الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما اكتملت قدرته على الهجوم وشرست استطاعته على الفتك انقضّ عاتيا لا يرحم، جبارا لا يتفاهم، كل همه الوصول إلى غايته والحصول على مأربه مهما شرّد أو قتل أو هدم أو دمّر؛ لأن الغاية عنده تبرر الوسيلة، وهل يوجد أحطّ مستوى ممن يبيح لنفسه الخداع والكذب والتضليل والتمويه، بل يجعلها من مبادئه وأخلاقه ما دامت تصل به إلى مقاصده وأهدافه.
يا قوم إن الشيوعية في تقديرها لبعض الأمور وخاصة المعنوية منها أخطر من بعض فصائل الحيوان، وإن ادّعى معتنقوها سموّ إحساسهم ورِقَّة وجدانهم، وإن تباكوا على الإنسانية المعذّبة التي يدعون أنهم يريدون إسعادها، وتخليصها من نير الذل والاستعباد، وتحكم الإقطاع والاستغلال، وجموح رأس المال المستبد الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة في نظرهم، إلى غير ذلك من العبارات الخادعة الخلابة التي يخدعون بها الشعوب، ويغشون بها الجماعات، حتى إذا ما وقعت في الفخ الذي نصبوه واحتواها الشرك الذي حاكوه ذاقت من الذل ألوانا يشيب لها الولدان وتضطرب لذكرها الأبدان.
أي سعادة في نظام يجعل إنكار الإله عقيدة، والتناحر بين الطبقات مبدأ، وإشاعة الهلع بين الأفراد طابعا، وخيانة الابن لأبيه والزوجة لزوجها بالتلصص عليهما سلوكا ومنهجا، ثم أي سعادة في هذا النظام الذي يسلب الفرد قسرا ما امتلك بحجة التأميم لصالح الدولة؛ لأنها هي التي يجب أن تملك وسائل الإنتاج ورأس المال، أليس ذلك قتلا لغريزة حب الاقتناء التي هي جزء من مقومات الإنسان التي تدفعه إلى العمل راضيا بما يجد من مشقة وعناء؟ ثم هذا الإنتاج الذي هو ثمار شقاء الطبقات الكادحة المحرومة إلى أين يذهب؟ ومن الذي في خيره ونعيمه يتقلب؟ أليست تلك الفئة الباغية الحاكمة التي تقبض على نواصي الأمور بقبضة من حديد، ولا ترى الشعوب إلا سوط الإرهاب تلوح به في الفضاء بدا ليفي والاستعباد لابسة قفازا من الحرير تخدع الشعوب بملمسه، وهي لا تعرف ما بداخله من ظلم وفساد وعتو واستبداد.
لا تصح المقارنة:
إنه لا تصح المقارنة بين نظام هذا طابعه وتلك المذكورة آنفا أهدافه وغاياته، وبين الإسلام الذي هو في أسمى درجات الرقي بين النظم الاجتماعية التي سعد بها بنو الإنسان؛ فلا استغلال فيه ولا عسر في العمل والإنتاج، إنما عن اقتناع وإيمان يعمل الإنسان في
الإسلام؛ لأن له ثمرة ما يعمل، وهو مع ذلك يؤدي ما عليه من واجبات يسهم بها في بناء المجتمع الإسلامي السعيد الذي هو حلية نافعة في جسمه الكبير، وبهذا يعلن الإسلام بين بنيه ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط؛ فهو بذلك يحقق الخير لنفسه ولغيره، فالإسلام بذلك نظام محكم؛ فليس أنانية محضة كما هي الرأسمالية المستقلة، وليس حرمانا محضا كما هي الشيوعية الملحدة، بل هو وسط بين نقيضين؛ فحرّم الرّبا وحثّ على الإنفاق والصدقة بعد تأدية فرض الزكاة "لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فهل يداني هذا النظام قانون ما من القوانين التي تستنها الدول تخفيفا لآلام الفقراء والعاجزين؟ ثم هو لا يجرد الإنسان من الامتلاك بل جعل له ذلك الحق بشرط ألا يعتدي على حق غيره أو يسلبه ماله؛ فإن فعل ذلك فله في الدنيا خزي وعار وفضيحة ونكال، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} .
إن الإسلام عالج مسألة الاقتصاد علاجا لم يسبق إليه، ولن تستطيع دولة ما أن تصل إلى ما وصل إليه من علاج يحقق الرفاهية لأهله والمساواة الصحيحة بين ذويه؛ فنظام الزكاة والكفارات والمغانم وغير ذلك من وجوه البذل يجعل من المسلمين أمة متكافلة بالمعنى الصحيح، وفي الوقت نفسه لا يعوق الإنسان عن الكسب الكريم الشريف، بل يشجعه ويحث عليه، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
فلا تواكل في الإسلام ولا تعطيل للطاقات ولا مصادرة للأموال والممتلكات؛ لأن كل نظام فيه أقيم على أساس سليم، فكل فرد في الدولة الإسلامية عضو من أعضائها تحسّ به ويحسّ بها وترعاه ويعمل من أجلها، بل يتفانى بحق في سبيلها مدفوعا لذلك بشعور صادق وإيمان عميق؛ لأنه يراها الأم الحانية والراعي الذي لا يدّخر وسعا في سبيل سعادته، بخلاف الشيوعي؛ فهو يعمل ولكن على مضض يعمل، وهو ينتج ولكنه من وجل ينتج، بل في وسط اللهيب وعلى القنا يسير؛ لأنه يرى أن يد البطش القاسية مسلطة عليه، والجاسوسية القذرة متربصة به؛ فهو لا يأمن على نفسه، وليس بمستريح
ضميره طول حياته؛ لأنه خدع بألفاظ لم يجد لها مدلولات، وبعبارات لم يلمس لها مفهوما، فهو على يأس يعيش متمنيا ساعة الخلاص، ولكن هيهات هيهات أن تمكنه مما يريد، تلك الشرذمة الطاغية المتسلطة عليه فهي لن تدع له فرصة يتمكن فيها من الفرار من ميدان الذل والاستعباد والتسخير والاستقلال؛ لأنهم يرون ذله عزا لهم، واستعباده سيادة لجماعتهم، ولذلك كثيرا ما نسمع أن أفرادا غافلوا الحراس وفرّوا من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي؛ لأن الحرمان استبدّ بهم واليأس قد سدّ كل طريق أمامهم؛ فوجدوا ألا خلاص إلا بركوب المخاطر والتعرض للهلاك باقتحامهم الأسوار.
هذا من الناحية الاقتصادية التي هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، أما ما عدا الناحية الاقتصادية فإن نظاما يقوم على مبدأ الروح والمادة اللذين هما العنصر المكوّن للإنسان لا شكّ أنه يسعد المرء في دنياه وفي أخراه، وهذا ما حقّقه الإسلام لمعتنقيه، بخلاف نظام يقوم على نكران الروح ويجعل الحياة مادة صرفة، وان الشيوعي ما هو إلا قطعة من آلة ما دام تسير فيها الوقود فهي تعمل ولا تفكر وتسير، وحذار أن تلتفت حولها أو تسأل عن شيء بدا لها.
فنظام هذا طابعه لا شكّ يشقى معتنقيه ويجعلهم يرزحون طول حياتهم تحت عبء الهمجية الداعرة والفوضوية التي لا تقرّ نظاما مهذّبا أو دستورا كريما ساميا يرتقي ببني الإنسان عن مستوى الهوام والحيوان، وبذلك اتضح الأمر لذي عينين، وأميط اللثام عن نظامين ومنهجين، أحدهما في أسمى درجات الرفعة والعلو وهو الإسلام، والثاني من أحطّ دركات الحضيض والامتهان، وهو الشيوعية، وتلكم ما هي إلا نظام الإلحاد والكفران.