المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - الرسالة التبوكية زاد المهاجر إلى ربه - ت غازي

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصل: في الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

‌فصل: في الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} ، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .

نحن وإياكم نموت، فما

افلح عند الحساب من ندما

ص: 22

والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد. وطريقها على غير المشتاق بعيد.

بعيد على كسلان أو ذي ملالة

أما على المشتاق فهو قريب

ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ، ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره.

فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟

تعريف الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

فجد هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسالة من مسائل إلايمان، ومنزل من منازل القلوب، وحادثة من حوادث إلاحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات. فهذا حد هذه الهجرة.

فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل:

ص: 23

إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم متمسكون، وأنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذراً بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة.

هجرتان

والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى " شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما أن الهجرة الأولى مقتضى " شهادة أن لا إله إلا الله " وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.

قال قتادة: " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون ومإذا اجبتم المرسلين؟ ".

وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا

ص: 24

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين. فإن لفظة " ما " من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم. ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً - وهو الضيق والحصر - من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.

ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .

فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟

ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.

ص: 25

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين. وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بإنه أولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها. فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد.

وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.

وكل يدعى وصلا لليلى

وليلى لا تقر لهم بذاك

الحب بين العلم والحال

وفرق بين علم الحب وحال الحب. فكثيراً ما بشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض، وبين الصحيح السليم، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها. وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده.

ص: 26

ما في الآية من تأكيد اتباع الرسول

وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:

أولها: تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} وهذا منهج معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية. ومثل ما في قول الصديق رضي الله عنه: " لاها الله، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه "، وقول الشاعر:

فلا وأبيك ابنه العامري

لايدعى القوم إني افر

وقال الآخر:

فلا والله لا يلقى لما بي

ولا لما بهم أبداً دواء

هذا في كلامهم اكثر من أن يذكر.

وتأمل جمل القسم التي في القرآن المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفياً ومتضمناً للنفي، ولا يحزم هذا قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} .

ص: 27

فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن: من أنه شعر أو كهانه أو أساطير الأولين، صدر القول بأداة النفي ثم اثبت له ما قالوه. فتضمنت الآية أن ليس الأمر كما يزعمون ولكنه قرآن كريم.

ولهذا صرح بالأمرين: النفي والإثبات مثل قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} ، وكذلك قوله:{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} .

والمقصود: أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.

وثانيها: تأكيده بنفس القسم.

وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة.

ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم.

ص: 28

وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ أنواع التقرير.

حب الرسول

وقال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أموراً:

منها: أن يكون احب إلى العبد من نفسه، لان الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب له من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان. ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه

ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.

فيا عجباً كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمأن إليه أعظم

ص: 29

من اطمئنانه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن الهدى لا يلتقي من مشكاته وإنما يتلقى من دلالة العقول، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به، والحوالة في العلم النافع إلى غيره، ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل إلى ثبوت هده الأولوية إلا بعزل كل ما سواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به فان شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان رده. وان لم تتبين شهادته له لا بصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الأمرين أولى به.

فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحق إليه من كل جهة.

ادعياء المحبة

ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها. وعرض ما قاله الرسول عليها، فان وافقها قبله، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليّاً وإعراضاً،

ص: 30

الإعراض عن الرسول

كما قال تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ، وقد اشتملت هده الآية على أسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة إليها.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فأمر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدواً كان أو ولياً وأحق ما قام له العبد بقصد الأقوال والآراء والمذاهب، إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.

فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله مناف لما بعث به رسوله.

والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين اتباعه. ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده،

ص: 31

وأولئك هم الوارثون حقا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معياراً على الحق وميزاناً له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟! وهو في هدا الباب اعظم فرضاً واكبر وجوباً.

شهداء الله

ثم قال: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الشاهد هو المخبر، فان أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور، وأمر تعالى أن يكون شهيداً له مع القيام بالقسط، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط، وان تكون لله لا لغيره، وقال في الآية الأخرى:{كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} فتضمنت الآيتان أموراً أربعة.

أحدهما: القيام بالقسط.

الثاني: أن يكون لله.

الثالث: الشهادة بالقسط.

الرابع: أن تكون لله.

ص: 32

واحتضنت آية النساء بالقسط والشهادة لله، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره.

ثم قال تعالى: الأقربين {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فأمر سبحانه أن يقام بالقسط ويشهد على كل أحد ولو كان أحب الناس إلى العبد، فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله وأقاربه الذين هم أخص به والصديق من سائر الناس، فإن كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق، ولاسيما إذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم، فإنه لا يقوم به في هذا الحال إلا من كان الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وهذا يمتحن به العبد إيمانه فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحله منه، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يجفوه، فإنه لا ينبغي أن يحمله بغضه لهم أن يحيف عليهم، كما لا ينبغي أن يحمله حبه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط، فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق. كما قال السلف:" العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق ".

اشتملت الآيتان على هذين الحكمين: وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء.

ثم قال تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} منكم

ص: 33

هو ربهما ومولاهما وهما عبيده، كما أنكم عبيده فلا تحابوا غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره فإن الله أولى بهما منكم.

وقد يقال: فيه معنى آخر أحسن من هذا، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير.

أما الغني فخوفاً على ماله، وأما الفقير فلإعدامه وأنه لا شيء له فتتساهل، النفوس في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: والله أولى بالغني والفقير منكم، أعلم بهذا وأرحم بهذا، فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غني ولا فقير.

ثم قال تعالى: {لا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل. وقوله تعالى {أَنْ تَعْدِلُوا} منصوب الموضع لأنه مفعول لأجله، وتقديره عند البصريين: كراهية أن تعدلوا، أو حذر أن تعدلوا، فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل أو فراراً منه، وعلى قول الكوفيين التقدير. أن لا تعدلوا، وقول البصريين أحسن واظهر.

الليّ والإعراض:

ثم قال تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما:

ص: 34

أحدهما: اللي والآخر: الإعراض، فإن الحق إذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقاً إلى دفعها أعرض عنها وأمسك عن ذكرها فكان شيطاناً أخرس، وتارة يلويها ويحرفها، اللي مثال الفتل وهو التحريف، وهو نوعان: ليُّ في اللفظ وليُّ في المعنى، فاللي في اللفظ أن يلفظ بها على وجه لا يستلزم الحق، إما بزيادة لفظة أو نقصانها أو إبدالها بغيرها، ولي في كيفية أدائها وإيهام السامع لفظاً وإرادة غيره، كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فهذا أحد نوعي اللي.

والنوع الثاني منه: لي المعنى وهو تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم، وبجهالة ما لم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به، ونحو هذا من لي المعاني، فقال تعالى:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .

ولما كان الشاهد مطالباً بأداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الإعراض نظير الكتمان.

ص: 35

واللي نظير تغييرها وتبديلها، فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم.

والمقصود: أن الواجب الذي لا يتم الإيمان بل لا يحصل مسمى الإيمان إلا به، مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والإظهار لها ودعوة الخلق إليها، ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي أخرى.

الخيرة لله

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان.

ص: 36

موقف الأئمة من السنة

وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ولم يسنرب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه، فإن الحجة الواجب إتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع فضلاً عن أن يعارض بها النصوص وتقدم عليها، عياذاً بالله من الخذلان.

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقريره الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها، إذا ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه، وإلا لم يكن شرطا له.

ص: 37

إذا ثبت هذا: فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته، وفي إعادة الفعل في قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} دون الاكتفاء بالفعل الأول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} الفعل للمخاطبين وأصله فان تتولوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً. والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم ". فإن تركتم أنتم ما حملتموه من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه، فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم {وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} ليس عليه هداهم وتوفيقهم.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

ص: 38

وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

النداء بالإيمان

فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وافتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به، كما يقال: يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله، أحسن كما احسن الله إليك: ويا أيها العالم علم الناس ما ينفعهم، ويا أيها الحاكم احكم بالحق، ونظائره.

ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ففي هذا إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا فإنه من موجبات الإيمان وتمامه.

ص: 39

ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة أولي الأمر، وسلط عليهما عاملاً واحداً. وقد كان ربما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ولكن الواقع هنا في الآية المناسب.

وتحته سر لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وإن لم يكن مأموراً به بعينه في القرآن طاعة الرسول مفردة ومقرونة. فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله تعالى، ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه. ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".

طاعة أولي الأمر

أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى فإذا أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة ".

ص: 40

فتأمل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ولم يقل: وإلى الرسول. فإن الرد إلى القرآن رد إلى الله والرسول، فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو بعينه حكم الله. فادا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه إلى رسوله. وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله، وهذا من أسرار القرآن.

من هم أولي الأمر

وقد اختلفت الرواية عن الإمام احمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان:

إحداهما: انهم العلماء، والثانية: انهم الأمراء.

والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى:{فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم،

ص: 41

والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية.

ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وهذا مما ذكرنا آنفاً أنه شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجاً من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بياناً وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به.

قال الله تعالى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] .

ص: 42

وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته.

سعادة الدارين

ثم قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلىَّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادَكم، وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة.

فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلاً. ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول. وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين.

ص: 43

فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج عنه، وهذا برهان قاطع على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والقيام به عملا.

كمال السعادة

وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:

أحدهما: دعوة الخلق إليه.

والثاني: صبره واجتهاده على تلك الدعوة.

الكمال الإنساني

فانحصر الكمال الإنساني على هذه المراتب الأربعة.

أحدهما: العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثانية: العمل به.

والثالثة: نشره في الناس ودعوتهم إليه.

والرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.

ومن تطلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا:

فإن شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم

فقد وضحت للسالكين عياناً

ص: 44

وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} فهذا نص صريح في أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحصل بالوحي، فيا عجبا! كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟! ولكن {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} ، فأي ضلال اعظم من ضلال من زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين.

وقال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل. واتباع أولياء من دونه. فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فإنما يتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياويلتى ليتني لم أتخد فلاناً خليلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ

ص: 45

بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} فكل من اتخذ غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فانه قائل هذه المقالة لا محالة. ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان إذ لكل متبع أولياء من دون الله فلان وفلان. فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومآل تلك الخلة إلى العداوة واللعنة كما قال الله تعالى:{الأَخِلَاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وقد ذكر حال هؤلاء الأتباع وحال من تبعوهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك، وانهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم:{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} وفي بعض هذا عبرة للعاقل وموعظة شافية، وبالله التوفيق.

وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ

ص: 46

أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ. قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}

فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر.

الصنفان المبطلان

وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} ذكر الصنفين المبطلين.

أحدهما: منشئ الباطل والفرية وواضعها وداعي الناس إليها.

والثاني: مكذب بالحق.

فالأول: كفره بالافتراء وإنشاء الباطل

والثاني: كفره بجحود الحق.

وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل. فان انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطلة وصد الناس عن الحق، استحق تضعيف العذاب لكفره وشره.

ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً

ص: 47

فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} فلما كفروا وصدوا عباده عن سبيله عذبهم عذابين: عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيله، وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدد العذاب، كقوله تعالى:{والكافرين لهم عذاب أليم} وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} يعني ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك {تَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} زالوا وفارقوا وبطلت تلك الدعوة {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} ادخلوا في جملة هذه الأمم كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم} كل أمة متأخرة لأسلافها {بَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} ضاعفه عليهم بما أضلونا وصدونا عن طاعة رسلك، قال الله تعالى:{قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} من الأتباع والمتبوعين بحسب ضلالة وكفره {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} لا تعلم كل طائفة بما فيه أختها من العذاب المضاعف {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل وبينوا لكم الحق وحذروكم من ضلالنا

ص: 48

ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا، فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا وترك الحق الذي أتتكم به الرسل. فأي فضل كان لكم علينا، وقد ضللتم كما ضللنا، وتركتم الحق كما تركنا، فضللتم انتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين. فأي فضل كان لكم علينا {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} فلله ما أشفاها من موعظة وما أبلغها من نصيحة لو صادفت من القلوب حياة فان هذه الآية وأمثالها مما يذكر قلوب السائرين إلى الله وأما أهل البطالة فليس عندهم من ذلك خبر.

ص: 49