الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تقبل نقاشا ولا جدلا أن الأشياء إذا كانت لها صفة توفرت فيها جميعها يكون الحكم عليها باعتبار تلك الصفة واحدا، وتخصيص فرد منها بحكم دون الآخر تعصّب ممقوت وتحيّز مردود.
من هذا ننتهي إلى أن العقل والروح كل منهما موجود، ولم يثبت أن إنسانا ما في الوجود رآهما أو رأى واحدا منهما، ولا يوجد إنسان ما ينكر وجودهما، وحيث إن الأمر كذلك فإذاً تقرِّر البديهة أن الشيء يكون موجودا ومع ذلك لا يرى؛ إذ ان عدم رؤيته لا تطعن في وجوده، وقد ثبت ذلك بالنسبة للروح والعقل، إذاً عدم رؤية الله تعالى لا تطعن في وجوده، إذاً فالله موجود وإن لم تره العيون، وإن العقول السليمة تقرر في جلاء ووضوح ودون شك أو ريب أن الله تعالى موجود؛ لأنها تدرك البرهان على ذلك في كل شيء دالا على قدرته، شاهدا بعلمه وحكمته، ناطقا في كل وقت وحين، تبارك الله أحسن الخالقين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
زيادة إيضاح:
إن الأدلة كثيرة ناطقة وعديدة واضحة، وجميعها تدل على وجود الله تعالى؛ فهذا النظام البديع الذي يسير عليه الكون، وهذا الإبداع المعجز الذي وجد عليه العالم يدل على أن للكون إلها، بقدرته خلق الوجود، وبحكمته أبدع كل مخلوق، ووجود تلك الأنواع المتعددة، وكثرة تلك الخصائص المتباينة أصدق دليل على وجوده تعالى.
وقولهم إن العالم وجد بطريق الصدفة فهذا أمر لا يسلم به عاقل؛ إذ كيف تنتج الصدفة هذا النظام البديع، والمعلوم أن السمع لا يهبه لفرد إلا عالم بقانون السمع، وكذلك كل صفة من الصفات التي يسعد بها الإنسان والتي لا بدّ لوجودها من تدخل وقدرة عالمة حكيمة مدبّرة، ولا يمكن القول بأن تلك القدرة من جنس تلك الموجودات، وإلا لأمكن غيرها أن ينازعها أو يبطل عملها؛ إذ المفروض أن الجميع متساوون في كل شيء، وإن قانون التأثير والتأثر يحتم تقدم المؤثر على المتأثر، والمفروض أن كلا منهما يساوي الآخر تماما؛ فإذاً يكون الشيء على هذا موجودا ليوجد ومعدوما ليوجد، وهذا باطل، كما وأنه لا بدّ من كون تلك القوة المؤثرة مغايرة لما عداها في كل شيء في ذاتها وفي صفاتها حتى تكون قادرة على الخلق والإيجاد، ولا يصح أن تأخذ تلك الصفات عن غيرها
وإلا لكان غيرها مؤثرا فيها، وبذلك يكون شأنها شأن غيرها من المخلوقات، ومعنى هذا أنه لا بدّ وأن يكون وجودها من ذاتها حتى تتمّ المغايرة بينها وبين ما توجد وتخلق.
أما قولهم (إن العالم وجد بطريق التفاعل) فنقول لهم مبطلين ما يدّعون: إن المادة التي سيتم التفاعل بين جزئياتها مَنْ الذي أوجدها؟ مَن الذي جعلها قابلة للتفاعل؟ ومَن الذي غاير بينها في الصفات والخصائص؟ لا بدّ من قوة مدبرة حكيمة عالمة بقوانين التفاعل والتغاير، حتى يمكنها أن تعطي ذلك العنصر من الصفات ما يجعله يتفاعل مع ذلك العنصر خاصة بكيفية خاصة؛ لينتج عن تفاعلها شيء خاص، وإلا لو كان التفاعل راجعا إلى عنصرية محضة دون تغاير أو تمايز بين العناصر لكانت نتيجة التفاعل واحدة، ولجاء العالم صورة واحدة متماثلة، كما ينادي بذلك قانون التفاعل في علم الكيمياء؛ لأننا لو وضعنا في مخبر مادتين فتفاعلتا، ثم أحضرنا بعد ذلك آلاف المخابر ووضعنا في كل منها مقدارا من المادتين اللتين وضعتا في المخبار الأول لكانت النتيجة واحدة، ونحن إذا نظرنا إلى العالم وجدنا التغاير بين أفراده وعناصره واضحا ملموسا؛ فلو كان موجودا بالتفاعل بين جزئياته لما وجد ذلك التغاير بين أفراده في خصائصه ومميزاته؛ فهذا معتم وهذا مضيء، وهذا حسّاس نام وذاك جامد لا ينمو، وهذا يعيش في الماء ويموت في اليابس وهذا على العكس من ذلك، إلى غير هذا مما تراه العين، ولا ينكر التغاير بينه وبين غيره إلا مكابر أفّاك ومدّع كذّاب، ولله درّ القائل ردا على منكري وجوده تعالى:
رباه مالي في الكروب سواك
…
فهرعت ربي أحتمي بحماك
رباه إني قد نشدت سعادتي
…
فوجدتها مقرونة بتقاك
يا رب أنت الخالق الباري ومن
…
ينكر وجودك يصبح الأفاك
يا مؤمنا قل للذي زعم الطبيعة
…
موجدا من ذا الذي سوّاك
يا من تخبط في الضلالة سادرا
…
من أبدع الإيجاد في دنياك
إن كنت تسعى للحقيقة صادقا
…
متطلعا للخير في أخراك
من ذا الذي قد شق سمعك محكما
…
ومن الذي بالنطق قد حلاك
والعين من أعطاك فيها مقلة
…
ومن الذي بالحسن قد أولاك
ومن الذي يعل الجبال رواسيا
…
وأقام في شتى السهول رباك
ومن الذي رفع السموات العلا
…
من غير أعمدة ترى عيناك
مزدانة بكواكب تجري على
…
طول المدى لا تخطئ الأفلاك
هو خالق الأكوان جل جلاله
…
بالخير والإنعام قد ربّاك
يا منكر الله إنك مغرق
…
في الإفك بل والله ما أشقاك
إن العجائب في الوجود كثيرة
…
وإلى المهيمن ترشد الإدراك
فالسم في الأفعى يصون حياتها
…
وإذا أصابك بعضه أرداك
والنحل في زهر الرياض غذاؤه
…
والشهد من عاني السقام شفاك
بالماء نحيا والحياة رغيدة
…
وإذا طغى يوما يصير هلاكا
والحوت يسبح في الخضم موحدا
…
واليبس يفني الحوت والأسماك
في الصخر يحيا الدود غير منغص
…
والطير في كبد السما أشجاك
والشمس ترسل في النهار شعاعها
…
ينمي الزروع ويقتل الفتاك
والليل يمسح بالنعاس عناءنا
…
وبدونه لن نستطيع حراكا
والنجم للسفن المواخر مرشد
…
والبدر يؤنس في الدجى مسراك
والعقل ينتج للأنام حضارة
…
وبدونه لن تستبين خطاك
والروح سرّ في الجسوم وعلمه
…
عند الذي من فضله أحياك
والقلب ينبض في المنام ونبضه
…
للحق والإيمان قد ناداك
تلك العجائب لا تنظم صدفة
…
لكنها صنع الذي يرعاك
وجميعها فيها الدليل مؤيّدا
…
قولي فماذا يا عنيد دهاك
والعقل يدمغ ما تقول بداهة
…
وعن الغواية يا شقي نهاك
والكون يلهج بالثناء جميعه
…
لله تقديسا وما جاراك
لكنك الغاوي الأثيم ومن غوى
…
نبذ الورود وفضّل الأشواك
عطلت عقلك يا غوي حماقة
…
وتجنّبت صوت الهدى أذناك
وركبت من بحر الضلالة لجة
…
وتسابقت نحو الردى قدماك
أما التفاعل إن نقل هو موجد
…
أو مبدع شيئا فما أغواك
إن التفاعل في النتائج واحد
…
والكون فاض تغاير أخزاك
هذا التغاير في الخصائص مثبت
…
فعل الإله ومبطل دعواك
فارجع عن الإنكار إنك مفتر
…
والجهل بالبهتان قد أغراك
وانهض لربك بالقداسة هاتفا
…
سبحانك اللهم جل علاك
ذات الإله عن المثيل تقدست
…
لا يشبه القدوس ذا أو ذاك
ودع المآتم تائبا مستغفرا
…
فالله في جنح الظلام يراك
خطرات نفسك في الظلام أو الضحى
…
ليست بخافية على مولاك
لك خالقي كل الكمال منزها
…
عما يفيد النقص والإشراك
تعطي وتمنع من تشاء بحكمة
…
والكون يا رحمان في يمناك
فاحفظ إلهي القلب من زلاته
…
وجعله ربي مشرقا بسناك
هذا بيان مجمل عن الشيوعية وما تنادي به، والمؤسف المؤلم أن بعض دول العالم العربي - وهم يدينون بدين الإسلام - ينادون بالاشتراكية، بل اتخذوها لهم شعارا ومبدأ، ونحن نتساءل من أي لون هذه الاشتراكية؟ هل هي اشتراكية علمية أم اشتراكية ديمقراطية؟ بمعنى هل هي عقيدة أم مذهب؟ إن كانت عقيدة فهي تساوي الماركسية تماما في أهدافها وغاياتها، ولا تختلف عنها إلا في الاسم فقط، وهذا الذي نقوله بناء على تعريفها وبيان كنهها عند الماركسيين أنفسهم حتى ولو سموا الماركسية بالاشتراكية؛ لأنهم جعلوا من ضمن مبادئهم الشيوعية أنه لا مانع من التضليل والكذب والبهتان ووضع أسماء على غير مسمياتها ما دام يؤدي ذلك الخداع والكذب إلى الهدف المنشود، أما إن كانت اشتراكية ديمقراطية - أي أنها مذهب اقتصادي فقط لا شأن له بالعقيدة والخلق - فما أغنانا عنه بما عندنا من تراث إسلامي عريق نهض بالعرب من الحضيض إلى أوج السعادة والرقي البشري، يوم أن قاد جماعة المسلمين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التراث الإسلامي العظيم ممثل في الفقه الإسلامي، وإن أولئك الذين ينادون بالاشتراكية مذهبا اقتصاديا، ويرهقون أنفسهم في الدعوة له والدعاية إليه لو أنهم اطلعوا على الفقه الإسلامي لأغناهم ذلك عن كل هذا العناء، يا قومنا أجيبوا داعي الله واحكموا بما أنزل على نبيه، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
إن الإسلام دستور كامل أسعد البشرية يوم أن استظلت بظلاله، ويسعدها اليوم إن هي التزمت أحكامه وارتضت
قضاءه؛ ففيه السياسة والاقتصاد والحرب والسِّلم والسلوك والاجتماع والروح والمادة وجميع ما يحتاج إليه بنو الإنسان في حياتهم، إن الإسلام من وضع خالق البشر، العليم بما يصلح شأنهم ويقوّم معوجهم ويسعد جماعتهم، وينهض بهم إلى أسمى درجات السعادة والرقي؛ لذلك أودعه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ولله درّ القائل:
بالمصطفى الهادي تألق صبحنا
…
وتبددت بجيوشها الظلماء
قد جاء والإلحاد في طغيانه
…
وعلى الأمور يسيطر الجهلاء
فأقام بالتوحيد أعظم ملة
…
فيها لمن يبغي العلاج شفاء
وهي للحياة سدادا ورشادها
…
هي للوجود الكوكب الوضاء
هي للشعوب بلا سم لجراحها
…
هي في الهجير الروضة الغناء
دستورها القرآن فاض هداية
…
وبغيثه جدب الحياة رخاء
في هرم الزمان ولم يزل في هديه
…
للمسلمين العزة الشماء
يا قومنا اضربوا على أيدي المتطرفين الملحدين الذين يدينون بالشيوعية؛ فإنهم في جسم الأمة الإسلامية كالسرطان، يهدمون كيانها ويقوضون كل مقوماتها، ولا تربطهم بفرد فيها رابطة من خلق أو دين؛ إذ الرابطة بينهم هي مبادئ الشيوعية فقط دون غيرها من روابط اجتماعية أو أسرية أو روحية أو قومية أو وطنية، بمعنى أن الشيوعي في مشرق الأرض أولى بالشيوعي في مغربها من أمه وأبيه أو ابنه وأخيه؛ فكل القيم منهارة في نظر الشيوعي أمام عقيدته التي يبذل في سبيلها كل شيء، فهل يصح ونحن نؤمن بالله وبرسوله أن ندع الخطر يستشري ونحن سكوت زاعمين أننا لن نمكنهم من الوصول إلى مركز القيادة والسلطة، فهذا لا يعفينا من المسئولية، وإلا كان مثلُنا كمثل من أرادوا خرق السفينة ليصلوا إلى الماء دون عناء فإن تركهم من هم في أعلاها غرقوا جميعا وإن منعوهم سلموا جميعا، فنحن إن وقفنا عند هذا الوضع السلبي كان ذلك أخذا للأمور الخطرة بسهولة لا توائم بعض ما يجب أن تؤخذ به من الاهتمام والجدّ.
يا قومنا إن الأمر جدّ خطير؛ فالشيوعية بلاء ومحنة، وهي - كما سبق أن قلت -كالسرطان يعايش الإنسان زمنا طويلا، ولا يظهر له خطر ولا يبدو منه أذى، حتى إذا