المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأنفال} : - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ٥

[السمين الحلبي]

الفصل: ‌ الأنفال} :

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ‌

‌ الأنفال} :

فاعل «يَسْأل» يعود على معلوم، وهم مَنْ حَضَرَ بَدْراً. و «سأل» تارةً تكونُ لاقتضاء معنى في نَفْسِ المسؤول فتتعدَّى ب «عن» كهذه الآية، وكقول الشاعر:

2379 -

سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ

فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ

وقد تكون لاقتضاء مالٍ ونحوه فتتعدَّى لاثنين نحو: «سألت زيداً مالاً» . وقد ادَّعى بعضُهم أن السؤالَ هنا بهذا المعنى، وزعم أن «عَنْ» زائدةٌ، والتقدير: يسألونك الأنفالَ، وأيَّد قولَه بقراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وزيدٍ ولدِه ومحمد الباقر ولدِه أيضاً وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء:«يسألونك الأنفالَ» دون «عن» . والصحيحُ أن هذه القراءةَ على إرادةِ حرفِ الجر. وقال بعضهم: «عن» بمعنى «مِنْ» . وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه.

وقرأ ابنُ محيصن: «عَلَّنْفَال» . والأصل: أنه نقل حركةَ الهمزة إلى لام

ص: 555

التعريف، ثم اعتدَّ بالحركة العارضة فأدغم النونَ في اللام كقوله:{وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [العنكبوت: 38]، وقد تقدَّم ذلك في قوله {عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] .

والأنفال: جمع نَفَل وهي الزيادة على الشيء الواجب وسُمِّيَتْ/ الغنيمة نَفَلاً لزيادتِها على حِماية الحَوزة. قال لبيد:

2380 -

إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ

وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ

وقال آخر:

2381 -

إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نَرْوي القَنا

ونَعِفُّ عند مَقاسِمِ الأنفالِ

وقيل: سُمِّيت «الأَنْفال» لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم. وقال الزمخشري: «والنَّفَل: ما يُنْفَلُه الغازي، أي يُعْطاه زيادةً على سهمه من المَغْنم» .

قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} : قد تقدَّمَ الكلامُ على «ذات» في آل عمران. وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره: وأَصْلِحوا أحوالاً ذاتَ افتراقِكم وذاتَ وَصْلِكم، أو ذاتَ المكانِ المتصلِ بكم، فإنَّ «بين» قد قيل إنه يُراد به هنا الفراقُ أو الوصل أو الظرف. وقال الزجاج وغيره:«إنَّ» ذات «هنا بمنزلة

ص: 556

قوله تعالى: {وَجِلَتْ} : يُقال: وَجِلَ بالكسر في الماضي يَوْجَلُ بالفتح، وفيه لُغَيَّةٌ أخرى، قرئ بها في الشاذ: وَجَلَتْ بفتح الجيم في الماضي وكَسْرِها في المضارع فَتَنْحَذِف الواو كوَعَد يَعِدُ. ويُقال في المشهورة: وَجِل يَوْجَل. ومنهم مَنْ يقول: ياجَلُ بقلب الواو ألفاً، وهو شاذٌّ لأنه قَلْبُ حرفِ العلة بأحد السببين: وهو انفتاحُ ما قبلَ حرفِ العلة دون تحركه وهو نظير «طائي» في النسب إلى طيِّئ. ومنهم من يقول: يِيْجَلُ بكسر حرف المضارعة فتنقلبُ الواوُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها. وقد تقدَّم في أول هذا الموضوع أنَّ من العرب مَنْ يكسِرُ حرف المضارعة بشروطٍ منها: أن لا يكونَ حرفُ المضارعة ياءً إلا في هذه اللفظة وفي أَبَى يِئْبَى.

ص: 557

ومنهم مَنْ ركَّب من هاتين اللغتين لغةً أخرى وهي فتحُ الياء وقلبُ الواو ياءً فقال: يَيْجَلُ، فأخذ قلبَ الواو ممَّن كسرَ حرفَ المضارعة، وأخذ فتحَ الياءِ مِنْ لغة الجمهور.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن عطية: «وجوابُ الشرط المتقدم في قوله:» وأطيعوا «، هذا مذهب سيبويه، ومذهب المبرد أن الجواب محذوف متأخر، ومذهبه في هذا ألَاّ يتقدَّمَ الجوابُ على الشرط» . قلت: وهذا الذي ذكره أبو [محمد] نقل الناسُ خلافَه، نقلوا ذلك أعني جوازَ تقديمِ جوابِ الشرط عليه عن الكوفيين وأبي زيد وأبي العباس، فالله أعلم أيُّهما أثبت. ويجوز أن يكون للمبرد قولان وكذا لسيبويه، فنقل كلُّ فريق عن كلٍ منهما أحد القولين.

ص: 558

وقوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ} : يجوز في هذا الموصول أن يكون مرفوعاً على النعت للموصول، وعلى البدل، أو على البيان له، وأن يكون منصوباً على القطع المُشْعِر بالمدح. وقوله:{وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : التقديمُ يفيدُ الاختصاصَ أي: عليه لا على غيره. وهذه الجملةُ يُحتمل أن يكون لها محلٌّ من الإِعراب وهو النصبُ على الحال مِنْ مفعول «زادَتْهم» ويُحتمل أن تكونَ مستأنفةً، ويحتمل أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها فتدخلَ في حَيِّزِ الصلاتِ المتقدمةِ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ لها من الإِعراب.

ص: 558

قوله تعالى: {حَقّاً} : يجوز أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوف

ص: 558

أي: هم المؤمنون إيماناً حقاً. ويجوز أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولك: هو عبد الله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي: أحقُّه حقاً. ويجوز وهو ضعيف جداً أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي «لهم درجات» ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله «هم المؤمنون» ثم ابتدئ ب «حقاً» لهم درجات «. وهذا إنما يجوز على رأيٍ ضعيف، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد/ لمضمون جملة عليها.

قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} يجوز أن يكونَ متعلقاً ب» درجات «لأنها بمعنى» أُجُورٌ «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل» درجات «أي: استقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به» لهم «من الاستقرار.

ص: 559

قوله تعالى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ} : فيه عشرون وجهاً: أحدها: أن الكافَ نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: الأنفالُ ثابتةٌ لله ثبوتاً كما أخرجك أي: ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك بالحق، يعني أنه لا مِرْيَةَ في ذلك. الثاني: أن تقديره: وأصلحوا ذاتَ بينكم إصلاحاً كما أخرجك. وقد التفت من خطابِ الجماعةِ إلى خطاب الواحد. الثالث: تقديرُه: وأطيعوا اللهَ ورسولَه طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك أي: كما أن إخراج الله إياك لا مِرْيَةَ فيه ولا شبهة. الرابع: تقديرُه: يتوكلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربك. الخامس: تقديره: هم: المؤمنون حقاً كما أخرجك فهو صفة ل «حقاً» .

السادس: تقديره: استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك. السابع: أنه متعلقٌ بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك. الثامن: تقديرُه: لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي: إن هذين الشيئين: الجدالَ والكراهيةَ ثابتان لا محالة، كما أن إخراجك ثابت

ص: 559

لا محالة. التاسع: أن الكافَ بمعنى إذ، و «ما» مزيدة. التقدير: اذكر إذ أخرجك. وهذا فاسدٌ جداً إذ لم يَثْبُتْ في موضعٍ أن الكاف تكون بمعنى إذ، وأيضاً فإنَّ «ما» لا تُزادُ إلا في مواضعَ ليس هذا منها.

العاشر: أن الكاف بمعنى واو القسم و «ما» بمعنى الذي، واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله:{والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]{وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله «يجادلونك» جوابَ القسم. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّ الناس عليه قاطبةً. وقالوا: كان ضعيفاً في النحو، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن «يجادلونك» لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان: اللام وإحدى النونين، نحو {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً} [يوسف: 32] ، وعند الكوفيين: إمَّا اللامُ وإمَّا إحدى النونين، و «يجادلونك» عارٍ عنهما.

الحادي عشر: أن الكاف بمعنى على، و «ما» بمعنى الذي والتقدير: امْضِ على الذي أخرجَك. وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى «على» البتةَ إلا في موضعٍ يحتمل النزاع كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي على هدايته إياكم. الثاني عشر: أن الكافَ في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله، كأنه ابتداءٌ وخبر. قال ابن عطية:«وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر، وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر» .

ص: 560

الثالث عشر: أنها في موضعِ رفعٍ أيضاً والتقدير: لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك. وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر، ولو صَرَّح بذلك لم يلتئم التشبيهُ ولم يَحْسُنْ.

الرابع عشر: أنها في موضع رفعٍ أيضاً. والتقدير: وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم كما أخرجك، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف. وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله:«وأَصْلِحوا» وبين قوله «كما أَخْرَجَك» .

الخامس عشر: أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى: أنه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه، فقال:«يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحالُ كحالِ إخراجك. يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم للحرب» وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم مِن الألفاظ فإن الفراء قال: «هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال» .

السادس عشر: أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره. والتقدير: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً. السابع عشر: أنَّ التشبيه وقع بين إخراجين أي: إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت

ص: 561

كارهٌ لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإِخراج النصرَ والظفرَ كإخراجه إياك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ، يكون عقيبَ ذلك الخروجِ الظفرُ والنصر والخير كما كانت عقيبَ ذلك الخروجِ الأول.

الثامن عشر: أن تتعلق الكاف بقوله «فاضربوا» . وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب هذا الوجه: الكاف للتشبيه على سبيل المجاز، كقول القائل لعبده: «كما رَجَعْتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه، وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان، كأنه يقول: قد أَزَحْتُ عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. وهذا الوجه بَعْدَ طولِه لا طائل تحته لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل.

التاسع عشر: أن التقدير: كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي: بسبب إظهار دين الله وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو قوله:

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الآيات. وهذا الوجهُ استحسنه الشيخ، وزعم أنه لم يُسْبق به، ثم قال: «ويظهر أن الكافَ

ص: 562

ليست لمحضِ التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نصَّ النحويون على أنها للتعليل، وخرَّجوا عليه قولَه تعالى:{واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، وأنشدوا:

2382 -

لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ

أي: لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشائع:» كما تطيع الله يدخلك الجنة «أي: لأجل طاعتك الله يدخلك، فكذا الآية، والمعنى: لأَنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك وأَمَدَّك بالملائكة» .

العشرون: تقديرُه: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة خيرٌ لكم، كما كان إخراجُك خيراً لهم. وهذه الأقوال مع كثرتها غالبُها ضعيف، وقد بَيَّنْت ذلك. قوله:{بالحق} فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل أي بسبب الحق أي: إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على أعداء الله. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «أَخْرَجَكَ» أي: ملتبساً بالحق.

قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً} الواو للحال، والجملة في محل نصب، ولذلك كُسِرت «إنَّ» . ومفعول «كارهون» محذوف أي: لكارهون الخروج، وسببُ الكراهة: إمَّا نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال، وإمَّا لعدم الاستعداد.

ص: 563

قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ} : يُحتمل أن يكونَ مستأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلة. ويُحتمل أن يكونَ حالاً ثانية أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك. ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في «لكارهون» أي:

ص: 563

لكارهون في حال جدال. والظاهر أن الضمير المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم، ومعنى المجادلة قولهم: كيف نقاتل ولم نعتَدَّ للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفار وجدالُهم ظاهر. قوله: «بعدما تبيَّن» منصوب بالجدال و «ما» مصدرية أي: بعد تبيُّنِه ووضوحِه، وهو أقبحُ من الجدال في الشيء قبل اتِّضاحه. وقرأ عبد الله «بُيِّن» مبنياً للمفعول مِنْ بَيَّنْتُه أي أظهرته.

قوله: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حالٌ من مفعول «يُساقُون» .

ص: 564

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} : «إذ» منصوب بفعل مقدر أي: اذكر إذ. والجمهور على رفع الدال لأنه مضارع مرفوع. وقرأ/ مسلم ابن محارب بسكونها على التخفيف لتوالي الحركات. وقرأ ابن محيصن «يعدكم الله احدى» بوصل همزة «إحدى» تخفيفاً على غير قياس، وهي نظير قراءة مَنْ قرأ:«إنها لاحدى» بإسقاط الهمزة، أجرى همزة القطع مُجْرى همزة الوصل. وقرأ أيضاً «أحد» بالتذكير، لأن الطائفة مؤنث مجازي. وقرأ مسلم بن محارب «بكلمته» على التوحيد، والمراد به اسم الجنس، فيؤدي مؤدَّى الجمع.

ص: 564

قوله تعالى: {لِيُحِقَّ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بما قبله أي: ويقطع ليحق الحق. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: ليحقَّ الحق فَعَل ذلك أي: ما فعله إلا لهما وهو إثباتُ الإِسلام وإظهارُه وزوالُ الكفر ونحوه.

ص: 564

قال الزمخشري: «ويجب أن يُقَدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيدَ الاختصاص وينطبقَ عليه المعنى» . قلت: وهذا على رأيه، وهو الصحيح.

قوله: {أَنَّها لكم} منصوبُ المحل على البدل من «إحدى» أي: يَعِدُكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم أي: تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلَاّكِ فهي بدلُ اشتمال.

ص: 565

قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه منصوب باذكر مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي: إنه مقتطعٌ عما قبله. الثاني: أنه منصوب بيحقُّ أي: يحقُّ الحق وقت استغاثتكم. وهو قول ابن جرير. وهو غلط، لأنَّ «ليحقَّ» مستقبل لأنه منصوب بإضمار «أَنْ» ، و «إذ» ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ الثالث: أنه بدلٌ من «إذ» الأولى، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وكان قد قَدَّموا أن العامل في «إذا» الأولى «اذكر» مقدراً. الرابع: أنه منصوب ب «يعدكم» قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري. الخامس: أنه منصوب بقوله «تَوَدُّون» قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل.

ص: 565

و «استغاث» يتعدى بنفسه وبالباء. ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله. وقد أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر:

2383 -

حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له

من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ

مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه

ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ

كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ

خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ

فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره.

قوله: {أَنِّي} العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً «إني» بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه.

قوله: {بِأَلْفٍ} العامَّة على التوحيد. وقرأ الجحدري: «بآلُفٍ» بزنة أفْلُس. وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال. وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور: أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم

ص: 566

في هاتين القراءتين. أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات.

قوله: {مُرْدِفِينَ} قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً «مُرْدَفين» بفتح الدال والباقون بكسرها. وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له. فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ «مُرْدِفين» يعني بالكسر محذوفاً أي: مُرْدِفين أمثالهم. وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي: جُعِلوا رِدْفاً للأوائل.

ويُطلب جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران، حيث قال هناك «بخمسة» ، وقال هنا «بأَلْف» والقصة واحدة. والجواب: أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة «مُرْدِفين» بكسر الدال.

وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي: ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكة. وقال الفارسي: «مَنْ كسر الدال احتمل وجهين، أحدهما: أن يكونوا مُرْدِفين مثلَهم كما تقول:» أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي «فيكون المفعولُ الثاني محذوفاً، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ. والوجه الآخر: أن يكونوا

ص: 567

جاؤوا بعد المسلمين. وقال الأخفش:» بنو فلان يَرْدِفوننا أي: يجيئون بعدنا «، وقال أبو عبيدة:» مُرْدِفين: جاؤوا بعدُ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد «. قال الفارسي:» هذا الوجه كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ، قولُه «مُرْدِفين» أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم. ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على: أُرْدِفوا الناسَ أي: أُنْزِلوا بعدهم «.

وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل» مُرَدِّفين «بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ مشدَّدة، والأصل: مُرْتَدِفين فأدغم. وقال أبو البقاء:» إن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة كأَفْرَحْتُه وفرَّحته «وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم كقولهم: مُخُضِم بضم الخاء، وقد قُرِئ بها شذوذاً.

وقُرئ» مُرِدِّفين «بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً. وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين: إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع. قال ابن عطية:» ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء، ولا أحفظه قراءة «، قلت: وكذلك الفتحة في» مُرَدِّفين «في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين. أحدهما: وهو الظاهر أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء.

ص: 568

والثاني: أنها فُتِحَتْ تخفيفاً، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به. وقُرِئ» مِرْدِفين «بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء.

والوَجَل: الفَزَعُ. وقيل: استشعار الخوف يُقال منه: وَجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً، فهو وَجِل. والشَّوْكَة: السلاح كسِنان الرُّمْح والنَّصْل والسيف، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان، يُقال منه: رجلٌ شائكٌ، فالهمزةُ من واو كقائم، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه، فيقال:» شاكٍ «، فيصير كغازٍ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير:

2384 -

لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ

له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ

ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال: رجلٌ شاكٌ وشاكٍ، وسلاحٌ شاكٌ وشاكٍ. فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة، ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ صافٌ أي صَوِف، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ.

ويُحتمل أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ ووزنُه على هذا فال. وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم. ومِنْ وصف السلاح بالشاك قوله:

2385 -

وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي

سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا

فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف.

ص: 569

ويُقال أيضاً: هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع، نقله الهروي والراغب.

والاستغاثة: طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل: الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقت الحاجة. وقيل: هي الاستجارةُ. ويقال: غَوْثٌ وغُواث وغَواث، والغيث من المطر والغَوْث من النصرة، فعلى هذا يكونُ «استغاث» مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل فيقال: استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث، وغاثَني مِن الغَيْث. والإِردافُ: الإِتباع والإِركاب وراءك. قال الزجاج: «أَرْدَفْتُ الرجل إذا جئت بعده» . ومنه {تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7]، ويقال: رَدِف وأَرْدَف. واختلف اللغويون فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قولُ ابنِ الأعرابي نقله عنه ثعلب، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال:«يُقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه» ، وأنشد:

2386 -

إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا

ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا

أي جَاءَتْ على رِدْفِها. وقيل: بل بينهما فرقٌ، فقال الزجاج:«يقال: رَدِفْتُ الرجلَ: رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه: أركبتُه خلفي» وهذا يناسِبُ قولَ

ص: 570

مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في «مُرْدِفين» بكسرِ الدال، وأَرْدَفْتُه «إذا جِئْتَ بعده أيضاً، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين. وقال شمر:» رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما/ بغيرك فَأَرْدَفْتُ لا غير «. وقوله:{مُرْدَفِينَ} بفتح الدالِ فيه وجهان، أظهرهما: أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض. والثاني: أنه حالٌ من ضمير المخاطبين في» يمدُّكم «قال ابن عطية:» ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي: أُرْدِفوا بالملائكة «وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني. وقال الزمخشري:» وقرئ «مُرْدَِفين» بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك: رَدِفه إذا تبعه، ومنه قوله تعالى:{رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، أي: رَدِفَكم، وأَرْدَفْتُه إياه إذا تَبِعْتَه، ويقال: أَرْدَفته كقولك: اتَّبَعْته إذا جئت بعده، فلا يخلُو المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين. فإن كان بمعنى مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً، أو مُتْبِعين بعضهم لبعض، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة. ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران

{بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين} [آل عمران: 124]{بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] ، ومن قرأ «مُرْدَفين» بالفتح فهو بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين «.

ص: 571

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ} : الهاء تعود على الإِمداد أي: وما جعل اللهُ الإِمدادَ. ثم هذا الإِمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الأنفال: 9]، إذ المعنى: فاستجاب بإمدادكم. ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله «مُمِدُّكم» كما دلَّ عليه فِعْلُه في قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وهذا الثاني أَوْلى لأنه مُتَأَتٍّ على قراءة الفتح والكسر في «إني» بخلاف الأول فإنه لا يتجه عَوْدُه على الإِمداد على قراءة الكسر إلا بتأويلٍ ذكره الزمخشري وهو أنه مفعولُ القول المضمر فهو في معنى القول. وقيل يعود على المَدَد قاله الزجاج. قال الواحدي: «وهذا أَوْلَى لأنَّ بالإِمداد بالملائكة كانت البشرى» . وقال الفراء: «إنه يعودُ على الإِرداف المدلول عليه بمردفين» . وقيل: يعودُ على الألف. وقيل: على الوعد المدلول عليه ب {يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] .

ص: 572

وقيل: على جبريل أو على الاستجابة، لأنها مؤنث مجازي، أو على الإِخبار بالإِمداد. وهي كلُّها محتملة وأرجحها الأولُ، والجَعْل هنا تصييرٌ.

ص: 573

قوله تعالى: {إذ يَغْشاكم} : في «إذ» وجوه أحدها: أنه بدل من «إذ» في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] . قال الزمخشري: «إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من» إذ يَعِدكم «. قوله:» ثان «لأنه أبدل منه» إذ «في قوله» إذ تَسْتغيثون «ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء. الثاني: أنه منصوبٌ بالنصر. الثالث: ب {مِنْ عِندِ الله} [الأنفال: 10] من معنى الفعل. الرابع: ب {مَا جَعَلَهُ الله} [الأنفال: 10] . الخامس: بإضمار» اذكر «. ذكر ذلك الزمخشري. وقد سبقه إلى الرابع الحوفيُّ.

وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها: أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ المقرون بأل قال:» وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل. الثاني من الأوجه المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله: «إلا من عند الله» ، ولو قلت:«ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً» لم يَجُزْ. الثالث: أنه عَمل ما قبل «إلا» فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها،

ص: 573

لأنه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له. وقد جوَّز الكسائي والأخفش إعمالَ ما قبل «إلا» فيما بعدها مطلقاً، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته.

وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ، والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت. وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ بهذا النصرِ نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف. وضعَّف الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل «إلا» .

السادس: أنه منصوبٌ بقوله: «ولتطمئنَّ به» قاله الطبري. السابع: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه «عزيز حكيم» قاله أبو البقاء. ونحا إليه ابن عطية قبله.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغْشاكم النعاسُ» . نافع: «يُغْشِيكم» بضم الياء وكسر الشينِ خفيفةً. «النعاسَ» نصباً. والباقون «يُغَشِّيكم» كالذي قبله، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى، و «النعاس» فاعل. وفي الثانية مِنْ «أغشى» ، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة مِنْ «غَشَّى» بالتشديد. و «النعاس» فيهما مفعول به، وأغشى وغشَّى لغتان.

قوله: «أَمَنَةً» في نصبِها ثلاثةُ [أوجه] أحدُها: أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي: فَأَمِنْتُم أَمَنةً. الثاني: أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال: إمَّا من

ص: 574

الفاعل، فإن كان الفاعلُ «النعاس» فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ، وإن كان الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ، وإمَّا من المفعولِ على المبالغة أي: جَعْلهم نفسَ الأمنة، أو على حَذْفِ مضاف أي: ذوي أمنة.

الثالث: أنه مفعولٌ من أجله وذلك: إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ من الله تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول له. وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل «يغشى» النعاسُ، وفاعل «الأمنة» الباري تعالى. ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز.

وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: «وأَمَنَةً» مفعولٌ له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت: بلى ولكن لمَّا كان معنى «يَغْشاكم النعاسُ» تَنْعَسون انتصب «أَمَنةً» على معنى: أنَّ النعاسَ والأَمَنَة لهم، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً «. ثم قال:» فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي: يَغْشاكم النعاسُ لأمنة، على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن لا يُقَدَّمَ على غشيانكم، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل «. قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، وقد ألمَّ به من قال:

ص: 575

2387 -

يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً

تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ

وقوله: {مِنْه} في محلِّ نصبٍ صفةً ل» أَمَنَة «، والضمير في» منه «يجوزُ أن يعودَ على الباري تعالى، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً.

وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر» أَمْنَةً «بسكون الميم. ونظير أَمِنَ أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً.

قوله: {مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ} العامَّةُ على» ماءً «بالمد. و» ليطهركم «متعلِّقٌ ب» يُنَزِّل «. وقرأ الشعبي» ما ليطهركم «بألفٍ مقصورة، وفيها تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ» ما «بمعنى الذي، و» ليطهِّرَكم «صلتُها، وقال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم، فقدَّر الجارَّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلة ل» ما «. وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن لامَ» كي «لا تقعُ صلةً. والثاني: أن» ما «هو ماء بالمد، ولكن العرب قد حَذَفَتْ همزتَه فقالوا:» شربت ماً «بميم منونة، حكاه ابن مقسم، وهذا لا نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد.

إذا عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى الوقف. ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ بدلٌ مِنَ الواو التي في «مَوَهَ» في الأصل، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو «مُرٍ» اسم فاعل مِنْ أرى يُري.

ص: 576

قوله: «ويُذْهِبَ» نسقٌ على «ليطهِّركم» . وقرأ عيسى بن عمر «ويُذْهِبْ» بسكون الباء، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً. والعامة على «رِجز» بكسرِ الراء والزاي. وقرأ ابن محيصن بضم الراء، وابنُ أبي عبلة بالسين. وقد تقدَّم الكلامُ على كل واحد منها. ومعنى «رجز الشيطان» هنا ما ينشأُ عن وسوسته.

ص: 577

قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ ثالث من قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] . والثاني: أن ينتصب بقوله «ويثبِّتَ» ، قالهما الزمخشري، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير. وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله «به» ، فقال:«العاملُ في» إذ «العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله» ويُثَبِّتَ «على تأويل عَوْده على الرَّبط، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل» ويثبت «في إذ» ، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال.

قوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} مفعول ب «يوحي» ، أي: يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر. وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه «إني معكم» بكسرِ الهمزة.

ص: 577

وفيه وجهان، أحدهما: أن ذلك على إِضمارِ القول، وهو مذهب البصريين. والثاني: إجراء «يوحي» مُجْرى القول لأنه بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. قوله:{فَوْقَ الأعناق} فيه أوجه، أحدها: أن «فوق» باقيةٌ على ظرفيتها، والمفعولُ محذوفٌ أي: فاضربوهم فوق الأعناق، عَلَّمَهم كيف يضربونهم. والثاني: أن «فوق» مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل: فاضربوا رؤوسَهم. وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف. وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول: فوقُك رأسُك برفع «فوقك» ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال:«فوق الأعناق: أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل» . الثالث: وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي: على الأعناق، ويكون المفعول محذوفاً تقديره: فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول. الرابع: قال ابن قتيبة: «هي بمعنى دون» . قال ابن عطية: «وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ، أي: فما دونها، وليست» فوق «هنا بمعنى دون، وإنما المرادُ: فما فوقها في القلة والصغر. الخامس: أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن، وهذا عند الجمهورِ خطأ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز.

قوله: {مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يجوز أن يتعلَّق» منهم «بالأمر قبله أي: ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم. ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على

ص: 578

أنه حال مِنْ» كلِّ بنان «؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء:» ويَضْعُف أن يكون حالاً من «بنان» إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف «فكأن المعنى: اضربوهم كيف ما كان.

قال الزمخشري: «يعني ضَرْبَ الهام» قال:

2388 -

. . . . . . . . . . . . . . . . .

وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ

وقال:

2389 -

غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ

عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا

وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن يريد بقوله:» فوق الأعناق «وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات العنقِ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق، ودون عظم الرأس» ، ثم قال: «منه قوله:

2390 -

جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه

وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا»

وقيل: هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة: /

ص: 579

2391 -

عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما

خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم

والبَنان: قيل الأصابع، وهو اسمُ جنسٍ، الواحد بَنانة قال عنترة:

2392 -

وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما

وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني

وقال أبو الهيثم: «البنان: المفاصِلُ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة» . وقيل: البَنان: الأصابعُ من اليدين والرجلين. وقيل: الأصابع من اليدين والرِّجلين وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء، وأنشد لعنترة:

2393 -

وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها

ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ

وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً. قال رؤبة:

2394 -

يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ

وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ

ص: 580

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ} : مبتدأ وخبر؟ والإِشارةُ إلى الأمر بضَرْبهم، والخطابُ يجوز أن يكون للرسول، ويجوز أن يكونَ للكفار، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً. كذا قال الشيخ وفيه نظر لوجهين أحدهما: أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد وهو ممتنعٌ أو قليل، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة. والثاني: أن بعده «بأنهم شاقُّوا» فيكون التفتَ من الغَيْبة إلى الخطاب في كلمة واحدة، ثم رَجَع إلى الغَيْبة في الحال وهو بعيد.

قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الله} «مَنْ» مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها

ص: 580

أو الجملة الواقعة جزاءً أو مجموعهما. ومَنْ التزم عَوْدَ ضميرٍ مِنْ جملةِ الجزاء على اسم الشرط قدَّره هنا محذوفاً تقديرُه: فإنَّ الله شديدُ العقاب له. واتفق القراءُ على فَكِّ الإِدغام هنا في «يُشاقِق» لأن المصاحفَ كَتَبَتْه بقافين مفكوكَتَيْن، وفكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز، والإِدغامُ بشروطه لغة تميم.

ص: 581

قوله تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ} : يجوز في «ذلكم» أربعةُ أوجه أحدها: أن يكونَ مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي: العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم. الثاني: أن يرتفعَ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي: ذلكُ العقابُ. وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه «فذوقوه» لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب. والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله:«فذوقوه» ، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا، وأما غيرُه فلا يُجيز زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير مرة. واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر:

2395 -

وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ

وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا

وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه خولان. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده، ويكون من باب الاشتغال. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون نصباً على «عليكم ذلكم» كقوله: زيداً فاضربه «. قال الشيخ:» ولا يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ «عليكم» من أسماء

ص: 581

الأفعال، وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، فتشبيهُه بقولك:«زيداً فاضرِبْه» ليس بجيد، لأنهم لم يُقَدِّروه ب «عليك زيداً فاضربه» وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال «، قلت: يجوز أن يكون نحا الزمخشري نَحْوَ الكوفيين، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً، وكذلك يُعْملونه متأخراً نحو:{كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] .

وقال أبو البقاء:» ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: ذوقوا ذلكم، ويُجْعَلَ الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: باشروا ذلكم فذوقوه لتكون الفاءُ عاطفةً «. قلت: ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله:{وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] .

قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} الجمهور على فتح» أنَّ «وفيها تخريجات، أحدها: أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين. والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم/ أو الواجب أن للكافرين، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار. الثالث: أن تكون عطفاً على» ذلكم «في وجهَيْه، قاله الزمخشري، ويعني بقوله» في وجهيه «، أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما. الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري:» أو نصب

ص: 582

على أن الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر «يعني بقوله» وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر «أن أصلَ الكلام: فذوقوه وأن لكم، فوضع» للكافرين «موضعَ» لكم «، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة. الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار اعلموا، قال الشاعر:

2396 -

تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً

ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا

أي: وترى لليدين بَدَداً، فأضمر» ترى «، كذلك فذوقوه: واعلموا أنَّ للكافرين. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال:» لو جاز هذا لجاز: «زيد قائم وعمراً منطلقاً» ، أي: وترى عمراً منطلقاً، ولا يُجيزه أحد «.

وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.

ص: 583

قوله تعالى: {زَحْفاً} : فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وذلك الناصب له في محل نصب على الحال، والتقدير: إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفاً، أو يزحفون زحفاً. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ثم اختلفوا في صاحبِ الحال فقيل: الفاعل، أي: وأنتم زَحْف من الزحوف، أي: جماعة، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً على حَسَب ما يُفَسَّر به الزَّحْف وسيأتي. وقيل: هو المفعول أي: وهم جمٌّ كثير أو يمشون إليكم. وقيل: هي حالٌ منهما أي: لقيتموهم متزاحِفين بعضَكم إلى بعض.

ص: 583

والزَّحْفُ: الدنوُّ قليلاً قليلاً يقال: زَحَف يَزْحَف إليه بالفتح فيهما فهو زاحفٌ زَحْفاً، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحف وأَزْحَفَ لنا عدوُّنا أي: دَنَوا لقتالنا. وقال الليث: «الزَّحْفُ: الجماعة يمشون إلى عدوِّهم، قال الأعشى:

2397 -

لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ

مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ تَجْدِفُ

وهذا من باب إطلاق المصدر على العين. والزَّحْفُ: الدبيب أيضاً مِنْ» زَحَفَ الصبيُّ «، قال امرؤ القيس:

2398 -

فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ

فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ

ويجوز جمعُه على زُحوف ومَزاحِف، لاختلاف النوع، قال الهذلي:

2399 -

كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه

قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ

ومَزاحِف جمع مَزْحَف اسمَ المصدر.

قوله:» الأَدْبار «مفعول ل» تُوَلُّوهم «.

ص: 584

وكذا {دُبُرَه} مفعول ثان ل {يُوَلِّهم} : وقرأ الحسن بالسكون كقولهم «عُنْق» في عُنُق، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك. وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع كنايةً وليس بشيء.

ص: 584

قوله: {إلا مُتَحرِّفاً} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه حال. والثاني: أنه استثناء. وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: «فإن قلت: بمَ انتصبَ» إلا متحرِّفاً «؟ قلت: على الحال، و» إلا «لغوٌ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين، أي: ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً» . قال الشيخ: «لا يريد بقوله» إلا لغوٌ «أنها زائدة، بل يريد أن العامل وهو» يُوَلِّهم «وَصَلَ لِما بعدها كقولهم في نحو» جئت بلا زاد «إنها لغو، وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوفة والتقدير: ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً بأية حال إلا في حال كذا، وإن لم تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ» إلا «لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ» إلا «فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات، لأنه استثناءٌ مفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي، أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل» ، قلت: قوله: «لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات» لا حاجةَ إليه؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد «إلا» فَضْلَةً أم عمدةً، فَذِكْرُ الفَضْلةِ والمفعول/ يوهم جوازَه في غيرهما.

وقال ابن عطية: «وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم» مَنْ «. فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء. وقال جماعة: إن الاستثناء من أنواع التولِّي. وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ: إلا تحيُّزاً أو تحرُّفاً.

والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ: الانضمام. وتحوَّزَت الحَيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشيء: ضَمَنْتُه. والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ. ووزنُ متحيِّز: مُتَفَيْعِل، والأصل:

ص: 585

مُتَحَيْوِز. فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت. ولا يجوز أن يكون مُتَفَعِّلاً لأنه لو كان كذا لكان متحوُّزاً، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل.

ص: 586

قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} : في هذه الفاء وجهان أحدهما وبه قال الزمخشري: أنها جوابُ شرطٍ مقدر أي: إن افتخرتم بقَتْلهم فَلَمْ تقتلوهم «، قال الشيخ:» وليست جواباً بل لرَبْطِ الكلام بعضِه ببعض «.

قوله: {ولكن الله قَتَلَهُمْ} قرأ الأخَوان وابن عامر» ولكن الله قَتَلهم «» ولكن الله رمى «بتخفيف» لكن «ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة. وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله {ولكن الشياطين} [البقرة: 104] . وجاءت هنا» لكن «أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفى عنه الرَّميَ وأثبته له، وذلك باعتبارين: أي: ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب. وقوله:» وما رَمَيْتَ «هذه الجملة عطفٌ على قوله» فلم تقتلوهم «لأنَّ المضارع المنفي ب لم في قوة الماضي المنفي ب» ما «، فإنك إذا قلت:» لم يَقُم «كان معناه ما قام. ولم يقل هنا: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، كما قال:» إذ رَمَيْت «مبالغةً في الجملة الثانية.

قوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين} ، متعلِّقٌ بمحذوف أي: وليبليَ فَعَلَ ذلك.

ص: 586

أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة أي: ولكن الله رَمَى ليمحق الكفار وليُبْلي المؤمنين. والبلاء في الخير والشر. قال زهير:

2400 -

. . . . . . . . . . . . . . . .

وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو

والهاءُ في» منه «تعود على الظفر بالمشركين. وقيل: على الرمي قالهما مكي. والظاهر أنها تعود على الله تعالى.

ص: 587

قوله تعالى: {ذلكم} : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي: ذلكم الأمر، والخبرُ محذوف قاله الحوفي، والأحسنُ أن يُقَدَّر الخبر: ذلكم البلاءُ حقٌّ وَحَتْمٌ. وقيل: هو خبر مبتدأ، أي: الأمر ذلكم وهو تقدير سيبويه. وقيل: محلُّه نصب بإضمار فِعْلٍ أي: فَعَل ذلك. والإِشارةُ ب «ذلكم» إلى القتل والرمي والإشبلاء. وقوله «بلاءً» يجوز أن يكونَ اسمَ مصدر أي إبلاء، ويجوز أن يكون أريد بالبلاء نفسُ الشيء المبلوِّ به.

قوله: {وَأَنَّ الله} يجوز أن يكون معطوفاً على «ذلكم» فيُحكم على محلِّه بما يُحْكَمُ على محلِّ «ذلكم» وقد تقدَّم، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أن الله، وقد تقدَّم ما في ذلك. وقال الزمخشري:«إنه معطوفٌ على» وليُبْلي «، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين» .

ص: 587

وقرأ ابن عامر والكوفيون «مُوْهِن» بسكون الواو وتخفيف الهاء مِنْ أوهن كأكرم. ونَوَّن «موهن» غيرُ حفص. وقرأ الباقون «مُوَهِّن» بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. ف «كيد» منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص، ومخفوضٌ في قراءةِ حَفْص، وأصلُه النصب. وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر لأن ما عينُه حرفُ حلقٍ غيرَ الهمزة تعديتُه بالهمزة، ولا يُعَدَّى بالتضعيف إلا كَلِمٌ محفوظة نحو: وهَّنْتُه وضَعَّفْتُه.

ص: 588

قوله تعالى: {وَلَن تُغْنِيَ} : قرأ الجمهور بالتاء من فوق لتأنيث الفئة. وقرئ «ولن يُغْني» بالتاء من تحت لأن تأنيثه مجازي وللفصلِ أيضاً. «ولو كَثُرَت» هذه الجملةُ الامتناعية حالية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك.

قوله: {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح والباقون بالكسر. فالفتح من أوجه أحدها: أنه على لام العلة تقديره: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت. والثاني: أنَّ التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله مع المؤمنين. وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف.

ص: 588

قوله تعالى: {وَلَا تَوَلَّوْا} : الأصل: تَتَوَلَّوا/ فحذف إحدى التاءين. وقد تقدَّم الخلاف في أيهما المحذوفة.

ص: 588

قوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية، والضمير في «عنه» يعود على الرسول؛ لأن طاعته من طاعة الله. وقيل: يعود على الله وهذا كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وقيل: يعود على الأمر بالطاعة.

ص: 589

وقوله تعالى: {الصم} : إنما جُمِع «الصُمُّ» وهو خبر «شر» لأنه يُراد به الكثرةُ، فجُمع الخبر على المعنى، ولو كان الأصم لكان الإِفرادُ على اللفظ، فالمعنى على الجمع.

وقوله: {الذين لَا يَعْقِلُونَ} يجوز رفعُه أو نصبه على القطع.

ص: 589

قوله تعالى: {بَيْنَ المرء} : العامَّةُ على فتح الميم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرِها على إتباعها لحركة الهمزة وذلك أن في «المَرْء» لغتين أفصحُهما على فَتْح الميم مطلقاً. والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب، فتقول: هذا مُرْءٌ بضم الميم ورأيت مَرْءاً بفتحها، ومررت بمِرْءٍ بكسرها. وقرأ الحسن والزهري بفتح الميم وتشديد الراء. وتوجيهُها أن يكون نَقَلَ حركة الهمزة إلى الراء، ثم ضَعَّف الراء وأجرى الوصل مُجْرى الوقف.

قوله: «وأنه» يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعودَ على الله تعالى، وهو الأحسنُ لقوله «الله» .

ص: 589

قوله تعالى: {لَاّ تُصِيبَنَّ} : في «لا» وجهان، أحدهما أنها ناهيةٌ، وعلى هذا فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل «فتنة» ؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون معمولة لقول، ذلك القولُ هو الصفةُ أي: فتنةً

ص: 589

مقولاً فيها: لا تصيبنَّ. والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا أي: لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ ظالمَكم. ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها. ونظيرُ إضمار القولِ قولُه:

2401 -

جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ

أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن «لا» نافية، والجملةُ صفةٌ ل «فتنة» وهذا واضحٌ من هذه الجهة، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يَجْري النفيُ ب «لا» مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله:

2402 -

فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها

ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ

وقال آخر:

2403 -

فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه

وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى

ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه

فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى

فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب «لا» مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصولِ بطريق الأَوْلى. إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة.

وزعم الفراء أنَّ «لا تصيبَنَّ» جواب للأمر نحو: «انزلْ عن الدابة

ص: 590

لا تَطْرَحَنَّك» ، أي: إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك، ومنه قوله {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} بالنمل: 18] ، أي: إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم، فدخلت النونُ لِما فيه من معنى الجزاء. قال الشيخ:«وقوله: لا يَحْطِمَنَّكم وهذا المثالُ ليس نظيرَ» فتنةً لا تصيبنَّ الذين «لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ وجزاءٌ كما قَدَّر، ولا ينتظم ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إنْ تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى» .

قال الزمخشري: «لا تصيبنَّ» : لا يخلو: إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة. فإذا كانت جواباً فالمعنى: إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة، بل تَعُمُّكم «، قال الشيخ:» وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه «، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال:» فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو «اتقوا» ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع «اتقوا» فقال: المعنى: إن أصابَتْكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفراء: انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك، وفي قوله:

{ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] ، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [يُقَدَّر] ما كان جواباً للأمر «.

وقيل:» لا تصيبنَّ «جوابُ قسمٍ محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي: فتنة واللهِ لا تصيبنَّ. ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ. وقال:

ص: 591

أبو البقاء:» ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ «، وظاهرُ هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ، وليس كذلك.

وقيل: إن اللامَ لامُ التوكيد، والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنما مُطِلت اللام، أي: أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً، فدخول النون فيها قياسٌ. / وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة» لتصيبَنَّ «وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وَجَّه ذلك ابن جني. والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة، فقال:» ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «لا» يعني حُذِفَتْ ألفُ «لا» تخفيفاً، واكتُفي بالحركة «، قال:» كما قالوا: أمَ والله يريدون: أما والله «. قال المهدوي:» كما حُذِفت مِنْ «ما» وهي أختُ «لا» في نحو «أما والله لأفعلنَّ» وشبهه. قوله «أخت لا» ليس كذلك لأن «أما» هذه للاستفتاحِ ك «ألا» ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي إلى التعمية.

وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة: «لا تصيبنَّ» : «إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» فتنة «وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ

ص: 592

خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة. والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة» .

قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: «وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة» .

وقال علي بن سليمان «هو نَهْيٌ على معنى الدعاء، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ» . وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديرَيْه، والدعاء بتقديريْه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونِها صفةً بتقدير القول.

قوله: {مِنْكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها للبيان مطلقاً. والثاني: أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ، وللبيان على تقدير آخر فقال:«فإن قلت: ما معنى» مِنْ «في قوله» الذين ظلموا منكم «؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأول، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس» . قلت: يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان.

قوله: {خَاصَّةً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله: «لا تصيبنَّ» ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ

ص: 593

محذوفٍ تقديره: إصابةً خاصة. الثاني: أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره: لا تصيبنَّ الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ظلموا» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ» . قلت: ولا أدري ما عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى: واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم غيرُهم، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة، وهذا معنًى واضح.

ص: 594

قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أوضحها: أنه ظرف ناصبه محذوف تقديره: واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلَّتكم، قاله ابن عطية. والثاني: أنه مفعول به. قال الزمخشري: «نصبٌ على أنه مفعولٌ به مذكورٌ لا ظرفٌ/ أي: اذكروا وقتَ كونِكم أقلةً أذلةً. وفيه نظر لأن» إذ «لا يُتَصَرَّف فيها إلا بما ذكرته فيما تقدم، وليس هذا منه. الثالث: أن يكون ظرفاً ل» اذكروا «قاله الحوفي وهو فاسدٌ، لأن العاملَ مستقبلٌ، والظرفُ ماضٍ، فكيف يتلاقيان؟

قوله: {تَخَافُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه خبرٌ ثالثٌ. والثاني: أنه صفةٌ ل» قليل «وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة. والثالث: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُسْتَضْعَفُون «.

ص: 594

قوله تعالى: {وتخونوا} : يجوز فيه أن يكونَ منصوباً بإضمار «أَنْ» على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الجنايتين كقوله:

ص: 594

2404 -

لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه

عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ

والثاني: أن يكونَ مجزوماً نسقاً على الأول، وهذا الثاني أَوْلى؛ لأنه فيه النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله، فإنه نهيٌ عن الجمع بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قوله:{وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] أولَ البقرة.

و «أماناتِكم» على حَذْف مضاف أي: أصحابَ أماناتكم. ويجوز أن يكونوا نُهوا عن جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً. وقرأ مجاهد ورُوِيت عن أبي عمرو «أمانتكم» بالتوحيد والمرادُ الجمع.

«وأنتم تعلمون» جملة حالية، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي: تعلمونَ قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها. ويجوز ألَاّ يُقَدَّر أي: وأنتم من ذوي العلم. والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى العرفان.

ص: 595

وتقدَّم الكلامُ على «الفرقان» أول البقرة والمراد به هنا المُخْرج من الضلال، أو الشيء الفارق بين الحق والباطل، قال مزرد ابن ضرار:

2405 -

بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا

أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا

وقال آخر:

2406 -

ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ

بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا

ص: 595

وقال آخر:

2407 -

وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي

وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ

ص: 596

قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ} : هذا الظرفُ معطوفٌ على الظرف قبله، و «ليُثْبتوك» متعلِّقٌ ب «يَمْكُرُ» . والتثبيتُ هنا الضربُ حتى لا يبقى للمضروبِ حركةٌ قال:

2408 -

فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ

قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وجِعا

وقرأ ابن وثاب «لِيُثَبِّتوك» فعدَّاه بالتضعيف. وقرأ النخعي «ليُبَيِّتُوك» من البيات.

ص: 596

قوله تعالى: {هُوَ الحق} : العامَّةُ على نصب «الحق» وهو خبر الكون و «هو» فصل، وقد تقدَّم الكلامُ عليه مُشْبعاً. وقال الأخفش:«هو» زائد، ومرادُه ما تقدَّم من كونِه فصلاً. وقرأ الأعمش وزيد بن علي برفع «الحق» ، ووجهُها ظاهرٌ برفع «هو» بالابتداء و «الحق» خبره، والجملةُ خبرُ الكون كقوله:

2409 -

تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تركتَها

وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ

وهي لغةُ تميم. وقال ابن عطية: «ويجوز في العربية رفع» الحق «

ص: 596

على خبر» هو «والجملةُ خبرٌ ل» كان «. وقال الزجاج:» ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائزِ «. قلت: قد ظهر مَن قرأ به وهما رجلان جليلان.

وقوله: {مِنْ عِندِكَ} حالٌ من معنى الحق أي: الثابت حالَ كونه مِنْ عندك. وقوله {مِّنَ السمآء} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالفعل قبله. والثاني: أنه صفة لحجارة فيتعلقُ بمحذوفٍ. وقولهم» من السماء «مع أن المطر لا يكون إلا منها، قال الزمخشري:» كأنه أراد أن يقال: فأمْطر علينا السِّجِّيلَ، فوضعَ «حجارة من السماء» موضعَه، كما يقال:«صبَّ عليه مسرودةً من حديد» تريد: «درعاً» ، قال الشيخ:«إنه يريد بذلك التأكيد» ، قال:«كما أن قوله» من حديد «معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء» . وقال ابن عطية: «قولهم من السماء مبالغة وإغراق» . قال الشيخ: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ قولِهم من السماء هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذَكَر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي: إنك تذكر أن الوحيَ يأتيك مِن السماء فَأْتِنا بالعذابِ من الجهة التي يأتيك الوحي منها قالوه استبعاداً له» .

ص: 597

قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَهُمْ} : قد تقدَّم الكلامُ على هذه اللام المسماة لام الجحود. والجمهورُ على كسرها. وقرأ أبو السمال بفتحها قال ابن عطية عن أبي زيد: «سمعت من العرب مَنْ يقول:» لَيعذبهم «بفتح

ص: 597

اللام، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن» ، قلت: يعني في المشهور منه ولم يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال «. وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فتحَ كلِّ لامٍ/ عن بعض العرب إلا في» الحمد لله «. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو فَتْحَ لامِ الأمرِ من قوله {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} [عبس: 24] .

وأتى بخبر» كان «الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية، فإنه: إمَّأ أن يكونَ محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي: ما كان الله مُريداً لتعذيبهم، وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجودِه عليه السلام فيهم وبين استغفارِهم.

وقوله: {وَأَنتَ فِيهِمْ} حال، وكذلك {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . والظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل: الضمير في» يُعَذِّبهم «و» مُعَذِّبهم «للكفار، والضمير من قوله» وهم «للمؤمنين. وقال الزمخشري:» وهم يستغفرون «في موضع الحال، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي: ولو كانوا ممَّن يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 114] ولكنهم لا يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم» وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير.

ص: 598

قوله تعالى: {أن لا يُعَذِّبَهُمُ} : في «أن» وجهان، أحدهما:

ص: 598

وهو الظاهر أنها مصدريةٌ، وموضعها: إمَّا نصبٌ أو جرٌّ لأنها على حذف حرف الجر؛ إذ التقدير: في أن لا يعذبهم. وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّق به «لهم» من الاستقرار. والتقدير: أيُّ شيء استقرَّ لهم في عدم تعذيبِ اللهِ إياهم، بمعنى لا حظَّ لهم في انتفاء العذاب. والثاني: أنها زائدةٌ وهو قول الأخفش. قال النحاس: «لو كانت كما قال لَرَفع» يُعَذِّبهم «. يعني النحاس فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موقعَ الحال كقوله: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بالله} [المائدة: 84] ، ولكن لا يلزم من الزيادة عدمُ العمل، ألا ترى أن» مِنْ «والباء تعملان وهما مزيدتان. وقال أبو البقاء:» وقيل: هو حال وهو بعيد؛ لأنَّ «أَنْ» تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال «. والظاهر أن» ما «في قوله» وما لهم «استئنافية، وهو استفهامٌ معناه التقرير أي: كيف لا يُعَذَّبون وهم متصفون بهذه الحال؟ وقيل:» ما «نافية فهي إخبارٌ بذلك أي ليس عدمُ التعذيب، أي: لا ينتفي عنهم التعذيبُ مع تلبُّسِهم بهذه الحال.

قوله: {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} في هذه الجملةِ وجهان أحدهما: أنها استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي» وهم يَصُدُّون «والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن: صَدِّهم عن المسجد الحرام وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله.

ص: 599

قوله تعالى: {إِلَاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} : أي: ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية، أي: إن كان لهم صلاةٌ فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر:

2410 -

وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه

أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا

فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء.

والمُكاء: مصدر مَكا يمكو، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه، قال الأصمعي: «قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة:

2411 -

وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً

تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ

يقال: مَكَتِ الفَريصة، أي: صَوَّتَتَ بالدم. ومكت اسْتُ الدابة، أي: نفخت بالريح. وقال مجاهد: المُكَّاء: صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال الشاعر:

2412 -

إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ

فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات

المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة. قال أبو عبيدة:» يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً: صَفَر، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ. قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء.

ص: 600

والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما: أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة، والمراد بها هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه قراءته. وهذا مناسبٌ لقوله: {لَا تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] /. وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قولُه تعالى:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] في قراءة مَنْ كسر الصاد أي: يضجُّون ويَلْغَطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال:«إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من المضعَّف» ؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال: «قد ثبت أنَّ يَصُدُّون مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه، وتَصْدِية تَفْعِلَة» ، ثم ذكر كلاماً كثيراً. والثاني: أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل: تَصْدِدَة بدالين أيضاً، فأُبْدِلت ثانيتهما ياءً. ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ «يَصُدُّون» بالضم أي: يمنعون.

وقرأ العامَّةُ «صلاتُهم» رفعاً، «مُكاءً» نصباً، وأبان بن تغلب والأعمش

ص: 601

وعاصم بخلافٍ عنهما «وما كان صلاتَهم» نصباً، «مكاءٌ» رفعاً. وخطَّأ الفارسي هذه القراءةَ وقال: «لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول حسان:

2413 -

كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ

يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ

وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس، يعني أنهما مصدران قال:» واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة، كما يُوصف به النكرة كقوله تعالى:{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37]، وقولِ الآخر:

2414 -

ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني

وقال بعضهم: «وقد قرأ أبو عمرو» إلا مُكاً «بالقصر والتنوين، وهذا كما قالوا: بكاء وبُكى بالمد والقصر. وقال الشاعر فجمع بين اللغتين:

2415 -

بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها

وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ

ص: 602

قوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} : قد تقدَّم الخلافُ فيه في

ص: 602

آل عمران. وقوله: «ويَجْعل» : يحتمل أن تكون تصييريةً فتنصبَ مفعولين، وأن تكونَ بمعنى الإِلقاء فتتعدَّى لواحد، وعلى كلا التقديرين ف «بعضه» بدلُ بعضٍ من كل، وعلى القول الأول يكون «على بعض» في موضع المفعول الثاني، وعلى الثاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل نحو قولك:«ألقيْتَ متاعك بعضَه على بعض» . وقال أبو البقاء بعد أن حكم عليها بأنها تتعدَّى لواحد: «وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديرُه: ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض» .

واللام في «ليميز» متعلقة بيُحْشَرون. ويقال: مَيَّزته فتميَّزَ، ومِزْتُه فانماز. وقرئ شاذاً {وانمازوا اليوم} [يس: 59] ، وأنشد أبو زيد:

2416 -

لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه

وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا وَجِلا

وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران.

قوله: {فَيَرْكُمَهُ} نسقٌ على المنصوب قبله. والرَّكْمُ: جَمْعُك الشيءَ فوق الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً، كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] . والمُرْتَكم: جادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه، أي: ازدحام السَّابلة وآثارهم. و «جميعاً» حال. ويجوز أن يكونَ توكيداً عند بعضهم.

ص: 603

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ كفروا} : في هذه اللام الوجهان المشهوران: إمَّا التبليغُ، أَمَرَ أن يبلِّغهم معنى هذه الجملةِ المحكيةِ بالقول، وسواءً أوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍ لمعناها. والثاني: أنها للتعليل وبه قال الزمخشري ومنع أن تكون للتبليغ فقال: «أي: قل لأجلهم هذا القولَ إن ينتهوا، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تَنْتَهوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود، ونحوه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ} [الأحقاف: 11] خاطبوا به غيرَهم [لأجلهم] ليسمعوه» .

وقرئ «يَغْفر» مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى.

ص: 604

قوله تعالى: {أَنَّ الله مَوْلَاكُمْ نِعْمَ المولى} : يجوز في «مولاكم» وجهان، أظهرُهما: أنَّ «مولاكم» هو الخبر و «نِعْم المولى» جملةٌ مستقلة سِيْقَتْ للمدح. والثاني: أن تكون بدلاً من «الله» والجملةُ المَدْحِيَّةُ خبر ل «أن» والمخصوصُ بالمدح محذوف أي: نِعْم المولَى اللهُ أو ربكم.

ص: 604

قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} : الظاهرُ أن «ما» هذه موصولةٌ بمعنى الذي، وكان مِنْ حقها أن تُكتب منفصلةً من «أنَّ» كما كُتِبَتْ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [الأنعام: 134] منفصلةً ولكن كذا رُسِمت. و «غَنِمْتم» صلتُها، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي: غَنِمْتموه. وقوله: {فأنَّ الله} الفاءُ مزيدةٌ في الخبر، لأن المبتدأ ضُمِّن معنى الشرط، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه لأنه لم يغيِّرْ معناه وهذا كقوله تعالى:{إِنَّ الذين فَتَنُواْ} [البروج: 10] ثم قال: «فلهم» . والأخفش مع تجويزه زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلَتْ عليه «إنَّ» المكسورة، وآيةُ البروج حجَّةٌ عليه. وإذا تقرَّر هذا ف «أنَّ» وما عَمِلَتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فواجبٌ أن لله خُمُسَه، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر ل «أنَّ» . وظاهر كلام الشيخ أنه جَعَلَ الفاءَ داخلةً على «أن لله خُمُسَه» من غير تقديرِ أن تكونَ مبتدأ وخبرها محذوف، بل جَعَلَها بنفسها خبراً، وليس مرادُه ذلك، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ بل على جملةٍ، والذي يُقَوِّي إرادَته ما ذكرتُه أنه حكى قولَ الزمخشري أعني كونَه قَدَّره أنَّ «أنَّ» وما في حَيِّزها مبتدأٌ محذوفُ الخبر، فَجَعَله قولاً زائداً على ما قدَّمه.

ويجوز في «ما» أن تكونَ شرطيةً، وعاملُها «غَنِمْتُم» بعدها، واسمُ «أنَّ» حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء. إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله:

ص: 605

2417 -

إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةِ يوماً

يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ

وقول الآخر:

241 -

8- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا

نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ

وقيل: الفاءُ زائدةٌ و «أن» الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وقال مكي: «وقد قيل: إن الثانيةَ مؤكدةٌ للأولى، وهذا لا يجوز لأن» أنَّ «الأولى تبقى بغير خبرٍ، ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد، وزيادتُها لا تَحْسُن في مثل هذا» . وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدر بمعنى المفعول أي: أنَّ مَغْنومكم [هو] المفعول به، أي: واعلموا أنَّ غُنْمكم، أي مغنومكم.

قوله: {مِّن شَيْءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر، والمعنى: ما غنمتموه كائناً من شيء أي: قليلاً أو كثيراً. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو:«فإن لله» بكسر الهمزة. ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي «فللَّه خمسُه» فإنها استئناف.

وخرَّجها أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً ل «أنَّ» الأولى.

ص: 606

وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «خُمْسَه» وهو تخفيفٌ حسن. وقرأ الجعفي «خِمْسَه» ، قالوا: وتخريجها أنه أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها، وهي هاء الجلالة مِنْ كلمة أخرى مستقلة قالوا: وهي كقراءة مَنْ قرأ {والسمآء ذَاتِ الحبك} [الذاريات: 7] بكسر الحاء إتباعاً لكسرةِ التاء من «ذات» ولم يَعْتَدُّوا بالساكن وهو لامُ التعريف لأنه حاجزٌ غيرُ حصين. ليت شعري وكيف يَقْرأ الجعفي والحالةُ هذه؟ فإنَّه إنْ قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقلِ لخروجه مِنْ كسرٍ إلى ضم، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو أو عن عاصم، ولكن الذي قرأ «ذاتِ الحِبك» يُبْقي ضمَّة الباء فيؤدي إلى فِعُل بكسر الفاء وضمِّ العين وهو بناءٌ مرفوض، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر الباء لَما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإِتباع لأنَّ في «الحبك» لغتين: ضمَّ الحاء والباء أو كسرَهما، حتى زعم/ بعضُهم أن قراءة الخروج مِنْ كسرٍ إلى ضمٍ من التداخل.

والغنيمة أصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً. قال علقمة بن عبدة:

2419 -

ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه

أنَّى توجَّه والمحرومُ محرومُ

وقال آخر:

ص: 607

2420 -

لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى

رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب

قوله: {إِن كُنتُمْ} شرطٌ جوابه مقدرٌ عند الجمهور لا متقدمٌ، أي: إن كنتم آمنتم فاعلموا أن حكمَ الخُمْس ما تقدَّم، أو فاقبلوا ما أُمِرتم به.

قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا} «ما» عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف. وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه، وهو قوله «فنِعْم المَولى» وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين.

قوله {يَوْمَ الفرقان} يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون منصوباً ب «أَنْزلنا» أي: أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصبَ بقوله «آمنتم» ، أي: إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان. ذكره أبو البقاء. والثالث: أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ. قال الزجاج: «أي ما غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا» . قال ابن عطية: «وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ» . قلت: وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه، وذلك أن «ما» : إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء، وإمَّا موصولة، فعلى الأول يؤدِّي إلى الفصل بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها، وعلى الثاني يؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر «أنَّ» .

قوله: {يَوْمَ التقى الجمعان} فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الظرفِ قبله. والثاني: أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل: يومَ فرق فيه في

ص: 608