الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاءِ الجمعين. وقرأ زيد بن علي «عُبُدنا» بضمتين وهو جمع عَبْد، وهذا كما قرئ {وَعُبُدَ الطاغوت} [المائدة: 60] والمراد بالعُبُدِ في هذه القراءة هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعه من المؤمنين.
قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ} : في هذا الظرفِ أربعةُ أوجهٍ أحدها: أنه منصوبٌ ب «اذكروا» مقدراً وهو قول الزجاج. الثاني: أنه بدل من «يوم الفرقان» أيضاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «قدير» ، وهذا ليس بواضحٍ، إذ لا يتقيَّد اتصافُه بالقدرة بظرفٍ من الظروف. الرابع: أنه منصوبٌ بالفرقان أي: فَرَقَ بين الحق والباطل إذ أنتم بالعُدْوة.
قوله: {بالعدوة} متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ، والباء بمعنى «في» كقولك «: زيد بمكة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما. والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته. قال الشاعر:
2
42
1 - عَدَتْني عن زيارتها العَوادي
…
وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ
وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح، وهي كلُّها لغاتٌ بمعنى واحد. هذا هو قولُ جمهورِ اللغويين. على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر
الضمَّ ووافقه الأخفش فقال:» لم يُسْمَعْ من العرب إلا الكسرُ «. ونقل أبو عبيد اللغتين إلا أنه قال:» الضمُّ أكثرهما «. وقال اليزيدي:» الكسر لغة الحجاز «وأنشد قولَ أوس بن حجر:
2422 -
وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه
…
وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال
بالكسر والضم، وهذا هو الذي ينبغي أن يُقال فلا وجهَ لإِنكار الضمِّ ولا الكسر لتواتر كلٍ منهما. ويُحْمل قول أبي عمرو على أنه لم يَبْلُغْه. ويُحتمل أن يُقال في قراءةِ مَنْ قرأ بفتح/ العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان.
وقُرئ شاذّاً» بالعِدْية «بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها، ولا يُعْتبر الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا:» هو ابن عمي دِنيا «بكسر الدال وهو من الدنو، وكذلك قِنْية وصِبْية، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة والصِّفْوة والرِّبوة. وقوله:» الدنيا «قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة مسبقاً.
قوله: {القصوى} تأنيث الأقصى. والأقصى: الأبعد. والقَصْوُ: البعد. وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو: إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ لامُها ياءً، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وهذه صفاتٌ لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا أنها جَرَتْ مجرى الجوامد. قالوا: وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على حالها نحو: الحُلْوى تأنيث الأحلى، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت
لغة الحجاز، وأن القُصْيا قياسٌ، وهي لغة تميم. وممَّن نصَّ على شذوذ القصوى يعقوب بن السكيت. وقال الزمخشري:» وأما القصوى فكالقَوَد في مجيئه على الأصل، وقد جاء القُصْيا إلا أنَّ استعمالَ القُصْوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» وأَغْيلت مع أغالَتْ «انتهى.
وقد قرأ زيد بن علي «بالعُدْوَة والقُصْيا» فجاء بها على لغة تميم، وهي القياسُ عند هؤلاء.
والعبارة الثانية وهي المغلوبَةُ القليلةُ العكس، أي: إن كانَتْ صفةً أُبْدِلت نحو: العُليا والدنيا والقُصْيا، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو: حُزْوَى كقوله:
2423 -
أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً
…
فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وعلى هذا فالحُلْوى شاذة لإِقرار لامها مع كونها صفةً، وكذا القُصوى أيضاً عند هؤلاء لأنها صفة.
وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن «قُصْوى» على خلافِ القياس فيهما، وأن «قُصْيا» هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء، وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضاً ياءً، وإنما يَظْهر الفرقُ في الحُلْوى وحُزْوى: فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً، والحُزْوَى عكسُها: فإن الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات، والآخرون عكسُهم. وهذا موضعٌ
حَسَنٌ يختلط على كثير من الناس فلذلك نَقَّحْته. ونعني بالشذوذِ شذوذَ القياسِ لا شذوذَ الاستعمال، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى.
قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} الأحسنُ في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على «هم» أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على «أنتم» لأنها مَبْدأُ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم. ويجوز أن تكونا واوَيْ حال. و «أسفل» منصوبٌ على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي: والركب مكاناً أسفلَ من مكانكم. وقرأ زيد بن علي «أسفلُ» بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع، جعل الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً. وقال مكي:«وأجاز الفراء والأخفش والكسائي» أسفلُ «بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي: موضعُ الركب أسفلُ» . والتخريجُ الأولُ أبلغُ في المعنى.
والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله:
2424 -
بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا
…
أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا
فصَغَّره على لفظه، ولو كان جمعاً لَما صُغِّر على لفظه.
قوله: {ولكن لِّيَقْضِيَ} «ليَقْضي» متعلِّقٌ بمحذوف، أي: ولكن تلاقَيْتُم ليقضيَ. وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال: «أي: ليقضيَ الله أمراً كان واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك» .
و «كان» يُحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، وأن تكونَ بمعنى صار، فتدلَّ على التحوُّل أي: صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك.
/ قوله: {لِّيَهْلِكَ} فيه أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله «ليقضيَ» بإعادة العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول.
الثاني: أنه متعلقٌ بقوله «مفعولاً» ، أي: فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به «ليقضيَ» على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف تقديره: وليهلك، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً. وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه. الرابع: أنه متعلِّقٌ ب «يَقْضي» ذكره أبو البقاء. وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «ليهلَكَ» بفتح اللام، وقياسُ ماضي هذا «هَلِك» بالكسر. والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى:{إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176]{حتى إِذَا هَلَكَ} [غافر: 34] .
قوله: {مَنْ حَيَّ} قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير بالإِظهار، والباقون بالإِدغام. والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حَيِي وعَيِيَ. ومن الإِدغام قولُ المتلمس:
2425 -
فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه
…
. . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر:
2426 -
عَيُّوا بأمرِهِمُ كما
…
عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ
فأدغم «عيُّوا» ، ويُنْشَدُ: عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام. فَمَنْ أظهر فلأنه الأصلُ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّي إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في ذاته، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور، وذلك في مضارع هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا، فَحُمِل الماضي عليه طَرْداً للبابِ، ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو: حَييت وبابه، ولأنَّ الحركتين مختلفتان، واختلافُ الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا: ولذلك قالوا: لَحِحَت عينه وضَبِبَ المكان وأَلِلَ السِّقاء ومَشِشَتْ الدابة. قال سيبويه: «أخبرَنا بهذه اللغة يونس» يعني بلغة الإِظهار. قال: «وسمعت بعض العرب يقول: أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر» وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع عُروضها أَوْلى. ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهرِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ حركةَ الثانية لازمةٌ لأنها حركةُ بناء، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ، كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو: حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ، ولذلك قُيِّد به بالماضي، أمَّا إذا كانت حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له: يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ.
قوله: {عَن بَيِّنَةٍ} : متعلقٌ ب «يَهْلِكَ» و «يَحْيَا» . والهلاكُ والحياةُ عبارةٌ عن الإِيمان والكفر. والمعنى: ليصدرَ كفرُ مَنْ كفر عن وضوحٍ وبيان لا عن مخالجةِ شبهة، وليصدرَ إسلامُ مَنْ أسلم عن وضوحٍ لا عن مخالجة شبهة.
قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} : الناصب ل «إذ» يجوز أن يكون مضمراً أي: اذكر، ويجوز أن يكون «عليم» وفيه بُعْدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقت. ويجوز أن تكون «إذ» هذه بدلاً من «إذ» قبلها.
والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ: هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول. فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول، و «هم» مفعول ثان. و «قليلاً» حال، وعلى الثاني يكون «قليلاً» نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي من غيرِ دليلٍ تقول: أراني الله زيداً في منامي، ورأيته في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل.
قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} : الإِراءةُ هنا بَصَرية والإِتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ لاتصالها بضمير. ولا يجوز التسكينُ ولا الضمُّ من غير واو. وقد جوَّز يونس ذلك فيقول: أنتم ضَرَبْتُمه في «ضربتموه» بتسكين الميم وضمها. وقد يتقوَّى بما رُوي عن عثمان رضي الله عنه: «أراهُمُني/ الباطل شيطاناً» . وفي هذا الكلام شذوذٌ من وجهٍ آخرَ: تقديم الضمير غيرِ الأخص على الأخصِّ مع الاتصال.
قوله تعالى: {فَتَفْشَلُواْ} : يحتمل وجهين، أحدهما: نصبٌ على جواب النهي. والثاني: الجزم عطفاً على فعل النهي قبله، وقد تقدَّم
تحقيقهما في «وتَخُونوا» قبل ذلك. ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عمر «ويَذْهَبُ» بياء الغيبة وجزمه. ونقل أبو البقاء قراءةَ الجزم ولم يُقَيِّدها بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة «ويَذْهَبَ» بياء الغيبة ونصبِه. وقرأ الحسن: فَتَفْشِلوا بكسر الشين. قال أبو حاتم: «هذا غيرُ معروف» وقال غيره: إنها لغةٌ ثانية.
قوله تعالى: {بَطَراً وَرِئَآءَ} : منصوبان على المفعول له، ويجوز أن يكونا مَصْدرين في موضع نصبٍ على الحال من فاعل «خرجوا» أي: خَرَجُوا بَطِرين ومُرائين. و «رئاء» مصدرٌ مضاف لمفعولِه.
قوله: {وَيَصُدُّونَ} يجوز أن يكونَ مستأنفاً، وأن يكون عطفاً على «بطراً» ورئاء «لأنه مُؤوَّل بالحال أي: بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ، وحُذِفَ المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه.
قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ} : أي: اذكر وقت تزيين و «قال» يجوز أن تكون عطفاً على «زَيَّن» ، ويجوز أن تكون الواو للحال، و «قد» مضمرةٌ بعد الواو عند مَنْ يَشْترط ذلك.
قوله: {لَا غَالِبَ لَكُمُ} «لكم» خبر «لا» فيتعلَّق بمحذوف و «اليوم» منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر. ولا يجوز أن يكون «لكم» أو الظرف متعلقاً ب «غالب» لأنه يكونُ مُطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً.
قوله: {مِنَ الناس} بيان لجنس الغالب. وقيل: هو حال من الضمير في «لكم» لتضمُّنه معنى الاستقرار. ومنع أبو البقاء أن يكون «من الناس» حالاً
من الضمير في «غالب» قال: «لأن اسم» لا «إذا عمل فيما بعده أُعْرِب» والأمر كذلك.
قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله «لا غالبَ لكم» فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ. ويجوز أن تكونَ الواو للحال. وألف «جار» من واو لقولهم «تجاوروا» وقد تقدم تحقيقه. و «لكم» متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «جار» ، ويجوز أن يتعلق ب «جار» لما فيه من معنى الفعل «.
و» الريح «في قوله {ريحكم} كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال:
2427 -
إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها
…
فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا
ورواه أبو عبيد» ركوداً «. وقال آخر:
2428 -
أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ
…
أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي
وقال:
2429 -
قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم
…
ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا
وقيل: الريح: الهيبة، وهو قريبٌ من الأول كقوله:
2430 -
كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ
…
والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن عَدَدِ
قوله:» نَكَص «جواب» لمَّا «والنُّكوص: قال النضر بن شميل:» الرجوع قهقرى هارباً «. قال بعضهم: هذا أصلُه، إلا أنه قد اتُّسِع فيه حتى استُعْمل في كل رجوع وإن لم يكن قَهْقَرى قال الشاعر:
2431 -
هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا
…
لا يَنْكُصُون إذا ما استُلْحِموا لَحِموا
وقال المؤرِّج:» النُّكوص: الرجوعُ بلغة سُلَيْم «وقال الشاعر:
2432 -
ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً
…
إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ
فهذا إنما يريد به مُطْلَق الرجوع لأنه كنايةٌ عن الفِرار، وفيه نظر؛ لأن غالب الفِرار في القتال إنما هو كما ذُكِر رجوعُ القَهْقَرى. و» على عَقِبيْه «حال: إمَّا مؤكدةٌ عند مَنْ يَخُصُّه بالقهقرى، أو مؤسَّسةٌ عند مَنْ يَسْتعمله في مطلق الرجوع.
قوله تعالى: {إذ يقولُ} : العامل في «إذ» إمَّا «زَيَّن» ، وإمَّا «نكص» ، وإمَّا «شديد العقاب، وإمَّا اذكروا. و» غرَّ هؤلاءِ دينَهم «منصوبُ المحل بالقول.
قوله تعالى: {يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} : قرأ ابن عامر والأعرج «تتوفَّى» بتاء التأنيث في «تتوفَّى» لتأنيث الجماعة. والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان: أظهرهما: لموافقة قراءة مَنْ تقدم أن الفاعل الملائكة
وإنما ذُكِّر للفصل؛ لأن التأنيث مجازي. والثاني: أن الفاعل ضمير الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه، و «الملائكةُ» مبتدأ و «يَضْربون» خبره. وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان أحدُهما: أنها حالٌ من المفعول. والثاني: أنها استئنافيةٌ جواباً لسؤالٍ مقدر، وعلى هذا فيوقف على «الذين كفروا» بخلاف الوجهين قبله. وضعَّف ابنُ عطية وجهَ الحال بعدم/ الواو، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من واو نظماً ونثراً. وعلى كون «الملائكة» فاعلاً يكون «يَضْربون» جملةً حاليةً سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير. وجوابُ «لو» محذوفٌ للدلالة عليه أي: لرأيت أمراً عظيماً.
قوله: {وَذُوقُواْ} هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا. وقيل: الواو في «يَضْربون» للمؤمنين، أي: يَضْربونهم حالَ القتال وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة.
قوله: {وَأَنَّ الله} عطفٌ على «ما» المجرورة بالياء أي: ذلك بسببِ تقديم أيديكم، وبسبب أنَّ الله ليس بظلَاّمٍ للعبيد.
وقوله تعالى: {كَدَاْبِ آلِ} : قد تقدَّم نظيره في آل عمران.
قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ} : مبتدأ وخبر أيضاً كنظيره، أي: ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أن الله. وقوله: «وأنَّ الله سميعٌ» الجمهورُ على فتح «أنَّ» نَسَقاً على «أنَّ» قبلها، أي: وسبب أن الله سميع عليم. ويُقْرأ بكسرِها على الاستئناف.
قوله تعالى: {كَدَأْبِ} : قال قومٌ: «هو تكريرٌ للأول» . وقال قوم: كُرِّر لغير تأكيد لوجوهٍ منها: أن الأول دَأْبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا، وهذا دَأْبٌ في أَنْ لم يغير الله نعمتهم حتى غَيَّروها هم، قاله ابن عطية. ومنها: أن الثاني جارٍ مجرى التفصيل الأول فإن الأولَ متضمِّنٌ لذِكْرِ إجرامهم والثاني متضمِّنٌ لذكر إغراقهم، وفي الأولى ما يَنْزِل بهم حالَ الموت من العقوبة، وفي الثاني ما يَحُلُّ بهم من العذاب في الآخرة، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة. وفي الثاني بآيات ربهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ رَبَّاهم وأحسنَ إليهم. وقال الكرماني:«يُحتمل أن يكون الضمير في» كفروا «في الآية الأولى عائداً على قريش، والضمير في» كذَّبوا «في الثانية عائداً على آلِ فرعون ومَنْ ذُكِر معهم» .
قوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} جُمِع الضميرُ في «كانوا» وجُمع «ظالمين» مراعاةً لمعنى «كل» ؛ لأنَّ «كلاً» متى قُطعت عن الإِضافة جاز مراعاةُ لفظِها تارةً ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ، ولو رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً: وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل.
قوله تعالى: {الذين عَاهَدْتَّ} : يجوز فيه أوجه، أحدها: الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه أو على النعت له، أو على عطف البيان، أو النصبُ على الذم، أو الرفعُ على الابتداء، والخبرُ قولُه:«فإمَّا تَثْقَفَنَّ» بمعنى: مَنْ تعاهد منهم أي من الكفار ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية. و «منهم» يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول
المحذوف إذ التقدير: الذي عاهدتهم أي: كائنين منهم، ف «مِنْ» للتبعيض. وقيل: هي بمعنى مع. وقيل: الكلامُ محمولٌ على معناه، أي: أَخَذْتَ منهم العهدَ. وقيل: زائدةٌ أي: عاهَدْتَهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ.
قوله تعالى: {فَشَرِّدْ} : العامَّةُ على الدال المهملة والتشريدُ: التطريد والتفريقُ والتسميع، وهذه المعاني كلُّها لائقة بالآية. وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه بالذال المعجمة. قال الشيخ:«وكذا هي في مصحف عبد الله» . قلت: وقد تقدم أن النَّقْط والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ أحدثه يحيى بن يعمر فكيف يُوْجَد ذلك في مصحف ابن مسعود؟ قيل: وهذه المادة أعني الشين والراء والذال المعجمة مهملةٌ في لغة العرب. وفي هذه القراءةِ أوجه أحدها: أن الذالَ بدلٌ من مجاورتها كقولهم: لحم خراديل وخراذيل. الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ شذر من قولهم: تفرقوا شَذَر مَذَر، ومنه الشَّذْر المُلْتَقَطُ من المعدن لتفرُّقِه، قال:
2433 -
غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة
…
يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا
الثالث: أنه مِنْ «شَذَر في مقاله» إذا أكثر فيه، قاله أبو البقاء، ومعناه غير لائق هنا. وقال قطرب:«شرذ» بالمعجمة: التنكيل، وبالمهملة التفريق، وهذا يقوِّي قول مَنْ قال: إن هذه المادة ثابتةٌ في لغة العرب.
قوله: «مَنْ خَلْفَهم» مفعولُ «شَرِّد» . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه وأبو حيوة «مِنْ خلفِهم» جاراً ومجروراً. والمفعولُ على هذه القراءةِ محذوفٌ أي: فَشَرِّدْ أمثالَهم من الأعداء أو ناساً يعملون بعملهم. والضميران في «لعلهم يَذَّكَّرون» الظاهر عَوْدُهما على «مَنْ خلفهم» ، أي إذا رَأَوا ما/ حَلَّ بالناقِضين تذكَّروا. وقيل: يعودان على المُنْقِضين، وليس له معنى طائل.
قوله تعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ} : مفعولُه محذوف، أي: انبِذْ إليهم عهودَهم، أي: اطرَحْها ولا تكترِثْ بها. و «على سواء» حال إمَّا: من الفاعِل أي: انبذها وأنت على طريقٍ قَصْدٍ، أي: كائناً على عدل فلا تَبْغَتْهُمْ بالقتال، بل أَعْلِمْهم به، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً، أي: كائنين على استواء في العلم أو في العداوة. وقرأ العامة بفتح السين، وزيد بن علي بكسرِها، وهي لغةٌ تقدَّمَ التنبيهُ عليها أولَ البقرة.
قوله: {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامُهم، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذَمِّ مَنْ خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَقَضَ عهده.
قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم «يَحْسَبَنَّ» بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله «لا يَحْسَبَنَّ
الذين كفروا معجزين [في الأرض] » كذلك خلا حَفْصاً. والباقون بتاء الخطاب.
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أولَ، و «سبقوا» جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً. وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى «الذين كفروا» ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، ف «هم» مفعول أول، و «سَبَقوا» في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل «أن» الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت «أن» الموصولة وبقيت صلتها كقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] ، أي: أن يريكم وقولهم: «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه» وقوله:
2434 -
ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى
…
. . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله «أنهم سبقوا» . وقال قوم: «بل» سبقوا «في
محلِّ نصبٍ على الحال، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين» أنهم لا يعجزون «في قراءة مَنْ قرأ بفتح» أنهم «وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون» لا «مزيدةً ليصح المعنى» .
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: «وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة» . وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ «لا يحسبَنَّ» واقع على «أنهم لا يُعْجِزون» وتكونُ «لا» صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني «لا يَحْسَبَنَّ» وقولهم «أنهم لا يعجزون» حتى نُلْزِمه ما ذكر.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و «الذين كفروا» مفعولٌ أولُ، والثاني «سبقوا» ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] ، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ «أنْ» الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون «
الذين كفروا» فاعلاً، و «مُعْجزين» مفعول أول و «في الأرض» الثاني. أي: لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك.
وقرأ الأعمش: «ولا يَحْسَبَ الذين كفروا» بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر:
2435 -
لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ
…
كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
أي: لا تهينَنَّ. ونقل بعضهم: «ولا تحسَبِ الذين» من غير توكيدٍ البتة. وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين.
قولهم: {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان.
وقال أبو البقاء: «إنه متعلقٌ بتحسب: / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من» سَبَقوا «، وعلى كلا الوجهين تكون» لا «زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين:
أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول» حَسِب «إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت» إنَّ «فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر» .
قوله: {لَا يُعْجِزُونَ} العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن محيصن «يُعْجِزوني» بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية أو نون الرفع. وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في {أتحاجواني} . قال الزجاج: «الاختيارُ الفتحُ في النون، ويجوز كسرُها على أن المعنى: لا يُعْجزونني، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة:
2436 -
تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً
…
يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
وقال متمم بن نويرة:
2437 -
ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني
…
للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ
قال الأخفش في هذا البيت:» فهذا يجوز على الاضطرار «.
وقرأ ابن محيصن أيضاً «يُعْجِزونِّ» بنون مشددة مكسورةٍ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة. وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون، مِنْ «عَجَّز» مشدَّداً. قال أبو جعفر: «
وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما: أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره، والآخر: كان يجب أن يكون بنونين» قلت: أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب، بل هو جائز، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها. وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين. وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً.
قوله تعالى: {مِّن قُوَّةٍ} : في محلِّ نصبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: أنه الموصولُ. والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقدير: ما استطعتموه حال كونه بعضَ القوة. ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس. و «رباط» جوَّزوا فيه أن يكون جمعاً ل «رَبْط» مصدر رَبَط يَرْبُط نحو: كَعْب وكِعاب، وكلب وكِلاب، وأن يكون مصدراً ل «رَبَط» نحو: صاح صِياحاً قالوا: لأن مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكونَ مصدرَ «رابط» . ومعنى المفاعلة أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطية. قال الشيخ:«قوله» مصادرُ الثلاثي غيرِ المزيد لا تنقاس «ليس بصحيح، بل لها مصادرُ منقاسةٌ ذكرها النحويون» قلت: في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإِجماعَ على عَدَمِ القياس حتى يَرُدَّ عليه بالخلاف، فإنه قد يكون اختار أحدَ المذاهب وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر. وقال الزمخشري: «والرِّباط: اسم للخيل التي تُرْبَطُ في سبيل الله، ويجوز أن يُسَمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن
يكونَ جمعَ رَبيط، يعني بمعنى مربوط كفَصِيل وفِصال» . والمصدر هنا مضافٌ لمفعول له.
قوله: «تُرْهبون» يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل «أعِدُّوا» أي: حَصِّلوا لهم هذا حالَ كونكم مُرْهِبين، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي: أعِدُّوه مُرْهَباً به، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما، هذا إذا أَعَدْنا الضمير من «به» على «ما» الموصولة. أمَّا إذا أَعَدْناه على الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا، أو على الرِّباط، أو على القوة بتأويل الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول. ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «لهم» كذا نقله الشيخ عن غيره فقال:«وتُرْهبون قالوا: حال من ضمير» أعِدُّوا «أو من ضمير» لهم «ولم يَتَعَقَّبْه بنكير، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير في» لهم «ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة» تُرْهبون «لأَخْذِه معمولَه.
وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو» تُرَهِّبون «مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف لأن الفعل قبل النقل بالهمزة/ أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو: رَهَّبْتُك، والتقدير: تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم. وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف» يُرْهبون «وهي قراءة واضحة، فإن الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير» لهم «، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا مَنْ وراءهم.
وقرأ الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار «ومن رُبُط» بضمتين، وعن الحسن أيضاً رُبْط بضم وسكون، وذلك نحو كتاب وكُتُب. قال ابن عطية:«وفي جَمْعِه وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ» . قلت: لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر، بل حكى أبو زيد أن «رِباطاً» الخَمْسُ من الخيل فما فوقَها وأن جمعها «رُبُط» ، ولو سُلِّم أنه مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنه لم تختلف أنواعُه، وقد تقدَّم أن «رباطاً» يجوز أن يكون جمعاً لرَبْط المصدر، فما كان جواباً هناك فهو جوابٌ هنا.
قوله: {عَدْوَّ الله} العامَّة قرؤوه بالإِضافة، وقرأه السلميُّ منوناً، و «لله» بلام الجر، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله. قال صاحب «اللوامح» :«وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أُضيف إلى المعارف، وأمَّا» وعدوَّكم «فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره، ومثله:» رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم «. يعني أن» عدوَّاً «يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا يُلْمَحَ فيتعرَّفَ.
قوله: {وَآخَرِينَ} نسقٌ على» عدو الله «و» من دونهم «صفةٌ ل» آخرين «. قال ابن عطية:» من دونهم «بمنزلة قولك» دون أن يكون هؤلاء «ف» دون «في كلام العرب و» من دون «تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها
القول، ومنه المثل:» وأُمِرَّ دون عُبَيْدَةَ الوَذَمُ «يعني أن الظرفيةَ هنا مجازية، لأن» دون «لا بد أن تكونَ ظرفاً حقيقةً أو مجازاً.
قوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} في هذه الآية قولان، أحدهما: أنَّ» علم «هنا متعديةٌ لواحدٍ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد. والثاني: أنها على بابها فتتعدى لاثنين، والثاني: محذوف، أي: لا تَعْلَمونهم قارعين أو محاربين. ولا بد هنا من التنبيه على شيء: وهو أن هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله» الله يَعْلمهم «، بل يجب أن يقال: إنها المتعدية إلى اثنين، وإن ثانيهما محذوف، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة، منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ على الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ} : الجُنوح: المَيْل، وجَنَحت الإِبلُ: أمالَتْ أعناقها، قال ذو الرمة:
2438 -
إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه
…
بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ
ويقال: جَنَح الليلُ: أقبل. قال النضر بن شميل: «جَنَح الرجل إلى فلان ولفلان: إذا خضع له» . والجُنوح: الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ، قال النابغة يصف طيراً يتبع الجيش:
2439 -
جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه
…
إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ
ومنه «الجوانح» للأضلاع لمَيْلِها على حَشْوة الشخص، والجناح من ذلك لميلانه على الطائر. وقد تقدَّم الكلام على شيء من هذه المادة في البقرة. وعلى «السِّلم» .
وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين، وكذا في القتال:{وتدعوا إِلَى السلم} . وافقه حمزة على ما في القتال. و «للسِّلْم» متعلق ب «جَنَحوا» فقيل: يَتَعدَّى بها وب إلى. وقيل: هي هنا بمعنى إلى. وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُحْ» بضم النون وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم. والضمير في «لها» يعود على «السلم» لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ. ومن التأنيث قولُه:
2440 -
وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها
…
وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها
/ وقال آخر:
2441 -
السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به
…
والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ
قوله تعالى: {وَمَنِ اتبعك} : فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون «مَنْ» مرفوعَ المحلِّ عطفاً على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون، وبهذا
فسَّر الحسن البصري وجماعة، وهو الظاهر، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى، وإن كان بعضُ الناسِ استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآيةَ على ما سنذكره.
الثاني: أن «مَنْ» مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في «حَسْبُك» وهو رأيُ الكوفيين، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: معناه: وحسبُ مَن اتَّبعك. الثالث: أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة. قال الزمخشري: «ومَن اتبعك» : الواو بمعنى مع، وما بعده منصوبٌ. تقول:«حَسْبُك وزيداً درهمٌ» ولا تَجُرُّ؛ لأن عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ. وقال:
2442 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى: كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [اللهُ] ناصراً «، وقال الشيخ:» وهذا مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال: «حَسْبُك وزيداً درهمٌ» لَمَّا كان فيه معنى كفاك، وقَبُح أن يَحْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال: بحسبك ويُحْسِب أخاك [درهمٌ]«، ثم قال:» وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ، والنيةُ بالدرهم التقديمُ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل. ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه
فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه «. قلت: وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلا أنه جَعَل» حسب «اسمَ فعلٍ فإنه قال:» حسبُ: اسمُ فعلٍ، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى مع «وعلى هذا يكون» اللهُ «فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في» ومَنْ «أن يكونَ معطوفاً على الكاف؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرورةٌ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف. ثم قال الشيخ:» إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ لدخولِ العواملِ على «حَسْب» نحو: بحَسْبك درهم «، وقال تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62] ، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ فيُحْمل هذا عليه» .
وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى: «ف» مَنْ «في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على المعنى ب» يكفيك «الذي سَدَّتْ» حَسبك «مَسَدَّه» . قال الشيخ: «هذا ليس بجيد؛ لأن» حَسْبك «ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست مِنْ نصب، و» حسبك «مبتدأ مضافٌ إلى الضمير، وليس مصدراً ولا اسم فاعل، إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم، كأنه تَوَهَّم أنه قيل: يكفيك الله أو كفاك الله، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ الشعبي وابنِ زيد أن تكون» مَنْ «مجرورةً ب» حَسْب «محذوفةً لدلالة» حَسْبك «عليها كقوله:
2443 -
أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً
…
ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أي: وكلَّ نارٍ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور «. قال ابن عطية:» وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ، بابُه ضرورةُ الشعر «. قال الشيخ:» وليس بمكروهٍ ولا ضرورة، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام «، قلت: قوله:» بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب «فيه نظر لأن النحويين على أنَّ إضافةَ» حسب «وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به، فإن» حَسْبك «بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك، وقيد الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا: ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال:» مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ «.
وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها: أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلا أنه قال: فيكون خبراً آخر كقولِك:» القائمان/ زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ «حَسْبك» لأنه مصدرٌ. وقال قوم: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم:«ما شاء الله وشئت» . و «ثم» هنا أولى «، قلت: يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع، بل تأتي ب» ثم «التي تقتضي التراخي، والحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه: وحسب مَنْ اتبعك. والثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومَن اتبعك كذلك أي: حسبهم الله.
وقرأ الشعبي» ومَنْ «بسكون النون» «أَتْبَعَك» بزنة أَكْرمك.
قوله تعالى: {حَرِّضِ} : أي حُضَّ وحُثَّ. يقال: حَرَّض وحَرَّش وحَرَّك بمعنىً واحد. وقال الهروي: «يقال حارَضَ على الأمر وأَكَبَّ وواكب وواظب وواصَبَ بمعنًى قيل: وأصله مِن الحَرَض وهو الهلاك قال:
2444 -
إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني
…
حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم
قال أبو إسحاق:» تأويل التحريض في اللغة أن يُحَثَّ الإِنسانُ على شيءٍ حتى يُعْلَمَ منه أنه حارضٌ، والحارضُ المقارِبُ للهلاك «، واستبعد الناسُ هذا منه. وقد نحا الزمخشري نحوه فقال:» التحريضُ: المبالغَةُ في الحثِّ على الأمر، من الحَرَض، وهو أن يَنْهكه المرض ويتبالغَ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرَضاً وتقول: ما أراك إلا حَرَضاً «.
قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآيات: أثبت في الشرط الأول قيداً وهو الصبرُ وحَذَفَ من الثاني، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن الكفرة وحَذَف من الأول. والتقدير: مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة، فحذف من كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة.
وقرأ الكوفيون: {وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا} {فإن يكنْ منكم مئة صابرة} بتذكير» يكن «فيهما. ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين، وفي الثانية كالباقين. فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْل بين الفعل وفاعله بقوله» منكم «؛ ولأن التأنيث مجازي، إذ المراد بالمئة الذُّكور. ومن أنَّث فلأجلِ الفصلِ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل. وأمَّا أبو عمرو
فإنما فرَّق بين الموضعين فَذَكَّر في الأول لِما ذكر، ولأنَّه لحَظَ قولَه» يَغْلبوا «، وأنَّث في الثاني لقوة التأنيث بوصفِه بالمؤنث في قوله» صابرة «.
وأمَّا» إنْ يكنْ منكم عشرون «» وإن يكنْ منكم أَلْفٌ «، فبالتذكير عند جميع القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى» عشرون «.
وقرأ الأعمش:» حَرِّصْ «بالصاد المهملة وهو من الحِرْص، ومعناه مقاربٌ لقراءة العامة. وقرأ المفضل عن عاصم:» وعُلِم «مبنياً للمفعول، و» أن فيكم ضعفاً «في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى. و» يكن «في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ ف» منكم «: إمَّا حالٌ من» عشرون «لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً، وأن تكونَ الناقصةَ، فيكون» منكم «الخبرَ، والمرفوعُ الاسمَ وهو» عشرون «و» مئة «و» ألف «.
قوله:» ضعفاً «قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث: {اللهُ الذي خَلَقكم مِنْ ضعف، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً} بفتح الضاد، والباقون بضمها، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً.
وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً» بضم الفاء والعين، وكلُّها مصادرُ. وقيل: الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل، والضم في البدن، وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن
الثعالبي قال: «هذا القول تردُّه القراءة» . وقيل: هما بمعنى واحد، لغتان: لغةُ الحجاز الضمُّ، ولغة تميم الفتح، نقله أبو عمرو فيكونان كالفَّقْر والفُّقر، والمَكْث والمُكث، والبُخْل والبَخَل. وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر: ضُعَفاء جمعاً على فُعَلاء كظَريف وظُرَفاء. وقد نَقَلْت عن القرَّاء كلاماً كثيراً في هذا الحرف في شرح «حرز الأماني» فإنه أليقُ به من هذا فعليك به.
قوله تعالى: {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} : قرأ أبو عمرو «تكون» بالتأنيث مراعاةً لمعنى الجماعة. والباقون/ بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع. والجمهورُ هنا على «أَسْرى» وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالَاّ على أنه كجريح وجَرْحى. وقرأ ابن القعقاع والمفضَّل عن عاصم «أُسَارى» شبَّهوا «أسير» بكَسْلان فجمعوه على فُعالَى ككُسالى، كما شبَّهوا به «كسلان» فجمعوه على كَسْلى. وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة محققاً.
وقوله: {يُثْخِنَ} قرأ العامة «يُثْخن» مخففاً عدَّوه بالهمزة، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر «يُثَخِّن» بالتشديد، عَدَّوْه بالتضعيف وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلْظ والكثافة في الأجسام، ثم يُستعار ذلك في كثرة القتل والجراحات فيقال: أَثْخَنَتْه الجراح أي: أثقلته حتى أَثْبَتَتْه، ومنه {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد: 4] . وقيل: حتى تقهر. والإِثخان: القهر. أنشد المفضل:
2445 -
تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ
…
وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا
كذا أنشده الهرويُّ شاهداً على القهر وليس فيه معنى، إذ المعنى على الزيادة والمبالغةِ المناسِبةِ لأصل معناه وهي الثَّخانة ويقال منه: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانةً فهو ثَخِين، كظَرُف يَظْرُف ظَرافةً فهو ظريف.
قوله: {والله يُرِيدُ الآخرة} الجمهور على نصب «الآخرة» ، وقرأ سليمان بن جماز المدني بجرها، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه. وقدَّره بعضهم: عَرَض الآخرة، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال «يعني ثوابها» . وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب. وجعله أبو البقاء كقول الآخر:
. . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وقدَّر المضاف «عَرَضَ الآخرة» . قال الشيخ: «ليست الآيةُ مثلَ البيت فإنه يجوز ذلك إذا لم يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يُفصل ب» لا «نحو:» ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك «، أمَّا إذا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل» .
قوله تعالى: {مِمَّا غَنِمْتُمْ} : يجوز أن تكون مصدريةً،
والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ. ويجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف.
قوله: {حَلَالاً} نصبٌ على الحال: إمَّا من «ما» الموصولة أو مِنْ عائدِها إذا جعلناها اسميةً. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي: أكلاً حلالاً.
قوله: {واتقوا الله} قال ابن عطية: «وجاء قوله:» واتقوا الله «اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول، لأنَّ قولَه:{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} متصلٌ بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.
قوله تعالى: {مِّنَ الأسرى} : قرأه أبو عمرو بزنة فُعالى، والباقون بزنة فَعْلَى وقد عُرِفَ ما فيهما. ووافق أبا عمروٍ قتادةُ ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر. واختُلف عن الجحدري والحسن. وقرأ ابن محيصن «مِنْ أَسْرى» منكِّراً.
قوله: {يُؤْتِكُمْ} جواب الشرط. وقرأ الأعمش: «يُثِبْكم» من الثواب. وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد «ممَّا أَخَذَ» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ} : الضمير يعود على الأَسْرى لأنهم أقربُ مذكور. وقيل: على الجانحين. وقيل: على اليهود. وقيل: على كفار قريش.
قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النصر} : مبتدأ وخبر، أو فعل
وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ «على» تُشْعِرُ بالوجوب. وكذلك قدَّره الزمخشري وشبَّهه بقوله:
2446 -
على مُكْثريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم
…
وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ
قوله: {مِّن وَلَايَتِهِم} قرأ حمزة هنا وفي الكهف [الآية: 44] : {الولاية لِلَّهِ} هو والكسائي بكسر الواو. والباقون بفتحها فقيل: لغتان. وقيل: بالفتح مِن المَوْلَى، يقال: مَوْلى بيِّن الوَلاية، وبالكسر مِنْ وِلاية السلطان، قاله أبو عبيدة. وقيل: بالفتح مِنَ النُّصْرَة والنسب، وبالكسر من الإِمارة قاله الزجاج. قال: «ويجوز الكسرُ لأنَّ في تَوَلِّي بعضِ القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ مثل الخِياطة والقِصارة. وقد خَطَّأ/ الأصمعيُّ قراءةَ الكسرِ، وهو المُخْطِئُ لتواترها.
وقال أبو عبيد:» والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين، لأنَّ معناهما مِنَ الموالاة في الدين «. وقال الفارسي:» الفتحُ أَجْود لأنها في الدين «، وعَكَس الفراء هذا فقال:» يُريد مِنْ مواريثهم، بكسر الواو أحبُّ
إليَّ من فتحها، لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة، وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنيين جميعاً «. وقرأ السلمي والأعرج» والله بما يعملون «بالياء للغيبة، وكأنه التفات أو إخبار عنهم.
قوله تعالى: {إِنْ لا تَفْعَلُوهُ} : الهاءُ تعود: إمَّا على النصر أو الإِرث أو الميثاق أي: حِفْظه، أو على جميع ما تقدَّم ذِكْرُه، وهو معنى قول الزمخشري «إنْ لا تَفْعلوا ما أَمَرْتُكم به» . والعامة قرؤوا [كبير] بالباء الموحدة. وقرأ الكسائي فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي:«كثير» بالثاء المثلثة، وهذا قريبٌ ممَّا في البقرة وهو يقرؤها كذلك.
قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} : زعم بعضهم أن هذه الجملة تكرارٌ للتي قبلها، وليس كذلك، فإن التي قبلها تضمَّنَتْ ولايةَ بعضِهم لبعض، وتقسيمَ المؤمنين إلى ثلاثة أقسام، وبيان حكمهم في ولايتهم وتناصرهم، وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص، وما آل إليه حالُهم من المغفرة والرزق الكريم.
قوله في: «كتاب» يجوز أن يتعلَّق بنفس «أَوْلَى» أي: أحقّ في حكم الله أو في القرآن أو في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هذا الحكمُ المذكور في كتاب. وما أحسنَ ما جيء بخاتمتها بقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .