الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها الى الصحابة رضى الله عنهم فى أشد الأوقات شغلا وأقلها خاطرا حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله: " هم فرسان بالنهار رهبان بالليل " ويقول قائل " لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر ".
6 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم
يأخذون بالعزيمة فى الدين ولا يأخذون بالرخصة
ـ إلا بينا للحكم الشرعى وشكرا لنعمة الله ـ ورفعا للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون فى العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة فى الدين وتمسكهم به فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرلاائض استرسل الناس الى تركها والاستهانة بحقها لذلك كان الصحابة رضى الله عنهم وقادة هذه ألأمة يشمرون عن ساق الجد فى العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة وبذلك استطاعوا ان يورثوا الدين هذا الجيل موفورا غير منقوص وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية.
7 ـ ومما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين أنهم
يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علما وعملا
ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاء الأقوياء الحنفاء المخلصين فى إيمانهم والمخلصين فى تفكيرهم والمخلصين فى نياتهم الذين قد تنقت رءوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الاسلام هضما صحيحا وانقطعت كل صلة فى حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا فى الآسلام خلقا جديدا.
ونرى ذلك واضحا فى حياة سيدنا موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا فى حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوى الغالب وعلىا لجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى لما قال لهم نبيهم: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام: {كتب الله لكم} مع أنه كان ضامنا لانتصارهم وأخيرا قالوا بكل صراحة ووقاحة: {يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا فى معركة ويدخلوا فى امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال: {رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [المائدة:25] هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه (لا عن قومه) فى بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذى شب على الجبن والضعف وشاب عليه وينشأ الأولاد والشباب الاسرائيلى الذين لا يزالون فى مقتبل العمر على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها وينشأ جيل جديد يولد فى هذه العزلة والبداوة على معانى الرجولة والفروسية وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبى وتطبيق تعاليمه ومبادئه وتجاهد فى سبيلها.
وذلك أيها السادة معنى بليغ من معانى الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة الى الله عليه الصلاة والسلام بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة الى سعة المدينة وحريتها أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشىء الجيل الاسلامى الجديد الذى لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الاسلام تمثيلا كاملا.
كذلك الدعوة الاسلامية التى تكلفتم بها والجهاد الذى أخذتموه على عواتقكم يفرض عليكم ـ أيها السادة ـ إنشاء جيل جديد للإسلام جديد فىقوة إيمانه جديد فى حماسته وثقته جديد فى أخلاقه جديد فى تفكيره وعقليته جديد فى كفايته العلمية واستعداده العقلى وإن نجاحكم فى هذا الانتاج البشرى مقياس نجاحكم فى مهمتكم ودعوتكم فكلما كان نجاكم كبيرا فى إيجاد هذا الجيل وتكوين هذا الشباب كان نجاحكم باهرا فى دعوتكم ورسالتكم ومعلوم عند حضراتكم أن إنشاء الجيل الجديد أو تقويم الجيل المعاصر ـ الذى لم يفقد صلاحيته ونموه ـ ليس بالأمر الهين إنها مهمة لتنوء بالعصبة أولى القوة إنها تحتاج الى تكريس الجهود وتركيز القوى على هذه الغاية والتفكير العميق الواسع والتعاون الشامل والتصميم الحكيم إنها تتطلب أساليب التربية الحكيمة العميقة الأثر وجهود عملية فى ميدان الدعوة والاصلاح إنها تتطلب حركة التأليف والانتاج الواسعة ومقدارا كبيرا من الابتكار إنها تتطلب وضع منهاج جديد على أساس جديد للدراسات ومثالا جديدا من المدارس والكليات والجامعات ومؤلفات ومنشورات جديدة فى شرح الدين الاسلامى وعرض الفكرة الاسلامية وتأليفات جديدة فى السيرة النبوية وتدوينا جديدا للتاريخ الاسلامى وسبكا جديدا للعلوم الاسلامية وتفسيرا جديدا للعلوم الكونية وتلقيحا علميا جديدا وطرازا جديدا للصحافة والادب والروايات والشعر إنكم ايها السادة أمام أنقاض عقلية وركام بشرى وخامات مهملة تبنون بها بيتا جديدا وتصنعون بها سفينة جديدة تمخر عباب الحوادث والموانع إنكم ستبدأون فى عمل جديد وجهاد جديد يستغرق منكم وقتا طويلا ويستنفد جهودا عظيمة وذلك وإن كان عملا شاقا طويلا متعبا مملا متشعبا ولكن لا بد من أنجاز هذا العمل ومن مواجهة هذه الحقيقة والتغلب على العقبات التى تعترض سبيلها.
هذه مزايا الدعوة النبوية أيها السادة ومزايا الدعوة التى تكون على قدم النبوة وواجباتها وبذلك تمتاز دعوتكم عن الحركات القومية والاصلاحات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية.
ومن هذه المنابع تستمد دعوتكم القوة والروح وتستحق من الله النصر وتجلب الرحمة فلنحافظ عليها محافظتنا على الشعائر والعقيدة ولنحرص عليها حرصنا على الحياة والقوة.
عندكم أيها السادة ثروة ضخمة من الصدق والايمان والحب والاخلاص ليست عند الدول الكبيرة والامم العظيمة عند كم أمانة مقدسة جدا أمانة القلوب التى تجتمع على حبكم وتدين بولائكم وتثق بقيادتكم هذه الأمانة التى خلفها لكم الإمام الراحل فأحسنوا القيام عليها واخلفوه فيها.
إن نكبة الدعوة بفقد داعيها الأول ومؤسسها العظيم كانت ـ من غير شك ـ نكبة عظيمة وخسارة فادحة ولكن كل نكبة أيسر وكل خسارة أهون من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بها المسلمون بما لم يصب به جماعة أو فرد لشدة تعلق قلوبهم برسولهم صلى الله عليه وسلم واجتمعت لهم يومئذ مصائب لم تجتمع قبل ولن تجتمع بعد فلننظر كيف تلقاها الصحابة رضى الله تعالى عنهم.
لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهذه المرحلة القاسية والمحنة الشديدة الصحابة رضى الله تعالى عنهم من قبل سنين فلما طار فى الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سقط فى أيديهم وفقد كثير منهم شعورهم وخذلتهم قواهم ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذه الصدمة ثم تحقق أن الشائعة كانت غير صحيحة ورسوله الله صلى الله عليه وسلم حى فانتعشت قواهم ولكن الله تعالى قد أعدهم فى ذلك الوقت ليتلقوا نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى صبر وجلد وربطهم بالدعوة وذكر أن الداعى صلى الله عليه وسلم تجرى عليه سنة الله فى خلقه فيرحل عن هذا العالم كما رحل من قبله من المرسلين فقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين} [آل عمرآن:144]
وكان ذلك فلما حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حادث الوفاة تماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فما وهنوا وما استكانوا ولم ينقلبوا على أعقابهم ولم يخذلوا الاسلام ولم يخذلوا الدعوة واجتمعت على الاسلام محن وخطوب لم تجتمع من قبل ولن تجتمع من بعد " فقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة فى كل قبيلة ونجم النفاق وارأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم فى الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عددهم ".
ولم يكن مسجد لله تعالى فى بسيط الأرض إلا ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس فى البحرين فى قرية جواثى وكثر المتنبئون ومنع الناس الزكاة وقصد المرتدون المدينة وسرح أبو بكر فى هذه الحال جيش أسامة الى الشام تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته وكلمة فى ذلك عمر وكبار الصحابة وأرادوا أن يمنعوه من ذلك فلم يمتنع وقال ك ط لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته ".
استحضروا أيها الإخوان هول الموقف وغربة الاسلام وضعف المسلمين فقد أشرفت الدعوة الاسلامية على أثر وفاة نبيها صلى اللهعليه وسلم على الانقراض واجتمع للمسلمين حادثان حادث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحادث ارتداد أمتهم وقومهم ولكن ذلك بالعكس أثار فيهم روح المقاومة والجهاد وألهب غيرتهم وقال أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه: " أينقص الدين وأنا حى " وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة فلم يحافظوا على وضع الاسلام وتراثه فقط بل فتحوا فارس والروم والامبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم وأضافوهما الى ثروة الاسلام جزاهم الله عن نبيه ودعوته وعن المسلمين خير ما جزى خلفاء الأنبياء وقادة الدعوة الاسلامية الأمناء الأقوياء.
وفى الأخير تفضلوا بقبول تحية صادقة من محب مخلص تجمعه بكم وحدة العقيدة الاسلامية وجامعة الفكرة الدينية على بعد الدار ومن وراء البحار ويتمنى لكم ولكل داع مخلص ومجاهد صادق السداد والتوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو الحسن على الحسني الندوى
(لكهنؤ ـ الهند) ـ نزيل القاهرة
9/6/1370هـ