الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحملة الأخيرة على القسطنطينية في العصر الأموي
وبعد التعرف على بعض الجهود السابقة نبدأ الآن في عرض ما يتعلق بهذه المحاولة الجادة المخطط لها بعناية وإحكام، والتي بذلت فيها جهود، وسخرت فيها قوى وإمكانات، تدل على رغبة صادقة في الفتح من قبل المسلمين.
الغزو المتواصل لمدن الروم وقلاعهم وإلهاب جبهة الحدود:
لئن مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فإن الهدف الذي سعى إلى تحقيقه وهو فتح القسطنطينية لم يمت في نفوس أخلافه، بل ظل أملاً حياً يراودهم متحينين الفرصة لإنجازه؛ فما أن استقرت الأمور لعبد الملك بن مروان (65-86 ?/685-705 م) إذا به يوجه جهوده نحو مملكة الروم التي راق لها انشغال المسلمين عن غزوها برهة من الزمن، بسبب الفتنة حول المُلك في أعقاب وفاة يزيد ابن معاوية (60-64?/680-683م) ، فقامت بشن غارات على منطقة الثغور الشامية، مستغلة هذه الفرصة، وكان عبد الملك قد اضطر إلى عقد هدنة معها في أول حكمه إبان تثبيته الملك، لقاء مبلغ من المال يدفعه لها 1، لكن فور فراغه من ذلك دعا الناس للجهاد في سبيل الله تعالى، فوردوا عليه من جميع الآفاق، فخطب فيهم وحثهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، ثم وجههم بعد أن استكملوا استعداداتهم إلى بلاد الروم2، وأمر عليهم ابنه مسلمة 3.
1 تاريخ الطبري 6/150، وكامل ابن الأثير 4/2، وابن العبري، تاريخ مختصر الدول ص 194، والبداية والنهاية 8/313.
2 ابن أعثم، الفتوح 7/167، وابن عساكر، تاريخ دمشق 9/167-168.
3 مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، أبو سعيد، كان من أشجع أبناء عبد الملك، له آثار كثيرة في حروب الروم والخزر، ونكاية في الروم خاصة؛ حيث لازم الغزو في بلادهم سنين طويلة حالفه التوفيق في معظم تلك الغزوات، توفي سنة 121? بالشام. انظر ترجمته في تاريخ دمشق 58/27 وما بعدها، وللمزيد من المعلومات عن مواهبه وخصائصه انظر جواد الأعظمي، الأمير مسلمة بن عبد الملك ص 5، و57 وما بعدها.
إن الناظر فيما رواه ابن أعثم عن هذه الحملة التي أعدها عبد الملك بن مروان والمتتبع لسير حركتها ينتهي به النظر إلى أن هدفها كان القسطنطينية بالذات 1، لكن ذلك ليس ثابتاً ولا محرراً؛ فلم يرد في المصادر الأصلية التي اطلعت عليها والتي ينقل بعضها عن شهود عيان2، ولا حتى في المراجع العربية الحديثة 3 ما يدل على طَرْق الجيوش الإسلامية للقسطنطينية بعد وفاة معاوية رضي الله عنه حتى عهد سليمان بن عبد الملك، وأما ما قد يفهم من رواية ابن عساكر 4 عن عبد الله ابن سعيد الهمداني من توجيه عبد الملك ابنه مسلمة في تلك الغزاة نحو القسطنطينية فيعكر عليها ما ورد في الرواية نفسها من قوله: “أردت أن أغزيكم غزاة كريمة شريفة إلى صاحب الروم اليون..” فلم يكن من أباطرة الروم المعاصرين لعبد الملك من يحمل هذا الاسم، مما يدل على أن هناك خلطاً في الرواية وتداخلاً،
1 حيث ذكر أن مسلمة استمر في غزواته تلك أربع عشرة سنة، ووصل خلالها إلى القسطنطينية، وحاصرها، وبنى بإزائها مدينة القهر، واستمر هناك قاهراً للروم إلى أن كتب إليه سليمان ابن عبد الملك معزياً في أبيه عبد الملك وأخيه الوليد، في روايات متداخلة مضطربة بعضها أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق، انظر الفتوح 7/194-197، و7/298-306.
2 كتاريخ خليفة بن خياط ص 267-293، وتاريخ الطبري 6/194-418، وابن عساكر 20/153، وابن الأثير 4/33-102،، وابن كثير 9/7-61.
3 انظر مثلاً فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/ 72-78، وما بعدها، وعاشور، أوربا العصور الوسطى 1/112-113، والعدوي، الأمويون.. ص 151 وما بعدها، والسيد عبد العزيز سالم وزميله العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط 1/31 وما بعدها.
4 تاريخ دمشق 9/168.
وقد ذكر ابن خياط أن مسلمة قاد في عهد أبيه حملة موفقة إلى بلاد الروم فتح فيها بعض الحصون 1 يرجح أن هذا الإعداد المذكور كان لها.
وهذا لا ينفي أن عبد الملك كان مدركاً لأهمية القسطنطينية بدليل توجيهه نظر أبنائه إليها، وتمهيده هو الطريق نحوها عندما زحف بنفسه إلى إقليم قيليقية بأرض الروم، وواجه الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني في فترة حكمه الأولى Justinian II (685-695 م) مع قواته عند مدينة سيواس Sebastopolis، وأنزل به هزيمة قاسية، مستفيداً من العناصر السلافية في جيش الإمبراطور الحاقدة عليه والتي استمالها عبد الملك فانضمت إلى صفه، واستفادت الجيوش الإسلامية من خبرتها بالمسالك والدروب، فتابع المسلمون إغاراتهم وانتصاراتهم على المدن والحصون 2.
إن غزو معاقل الروم على جبهة الحدود والتوغل في أراضيهم ومدنهم داخل العمق البيزنطي منذ أواخر عهد عبد الملك وطوال عهد الوليد كان هدفاً مدروساً يراد به تحقيق عدة أمور؛ منها: تدريب القوات الإسلامية على مواجهة الروم في حروبهم ومعرفة أساليبهم القتالية، وأدواتهم، ومعرفة المسالك والدروب والطرق في بلادهم، وإزالة القوى والعقبات الواقعة في طريق زحف الجيوش الإسلامية نحو هدفها الرئيس القسطنطينية، ولذلك يلاحظ أنه لم تخل سنة من سنوات حكم الوليد (86-96?/705-715 م) من خروج جيش للغزو والجهاد، ودخول إلى بلاد الروم، وفتحٍ للمعاقل والحصون 3.
1 تاريخ خليفة ص 293.
2 العدوي، الأمويون ص 157، وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/71-72، وعبد اللطيف، العالم الإسلامي ص 254.
3 انظر مثلاً في أحداث سنة 86 تاريخ الطبري 6/426، وفي أحداث سنة 87 تاريخ خليفة ص 304 وتاريخ الطبري 6/429، وفي أحداث سنة 88 تاريخ خليفة ص 305 وتاريخ الطبري 6/434، وفي أحداث سنة 89 تاريخ خليفة ص 305 وتاريخ الطبري 6/439، وفي أحداث سنة 90 تاريخ خليفة ص 306، وتاريخ الطبري 6/442، وفي أحداث سنة 91 تاريخ الطبري 6/454، وفي أحداث سنة 92 تاريخ الطبري 6/468، وفي أحداث سنة 93 تاريخ خليفة ص 309، وتاريخ الطبري 6/469، وفي أحداث سنة 94 تاريخ خليفة ص 310، وتاريخ الطبري 6/483، وفي أحداث سنة 95 تاريخ الطبري 6/492، وفي أحداث سنة 96 تاريخ الطبري 6/495. ويلاحظ أنه ما مرت سنة إلا وكان فيها غزوة أو أكثر صائفة أو شاتية، ويلاحظ أنه قام على جميع تلكم الغزوات رجال من بني أمية إما مسلمة أو أحد أبناء الوليد.
وكان من أهم المعاقل والحصون التي افتتحت زمن الوليد حصن الطوانة1 Tyana الذي هو بمثابة مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البسفور 2، على الرغم من استعصائه، واستماتة الروم في الدفاع عنه، ووصول إمدادات إمبراطورية منجدة، لكن المسلمين صدقوا الله في الجهاد فهزموهم وفتحوا الحصن والمدينة سنة 88هـ 3.
الاستعدادات البيزنطية والإسلامية والتجهيز:
تابع الوليد بن عبد الملك الضغط على الدولة البيزنطية ـ كما رأينا ـ بالغزو المتواصل للحصون والقلاع والمدن المتاخمة لبلاد المسلمين، وكان يهدف من وراء ذلك إلى صرف نظر البيزنطيين عن الهدف الرئيس الذي كان يخطط له وهو غزو عاصمتهم، وقد حالف التوفيق المسلمين في معظم غزواتهم، ودخلوا إلى الأعماق البيزنطية، مما أوقع الشك والريب في قلب الإمبراطور (أنسطاس
1 حصن وبلد منيع من الحصون التي بناها الروم بثغور المصيصة، افتتحه المسلمون سنة 88. معجم البلدان 4/45-46.
2 عبد اللطيف، العالم الإسلامي ص 254.
3 لمعرفة تفاصيل هذا الفتح انظر تاريخ دمشق 26/443-446 فيما رواه عن ابن عائذ.
الثاني Anstasius II 713-716 م) 1 بأن وراء هذا النشاط العسكري ما وراءه، ولذلك أرسل سفارة في سنة 95? (714م) تسعى إلى طلب الصلح وعقد هدنة بين الطرفين، وهدف آخر لها وهو تلمُّس ما وراء ذلك النشاط العسكري من مقاصد، والتحري في العاصمة الإسلامية عن ما يجري من إعداد لغزو العاصمة البيزنطية، ويذكر أن البعثة لم تظفر بما أعلن أنها جاءت من أجله، لكنها أدركت ما يخطط له المسلمون من غزو عاصمتهم، فعادت لتؤكد للحاكم البيزنطي صدق عزيمة المسلمين فيما ينوون من جهادهم وتنصح بضرورة اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للدفاع عن العاصمة وصد المسلمين عنها2، فبادر عندئذ بالاستعداد للمواجهة؛ فكان من الإجراءات والاحتياطات التي اتخذها ما يلي 3:
أعلن في العاصمة عن نبأ حملة مرتقبة للمسلمين يتطلب الإعداد لها التكيف معها.
على كل فرد يعيش داخل العاصمة أن يخزن لنفسه مؤونة تكفيه لمدة ثلاث سنوات.
على كل فرد غير قادر على تدبير مؤونته أن يغادر المدينة.
عُبئت الخزائن الإمبراطورية بالقمح وما يحتاجه المدافعون من طعام.
تجديد أسوار المدينة المتداعية ولاسيما المطلة منها على البحر.
تزويد الأسوار البرية بآلات الدفاع من منجنيقات وغيرها.
أمر الإمبراطور بإعداد حملة لمهاجمة سواحل الشام بقصد عرقلة استعدادات
1 المسعودي، التنبيه والإشراف ص 165.
2 عن هذه السفارة انظر العدوي، الأمويون ص 159، وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/ 84، ولم أجد في المصادر الإسلامية القديمة التي اطلعت عليها شيئاً عنها.
3 عن هذه الاستعدادات ينظر الذهبي، تاريخ الإسلام (80-100) ص 169، والعدوي، الأمويون ص 160، وماجد، التاريخ السياسي للدولة الأموية ص 254 وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/84 و Bury ، Later Roman Empire، II، P. 371.
المسلمين أو القضاء عليها.
هذا في الوقت الذي كان يمضي فيه المسلمون قدماً في الإعداد لغزو القسطنطينية، فبعد موت الوليد بن عبد الملك في منتصف شهر جمادى الآخرة من سنة 96? 1تابع أخوه سليمان الإعداد والتجهيز مستغلاً الظروف السيئة التي مرت بها الإمبراطورية؛ من تعاقب الأباطرة، وضعف بعضهم، والصراع حول العرش، والثورات والفتن الكثيرة 2، وطمع أعدائها 3، وسوء أحوالها بعد أن سرى الفساد في جميع مرافقها وإداراتها4، وانحطاط نظامها العسكري5، والخلاصة أنها كانت تعيش حالة ضعف تام 6، وكان من الإجراءات التي اتخذت في سبيل الاستعداد للحملة:
الاستمرار في غزو أراضي الروم في مناطق الحدود؛ حيث غزا داود بن سليمان الصائفة سنة 97?، فافتتح حصن المرأة 7، وغزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم فافتتح بعض الحصون كبرجمة والحديد وحصن ابن عوف 8، كما غزا عمر بن هبيرة أيضاً 9، وذلك بهدف إلهاء السلطات البيزنطية،
1 تاريخ الطبري 6/495.
2 مؤلف مجهول، العيون والحدائق ص 25-26.
3 ماجد، التاريخ السياسي ص 245، ونبيه عاقل، تاريخ خلافة بني أمية ص 246-247.
4 العدوي، الأمويون ص 161.
5 فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/87، عن شاهد معاصر في سنة 715 م
6 علي حسن، التاريخ الإسلامي العام ص 315، وانظر سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى 1/112.
7 تاريخ الطبري 6/523.
8 تاريخ خليفة بن خياط ص 319-320، وتاريخ الطبري 6/523، وكامل ابن الأثير 4/146.
9 المصادر السابقة نفسها.
والتمويه على الهدف الرئيس1.
صناعة سفن جديدة في دور الصناعة بمصر لتدعيم الأسطول البحري2.
جُمعت أدوات الحرب من كل صنف للصيف والشتاء، وأدوات الحصار من مجانيق وغيرها، كما تزودوا بالنفط وغير ذلك 3، بل لقد ساهمت معظم أقطار الخلافة الإسلامية فيما تحتاجه الحملة من عدة وعتاد 4.
حُشد جيش بري كبير من أهل الشام والموصل والجزيرة 5، وخرج مع الجيش المتطوعة المحتسبون أجرهم على الله تعالى 6، وجماعة من الفقهاء من الشام والعراق 7، قال أكثر المؤرخين: إن عدة الجيش. بلغت 120 ألفاً 8.
1 طقوش، تاريخ الدولة الأموية ص 130.
2 العدوي، الأمويون ص 160.
3 العيون والحدائق ص 24.
4 العدوي، الأمويون ص 160، وعاقل، تاريخ خلافة بني أمية ص 246.
5 الذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وابن كثير، البداية والنهاية 9/178.
6 البداية والنهاية 9/175.
7 العيون والحدائق ص 25، وتاريخ دمشق 64/92، وانظر الأنباري، تاريخ الدولة العربية ص 388.
8 المسعودي، التنبيه والإشراف ص 165، والمقدسي، البدء والتاريخ 6/43، وابن العبري، تاريخ مختصر الدول ص 169، والذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وقال في دول الإسلام: “أزيد من مائة ألف” ص 67، وفي سير أعلام النبلاء قال: “مائة ألف” 5/125، ووردت رواية عند ابن كثير فيما رواه عن الواقدي فيها مبالغة كبيرة، قال: “جهزَّ في البر مائة وعشرين ألفاً وفي البحر مائة وعشرين ألفاً من المقاتلة”، البداية والنهاية 9/175، لكنه عاد في ص 178 من الجزء نفسه فقال: “وهم في نحو من مائة وعشرين ألفاً”. وحتى هذا العدد الأخير يبدو لي أنه مبالغ فيه؛ إذ يصعب تحرك مثل هذا الجيش الضخم وتموينه، وقطعه مسافات شاسعة ومسالك وعرة في عمق بلاد عدو متجه إلى حربه. وأقل ما ذكر عن عدد هذا الجيش هو 80 ألفاً، ابن أعثم، الفتوح 7/309، والعدوي، الأمويون ص 163، وعاشور، أوربا 1/113.
أُعدّ أسطول حربي ضخم لحمل المجاهدين البحريين من مصر وأفريقية،. قدرت قطعه البحرية بألف مركب 1، أو 1800 سفينة كبيرة عدا سفن صغيرة أخرى2. والرواية الأولى أقرب إلى القبول لأنها عن شاهد عيان.
عَيَّنَ الخليفة سليمان أخاه مسلمة بن عبد الملك ليكون قائداً عاماً للجيوش كلها البرية والبحرية3، وهذا الاختيار جاء نتيجة لخبرته الحربية الطويلة في بلاد الروم منذ زمن أبيه عبد الملك، فقد عركته التجربة في بلادهم فصار من أعرف الناس بها، وكان شجاعاً مقداماً، أما قائد الأسطول البحري فهو عمر بن هبيرة الفزاري 4، وإن كانت بعض المراجع الحديثة 5 تقول إن أمير البحر هو
1 تاريخ دمشق 50/338، والذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وابن كثير، البداية والنهاية 9/178.
2 عاشور، أوربا 1/113،والعدوي، الأمويون ص 163-164،وسالم، تاريخ البحرية 1/35، وهذا أيضاً وفق المراجع الغربية انظر مثلاً Vasiliev ، History of the Byzantine Empire، I، P.236.
3 تاريخ الطبري 6/530، والمسعودي، التنبيه ص 165، ومروج الذهب 2/44، وتاريخ القضاعي ص 358،وتاريخ بغداد 9/338، وكامل ابن الأثير 4/146، وتاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وسير أعلام النبلاء 4/501، والبداية والنهاية 9/178
4 تاريخ خليفة بن خياط ص 321، وتاريخ اليعقوبي 2/300،والمسعودي، التنبيه ص 165،وابن عساكر: تاريخ دمشق 45/374، والذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، سير أعلا م النبلاء 4/501، والعبر في خبر من غبر 1/87، والبداية والنهاية 9/178.وهو أبو المثنى، كان أميراً من الدهاة الشجعان، عزله عمر بن عبد العزيز عن إمارة البحر بعد القفول من القسطنطينية، ثم ولاه الجزيرة فغزا الروم، وتولى العراق ليزيد ابن عبد الملك، ثم عزله هشام. انظر عنه: تاريخ دمشق 45/373 وما بعدها.
5 العدوي، الأمويون ص 164، وسالم، تاريخ البحرية الإسلامية 1/35، وعبد اللطيف، العالم الإسلامي ص 257، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص 130.
سليمان [هكذا] دون تعيين، اعتماداً على المصادر الغربية1، لكن روايات شهود العيان تؤيد القول الأول، كالليث بن تميم الفارسيّ 2 الذي قال: “كنت ممن غزا على اسمه وعطائه بفيء عمر بن هبيرة إذ ولاه سليمان غازية البحر”3، وقال: إن عمر بن هبيرة لم يزل على غازية البحر حتى عزله عمر بن عبد العزيز (99-101?/717-720 م) عند القفول من القسطنطينية4، وصُرّح بإمارة ابن هبيرة على البحر في أحداث الحصار نفسها 5.
همّ الخليفة سليمان بالإقامة في بيت المقدس لجمع الناس والأموال 6، ولكنه عدل عنها إلى دابق 7 شمالاً، حيث عسكر هناك 8، ليرفع من الروح المعنوية للجند، وليكون أقرب إلى ميدان الحرب، وقد حلف أن لا يعود حتى تفتح القسطنطينية أو يموت دون ذلك 9.
1 على سبيل المثال Bury، Later Roman Empire، II، P. 401
2 من مشيخة ساحل دمشق، ومن غزاة البحور، روى عنه الوليد بن مسلم روايات كثيرة عن مغازيه التي شارك فيها، في القسطنطينية وغيرها، انظر عنه: تاريخ دمشق 50/337 وما بعدها.
3 ابن عساكر: تاريخ دمشق 50/337.
4 المصدر السابق 57/131.
5 المصدر السابق 68/230-231.
6 الذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 469، وسير أعلام النبلاء 4/501.
7 دابق: قرية قرب حلب بينهما أربعة فراسخ عندها مرج معشب نزه، معجم البلدان 2/ 416.
8 المصدر السابق 2/416-417.
9 تاريخ الطبري 6/531، والذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 469، وسير أعلام النبلاء 4/501، ويذكر صاحب العيون والحدائق أن بعض العلماء أخبر سليمان أن الخليفة الذي يفتح القسطنطينية اسمه اسم نبي، ولم يكن في بني أمية من اسمه اسم نبي غيره، فطمع أن يكون هو، فاستعد وتحمس ص 24. ولم أر فيما اطلعت عليه من كتب الحديث ما يؤيد هذا القول.
أخرج سليمان العطاء للجيش، وأنفق أموالاً كثيرة من الخزائن، وبين للناس غزوتهم وطولها، وأمرهم بتقوى الله، ومصابرة العدو، والتناصح والتناصف1.
أخذ مسلمة معه ما يحتاجه من مواد تساعده على إنجاح مهمته؛ من مؤن وأخشاب لإقامة بيوت تكنُّ المسلمين من شتاء القسطنطينية القارس2.
هذا وقد جاء في رواية للواقدي ساقها كل من الذهبي3 وابن كثير4 أن سليمان قبل أن ينفذ الحملة استشار موسى بن نصير وأخاه مسلمة في أيِّهما يبدأ به أولاً القسطنطينية، أم ما دونها من البلاد حتى يصل إليها فيفتحها؟ فكان رأي موسى بن نصير أن يبدأ بما دونها حتى يصلها، سيراً على سَنن الفاتحين الأولين، أما مسلمة فقد رأى أن يبدأ بالقسطنطينية أولَا، وقد أعجب سليمان هذا الرأي فأخذ به. ويبدو أنهم كانوا على عجلة من أمرهم وإلا فإن رأي موسى كان أحكم وأصوب وأثبتت الأيام نجاحه وصوابه.
سير الحملة إلى القسطنطينية وضرب الحصار:
استدعى مسلمة بن عبد الملك بشراً الغنوي الذي روى عن أبيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: “لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”، قال: فدعاني مسلمة بن عبد الملك، فحدثته، فغزاها5. وكان هذا بعد أن تكامل إعداد الحملة وتجهيزها في سنة
1 الذهبي، تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وابن كثير، البداية والنهاية 9/175، وابن دقماق، الجوهر الثمين ص 70.
2 انظر طقوش، تاريخ الدولة الأموية ص 131.
3 تاريخ الإسلام (81-100) ص 270، وسير أعلام النبلاء 4/501.
4 البداية والنهاية 9/174-175.
5 البخاري، التاريخ الكبير 2/81، ابن عبد البر، الاستيعاب 8/170، وقال إسناده حسن، وانظر تاريخ دمشق 58/34-35.
97?1، واتُخذت كافة الوسائل والتدابير التي تساعد على تحقيق الهدف، فتحركت الجيوش البرية من مرج دابق نحو القسطنطينية سالكة طريق مرعش 2 من ناحية الشام 3، ثم قطعت الدرب مجتازة مناطق الثغور الحدودية، وأفضت إلى ضواحي الروم4، ثم واصلت زحفها حتى وصلت إلى إقليم الأناضول Anatolikon، فتوغلت فيه حتى وصلت إلى عاصمته مدينة عمورية rumiAmo، فضربت عليها حصاراً لم يلبث أن فُكَّ، بسبب اتفاق مع حاكم الإقليم ستأتي الإشارة إليه بإذن الله.
واجتازت الجيوش الإسلامية إقليم الأناضول دون مقاومة، باثة الرعب والذعر في نفوس السكان، وصار الطريق مفتوحاً أمامها، ويستشف من الروايات أن مسلمة استغرق وقتاً قبل الوصول إلى القسطنطينية، وذلك بسبب هجوم الشتاء القارس على الجيش، فشتى بضواحي الروم5، وكانت الدوريات بقيادة أبي يحيى البطال تقوم بتأمين الجيش وحمايته من مباغتة العدو 6.
اقترب الجيش الإسلامي من بحر القسطنطينية وفتح في طريقه مدينتي ساردس Sardis وبرغامة Pergamum الواقعتين قرب شواطئ بحر إيجه7، وتقدم إلى أبيدس Apydos على الساحل فعسكر عندها، وبعد ستة
1 تاريخ الطبري 4/44، والبداية والنهاية 9/169.
2 مرعش: مدينة في الثغور بين بلاد الشام وبلاد الروم إلى جانب ثغر الحدث. انظر عنها: ابن خرداذبة، المسالك والممالك ص 253، والحموي، معجم البلدان 5/107.
3 العيون والحدائق ص 25.
4 تاريخ دمشق 58/21.
5 تاريخ خليفة بن خياط ص 321، وتاريخ اليعقوبي 2/300، والعيون والحدئق ص 25.
6 تاريخ دمشق 33/402، وهذه رواية مهمة انفرد بها ابن عساكر عن الوليد بن مسلم ذكر فيها أن مجموع هذه القوة عشرة آلاف.
7 العريني، الدولة البيزنطية ص 187، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص 131. وأومان، الإمبراطورية البيزنطية، تعريب: مصطفى طه بدر، ص 145، و Vasiliev، History of the Byzantine Empaire، I، P. 236.
عشر يوماً1 وصلت مراكب المسلمين وأسطولهم البحري إلى أبيدس ومسلمة مقيم عليها عند عين ماء، عرفت فيما بعد بعين مسلمة 2.
أما طريق سير الأسطول البحري فيروي شاهد عيان كان ضمن أفراده هو الليث الفارسي أنهم انطلقوا حتى مروا بمصر فتبعوهم فمضوا جميعاً حتى طرابلس أفريقية وعلو أرض الروم حتى إذا حاذوا القسطنطينية ساروا في بحر الشام حتى دفعوا إلى خليج القسطنطينية 3، ومعنى هذا أن أسطول الشام توجه جنوباً لينضم إليه أسطول مصر، ثم اجتمع الأسطول كله ليأخذ طريقاً موحداً نحو القسطنطينية.
وعبر المسلون من أبيدس بواسطة الأسطول إلى الشاطئ الأوربي4، وكان عرض الخليج من ذلك الموضع كما يقول صاحب العيون والحدائق غلوة سهم5، وأثناء العبور تعرض البيزنطيون لبعض مراكب المسلمين فاختطفوها لكن تصدى لهم أحد القادة البحريين فأوقع بهم ـ كما في رواية شاهد العيان الليث الفارسي6 ـ. وبعد أن تم الانتقال إلى العدوة الأوربية توجهت الجيوش نحو القسطنطينية، وعند الوصول بدأ مسلمة بتنظيم الصفوف لإحكام الحصار على المدينة من ناحية البر، وعسكر عند أحد الأبواب المهمة، ونصب المجانيق عليها7، وأرست
1 العدوي، الأمويون ص 163.
2 المسعودي، مروج الذهب 2/44.
3 تاريخ دمشق 50/337-338.
4 العيون والحدائق ص 26، وتاريخ دمشق 50/339.
5 ص 26، وانظر المسعودي، مروج الذهب 2/44
6 تاريخ دمشق 50/338-339، وهذه الرواية مهمة لم تذكرها المصادر والمراجع الأخرى.
7 العيون والحدائق ص 27.
السفن على الساحل مما يلي العسكر، فصار الاتصال بين مسلمة ـ القائد العام ـ وبين ابن هبيرة ـ قائد الأسطول ـ ميسوراً 1، ثم تحرك جزء من الأسطول وفرض الحصار على المدينة من ناحية بحر مرمرة، وحاولت قطع أخرى من الأسطول عبور مضيق البسفور لمحاصرة المدينة من جهة الشمال ـ بعد أن أحكمت السيطرة على مدخله الجنوبي ـ مستغلة هبوب رياح جنوبية ساعدت على تحركها على الرغم من مواجهتها للتيارات المائية القادمة من الشمال التي تعيق السير، وكادت أن تعبر لولا تغير الرياح المفاجئ الذي أربك حركتها وعرضها للتقهقر، فاستغل الروم هذا التراجع وأمطروا السفن بنيرانهم الحربية المعروفة بالنار الإغريقية 2، فعطبت كثير من تلك السفن، وأصيب عدد من المسلمين، وأغلق الروم مدخل القرن الذهبي بسلسلة ضخمة من الحديد 3.
وبهذا ظلت الجهة الشمالية للمدينة مفتوحة لم يستطع المسلمون الوصول إليها أو تطويقها، مما أحدث ثغرة في الحصار مكنت البيزنطيين من الاتصال بالمناطق التي يستمدون منها بعض حاجاتهم ومؤنهم. ومع هذا فإن المسلمين حاصروا عاصمة الروم من الجهات الأخرى، وضغطوا عليها، ومنعوا أهلها من كل مرفق براً وبحراً 4، وقهروهم 5، وأحدثوا الرعب في نفوسهم؛ بما رأوا من بأس المسلمين وشدتهم، وتحملهم للصعاب.
هذا وكان من العوامل التي ساعدت المسلمين على الثبات والصبر على
1 تاريخ دمشق 50/339، وهذه الرواية أيضا عن شاهد عيان.
2 العدوي، الأمويون ص 164. والنار الإغريقية هي مادة شديدة الاشتعال تحترق حتى على سطح الماء، اكتشفها مهندس من أصل سوري من دمشق، يدعى كالينيكوس Callinicus، حتي، تاريخ العرب ص 253.
3 حتي، تاريخ العرب 3/254، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص 132.
4 العيون والحدائق ص 27.
5 تاريخ الطبري 6/530، والعيون والحدائق ص 32.
حصار المدينة على الرغم من برودة الطقس أن مسلمة بن عبد الملك أمر الناس ببناء بيوت من الخشب، وحفر الأسراب1، لتكنهم من البرد، وحفر حول المعسكر خندقاً عميقاً 2، بل وحفر خندقاً آخر من بحر مرمرة حتى القرن الذهبي لمنع الإمدادات من جهة تراقيا 3. وأنه لما دنا من القسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه حتى يصل إليها، وكذلك العلف للدواب، نُقل إليه كل ذلك من الضواحي ومن رساتيق 4 الروم وجاءه في المراكب، فألقي في ناحية فصار كالجبال، وأمرهم أن يدخروه لوقت الحاجة ففعلوا، ومنها أنه أمر الناس بزراعة الأرض، والإغارة على النواحي، فصاروا يأكلون مما يصيبون من الغارات، ثم أكلوا الزرع لما استوى 5.
ولهذا فقد واصل المسلمون حصارهم لمدينة القسطنطينية، ومنعوا الأقوات من التسرب إلى داخلها من ناحيتهم، وشددوا الضغط عليها، فاستخدموا النفط، واستعملوا نوعاً أشبه بالمدفعية 6 في دك أسوار المدينة، وأظهروا من ضروب الشجاعة وحب الاستشهاد في سبيل الله تعالى والروح المعنوية العالية ما أغاظ عدوهم وفتّ في عضده وأنزل الرعب في قلبه.
1 العيون والحدائق ص 32.
2 سالم، تاريخ البحرية الإسلامية 1/35.
3 أومان، الإمبراطورية البيزنطية، تعريب مصطفى بدر ص 146،وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية 2/90، وجوزيف نسيم يوسف، تاريخ الدولة البيزنطيةص131.
(4)
واحدها رُسْتاق، ويقال رُسْداق ورُزْداق، فارسي معرب، قال في التاج عن ياقوت: الذي شاهدناه في زماننا في بلاد الفرس أنهم يعنون بالرستاق: كل موضع فيه مزدرع وقرى، ولا يقال ذلك للمدن، فهو بمنزلة السواد عند أهل بغداد. الزبيدي، تاج العروس، مادة (رزتق) 13/162، والجواليقي، المعرب ص 158.
5 تاريخ الطبري 6/530، والعيون والحدائق، وكامل ابن الأثير 4/146.
6 سالم، تاريخ البحرية الإسلامية 1/35، والعدوي، الأمويون ص 165.