انظر: تبصرة الحكام 2/353 – الروض النضير 4/234.
2 انظر: الحاوي 18/108.
3 ابن أبي بلتعة، صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله، وكان من اشد الرجال توفي بالمدينة سنة 30هـ. انظر: الإعلام 2/163
تجيعوهم لقطعت أيديهم". لأن الجائع مأخوذ مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد به رمقه ويحفظ عليه الحياة.
ثم إنه على فرض التسليم: بأن ما فعله عمر بن الخطاب –رضي الله عنه كان تغيير للحكم، وإسقاطا للعقوبة. فليس فيه دليل على جواز ذلك. لأنه ليس فيمن دون رسول الله –صلى الله عليه وسلم حجة. وهذا أصل يقره عمر بن الخطاب نفسه فيما رواه ابن وهب عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه قال: وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأي: إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، إن الله كان يريه. وإنما هو منا الظن والتكلف"1.
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي، من طريق الثوري بالسند إلى مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب، فذكر في آخر كتابه:"هذا ما أرى الله، أمير المؤمنين عمر. فانتهره وقال: لا. بل أكتب: هذا ما رأى عمر. فإن كان صوابا: فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر"2.
ويقول –رضي الله عنه: "السنة ما سنه الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة"3.
خامسا: أما قولهم: "إن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى ويعارض مصالحها" فهذا ما نستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن. فإن هذه السمة، إن انطبقت على أحكام الشرائع الوضعية التي جبلت بضعف البشر، وقصر النظر، وضيق المدارك، فإنها أبعد ما تكون عن شريعة الله التي أحكم نسجها،
1 انظر: إعلام الموقعين 1/54.
2 قال العسقلاني: إسناده صحيح. انظر التلخيص الحبير 2/406.
3 إعلام الموقعين 1/54.
وشهد بكمالها فقال1: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وأقرها لكل زمان ومكان فقال –مخاطبا رسوله الكريم-2: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} .
وإن من أبسط الفروق بين الشرائع السماوية والوضعية هو3: "أن التشريع السماوي من الله سبحانه وتعالى، وهو محيط بكل ما دق وخفي من شئون عباده. يكون مستوفيا لما يعنيهم من وجوه المصالح التي يعلمها الله لهم حتى ينتهي الأمد الذي قدر لهذا التشريع بخلاف النظام الوضعي. فإنه من عمل الواضعين من ذوي السلطة في الجماعة. وليس من شك في أن الواضع يتأثر في تكوينه وفي عمله بالعوامل الاجتماعية، كالعرف والعادة والبيئة. وأن تلك العوامل عرضة للتغيير. فلا يكون القانون الذي وضعه الواضع في هذه الحالة ملائما لحالة أخرى".
والله سبحانه وتعالى –حينما حكم بالقطع على السارق: لم يكن ليخفى على علمه، ما سوف يستجد من اختلاف الظروف والأحوال، ولو شاء لغير عقوبة القطع بعقوبة أخرى.
أما وقد تم التشريع الإسلامي، وأكمل الله دينه –وعقوبة السرقة على حالها- فليس لا حد: أن يدعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله –تنزه ذكره- ومن شقي بادعاء ذلك فليسمع قوله تعالى4: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
(نقلا عن مجلة العربي)
1 سورة المائدة، الآية 3.
2 سورة سبأ، الآية 38.
3 انظر: تاريخ الفقه الإسلامي للسايس ص9.
4 سورة القصص، الآية 50.