الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
:
ويشتمل على:
- القاعدة العامة: الدين مبني على تحصيل المصالح، ودفع المفاسد.
- قاعدة فرعية منها: وهي قاعدة التزاحم:
- تزاحم المصالح.
- تزاحم المفاسد.
القاعدة العامة الدين مبني على تحصيل المصالح ودفع المفاسد
الدين مبني على جلب المصالح للناس في دينهم ودنياهم، ودفع المفاسد عنهم، ولا توجد مصلحة إلا وهي تتوافق مع النص، ولا يوجد مفسدة أو مضرة إلا وهي تعارض النصوص وتخالفها.
وقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد تتوافق تمام الموافقة مع مقاصد الشريعة الإسلامية؛ إذ أنَّ للشريعة الإسلامية مقاصد عامة ومقاصد خاصة، فالمقاصد العامة هي تحقيق مصالح الخلق جميعًا في الدنيا والآخرة، والمقاصد الخاصة هي الأهداف التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في مجالات خاصة كمجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وبناء الأسرة وتقويم السلوك، وغير ذلك من المجالات الخاصة التي تراعيها الشريعة الإسلامية، فعُلم أنَّ كل مقاصد الشريعة تدور حول جلب المصالح ودرء المفاسد.
ولأهمية هذه القاعدة أرجَعَ العزُّ بن عبد السلام الفقهَ كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد
(1)
، وفي هذا يقول الشاطبي "الأحكام الشرعية إنما شُرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد"
(2)
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية "والقول الجامع أنَّ الشريعة لا تهمل مصلحة قط"
(3)
.
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 64)، الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 22).
(2)
الموافقات للشاطبي (1/ 311).
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 344).
ويقول الإمام عبد المؤمن بن عبد الحق الحنبلي" إنَّ الشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في الدارين "
(1)
.
• ملحوظة هامة:
إن قاعدة المصالح والمفاسد وضبطها وبيانها لا تخضع لأهواء الناس ورغباتهم، وليس الضابط لها اختلاف آراء الناس، وتباين وجهات نظرهم، إنما الضابط لها هو ما وضع من أصول وقواعد وضوابط في الشريعة المحكمة؛ لذا أرجئ تقديم المصالح أو المفاسد والحكم عليها لأهل العلم الأثبات، الذين يستمدون هذه الأحكام من ضوابط الشريعة وقواعدها لا من أهواء الناس ومصالحهم الخاصة.
ومصالح الناس من حيث الأهمية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: الضروريات:
وهي ما لا يستغني عنه الناس بحال من الأحوال كالكليات الخمس وهي:
1 - حفظ الدين:
وهذه هي الضرورة العظمى التي لأجلها خلق الله الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي التي لأجلها ابتلى الله أحب الخلق إليه وهم أنبياؤه ورسله، وشرَّع سبحانه شرائع خاصة لحماية هذا الدين وحفظه منها:
- شرع الله الجهاد على أحبابه وإن أدى ذلك إلى اصطفاء بعضهم واتخاذهم شهداء.
- ومنها: شرع قتل المرتد رجلًا كان أو امرأة.
(1)
تيسير الوصول إلى قواعد الأصول للإمام عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي (1/ 316).
- ومنها: نهى صلى الله عليه وسلم أن يقيم أحد في بلاد الكفر بغير حاجة حفاظًا على دينه فقال صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"
(1)
.
- ومنها: نهى ربنا تبارك وتعالى عن الجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله؛ إذ أنَّ المخالطة مؤثرة على العبد في دينه ودنياه، فقال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].
- ومنها: توعد الله تعالى من يفتن المؤمنين والمؤمنات في دينهم بالعذاب الأليم، فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10].
- ومنها: وعد الله تعالى من صبر وتمسك بدينه، مع شدة الفتن والابتلاء بأن آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فجمعوا خيري الدنيا والآخرة، فقال تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 146 - 148].
- ومنها: أنَّ الله تعالى لما علم أنَّ هذا الدين لا يقوم إلا إذا تكفل به أناس يحمون حماه، ويقضون الأوقات والأعمار والأموال من أجل الحفاظ على هذا الدين، حث الناس على ذلك وأعظم أجر من يفعل ذلك، فرفع الله مكانتهم، وقرن شهادتهم بشهادته، وجعلهم ورثةً لأنبيائه، ووعدهم على ما فعلوه الحسنى وزيادة، بل وأمر الناس جميعًا ملوكًا وعبيدًا أن يرجعوا إليهم في أمور دينهم، ولا يصدروا إلا عن إرشاداتهم، فقال تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء: 7].
(1)
أخرجه: أبوداود (2645)، الترمذي (1604)، النسائي في السنن الكبرى (6956)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.
- ومنها: نهى أن يتكلم أحد في هذا الدين إلا بعلم، فقال تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
- وبكل هذه التشريعات وغيرها يحفظ الله تعالى هذا الدين، لذا قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
2 - حفظ النفس:
النفس من الضروريات الهامة التي عني الشرع بها عناية عظيمة؛ لذا شرع الله لها شرائع خاصة تحمي هذه الضرورة وتدفع عنها:
- منها: شرَّع الله القصاص لمن قتل نفسَ معصومٍ متعمدًا بغير حق إلا أن يعفو أصحاب الحق وأولياء القتيل.
- ومنها: جعل الله الدية على من قتل مسلمًا خطأً؛ وذلك لعظم حرمة دم المسلم حتى في الخطأ.
- ومنها: أحل الله ما حرمه إن كان ذلك سيحفظ للناس حياتهم، فأباح أكل الميتة للمضطر، وأباح شرب الخمر للمضطر.
- ومنها: أجاز الله للمضطر الذي يخاف على نفسه من القتل أن يقول كلمة الكفر إن كان ذلك سيحفظ له حياته، لكن بشرط أن يكون هذا " وقلبه مطمئن بالإيمان ".
- ومما يبين عظم حفظ النفس في الشريعة أن أذن الله لمن يُعتدَى عليه أن يدفع عن نفسه، وإن أدى ذلك إلى الموت، بل بين صلى الله عليه وسلم أنه إن مات فهو شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم "من قُتل دون دمه فهو شهيد"
(1)
.
وغير ذلك من الأمور التي شرعها الله تعالى لحفظ النفس.
(1)
أخرجه: أبوداود (4774)، الترمذي (1421)، النسائي في سننه (4095)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.
3 - حفظ العقل:
العقل هو مناط التكليف وهو الذي يُميَّز به الإنسان عن كثير من المخلوقات، وبه كرمه الله
تعالى، وأكرمه بتشريعاته بعد أن عرضها على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وجعل ربنا تبارك وتعالى تشريعات خاصة لتربية هذا العقل وتنميته وبيان أهميته وضرورة حفظه، منها:
- ومنها: أمر الله تعالى بإعمال العقل بالتفكر في مخلوقات الله تعالى ليستدل بها على قدرة الله تعالى وعظمته، فقال {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6].
- ومنها: أنه أمر بإعمال العقل في آيات الله تعالى بالتدبر والتفكر، وألَّا يخروا عليها صُمًّا وعميانًا، فقال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، وقال مادحًا لأناس {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 73].
- ومنها: أن جعل الله تعالى الانتفاع بالآيات والدلائل لمن يعمل عقله دون غيرهم، فقال تعالى {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4].
- ومنها: رفع الله تعالى التكليف عمن فقد عقله، وجعله غير مؤاخذ بما يفعل أو يقول؛ إذ العقل مناط التكليف.
- ومنها: تحريم شرب الخمر؛ لأنها تغيب العقل.
- ومنها: أنَّ الله تعالى منع العبد أن يقف بين يديه وهو سكران؛ إذ أنه لما غاب العقل حرمه الله شرف الوقوف بين يديه.
- ومنها: أن جعل الله دية العقل دية كاملة، وكأنَّ من جنى على عقل إنسان
فكأنما جنى على بدنه كله وقتله، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك
(1)
، ولا غرو فإنَّ الدية تكون كاملة لمن جنى على يدي غيره، أو عينيه، فمن باب أولى تكون في الجناية على العقل؛ إذ هو أعظم مكانة وأعلى قدرًا.
- ومنها: أن جعل الله تعالى أولي العقول الصحيحة السليمة ينالون شرف الوقوف خلف الإمام، وإن كان هذا الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم " ليلني منكم أولوا الأحلام والنُّهى "
(2)
، والنُّهى هي العقول وسميت بذلك؛ لأنها تنهى صاحبها عن الوقوع في المهالك.
- ومنها: أنه ربى العقل على النظر واتباع البرهان ونبذ التقليد الذي لا يقوم على الدليل كما في قوله تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]، وقال تعالى {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 117].
- ومنها: أنه دعا إلى تنمية العقل ماديًّا ومعنويًّا: ماديًّا بالأكل والغذاء بغير إسراف ولا تبذير، فقال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]، ومع أنَّ التغذية المرادة للشرع أصالة هي التغذية المعنوية، لكن التغذية المادية مرتبطة بالتغذية المعنوية؛ ولذا كُره للقاضي أن يقضي وهو جائع، وأُمر بتقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معًا.
أما تنميته معنويًّا: فبالإرشاد إلى طلب العلم؛ إذ أنه أساس الإيمان، وكلما ازداد العبد علمًا ازداد إيمانًا وخشية قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28]، وقال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114]، وجعَل تعلُّمَ العلم واجبًا على كل مسلم، فعن أنس بن مالك قال: قال
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص 112).
(2)
أخرجه: مسلم (432)، أبوداود (674)، النسائي (807).
رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم "
(1)
.
- ومنها: أنه فتح للعقل باب الاجتهاد، والبحث عن المسائل المستحدثة التي لم يرد فيها نص؛ لذا قال تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وغير ذلك من التشريعات التي شرعها الله تعالى لحفظ العقل وبيان أهميته.
4 - حفظ العرض:
إنَّ حفظ العرض من المقاصد العظيمة للشرع المطهر؛ إذ أنَّ المساس بالعرض يسبب نشر الفواحش في المجتمع، وانتشار العداوة والبغضاء بين أفراده، وذهاب الألفة والمودة التي يتميز بها المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات.
لذا راعى الشرع ذلك في أحكام كثيرة منها:
- أنه أمر بالدفاع عن الأعراض، وإن أدى ذلك إلى الموت، بل رغب في الدفاع عن الأعراض بذكر أجر من يموت وهو يدافع عنها، فقال صلى الله عليه وسلم"من قُتل دون أهله فهو شهيد
"
(2)
.
- ومنها: أنه نهى وحذر من كل ما يخل بالحفاظ على الأعراض، وما يؤدي لاختلاط الأنساب، فنهى عن الزنا وجعل حده من أكبر الحدود وأكثرها زجرًا، فجعل أخفها للبكر جلد مائة وتغريب عام، وجعل أغلظها للثيب بالموت أبشع ميتة
(1)
أخرجه: ابن ماجه (224)، البيهقي في شعب الإيمان (2/ 253)، الطبراني في المعجم الصغير (1/ 36)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، وقال شعيب الأرنؤوط: قي تحقيقه لسنن ابن ماجه: حديث حسن بطرقه وشواهده فيما ذهب إليه المزي والسيوطي وغيرهما من أهل العلم، وقال الشيخ العدوي: ضعيف من كل طرقه.
(2)
أخرجه: أبوداود (4774)، الترمذي (1421)، النسائي (4095)، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.
ألا وهو الرجم بالحجارة.
- ومنها: تشريع حد القذف، وعظَّم الله فيه فجعله ثمانين جلدة؛ إذ اتهام أعراض المسلمين بغير حق، أو بالشك، أو حتى بعلم نفسه واثنين معه، كل ذلك جعله الشرع قذفًا يحد عليه صاحبه؛ إذ أنَّ تلويث الأعراض بالكلام فيها أمر عظيم عند الله حتى وإن كان بحق.
بل من رأى يقينًا مع وجود ثلاثة معه واكتمال حد الشهادة لم يوجب الله عليه أن يخبر بذلك؛ بل إنَّ الستر أولى للمذنب وللشاهد وللمجتمع.
- ومنها: أن حرَّم مجرد النظر للنساء؛ إذ أنه باب الفواحش والآثام.
- ومنها: أنه حرَّم الخلوة بالأجنبية؛ لأنَّه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.
- ومنها: تحريم مصافحة النساء؛ إذ اللمس أعظم أثرًا وجُرمًا من النظر، بل إنه من لوازمه.
- ومنها: أن جعل أصل قرار المرأة في بيتها وعدم الاختلاط بالرجال، فقال تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
- ومنها: أنه منع من كل ما يثير العواطف ويحرك الوجدان لأي منهما نحو الآخر - بخلاف الزوج ونحوه -، ولو كان بالحُداء المباح، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حادٍ يقال له أنجشة، وكان حسن الصوت، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم " رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير ". قال قتادة: يعني ضعفة النساء
(1)
.
وغير ذلك من التشريعات والأحكام التي ترعى الأعراض وتراعيها، وتحفظ
(1)
أخرجه: البخاري (6149).
على المجتمع استقراره وأمانه.
5 - حفظ المال:
وهو من الضروريات الخمس الهامة؛ إذ أنَّ الحياة لا تقوم بغير مال.
ولما كان المال هو عماد الحياة ألزم الله بالحفاظ عليه وحفظه وعدم تعدي الحدود فيه، وشرع في ذات الوقت من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار الضارة التي قد تنجم عن طغيان بعض الأفراد بهذا المال، ومن النظم التي وضعها لأجل ذلك نظام الزكاة والإرث والضمان الاجتماعي، وغير ذلك، ومن ثم اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية، وشرع من التشريعات والتوجيهات ما يشجع على اكتسابه وتحصيله، ويكفل صيانته وحفظه وتنميته، وذلك على النحو التالي:
- الحث على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش فقد حث الإسلام على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية قال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]، وقال تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10].
- ومنها: أنه حث على العمل ورفع منزلته؛ إذ هو من صفات الأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده "
(1)
.
- ومنها: منع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، وحث على إنفاقه في سبل الخير؛ وذلك لأنَّ المال مال الله وأنَّ الفرد مستخلف فيه ووكيل قال تعالى {آمِنُوا
(1)
أخرجه: البخاري (2072).
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} [الحديد: 7]، وقال تعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]؛ ومن ثم كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع.
- ومن ذلك: الدعوة إلى تنمية المال واستثماره حتى ينتفع به صاحبه وينتفع به المجتمع، وبناء على ذلك حرَّم الإسلام حبس الأموال عن التداول، وحارب ظاهرة الكنز، فقال تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34].
- ومن ذلك: شرع الله حد السرقة بقطع اليد إذا امتدت لمال الغير بدون وجه حق.
- ومنها: جعل الدفاع عن هذا المال هو طريق الشهادة إن مات صاحبه وهو يدفع عن ماله، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من قُتل دون ماله فهو شهيد"
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال "قاتِلْه" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال "فأنت شهيد"، قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال "هو في النار»
(2)
.
- ومنها: حرم أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29].
- ومنها: تحريم الربا لما فيه من أكل أموال الناس بغير حق قال تعالى {وَأَحَلَّ
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2480)، مسلم (141).
(2)
أخرجه: مسلم (140).
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275].
- ومنها: حرَّم تبارك وتعالى القمار والميسر لما فيه من المجازفة بهذا المال، فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].
- ومنها: حرَّم الإسراف والتبذير في هذا المال، فقال تعالى {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]، بل جعل المسرفين والمبذرين من إخوان الشياطين، فقال تعالى {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27].
- ومنها: منع الله تعالى من لا يحسن التصرف في ماله من التصرف فيه، وأمر بالحجر عليه فقال تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5].
وغير ذلك من النظم والتشريعات التي شرعها الله تعالى ليحفظ بها المال ويرعى بها مصالح العباد.
ثانيًا: الحاجيات:
وهي أمور يحتاج إليها الناس لتحقيق مصالح هامة ويؤدي غيابها إلى المشقة والحرج.
ومن ذلك:
- إباحة البيع والشراء لحاجة الناس إليه، حيث إنه لا يوجد من يملك كل ما يحتاجه، فلابد من طريقة آمنة مشروعة لتبادل ملكية هذه الأشياء حتى تستمر الحياة ويقضي الناس أربَهم وحاجاتِهم؛ من هنا شرع الله البيع، وجعله وسيلة لنقل هذه الملكيات.
- ومنها: أباح الله تعالى الإجارة ونحوها لاحتياج الناس إليها؛ إذ أنَّ كثيرًا من الناس من يحتاج أشياء لينتفع بها، لكنه لا يملكها، ولا يستطيع أن يتملكها، فأذن الله بالإجارة وهي تمليك للمنفعة وليس تمليكًا للذات مراعاة لمصالح الناس.
- ومنها: إجازة العارية لاحتياج الناس إليها؛ إذ أنَّ من الناس من لايستطيع أن يتملك ما يحتاجه، ولا يستطيع أن يتملك منفعته، فأذن الله بالعارية إذ هي تمليك انتفاع فقط وصورة من صور قضاء حاجات الناس، فيقضي أحدهم حاجته، ويأخذ الآخر أجره من الله، وتنتشر بذلك في المجتمع روح المودة والألفة والتعاون على البر والخير.
- ومنها: عَلِم الله تعالى أنَّ من الناس من يملك مالًا، لكنه لا يحسن إدارة أموره لقلة خبرته أو لكثرة انشغاله، ومن الناس من لا يملك مالًا ولكنه يملك خبرة ووقتًا، فأجاز الله الشركة لمصلحة هذا ومصلحة ذاك.
- ومنها: مشروعية الودائع حفاظًا على حاجات الناس وتعاونًا على البر والخير.
- ومنها: تشريع الهبات والعطايا والوقف؛ إذ هي فتحٌ لأبواب الخير على أصحاب الأموال، وسدٌّ لحاجة الفقير مع حفظ ماء وجهه، وإغنائه عن السؤال، ومساعدة أهل العفة، وقضاء حاجاتهم. وغير ذلك من الحاجيات التي لما علم الله حاجة الناس إليها شرعها لهم.
ثالثًا: التحسينات:
التحسينات هي المتممات للأشياء.
وليس المراد بها المستحبات فقط، بل قد تكون واجبات، وقد تكون مستحبات.
- فمنها تشريع الولي في النكاح فإنه من تحسينات الزاوج؛ إذ يقبح أن تتولى المرأة أمر زواجها
بنفسها، والولي من واجبات النكاح وشروطه التي لا يتم النكاح
إلا بها قال صلى الله عليه وسلم "لا نكاحَ إلا بوليٍّ، والسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له"
(1)
.
- ومنها: قص الشارب وهو من المستحبات.
- ومنها: إزالة النجاسة وهي شرط للصلاة، وغيرها من التحسينات.
• ومن هنا: تعلم أنَّ الشرع الحنيف ما ترك مصلحة إلا ودلنا على الاهتمام بها، وحفظها
سواء كانت من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، وما ترك مضرة أو مفسدة إلا وحذرنا منها ونهانا عنها.
قال ابن القيم "وإذا تأملتَ الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم والملة الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارة كمالَها، ولا يدرك الوصف حسنَها، ولا تقترح عقولُ العقلاء - ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم - فوقَها، وحسب العقول الكاملة الفاضلة أن أدركت حسنها، وشهدت بفضلها، وأنه ما طرق العالمَ شريعةٌ أكمل ولا أجل ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجة والمحتج له، والدعوى والبرهان، ولو لم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم ببرهان عليها لكفى بها برهانًا وآيةً وشاهدًا على أنها من عند الله، وكلها شاهدة له بكمال العلم، وكمال الحكمة، وسعة الرحمة والبر والإحسان والإحاطة بالغيب والشهادة، والعلم بالمباديء والعواقب، وأنها من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، فما أنعم عليهم بنعمة أجل من أن هداهم لها، وجعلهم من أهلها، وممن ارتضاهم لها، فلهذا امتن على عباده بأن هداهم لها، قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]
(2)
.
(1)
أخرجه: أحمد (3/ 38)، وقال شاكر إسناده صحيح، أبوداود (2087)، الترمذي (1101)، ابن ماجه (1881)، والحديث صححه الألباني في الإرواء (1839).
(2)
مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 301 - 302).
فكل أمر يأمر الله تعالى به لا بد أن يكون لحكمة بالغة، وأن تكون له مصلحة ومنفعة في الدنيا والآخرة، وكل نَهْي نَهَى عنه وزجر، فإنما هو لدفع مفسدته وضرره في الدنيا والآخرة، وإن تتبعنا المصالح التي دل الشرع عليها، والمفاسد التي درأها نجدها لا تكاد تُحصى، ونأخذ لذلك بعض الأمثلة.
* من ذلك توحيد الله تعالى وعبادته: فمنافعه لا تكاد تُحصى في الدنيا والآخرة؛ حيث إنَّ كل مصلحة في الدنيا والآخرة هي من ثمرات هذا التوحيد.
- ومن هذه المصالح: انشراح الصدور وصلاحها، وزوال آفاتها وأدرانها، ونيل السعادة في الدارين، يقول تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} [الزمر: 29]، وهذامثل يضربه الله تعالى لعبدٍ مملوكٍ لسيدٍ واحدٍ يفعل ما يأمره به سيده، فهدفه واحد وهو إرضاء سيده، ومصدر تلقيه للأوامر واحد وهو سيده، وسيده يرضى منه بالقليل ويغفر له الزلل الكبير، ورجل آخر عند شركاء متشاكسين كل واحد منهم يأمر بأمر والآخر بخلافه، فهو متحير بينهم، فلا هو يستطيع الإبقاء على نفسه، ولا هو يستطيع إرضاءهم جميعًا، فهو في كد وتعب بدون رضا لأسياده عنه.
- إنَّ الله تعالى هو الذي خلق الإنسان وهو وحده يعلم ما يصلحه، وهناك فرق بين أن تعبد غنيًّا عنك وأنت فقير محتاج إليه، وأن تعبد فقيرًا يحتاج إليك؛ لأنَّ الفقير المحتاج إن أعطاك شيئًا يعطيك على قدر ما تعطيه، أما الغني يعطيك على قدره سبحانه لأنه غني واسع الفضل والكرم.
- ومن المصالح العظيمة المترتبة على التزام أمر الله تعالى وتوحيده محبة الناس:
فعبادة العبد لله ومراقبته في الخلوات يجلب للعبد محبة الناس، وقد لا يعلم الناس سر ذلك، فمثلها كمثل الرائحة الطيبة التي يجدها الناس ولا يعلمون من أين أتت، وسُمِّي الإنسان إنسانًا لحبه الأنس، وأمتع ما يكون الأنس بالمؤمنين، ولا
يأنس إليه المؤمنون إلا بحبهم له، فإذا أنسو به وأنس بهم يحصل له كثيرٌ من المنافع في الدنيا والآخرة.
ومحبة الناس علامة على محبة الله للعبد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إنَّ الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض "
(1)
.
- ومن منافع ذلك في الآخرة اجتماع المتحابين في الله تحت ظل عرش الرحمن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يقول يوم القيامة "أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"
(2)
.
عن أبي مسلم الخولاني قال: قلت لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك ولا قرابة بيني وبينك قال: فلأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذب حبوتي ثم قال: أبشر إن كنتَ صادقًا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء"، ثم قال: فخرجتُ فأتيتُ عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ فقال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن ربه تبارك وتعالى" حقت محبتي على المتحابين فيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فيَّ، وحقت محبتي على المتزاورين فيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فيَّ، وهم على منابر من نور يغبطهم
(1)
أخرجه: مسلم (2637).
(2)
أخرجه: مسلم (2566).
النبيون والصديقون بمكانهم"
(1)
.
وغير ذلك من المنافع التي لا تكاد تحصى.
* ومن هذه المصالح الجمة ما يجده العبد في أوامر الله وتشريعاته كالصلاة والصيام وغيرها.
- وهذا أمر مشاهد، ففي الصلاة مثلًا تجد من يصلي الفجر نشيطًا طيب النفس، أما من حُرمها تجده خبيث النفس كسلان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة عليك ليل طويل، فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"
(2)
.
- وشرع لعباده الصلاة وجعلها مواضع الصلة والقرب بين العبد وربه، وجعلها قرة عين المسلم، وقضاء حاجاته.
- وأمر بالاجتماع للصلاة ولغيرها من العبادات كما في الصلوات الخمس والجمع والأعياد ومشاعر الحج والاجتماع لذكر الله والعلم النافع؛ لما في الاجتماع من الاختلاط الذي يوجب التوادد والتواصل، وزوال التقاطع والأحقاد بينهم، ومراغمة الشيطان الذي يكره اجتماعهم على الخير، وحصول التنافس في الخيرات، واقتداء بعضهم ببعض، وتعلم بعضهم من بعض، وكذلك حصول الأجر الكثير الذي لا يحصل بالانفراد، وغير ذلك من المصالح والمنافع.
(1)
أخرجه: أحمد (5/ 332)، ابن حبان (2/ 533)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3018).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (3269)، مسلم (776).
* وكذلك الزكاة تجلب للعبد المصالح الكثيرة سواء كانت مصالح خاصة للأفراد، أو مصالح عامة للمجتمع ومن ذلك:
- تجلب الخير والبركة وتزيد الأموال؛ إذ هي في حقيقتها النماء.
- تقي المال من المفاسد والأضرار وتطهره مما يلحقه لذا قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103].
- تنشر الألفة والمودة بين المسلمين.
- تنشر التعاون على البر والتقوى.
- تجعل المجتمع المسلم كالجسد الواحد مترابط متواد يقضي المسلم حاجة أخيه وينفس
عنه كربته في الدنيا.
- وكذلك من فوائد الزكاة الهامة أنها تمنع السؤال، وتكفي الفقير طلب العطاء من الناس.
- وكذلك تقلل الزكاة من نسبة الفقر في المجتمع المسلم.
* ومن المصالح الهامة التي عني الشرع بها تشريع أمور دنيوية لا يستغني عنها الناس، ومنْعُ أمورٍ أخرى لما تجلبه عليهم من المفاسد والمضار.
- ومن ذلك إباحته سبحانه وتعالى للبيع والعقود المباحه، لما فيها من العدل وحاجة الناس إليها، وجعل الأصل فيها الحل لكثرة احتياج الناس إليها.
- ومنها: أباح عقود التجارة، وعقود المزارعة، وعقود المساقاة، وعقود الشركات، وغيرها من العقود لحاجة الناس إليها.
- بل إنَّ هناك بعض العقود التي تخالف بعض الأصول العامة للمعاملات كبيع العرايا، وهو بيع التمر على الأرض برطب على رؤوس النخل، وهذا فيه بعض
الجهالة، ولكنَّ الله تعالى للطفه لمَّا علم حاجة بعض الناس إليها ممن لا يملكون رطبًا ولا نخلًا أجاز لهم ذلك، فسبحانه اللطيف الخبير.
* وحرم كذلك بعض العقود الأخرى لما فيها من المفاسد والأضرار:
- منها: حرم بيع المجهول لما فيه من المجازفة والظلم لأحد الأطراف.
- ومنها: حرم البيع على بيع أخيه لما فيه من نشر البغضاء والعداوة بين أفراد المجتمع.
- ومنها: حرم الربا لما فيه من الظلم والفساد للفرد والمجتمع، ومن المفاسد المترتبة على الربا منع القرض الحسن وعدم التعاون على البر والخير.
- ومنها: حرم البيع وقت نداء الجمعة لما فيه من انشغال العبد بالدنيا عما عند الله من الخير، وغير ذلك.
ومما سبق يُعلم أنَّ الدين مبني على المصالح، وأنَّ الله جل وعلا لا يأمر بشيء تعنتًا ولا تعذيبًا لعباده حاشاه سبحانه وتعالى، يقول تعالى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]، فالله تبارك وتعالى ما يريد إلا جلب المصالح للناس ودفع المفاسد والمضار عنهم.
وتتفرع من هذه القاعدة العامة والهامة قاعدة تضبط مسائلها، وتحل بعض إشكالاتها ألا وهي:
•
قاعدة التزاحم:
*
أولًا: تزاحم المصالح:
تزاحم المصالح هو: أن يجتمع عدد من المصالح في حق شخص واحد في وقت واحد، ولا يمكن الجمع بينها، ولابد أن يفعل واحدة منها، فعليه أن يختار المصلحة الأعلى، وهذه القاعدة تشبه قاعدة هامة من القواعد الأصولية ألا وهي
قاعدة " تزاحم الواجبات"، "تزاحم الواجب مع السنة".
قال ابن تيمية "والشرع دائمًا يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما"
(1)
.
وقد يكون هذا العمل مفضولًا في ذاته لكنه يفضل عند التزاحم، فهناك أعمال فاضلة في ذاتها
، ولكن هذا العمل الفاضل في ذاته ليس معناه أن يكون فاضلًا بالنسبة لكل شخص أو بالنسبة لكل زمن.
مثال: القرآن في ذاته أفضل الذكر، ولكن عند دخول الخلاء أفضل الذكر للعبد أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"
(2)
.
فمع أنه مفضول بالنسبة للقرآن لكنه بالنسبة لهذا المكان صار فاضلًا.
مثال آخر: تقديم إمام مفضول على آخر فاضل؛ لأنَّ هذا المفضول قد يكون مقبولًا عند الناس، وقد يخمد تقديمه فتنة معينة، فيكون تقديمه ليس لفضله في ذاته وإنما لعارض.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: " لما سئل عن بعض الأعمال؟ قال: انظر إلى ماهو أصلح لقلبك فافعله "
(3)
، وهذا أمر واقع وملحوظ، تجد بعض الناس يؤثر فيه الصيام، والبعض يؤثر فيه القيام، والبعض يتأثر بطلب العلم، فكل إنسان يأخذ الأصلح له، وإن كان مفضولًا في ذاته.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 23 ص 182).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (142)، مسلم (375).
(3)
طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 92).
*
ثانيًا: تزاحم المفاسد:
إذا تزاحم عدد من المفاسد فُوِّتت المفسدة الأعظم.
وهذه القاعدة تتشابه مع قاعدة أصولية ألا وهي قاعدة "تزاحم المحرمات".
مثال: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه» فتركوه حتى بال، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له «إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن» قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه"
(1)
.
فهنا تزاحم في حقه محرمان: الأول البول في المسجد، والثاني إيذاء المسلم بقطع بوله، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المحرم الأدنى وهو البول في المسجد، وفوَّت الأعلى وهي إيذاء المسلم.
وقد تكون المفسدة الأعظم هنا هي زيادة المحرم؛ لأنَّ الأعرابي ما بال في المسجد إلا لأنه لا يعلم أنَّ البول في المسجد حرام، فلما زجره الصحابة، وصاحوا به قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " دعوه لاتزرموه " أي: لا تقطعوا عليه بوله؛ لأنَّ زجره مع عدم العلم قد يؤدي لنفوره فيسبب زيادة للنجاسة في المسجد؛ ولذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المفسدة الأدنى وهي البول في مكان واحد في المسجد، فهو أولى من البول في أماكن متعددة.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (6025)، مسلم (284).
المبحث الرابع القواعد الكبرى الخمس:
- القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها.
- القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير.
- القاعدة الثالثة: اليقين لا يزول بالشك.
- القاعدة الرابعة: العادة محكَّمة.
- القاعدة الخامسة: الضرر يُزال.
القاعدة الكبرى الأولى الأمور بمقاصدها
والمعنى: أنَّ الأمور بنياتها، أي تعود إلى نياتها في أجرها، وفي صحتها، وفي قبولها.
ويدل لها قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(1)
.
عن سعد بن أبي وقاص أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك "
(2)
.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا "
(3)
.
عن عقبة بن عامر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي به، ومنبله "
(4)
.
عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه
(1)
سبق تخريجه.
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (56)، مسلم (1628).
(3)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2783)، مسلم (1353).
(4)
أخرجه: أحمد (4/ 146)، أبو داود (2513)، النسائي (3578)، وضعفه الألباني، وقال الأرنؤوط حسن بجموع طرقه.
عز وجل"
(1)
.
عن أبي موسى الأشعري أنَّ رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن القتال في سبيل الله
عز وجل، فقال: الرجل يقاتل غضبًا، ويقاتل حمية، قال: فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائمًا، فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"
(2)
.
وقد فرق الشرع بين القاتل عمدًا والقاتل خطأً بالنيَّة، وبين من وطئ أجنبية متعمدًا ومن وطئها يظنها زوجته بالنية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العمل المخالف في ظاهره للبحث عن النية، كقوله لكعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك " ما خلفك "
(3)
، وقوله لحاطب لما أرسل رسالة لأهل مكة يخبرهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم لهم "يا حاطب ما هذا؟ "، قال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، "
(4)
.
ولأهمية النية علق بها النبي صلى الله عليه وسلم العمل فقال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ....... "
(5)
.
(1)
أخرجه: النسائي (1787)، ابن ماجه (1344)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1105).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (123)، مسلم (1904).
(3)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2758)، مسلم (2769).
(4)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (3007)، مسلم (2494).
(5)
سبق تخريجه.
ولذا جُعلَت الأحكام مرتبطة بنياتها ونقل ابن تيمية رحمه الله الاتفاق على ذلك فقال " لو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى في قلبه، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجزئ في ذلك بالاتفاق "
(1)
.
قال الإمام أحمد بن حنبل إنَّ حديث " إنما الأعمال بالنيات ......... " ثلث العلم، وقال أصول
الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث " الأعمال بالنية "، وحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما
ليس منه فهو رد "، وحديث "الحلال بين والحرام بين ............. "
(2)
.
قال أبو داود: مدار السنة على أربعة أحاديث، حديث " الأعمال بالنيات "، وحديث " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه "، وحديث " الحلال بيِّن والحرام بيِّن "، وحديث " إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّبًا "، وفي لفظ عنه يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث، فذكرها وذكر بدل الأخير حديث " لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه "
(3)
، قال الدارقطني أصول الأحاديث أربعة " الأعمال بالنيات "، وحديث"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه "، وحديث " الحلال بيِّن ..... "، وحديث " ازهد في الدنيا يحبك الله ..... "
(4)
.
قال ابن مهدي: حديث النية يدخل في ثلاثين بابًا من العلم
(5)
.
قال الشافعي: حديث النية يدخل في سبعين بابًا من الفقه
(6)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 22 ص 218).
(2)
فتح الباري (1/ 11).
(3)
جامع العلوم والحكم (ص 8، 7).
(4)
التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (1/ 287).
(5)
فتح الباري (1/ 11).
(6)
المصدر السابق.
تعريف النية:
لغة: القصد.
شرعًا: القصد المقترن بالفعل.
* الشرط الشرعي أنواع:
1 -
شرط قبول: وهو الذي يقبل به العمل.
2 -
شرط صحة: وهو الذي يصح به العمل.
3 -
شرط وجوب: وهو الذي يجب به العمل.
س: ما معنى إنما الأعمال بالنيات؟
ج: إنما صحة الأعمال بالنيات، فالنية شرط لصحة العمل.
- محل النية: النية محلها القلب، قال ابن تيمية "محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات"
(1)
.
- مراتب النية:
1 -
تمييز العبادة عن العادة.
2 -
تمييز العبادات بعضها عن بعض.
المرتبة الأولى: تمييز العادة عن العبادة:
فالوضوء قد يكون نظافة أو تبردًا، وقد يكون عبادة، وذلك بحسب النية.
والامتناع عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى الغروب، إن كان بنية الصيام فهو عبادة، وإلا فلا.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 22 ص 217 - 218).
س: هل الأذان يحتاج إلى نية؟
ج: النية تفرق بين الأعمال التي قد تكون عادة وقد تكون عبادة، أما العمل الذي لا يكون إلا عبادة (كالأذان) فلا يحتاج إلى نية في صحته، أما في الأجر فيحتاج إلى نية، فهناك فرق بين أجر العمل، وصحة العمل.
س: هل التروك تحتاج إلى نية؟
ج: لا تحتاج إلى نية في صحة التروك، أما في ثواب الترك وأجره فإنها تحتاج إلى نية.
المرتبة الثانية: تمييز العبادات بعضها عن بعض:
فتميز الفرض عن النفل، وتميز الفروض بعضها عن بعض، وتميز الراتبة عن السنة المطلقة، وغير ذلك.
القواعد المندرجة تحت القاعدة الكبرى الأولى:
*
القاعدة الأولى: قاعدة التداخل:
إذا اجتمع عملان من جنس واحد وكانت أعمالهما متفقة ومقصودهما واحدًا اكتُفي بأحدهما ودخل فيه الآخر.
عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج
(1)
.
(1)
أخرجه: مسلم (1211)، أبوداود (1897).
* ويتفرع على ذلك مسائل منها:
- إذا دخل المسجد، وصلى الراتبة ونوى بهما الراتبة والتحية أجزأ عنه.
- ومنها: سنة الوضوء إذا نوى بها الراتبة أجزأ عنه.
- ومنها: القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
ومن فروعها أيضًا:
- لو أخر الحاج طواف الإفاضة إلى قبيل الخروج قيل إنَّ طواف الوداع يدخل في طواف الإفاضة، وقيل لا يدخل؛ لأنَّ المقصد مختلف.
- ومنها: غسل اليدين قبل الوضوء وعند الاستيقاظ من النوم إذا اجتمعا يدخل أحدهما في الآخر.
- ومنها: إذا اجتمع للمرأة غسل الحيض والجنابة يدخل أحدهما في الآخر.
- ومنها: غسل الجمعة والجنابة إذا اجتمعا يدخل أحدهما في الآخر.
- ومنها: لو تعدد السهو في صلاة أكثر من مرة يسجد سجدتين فقط؛ فالمقصود واحد والجنس واحد.
- ومنها: إذا اجتمع طواف الإفاضة وطواف القدوم أغنى طواف الإفاضة عن طواف القدوم.
*
القاعدة الثانية: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه:
قال السيوطي" وكنت أسمع شيخنا علم الدين البلقيني يذكر عن والده أنه زاد في القاعدة لفظًا قال " من استعجل الشيء قبل أوانه ولم تكن المصلحة في ثبوته عوقب بحرمانه"، كما لو حدثت الفرقة بين الزوجين بسبب ردتها، فقيل لا تقع الفرقة أصلًا معاملة لها بضد مقصودها، وقيل لو أسلمت لا تُزوج غيره بل تجبر
على العودة إليه
(1)
.
العجلة: هي السرعة، وغالب ما جاءت العجلة في الشرع جاءت مذمومة؛ إذ هي دليل الشهوة وإرادة العاجلة.
* التعجيل نوعان:
1 -
تعجيل قبل الوقت: وهذا هو المقصود بالقاعدة.
2 -
تعجيل في بداية الوقت: كتعجيل الإفطار للصائم في أول الوقت، وهذا لا تشمله القاعدة. ويشهد للقاعدة: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تخليل الخمر بوضع شيء فيها؛ لأنه تعجل تخليلها، بخلاف ما لو خللت وحدها فإنه جائز.
عن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الخمر تُتخذ خلًّا فقال: لا "
(2)
، والمعنى: تُحول إلى خل بوضع شيء فيها.
أما إذا صارت خلًّا وحدها أي بغير وضع شيء فيها حلَّت بالإجماع، قال شيخ الإسلام رحمه الله "وقد اتفقوا كلُّهم على الخمر إذا صارت خلَّا بفعل الله تعالى صارت حلالًا طيبًا "
(3)
.
ومن فروعها:
- ما أفتى به عمر رضي الله عنه " أنَّ الرجل إذا تزوج المرأة في العدة تحرم عليه أبدًا "
(4)
.
وقال ابن تيمية: لمل سئل عن رجل خطب امرأة في العدة؟
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 153).
(2)
أخرجه: مسلم (1983).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 21 ص 71).
(4)
أورده أبونعيم في الحلية (4/ 372)، الفقيه والمتفقه للخطيب (1/ 250)، البحر المحيط للزركشي (4/ 372).
فأجاب: لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين، فكيف إذا كانت في عدة من طلاق، ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعًا ويزجر عن التزوج بها معاقبة له بنقيض قصده
(1)
.
- من قتل مورَّثه عمدًا عدوانًا لا يرث قال صلى الله عليه وسلم "القاتل لا يرث "
(2)
.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أنَّ القاتل عمدًا لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئًا
(3)
.
- ومن فروعها أيضًا: التعجل في طلب العلم يحرم طالب العلم من كثير من الخير، فالعلم يحتاج إلى عمل وجهد، ولكنه لا يحتاج إلى تعجل، والتعجل هو تعلم الأشياء قبل وقتها.
- ومنها: التعجل في الصلاة كالذي يركع أو يسجد قبل الإمام، قال بعض الفقهاء عليه إعادة الصلاة؛ لأنها بطلت بتعجله على الإمام.
- ومنها: لو طلق امرأته في مرض موته لحرمانها من الميراث فإنها ترث.
- ومنها: إذا قتل العبد المدبر سيده لا يعتق.
- ومنها: إذا قتل الموصَى له الموصِي يُحرم من الوصية.
وذكر الإمام السيوطي لذلك شاهدًا في النحو أنَّ اسم الفاعل يعمل عمل الفعل
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (مج 32 ص 8).
(2)
أخرجه: الترمذي (2109)، ابن ماجه (2645)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4436)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه: حديث حسن من طريق عبد الله بن عمرو، وقال الشيخ العدوي في كل طرقه مقال.
(3)
الإجماع لابن المنذر (ص 55).
ولكن بشروط: منها ألا يوصف قبل العمل فإن وصف قبل العمل لا يعمل
(1)
.
تنبيه: تعجل الشيء قبل أوانه مذموم بكل حال إلا ما أذن فيه الشرع:
ومن ذلك: التعجيل في الزكاة: فإنه دليل السبق بالخير والإسراع إليه؛ لذا أجازه النبي صلى الله عليه وسلم، عن علي رضي الله عنه " أنَّ العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك "
(2)
.
*
القاعدة الثالثة: الوسائل لها أحكام المقاصد:
تعريف الوسيلة: هي الذريعة الموصلة للشيء المطلوب.
المقصد: هو الشيء المطلوب.
وهي من القواعد المتشابهة مع قواعد أصول الفقه مثل قاعدة:
1 -
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 -
ما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب.
ومن فروعها:
- غسل بعض شعر الرأس مع الوجه في الوضوء، فالمقصد غسل الوجه وهو واجب، وغسل بعض شعر الرأس مع الوجه وسيلة للتيقن من غسل جميع الوجه؛ فلها حكم غسل الوجه وهو الوجوب.
- ومنها: السواك مندوب، فإن لم يتم استعماله إلا بالشراء يكن الشراء مندوبًا.
- ومنها: ضبط المنبه لقيام الليل فقيام الليل مندوب، وضبط المنبه وسيلة
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 154).
(2)
أخرجه: أحمد (1/ 1452)، أبوداود (1624)، الترمذي (678)، ابن ماجه (1795)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1452).
للقيام فيكون له حكم المقصد ألا وهو القيام، فيكون ضبط المنبه مندوبًا.
إذًا الوسيلة لها حكم المقصد: هذا في باب المأمورات.
وهو كذلك في باب المنهيات، فالمقصد المنهي عنه يمنع كل وسيلة تؤدي إليه.
وهذه القاعدة تشبه القاعدة الأصولية التي يعبر عنها الأصوليون بقولهم: ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب.
والمعنى: لو أنَّ إنسانًا لا يستطيع ترك الحرام إلا بترك وسيلة معينة كان ترك هذه الوسيلة واجبًا وفعلها حرامًا.
مثال: الزنا حرام، فيحرم كل وسيلة تؤدي إليه.
- ومنها: شراء التلفاز إذا كان سيوصل إلى الحرام فشراؤه حرام، وغير ذلك.
القاعدة الكبرى الثانية المشقة تجلب التيسير
إنَّ التيسير سمة عامة في الشريعة الإسلامية وأحكام الإسلام، وقد يزداد هذا التيسير إن كان هناك حرج أو مشقة طارئة، وهذا معنى القاعدة، أي أنَّ المشقة تجلب تيسيرا زائدًا عن التيسير العادي.
قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ دين الله يسر "
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم " إني أُرسلتُ بحنيفية سمحة "
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم " أَحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة "
(3)
، وعن عائشة رضي الله عنها قالت "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس منه"
(4)
.
(1)
أخرجه: الطبراني في الأوسط (1/ 242)، البيهقي في الشعب (3/ 30)، أبونعيم في الحلية (8/ 203)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2118)، وقال الشيخ العدوي لمعناه شواهد.
(2)
قال الأرنؤوط: أخرجه أحمد بسند قوي (6/ 116، 233) من حديث عائشة مرفوعاً "
…
إني أُرسلت بحنيفية سمحة"، وعلقه البخاري في " صحيحه " (1/ 93) في الإيمان (باب الدين يسر)، ووصله في " الأدب المفرد " (287)، وحَسَّن إسناده الحافظ في " الفتح"، وتراجع عن تضعيفه الشيخ الألباني: انظر السلسلة الصحيحة (2924)، وقال الشيخ مصطفى العدوي يحسن لشواهده.
(3)
أخرجه: البخاري في صحيحه معلقًا (باب الدين يسر)، أحمد (1/ 236)، وقال شاكرإسناده صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (220).
(4)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (3560)، مسلم (2327).
- قال الإمام الشافعي: كلما ضاق الأمر اتسع
(1)
.
مثال: لو أنَّ إنسانًا لا يستطيع القيام في الصلاة، اتسع له الأمر وجاز له القعود، ولو أنَّ إنسانًا لا يستطيع الصيام اتسع له الأمر وجاز له الإفطار، وهكذا.
تنبيه:
ضابط التيسير الذي تجلبه المشقة أن يُذهب الحرج ويرفع المشقة الخارجة عن المعتاد.
* اليُسر نوعان:
- يُسر اعتيادي: وهو المصاحب لجملة الأحكام الشرعية؛ إذ أنَّ الأحكام الشرعية في ذاتها ميسرة وفي مقدرة الناس أجمعين في العادة؛ إذ أنَّ الله تعالى لايكلف نفسًا إلا وسعها.
ومن اليسر العام للشريعة المطهرة أن جُعلت الصلوات خمسة فروض فقط، وجُعل الصيام شهرًا في العام، وجُعل الحج واجبًا مرة في العمر، وغير ذلك.
- يُسر طارئ: وهو يُسر زائد عن اليسر العادي، وهو يُسر لأصحاب الحاجات والأعذار، والمصاحب للمشقة الطارئة والزائدة عن المشقة المعتادة للعبادة.
* أنواع المشقة:
والداعي لبيان أنواع المشقة أنه ليس كل مشقة جالبة للتيسير، حيث إنَّ المشقة أنواع، فمنها مؤثر في التخفيف ومنها غير مؤثر.
1 -
مشقة لا تنفك عن العبادة أبدًا: فهذه لا تجلب التيسير- المراد هنا التيسير الزائد عن التيسير العادي -، ولو اعتُبرت المشقة المعتادة لما قام تكليف، مثل مشقة الصيام في الحر، ومشقة الحج، فهذه ملازمة لها ولا تنفك عنها، فهذه المشقة لا أثر لها في التخفيف.
(1)
المنثور في الفوائد للزركشي (1/ 120)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 83).
2 -
مشقة تنفك عن العبادة:
وهي ثلاث صور:
أ- المشقة العظيمة: فهذه تجلب التيسير، كمشقة المسافر الصائم الذي يسبب له الصيام أذى أومرضًا، فيسقط عنه وجوب الصيام، وعليه عدة من أيام أُخر، بل قد يجب عليه الإفطار لذا قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة لما وجد رجلًا مغشيًّا عليه من الصوم في السفر " ليس من البر الصيام في السفر"
(1)
.
ب- المشقة اليسيرة: فهذه لا تجلب التيسير كأن يشتكي الصائم من ألم في إصبعه، فهذه لا أثر لها.
ج - المشقة المتوسطة: فهذه المشقة على حسب ما تقترب منه من النوعين السابقين، فإذا زادت حتى وصلت للمشقة العظيمة تأخذ حكمها، وإذا خفَّت حتى وصلت إلى اليسيرة تأخذ حكمها، مثال: ألم الضرس لو زاد حتى يكون عظيمًا فيجلب التيسير، وإذا خفَّ حتى يكون يسيرًا لا يجلب التيسير.
* أسباب التخفيف:
- السفر: ويحدث التخفيف فيه بالجمع والقصر والإفطار، ونحو ذلك.
- المرض: يحدث التخفيف فيه بالتيمم، والجمع بين الصلاتين، والقعود في الصلاة والاضطجاع، ونحو ذلك.
- الجهل: وهو مناط التخفيف؛ إذ العلم مناط التكليف قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته "ارجع فصلِّ فإنك
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (1946)، مسلم (1115).
لم تصلِّ "
(1)
، فلما قال "لا أحسن غيرها" عُلم أنَّ جميع صلاته كانت على هذا الحال، ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء ما فات لجهله.
- النسيان: وهو رافع للتكليف، وسبب للتخفيف، حتى الصلاة التي هي أعظم الفرائض إن نسيها خفف الله عنه ولم يؤاخذه بها قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]، بل تخفيفًا من الله تعالى أن نقل الله الوقت للناسي، وجعل وقت العبادة هو وقت التذكر قال صلى الله عليه وسلم"من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها"
(2)
.
- الخوف: وهو من أسباب التخفيف فشرع الله تعالى له صلاة تسمى صلاة الخوف بصور مختلفة ومتعددة؛ مدارها على حال الخائف، وما يحيط به من المخاوف.
- الإكراه: وهو سبب من أسباب التخفيف؛ إذ أنَّ الله تعالى ترك للعبد الاختيار في الطاعة
والمعصية ولا يؤاخذه إلا بما فعل باختياره؛ لذا قال تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]، وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك قال: شرٌّ يارسول الله ما تُركتُ حتى نلتُ منك و ذكرتُ آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد
(3)
.
(1)
أخرجه: مسلم (397).
(2)
أخرجه: مسلم (684).
(3)
أخرجه: الحاكم (3362)، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، أبونعيم في الحلية (1/ 140)، قال الحافظ في الفتح (12/ 312) مرسل ورجاله ثقات، وقال الشيخ العدوي حسنه بعض العلماء بمجموع طرقه.
وحكى ابن حزم الإجماع على" أنَّ المكرَه على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، أنه لا يلزمه شيء من الكفر عند الله"
(1)
.
* صور التخفيف:
- تخفيف إسقاط: أي تسقط العبادة بغير بدل، مثل سقوط الحج عند عدم الاستطاعة.
- تخفيف نقص: مثل القصر في الصلاة.
- تخفيف إبدال: مثل التيمم، المسح على الخفين.
- تخفيف تقديم: مثل جمع التقديم في الصلاة.
- تخفيف تأخير: مثل جمع التأخير في الصلاة.
- تخفيف ترخيص: مثل الترخيص في الخمر لمن عنده غصة.
- تخفيف تغيير: مثل صلاة الخوف.
(1)
مراتب الإجماع لابن حزم (208).
القاعدة الكبرى الثالثة اليقين لا يزول بالشك
والمعنى: أنَّ اليقين لا يتغير إلا بيقين مثله ولا يؤثر فيه مجرد الشك.
لذا ذم الله تعالى من اتبع الظن وترك الحق المتيقن، فقال تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28].
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان»
(1)
.
ولا يوجد مع اليقين شك، ولكنَّ المعنى استصحاب الأصل المتيقن.
وفي معنى هذه القاعدة قولهم:
_ الأصل بقاء ما كان على ما كان:
- فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو متطهر.
- من تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث.
- ومن ذلك: من أكل في آخر الليل وشك في طلوع الفجر صح صومه.
- ومنها: من أكل في آخر النهار بلا اجتهاد وشك في الغروب بطل صومه؛ لأنَّ الأصل بقاء النهار.
(1)
أخرجه: مسلم (571)، أحمد (3/ 72)، أبوداود (1026)، النسائي (1238).
- ومنها: من اشترى ماءً وادعى نجاسته فالقول قول البائع؛ لأنَّ الأصل طهارة الماء.
- ومنها: لو اشتبهت امرأة أجنبية بالزوجة فالأصل أنها أجنبية، فلا تحل إلا بعقد وولي وشاهدي عدل، فكونها أجنبية يقين لأنه الأصل، ولا يزول اليقين بالشك، بل بيقين مثله.
ويندرج تحت هذه القاعدة بعض الضوابط منها:
*
الأصل في المياه الطهارة:
والدليل على ذلك:
قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48]، قال صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم " اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الماء طهور لا ينجسه شيء "
(3)
.
وكان هذا هو فهم الصحابة رضي الله عنهم وفعلهم.
قال ابن تيمية: وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أنه مر هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزاب، فنادى صاحبه: يا صاحب الميزاب
(1)
أخرجه: أبوداود (83)، الترمذي (69)، ابن ماجه (386)، وصححه الألباني في الإرواء (9).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (744)، مسلم (598).
(3)
أخرجه: أحمد (1/ 235)، أبوداود (66)، الترمذي (66)، النسائي (326)، وصححه الألباني في الإرواء (14)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: صحيح لغيره، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح، وقال الشيخ العدوي في سنده خلاف.
أماؤك طاهر أم نجس؟ فقال له عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره؛ فإنَّ هذا ليس عليه " فنهى عمر عن إخباره لأنه تكلف من السؤال ما لم يؤمر به، وهذا قد ينبني على أصل، وهو أنَّ النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم
(1)
، فدل ذلك على أنَّ الأصل في الماء الطهارة.
*
الأصل في الأرض والثياب الطهارة:
ودليل ذلك:
قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، فالمقام هنا مقام امتنان، والامتنان يقتضي أن يكون الأصل في كل ما في الأرض مباحًا وطاهرًا؛ لأنَّ الله لا يمتن بحرام؛ إذ كيف يحرمه ويمنع الناس منه ثم يمتن به، وكذلك لا يمتن بنجس؛ لأنَّ النجس لا ينتفع به، فلما امتن علينا بأنه خلق لنا كل ما في الأرض جميعًا، عُلم أنَّ كل ما في الأرض حلال ومباح وطاهر، ما لم يرد نص بالتحريم، أو بالنجاسة.
*
الأصل في الأشياء الإباحة:
ويدل لذلك:
قوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقال تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا
أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]، وقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، فكل هذه الأدلة تدل على أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة ولا يحرم منها إلا ما ورد النص بتحريمه.
(1)
ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/ 184)، وقال "ثبت عن عمر ...... "، وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 97)، وضعفه الألباني في المشكاة (486).
*
الأصل براءة الذمة:
وذلك في الحقوق الشرعية وحقوق الآدميين.
ولذا لم يقبل في شغل الذمة شاهد واحد ما لم يعتضد بآخر أو اليمين، ونقل ابن المنذر
الإجماع على أنَّ البينة على المدعي
(1)
، وهذا دليل على أنَّ الأصل في الذمة أنها بريئة، فمن أراد اتهامها وتغيير هذا الأصل فعليه بالدليل ألا وهو البينة.
عن ابن عباس: أنَّ هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"البينة أو حد في ظهرك"
(2)
.
عن عمارة بن خزيمة أنَّ عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، واستتبعه ليقبض ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، وطفق الرجال يتعرضون للأعرابي، فيسومونه بالفرس وهم لا يشعرون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم في السوم على ما ابتاعه به منه، فنادى الأعرابيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنتَ مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداءه، فقال: أليس قد ابتعتُه منك؟! قال: لا والله ما بعتُكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد ابتعتُه منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول هلم شاهدًا يشهد أني قد بعتُكه، قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعتَه قال: فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟! قال: بتصديقك يا رسول الله، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين"
(3)
.
وهذا يدل على أنَّ الأصل في الذمة أنها بريئة، وأنَّ البينة على المدعي؛ لذا لو
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص 48).
(2)
أخرجه: البخاري (4747)، الترمذي (3179)، ابن ماجه (2067).
(3)
أخرجه: أحمد (5/ 215)، أبوداود (3607)، النسائي (4647)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 127).
اختلف البيعان فالقول قول البائع إن لم توجد البينة.
قال ابن الصائغ: نظير قول الفقهاء "إنَّ الأصل براءة الذمة فلا يقوى الشاهد على شغلها ما لم يعتضد بآخر" قول النحاة "الأصل في الأسماء الصرف فلا يقوى سبب واحد علي خروجه عن أصله حتى يعتضد بآخر"
(1)
.
وكلام ابن الصائغ كلام وجيه؛ حيث إنَّ الأصل في الاسم الصرف، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بعلتين، أو علة قوية قامت مقام العلتين كالاسم المقصور، وكذلك لا بد من شاهدين ليخرجا الحكم عن أصله، وقد يخرج أيضًا بشاهد واحد لقوته كما في قصة خزيمة، أو لقرينة الحال كما إذا شهدت امرأة أنها أرضعت زوجين فيؤخذ بشهادتها ويفرق بينهما، وهذا يدل على قرب العلوم بعضها من بعض، وقوة ارتباط بعضها ببعض، وأنها خرجت من مشكاة واحدة.
*
الأصل في الأبضاع التحريم:
والأبضاع جمع بُضع بضم الباء؛ إذ أنَّ هناك فرقًا بين البَضع، والبِضع، والبُضع.
- فالبَضع بفتح الباء هو القطعة، عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بدوي، فقال: يانبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟
فقال «هل هو إلا مضغة منه» ، أو قال «بَضعة منه»
(2)
.
- البِضع بكسر الباء المقصود بها العدد من ثلاثة إلى تسعة، قال صلى الله عليه وسلم " الإيمان
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 53).
(2)
أخرجه: أحمد (4/ 22)، أبوداود (182)، النسائي في سننه (165)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (176)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق سنن أبي داود إسناده حسن فيه قيس بن طلق صدوق حسن الحديث وباقي رجاله ثقات، وقال الشيخ العدوي في سنده ضعف قيس بن طلق متكلم فيه.
بِضع وستون - أو بِضع وسبعون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"
(1)
.
- البُضع هو الفرج، قال صلى الله عليه وسلم "وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"
(2)
.
قال بعضهم يجمع تلك الصور:
بَضعتُ لحمًا بَضعًا
…
حتى يصير بِضعًا
قطعًا كما جاء في التراث
…
ما بين تسع وثلاث
واعلم بأنَّ بُضعًا
…
صدقة لا تعجبِ
بالضم وطؤها الإناث
…
أجر وسنة النبي
(3)
.
والدليل على أنَّ الأصل في الأبضاع التحريم:
قوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7].
وقال صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله"
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم "واستحللتم " يدل على أنَّ الأصل في الفروج أنها محرمة.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (9)، مسلم (35).
(2)
أخرجه: مسلم (1006).
(3)
نقلًا عن " مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد البهية " للشيخ صالح بن محمد بن حسن الأسمر.
(4)
أخرجه: مسلم (1218).
ومن هنا كان الأصل في المرأة أنها أجنبية؛ لأنَّ الأصل في البُضع أنه محرم.
ومن فروعها:
- لو أنَّ لرجل أختًا في قرية ولا تُعلم من هي، تصير كل نساء القرية على الشك، فلزم الرجوع إلى اليقين فالأصل في الأبضاع أنها محرمه.
- ومنها: لو أنَّ رجلًا له ثلاث زوجات، طلق إحداهن، واشتبه عليه من طلَّقها، فلا يطأ واحدة منهن حتى يستبين.
- ومنها: لو اشتبه عليه زوجته بأجنبية فالأصل التحريم حتى يتبين.
*
الأصل في الذبائح التحريم:
ودليل ذلك:
قال تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].
عن رافع بن خديج قلت: يا رسول الله، إنا نلقي العدو غدًا، وليست معنا مدى، قال صلى الله عليه وسلم «أعجل - أو أرني - ما أنهر الدم، وذكر اسم الله، فكل، ليس السن، والظفر، وسأحدثك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» "
(1)
.
عن عدي بن حاتم قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إذا أرسلْتَ كلبك فاذكُرِ اسم اللَّه، فإن أمسَكَ عليك فأدركْتَه حيًّا فاذبحه، وإنْ أدركتَه قد قَتَل ولم يأكُلْ منه فكُلْه، وإن وجدتَ مع كلبك كلبًا غيره وقد قَتل، فلاتأكل فإنك لا تدرى أيهما قتله، وإن رمَيْتَ سهمك فاذكُرِ اسم اللَّه، فإن غاب عنك يومًا، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فَكُل إن شئتَ، وإنْ وجدتَهُ غريقًا فى الماء فلا تأكل "
(2)
.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2507)، مسلم (1968).
(2)
أخرجه: مسلم (1929).
فكل صورة وُجد فيها الشك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تأكل؛ ذلك لأنَّ الأصل التحريم.
*
الأصل في المسلم والمعاهد حرمة الدم والمال:
فالأصل في المعصوم تحريم دمه وماله بالنص والإجماع، فلا يباح أحدهما إلا بحق وذلك نحو (ردة - زنا المحصن - القتل العمد بغير حق - نقض العهد).
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فقال " إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، اللهم اشهد "
(1)
.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "
(2)
، قوله " لا يحل " يدل على أنَّ الأصل التحريم.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من قتل معاهدًا في غير كُنْهِه حرَّم اللَّه عليه الجنَّة"
(3)
، وتوعُّدُه بالعقاب يدل أنَّ الأصل في نفس المعاهد الحرمة.
- وحكى ابن حزم الإجماع في دم المسلم فقال "واتفقوا أنَّ دم المسلم الذي لم يفعل ..... -
يعني شيئًا يوجب عليه القتل من ردة أوقتل أو زنا مع إحصان ونحو ذلك - حرام"
(4)
.
وحكاه ابن قدامة في المغني، فقال "لا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (67)، مسلم (1679).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (6878)، مسلم (1676).
(3)
أخرجه: البخاري (3166)، أبوداود (2760)، النسائي (4747).
(4)
مراتب الإجماع لابن حزم (ص 307).
حق"
(1)
.
- وحكى ابن حزم الإجماع في الأموال كلها فقال "واتفقوا أنَّ أخذ أموال الناس كلها ظلم لا يحل"
(2)
.
- وحكى ابن المنذر الإجماع على تحريم دماء المسلمين وأموالهم فقال"وأجمعوا على تحريم أموال المسلمين ودمائهم إلا حيث أباح الله"
(3)
.
- وحكى ابن حزم الإجماع على حرمة دم الذمي فقال " واتفقوا أنَّ دم الذمي الذي لم ينقض شيئًا من ذمته حرام "
(4)
.
وكل ذلك يدل على أنَّ الأصل في المسلم والمعاهد حرمة الدم والمال.
*
الأصل في العادات الإباحة:
والمعنى: أنَّ عادات الناس وأعرافهم مباحة ما لم يرد نص بالتحريم.
ودليل ذلك:
عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال:«لو لم تفعلوا لصلح» قال:
فخرج شيصًا، فمر بهم فقال:«ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال «أنتم أعلم بأمر دنياكم»
(5)
.
مثال: عادات الناس في (المهور) أن جعلوا بعضه مؤجَّلًا وبعضه مُعجَّلًا.
هذه عادة لا تتعارض مع النص.
(1)
المغني لابن قدامة (9/ 319).
(2)
مراتب الإجماع لابن حزم (ص 200).
(3)
الإجماع لابن المنذر (ص 121).
(4)
مراتب الإجماع لابن حزم (ص 307).
(5)
أخرجه: مسلم (2363).
فالنص ألزم في الزواج بالمهر أو الصداق ولم يلزم بكيفية لآداء ذلك الصداق، وتُركت الكيفية للعرف تيسيرًا على الناس، ويأتي إن شاء الله تفصيل المسألة في الحديث عن "القاعدة الكبرى الرابعة: العادة محكَّمة".
*
الأصل في العبادات: المنع والحظر:
والمعنى: أنَّ الأصل في العبادات عدم المشروعية إلا ما ورد النص بمشروعيته، وما لم يرد نص به فهو غير مشروع، وإذا لم نعلم هل ورد النص أم لم يرد؟ فالأصل أيضًا المنع، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك قوله تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، وهذه أدوات التلقي والتعلم، فكل عبادة لابد أن تصل إلينا عن طريق أدوات التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي ليست من أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].
إذًا فكل شرع لابد فيه من الإذن من الله والذي يخبر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"
(1)
.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي رباح عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلًا يصلى بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا،
ولكن يعذبك على خلاف السنة
(2)
.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2697)، مسلم (1718).
(2)
السنن الكبرى للبيهقي (2/ 654)، مصنف عبد الرزاق نحوه (3/ 52)، وقال الألباني في الإرواء روى البيهقي بسند صحيح عن سعيد بن المسيب .......
وعليه يلزم على كل من يعمل عملًا أو يتعبد الله بعبادة أن تكون من أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ كل عبادة ليست من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وليست على هديه فهي رد.
مثال: لو صلى رجل بعد العصر كل يوم ركعتين.
فقال له آخر: ائتني بدليل على جواز ما فعلت؟
فقال له الفاعل: ائتني أنت بدليل على التحريم؟
فمن الذي على صوابٍ؟
الذي قال ائتني بدليل على الحل؛ لأنَّ الأصل في العبادات المنع، فلابد من الدليل على أنَّ هذه العبادة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
عن عبيد بن السباق أنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده» ، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر:«كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» قال عمر: هذا والله خير، «فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر» ، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، «فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن» ، قلت:«كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» ، قال: هو والله خير، " فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ...... "
(1)
.
ولأنَّ الأصل في العبادة المنع والحظر إلا ما أتى من طريق النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبوبكر
(1)
أخرجه: البخاري (4986).
عمرَ سؤالًا: كيف تفعل شيئًا لم بفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟!، ولما عرضا الأمر على زيد رضي الله عنه إذا به يسأل نفس السؤال، ولكنهم فعلوه بعد المشاورة والنظر في أدلة الدين العامة، فوجدوا أنه من المصالح العظيمة التي يشهد لها الشرع، وهو مبحث هام من مباحث علم أصول الفقه ألا وهو مبحث "المصالح المرسلة".
ومما يدل على ذلك أيضًا حديث أبي موسى في الاستئذان، فعن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع» فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك"
(1)
.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (6245)، مسلم (2153).
القاعدة الكبرى الرابعة العادة محكَّمة
العادة لغة: هي معاودة الشيء وتكراره.
اصطلاحًا: ما اشتهر بين الناس وتعارفوا عليه ولم يخالف شرعًا ولا شرطًا.
قال تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].
قال ابن عَطِيَّةَ إنَّ معنى العرف: كل ما عرفَتْهُ النفوس مِمَّا لا تردُّه الشريعة
(1)
.
عن عائشة أم المؤمنين أن هندًا بنت عتبة قالت يا رسول الله: إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
(2)
.
قال ابن مسعود رضي الله عنه «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيء»
(3)
.
العادة قسمان:
- عادة وعرف صحيح: وهو الذي لم يخالف نصًّا، ولم يفوت مصلحة، ولم يجلب مفسدة.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية (2/ 563).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2211)، مسلم (1714).
(3)
أخرجه: أحمد في مسنده (1/ 379)، مالك في الموطأ (1/ 355)، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: إسناده حسن.
- عادة وعرف غير صحيح: وهو الذي خالف نصًّا، أو فوت مصلحة، أو جلب مفسدة.
فالعرف والعادة قد يعمل بهما كدليل لكن بشروط وهي:
1 -
ألَّا يخالف العرف دليلًا.
2 -
أن يكون العرف عامًّا أو غالبًا: فلا يعتبر العرف الخاص، كأعراف بيتٍ أو أعراف عائلة، بل لا بد أن يكون غالبًا أو عامًّا في الناس.
3 -
أن يكون العرف مطردًا: يعني مستمرًّا، ولا يكون طارئًا لسبب معين ثم يزول.
4 -
ألَّا يعارضه عرف آخر: فإن عارضه عرف آخر، ولا مرجح لأحدهما فلا يعمل بأحدهما.
5 -
أن يفضي إلى مصلحة.
6 -
أن يكون العرف عند مجيء الخطاب، لا قبله بحيث يكون منقطعًا عنه، ولا بعده بحيث يكون طارئًا.
7 -
أن يكون العرف ظاهرًا.
والحكمة من الأخذ بالعرف أنَّ التحول عن العرف يؤدي إلى المشقة والحرج.
ومن أمثلة العرف المعمول به: الحرز في السرقة فمرجعه إلى العرف؛ إذ أنَّ الشرع لم يحد له حدًّا وتركه لأعراف الناس.
ومن ذلك أيضًا الإحياء: عن سعيد بن زيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "من أحيا أرضًا ميتة فهي له وليس لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ"
(1)
، ولم يبين صفة الإحياء فدل على أنها تركت
(1)
أخرجه: أبوداود (3073)، الترمذي (1379)، البزار (1/ 220)، وصححه الألباني في الإرواء (1550).
للعرف، ومنه أيضًا تقسيم المهر إلى عاجل وآجل، وغير ذلك.
تنبيه: العرف من حيث مصدره أنواع:
* عرف عام: وهو الذي يشترك فيه جمهرة الناس مثل عقود الاستصناع.
* عرف خاص: وهو نوعان:
1 -
عرف خاص ببلد معين ويشترك فيه جمهور البلد مثل إطلاق لفظ الدابة على ذوات الأربع في بعض البلاد.
2 -
عرف خاص بعائلة معينة أو بيت خاص.
* عرف شرعي: هو اللفظ الذي استعمله الشرع مريدًا به معنى خاص كلفظ الصلاة.
تنبيه: العرف المراد هنا هو العرف العام، والنوع الأول من العرف الخاص.
* تعارض العرف مع الشرع:
وهذا له صورتان:
الصورة الأولى: لا يعلق الشرع بالمسألة أحكامًا:
مثال 1: لفظ "السمك" يعد في الشرع من اللحم قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، أما في العرف فلا يعد لحمًا، لكن الشرع لم يعلق به حكمًا؛ لذا يؤخذ هنا بالعرف.
فمن حلف ألا يأكل لحمًا وأكل سمكًا لا يحنث؛ لأنَّ السمك في العرف لا يعتبر لحمًا، وإن كان الشرع قد سماه لحمًا، لكنه لم يعلق به حكمًا فيعمل بالعرف.
مثال 2: سمى الله تعالى السماء سقفًا، فقال تعالى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32]، لكنَّ العرف لا يعتبر السماء سقفًا، فمن حلف ألا يستظل بسقف واستظل بالسماء لا يحنث؛ لأنَّ الشرع سمى
السماء سقفًا، ولم يعلق بها أحكامًا، فيؤخذ بالعرف.
مثال 3: سمى الله تعالى الشمس سراجًا، فقال تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 16]، لكن العرف لا يسميها سراجًا، فمن حلف ألَّا يجلس في ضوء السراج فجلس في ضوء الشمس لم يحنث؛ وذلك لأنَّ كل هذه الأسماء استُعملت في الشرع تسمية فقط ولم يتعلق بها أحكام.
الصورة الثانية: أن يخالف العرف الشرع وقد علق الشرع بالمسألة أحكامًا:
فالمرجع هنا للشرع ولا اعتبار بالعرف.
مثال: رجل حلف أن يصوم ثم أكل أو شرب، فلو كان الصيام في العرف هو الإمساك عن الكلام فقط، فإنه يحنث في يمينه لأنَّ الشرع علق بالصوم أحكامًا فيكون المرجع للشرع ولا اعتبار بالعرف.
- لو قال لزوجته إن رأيت الهلال فأنت طالق ورأى الناس الهلال، وهي لم تره وأخبرها الناس به، يرى البعض أنها تكون طالقًا؛ لأنَّ المراد برؤية الهلال شرعًا العلم، وهي علمت بذلك.
- ومن ذلك لو أوصى لأقاربه لم يدخل الورثة عملًا بتخصيص الشرع "لا وصية لوارث"
(1)
.
(1)
أخرجه: أبوداود (2872)، الترمذي (2120)، ابن ماجه (2714)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.
ويندرج تحت هذه القاعدة:
*
قاعدة: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا:
والمعنى: لو أنَّ هناك عرفًا في التجارة بين التجار مثلًا، ولم يشترطه البائع والمشتري حال عقد البيع، أو أنَّ هناك عرفًا في الزواج ولم يشترطه الولي أوالزوج حال عقد الزواج، فهو كالمشروط تمامًا؛ لأنَّ المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
وهذا بشرط ألَّا يصادم دليلًا.
فلو تعارفوا مثلًا على تضمين المستأجر والمستعير بدون تعد منه ولا تفريط لا يُعتبر ذلك العرف؛ لأنه صادم الشرع، حيث إنه لا ضمان على مؤتمن.
ومن فروعها:
- قولهم المعروف بين التجار كالمشروط بينهم.
- ومنها: الأصل أنَّ الرجل عليه أن يجهز بيت الزوجية من الأثاث والفراش ونحوه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح"
(1)
، فأضاف الفرش إلى الرجال، فدل على أنَّه على الزوج، لكن لو تعارف الناس على أنَّ والد الزوجة عليه أن يتعاون مع زوج ابنته، فعليه أن يتعاون معه.
- ومنها لو وقع الطلاق فيما بعد، وكان العرف السائد بين الناس: أن والد الزوجة إنما أعطى ما
أعطاه هدية لزوج ابنته، فلا يجوز أن يسترجع والد الزوجة مما أعطاه شيئًا، وهو حق للزوج.
وإن كان العرف: أنَّ ذلك إنما كان هدية لابنته، فليس من حق الزوج، ويعود كل ما أعطاه والد الزوجة إلى ابنته.
(1)
أخرجه: مسلم (1218).
- ومنها: إذا عقد الرجل على امرأة وخلا بها فلا يجوز له أن يجامعها، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال "واستحللتم فروجهن بكلمة الله"
(1)
، وهذا قد عقد عليها، فصارت حلالًا له بعد أن كانت حرامًا، ولكن العرف السائد عند الناس أنه لا يستطيع المرء أن يبني بالمرأة العاقد عليها إلا بموافقة الولي، وبعد الإشهار بين الناس، فلا يجوز له جماعها إلا بعد إشهار النكاح وموافقة الولي.
- ومنها: لو دفع الأب ابنه للمعلم ليعلمه زمنًا ثم اختلفوا في الأجر فالمرجع للعرف.
(1)
المصدر السابق.
القاعدة الكبرى الخامسة الضرر يُزال
الشريعة الإسلامية جاءت في كل تشريعاتها مُحَقِّقة لكل المصالح للخلق، ودفع المضار عنهم؛ ولذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشرع يمنع كل ضرر في الجملة، فقال صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار"
(1)
.
ومن فروعها:
- الرد بالعيب لدفع الضرر عن المشتري.
- ومنها: الحجر على السفيه لدفع ضرر التبذير.
- ومنها: القصاص لدفع الضرر عن المجتمع بانتشار الجرائم.
- ومنها: تنصيب القضاة لدفع ضرر ضياع الحقوق واستفحاش الظلم.
القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة:
*
القاعدة الأولى: الضرورات تبيح المحظورات:
الضرورة هي التي تقوم بحفظ شيء من الضرورات الخمس: " حفظ الدين، العقل، النفس، المال، العرض " فإذا وجدت الضرورة أبيح المحظور، كإباحة الميتة للمضطر، قال ابن المنذر " وأجمعوا على إباحة الميتة عند الضرورة"
(2)
.
ومن فروعها:
- جواز أكل الميتة عند المخمصة.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
الإجماع لابن المنذر (ص 121).
- ومنها: إساغة اللقمة بالخمر.
- ومنها: التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه.
ويشترط في ذلك: عدم نقصان الضرورة عن المحظور، ومن ذلك كما لو اضطر مسلم لأكل الميتة لحفظ حياته فلم يجد إلا لحم نبي فلا يجوز؛ لأنَّ الضرورة هنا أقل من المحظور.
*
القاعدة الثانية: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها:
قال تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة: 173]، والعادي: هو الذي يأكل ما يزيد على دفع ضرورته.
ومن فروعها:
- من وجد ميتة وأقدم على الهلاك يأكل منه بقدر ما يحفظ حياته، ولا يأكل حتى يشبع.
- ومنها: إزالة الغصة بالخمر فيشرب بقدر ما يزيل الغصة ولا يزيد.
- ومنها: عن ابن عمر: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض»
(1)
.
فستر العورة واجب، لكن لما وجد عذر وضرورة وهو قضاء الحاجة فعله بقدره صلى الله عليه وسلم.
- ومنها: من احتاج كلب الصيد لم يجز له أن يتخذ أكثر من قدر الحاجة.
تنبيه: بما أنَّ الضرورة تقدر بقدرها فمن باب أولى تقدر الحاجة بقدرها.
(1)
أخرجه: أبوداود (14)، الترمذي (14)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1071).
كما إذا احتاج الطبيب أن يكشف عورة المريض لا يجوز أن يكشف إلا قدر الحاجة.
*
القاعدة الثالثة: الضرر لا يزال بالضرر:
والمعنى أنه لا يجوز لصاحب الضرر أن يدفع الضرر بضرر آخر؛ لأنَّ ذلك مناقض لأصل القاعدة الكبرى "الضرر يُزال".
ومن فروعها:
- لو اضطر إنسان لأكل الميتة فوجد طعام مضطر آخر فلا يجوز أن يأكل طعامه؛ لأنه أزال ضرره بضرر غيره.
- ومنها: رجل مضطر ولم يجد إلا مسلمًا ميِّتا لا يجوز له دفع الضرورة بالأكل منه؛ لأنَّ حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًّا وكسر عظامه ميتًا ككسر عظامه حيًّا، وإباحة الميتة هى من أجل حرمة
المسلم، والحفاظ على حياته، لكن حرمته ليست أولى من حرمة غيره وإن كان ميتًا.
- ومنها: قول من يقول بجواز التبرع بالأعضاء بشروط منها ألَّا يسبب ذلك ضررًا للمُتبرِّع لأنَّ الضرر لا يُزال بالضرر.
- ومنها: إن أُكره بالقتل على القتل فلا يجوز له قتل أخيه؛ فحياته ليست أولى من حياة غيره.
- ومنها: لو أنَّ إنسانًا دُفن بلا كفن فلا يجوز نبش القبر من أجل تكفينه؛ لأنَّ الضرر المترتب عليه والمحظور أكبر وهو نبش قبر المسلم، لا سيما والقبر قام مقام الكفن.
قال ابن السبكي "يستثنى من ذلك ما لو كان أحدهما أعظم ضررًا فإن كان أحدهما أكثر ضررًا فعل الضرر الأدنى، ولهذا شرع القصاص وقتال البغاة وقاطع
الطريق ورمي الكفار إذا تترسوا بنساء وصبيان"
(1)
.
الخلاصة:
أنَّ الشرع حينما أجاز فعل المحظور أجازه للضرورة أو الحاجة، وأمر بإزالته بقدر الحاجة، ولا يُزال بضرر مساوٍ أو أكبر منه.
*
القاعدة الرابعة: لا واجب مع العجز ولا محرم مع الاضطرار:
قال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» "
(2)
.
والإجماع يدل على ذلك: قال ابن تيمية " إذا صلى المريض قاعدًا أو صلى على جنب لم يعد باتفاق المسلمين، وكذلك العريان كالذي تتكسر به السفينة، أو يأخذ القطاع ثيابه فإنه يصلي
عريانًا، ولا إعادة عليه باتفاق العلماء"
(3)
. ومن هنا: يُعلم أنَّ الاستطاعة محل التكليف.
ومن فروعها:
- من عجز عن استقبال القبلة لعذر صلى على حاله ولا شيء عليه.
- ومنها: من عجز عن الحج بنفسه سقط عنه وحج عنه غيره.
- ومنها: من عجز عن إزالة النجاسة سقط عنه وصلى على حاله.
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي - بتصرف - (1/ 87).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (7288)، مسلم (1337).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 21 ص 224).
لذلك يقول الأصوليون " الواجبات تسقط بالحاجات "، فالشيء الذي لا تستطيع الإتيان به لعذر أو حاجة لستَ مُكلفًا به.
ومن ذلك:
- قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، فالقيام في الصلاة واجب، فمن لم يستطع القيام مع أنه "واجب وركن" فهو غير مكلف بهذا النص؛ لأنَّ الله تعالى قال"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها " فكل ما خرج عن الوسع فالعبد غير مكلف به.
عن علي بن شيبان قال خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه و سلم، فبايعناه وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلًا فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال "استقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف "
(1)
، فإذا صلى وحده خلف الصف لا تصح صلاته.
أما إذا وجد الصف مكتملًا ولم يستطع الدخول في الصف فهذا له عذر، فهو غير مكلف بالنص أصلًا؛ لأنه غير مستطيع.
فالنص معلق بالاستطاعة فإذا خرج الأمر عن الاستطاعة سقط الأمر في حقه.
(1)
أخرجه: أحمد (4/ 23)، ابن ماجه (1003)، ابن خزيمة (1569)، وقال الألباني في الإرواء سنده صحيح ورجاله ثقات (2/ 329)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق سنن ابن ماجه إسناده صحيح، وقال الشيخ العدوي في سنده مقال.
*
القاعدة الخامسة: ما جاز لعذر بطل بزواله:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير "
(1)
.
ومن فروعها:
- التيمم جاز لعدم وجود الماء، فيبطل بوجود الماء.
- الجلوس في الصلاة جاز لعذر، فإن زال العذر وجب القيام.
- الإفطار للمريض جاز لعذر، فإن زال المرض وجب الصيام.
- شرب الخمر جاز لوجود الغصة، فيبطل بزوالها.
- أكل الميتة جاز لوجود الضرورة، فيبطل بزوالها، وهكذا.
(1)
أخرجه: أحمد (5/ 155)، الترمذي (124)، النسائي (322)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: صحيح لغيره.
المبحث الخامس قواعد فقهية متفرقة
القاعدة الأولى الحدود تسقط بالشبهات
والمعنى: أنَّ الحدَّ يسقط ويُدفع بالشبهة والاحتمال، والخطأ في ترك الحد أولى من الخطأ في إيقاعه.
ويدل لذلك النص والإجماع:
ومنها: فعل النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي الحديث أنَّ ماعزًا لما جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ بفعل الزنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقنه لعله يرجع عن إقراره، والرجوع عن الإقرار في الحدود يورث شبهة يسقط الحد بها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له «لعلك قبلتَ، أو غمزتَ، أو نظرتَ» ...... "
(1)
.
- قال ابن المنذر " وأجمعوا على أنَّ درء الحد بالشبهة "
(2)
.
- عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال"ادرءوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم"
(3)
.
وقد ورد عن عمر بن الخطاب قوله: لأن أعطل بالشبهات أحبُّ إليَّ من أن أُقيمها بالشبهات
(4)
.
(1)
أخرجه: البخاري (6824).
(2)
الإجماع لابن المنذر (ص 108).
(3)
أخرجه: البيهقي في معرفة السنن والآثار (12/ 328)، وقال البيهقي هذا موصول، وقال الألباني في الإرواء وقد صح موقوفًا عن ابن مسعود
…
وذكره، وقال وهو حسن الإسناد.
(4)
أخرجه: ابن أبي شيبة (9/ 566)، وعلاء الدين الهندي في كنز العمال، وقال الأرنؤوط رجاله ثقات إلا أنَّ فيه عنعنة بشير وقد توبع.
* الشبهة ثلاثة أنواع:
- شبهة الفاعل: كمن جامع امرأة يظنها زوجته.
- شبهة المحل: بأن يكون للواطئ فيها ملك أو شبهة كالأمة المشتركة والمكاتبة وأمة ولده.
- شبهة الطريق: وهي الجهة التي أباح بها المجتهد الفعل، أي أن يكون صحيحًا عند قوم، غير صحيح عند آخرين كالنكاح بلا ولي، وقال بعض العلماء لا عبرة بخلاف من خالف في النكاح بلا ولي؛ إذ أنه مخالف للنص.
والشبهة بأنواعها الثلاثة تُسقِط الحد.
- ومن فروعها أيضًا: يسقط الحد إذا شهد أربعة بالزنا وأربعة أنها بكر، فسقوط حد القذف لاكتمال عدد بينة الزنا وهو الأربعة، ويسقط حد الزنا لشبهة الشهادة بالبكارة.
- ومنها: لا يقطع من سرق مال سيده، قال ابن المنذر " وأجمعوا على ألَّا قطع على العبد إذا سرق من مولاه "
(1)
.
- ومنها: لو شهد شهود على حد، ثم رجعوا عن الشهادة قُبل منهم الرجوع وسقط الحد.
- ومنها: لا يقطع من سرق مال أبيه.
- ومنها: لا يقطع من سرق مال ولده.
كل هذه الحدود سقطت لوجود الشبهة.
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص 107).
تنبيه: شرط الشبهة أن تكون قوية وإلا فلا أثر لها.
- ولهذا يحد بوطء أمة أباحها السيد ولا يراعى خلاف عطاء رحمه الله إن صح عنه - في إباحة الجواري للوطء.
- ويُحدُّ مَنْ شَرِب النبيذ ولا ينظر لخلاف أبي حنيفة رحمه الله.
القاعدة الثانية الخراج بالضمان
والمعنى: ما خرج من الشيء من غلة ومنفعة وعين فهو للمشتري، ويكون ذلك عوضًا له لأنه يكون في ضمانه، فإنه لو تلف المبيع وهو عنده ضمنه؛ لذا فالمنفعة في هذا الوقت تكون له، فيكون الغنم بالغرم.
ودليل القاعدة عن عائشة رضي الله عنها قالت قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنَّ الخراج بالضمان "
(1)
، وفي بعض الطرق ذكر السبب وهو" أنَّ رجلًا ابتاع عبدًا واستعمله عدة أيام ثم وجد به عيبًا، فرده إلى البائع، فقال البائع: يا رسول الله، لقد استغله أو استفاد منه أي: أخذ الخراج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان"
(2)
.
(3)
.
ومن فروعها:
- أنَّ ما حدث من المبيع من ثمرة وغيرها كالولد والأجرة وكسب الرقيق كل ذلك للمشتري.
(1)
أخرجه: أبوداود (3508)، الترمذي (1285)، النسائي (4490)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/ 158).
(2)
أخرجه: أبوداود (3510)، ابن ماجه (2243)، وقال الألباني في الإرواء حسن لغيره (5/ 159).
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 136)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (1/ 151).
- ومنها: رجل رهن بقرة عند رجل آخر، فكان يحلبها كل يوم، فلو ماتت في يد المرتهن فإنه يضمن، وله أن يستفيد من لبنها؛ لأنَّ الخراج بالضمان.
- ومنها: لو اشترى رجل سيارة أجرة، وأخذها فاستعملها وانتفع بها، ثم ظهر بها عيب أخفاه البائع عن المشتري، فيصح للمشتري أن يفسخ البيع ويرد السيارة للبائع، وأجرة السيارة في هذه المدة تكون للمشتري وليس للبائع؛ لأنها لو تلفت قبل أن يردها فإنَّ المشتري يضمن.
- ومنها: لو أنَّ مجموعة من الناس أرادوا بناء شركة فساهم كلٌّ منهم بمال، وصار لكل واحد منهم أسهم معينة، فإن ربحوا قسمت الأرباح فيما بينهم على حسب الأسهم، وإن خسروا فإنهم يوزعون الخسارة على أنفسهم بنفس الحصص وبنفس الأسهم، فإنَّ الغُنم بالغُرم والخراج بالضمان.
القاعدة الثالثة ما تولد عن المأذون فهو غير مضمون
والمعنى: أنَّ الإنسان إذا فعل أمرًا مأذونًا له فيه، فترتب عليه أذى أو ضرر أو إفساد فلا يضمن شيئًا.
وفي معناها قولهم: إنَّ الله إذا أذن في شيء لم يرتب عليه شيئًا من العقاب.
وقريب منها قولهم: الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه.
قال صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان "
(1)
.
ومن فروعها:
- ومنها: لو مر مارٌّ أمام المصلي، فدفعه فلم يرجع، فقاتله فسبب له ضررًا، فلا شيء عليه؛ لأنَّ الضرر نتج عن مأذون فيه.
- ومنها: لو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى الجوف بدون مبالغة لم يفطر؛ لأنه نتج عن مأذون فيه.
- ومنها: استخدام كلب الحراسة لا يمنع دخول الملائكة إلى البيت؛ لأنَّ هذا مأذون فيه.
- ومنها: لو جُلد القاذف فأدى ذلك إلى ضرر له فلا ضمان؛ لأنَّ الضرر نتج عن مأذون فيه.
(1)
أخرجه: البخاري (509)، مسلم (505).
- قطع يد السارق إن أدى إلى ضرر أو تلف لا يُضمن؛ لأنه ترتب على شيء مأذون فيه.
ويستثنى من ذلك:
ما كان مأذونًا فيه لكنه مشروطٌ بسلامة العاقبة: كضرب المعلم تلميذه، وضرب الزوج زوجته، وضرب الولي من يتولى أمره، فإنه وإن كان مأذونًا فيه لكنه إن تسبب في أذى أو ضرر فعلى من سبَّبه الضمان؛ لأنَّ هذا مأذون فيه بشرط سلامة العاقبة وعدم الضرر.
القاعدة الرابعة إذا اجتمع السبب والمباشِر قُدِّم المباشِر
والمعنى: لو اجتمع في إفساد مالٍ أو نفسٍ أو نحوه المباشرُ والسببُ قُدِّم من باشر الإهلاك والمراد بالسبب أي المتسبب؛ لأنَّ هذا من أبواب الضمان، والضمان يتعلق أولًا بمن باشره، ولا نظر لحال الفاعل، ولكن إن لم يوجد المباشر ووجد من تسبب في الإتلاف لزمه الضمان.
ومن فروعها:
- لو أكل المالك طعامه المغصوب، وهو جاهلٌ أنَّ هذا طعامه فلا ضمان على الغاصب.
- ومنها: لو قدم الغاصب ما غصبه للمالك على أنه ضيافة فأكله فإنَّ الغاصب يبرأ.
- ومنها: لو حفر بئرًا، فردَّى رجلٌ رجلًا فيه، فالقصاص على المردِّي.
- ومنها: لو أمسك رجلٌ رجلًا لآخر فقتله فالقصاص على القاتل.
- ومنها: لو دلَّ إنسان على مال آخر فسرقه فالحكم على المباشر للسرقة.
- ومنها: لو أُمر عليٌّ أن يعطي مالًا لمحمد فأعطاه إلى أحمد خطأً، فأخذه أحمد فالضامن له أحمد لأنه المباشر، لكن إن لم يوجد أحمد فالضامن عليٌّ لغياب المباشر.
تنبيه:
يُقدم المباشر لأنَّ الفاعل هو العلة المباشرة، والأحكام تضاف إلى عللها أولًا، لا إلى أسبابها الموصلة؛ لأنَّ تلك أقوى وأقرب.
هذا إذا وجد المباشر والمتسبب لكن إن لم يوجد المباشر يلزم الضمان المتسبب.
القاعدة الخامسة من أتلف شيئًا لينتفع به ضمنه ومن أتلفه ليدفع ضرره عنه فلا يضمن المعنى: من أتلف شيئًا لدفع أذاه له لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع أذى غيره به ضمنه.
الإتلاف: هو إفساد الشيء وإزهاقه.
وشرط هذه القاعدة أن يدفع بالتي هي أحسن.
وهذا الضرر سواء كان ماديًّا كأذى في ماله أو بدنه، أو شرعيًّا كمرور المار بين يدي المصلي.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان "
(1)
.
تنبيه:
الأصل أنَّ كل من أتلف شيئًا ضمنه، ولكن هذا الأصل ليس على إطلاقه؛ وذلك لأنَّ إتلاف الشيء يكون على صورتين، إما أن يكون لضرورة، وإما لا.
فإن كان الإتلاف من غير ضرورة ضمن؛ لأنَّ هذا هو الأصل.
وأما إن كان لضرورة نُظر لهذه الضرورة، فإن كانت الضرورة هي دفع أذى المتلَف لم يضمنه.
(1)
سبق تخريجه.
وإن كانت الضرورة هي دفع أذًى من غير المتلَف لكنه دفع الأذى بإتلافه ضمنه.
ومن فروعها:
- مَنْ قطع شوك الحرم لإيذائه له فلا شيء عليه، وإن أتلفه لإيقاد النار به مثلًا ليدفع أذى البرد أثم.
- ومنها: إذا قتل المحرم صيدًا لأذاه له لم يضمنه؛ لأنه يدفع أذى الصيد عن نفسه.
- لكنه لو كان في سفره ونفد ما معه من طعام، فوجد صيدًا فذبحه وأكله لدفع أذى الموت
والهلاك به فإنه يضمن.
- ومنها: إذا تعرض الناس في سفينة للغرق ولم يجدوا نجاة إلا بإلقاء بعض المتاع في الماء فيُضمن هنا لصاحب المتاع؛ لأنهم دفعوا أذى الغرق بالمتاع.
- وهذا بخلاف ما إذا سقط المتاع على رجل وكاد يقتله، وما وجد نجاة إلا بإلقاء المتاع في الماء، فلا يضمن؛ لأنَّ الأذى من ذات المتاع.
- ومن ذلك حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك هذه؟ قال: نعم، قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين، والفرق ثلاثة آصع أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة، قال ابن أبي نجيح أو اذبح شاة"
(1)
.
فأمره صلى الله عليه وسلم بالفدية؛ لأن الأذى ليس من الشعر إنما هو من القمل، فدفع أذى القمل بحلق الشعر.
- وهذا بخلاف ما لو خرجت شعرة من رمشه أو حاجبه مثلًا، ودخلت في عينه فقلعها، فلا فدية عليه.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (1814)، مسلم (1201).
القاعدة السادسة لا يضمن الأمين تلف العين بلا تعد ولا تفريط، والظالم يضمن مطلقًا
المراد بالأمين: من كان المال بيديه برضى صاحب المال.
وتلف المال الذي بيديه له صورتان:
إما أن يكون بتفريط وإما أن يكون بغير تفريط.
- فإن كان بتفريط ضمن؛ لأنَّ هذا هو الأصل، والتفريط كأن يهمل في رعايتها أو حفظها أو أن يستخدمها في غير ما أمره صاحبها، فكل ذلك يكون في ضمانه.
ورد عن حكيم بن حزام " أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه ماله مقارضة يضرب له به: ألَّا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئًا من ذلك فقد ضمنتَ مالي"
(1)
.
- عن أنس أنَّ عمر بن الخطاب ضمَّنه وديعة سُرقت من بين ماله
(2)
.
قال البيهقي: يحتمل أنه كان فرَّط فيها فضمَّنه إياها بالتفريط
(3)
.
- وإن تلفت بغير تفريط ولا تعد فلا يضمن؛ لأنَّ الله تعالى قال {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91].
(1)
أخرجه: الدارقطني في سننه (3/ 63)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 293)، وقال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال الحافظ سنده قوي.
(2)
أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى (6/ 289)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 386).
(3)
نفس المصدر السابق.
ومن فروعها:
- إذا تلفت الوديعة في يد المُودَع فإن كان بتفريطه ضمن، وإلا فلا.
- إن تلفت العين في يد الوكيل فإن كان بتفريطه ضمن، وإلا فلا.
- إن تلف الرهن في يد المرتهن فإن كان بتفريطه ضمن، وإلا فلا.
- إن تلفت اللقطة في يد الملتقط فإن كان بتفريطه ضمن، وإلا فلا.
- إن هلك المريض في يد الطبيب أو تلف بعض أعضائه، فإن كان بتفريط ضمن وإلا فلا، قال ابن المنذر " وأجمعوا على أنَّ الطبيب إذا لم يتعد لم يضمن "
(1)
.
- ومنها: إذا تلف المال في يد الشريك أيًّا كان نوع الشركة فإنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط؛ لأنه أمين.
* أما غير الأمين وهو الظالم فإنه يضمن تلف العين مطلقًا.
والظالم: هو من كانت العين بيده بغير رضى من مالكها وقولنا: (مطلقًا) أي أنه يضمن العين سواء تلفت بتعدٍّ وتفريط أو بدونهما؛ لأنَّ يد الظالم يد متعدية، فيضمن العين ومنافعها مطلقًا.
- فيدخل في هذا الغاصب، والخائن في أمانته، ومن عنده عين لغيره، فطلب منه الرد لمالكها أو لوكيله فامتنع ولا عذر له، فإنه ضامن مطلقًا.
- وكذلك من عنده لقطة فسكت عليها ولم يعرفها بغير عذر، فإنه يضمن إذا تلفت مطلقًا؛ لأنه كالغاصب أو الخائن.
- ومن حصل في يده مال غيره بغير إذنه، ولم يخبر به صاحبه لغير عذر، فإنه يضمن مطلقًا إذا تلف المال.
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص 113).
قال ابن المنذر " وأجمع كل من نحفظ عنه على أنَّ من حمل صبيًّا أو مملوكًا بغير إذن وليه على دابة فتلف أنه ضامن "
(1)
.
فكل هؤلاء وما أشبههم ضمنوا؛ لأن أيديهم ليست أمينة وإنما هي أيدٍ ظالمة.
الخلاصة:
أنَّ المسألة لها ثلاث صور:
- الأمين الذي تتلف العين في يده بغير تفريط لا يضمن.
- الأمين الذي تتلف العين في يده بتفريطه يضمن.
- الظالم المتعدي الذي أخذ المال بغير حق فتلف المال بيده، فهذا يضمن مطلقًا سواء كان تلف المال بسبب تفريطه أم بغير تفريط.
(1)
نفس المصدر السابق.
القاعدة السابعة الخروج من الخلاف مستحب
والمعنى: أنَّ العمل الذي يصححه الجميع أفضل من الذي يصح عند البعض ولا يصح عند آخرين، وذلك حيث كان الخلاف معتبرًا.
وسبب ذلك: أنَّ الخلاف شر، والاجتماع والخروج من الخلاف مما ينشر الألفة والمودة.
قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118 - 119]، ولذا غضب صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابة تنازعوا واختلفوا في القدر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلتُ إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمتُ عليكم ألَّا تتنازعوا فيه
(1)
.
ولما كان الخلاف شرًّا دأب عمل الصحابة والسلف على الاجتماع والوفاق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
ومن ذلك:
- عن عبدِ الرحمن بنِ يزيد، قال: صلَّى عثمان بمنى أربعًا، فقال عبدُ الله: صليتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومَعَ أبي بكر ركعتين، ومع عُمر ركعتين - زاد
(1)
أخرجه: أحمد (2/ 178، 195)، الترمذي (2133)، ابن ماجه (85)، وقال شاكر إسناده صحيح، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.
عن حفص - ومع عثمان صدرًا من إمارته، ثم أتمَّها، - زاد مِنْ ها هنا عن أبي معاويةَ - ثم تفرَّقت بكم الطرقُ فلودِدتُ أن لي مِنْ أربع ركعات ركعتينِ مُتقبَّلَتَين. فال الأعمش: فحدثني معاويةُ بنُ قرة عن أشياخه أن عبدَ الله صَلَّى أربعًا، قال: فقِيلَ له: عبتَ على عثمان، ثم صليتَ أربعاً، قال: الخلافُ شَرٌّ
(1)
.
- وكان هذا أيضًا فعل أئمة الإسلام وعلمائها:
قال ابن تيمية: فما زال الشافعيُّ وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة وهم لا يقرءون البسملة سرًّا ولا جهرًا.
ومن المأثور أنَّ الرشيد احتجم فاستفتى مالكًا فأفتاه بأنه لا وضوء عليه، فصلَّى خلفه أبو يوسف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنَّ خروج النجاسة من غير السَّبيلين ينقض الوضوء، ومذهب مالك والشافعي أنه لا ينقض الوضوء، فقيل لأبي يوسف: أتصلِّي خلفه فقال: سبحان اللَّه أمير المؤمنين، فإنَّ ترْك الصلاة خلف الأئمة لمثل ذلك من شعائر أهل البدع كالرافضة والمعتزلة.
ولهذا لمَّا سُئل الإمام أحمد عن هذا، فأفتى بوجوب الوضوء؛ فقال له السائل: فإن كان الإمام لا يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: سبحان اللَّه ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك بن أنس
(2)
.
ومن فروعها أيضًا:
- استحباب الدلك في الطهارة.
- استيعاب الرأس في الوضوء.
- اجتناب استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة مع الساتر.
(1)
أخرجه: أبوداود (1960)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: إسناده صحيح (1712).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 366).
- الترتيب في قضاء الصلوات، وترك صلاة الأداء.
أنواع الاختلاف:
1 -
اختلاف التنوع:
وهو الذي يكون القولان فيه غير متنافيين بل كلاهما على صواب، والاختلاف أتى من
اختلاف النظر، أو أنَّ السبب في الاختلاف أنَّ كلًّا منهما عمل بدليل عنده خفي على الآخر، أو نحو ذلك.
كالقراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعتُ رجلًا قرأ آية سمعتُ من النبىِّ صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذتُ بيده، فأتيتُ به رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال «كلاكما مُحسنٌ» . قال شعبة أظنه قال " لا تختلفوا فإنَّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "
(1)
.
ومنها صور التشهد المختلفة التي وردت في الأحاديث، وكاختلافهم في معاني بعض الآيات والأحاديث، كتفسير بعضهم " الصراط " بالإسلام، وبعضهم فسره بالسنة، وبعضهم فسره بالجماعة، والكلُّ مصيب؛ لأنَّ اختلافهم اختلاف تنوع لا تضاد.
2 -
اختلاف التضاد:
وهو الذي يكون القولان فيه متناقضين، كقول أهل السنة إنَّ الناس يرون الله تعالى يوم القيامة بأعينهم، وأهل البدع يقولون لا يرونه بأعينهم، ومنه اختلاف الفقهاء في صحة الزواج بغير ولي، وغير ذلك، وهذا النوع يجب الرجوع فيه إلى الكتاب والسنة واتباع الحق الوارد فيهما قال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
(1)
أخرجه: البخاري (2410).
ولمراعاة الخلاف شروط:
1 -
لايوقع مراعاته في خلاف آخر: ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله، ولا يراعى
خلاف من لا يُجيز الفصل؛ لأنَّ من العلماء من لا يجيز الوصل.
2 -
أن لا يخالف سنة ثابتة أو أمرًا مجمعًا عليه: ومن ثمَّ يُسن رفع اليدين في الصلاة لورود الدليل بها، ولا يُبالَى برأي من قال بإبطال الصلاة برفع اليدين من الحنفية، وكذلك لا يُراعَى قول من يقول: إنَّ دية المرأة مساوية لدية الرجل لمخالفته النص، والإجماع أنَّ دية المرأة على النصف من دية الرجل
(1)
.
3 -
أن يقوى مأخذه بحيث لا يعد هفوة، ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه، ولا يبال بقول داود أنه لا يصح.
قال التاج السبكي" فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع كان معدودًا من الهفوات والسقطات لا من الخلافيات، ونعني بالقوة وقوف المذهب عندها، وتعلق ذي الفطنة بسبيلها، لا انتهاض الحجة بها، فإن الحجة لو انتهضت لما كنا مخالفين لها "
(2)
.
(1)
مراتب الإجماع لابن حزم (314).
(2)
الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 128).
القاعدة الثامنة الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها
والمعنى: لو تعارض في حق شخص عملان أحدهما متعلقٌ فضله بذات العبادة، والآخر متعلق فضله بمكان العبادة يقدم الفعل المتعلق بذات العبادة؛ لأنها الأصل.
ومن فروعها:
- الصلاة في جوف الكعبة أفضل من الصلاة خارجها، فإن لم يرج فيها الجماعة، وكانت الجماعة خارجها فالجماعة خارجها أفضل.
- ومنها: صلاة الجماعة خارج المسجد أفضل من الصلاة فرادى فيه.
- ومنها: صلاة قيام الليل في البيت أفضل منها في المسجد؛ لأنَّ فعلها في البيت به فضيلة متعلقة بها ألا وهي الخشوع والإخلاص والبعد عن الرياء.
- ومنها: القرب من الكعبة في الطواف أفضل، فلو لم يستطع الرمل مع القرب من الكعبة، واستطاع ذلك مع البعد، فالرمل مع البعد أولى؛ لأنه فضيلة متعلقة بذات العبادة.
القاعدة التاسعة الواجب لا يُترَك إلا لواجب
والمعنى: أنَّ الشرع لا يأذن بترك الواجب إلا لواجب مثله.
وهذا معنى قولهم "ما لا بدَّ منه لا يُترك إلا لما لا بدَّ منه".
وقولهم " الواجب لا يترك لسنة ".
وقولهم "ما كان ممنوعًا إذا جاز وجب".
ومن فروعها:
- وجوب قطع يد السارق: لأنه لو لم يجب لكان حرامًا إذ هو إيذاء، وقطع عضو، وإسالة دم، وإيذاء مسلم.
- ومنها: إقامة الحدود على ذوي الجرائم.
- ومنها: وجوب أكل الميتة للمضطر.
- ومنها: قول من قال بوجوب الختان؛ لأنه لو لم يجب لكان حرامًا لما فيه من قطع عضو، وكشف العورة، والنظر إليها، والإيذاء، وإسالة الدم، وكذلك هو جرح فلا تؤمن السراية فيه، وكل هذه محرمات فُعِلَت، أو واجبات تُرِكَت بسبب الختان، فلا يكون تركها إلا لواجب.
- ومنها: ما حدث مع الأعرابي لما بال في المسجد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه، فإنَّ الحفاظ على المسجد من النجاسات أمر واجب، فلما تُرك هنا عُلم أنه تُرك لواجب أعلى منه ألا وهو الحفاظ على المسلم من الأذى والضرر.
- ومنها: قول من يقول بوجوب تحية المسجد، ويَستدل لذلك بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال "أصليت يافلان" قال: لا، قال "قم فاركع"
(1)
.
حيث إنَّ الاستماع إلى الخطبة واجب، فلما تُرك من أجل تحية المسجد عُلم أنها واجبة؛ إذ أنَّ الواجب لا يترك إلا لواجب.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (930)، مسلم (875).
القاعدة العاشرة الأصل في الشرط أنه مباح وصحيح، ويجب الوفاء به إلا ما حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا
المعنى: أنَّ كل شرط صحيحٌ، ويجب الوفاء به إلا ما منعه الشرع؛ وذلك لأنَّ الاتفاق على الشروط عهود، والوفاء بالعهد واجب ولازم.
ودليل ذلك:
قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]، وقال تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وقال سبحانه أيضًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2].
- قال صلى الله عليه وسلم " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"
(1)
.
- قال صلى الله عليه وسلم " المسلمون على شروطهم"
(2)
.
- قال عمر رضي الله عنه " مقاطع الحقوق عند الشروط "
(3)
.
- قال ابن تيمية رحمه الله "والأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا"
(4)
.
وهذا يدل على أنَّ كل ما يشترطه الإنسان لابد أن يوفِّيَ به ما لم يخالف نصًّا.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2168)، مسلم (1504).
(2)
أخرجه: أبوداود (3594)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 142).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 32 ص 164).
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 29 ص 132).
* أقسام الشرط:
1 -
شرط صحيح: وهو قسمان:
الأول: شرط مطلوب في الشرع كالمهر في عقد النكاح.
الثاني: شرط غير مطلوب في الشرع لكنه صحيح؛ لأنه لم يخالف نصًّا.
ومثال ذلك:
- كاشتراط الولي شراء بيت للزوجة.
- ومنها: أن يشترط الولي ألا تنقل الزوجة من بلد أهلها.
- ومنها: كأن تشترط المرأة عدم الزواج عليها، فهو شرط صحيح عند بعض العلماء كمالك وأحمد، وورد ذلك عن عمر، وعمرو بن العاص، وشريح القاضي، والأوزاعي وإسحاق
(1)
.
2 -
شرط غير صحيح وباطل: وهو شرط خالف نصًّا.
ومثال ذلك:
- كأن يُشترط في عقد الزواج عدم الدخول بالزوجة.
- ومنها: أن يشترط البائع على المشتري عدم تملك السلعة أو عدم الانتفاع بها.
- ومنها: أن يشترط البائع سلفًا وبيعًا.
- ومنها: أن يشترط الرجل لآخر أن يُزوجه ابنته على أن يزوجه الآخر أخته مثلًا، وهو
المعروف في الشرع ب (نكاح الشغار).
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 32 ص 164).
- ومنها: أن يشترط الزوج في العقد عدم المهر.
- ومنها: أن يشترط الولي أن يكون الزواج ليلة واحدة؛ ليُحلها لزوجها الأول التي طُلقت منه طلاقًا بائنًا بينونة كبرى، وهو المسمى ب (زواج التحليل).
وغير ذلك من الشروط الباطلة والتي تخالف الكتاب والسنة.
القاعدة الحادية عشرة ما ثبت بالشرع مُقدَّم على ما ثبت بالشرط
والمعنى: أنَّ الشيء الذي يثبت بالشرع إن تعارض مع شيء ثبت بالشرط قُدِّم الثابت بالشرع؛ وذلك لأنَّ الشرع هو الحاكم، وهذه القاعدة مرتبطة بالقاعدة السابقة وتؤدي نفس معناها.
ومن فروعها:
- لا يصح نذر الواجب لأنه وجب بالشرع وهو أقوى من الشرط.
- ومنها: لو قال طلقتك بألف على أنَّ لي الرجعة سقط قوله بألف ويقع رجعيًّا؛ لأنَّ المال ثبت بالشرط، والرجعة بالشرع، فكان أقوى.
- ومنها: لو اشترى قريبه ونوى عتقه عن الكفارة لا يقع عنها؛ لأنَّ عتقه بالقربة حكم قهري، والعتق عن الكفارة يتعلق بإيقاعه واختياره.
- ومنها: إذا اجتمع خيار المجلس وخيار الشرط، فيكون له خيار المجلس بالشرع، وخيار الشرط بعده للشرط.
ومن هنا رُدت كل الشروط المخالفة للشرع، واعتُبرت شروطًا باطلة غير صحيحة؛ لأنها وإن ثبتت بالشرط لكنها منفية بالشرع، والشرع مقدم على الشرط.
- إن اجتمع الشرط أو النذر أو نحوه والشرع واتفقا كان ذلك تأكيدًا لحكم الشرع، إذ أنه في هذه الحالة قد وجب من ناحيتين.
قال ابن تيمية "إنَّ ما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإنَّ هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والميثاق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله"
(1)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 35 ص 345 - 346).
القاعدة الثانية عشرة ما حرم استعماله حرم اتِّخاذه
والمعنى: أنَّ ما حَرُم على الإنسان استعماله يحرم عليه أن يتخذه وإن لم يستعمله؛ لأنَّ الاتِّخاذ داع إلى الاستعمال، فيحسم الشرع مادة الشر ومقدماتها.
- قال ابن تيمية رحمه الله: تنازع العلماء في جواز اتِّخاذ الآنية - آنية الذهب والفضة - بدون استعمالها فرخص فيه أبوحنيفة والشافعي وأحمد في قول، وإن كان المشهور عنهما تحريمه؛ إذ الأصل أنَّ ما حرم استعماله حرم اتِّخاذه كآلات الملاهي
(1)
.
ومن فروعها:
- حرمة اتِّخاذ آلات الملاهي والمعازف ونحوها، وإن لم تُستخدم.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ أواني الذهب والفضة، وإن لم يأكل أو يشرب فيها.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ كلب الصيد لمن لا يصيد به.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ الخمر، وإن لم يشربها أو يبعها.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ الخنزير وإن لم يأكله.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ الحلي للرجل وإن لم يلبسه.
- ومنها: حرمة اتِّخاذ ملابس الحرير للرجل وإن لم يلبسها.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (مج 21 ص 86).
القاعدة الثالثة عشرة ما حرم أخذه حرم إعطاؤه
والمعنى: أنَّ الشيء المحرم الذي لا يجوز أخذه والاستفادة منه يحرم عليه أيضًا أن يقدمه لغيره ويعطيه إياه، سواء أكان على سبيل المنحة ابتداءً، أم على سبيل المقابلة؛ وذلك لأنَّ إعطاءه الغير عندئذ يكون من قبيل الدعوة إلى المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون المعطي شريكًا.
ومن فروعها:
- كما يحرم أخذ الربا يحرم إعطاؤه.
- ومنها: حلوان الكاهن كما يحرم أخذه يحرم إعطاؤه.
- ومنها: أجرة المُغَنِّي وأصحاب المعازف كما يحرم أخذها يحرم إعطاؤها.
- ومنها: كما يحرم أخذ أجرة النائحة يحرم إعطاؤها.
- ومنها: الوشم والنمص كما يحرم أخذ الأجرة عليه يحرم إعطاؤها.
- ومنها: كما يحرم أخذ الرشوة يحرم إعطاؤها، ولا تملك بالقبض ويجب ردها ولو كانت بغير طلب المرتشي، وغير ذلك من الصور.
واستثنى العلماء في الرشوة صورًا كلها تدور حول من يطلب حقه، ولا يستطيع الوصول إليه إلا بالرشوة، أو من يخاف على نفسه ضررًا، ولا يستطيع دفعه إلا بها.
- ومن ذلك: الرشوة للقاضي ليصل إلى حقه إن غلب على ظنه أنه لن يصله إلا بذاك.
- ومنها: الرشوة لفك الأسير.
- ومنها: الرشوة لمن يخاف ضرره ولا يستطيع دفعه إلا بذلك، كما لو خاف صاحب المال من أن يستولي غاصب على ماله.
* وقريب من هذه القاعدة قولهم " كل ما حرم فعله حرم طلبه، وكذا كل ما يكره فعله يكره طلبه"؛ إذ السكوت على الحرام أو المكروه والتمكين منه حرام أو مكروه، ولا شك أنَّ طلبه فوق السكوت عليه والتمكين منه، فيكون مثله في أصل الحرمة بالأولى وإن تفاوتت الحرمتان في القوة.
- ومنها: كما لا يجوز أخذ مال الغير بالغش ولا بالخديعة ولا بالخيانة لا يجوز طلبه، ومن المقرر شرعاً أنه كما لا يجوز فعل الحرام لا يجوز الإعانة والتشجيع عليه.
وكل ذلك لأنه تعاون على الإثم والعدوان وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2].
القاعدة الرابعة عشرة التابع تابع
والمعنى: أنَّ التابع لا يُفرد بالحكم؛ لأنه إنما جُعل تابعًا لا مستقلًّا فالأصل أنَّ التابع يكون له حكم المتبوع ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "ذكاة الجنين ذكاة أمه"
(1)
.
ويدخل تحت هذه القاعدة قواعد منها:
* التابع لا يفرد بالحكم؛ لأنه إنما جُعل تابعًا:
ومن فروعها:
- لو أحيا شيئًا له حريم مَلَك الحريم، إذ أنه تابع فلا يُفرد بالحكم، بل يتبع متبوعه.
- ومنها: الدود المتولد في الطعام يجوز أكله تبعًا لا مفردًا.
- ومنها الحمل يدخل في البيع مع الأم تبعًا لها لا مستقلًّا.
- ومنها: الأمة إن كانت حاملًا فجنينها تابع لها يأخذ حكمها ما لم يكن عرفًا أو شرطًا.
وقد يستقل التابع بالحكم إن كان ذلك بشرط أو قرينة: كأن يقول السيد لأمته الحامل إن ولدْتِ فمولودك معتق، فالعتق هنا للتابع دون الأصل.
* يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا:
والمعنى: أنَّ الشيء قد يثبت له في التبع حكم قد يكون مخالفًا لحكمه لو كان
(1)
أخرجه: أبوداود (2830)، الترمذي (1476)، ابن ماجه (3199)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.
مستقلًّا، وهي قريبة الشبه بالقاعدة السابقة.
ومن فروعها:
- بيع المجهول لا يصح، لكنه لو كان تابعًا لشيء آخر صح البيع.
- ومنها: إنسان اشترى بقرة في بطنها جنين، ويزيد ثمنها من أجل هذا الجنين مع أنه مجهول، فلما كان تبعًا كان حلالًا، مع العلم أنه لا يجوز بيعه مستقلًّا.
- ومنها: شراء بيت معلوم، وإن كان أساسه غير معلوم؛ لأنَّ الأساسات تبعٌ للبيت، فيثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا.
ومن فروعها أيضًا:
- أنَّ شهادة النساء لا يثبت بها انفساخ عقد الزوجية، لكن لو شهدت امرأة مأمونة بأنها أرضعت فلانًا وفلانة وقد تزوجها، فإنه يثبت أنه أخوها من الرضاعة، فيفرق بينهما، وينفسخ عقد الزوجية، لكن انفساخه هنا تابع لثبوت المحرمية بالرضاع.
* التابع يسقط بسقوط المتبوع:
ويقرب من هذه القاعدة قولهم "الفرع يسقط إذا سقط الأصل"، وهذه القاعدة مكملة للقواعد السابقة ومتممة لمعناها؛ إذ أنَّ التابع كما يثبت بثبوت متبوعه فكذلك يسقط بسقوطه.
ومن فروعها:
- لو مات الفارس سقط سهم الفرس؛ لأنَّ سهم الفرس تابع للفارس.
وهذا بخلاف ما لو مات الفرس استحق الفارس سهم الفرس؛ لأنه متبوع.
- ومنها: من فاته الحج فتحلل بالطواف والسعي والحلق، لا يتحلل بالرمي والمبيت؛ لأنها من توابع الوقوف وقد سقط.
- ومنها: لو امتنع غسل الوجه في الوضوء لعلة به لم يستحب غسله للغرة.
- ومنها إذا برئ الأصيل برئ الضامن.
* يُغتفَر في التوابع ما لا يُغتفَر في غيرها:
وقريب منها قولهم: يُغتفَر في الشيء ضمنًا ما لا يُغتفَر فيه قصدًا.
ومن فروعها:
- سجود التلاوة في الصلاة على الراحلة يجوز تبعًا للصلاة، واختلفوا فيه خارجها.
- ومنها: لا يثبت النسب بشهادة النساء، لكنها لو شهدت بالولادة على الفراش ثبت النسب تبعًا.
- ومنها: لا يصح بيع الزرع قبل بدو صلاحه، لكنه قد يُباع مع الأرض، فيجوز تبعًا للأرض.
- ومنها: لو وقف على نفسه لا يصح، ولو أوقفه على الفقراء، ثم صار منهم استحق ذلك تبعًا.
القاعدة الخامسة عشرة الميسور لا يسقط بالمعسور
المعنى: إذا أُمر العبد بأمر واجب أو مستحب، ولم يستطع أن يفعل كل العمل وجب عليه أن يفعل ما استطاع، ولا يسقط الميسور المُستطاع بالمعسور غير المستطاع، بشرط أن يكون العمل قابلًا للتجزئة.
قال صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
(1)
.
مثال: رجل صاحب عذر يستطيع أن يقف بعض الصلاة ويجلس بعضها، فلا يصح أن يجلس في كل الصلاة بل يقف ما استطاع ثم يجلس إذا عجز.
مثال آخر: رجل وجد ماءًا يكفيه لبعض وضوئه عليه أن يتوضأ حتى ينفد الماء ثم يتيمم؛ لأنَّ الله تعالى قال {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وهو واجدٌ للماء.
مثال آخر: رجل لا يستطيع الصيام كل اليوم هل يصوم ما يقدر عليه في اليوم ثم يفطر؟
لا يصوم؛ لأنَّ الصيام لا يقبل التجزئة.
(1)
سبق تخريجه.
ومن فروعها أيضًا:
- إذا كان المتوضئ مقطوع بعض الأطراف وجب غسل الباقي من الأعضاء.
- ومنها: من قدر أن يستر بعض عورته لزمه أن يستر ما استطاع.
- ومنها: من قدر أن يقرأ بعض الفاتحة لزمه أن يقرأ ما استطاع منها.
- ومنها: إذا انتهى في كفارة الجماع إلى الإطعام، ولم يجد إلا ثلاثين مسكينًا وجب إطعامهم.
- ومنها: من بجسده جرح يمنع استيعاب الماء في الغسل لزمه أن يغسل ما استطاع.
القاعدة السادسة عشرة كل فعل توفر سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالمشروع تركه
المعنى: أنَّ تركه صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه التشريع، كما أنَّ فعله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه التشريع، والقاعدة تدل على أنَّ الفعل الذي وجد سببه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قادرًا على فعله ولم يفعله، فإننا نتعبد الله تعالى بتركه، وأنه ليس من الشريعة في شيء.
وذلك مقتضى أنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ البلاغ الكامل المبين، وأنه ما ترك خيرًا إلا دلنا عليه، وما ترك شرًّا إلا حذرنا منه وأرشدنا إلى تركه، إما بنهيه صلى الله عليه وسلم الصريح، وإما بترك الفعل مع توفر أسبابه وقدرته على الفعل، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.
وفروعها كثيرة؛ إذ هي تشمل الرد على أهل البدع مع اختلاف معتقداتهم وبدعهم.
ومن فروعها:
- الطواف حول القبور بحجة صلاحهم، فقبور الصالحين والشهداء كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله مع القدرة عليه، فدلَّ على أنه ليس من الدين، وكذلك وُجد قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم من بعده.
- ومنها: الذكر الجماعي بعد الصلاة بحجة تعليم الناس، فلقد وجد السبب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حاجة الناس إلى التعليم، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه ليس من الدين.
- ومنها: قول المأموم (استعنت بالله) عند قول الإمام (وإياك نستعين).
- ومنها: قول المتوضئ لغيره (زمزم) يقصد تتوضأ من زمزم.
- ومنها: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء تبركًا.
- ومنها: تأويل أهل البدع أسماء الله وصفاته بحجة التنزيه لله تعالى عن مشابهة المخلوق، فهذا السبب - التنزيه - كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هو أعلم الخلق بالله، وأكثر الخلق تنزيهًا لله، ومع ذلك لم يؤول شيئًا من الأسماء والصفات، فدل على أنَّ التأويل ليس من الدين، وغير ذلك.
كل هذه صور وجدت أسبابها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها، فعلم أنها ليست من الدين.
القاعدة السابعة عشرة النهي إن كان لذات الشيء أو شرط الصحة فيه دل على بطلانه وإن كان لأمر خارج فلا
• النهي أنواع:
* النهي المتعلق بالذات:
مثل: النهي عن الشرك والزنا والنهي عن نكاح الأمهات، فكل هذا يدل على البطلان، والمعنى أنه لا يترتب عليه أحكامًا، فلا يترتب على النكاح الباطل مهر ولا نفقة ولا نسب ولا ميراث، ونحو ذلك.
* النهي المتعلق بالشرط:
والمعنى: أنَّ النهي يكون عن شيء متعلق بالشرط، والمراد هنا شرط الصحة كستر العورة، واستقبال القبلة، والوضوء للصلاة، فالعبد منهي عن الصلاة مكشوف العورة، فإن صلى مكشوف العورة فصلاته باطلة، وإن صلى وهو يستر عورته بالحرير فصلاته باطلة عند فريق من العلماء؛ لأنَّ هذا النهي متعلق بالشرط.
* النهي المتعلق بأمر خارج:
وهو النهي عما لا يتعلق بذات الشيء ولا بشرطه فهذا لا يدل على البطلان وإن كان يدل على التحريم.
مثال: الصلاة لمن يلبس عمامة من الحرير فصلاته صحيحة مع الإثم.
- ومنها: من صلى وهو يلبس خاتمًا من الذهب فالصلاة صحيحة مع الإثم.
- ومن حجت بغير محرم فحجها صحيح مع الإثم؛ لأنَّ المحرم شرط لوجوب الحج، وليس شرط صحة.
- ومنها: النهي عن تغطية الفم في الصلاة فالصلاة صحيحة مع الإثم؛ لأنه نهي عن أمر خارج ليس مُتعلقًا بركن ولا شرط.
القاعدة الثامنة عشرة لا يكون الشيء صحيحًا إلا إذا توفرت الأركان والشروط وانتفت الموانع
الحكم بالصحة والفساد من الأحكام الوضعية أي من الأحكام التي هي من وضع الشرع، وجعل الشرع الصحة متعلقة باستيفاء الأركان والشروط وانتفاع الموانع، والإخلال بأي منها يخل بصحة الأعمال، فإن تخلف شرط أو ركن أو وجد مانع تخلفت صحة الأعمال.
ومن فروعها:
- من صلى ولم يقرأ بفاتحة الكتاب بغير عذر فصلاته غير صحيحة؛ لأنه فقد ركنًا في الصلاة.
- ومنها: من صلى ولم يتم ركوع الصلاة أو سجودها، فصلاته باطلة؛ لأنه فقد ركنًا.
- ومنها: من صلى غير مستقبل القبلة بغير عذر، فصلاته باطلة غير صحيحة؛ لأنه فقد شرطًا فيها.
- ومنها: النكاح بغير ولي، فهو نكاح غير صحيح؛ لأنه فقد شرطًا في النكاح.
- ومنها: صيام الحائض، فهو صيام غير صحيح؛ لوجود المانع من الصلاة.
- ومنها: توريث القاتل للمورَّث، فهو توريث غير صحيح؛ لوجود المانع من الميراث وهو القتل.
ومعنى عدم صحة الشيء أي عدم الاعتداد به وكأنه لم يُفعل، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أساء في صلاته ولم يحسنها أي لم يتم أركانها" ارجع فصل فإنك لم تصل "
(1)
.
(1)
سبق تخريجه.
القاعدة التاسعة عشرة من أتى بعمل استحق الأجر المقابل لهذا العمل
المعنى: أنَّ من عمل عملًا استحق الأجر والثواب المترتب على هذا العمل، والأجر يتناسب مع قدر العمل وقيمته، فمن أتى بما عليه أي كما أُمر به أخذ الأجر الكامل المقابل لهذا العمل، وعليه فإن أنقص من عمله شيئًا نقص من أجره بمقدار ما أنقص.
- قال صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليصلي الصلاة ما يُكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها"
(1)
مع أنه أدى الصلاة لكنه أنقص منها أي من خشوعها وحضور القلب فيها، ونحو ذلك، فنقص من الأجر بمقدار ما أنقص من العمل.
- ومنها: من صلى على جنازة فله من الأجر قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان
(2)
،
فالأجر يتناسب مع العمل نقصًا وزيادة.
(1)
أخرجه: أحمد (4/ 321)، وقال الأرنؤوط حديث صحيح، أبوداود (796)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1626)، وصحيح أبي داود (761).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (47)، مسلم (945).
- ومنها: الفرق بين صلاة القائم والقاعد، قال صلى الله عليه وسلم "صلاة القاعد على
النصف من صلاة القائم"
(1)
.
- ومنها: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها
عشرًا
(2)
، ولو زاد زيد له، وهكذا، فمن عمل عملًا دنيويًّا أو أخرويًّا استحق الأجر المقابل لذلك العمل، والأجر يتناسب مع ذلك العمل نقصًا وزيادة.
القاعدة العشرون
الأمر بعد الحظر يفيد ما أفاده قبل الحظر
مسألة الأمر بعد الحظر اختلف فيها الأصوليون، والصواب والله أعلم هو مقتضى هذه القاعدة وهو أنَّ الشرع إذا حرَّم شيئًا من الأقوال ثم أمر به فإنه يرجع بعد فك الحظر عنه إلى حكمه الأول، فإن كان قبل الحظر واجبًا فهو بعد الحظر واجب، وإن كان سنة فهو سنة، وإن كان قبل الحظر مباحًا فهو بعد الحظر مباح.
ومن فروعها:
- قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5]، فقتال المشركين كان واجبًا قبل الأشهر الحرم، ثم حرَّمه الله في الأشهر الحرم، ثم أمر به مرةً ثانية بعد انسلاخ الأشهر الحرم، فقوله " فاقتلوا " يفيد الوجوب؛ لأنه كان واجبًا قبل الحظر.
- قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، فحرم الله تعالى الصيد البري حال الإحرام، ثم قال {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فأمر به بعد الإحلال، فالأمر بالصيد بعد الإحلال أمر بعد حظر، فيرجع إلى ما كان يفيده قبل الحظر وهو الإباحة؛ لأنه كان مباحًا قبل تحريمه.
- ومنها: قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، فالأصل أنَّ البيع مباح، لكن حرمه الله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، ثم أمر به في قوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]، وهذا الأمر بالانتشار والابتغاء من فضل الله يفيد الإباحة؛
(1)
أخرجه: البخاري (1116)، أبوداود (951)، النسائي في سننه (1659).
(2)
أخرجه: أبوداود (523)، الترمذي (485)، النسائي (678)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.
لأنه كان يفيده قبل تحريمه، والأمر إذا ورد بعد حظر أفاد ما كان يفيده قبل الحظر.
- ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا
…
"
(1)
، فالأصل أنَّ ادِّخار شيءٍ من لحم الأضحية جائز، ثم نُهي عنه من أجل الدافة أي الفقراء الذين نزلوا المدينة، ثم أمر به في قوله "فادخروا"، فهذا الأمر يفيد الإباحة؛ لأنه كان مباحًا قبل الحظر.
- ومن ذلك: قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، فنهى عن جماع المرأة الحائض حيث قال تعالى "فاعتزلوا النساء في المحيض"، ثم قال:"فإذا تطهرن فأتوهن" فأمر بإتيانها، وهذا الأمر يفيد الإباحة؛ لأن الإتيان قبل الحيض مباح.
(1)
أخرجه: مسلم (977)، النسائي (2032).
القاعدة الحادية والعشرون القرعة لفض النزاع أو لبيان الإبهام
- تعريفها: هي صفة معروفة تستعمل عند إرادة اختيار شيء دون قصد التعيين المسْبق.
- شرط القرعة: أن يستوي من أُقرع بينهما بحيث لا يكون لأحدهما فضل على الآخر.
- تستخدم القرعة في تمييز المستحق، والشريعة متكاملة لم تدع شيئًا مشتبهًا من الحقوق يؤدي اشتباهه إلى التنازع إلا وجعلت لتمييزه طرقًا كثيرة، ومن هذه الطرق القرعة.
- القرعة تثبت فيما يتعلق بحقوق العباد، أما فيما يتعلق بحق الله فلا تدخل فيها القرعة، فلو أنَّ إنسانًا ترك صلاة ونسي عينها فلا يقرع بين الصلوات فأيها خرجت صلاها.
* ويدل على جواز القرعة أدلة كثيرة منها:
قوله تعالى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]، وقوله تعالى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه صلى الله عليه وسلم، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه"
(1)
.
عن النعمان بن بشير قال: قال صلى الله عليه وسلم " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2594)، مسلم (2445).
قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو يعلم الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"
(2)
.
عن عمران بن حصين: أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا"
(3)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرض على قوم اليمين فأسرع الفريقان جميعًا على اليمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف"
(4)
.
تستعمل القرعه في حالتين:
1 -
عند الإبهام.
2 -
عند التزاحم.
أولًا: عند الإبهام:
مثال: لو أنَّ إنسانًا طلق إحدى زوجاته ونسي عينها فيقرع بينهن وذلك للإبهام.
مثال آخر: أوصى لبعض أبواب الخير ونسي هذه الجهة فيقرع بينها للإبهام.
(1)
أخرجه: البخاري (2493).
(2)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (615)، مسلم (437).
(3)
أخرجه: مسلم (1668)، أبوداود (3958)، الترمذي (1364).
(4)
أخرجه: البخاري (2674).
ثانيًا: عند التزاحم:
ومن فروعها:
- إذا تشاح رجلان في الأذان أُقرع بينهما.
- إذا استووا في الإمامة أقرع بينهم.
- إذا اجتمع ميتان فبذل لهما كفنان، وكان أحدهما أجود أقرع بينهما.
- الأولياء المستوون في النكاح إذا تشاجروا أقرع بينهم.
القاعدة الثانية والعشرون لا يتم التبرع إلا بالقبض
والمعنى: أنَّ من تبرَّع لأحد بشيء لا يتم تبرُّعه إلا بعد قبض المتبرَّع له.
التبرُّع من الأمور التي شرعها الله ورغب فيها قال تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4]، وثبت في الشرع صحتها، ونقل ابن المنذر الإجماع على صحتها
(1)
.
ويدل لهذه القاعدة:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في الأوساق التي نحلها إياها فلو كنتِ جددتيه أو احتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، فقالت عائشة رضي الله عنها: والله ياأبت لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية
(2)
.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال عمر بن الخطاب " الأنحال ميراث مالم تُقبض "
(3)
.
ويدل على ذلك العقل: لأنَّ عقد التبرُّع لو تم بدون قبض لثبت للمتبرَّع إليه مطالبة المتبرِّع بالتسليم، فيصير عقد ضمان.
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص 103).
(2)
أخرجه: البيهقي في سننه (6/ 257)، وصححه الألباني في الإرواء (6/ 61).
(3)
أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى (6/ 281)، وصحح الألباني إسناده في الإرواء (6/ 69).
ومن فروعها:
- لو وهب الوالد لولده مالًا لا يتملكه إلا إذا قبضه.
- ومنها: لو وهب الوالد لأحد أبنائه شيئًا ثم مات الوالد قبل أن يتسلمه رُدَّ إلى الميراث.
- ومنها: لو وهب المالك لأحد أقاربه شيئًا ثم مات الموهوب له قبل تملك الهبة، ليس من حق ورثته المطالبة بتلك الهبة؛ لأنه لم يتملكها.
القاعدة الثالثة والعشرون
لا ينسب لساكت قول لكن السكوت في معرض الحاجة بيان
والمعنى: أنه لا ينسب لساكت عن التكلم قول بشرط أن يكون ذلك مع قدرته على الكلام؛ وليس ذلك وقت الحاجة والبيان.
ذلك لأنَّ السكوت ليس في كل حالة يُراد به الرضا، فالسكوت قد يكون لأسباب كثيرة منها:
الخوف من العواقب، ومنها عدم العلم، ومنها إرادة التثبت، ومنها إخماد فتنة، ومنها أنَّ الكلام قد يسبب مفسدة فيسكت درءًا لأكبر المفسدتين، وغير ذلك.
ولذا فالأصوليون يفرقون بين الإجماع القطعي والإجماع السكوتي؛ لأنَّ الإجماع القطعي يُجزَم فيه بانتفاء المخالف، بينما الإجماع السكوتي لا يُقطع فيه بانتفاء المخالف؛ لأنَّ سكوتهم ليس دليلًا قطعيًّا على موافقتهم لهذا القول، ولذا يُسمى إجماعًا ظنيًّا.
ومن فروعها:
- لو رأى أجنبيًّا يبيع ماله فسكت فلا يدل سكوته على الرضا.
- ومنها: لو سكت عن قطع عضو منه أو إتلاف شيء من ماله مع القدرة على الدفع لم يسقط ضمانه، بخلاف ما لو أذن في ذلك.
- ومنها: لو سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح لم يقم مقام الإذن.
- ومنها: لو سكت العالم عند سماع فتوى من غيره لا يعتبر ذلك رضا، وغير ذلك.
القاعدة الرابعة والعشرون المشغول لا يُشغل
المراد بالمشغول: هو الذي يكون موقوف التصرف على جهة من الجهات، فإنه لا يصح أن يتصرف فيه بتصرف آخر يكون مناقضًا للتصرف الأول.
مثاله: إذا بيعت سلعة لا يجوز أن تباع هذه السلعة مرة أخرى؛ لأنَّ هذه العين مشغولة بالبيع الأول، وإذا خُطبت امرأة لا يجوز أن يتقدم آخر لخطبتها؛ لأنها مشغولة بالخطبة الأولى.
ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبع بعضكم على بيع بعض، ونهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه"
(1)
؛ لأنَّ هذه السلعة مشغولة بالبيع الأول، وهذه المرأة مشغولة بالخطبة الأولى.
وكذلك الإجماع يدل على ذلك، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنَّ الراهن ممنوع من بيع الرهن، وهبته، وصدقته، وإخراجه من يد من رهنه حتى يبرأ من حق المرتهن
(2)
.
ومن فروعها أيضًا:
- لا يجوز الجمع بين عقدين في محل واحد، فلا يجوز أن يعقد عقدين على شيء واحد، من وجه واحد، في وقت واحد، فلا يجوز أن يُجمع بين الإجارة والمضاربة في وقت واحد ومن وجه واحد.
- ومنها: المُسبَّل وهو الموقوف في سبيل الله لا يشغل مرة ثانية بهبة أو بيع
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (5142)، مسلم (1412).
(2)
الإجماع لابن المنذر (ص 82).
ونحوه.
- ومنها: لا يجوز الإحرام بالعمرة للقاعد بمنى للرمي؛ لأنه مشغول بعمل وهو المبيت بمنى للرمي.
تنبيه:
المشغول لا يُشغل: من جهة واحدة وسبب واحد وفي زمن واحد، لكن لو اختلفت الجهة والسبب، أو اختلف الزمن جاز ذلك، كأن يُعطَى أجرٌ في الصباح على عمله كأجير، ويُعطَى على عمله مساءًا نسبة من أرباح المبيعات كأنه شريك، فهو جائز لاختلاف الزمان، أو قد يكون ذلك لاختلاف السبب كأن يستحق النسبة لكونه مشاركًا في المال، ويستحق الأجرة لكونه عاملًا.
القاعدة الخامسة والعشرون كل من أدى عن أخيه واجبًا جاز له أخذه منه إن نوى ذلك حال الأداء
والمعنى: أنَّ من أدى شيئًا من الواجبات عن أخيه بغير إذنه جاز له أن يرجع إليه، ويأخذ ما أدى عنه، بشرط أن يكون ناويًا لأخذه حال الأداء.
ولكن ليس كل الواجبات تجوز فيها النيابة، وليس كل من ناب عن أخيه في شيء جاز له الرجوع إليه، ولبيان ذلك لا بد من معرفة أنواع الواجبات.
* أنواع الواجبات:
أولًا: العبادات: وهي قسمان:
1 -
عبادات لا تدخلها النيابة: فلا يتصور فيها أن يقضي إنسان عن غيره ذلك الواجب، مثل "الصلاة" لا تدخلها النيابة، ومن ثم لا يصلي إنسان عن غيره.
2 -
عبادات تدخلها النيابة: مثل "الحج" فيجوز للإنسان أن يؤدي الحج عن غيره إذا كان المؤدَّى عنه ميتًا، أو كان حيًّا عاجزًا، لكن لا يجوز الحج عنه إلا بإذنه.
ثانيًا: الواجبات التي لا تتمحض أن تكون عبادة: مثل النفقة، وسداد الدين.
وهذه لها أحوال:
1 -
إذا أدى عن غيره حقًّا وهو لا ينوي الرجوع إليه: فحينئذ لا يحق له أن يطالب بذلك الحق؛ لأنه عندما أداه لم يقصد الرجوع إليه فأصبحت هبة ولزمت بالقبض، والهبة إذا لزمت بالقبض حرم الرجوع فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والعائد في
هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه "
(1)
.
2 -
أن يؤدي هذا الواجب الذي لا يتمحض أن يكون عبادة بإذن ممن عليه الحق، فهذا يجوز له الرجوع؛ لأنه إنما تصرف بإذنه، فهو بمثابة الوكيل.
3 -
أن يؤدي الحق عن غيره بدون إذنه ناويًا الرجوع إليه، فهذا يجوز له الرجوع إليه، وظواهر النصوص تدل عليه، مثل قوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] وهذا محسن، ويدل عليه قوله جل وعلا {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)} [الطلاق: 6]، فأمر بالأجرة للإرضاع، ولم يشترط إذنًا من الوالد.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من صنع إليكم معروفًا فكافئوه "
(2)
وهذا قد صنع معروفًا.
الخلاصة:
1 -
أنَّ من الواجبات عبادات لا تقبل النيابة كالصلاة، فلا ينوب فيها أحد عن أحد.
2 -
من الواجبات عبادات تقبل النيابة لكن بعد إذن من يُناب عنه إن كان حيًّا كالحج.
3 -
الواجبات التي لا تكون عبادة كالنفقة وسداد الدين، إن أداها أحد عن غيره بإذنه، أو أداها بغير إذنه لكنه ينوي الرجوع إليه، فله الرجوع إليه وأخذ ما أدى عنه.
4 -
الواجبات التي لا تكون عبادة إن أداها أحد عن غيره بغير إذنه، ولم ينو الرجوع إليه فليس له الرجوع؛ إذ هي قد أصبحت هبة، ولا يجوز الرجوع في الهبة.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (2589)، مسلم (1622).
(2)
أخرجه: أحمد (2/ 99)، أبوداود (1672)، النسائي (2567)، وصححه الألباني في الإرواء (6/ 60)، وفي السلسلة الصحيحة (254).
القاعدة السادسة والعشرون الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا
العلة لغة: المرض.
اصطلاحًا: الوصف الظاهر المنضبط الباعث على تشريع الحكم.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما نهيتكم لأجل الدَّافة التى دفَّت عليكم فكلوا وتصدقوا وادَّخروا"
(1)
، فالحكم هنا هو منع الادخار من الأضاحي، والوصف الظاهر المنضبط الباعث على تشريع هذا الحكم هو الدَّافة التي دفَّت.
مثال آخر: الخمر حرمت بسبب الإسكار وقليلها ككثيرها، فالعبرة بالعلة وتحققها، فلو سُمي شيء لا يسكر بالخمر فهو حلال لانتفاء العلة، ولو تغيرت الأسماء وبقيت العلل بقي الحكم، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
فالخمر إن تغير اسمها كأن سُميت مشروبات روحية فهي محرمة لبقاء العلة، والربا إن تغير اسمه فسُمي فائدة وعائد، فكل ذلك لا يؤثر في تحريمه إذ العلة متحققة.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الهرة " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات"
(2)
، فعلَّة الطهارة أنها من الطوافين عليكم والطوافات، فكل شيء وجدت فيه هذه العلة كان طاهرًا؛ لأنَّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم" إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا
(1)
أخرجه: مسلم (1971).
(2)
أخرجه: أبوداود (75)، الترمذي (92)، النسائي (68)، ابن ماجه (367)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 192).
بالناس من أجل أن يحزنه"
(1)
، فالعلة "من أجل أن يحزنه" إذًا فإذا لم يحزن من ذلك لانشغاله، أو لفهمه لحديثهما، أو غير ذلك فلا شيء عليهما.
- وقد يبقى الحكم مع انعدام العلة التي شُرع لأجلها ابتداءًا إذا دل الشرع على ذلك، كبقاء الرَّمَل في الحج والعمرة مع انعدام العلة التي لأجلها قد شُرع ابتداءًا؛ وذلك حيث إنَّ الحكم قد يشتمل على حِكَمٍ وعِلَلٍ أخرى غير التي شُرع لأجلها، فإن غابت أو تخلفت العلة التي لأجلها قد شُرع وبقيت تلك العلل والحكم الأخرى بقي معها الحُكم.
(1)
متفق عليه: أخرجه: البخاري (6288)، مسلم (2183).
القاعدة السابعة والعشرون العفو عن الخطأ والنسيان والإكراه
ودليل ذلك:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: قد فعلت، "ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا" قال: قد فعلت"واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا" قال: قد فعلت"
(1)
.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
(2)
.
فهذه الأمور ترفع الحكم التكليفي؛ لأنه يتعلق بالمكلف، أما الحكم الوضعي لا يتعلق بالمكلف بل بسبب الفعل.
ومدار المسألة على القصد واستحضار النية:
ولبيان ذلك:
(1)
أخرجه: مسلم (126)، الترمذي (2992).
(2)
أخرجه: البيهقي في الكبرى (6/ 84)، ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1664)، وقال الشيخ العدوي حسن لشواهده.
لابد من العلم أنَّ الوجودات أربعة، فالشيء قد يوجد بأكثر من صورة:
1 -
الوجود الذهني أو العلمي.
2 -
الوجود الرسمي.
3 -
الوجود اللفظي.
4 -
الوجود العيني.
وأصل الوجودات الأربعة: الوجود الذهني أو العلمي.
مثال: بناء المسجد: نواه إنسان في نفسه وذهنه فهذا هو الوجود الذهني.
إذا أخبر الناس بذلك فهذا هو الوجود اللفظي.
فإذا أتى بالمتخصصين لرسم البناء فهذا هو الوجود الرسمي.
فإذا تم البناء وانتهى فهذا هو الوجود العيني.
وأصل الوجودات جميعًا هو الوجود الذهني؛ لأنَّ الوجودات لا يعتبر وجودها بغير الوجود الذهني.
ومن فروعها:
- لو أنَّ إنسانًا ترك الصلاة لنومٍ أو نسيانٍ، فتَرْكُ الصلاة قد وجد عينًا، ولكنه لم ينو أن يتركها فكأنه لم يتركها؛ لأنه لم يوجد ذهنًا فلما لم يوجد ذهنًا عفى الله عنه لذا قال صلى الله عليه وسلم "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها"
(1)
.
- ومنها: لو أنَّ إنسانًا قتل إنسانًا خطأً لا يقام عليه القصاص؛ لأنَّ الوجود العيني وجد بغير الوجود الذهني.
- قال ابن تيمية: من اشتبهت عليه القبلة، وصلى، ثم تبين له فيما بعد لا يعيد باتفاق العلماء
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
فتاوى ابن تيمية (مج 21 ص 224).
- ومنها: من أكل أو شرب في الصيام ناسيًا فلا إثم عليه وليتم صومه.
- ومنها: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح"
(1)
.
فإنَّ الرجل قال كلمة الكفر حيث قال " أنت عبدي وأنا ربك" لكنَّ الله تعالى لم يؤاخذه بقوله لأنه مخطئ.
فالوجود الذهني هو النية والقصد؛ لذلك اعتبر أهم الوجودات.
- بل إنَّ العبد قد يؤجر على عملٍ لم يعمله للقصد والنية فقط أي بسبب الوجود الذهني.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله تعالى علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء "
(2)
.
(1)
أخرجه: مسلم (2747).
(2)
أخرجه: أحمد (4/ 231)، الترمذي (2325)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3024)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند حديث حسن، وقال الشيخ العدوي ضعيف.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال «إنَّ بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» ،
قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال «وهم بالمدينة، حبسهم العذر»
(1)
.
- الإكراه يرفع التكليف:
ودليل ذلك قول الله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}
[النحل: 106].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
(2)
.
الإكراه نوعان:
1 -
إكراه ملجئ: ويكون المُكرَه فيه غير مكلف بالإجماع: وهو الذي لا طاقة له عن الامتناع.
مثال: مَنْ مُنع من صلة الأرحام بالقوة والقهر، فهذا غير مكلف ولا شيء عليه.
2 -
إكراه ناقص أو غير ملجئ: كالتهديد والوعيد.
فمن هُدِّد بالقتل على ترك أمر أو فعل نهي فهو مُكرَه، بل نقل ابن حزم الإجماع على أنَّ خوف القتل إكراه
(3)
.
وحكى ابن حزم الإجماع أيضًا على أنَّ المُكرَه على الكفر لا يلزمه شيء فقال "واتفقوا أنَّ المُكرَه على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يلزمه شيء من الكفر
(1)
أخرجه: البخاري (4423)، مسلم (1911).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
مراتب الإجماع لابن حزم (ص 208).
عند الله"
(1)
.
ومن هُدِّد بالأذى والضرر في أولاده أو من يهمه أمره فهو إكراه على الصحيح، وهو المُسمَّى
بالإكراه الأدبي.
شروط الإكراه:
1 -
أن يكون المُكرِه قادرًا على إيقاع ما أكرَه به.
2 -
أن يكون المُكرَه غير قادر على الدفع.
3 -
أن يتيقن المُكرَه أنَّ المُكرِه سيوقع ما هدد به، وأنَّ في امتناعه حصول التهديد والوعيد.
وكل ما سبق يخص الأحكام التكليفية، أما في أحكام التلف والضمان فهم مكلفون؛ لأنَّ الضمان من الأحكام الوضعية، والأحكام الوضعية لا تتعلق بالمكلف؛ إذ هي من باب تعلق السبب بالمُسبَّب.
فالأحكام الوضعية ينظر فيها إلى الفعل، أما الأحكام التكليفية فينظر فيها إلى لفاعل.
(1)
المصدر السابق.
|
|
أسئلة عامة
س 1: اذكر المبادئ العشرة للقواعد الفقهيَّة؟
س 2: اذكر الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية؟
س 3: اذكر الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي؟
س 4: قسم القواعد الفقهية باعتبار الأصالة والتبعية؟
س 5: الشرع لم يدع مصلحة للعباد إلا دلهم عليها، ولا ترك مفسدة أو مضرة إلا حذرهم منها ونهاهم عنها.
بين ذلك في ضوء الحديث عن القاعدة العامة؟
س 6: اذكر القواعد الفقهية الكبرى التي ذكرت في الكتاب مع التفصيل؟ مع بيان القواعد الفرعية المتفرعة منها؟
س 7: ماهي شروط الأخذ بالعرف والعادة؟
س 8: بين أسباب التخفيف وصوره، مع التفصيل؟
س 9: بين الأصل فيما يلي مع الدليل:
الأصل في المياه - الأصل في الأشياء - الأصل في الأبضاع - الأصل في العبادة - الأصل في الذمة - الأصل في الأموال والدماء - الأصل في الذبائح.
س 10: ماذا تعني القواعد التالية، مع الدليل، والتمثيل؟
- التابع تابع.
- الخراج بالضمان.
- الحدود تسقط بالشبهات.
- الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
- ما ثبت بالشرع مُقدَّم على ما ثبت بالشرط.
- ما تولد عن مأذون فهو غير مضمون.
- الميسور لا يسقط بالمعسور.
- العفو عن الخطأ والنسيان والإكراه.
التطبيقات العملية
•
التطبيق العملي الأول:
* مثِّل لكل مما يأتي:
1 -
المشغول لا يُشغل.
2 -
إذا تساوى العملان وكان مقصدهما واحدًا دخل أحدهما في الآخر.
3 -
كل ما نشأ عن المأذون لا يُضمن.
4 -
من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
5 -
التابع له حكم المتبوع.
6 -
عرف غير مستوفٍ للشروط.
7 -
متممات وزوائد واجبة.
8 -
ضرورة أباحت محظورًا.
9 -
مفسدة يجب فعلها.
10 -
واجب يجب تركه.
11 -
حد سقط لوجود شبهة.
12 -
خلاف لا يستحب الخروج منه.
13 -
صلاة خارج الكعبة أفضل من صلاة داخلها.
14 -
أمر بعد حظر وكان حكمه الندب.
•
التطبيق العملي الثاني:
* تخير من القواعد الفقهية ما يوافق القواعد الأصولية الآتية:
1 -
مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 -
القدرة على العمل شرط في التكليف.
3 -
إذا تزاحم واجبان في حق شخص واحد في وقت واحد قُدِّم أعلاهما.
4 -
مالا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب.
5 -
العرف دليل من أدلة الأحكام.
6 -
لا يكون العمل صحيحًا إلا إذا استوفى الشروط والأركان وانتفت الموانع.
7 -
الاختيار شرط من شروط التكليف.
8 -
إذا تزاحم محرمان في حق شخص واحد في وقت واحد عليه أن يفعل أدناهما.
9 -
الإجماع السكوتي ظني وليس قطعيًّا.
10 -
الأمر بعد الحظر يرجع لما كان عليه قبل الحظر.
11 -
العلة هي مناط الحكم.
•
التطبيق العملي الثالث:
* تخير من القواعد الفقهية ما يوافق القواعد النحوية الآتية:
1 -
الأصل في الاسم الصرف ولا يمنع من الصرف إلا بعلتين أو علة تقوم مقام العلتين.
2 -
اسم الفاعل إن وُصف قبل العمل لا يعمل.
3 -
يتقدم الخبر - الظرف أو الجار والمجرور - على المبتدأ النكرة ولا يجوز ذلك في غيرهما.
4 -
قد يجوز مخالفة قواعد النحو في ضرورة الشعر.
5 -
إذا اجتمع عاملان مع معمول واحد قُدِّم الأقرب للمعمول.
6 -
لا يجوز عند فريق من النحاة العطف على ضمير الجر إلا بتكرار حرف الجر، ولم يوجبه بعضهم، لكن الأولى عند العطف عليه تكرار حرف الجر.
7 -
إذا اختُلِف في الكلام هل فيه تقدير أو ليس فيه تقدير، فالأصل عدم التقدير.
8 -
قد تترك القواعد النحوية في ضرورة الشعر، فدل على أنَّ التزام القافية أمر واجب.
9 -
النعت يتبع المنعوت في أحكامه، فيرفع إذا رفع، وينصب إذا نصب، ويجر إذا جر.
10 -
تعمل "إنَّ" عملها إذا كانت مثقلة، ولم تقترن بها "ما" الحرفية الكافة لها عن العمل.
11 -
لا يعمل عاملان في معمول واحد، فإن عمل فيه أحدهما امتنع الآخر.
•
التطبيق العملي الرابع:
* بين حكم ما يأتي مع ذكر القاعدة الفقهية الدالة على ذلك:
1 -
النية للأذان.
2 -
من لا يستطيع القيام في الصلاة.
3 -
من وجد بعض الماء يكفي لبعض وضوئه.
4 -
بيع المرهون.
5 -
رجل دخل المسجد حين إقامة الصلاة، ولم يصل تحية المسجد.
6 -
نذر أن يحج، ووفَّى بنذره لكنه لم يحج حجة الإسلام.
7 -
تأويل أسماء الله وصفاته بحجة التنزيه.
8 -
اضطر لأكل الميتة ولم يجد إلا ميتة مضطر.
9 -
أكل الحشرات منفصلًا.
10 -
إذا تمضمض الصائم بدون مبالغة ووصل الماء إلى جوفه.
11 -
اتخاذ ثياب الحرير بدون لبس.
12 -
علِمَ بالعيب في المبيع وأمسكه زمنًا، ثم أراد بعد زمنٍ أن يرده.
13 -
قطعت يده حدًّا فمات بسببها.
14 -
ضَرَب الزوج زوجته بحجة إذن الشارع في ضربها، فسبب تلف بعض الأعضاء.
15 -
من دلَّ إنسانًا على مال آخر فسرقه.
16 -
الختان.
•
التطبيق العملي الخامس:
* على أيِّ القواعد الفقهية تدل الأدلة الآتية:
- قال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم ".
- قال تعالى " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ".
- قال تعالى " هو الذي خلق لكم ما فى الأرض جميعًا ".
- قال تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون ".
- قال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ".
- قال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات
…
".
- قال صلى الله عليه وسلم " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ".
- قال صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار ".
- قال صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات ".
- قال صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان ".
- قال صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ".
- قال صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في ظهرك ".
- قال صلى الله عليه وسلم " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك ..... ".
- قال صلى الله عليه وسلم " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ".
- قال صلى الله عليه وسلم " ذكاة الجنين ذكاة أمه ".
•
التطبيق العملي السادس:
* على أيِّ القواعد الفقهية تفرعت الأحكام التالية:
1 -
يجوز للمسافر الإفطار في رمضان ولا يلزمه الصوم.
2 -
لو أصابه ماء لا يعلم طهارته ولا نجاسته فهو طاهر.
3 -
ترك الزنا لا يحتاج إلى نية.
4 -
يجوز أكل الميتة إن أوشك على الهلاك، ويكون ذلك قدر سد الرمق.
5 -
لو أحيا أرضًا ميتة فحريمها له.
6 -
لو شهد أربعة على الزنا وأربعة على البكارة سقط حد الزنا والقذف.
7 -
رفع اليدين في الصلاة سنة ولا يلتفت للخلاف.
8 -
لو أذن الراهن للمرتهن بالإنتفاع بالمرهون فهلك، لا ضمان عليه.
9 -
يحرم اتخاذ أواني الذهب وإن لم تستعمل.
10 -
الرشوة يحرم إعطاؤها وأخذها.
11 -
من قدر على قراءة بعض الفاتحة وجب عليه قراءة هذا البعض.
12 -
لو أكل المالك طعامه المغصوب جاهلًا به فلا ضمان على الغاصب.
13 -
لو خُيِّر بين الصلاة في الحرم فرادى وحضور الجماعة خارجه كانت الجماعة خارجه أولى.
المصادر والمراجع
*
الكتاب العزيز.
*
السنة المطهرة:
- إرواء الغليل للألباني.
- الأدب المفرد للبخاري.
- السلسلة الصحيحة للألباني.
- السنن الكبرى للبيهقي.
- السنن الكبرى للنسائي.
- المستدرك للحاكم.
- المعجم الكبير للطبراني.
- سنن ابن ماجه.
- سنن أبي داود.
- سنن الترمذي.
- سنن الدارقطني.
- سنن الدارمي.
- سنن النسائي.
- صحيح ابن حبان.
- صحيح أبي داود للألباني.
- صحيح البخاري.
- صحيح الترغيب والترهيب للألباني.
- صحيح الجامع للألباني.
- صحيح مسلم.
- صحيح وضعيف سنن ابن ماجه.
- صحيح وضعيف سنن أبي داود للألباني.
- صحيح وضعيف سنن الترمذي للألباني.
- مسند الإمام أحمد.
- مسند البزار.
- مشكاة المصابيح للألباني.
- مصنف ابن أبي شيبة.
- معرفة السنن والآثار للبيهقي.
- موطأ الإمام مالك.
*
اللغة والأصول والقواعد الفقهية:
- الأشباه والنظائر لابن نجيم.
- الأشباه والنظائر للسبكي.
- الأشباه والنظائر للسيوطي.
- البحر المحيط للزركشي.
- التعريفات للجرجاني.
- التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي.
- الذخيرة للقرافي.
- الفروق للقرافي.
- الفقيه والمتفقه للخطيب.
- الفوائد البهية على منظومة القواعد البهية لصالح بن محمد بن حسن الأسمر.
- المنثور في الفوائد للزركشي.
- المنهاج في علم القواعد الفقهية للدكتور رياض بن منصور الخليفي.
- إيضاح القواعد الفقهية لطلاب المدرسة الصولتية للحجي.
- تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية لوليد بن راشد السعيدان.
- جامع العلوم والحكم لابن رجب.
- حلية الأولياء لأبي نعيم.
- شرح القواعد الفقهية لأحمد بن محمد الزرقا.
- شرح منظومة السعدي لحمد الحمد.
- طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى.
- شعب الإيمان للبيهقي.
- فتح الباري للحافظ ابن حجر.
- مجموع فتاوى ابن تيمية.
- معرفة الصحابة لأبي نعيم.
- ملخص القواعد الفقهية لأبي حميد عبد الله بن حميد الفلاس.
- نظم القواعد الفقهية للسعدي.