المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جمع مختصر يحتوي على ذكر أبي الطيب المتنبي وأخباره ويشتمل - الصبح المنبي عن حيثية المتنبي - جـ ١

[يوسف البديعي]

الفصل: جمع مختصر يحتوي على ذكر أبي الطيب المتنبي وأخباره ويشتمل

جمع مختصر يحتوي على ذكر أبي الطيب المتنبي وأخباره ويشتمل على نبذ من قلايد أشعاره خادما به جناب ذلك المولي، رزقه الله سعادتي الآخرة والأولي وأن كنت في إهدائه إلى عالي حضرته، وسامي سدته كمتبضع التمر إلى بعجزه ومهدي الفصاحة إلى أهل الوبرة ونامل المسك راقت صفاء ورقت كل حاشية منها وصدقت معانيها على الفكرة، كأنها من عصى موسى قد اكتسبت فلم تدع، للسوي صنعا ولم تدر، تضمنت نظم أخبار قد انتشرت، لابن الحسين بليغ البدو والحفر. ودونت باسم مولانا الذي برعت، يرح العدالة في أيامه الغور. نجل الحسام الذي ماضي عزيمته، في المشكلات يرى أمضى من القدر مولى كريم السجايا من خلايقه، تخلقت نسمات الروض في السحر. لو كان للزهر من لآلاء سويد، جزء لما احتجبت يوما عن النظر. طالت مدائحه من كل ذي أدب، وهل تطول يد للأنجم الزهر، وإن يقصر مديحي عن علاه فكم، قد أثنى مادح بالعي أو الحصر، أضمرت ذكر اسمه في طي مدحته، إذ كان أشهر في الدنيا من القمر، يا من فضائله من كل ذي بصر، في الشرق والغرب بلاء السمع والبصرة، أبقيت ذكر إنما أسديت في حلب، كالذكر نتلوه في الآصال والبكر. ثم ورد ما قاله حمادي الرواية، وتعالبي الدراية، صاحبنا الشيخ عبد القادر الحموي، وهو بتأليف مولا: البديعي يوسف، تجدد ما لابن الحسين من الفضل، تحلى به جيد الزمان وأصبحت. له نفرة كالروض غودي بالطل. وقد زيد حسنا انه صيغ باسم من، له قلم ما زال أمضى من النصل، يذكرنا ياقوت أدنى حروفه، وكل مثال منه جل عن المثل، سما ربه كثر الهداية والحجر، سماء العلى والمجد والفضل والبدل، حليف التقى نجل الحسام الذي ذهبت، به حلب الشهباء والأب كالنجل، وزحزح عنها ظلمة الظلم وانتفى، على عاتق العدوان وان سيفا من العدل، وابدأ بها بدر الفضائل بازغا، ومن قبله قد كان في صدف الجهل، ومن قبله والله لم نر قاضيا، له سطوة الضرغام في ورع الشبلي، هذا ما اخترناه من التقريضات ولولا خوف الإطالة لذكرناها جميعا فأنه لم يبق فاضل ولا شاعر من أبناء الشهباء ولا من غيرها المقيمين بها إلا وقد كتب تقريضا ومدح به جناب المولى أيده الله تعالى مساعدا لنا في مدحه لقصورنا عني شكر ما أسداه لنا وما يسديه فلا زالت الأفاضل تحت ظلال جوده قايله، والسنة الأقلام على أمد الليالي

بالإفصاح عن محامد قائله، ولا برحت قلوب أعاديه من هيبته خافقة، ورايات عدله المنصورة بالشرائع خافقة، وهذا دعاء يشمل كل إنسان، فيجب أن ينطق به لسان، وقد تم ووقع الفراغ من يسخر، من نسخة، أصله، على يد العبد الفقير الراجي عفو ربه الكريم المنان حسين ابن الحاج عثمان، الحلبي غفر الله زلله، وختم بالصالحات عمله، وذلك في اليوم السابع عشر من شهر رجب الفرد من شهور، سنة أربعة وخمسون وألف أحسن الله ختامها والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه أجمعين.

‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة المؤلف

سبحان الذي زين رياض الفضائل بأزاهر الأدب الغض، وفضل بعض عبادة باقتناء المآثر على بعض: نحمده على تراكم آلائه، ونشكره على ترادف نعمائه، ونصلي على أفضل مخلوقاته، المرسل رحمة للعباد، وأفصح من نطق بالضاد، واعترف بسحر بلاغته كل من وافق وضاد. وعلى آله وأصحابه ينابيع الحكم، ومصابيح الظلم.

وبعد فيقول المفتقر إلى عفو ربه الغني، يوسف المشهور بالبديعي، لما تشرفت الشهباءُ بإنسان عين الكمال، وعين إنسان الإفضال، علم العلم، وطود الحلم، الذي ما طلع نجم في سماء العدالة أسعد من سُهْيل طلعته، ولا سطع كوكب في لك الإيالة، أرفع من سماك رفعته، الحاوي من الأخلاق أكرمها وألطفها، ومن الأوصاف أفضلها وأشرفها، فلا مكرمة إلا وهو لها حائز، ولا محمدة إلا وهو بها فائز.

ويصُدُق فيه المدح حتى كأنما

يُسبَّحُ مِن صدقِ المقالة شاعُرةْ

الماجد الذي فضائله لا تحصى، وفواضله لا تستقصى؛ ومن ذا يقدر على سكر مسيل البحر، وسد طريق القطر؟ فهو البحر الذي يغترف العلماء من تياره، والبدر الذي يقتبس الفضلاء من أنواره. الحسام الماضي، أجل موالي الدهر، عبد الرحمن نجل الحسام، حرس الله بوجوده الأدب؛ فإنه حليته وزينة، وصان ببقائه العلم؛ فإنه جنته وصونة، وازدانت منه بمولى أجمع أهل الفضل على توحده في الدهر، واتفق أهل العقد والحل على تفرده بالفخر، وأضحت سدته المنيفة كهف الفضلاء، وحضرته الشريفة مناخ آمال الشعراء.

أحببتُ أن أتشرف لخدمته بتأليف كتاب، يشتمل على غرر الآداب، ونتائج الألباب، لم ينسج فكر على منواله، ولم تسمح قريحة بمثاله، ليكون وسيلة إلى أن أعد من جملة خدامه، وأتشرف بتقبيل مواطئ أقدامه، فينقذني من شرك الفقر، ويستخلصني من مخالب الدهر، فصدتني الأيام عن وجهتي وعارضتني بعوائقها عن طلب بغيتي، وكان - مد الله ظله، ورفع إلى أوج مرامه محله - يلهج بقلائد ابن الحسين وتمييزه على الطائيين ولعمري إن ما قاله هو المعول عليه، والمرجع بعد التأمل الصادق إليه.

فصمَّمْت العَزم قبل تفويف ذلك التأليف، وترصيف ذلك التصنيف، على جمع مختصر يحتوي على ذكر أبي الطيب المتنبي وأخباره، ويشتمل على نبذ من قلائد أشعاره. خادماً به جناب ذلك المولى، رزقه الله سعادتي للآخرة والأولى؛ وإن كنت في إهدائه إلى عالي حضرته، وسامي سدته. كمستبضع التمر إلى هجر، ومهدي الفصاحة إلى أهل الوبر، وناقل المسك، إلى التركوالعود إلى الهنود، والعنبر إلى البحر الأخضر، وكمن ساق إلى البحر نهراً وأهدى إلى الشمس نوراً، بل كمن أهدى كوز ماء أجاج، إلى بحر فرات عجاج؛ فإنه الهمام الذي جمع صفات الكمال، فلا يباري، وأحرز قصب السبق في مضمار البلاغة فلا يجاري وسميته: بالصبح المنبي، عن حيثية المتنبي.

‌أخبار المتنبي

هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الملقب بأبي الطيب وكان

ص: 5

والده الحسين يعرف بعيدان السقا.

وكان مولد المتنبي بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة وكان شاعراً عظيماً مشهوراً مذكوراً محظوظاً من الملوك والكبراء. قدم الشام في صباه وجال في أقطارها.

وكان يكتم نسبه. فسئل عن ذلك، فقال: إني أنزل دائماً على قبائل العرب، وأحب ألا يعرفوني، خيفة أن يكون لهم في قومي ترة.

قال أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي.

كان أبو الطيب وهو صبي ينزل في جواري بالكوفة، وكان محباً للعلم والأدب، فصحب الأعراب في البادية، وجاءنا بعد سنين بدوياً قحاً وكان تعلم الكتابة والقراءة فلزم أهل العلم والأدب، وأكثر من ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم.

وأخبرني وراق قال: ما رأيت أحفظ من ابن عيدان

ص: 6

قط، فقلت له: كيف ذلك؟ فقال: كان اليوم عندي وقد أحضر رجل كتاباً نحو ثلاثين ورقة ليبيعه، فأخذ ابن عيدان ينظر فيه طويلا. فقال له الرجل: يا هذا، أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون - إن شاء الله - بعد شهر. قال: فقال له ابن عيدان: فإن كنت حفظته في هذه المدة فما لي عليك؟ قال. أهب لك الكتاب. قال: فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه، حتى انتهى إلى آخره.

ومثله في قوة الحافظة، ما حكاه الأمير أسامة بن منقذ عن أبي العلاء المعري، قال كان بإنطاكية خزانة كتب، وكان الخازن بها رجلاً علويا، فجلست يوماً عنده، فقال لي: قد خبأت لك خبيئة غريبة ظريفة، لم يسمع بمثلها في تاريخه،

ص: 7

ولا في كتاب منسوخ. قلت: وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ ضرير يتردد إلى، وقد حفظته في أيام قلائل عدة كتب؛ وذاك أتى أقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة، فلا يستعيد إلا ما يشك فيه، ثم يتلو على ما قد سمعه، كأنه كان محفوظاً له. قلت: فلعله قد يكون. قال شبحان الله! كل كتاب في الدنيا يكون محفوظاً له! ولئن كان ذلك كذلك فهو أعظم. ثم حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدري كأنه ينظر بإحدى عينيه قليلاً، وهو يتوقد ذكاء، يقوده رجل طويل من الرجال، أحسبه يقرب من نسبه، فقال له الخازن: يا ولدي، هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتك عنده، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك، فقال: سمعاً له وطاعة،

ص: 8

فيختار ما يريد.

قال ابن منقذ: فأخترت شيئاً. وقرأته على الصبي وهو يموج ويستزيد، فإذا مر بشيء يحتاج إلى تقريره في خاطره، يقول: أعد هذا، فأرده عليه مرة أخرى، حتى انتهيت إلى ما يزيد على كراسة، ثم قلت له: يقنع هذا من قبل نفسي. قال: أجل، حرسك الله! قلت: كذا، وتلا على ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفاً حرفاً، حتى انتهى إلى حيث وقفت عليه، فكاد عقلي يذهب لما رأيت منه، وعلمت أنه ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا أن يشاء الله؛ وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري التنوخي من بيت العلم والقضاء والثروة والغناء.

وأعجب من هذه. ما حكى بعض طلبته عنه، قال: كان لأبي العلاء جار أعجمي، فاتفق أنه غاب عن المعرة،

ص: 9

فحضر رجل أعجمي يطلبه، قد قدم من بلده، فوجده غائباً، فلم يمكنه المقام، فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه. فجعل ذلك الرجل يتكلم بالفارسية، وأبو العلاء يصغي إليه، إلى أن فرغ من كلامه، ولم يكن أبو العلاء يعرف الفارسية، ومضى الرجل، وقدم جاره الغائب، وحضر عند أبي العلاء، فذكر له حال الرجل، وجعل يذكر له بالفارسية ما قال، والرجل يبكي ويستغيث ويلطم، إلى أن فرغ من حديثه، وسئل عن حاله، فأخبر أنه أخبر بموت أبيه واخوته وجماعة من أهله.

ومثل هذه ما ذكره تلميذة أبو زكريا التبريزي: أنه كان قاعداً في مجلسه بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء، يقرأ شيئاً من تصانيفه. قال: وكنت قد أقمت عنده سنين ولم أر

ص: 10

أحداً من أهل بلدي، فدخل المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، وتغيرت من الفرح. فقال لي أبو العلاء: أي شيء أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جاراً لي، بعد أن لم ألق أحداً من أهل بلدي سنين. فقال: قم فكلمه. فقلت حتى أتمم السبق. فقال: قم وأنا انتظرك. فقمت وكلمته بلسان الأذْرَبية شيئاً كثيراً، إلى أن سألت عن كل ما بدا لي، أي لسان: هذا؟ قلت: هذا لسان أذربيجان. فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد على اللفظ بعينه، من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه. وهذا من أعجب العجائب، لأنه حفظ ما لم يفهمه.

وحكى عنه بعض أصحابه أيضاً أن جاراً سماناً كان بينه

ص: 11

وبين رجل من أهل المعرة معاملة، فجاء ذلك الرجل، وحاسبة برقاع يستدعي فيها ما يأخذه منه عند حاجته إليه. وكان أبو في غرفة يسمع محاسبتها. قال: فسمع أبو العلاء السمان المذكور بعد مدة يتأوه ويتململ، فسأله عن حاله، فقال: كنت حاسبت فلاناً برقاع كانت له عندي، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه، فقال: ما عليك من بأس، أنا أملى عليك حسابه، وجعل يملي معاملته رقعة برقعة، والسمان يكتبها، إلى أن فرغ وقام، فما مضت إلا أيام يسيرة، ووجد السمان الرقاع، فقابل بها ما أملاه عليه أبو العلاء، فطابق إملاؤه الرقاع.

والعلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس، رضى الله عنهما.

قال أبو العباس المبرد

ص: 12

في كامله: ويروي أن ابن الأزرق أتى أبن عباس يوماً، فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله أبن أبي ربيعة على أبن عباس وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له أبن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك؟ فقال:

أمِن آل نُعْمٍ أنتَ غاد فُمبْكِرُ

غداة غَدٍ أم رائحُ فُمهَجَّرُ

بحاجة نفس لم تقلْ في جوابها

فتَبْلُغَ عُذْراً والمقالة تُعْذرِ

تَهُمُّ إلى نعم فلا الشملُ جامعُ

ولا الحبلُ موصول ولا القلب مُقصر

ولا قرب نُعم إن دنت لك نافعُ

ولا نأيُها يُسْلىَ ولا أنت تَصْبر

وأخرى أتتْ من دُونِ نُعم ومثلُها

نَهى ذو النهى لو يَرعوي أو يُفكر

إذا زُرتُ نُعماً لم يَزَلْ ذو قرابة

لها كُلَّما لاقيته يَتَنَهَّر

ص: 13

عزيزُ عليه أن أمُرَّ ببابها

يُسِرِ لي الشَّحناء والبْغضَ يُظَهر

ألكنْي إليها بالسَّلام فإنه

يُشهَّر إلمامي بها ويُنَكَّر

بآية ما قالت غداةَ أجبتُها

بمَدْفع أكنان أهذا المُشَهَّر

قفي فانظري يا أسْمَ هل تعرفينه؟

أهذا المُغيري الذي كان يُذكَر؟

أهذا الذي أطْرَيت نعتاً فلمِ أكُنْ

وعيشِك أنساه إلى يومِ أقْبرَ

فقالت: نَعَم لا شكَّ غَيَّرَ لونَه

سُرَى الليل يُحيْني نصَّه والتَّهجُّرِ

لئن كان إياه لقد حال بَعْدنا

عن العهدِ والإنسانُ قد يتغيرُ

رأتْ رجلا أما إذا الشمسُ عُارضتْ

فَيَضْحى وأما بالعَشيِ فَيخصر

حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له أبن الأزرق: الله أنت يا بن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل

ص: 14

نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفهاً فقال ابن الأزرق:

رأت رجلاً أما إذا الشمسُ عارضتْ

فَيَخزي وأما بالعشيّ فَيخسَرُ

فقال ما هكذا قال، وإنما قال:" فيضحى وأما بالعشي فيحضر ".

قال: أو تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ولو شئت أن أردها لرددتها. قال: فارددها فأنشده إياها كلها.

ومثلها ما حكاه أبو عبادة البحتري عن أبي تمام، قال البحتري: أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بهذه القصيدة:

أأفاقَ صَبُّ من هوىَّ فأُفيقا

أم خان عهداً أمْ أطاع شفيقاً

إن السلوَّ كما زعمت لَرَاحةُ

لوْ راح قلبي للسلُوّ مُطيقاً

ص: 15

هذا العقيقُ وفيه مَرْأى مُونقُ

للعين لو كان العقيقُ عقيقا

أشَقيقهَ العَلَمْين هل من نظرةٍ

فَتَبُلَّ قلباَّ للغليل شقيقا؟

وَسَمْتْك أرْديةُ السماء بديمةً

تُحيي رجاءً أو تردُّ عشيقاً

ولئن تناول من بشاشتك البلىَ

طرفاً وأوحش أنسَك الموموقا

فلربّ يوم قد غَنينا نجتلي

مغناك بالرَّشا الأنيق أنيقا

علَّ البخيلةَ أن تجود بها النَّوى

والدارَ تجمع شائقاً ومشوقا

كذب العواذلُ أنت أفتكُ لحظةً

وأغضُّ أطرافاً وأعذبُ ريقا

ماذا عليك لو اقتربت لموعد

ينئىْ الجوى وسقَيْتنا ترنيقا

غدت الجزيرةُ في جناب محمدً

ريَّا الجنابِ مَغارباً وشروقا

بَرَقتْ مخايُله لها وتَخرّقتْ

فيها عَزَالي جُودِه تخريقاً

ص: 16

صفحتْ له عنها السنونَ وواجهت

أطرافُها وجهَ الزمانَ طليقا

رفع الأميرُ أبو سعيد ذكرَها

وأقام فيها للمكارم سُوقا

يستمطرون بداً يفيضُ نوالهاُ

فيُغرقُ المحرومَ والمرزوقا

يَقِظُ إذا اعترض الخطوبَ برأيه

ترك الجليلَ من الخطوب دقيقا

هلَا سألتَ محمداً بمحمدِ

تَجدِ الخبيرَ الصادقَ المصدوقا

وسَل الشُّراةَ فإنهم أشقى به

من أهل مُوقانَ الأوائلِ موقا

كنا نُكفرُ من أميةَ عُصبةً

طلبوا الخلافةَ فَجْرهً وفسوقاً

ونقول تيمُ قرّبتْ وعَديُّها

أمراً بعيداً حيث كان سحيقا

وللومُ طلحة والزبيرَ كليهما

ونُعنّف الصديق والفاروقا

وهمُ قريشُ الأبطحَيْنِ إذا انتموا

طابوا أُصولا فيهُم وعروقا

ص: 17

حتى انبرتْ جُشَمُ بنُ بكر تبتغي

إرث النبي وتَدَّعيه حقوقا

جاءوا بِراعيهمْ ليتخذوا به

عمْداً إلى قطع الطريقِ طريقا

طرحوا عَباءته وألقوْا فوقه

ثوبَ الخلافةٍ مُشْرَباً رَاوقا

عقدوا عمامَته برأسِ قَناته

ورَأوْه بِرًّا فاستحال عقوقا

وأقام يُنفِذُ في الجزيرة حُكْمَه

ويظنُّ وعدَ الكاذبين صَدوقا

حتى إذا ما الحيةُ الذّكَرُ انكفا

من أرْزَن حَنقا يَمُجُّ حريقا

غضبانَ يلقى الشمسَ منه بِهاَمة

تُغْشي البُروق تألُّقاً وبريقا

أوْفى عليه فظلَّ من دَهَشٍ يظ

نّ البْرّ بحراً والفضاءَ مَضيِقا

غَدَرتْ أمانيه بهِ وتمزَّقتْ

عنه غَيابةُ سُكرِه تمزيقا

طلعتْ جيادُك من رُبَا الجودي قد

حُمَّلْنَ من دُفَع المنونُ وسُوقَا

ص: 18

يطلبْنَ ثارَ اللهِ عند عصابة

خلعوا الإمامِ وخالفوا التوفيقا

يرمون خالقَهم بأقبحِ فِعلهم

وُيحرَِّقون قُرَانه المنسوقا

فدعا فريقاً من سيوفِك حَتُفهُم

وشددتَ في عُقَد الحديدِ فريقا

ومضى ابنُ عَمر وقد أساء بعُمره

ظنَّا يُنزَّق مُهَرة تنزيقا

رَكبتْ جوانحَه قوادمُ رَوْعِه

فحذفته خذَْفَ المرير الفُوقا

فأجتاز دجلةَ خائضاً وكأنها

قَعْبُ على باب الكُحَيْل أريِقا

لو خاضها عِمليقُ اوْعُوْجُ إذنْ

ما جَوَّزَتْ عُوجاً ولا عمليقا

لولا اضطربُ الخوف في أحشائه

رسب العُبابُ به فمات غريقا

خاض الحتوفَ إلى الحتوفِ مُعانقاً

زَجلاً كَفِهْر المنِجنيقِ عتيقا

يجتابُ حَزَّةَ سهلها وَوُعورَها

والطيُر هان مُرادُه وَدَقوقا

ص: 19

لو نَفَّتْه الخيلُ لفتهَ ناظرٍ

ملأ البلادَ زلازلاً وفُتوقا

لَشَنىَ صُدورَ السمْر تكشف كُربةً

ولَوَى رؤوس الخَيل تَفُرُج ضِيقاً

ولَبَكَّرتْ بكرُ وراحتْ تَغلبُ

في نصرِ دعوتهِ إليه طُروقا

حتى يعودَ الذئبُ ليثاً ضَيْغما

والغصنُ ساقاً والقرارةُ نيِقا

ههيهات مارسَ قَلْقلاً مُتَقظاً

قَلقاً إذا سكن البليدُ رَشيقاً

مُستسلِفا جعلَ الغَبوقَ صَبوحَة

ومَرَى صَبوحَ غد فصار غَبُوقاً

لله ركَضُكَ إذ يُبارك المدى

ومُبينُ سَبْقك إذ أتى مسبوقا

جاذبَته فضلَ الحياةِ فأفلتتْ

من كّفِه قَمنًا بذاك حقيقا

فرددْتَ مهجتَه وقد كَرَع الرَّدى

ليِحَفُ منها منهلا مطروقا

لَبس الحديدَ أساوراً وخلاخلاً

فكفيْتَهُ التسويرَ والتطويقا

ص: 20

بالتلَ تَلّ ربيعَ بين مواضع

ما زال دينُ الله فيها يُوقي

سَاتيدَمَا وسيوفُنا في هضبةٍ

يَفْرِي إياسُ بها الطلى والسوقا

حتى تناول تاجَ قَيْصرَ مُشرباً

بدم وفرّق جَمْعهَ تفريقا

والجازران وهتْمُ إبراهيم في

ثنْيَهما تلك الثنايا الرُّوقا

قُتلَ الدعى ابنُ الدعىّ بضربة

خَلسْ وخُرّق جيشُه تخريقا

والزاب إذ خَانَتْ أميةُ فاغتدت

تُزْجى لنا جَعْديَّها الزِنديقا

كَشفوا بنلِ كُشافَ أروقةَ الدُّجى

عن عارض ملأ السماءَ بُروقا

نِلناهُمْ قبل الشروق بأذرعُ

يَهْزوُن في كَبدِ الظلامِ شُروقا

حتى تركنا الهامَ يندبُ منهمُ

هاماً ببطن الزابِييَنْ فَليقا

يا تغلبَ ابنةَ تغلب حتَّى متَى

تَردون كُفْراً مُوبِقا ومُروقا

ص: 21

تتجاوبون لدعوة مخذولةٍ

دعوى الحميرِ إذا أردنَ نهيقا

ولقد نظرنا في الكتاب فلم نجدْ

لمقالكم في آية تحقيقا

أوَ ما علمّتْم أنَّ سيفَ محمدٍ

أمسى عذاباً بالطغاة مُحيقاً

لا تَنتضوه بأن تروموا خُطةً

عسراءَ تُعبي الطالبين لُحوقا

لا تحسُبنَّ إن صَفَرَتْ بهمْ

رُعيانُكم بَهْماً أطاع وَنُوقا

خَلُّوا الخلافَة إنَّ دون لِقائها

قَدَراً بأخذ الظالمين خليقا

قد ردّها زيدُ بنُ حِصن بعدما

مدُّوا عليهِ رداءَها المشقوقا

بالنَّهروانِ فعاهدوه وأكدوا

عَقْداً له بين القلوب وثيقا

ورجالُ طيّ مُصْلتون أمامه

وَرَقاً هناك من الحديد رقيقا

لم يَرْضَها لما اجتلاها صَعبةً

لم تَرْضَه خِدناً لها ورفيقا

ص: 22

لو واصلت أحداً سوى أصحابها

منهمْ لكانَ أخاً لها وصديقا

فسر بها أبو سعيد، وقال: أحسنت والله يا فتى.

وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كل من حضر في مجلسه، يكاد يمس ركبته، فأقبل على وقال: يا فتى أما تستحي؟ هذا شعري تنتحله وتنشده بحضرتي؟ فقال أبو سعيد: أحقا ما تقول؟ قال: نعم، وإنما علقة مني فسبقتني به إليك، ثم اندفع فأنشد القصيدة حتى شككني - علم الله - في نفسي، وبقيت متحيراً فأقبل على أبو سعيد وقال: يا فتى لقد كان في قرابتك منا، وودك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي، ما سبقني إليه أحد، ولا سمعته ولا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئاً، وأطرق أبو سعيد، وقطع

ص: 23

الكلام حتى تمنيت أني سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجر رجلي فخرجت، فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان إلى فردوني، فأقبل على الرجل، وقال: الشعر لك يا بني، والله ما قلته قط، ولا سمعت به إلا منك، ولكن ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك، ولوددت ألا تلد طائية إلا مثلك. وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاني أبو تمام فضمني إليه وعانقني، وأقبل يقرضني ولزمته بعد ذلك، وأخذت عنه، واقتديت به.

ونادرة الدنيا في سرعة الحفظ الأستاذ أبو الفضل أحمد بن

ص: 24

الحسين بديع الزمان الهمذاني، فإنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط فيحفظها كلها ويؤديها من أو لها إلى آخرها لا يخرم حرفاً، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لا يعرفه ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سرداً

ويطلعك على حقيقته ذلك ما جرى بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي من المناظرة يوم اجتماعها في دار السيد أبي القاسم المستوفي، بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف وغيرهم من سائر الناس.

قال البديع: وأول القصة أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور دارا، وإلا جوار السادة جوارا، وقديماً كنا نسمع بهذا الفاضل، ونقدر أنا إذا وردنا بلدة يخرج لنا في العشرة عن القشرة؛ فقد كانت لحمة الأدب جمعتنا، وكلمة الغربة نظمتنا، وقد قال الشاعر:

أجارتَنا إنا غريبان هاهنا

وكلُّ غريب للغريب نسيبُ

فاخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق من بزة بزوها، وفضة فضوها وذهب ذهبوا به؛ ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة؛ وزي أوحش من طلعة المعلم، فما حللنا إلا قصبة جواره. ولا وطئنا إلا عتبة داره بعد ما كتبنا له: إنا لقرب الأستاذ أطال الله بقاه " كما طرب النشوان مالت به الخمر ".

ومن الارتياح للقائه " كما انتفض العصفور بلله القطر " ومن الامتزاج بولائه " كما التقت الصهباء والبارد العذب " ومن الابتهاج بمزاره " كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب " فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل عتبتي الجبلونيسابور؟ وكيف اهتزازه لضيف:

رثّ الشمائل مُنْهَج الأثواب

بكرتْ عليه مُغيرة الأعراب

وهو أيده، الله ولى إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقري لأفضى إليه بما عندي.

قال البديع: فلما أخذتنا عينه سقانا الدردي من أول دنة. وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه. من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره، فقاربناه إذ جانب، وواصلناه إذ جاذب، وشربناه على كدورته، ولبسناه على خشوتنه، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمد وداده، ونستميل فؤاده، بقولنا: الأستاذ أزرى بضيفه إذ وجده يضرب آباط القلة في أطمار الذلة. فأعمل في تربيته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة؛ من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا وتأبطته شرا. ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقزز صف النعال.

فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب لقلت إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:

وفيهم مقاماتُ حسانُ وجوهُهُم

وأندية ينتابها القولُ والفعل

ولو طرحت بأبي بكر إليهم طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه لمضيف خصيبا، ورأى الأستاذ أبي بكر في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله.

فأجاب: وصلت رقعة سيدي ومولاي، ورئيسي أطال الله بقاءه إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنته من حسن خطابه ومؤلم عتابه وصرفت ذلك منه إلى الضجر الذي لا يخلو منه من مسه عسر. ونبابه دهر. أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه في القيام، فقد وفيته حقه على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه. فأما القوم الذين صدر عنهم فكما وصف. ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد.

فإن أكُ قد فارقتُ نجداً وأهلهَ

فما عهد نجد عندنا بذميمْ

والله يعلم نيتي للناس كافة، ولسيدي خاصة، فإن أعانني على ما في نفسي. بلغت إليه ما في النية، وجاوزت مسافة القدرة، وإن قطع على طريق عشرتي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناتي عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:

فما النفسُ إلا نطفةُ بقرارة

إذا لم تكُدَّر كان صفواً معينها

وبعد فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً، فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله.

قال البديع: فلما ورد الجواب عمدنا لذكره فسحوناه عن صحيفتنا، ومحونا، وصرنا إلى اسمه فأخذناه، ونبذناه، وتركنا خطته، وتجنبنا خلطته، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير السماع ذكره، ولا نودع الصدر حديثه، وجعل يستزيد ويستعيد بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه وتردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها على. فكاتبناه: أنا أرد من الأستاذ شرعة وده وإن لم تصف، وألبس خلعة بره وإن لم تضف. وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد، وإن كنت في الأدب دعى النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيئ المنقلب.

سيدي ناقشني في الحساب القبول أولاً، وصار فني في الإقبال ثانياً؛ فأما حديث الاستقبال وأمر الإنزال فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد فكلفة الفضل بينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، فلم اختار قعود التعالي مركباً، وصعود التغالي مذهباً، وشوقي قد كد الفؤاد برحاً إلى برح، ونكأة قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة. ونفس حرة، وليس إلا غصص الشوق نتجزعها وحلل الصبر نتدرعها، وأنا لو أعرت جناح طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه.

قال البديع: وبقينا نقنع بالذكر وصلا حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وأفضت الحال إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه أريحية الكرم يجمع بيني وبينه؟، واتفق أن السيد أبا علي نشط للجمع بيننا، فدعاني فأجبت، ثم عرض على حضوره فطلبت، فلما جاءنا تركناه على غلوائه حتى إذا نفض ما في رأسه وفرغ جعبة وسواسه، عطفنا عليه، وقلنا: فلتهدأ ضلوعك، وليفرخ روعك ولتسكن سورتك. ولتلن فورتك، ولا ترقص لغير طرب. ولا تحم لغير سبب، وقديماً كنت أسمع بحديثك؛ فيعجبني الالتقاء بك، والاجتماع معك، والآن إذ سهل الله ذلك، فهلم إلى الأدب ننفق يومنا عليه، وإلى الجدل نتجاذب طرفيه، ولنبدأ بالفن الذي ملكت به زمانك، وأخذت منه مكانك، وطار به اسمك بعد وقوعه، وارتفع له ذكرك عقب خضوعه. . .

فقال: وما هو؟ قلت الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فأحجم عن الحفظ رأسا، ولم يجل في النثر قدحا، وقال أبادهك، واقترح علينا أن نقول على وزن قافية أبي الطيب: أرق على أرق ومثلي يأرق وابتدر أبو بكر إلى الإجازة، ولم يزل إلى الغايات سباقاً فقال:

وإذا ابتدهتُ بديهة يا سيدي

فأراك عند بديهتي تتغلق

وإذا قرضتُ الشعر في ميدانه

لا شك أنك يا أخيَّ تَشَقَّق

إني إذا قلتُ البديهة قلتها

عَجلا وطبعك عند طبعي يَرفُق

مالي أراك ولست مثلي عندها

مُتمَّوها بالتُرهات تُمخْرق

إني أُجيز على البديهة مثل ما

تريانه وإذا نطقتُ أصدّق

لو كنتَ من صخر أصمَّ لهاله

مني البديهة واغتدى يتلَّفق

أو كنت ليثا في البديهة خادراً

لرئيت يا مسكين منَّي تَفْرَق

وبديهة قد قلتها متنفساً

فقل الذي قد قلتَ يا ذا الأخرق

ثم وقف يعتذر، ويقول: هذا كما يجيء لا كما يجب، فقلت قبل الله عذرك فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك. وقلت:

مهلا أبا بكر فزندك أضيق

فأخرَس فإن أخاك حي يرزق

دعني أعرك إذا سكت سلامة

فالقول ينجُد في ذويك ويُعرق

ولفاتك فتكاتُ بيضِ سيوفكم

فدع الستور وراءها لا تُخْرق

وأنظر لأشنع ما أقول وأدعى

أله إلى أعراضكم مُتسلق

يا أحمقا، وكفاك ذلك خَزْية

جرَّبت نار معرتي هل تحرق؟

فلما أصابه حَرُّ الكلام، ومسه لفحُ هذا النظام، قال: يا أحمقا لا يجوز، فإنه لا ينصرف، وقطع علينا؛ فقلنا: يا هذا لا تقطع، فإن شعرك إن لم يكن عيبة عيب، فليس بظرف ظرف، وأما أحمق فلا يزال يصفعك وتصفعه، حتى ينصرف وتنصرف معه، وعرفناه أن للشاعر أن للشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف، كما أن له رأيه في القصر والحذف.

وقلنا: أخبرنا عن بيتك الأول، أمدحت أم قدحت؟ وذكيت أم جرحت؟ ففيه شيئان متفاوتان، ومعنيان متباينان، بدأت فخاطبت بيا سيدي، وعطفت فقلت تتغلق. وهما لا يركضان في حلبة، ولا يخطان في خطة؛ ثم قلت له: خذ وزناً من الشعر حتى أسكت عليك، فتستوفي من القول حظك، وأسكت علينا حتى نستوفي حظنا، ثم إني أحفظ عليك أنفاسك، وأوافقك عليها، واحفظ على أنفاسي ووافقني عليها؛ فإن عجزت حفظتها لك. وأخذنا بيت المتنبي: أهلاً بدار سباك أغيدها.

فقلت: يا نعمة لا تزال تجحدها، ومنة لا تزال تكندها فقال: ما معنى تكندها؟ فقلت: كند النعمة كفرها، فرفع رأسه وقال: معاذ الله أن يكون كند بمعنى جحد، فتلونا:) إن الإنسان لربه لكنود (. وقلت له: أليس الشرط أملك، والعهد بيني وبينك أن تكست ونسكت، كي تتم ونتم، فنبذ الأدب وراء ظهره، وصار إلى السخف يكلينا بصاعه ومده، فقلت: يا هذا إن الأدب غير سوء الأدب. ولو كان في باب الاستخفاف شيء أعظم من الاحتقار، وإنكار أبلغ من ترك الإنكار، لبلغته منك. فأخذ يمضي على غلوائه، ويمعن في هرائه وهذائه وقلت: أستغفر الله من مقالتك، وسكت حتى عرف الناس أني أملك من نفسي ما لا يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه، ثم عطفت عليه فقلت: يا أبا بكر إن الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي. وتعجبوا من عقلي أكثر مما تعجبوا من فضلي وبقى الآن أن يعلموا أن هذا السكوت ليس عن عي وأن تكلفي للسفه أشد استمراراً من طبعك، وغربي في السخف أمتن عوداً من نبعك، فقال: أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزراته؟ فقلت: هذا الذي به تتمدح من أنك شحذت فأخذت، فهذا عندنا صفة ذم، وقد صدقت. أنت بهذه الحلبة أسبق، وفي هذه الحرفة أعرق، وأنا قريب العهد بهذه الصنعة، حديث الورد لهذه الشرعة، وما أضيع وقتاً قطعته بذكرك، ولساناً دنسته باسمك، وملت إلى القوال. فقلت: أسمعنا خيراً، فغنى أبياتاً منها:

وشَبَّهنا بَنفْسَجَ عارِضيْه

بقايا اللطم في الخد الرقيقِ

فقال أبو بكر: أحسن ما في الأمر أني أحفظ هذه القصيدة وهو لا يعرفها. فقلت: إن أنشدتكها ساءك مسموعها، ولم يسرك مصنوعها، فقال: أنشد، فقلت: روايتي تخالف هذه الرواية، وأنشدت:

وشبهنا بنفسج عارضيه

بقايا الوشْم في الخد الصفيق

فأتته السكتة، وأضجرته النكتة، وانطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، ودفع القوال فبدأ بأبيات، ولحسن بأصوات، وجعل النعاس يثني الرءوس، ويمنع الجلوس، فقمنا إلى ما وطئ من مضجع، ومهد من مهجع، ولم يكن النوم ملأ العيون، ولا شغل الجفون، حتى أقبل وفد الصباح، وحيعل المؤذن بالفلاح، وندب إلى النهوض بالمفروض، فلما قضينا الفرض، فارقنا الأرض، وظني أن هذا الفاضل يأكل يده ندماً، ويبكي على ما جرى دمعاً ودماً، وأنه إذا نام هاله منا طيف، وإذا انتبه راعه منا سيف، وسعوا بيننا بالصلح، وعرفنا له فضل السن، فقصدناه معتذرين إليه، فأومأ إيماءة مهيضة، واهتز اهتزازة مغيضة، وأشار إشارة مريضة، بكف سحبها على الهواء سحباً، وبسطها في الجو بسطاً، وعلمنا أن للمقهور أن يستخف ويستهين، وللقاهر أن يحتمل ويلين، فقلنا: إن بعد الكدر صفواً، كما أن عقب المطر صحواً، وعرض علينا الإقامة سحابة ذلك اليوم، فاعتللنا بالصوم، فلم يقبل العذر وألح، فقلت: أنا وذاك، فطعمنا عنده، وخرجنا والنية على الجميل موفورة، وبقعة الود معمورة، وصرنا لا نتعلل إلا بمدحه، ولا نتنقل إلا بذكره، ولا نعتد إلا بوده، لا. بل ملأنا البلد شكراً، والأسماع نشراً، وبينا نحن من الحال في أعذبها شرعة، ومن المقة في أطيبها جرعة، ومن المودة في أعزها بقعة، وأوسعها رقعة، حتى طرأ علينا رسولان محتملان مقالته، ومؤديان رسالته، ذاكران أن أبا بكر يقول قد تواترت الأخبار، وتظاهرت الآثار، في أنك قهرت، وأني قهرت، ولا شك أن ذلك التواتر عنك صدرت أوائله، والخبر إذا تواتر به النقل، قبله العقل، ولا بد أن نجتمع في مجلس بعض الرؤساء، فتناظر بمشهد الخاصة والعامة، فإنك متى لم تفعل ذلك لم آمن عليك تلامذتي، أو تقر بعجزك وقصورك عن بلوغك أمدي. ومنال يدي، فقلت: هذا التواتر ثمرة ذلك التناظر، مع ذلك التساتر، فإن ساءك فأحر أن يسوءك عند مجتمع الناس، ومحتفل أولى الفضل، ولأن تترك الأمر مختلفا فيه خير لك من أن يتفق عليه، وإن أحببت أن تطير هذا الواقع، وتهيج هذا الساكن، فرأيك موفق.

ثم مضت على ذلك أيام، ونحن منتظرون لفاضل ينشط لهذا الفصل، وينظر بيننا بالعدل، فاتفقت الآراء على أن يعقد هذا المجلس في دار أبي القاسم الوزير، واستدعيت، فسرحت الطرف من ذلك السيد في عالم أفرغ في عالم، أو ملك في درع ملك، ونطق فودت الأعضاء لو أنها أسماع مصغية، واستمع فودت الجوارح لو أنها ألسنة ناطقة، وكنت أول من حضر، وطلع الإمام أبو الطيب وهو بنفسه أمة، ووحده عالم. ثم حضر السيد أبو الحسين، وهو أبن الرسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، وحضر بعد ذلك أبو عمر البسطامي، وناهيك به من حاكم يفصل، وناظر يعدل، ثم حضر القاضي أبو نصر، والأدب أدنى فضائله، وأيسر فواضله، وحضر الشيخ أبو سعيد محمد بن أرمك، وهو الرجل الذي تحميه لألاؤه، ولوذعيته من أن يذال بمن؟ أو ممن الرجل؟ وحضر أبو القاسم بن حبيب، والفقيه أبو الهيثم، ورائد الفضل يقدمهما، وقائد العقل يخدمهما، وحضر الشيخ أبو نصر المرزبان، والفضل منه بدأ وإليه يعود، وحضر بعده أصحاب الإمام أبي الطيب وأصحاب الأستاذ أبي الحسن الماسرجسي، وأصحاب الأستاذ أبي عمر البسطامي، وهم في الفضل كأسنان المشط، ومنه بأعلى مناط العقد، وحضر الشيخ أبو سعيد الهمذاني، وله في الفضل قدحه المعلى، وفي الأدب حظه الأعلى، ثم حضر أصحاب الأسبلة المسبلة، والأسوكة المرسلة، رجال يلعن بعضهم بعضاً، فقلت: من هؤلاء؟ فقالوا: أصحاب الخوارزمي.

فلما أخذ المجلس زخرفه ممن حضر، وانتظر أبو بكر فتأخر، اقترحوا على قوافي أثبتوها، واقتراحات كانوا بيتوها، فما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار: من لفظ إلى المعنى نسقته، وبيت إلى القافية سقته. على ريق لم أبلعه، ونفس لم أقطعه. وقال الإمام أبو الطيب لن نؤمن لك حتى نقترح القوافي، ونعين المعاني، وننص على بحر، فإن قلت على الروي الذي أسومه، وذكرت المعنى الذي أرومه، فأنت حي القلب كما عهدناك، شجاع الطبع كما وجدناك، فلما خرجت من عهدة هذا التكليف، حتى ارتفعت الأصوات بالهيللة من جانب، والحوقلةمن آخر. وتعجبوا إذ أرتهم الأيام ما لم ترهم الأحلام، وجادهم العيان بما بخل به السماع، وأنجزهم الفهم ما أخلفهم الوهم، ثم التفت فوجدت الأعناق تلتفت وما شعرت إلا بهذا الفاضل، وقد طلع في شملته، وهب بجملته، ومشى إلى فوق أعناق الناس يريد الصدر، فقلت: يا أبا بكر تزحزح عن الصدر، فقال لست برب الدار، فتأمر على الزوار، فقلت: حضرت لتناظري، والمناظرة اشتقت إما من النظر، وإما من النظير، ومن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحداً، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السابق، ويتقاصر المسبوق، فقضت الجماعة بما قضيت.

ثم قلت: في أي علم تريد أن نتناظر؟ فأشار إلى النحو، فقلت: إن شئت أن أناظرك فيه فسلم ما كنت تدعيه، من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسل، فقال: لا أسلم ذلك، ولا أناظر في غير هذا، وارتفعت المضاجة، واستمرت الملاجة، حتى قال له الأستاذ أبو عمر: أنت أديب خراسان، وبهذه الأبواب التي قد عدها هذا الشاب كنا نعتقد لك السبق، وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يوهم، واضطره إلى منازلة أو نزول عنها. فقال: سلمت الحفظ، فقلت: خفف الله عنك كما خففت عنا في الحفظ، فلو سلمت البديهة مع الترسل، حتى نفرغ للنحو والأمثال واللغة والعروض والأشعار فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ، فقلت: الراجع في فيئه كالراجع في قيئه؛ لكنا نقيلك عن ذلك السماح.

أنشدنا خمسين بيتاً من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتاً من قبلي عشرين مرة، فعلم أن من دون ذلك خرط القتاد، فسلمه ثانياً، كما سلمه بادياً، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله:

أبقى الزمانُ به نُدوب عِضاضِ

ورَمَى سوادَ قُرونه ببياض

فبدأ أبو بكر مقداراً أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه، ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، فقال:

يا قاضياً ما مثله من قاضٍ

أنا بالذي تقضي علينا راضِ

فلقد لَبِست ضَفيِةَّ ملمومةً

من نسج ذاك البارق الفَضْفاض

لا تغضبنّ إذا نظمتُ تنفساً

إن الغضى في مثل ذاك تغاضِ

فلقد بُليتُ بشاعر متقادرِ

ولقد بليت بناب ذيب غاض

ولقد قرضت الشعر فأسمع وأستمع

لنشيد شعر طائعاً وقراض

فلأغلبنّ بديهةً ببديهتي

وَلأَرمينّ سوادَه ببياض

فقلت ما معنى ضيفة ملمومة؟ وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية، فقالوا له: قد قلت. ثم قلت ما معنى قولك ذيب غاض؟ فقال هو الذي يأكل الغضى قلت: استنوق الجمل، وصار الذئب جملا يأكل الغضى. فما معنى أن الغضى في مثل ذاك تغاض، فإن الغضى لا أعرفه بمعنى الإغضاء فقال لم أقل الغضى، وأنكر البيت جملة فقلت: ما أغناك عن بيت تهرب منه وهو يتبعك، وتتبرأ منه وهو يلحق بك. فما معنى قراض فلم أسمعه مصدراً من قرضت الشعر. ثم دخل الرئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر، والشيخ أبو زكريا الحيري، وطبقة من الأفاضل وأخذ الرئيس مكانه من الصدر، وقال: قد ادعيت عليه أبياتاً أنكرها فدعوني من البديهة على النفس واكتبوا ما تقولون فقلت:

برز الربيع لنا برونق مائة

فانظر لروعة أرضه وسمائه

فالتربُ بين مُمَسَّك ومُعَنْبر

من نَوْره بل مائة وُروائه

والماء بين مُصَنْدل ومُكفّرٍ

في حُسْن كُدرته ولون صفائه

والطيرُ مثل المُحصَنات صوادحُ

مثلُ المغنى شادياً بغنائه

والوردُ ليس بِمُمْسك رَياه بل

يُهدي لنا نَفَحاته من مائهِ

زمنَ الربيع جلَبتَ أزكى مَتْجرٍ

وجلوت للرائين خيرَ جِلائه

فكأنه هذا الرئيس إذا بدا

في خَلْقه وصفاته وعطائه

ما البحرُ في تزخاره والغيث في

إمطاره والجو في أنوائه

بأجلّ منه رغائباً ومواهباً

لا زال هذا المجد حلفِ قَبائه

والسادة الباقون سادةُ عصرهم

متمدَّحون بمدحه وثنائه

وقال أبو بكر تسعة أبيات رددتها عليه، وقلت لمن حضر أرأيتم لو أن رجلاً حلف بالطلاق لا ينشد شعراً قط وأنشد هذه الأبيات فقط، هل تطلق امرأته؟ فقالت الجماعة لا يقع بهذا طلاق. ثم قلت: أنقد علي كما نقدت، وأحكم عليه كما حكمت. فأنتقد ما انتقد، وكفتني الجماعة جوابه، وقالوا: قد علمنا أي الرجلين أشعر؟ وأي الخصمين أقدر.

ثم ملنا إلى الترسل فقلت: اقترح على غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، حتى أقترح عليك أربع مائة صنف في الترسل، فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، فلك يد السبق، ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتاباً يقرأ منه جوابه هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك أكتب كتاباً في المعنى الذي أقول، وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل، ولا تغافل حتى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوق لهذا الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحا؟ أو قلت لك أكتب كتاباً إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتاباً؛ وإذا عكست سطوره مخالفة كان جوابا، أو قلت لك! كتب كتاباً في المعنى الذي يقترح لا يوجد فيه حرف منفصل، من راء تتقدم الكلمة بديهة، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك أكتب كتاباً خالياً من الألف واللام هل كنت تقف من ذلك موقفاً محموداً؟ أو قلت لك أكتب كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل؟ أو تبل لهاتك بناطل؟ أو قلت لك اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم وآخرها جيم، على المعنى الذي يقترح هل كنت تغلو في قوسه غلوة؟ أو تخطو في أرضه خطوة؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرئ معرجاً وسرد معوجاً وسرد معوجاً كان شعراً هل كنت تقطع في ذلك شعراً؟ بلى والله تصيب ولكن من بدنك. وتقطع ولكن من ذقنك. أو أقوال لك: اكتب كتاباً إذا فسر على وجه كان مدحاً، وإذا فسر على وجه كان مدحاً، وإذا فسر على وجه آخر كان قدحاً، هل كنت تخرج عن هذه العهدة؟ أو أقوال لك: اكتب كتاباً تكون حفظته من قبل أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به إلى ما أطاولك بعد؟ لا. بل) أست البائن أعلم.. (.

فقال أبو بكر هذه الأبواب شعبذة. فقلت: وهذا القول طرمذة. فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها حتى أباحثك على مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأشبر قلمك، وأسبر فيها لسانك وفمك؟ فقال الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان المتعارفة بين الناس. فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة سوى هذه الطريقة الساذجة. وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل لسان وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة؟ فقال: نعم. فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل. وأناضلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفاظك، ويعارض إنشائي بإنشائك. واقترح كتاب يكتب في النقود وفسادها، والتجارات ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها. والأسعار وغلائها. فكتب أبو بكر: الدرهم والدينار ثمن الدنيا والآخرة، بهما يتوصل إلى جنات النعيم ويخلد في نار الجحيم، قال الله تبارك وتعالى:) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم (. وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار. وأنكرناه أعظم الإنكار؛ لما نراه من الصلاح للعباد وننويه من الخير للبلاد. وتعرفنا في ذلك ما يربح للناس في الزرع والضرع. ويعود إليه أمر الضر والنفع. . . إلى كلمات لم تعلق بحفظنا فقلت: إن الإكبار والإنكار والعباد والبلاد وجنات النعيم ونار الجحيم والزرع والضرع أسجاع قد ثبتت في المعد، ولم تزل في اليد. وقد كتبت وكتبت. ولا أطالبك بمثل ما أنشأت، وناولته الرقعة فتبقى وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة، وقالوا لي أقراه فجعلت أقرؤه واسرده معكوساً. وكان ما أنشأناه: الله شاء إن المحاضر صدور بها، وتملأ المنابر ظهور لها، وتفرع الدفاتر وجوه بها، وتمشق المحابر بطون لها ترشق آثاراً كانت فيه آمالنا مقتضى على أياديه في تأييده الله أدام الأمير جرى فإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه نتضرع ونحن واقفة والتجارات زائفة، والنقود صيارفة؛ أجمع الناس صار فقد كريما نظراً لينظر شيمه مصاب وانتجعا كرمه بارقة وشمنا هممه على آمالنا رقاب، وعلقنا أحوالنا وجوه له، وكشفنا آمالنا وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن ونعماه تأييده وأدام بقاه الله أطال الجليل الأمير رأى إن.

وصلى الله على محمد وآله الأخيار.

فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين، فملنا إلى اللغة، فقلت: خذ غريب المصنف إن شئت وإصلاح المنطق إن أردت، وألفاظ ابن السكيت إن نشطت، ومجمل اللغة إن اخترت، وأدب الكتاب إن أردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى أجعله لك نقداً وأسرده سرداً، فقال اقرأ من غريب المصنف فقرأت الباب الذي أراده ولم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه. ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من فصيح الكلام. فوقف حماره، وخمدت ناره. وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً، فهاتوا غيره. فقلت يا أبا بكر هات العروض؛ فهو أحد أبواب الأدب، وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها وعللها وزحافها فقلت: هات الآن فاسرده كما سردت. وضجر الناس وتقوض المجلس.

هذا ملخص ما جرى بينهما.

قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلاثمائة وهو كما عذر وله وفرة إلى شحمتي إذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيته من فصاحته وحسن سمته. فلما تمكن الأنس بيني وبينه، وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير.

فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل! فظننت

ص: 25

أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته، فقلت له: ما تقول؟ فقال: أنا نبي مرسل. فقلت له: مرسل إلى من؟ فقال: إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قلت: تفعل ماذا؟ قال: املأ الدنيا عدلا كما ملئت جوراً. قلت: بماذا؟ قال بإدرار الأزراق والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الرقاب لمن عصا وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف منه عليك وعذلته على ذلك فقال بديهة:

أبا عبد الإله معاذُ إني

خفيّ عنك في الهيجا مُقامي

ذكرتَ جسيم ما طلبي وأنَّا

نخاطر فيه بالمُهج الجسام

أمثلي تأخذُ النكباتُ منه

ويجزع من مُلاقاة الحمام

ولو برز الزمانُ إلىّ شخصاً

ص: 26

.. لَخضَّب شعر مَفْرقة حُسامي

وما بلغت مَشيَّتها الليالي

ولا سارتْ وفي يدها زِمامي

إذا امتلأت عيونُ الخيل مني

فويلُ في التيقظ والمنَام

فقلت: ذكرت أنك مرسل إلى هذه الأمة أفيوحي إليك؟ قال: نعم. قلت: فاتل على شيئاً مما أوحى إليك، فأتاني بكلام ما مر بسمعي أحسن منه، فقلت: وكم أوحى إليك من هذا؟ فقال: مائة عبرة وأربع عشرة عبرة قلت: وكم العبرة؟ فأتى بمقدار أكبر الآي من كتاب الله تعالى. قلت: في كم مدة أوحى إليك؟ قال: جملة واحدة. قلت أسمع في هذه العبرات أن لك طاعة في السماء، فما هي؟ قال: أحبس المدرار لقطع أرزاق العصاة والفجار، قلت: أتحبس في السماء مطرها؟ قال: إي والذي فطرها! أما هي معجزة؟ قلت: بلى والله! قال فإن حبست المطر عن مكان تنظر إليه ولا تشك فيه،

ص: 27

هل تؤمن بي وتصدقني على ما أوتيت من ربي؟ قلت: إي والله قال سأفعل، ولا تسألني عن شيء بعدها حتى آتيك بهذه المعجزة، ولا تظهر شيئاً من هذا الأمر حتى يظهر، وانتظر ما وعدته من غير أن تسأله. ثم قال لي بعد أيام أتحب أن تنظر المعجزة التي جرى ذكرها قلت: إي والله، فقال لي: إذا أرسلت إليك هذا العبد فاركب معه، ولا تتأخر، ولا تخرج معك أحداً، قلت: نعم. فلما كان بعد أيام تغيمت السماء في يوم من أيام الشتاء، وإذا عبده قد أقبل، فقال: يقول لك مولاي اركب للموعد. فبادرت إلى الركوب معه، وقلت أين ركب مولاك؟ قال إلى الصحراء، واشتد وقع المطر، فقال: بادر بنا حتى نستتر من هذا المطر مع مولاي، فإنه ينتظرنا بأعلى تل لا يصيبه

ص: 28

فيه المطر. قلت وكيف عمل؟ قال أقبل إلى السماء أول ما بدا السحاب الأسود، وهو يتكلم بما لا أفهم ثم أخذ السوط، فأدار به في موضع ستنظر إليه، وإذا هو على تل بعيد عن البلد نصف فرسخ، فأتيته فإذا هو على التل، ولم يصبه من ذلك المطر شيء، وقد خضت في الماء إلى ركبة الفرس، والمطر في أشد ما يكون، ونظرت إلى نحو مائتي ذراع في مثلها من ذلك التل ما فيه قطرة مطر، فسلمت عليه، فرد على السلام. فقلت: أبسط يديك أشهد أنك رسول الله. . . فبسط يده فبايعته بيعة الإقرار بنبوته ثم قال:

أيَّ محل ارتقى؟

أيّ عظم أتقى؟

وكلُّ ما قد خلق الل

هـ وما لم يخلق

مُحتقرُ في همتي

ص: 29

.. كشعرة في مَفْرق!

وأخذت بيعته لأهلي، ثم صح بعد ذلك أن البيعة عمت كل مدينة في الشام، وذلك بأصغر حيلة تعلمها من بعض العرب وهي صدحة المطر يصرفه بها عن أي مكان أحب بعد أن يحوي بعصاً، وينفث في الصدحة التي لهم.

قال أبو عبد الله: وقد رأيت كثيراً منهم بالسكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون هذا، ولا يتعاظمونه، حتى إن أحدهم يصدح عن غنمه وإبله. وعن القرية فلا يصيبها شيء من المطر، وهو ضرب من السحر. وسألت المتنبي بعد ذلك هل دخلت السكون؟ قال: نعم أما سمعت قولي من قصيدتي التي أولها

مُلثَّ القَطر أعْطشْها ربُوعا

وإلاّ فأسْقها السمَّ النقيعا

أمُنْسيَّ السَّكونَ وحَضْرموتاً

ووالدتي وكِندةَ والسَّبيعا

ص: 30

فقلت: من ثم استفاد ما جوزه على طغام أهل الشام.

ومن كلامه الذي كان يزعم أنه قرآن أنزل عليه:) والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار امض على سننك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين؛ فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضل عن السبيل (. ومما كان يمخرق به على أهل البادية أنه كان مشاء قوياً على السير، يسير سيراً لا غاية بعده، وكان عارفاً بالفلوات، ومواقع المياه، ومحال العرب بها. وكان يسير من حلة إلى حلة بالبادية، وبينهما مسيرة أربعة أيام، فيأتي ماء، فيغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم يأتي أهل هذه الحلة فيخبرهم عما حدث في تلك الحلة التي فارقها ويوهم

ص: 31

أن الأرض تطوى له.

وسئل في تلك الأيام عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبر بنبوتي حيث قال: أنا لا نبي بعدي وأنا اسمي في السماء " لا ".

وعلى ذكر قرآن المتنبي نذكر ما قيل من أن أبا العلاء المعري عارض القرآن بكتاب وعنونه) بالفصول والغايات في مجاراة السور والآيات (فقيل له: ما هذا إلا جيد إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن. فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة. وعند ذلك انظروا كيف يكون.

قال الباخرزي في الدمية: أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي ضرير ماله في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج، وقد طال في ظلال الإسلام آناؤه، لكن ربما يترشح بالإلحاد إناؤه؛ وعندنا خبر بصره،

ص: 32

والله أعلم ببصيرته، والمطلع على سريرته، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن وعنونه بالفصول والغايات، ومجاراة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الخيانة وجذ تلك الهوسات كما تجذ العير الصليانة حتى قال القاضي أبو جعفر:

كلبُ عوى بمعرة النعمان

لما خلا عن ربِقْة الإيمان

أمعرةَ النعمان ما أنجبتِ إذ

أخرجتِ منك مَعَرة العُمْيان

ومما ظهر من قرآن أبي العلاء: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل بين الشرط ومطالع سهيل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل تنج وما إخالك بناج.

قال ابن سنان: وهذا الكتاب

ص: 33

إذا تأمله العاقل علم أنه بعيد عن المعارضة، وهو بمعزل عن التشبيه بنظم القرآن العزيز والمناقضة، وقد وضعه على حروف المعجم، ففي كل حرف فصول وغايات، فالغاية مثل قوله بناج، والفصل ما يتقدم الغاية، فيذكر فصلا يتضمن التمجيد والمواعظ، ويختمه بالغاية على حروف المعجم مثل تاج وراج وحاج، كالمخمسات والموشحات، وهذه فصول منه، وقد انتقدت عليه.

لبك نبيك الصادق، فأنظر ما يخبرنك ولا تخالفنه، وعليك سجية المؤمن، وشاكه فنه، ما أثق بخبر ينفيه اللب. غير الكلم بغض وحب. اتبع معقولك فإنه يهديك، ولا تكن شر تبيع. كيف أسفك على الغصون الناضرة هزها نسيم لطف فذبلن. لو صدقنا المخبر لوقع الجد، ولكن بان كذبه لمن يعقل، فما أطاق الناس الكلف، وبالله الواحد أتعوذ من شر الألسنة وما أجلن: من زعم أنه قد هدى فذلك هو المرء المتحير. ما لعماك لحاه الله مانت الصمد أخباره: أخبرك زعيم عن ربك فخطت بالكذب أخباره؛ من ربح من سوق الكذب فذلك المعروف خساره: قد غبر قليل العمر، وذهب في الباطل ساره أجعل معقولك دليلك. وأبرد بالنسك غليلك، وأحذر أن تهضم دليلك. رب حديث يستمع والعقل يخبرك ضده. عز مصور الأمم لم يثبت الفكر نده. العقل نبئ، والخاطر خبئ والنظر ربئ، ونور الله لهذه الثلاثة معين. القوة بك إله الجبارين. أخبر عنك فسمعت الخبر، وكيف يظهر سرك إلى المخلوقين، ومنحتني حسا يشهد أن أخبارهم أباطيل، فإذا صدقتها ألغيت ما منتحتنيه وإن كذبتها أفمعاقبي أنت برد ما دفعه المعقول؟ كيف أصدق ما نقله أبن دأب. نستغفرك وأنت الواحد، ما لعظمتك جاحد. أخبر بعض الناس عنك فكذب؛ وأنت أهل العظمة ما أوجه الكذبة وضاء. ما نقدر على ما يرضيك. لأنا لا نعرف غرضك، لكن العقل يخبر أن فعل الخير لوجهك. إن كتب كاتب على فليحفظ عن لساني وشفتي، أني أقر بالله فلا أجحده، وأستغفره وأوحده، وأشهد على أن كان ذنبي بخطأ وتفريط لا أحسم أملي من عفو الله العظيم، وأزدري نفسي من دون الأنفس، وقل ما أنظر إلى البشر بازدراء، ما أنطق وما أقول، في شأن الصمد ضلت العقول، ما يئست من كرمك ولا أبلست، ألست عبدك ألست؟ بلى، ولكني مسيء، فلا إله إلا أنت استغنيت بمعرفتك عن كل السفراء؛ الحمد لك إذ لم تنشر لي حديثاً في البشر كحديث العبري إذ فعل مع الكنة فعل غير سري. تلتمس. من ربك، وليس في الأنوار المشرقة شيء أعظم إنارة من حجاك.

ولما اشتهر أمره وشاع ذكره، وخرج بأرض سلمية من عمل حمص في بني عدي قبض عليه أبن على الهاشمي في قرية يقال لها كوتكين، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، فقال المتنبي:

زعم المقيم بكوتكين بأنه

من آل هاشم بن عبد مناف

فأجبتُه

ص: 34

مذ صرتَ من أبنائهم

صارت قيودُهم من الصَّفصاف

ولما صار معتقلاً في الحبس كتب إلى الوالي:

بيدي أيها الأمير الأريبُ

لا لشيء إلا لأني غريبُ

أو لأمّ لها إذا ذكرتني

دم قُلب بدمعِ عينٍ يذوب

إن أكن قبل أن رأيتك أخطأ

ت فإني على يديك أتوب

عائبُ عابني لديك ومنه

خُلقتْ في ذوي العيوب العيوبُ

قيل: كان للوالي الذي حبس المتنبي ولد صغير فسمع به، فدخل لينظره، فرآه منزعجاً من القيود مضطرباً، فقال له: اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل: وهذه موضوعة، لأنها نقلت عن أحد أبناء الخلفاء العباسية، وكتب إليه من السجن قصيدة يستعطفه بها أولها:

ص: 35

أيا خَدّد الله وردَ الخدودِ

وقدّ قدودَ الحسانِ القُدودِ

يقول في أثنائها في استعطاف ذلك الأمير والتنصل إليه مما اتُّهم به:

لقد حال بالسيف دون الوعيدِ

وحالت عطاياه دون الوعودِ

فأنجم أموالهِ في النحوسِ

وأنجم سُؤّاله في السعود

ولو لم أخفْ غيرَ أعدائهِ

عليه لَبشرتُه بالخلود

قيل: ولما وصل الوالي إلى هذا البيت وهو:

وبيض مسافرة لا يقم

ن لا في الرّقاب ولا في الغُمودِ

قال: لقد تصبب عرقا، وتقلب أرقاً حتى استنبط هذا المغني من قول أبي بكر النحوي المعروف ببرمة وهو:

ص: 36

وبيض تسافر ما إن تقيم

لا في الرقاب ولا في القُرُبْ

بطيء رضاهن لكنها

غداة اللقاء سِراعُ الغضبْ

إلى أن قال:

أمالك رقيّ وَمنْ شأنُه

هبات اللُّجَيْن وعتقُ العبيدِ

دعوتُك عند انقطاع الرجا

ء والموت مني كحبل الوريد

دعوتك لما براني البلى

وأوهن رجليّ ثِقْلُ الحديد

وقد كان مشيهُما في النعالُ

فقد صار مشيهُما في القيود

وكنت من الناس في مَحْفل

فها أنا في محفل من قرود

تعجل فيّ وجوبَ الحدود

وحِدّي قبل وجوب السجودِ

أي إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب علىّ الصلاة بعد ويجوز أن يكون صغر أمر نفسه

ص: 37

عند الوالي، لأن من كان ضبياً لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف. ومنها:

وقيل عدوتَ على العالمي

ن بين ولادي وبين القُعودِ

فمالكَ تقبلُ زورَ الكلام

وقدرُ الشهادة قدرُ الشهود

فلا تسمعنّ من الكاذبين

ولا تعبأنّ بِمحك اليهود

وكن فارقاً بين دعوى أردت

ودعوى فعلت بشأو بعيد

وفي جود كفيك ما جُدتَ لي

بنفسي ولو كنتُ أشقى ثمودِ

وكتبت إلي أبي دلف سجان الوالي الممدوح بالقصيدة السابقة وقد بره في السجن:

أهونِ بطول الثَّواء والتَّلفِ

والسجنِ والقيد يا أبا دلفِ

غيرَ اختيار قبلتُ بِرَّك لي

والجوعُ يُرضي الأسودَ بالجيِف

ص: 38

كن أيَّها السجن شئتَ فقد

وطنتُ للموت نفسَ مُعتَرف

لو كان سكناي فيكَ منقصةً

لم يكن الدُّر ساكنَ الصَّدفِ

والبيت الثاني مأخوذ من قول أبي على البصير:

ولكنّ البلاد إذا اقشعرت

وصوَّحَ نَبتُها رُعِىَ الهشيمُ

ومنه أخذ المهلبي قوله:

وما كنتَ إلا كلحم مَيْتٍ

دعا إلى أكله اضطرارُ

والبيت الرابع يشابه قول أبي نصر الخبزأرزي:

حصلتُ منكم على ما ليس يُقنعني

وكيف يُقنعُ سوءُ الكيل والحشَفُ

وليس سُكنايَ نقصاناً لمنزلتي

فيكم كما الدُّر لا يُزرى به الصدفُ

وأحسن ما قاله مسجون قولُ علي بن الجهم لما حبسه المتوكل:

ص: 39

قالتحُبستَ فقلتُ ليس بضائري

حبسي وأيُّ مهند لا يُغمَد

أوما رأيت الليثَ بألف غِيلَهُ

كِبْراً وأوباشُ السباع تَرَدَّدُ

والنار في أحجارها مخبوءةُ

لا تُصطْلي إن لم تُثرها الأزنُدُ

والغيث يَحْظُره فما يُرى

إلا وَرَيّقةُ يُراحُ ويَرْعُدُ

والبدر يدركه الظلام فتنجلي

أيامه فكأنه متجدد

والزاعِبية لا يقيم كعوبها

إلا الثقافُ وجذوة تتوقد

غِيَرُ الليالي بادياتُ عُوَّد

والمال عارية يفادُ فَيَنفذ

لا يُؤسنَّك من تَفَرُّج كرْبةٍ

خطب أتاك به الزمانُ الأنكد

فلكلّ حال مُعقِبُ ولربما

أجلى لك المكروهُ عما يُحْمدُ

كم من عليل قد تخطاه الردى

فنجا ومات طبيبةُ والعُوّدْ

صبراً فإن اليوم يُعقبه غَدُ

ويدُ الخلافة لا تطاولها يدُ

ص: 40

والحبسُ ما لم تغشهُ لدنية

شنعاءَ نعم المنزل المُتَردَّد

لو لم يكن في الحبس إلا أنه

لا تستذلك بالحجاب الأعبدُ

بيت يُجدّد للكريم كرامة

وتُزار فيه ولا تزور وتُقْصد

ومنها:

أمن السَّويَّة يا بنَ عمّ محمدٍ

خصمُ تُقربُه وآخرُ تُبعدُ

إن الذين سعوا إليك بباطل

أعداء نعمتك التي لا تُجْحدُ

شهدوا وغبْنا عنهم وتحكموا

فينا وليس كغائب مَنْ يشهدُ

لو يجمع الخُصْمانعندك مجلسُ

يوماً لبان لك الطريقُ الأقصدُ

والشمس لولا أنها محجوبة

عن ناظريك لما أضاء الفرقد

وقال عاصم بن محمد الكاتب لما حبسه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف:

ص: 41

قالوا حُبستَ فقلت خطب أنكدُ

أنحى عليّ به الزمانُ المُرْصدُ

لو كنتُ حرَّا كان سربي مطلقاً

ما كنت أحْبَس عَنوة وأقيد

لو كنتُ كالسيف المهند لم يكن

وقتَ الكريهة والشدائد يُغمدُ

لو كنتُ كالليث الهصور لما رعتْ

فيّ الذئابُ وجذوتي تتوقد

من قال إن الحبس بيت كرامة

فمكابرُ في قوله مُتجلد

ما الحبسُ إلا بيتُ كل مهانة

ومذلة ومكارة لا تَنفذَ

إن زارني فيه العدوُّ فشامتُ

يُبدي التوجع تارة وُيفنّد

أو زارني فيه الصديق فموجَعُ

يُذري الدموع بزفرة تَتردّد

يكفيك أن الحبس بيتُ لا ترى

أحداً عليه من الخلائق يُحسد

تمضي الليالي لا أذوق لرقدة

طَعما وكيف حياة من لا يَرْقد؟

في مُطْبق فيه النهار مُشاكلُ

للّيلِ والظلمات فيه سَرْمَد

قال أبو علي: قيل للمتنبي على من

ص: 42

تنبأت؟ قال على الشعراء. فقيل: لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ قال: هذا البيت:

ومِن نكد الدنيا على الحرّ أن يَرى

عَدُوّاً له ما من صداقته بُدُّ

وحكى أبو الفتح عثمان بن جني قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبتُ بالمتنبي لقولي:

أنا تِرْبُ النَّدى ورَبُّ القوافي

وسمام العدَا وغَيظُ الحسودِ

أنا في أمَّة تداركها الل

هُ غريبُ كصالح في ثَمودِ

ما مُقامي بأرضِ نَحْلَةَ إلا

كمقام المسيح بين اليَهودِ

قال أبو العلاء المعري في رسالة الغفران: وحدثت أن المتنبي كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب، قال: هو من النبوة أي المرتفع من الأرض، وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه من هو دونه؛ ثم قال: وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كان متألهاً ومثل غيره من الناس متدلهاً. فمن ذلك قوله:

ولا قابلاً إلا لخالقه حُكْما

وقوله:

ما أقدر اللهَ أن يُخْزي بَريَّته

ولا يُصَدَّقُ قولاً في الذي زعموا

ثم قال: وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبي عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً، وإنما يجعل ذلك تزيناً.

ثم قال: وحدثت أن المتنبي كان يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى ركعتين، وذلك في وقت العصر. ويجوز أنه كان على سفر، وأن القصر له جائز.

ثم قال: وحدثت عنه حديثاً معناه أنه لما حصل في بني عدي، وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له وقد تبينوا دعواه: هاهنا ناقة صعبة فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل، فتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشى الممسحة وأنه ورد بها الحلة، وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.

وحدثت أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية؛ وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشدها، غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه، فبرئ الجرح فصاروا يعتقدون في آبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: هو كمحي الأموات.

وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، وأراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفي الأمر على ما ذكر.

ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.

وقال له بعض الأكابر وهو في مدينة السلام: أخبرني من أثق به أنك قلت: أنا نبي، فقال: الذي قلته: أنا أحمد النبي.

قال أبو عبد الله ياقوت الرومي: ولم يزل المتنبي بعد خروجه من الاعتقال في خمول

ص: 43

وضعف حال في بلاد الشام، حتى اتصل بأبي العشائر ومدحه بعدة قصائد أولها:

أتُراها لكثرة العُشَّاق

تحسَب الدمعَ خلْقَةً في المآقي

كيفَ تَرْثى التَّي تَرَى كُلَّ جفن

راءها غيرَ جَفْنها غيرَ راقي

أنتِ منا فتنتِ نفسكِ لكنّ

ك عُوفيتِ من ضَنى واشتياقِ

حُلتِ دون المزارِ فاليومَ لو زُرْ

ت لحالِ النحولُ دون العِناقِ

ومنها في المديح::

وتكاد الظُّبي لما عَوَّدوها

تَنْتَضي نفسها إلى الأعناقْ

وإذا أشفق الفوارسُ من وَقْ

عِ القَنا أشفقوا من الإشفاقِ

ومنها القصيدة التي أولها:

لا تَحْسبوا رَبْعكُمْ ولا طَلَلَه

أولَ حَيَّ فِراقُكم قَتَلةْ

قد تَلفَتْ قبلَهُ النفوسُ بِكمُ

وأكثَرتْ في هواكمُ العَذَلهْ

ص: 44

ومنها في المديح:

مسْتَحييَّا من أبي العشائر أنْ

أسْحَبَ في غير أرضه حُلَله

أسحَبُهَا عندَه لدى مَلك

ثيابُهُ مِنْ جَليسه خجلَهْ

وأراد أبو العشائر سفراً فقال عند وداعه ارتجالا قصيدة أولها:

الناسُ ما لم يروكَ أشباهُ

والدهرُ لفظ وأنتَ معناهُ

والجودُ عينُ وفيك ناظره

والناسُ باعُ وفيك يُمناهُ

ومنها:

تُنْشِد أثْوابنا مدائِحَه

بألسن ما لهنَّ أفواه

إذا مرَرْنا عَلَى الأصَمّ بها

أغنتهُ عن مسْمعه عَيْنَاهُ

وأصل هذا المعنى لنُصْيب حيث قال:

فَعادوا وأثْنوْا بالَّذي أنت أهلُهُ

ولو سَكَتُوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ

وتبعه مُعَوَّج الرَّقي في قوله: قد أتتني من أبي العبَّ - اس يومَ المِهْرجانِ

ص: 45

خلِعُ تُثْنى عليهِ الدهْ - رَ مِنْ غيرِ لِسانِ وإذا تأمَّل المتأمل عَرَف الفرقَ بينهما وبين أبي الطيب.

ومنها:

سُبحانَ مَنْ خَارَ للَكواكب بالبُع

د ولو نُلْنَ كن جَدْواه

لو كان ضوء الشموسِ في يده

لصاغَهُ جودُه وأفناه

يا راحلاً كل مَنْ يُودعهُ

مُوَدَّعُ دينهَ ودنياهُ

إن كان فيما تَراهُ من كرم

فيكَ مزيدُ فزادكَ اللهُ

فأكرمه أبو العشائر، وعرف منزلته، وكان أبو العشائر والى إنطاكية من قبل سيف الدولة.

ولما قدم سيف الدولة إلى إنطاكية قدم المتنبي إليه، وأثنى عنده عليه، وعرفه منزلته من الشعر والأدب واشترط المتنبي علي سيف

ص: 46

الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد؛ وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه، فنسب إلى الجنون، ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط، وتطلع إلى ما يرد منه؛ وذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ولما أنشده قصيدته التي أولها:

وفاؤكما كالربع أشجَاهُ طاسِمُهْ

بأن تُسْعدا والدمْعُ أشفاهُ ساجمةْ

وما أنا إلا عاشِقُ كُل عاشقٍ

أعقُّ خليليْه الصفيين لائمِهْ

وقد يتزيّا بالهوى غيرُ أهِله

ويَستصْحِبُ الإنسانُ مَنْ لا يلائِمه

بَليِت بِليَ الأطلالِ إنْ لم أقفُ بها

وقوف شحيح ضاعَ في التْرب خاتمة

قيل: كان أبو العلاء المعري إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبو نواس كذا، قال البحتري كذا، قال أبو

ص: 47

تمام كذا، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعر كذا، تعظيما له. فقيل له يوماً: لقد أسرفت في وصفك المتنبي، قال: أليس هو القائل:

بَليِت بِليَ الأطلال إنْ لم أقفْ بها

وٌقوفَ شحيح ضَاع في التُرْبِ خاتمهُ

فقيل له: كم قدر ما يقف الشحيح على الخاتم؟ قال: أربعين يوماً فقيل له: ومِن أين علمت ذلك؟ قال: سليمان بن داود عليهما السلام وقف على طلب الخاتم أربعين يوماً. فقيل له: ومن أين علمت أنه بخيل؟ قال: من قوله تعالى:) وَهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي (وما كان عليه أن يهَب الله لعباده أضعاف مُلْكه! ومنها:

كئيباً تَوَقَّاني العواذُل في الهَوَى

كما يَتَوقَّى رَيَّض الخيلِ حازمُهْ

قفيِ تَغْرَمِ الأولَى من اللَّحظ مُهجتي

بثانية والمتلفُ الشيء غارمُهْ

ص: 48

وهذا من قول الخبزأرزي:

إلى كم أذلّ وأستعطفُ

وأنت تجورُ ولا تُنْصفُ

أيا يوسَف الحسنِ صِلْ مُدْنفاً

مدامِعُهُ لم تَزَلْ تَذْرِفُ

أعيذكَ مِنْ ظالم غاشم

سِوى الخلفِ في الوِعد لا يعرفُ

ولي مهجةُ أنت أتلفتهاَ

عليكَ غرامةُ ما تُتْلفُ

وبيت المتنبي فيه زيادة أكسبته حسناً.

ومنها:

سَقَاكِ وحيَّانا بِكِ اللهُ إنما

على العيسِ نَوْرُ والخدُور كُماْمُه

وما حاجةُ الأظعانِ حولك في الدُّجى

إلى قَمَرِ ما واجدُ لك عادمُه

وقال البُحْتُريّ في هذا المعنى:

أضَرَّتْ بضوءِ البدرِ والبدرُ طالعُ

وقامتْ مقامَ البدرِ لما تَغَيَّبا

وقال الخبزأرزي في هذا المعنى:

ص: 49

وما حاجة الرَّكبْ السُّراة إذا بَدَا

لهم وجهُهُ ليلا إلى طَلْعة البدر

وأنشد في مجلس المعتمد بن عباد اللخمي صاحب إشبيلية أعادها الله كما كانت قوله منها:

إذا ظفرتْ منكِ العيونُ بنظرة

أثابَ بها مُعْي المَطيّ ورَازمه

فجعل المعتمد يردده استحساناً له، وكان في مجلسه أبو محمد عبد الجليل ابن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالاً:

لئن حاد شعر ابن الحسين فإنما

تجيد العطايا

تنبأ عُجباً بالقريض ولو دَرَى

بأنك تَرْوي شعرَه لتألَّها

ومنها في المديح:

له عسكراً خيل وطير إذا رَمى

بها عسكراً لم تَبق إلا جَمَاجِمُهْ

أجلتها من كل طاغ ثيابهُ

ومَوْطئهاُ من كل باغ ملاغِمُهْ

ص: 50

فقد ملَّ ضوءُ الصبح مما تُغيرُه

وملَّ سوادُ الليل مما تزاحمه

ومل القنا مما تَدقّ صدورَهُ

وملَّ حديدُ الهند مما تلاطِمُهُ

سَحابُ مِن العِقْبانِ يِزحف تحتها

سحابُ إذا استسقت سقتها صوارمُه

واعترض على هذا البيت. أو سعيد العميدي، حيث قال:" لم يسمع بأن السحابة تسقى ما فوقها " وجوابه ظاهر. وهذا معنى حوى طرفي الإعجاب والإغراب وقد تجاذبته أفكار الشعراء، فمما جاء منه قول النابغة:

إذا ما غَزَا بالجيش حَلّق فوقهم

عَصَائب طير تهتدي بعصائبِ

جوانحَ قد أيقنّ أنّ قبيلَهُ

إذا ما التقى الجمعان أولُ غَالبِ

وقال أبو نواس:

ص: 51

يتوخى الطير غَدْوَتَه

ثِقة باللَّحْمِ مِن جَزَرةْ

وقال مسلم بن الوليد:

قد عَوَّد الطير عادات وثقْن به

فهنَّ يَتْبَعْنهُ في كل مُرْتحل

وقد كرَّره أبو تمام في شعره؛ فمما جاء له منه:

وقد ظُلَّلتْ عِقْبانُ أعلامِهِ ضُحى

بعقبان طير في الدماء نواهلِ

أقامتْ مع الرَّاياتِ حتى كأنها

من الجيشِ إلا أنها لم تقاتلِ

وقال

إذا ذمت الأعداءُ سوءَ صباحِها

فليس يؤدّي شكرَها الذئب والنسر

وقد ذكر هذا المعنى قديماً وحديثاً وأورده بضروب من العبارات غير هؤلاء إلا أنهم جاءوا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السَّبك أو من جهة الإيجاز في اللفظ، ولم أر أحداً أغرب في هذا الطريق مع اختلاف مقصده إليها إلا مسلم بن الوليد، فقال:

ص: 52

أشْرَبْتَ أرواحَ العِدَا وقلوبها

خوفاً فأنُفسُها إليكَ تطيرُ

لو حاكمتْك فطالبتكَ بذحْلها

شهدتَ عليك ثعالبُ ونُسُور

وكذلك فعل أبو الطيب، فإنه لما انتهى الأمر إليه سلك هذه الطريقة التي سلكها من تقدمه، إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه، فأغرب وأبدع، وحاز الإحسان بجملته، فصار كأنه المبتدع لهذا المعنى دون غيره. فمما قال فيه:

يَفَدىّ أتمُّ الطير عمراً سلاحَهُ

نسوُر الملا أحداثُها والقشاعِمُ

وما ضَرها خَلقْ بغير مَخالب

وقَدْ خُلِقَتْ أسيافهُ والقوائمُ

وقال في موضع آخر:

وذي لَجَب لا ذو الجناح أمامه

بناج ولا الوحشُ المثارُ بسالم

تمر عليه الشمسُ وهي ضعيفة

تطالعُهُ من بين ريش القشاعمِ

ص: 53

إذا ضَوْءها لاقى مِنَ الطير فُرْجةً

تَدَوَّر فوق البَيْض مثلَ الدراهمِ

وهذه من أعاجيب أبي الطيب المشهودة، ولو لم يكن له من الإحسان في شعره غيرها لا ستحق بها فضيلة التقديم.

وقد تصرف في هذا المعنى أبو عامر بن أبي بن شهيد الأندلسي، فقال:

وتدري سِباعُ الطَّير إن كُماتَهُ

إذا لَقْيت صِيدَ الكماةَ سِباعُ

تَطيُر جِياعاً فوقه وتُردُّها

ظُبَاه إلى الأوكار وهْي شَباعُ

وكذلك أخذه أبو بكر العطار. فغربه بعد الابتذال، فقال:

تظل سباعُ الطير عاكفة بهمْ

على جُثَث قد سَلَّ أنفسها الذُعْرُ

وقد عَوَّضتهم مِنْ قبور حواصلاً

فيا من رأى ميتا يطير به قَبْرُ

وآخرُ القصيدة:

تُحاربُه الأعداءُ وهي عباده

وتُدَّ خر الأموالُ وهْي غنائمهْ

ويستكبرون الدهرَ والدهرُ دونهُ

ويستعظمون الموتَ والموت خادمهْ

وإن الذي سمَّى عليَّا لمنصِفُ

وإن الذي سَمَّاه سيفاً لظالمه

وما كُلّ سيف يقطع حدُّه

وتقطع لَزْبات الزّمان مكارمُه

حسن موقعه عنده وقربه وأجازه الجوائز السنية، ومالت نفسه إليه، وأحبه، فسلمه إلى الرواض، فعلموه الفروسية

ص: 54

والطراد، والمثاقفة.

وصحبسيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم، ومنها غزوة الفنا التي لم ينج منها إلا سيف الدولة بنفسه، وستة أنفار أحدهم المتنبي، وأخذت الطرق عليهم الروم، فجرد سيف الدولة سيفه، وحمل على العسكر، وخرق الصفوف، وبدد الألوف. وحكى الرقي عن سيف الدولة قال: كان المتنبي يسوق فرسه، فاعتقلت بعمامته. طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان فكان كلما جرى الفرس انتشرت العمامة، وتخيل المتنبي أن الروم قد ظفرت به، فكان يصيح الأمان يا علج قال سيف الدولة: فهتفت به وقلت: أيما علج؟ هذه شجرة علقت بعمامتك فود أن الأرض غيبته، فقال له ابن خالويه: أيها الأمير أليس

ص: 55

أن ثبت معك حتى بقيت في ستة أنفار تكفيه هذه الفضيلة؟ وحكى أن السري الرفاء حين قصد سيف الدولة أنشده بديهاً:

إني رأيتُكَ جالساً في مجلس

قعد الملوكُ به لدَيْك وقامُوا

فكأنَّك الدهرُ المخيطُ عليهمُ

وكأنهم من حولك الأيامُ

ثم أنشده بعد ذلك ما كان قاله فيه من الشعر، وبعد ثلاثة أيام أنشده المتنبي قصيدة قافية، فأمر له بفرس وجارية، وأول القصيدة:

أيدري الربعُ أيَّ دم أراقا

وأيَّ قلوب هذا الركب شاقاَ

لنا ولأهْله أبداً قلوبُ

تَلاقَى في جسوم ما تَلَاقى

وما عَفتِ الرياحُ له محلاّ

عفاهُ مَنْ حدا بهمُ وسَاقَا

ص: 56

فليتَ هوى الأحبة كان عَدْلا

فحمَّل كلَّ قلب ما أطاقَا

نظرتُ إليهمُ شَكْري

فصارت كلها للدمع ماقا

وقد أخذ التمامَ البدْرُ فيهمْ

وأعطاني من السَّقَم المحاقا

وبين الفَرْع والقدمين نُورُ

يقود بلا أزمَّتها النَّيَاقاَ

وطَرْفُ إنْ سَقى العُشَّاق كأساً

بها نَقْصُ سَقَانيِها دِهاقَا

قال فلما قال:

وخَصْرُ تثبتُ الأبصارُ فيه

كأنَّ عليه منْ حَدَقٍ نِطَاقا

فقال السرى هذا والله معنى ما قدر عليه المتقدمون. وما يقال من أنه حم في الحال حسداً، وتحامل إلى منزله، ومات بعد ثلاث أيام، فلا صحة له، لأن السري مات بعد المتنبي وسيف الدولة. على أن السري قد استعمل هذا المعنى بقوله:

أحاطتْ عُيون العاشقين بخَصْرِه

فهنَّ له دون النطاقِ نِطَاقُ

ص: 57

وحكى صاحب المفاوضة قال: كان سيف الدولة يميل إلى أبي العباس النامي الشاعر ميلاً شديداً إلى أن جاءه المتنبي، فمال عنه إليه، فغاظ ذلك أبا العباس، فلما كان ذات يوم خلا به وعاتبه وقال: أيها الأمير، لم تفضل على ابن عيدان السقا؟ فأمسك سيف الدولة عن جوابه، فلج وألح، وطالبه بالجواب فقال: لأنك لا تحسن أن تقول كقوله:

يعودُ من كل فتح غيرَ مفتخرٍ

وقد أغذَّ إليه غير محتفلٍ

فنهض من بين يديه مُغْضَباً، واعتقد ألا يمدحه أبداً. وأبو العباس هذا هو القائل: كان قد بقي في الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون سبقته إلى معنيين قالهما ما سبق إليهما. أما أحدهما فقوله:

ص: 58

رَمَاني الدَّهُر بالأرزاءِ حتَّى

فُؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرتِ النصالُ على النّصالِ

والآخر قوله:

في جحفلستر العيون غُبارهُ

فكأنما يُبْصرنَ بالآذانِ

واستنشد سيف الدولة أبا الطيب يوما قصيدته التي مدحه بها، وقد سار لبناء الحدث، وذكر إيقاعه بالدُّمُستق عليها وكشفه له، وقتله خلقاً من أصحابه وأسره صهره وابن بنته، وإقامته على الحدث إلى أن بناها، وذلك في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وأولها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ

وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ

وتعظُمُ في عينِ الصغير صِغارُها

وتصغر في عين العظيم العظائمُ

ص: 59

ومنها:

هل الحَدَث الحمراء تعرفُ لونَها

وتعلمُ أيُّ الساقِيَينْ الغمائم

سقَتْها الغَمامُ الغُرُّ قبل نزولهِ

فلما دَنَا منها سقتها الجماجمُ

بناها فأعْلىوالقنا يقرعُ القَنَا

وموجُ المنايا حولها متلاطمُ

وكان بها مثلُ الجنون فأصبحتْ

ومن جُثَث القتلى عليها تمائم

طَريدةُ دهرٍ ساقها فَرددْتها

على الدين بالخَطّى والدهر راغِم

تُفيتُ اللَّيالي كلَّ شيء أخَذْتَه

وهن لما يأخذنَ منك غوارم

إذا كان ما تنويه فعلا مضارعاً

مضى قبل أن تُلْقَى عليه الجوازم

وكيف ترجَّى الرومُ والروسُ هدمَها

وذا الطعنُ لها ودعائمُ

وقد حاكموها والمنايا حواكمُ

فما مات مظلومُ ولا عاش ظالمُ

أتَوْك يَجُرُّون الحديدَ كأنما

سَرَوْا بجياد ما لهن قوائمُ

ص: 60

إذا بَرَقوا لم تُعْرف البيضُ منهمُ

ثيابُهُمُ من مثلها والعمائمُ

خَميِسُ بشرق الأرض والغرب زحفهُ

وفي أذنُ الجوزاء منه زَمازمُ

تجمَّع فيه كلُّ لِسْن وأمَّة

فما يُفْهمُ الحُدَّاثَ إلاّ التَّراجمُ

فلله وقتُ ذَوَّبَ الغشَّ نارُهُ

فلم يَبْق إلا صَارمُ أو ضُبَارمُ

تقطع ما لا يَقْطَعُ الدرْعَ والقنا

وفرَّ من الفُرْسان من لا يُصادم

وهذه الأبيات الأخيرة من أحسن ما قيل في الجيوش الكثيرة، وكذلك ورد قول أبي تمام من قصيدة يمدح بها المأمون:

فنهضتَ تسحبُ ذيلَ جيش ساقهُ

حُسنُ اليقين وقادهُ الإقدامُ

فنهضتَ تسحبُ ذيلَ جيش ساقَهُ

ولهم بمُنْخَرق الفضاء زحامُ

ملأ المَلَا عُصَباً فكاد بأن يُرَى

لا خَلْفَ فيه ولا لَه قُدَّامُ

يقال: اثعنجرت العين دمعاً، واثعنجر دمعها، وهو انصباب الدمع وتتابعه، ولجب كثير الأصوات، والسلاف: المتقدمون، والملا مقصوراً: ما اتسع من الأرض.

وقال النابغة في عظم الجيش:

بَحْر يظل له الفضاء مُعَضَّلا

يَذَر الإكَام كأنهنَّ صحاريِ

ومعضل: من قولهم عضلت المرأة عند الولادة: إذا عسر خروج الولد.

وقال مالك المازني:

بجيش لُهَام يشغلُ الأرضَ جمعُهُ

على الطيَّر حتى ما يَجدن منازلَا

وقال البحتري:

بجمع تَرَى فيه النهارَ قَبيلةً

إذا سار فيه والظلامَ قبائلاً

وقال سَلم الخاسر:

وكتائب تغشى العُيون إذا جَرَى

مَاءُ الحديدُ عليهمُ الرَّجْرَاجُ

وتفرقت زُرْقُ الأسنة فيهمُ

تسقى الحنايا ما لهنَّ مِزَاجُ

نزلتْ نجومُ الليل فوق رءوسهم

ولكل رأس كوكبُ وَهَّاجُ

وقال مُسلم:

في عسكر تشرَق الأرضُ الفضاءُ به

كالليل أنجُمُه القُضْبان والأسَلُ

ولما بلغ المتنبي إلى قوله:

وقفتَ وما في الموت شكُ لواقف

كأنك في جَفْن الرَّدى وهْوَ نائمُ

تمرّ بكَ الأبطال كَلَمى هَزيمةً

ووجهُك وضَّاحُ وثغرُكَ باسِمُ

قال سيف الدولة: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:

كأنَي لم أركبْ جَواداً للذَّة

ولم أتبطَّنْ كاعباً ذات خَلْخال

ص: 61

ولم أسْبأ الزَّقَّ الرَّوي ولمَ أقُلْ

لخيلي كَرُى كَرَّةً بعد إجفالِ

ينبغي له أن يقول:

كأني لم أركَبْ جواداً ولم أقُلْ

لخيليَ كُرَّى كَرة بعد إجفالِ

ولَمْ أسْبأ الزقَّ الرَّويَّ للذَّة

ولم أتَبَطَّنْ كاعباً ذَاتَ خَلْخال

وكذلك كان ينبغي أن تقول:

وقفتَ وما في الموت شَكُ لواقف

ووجْهك وضَّاحُ وثَغْرك باسمُ

تمر بك الأبطالَ كَلْمَي هزيمةً

كأنك في جَفْن الرَّدى وهْوَ نائِمُ

فقال المتنبي: إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعلم

ص: 62

جملته، والحائك يعلم تفاصيله، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، والشجاعة في منازلة الأعداء بالسماحة في شراء الخمر للأضياف للتضايف بين كل من الفريقين، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤماً، ولما كان وجه الجريح المنهزم عبوساً، وعينه باكية قلت:" ووجهك وضاح وثغرك باسم "، لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة كلامُه.

قال ابن جنتي: حدثني أبو علي الحسين بن أحمد الفسوي قال: خرجت بحلب أريد دار سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة، فحسر لثامه، فإذا المتنبي وأنشد:

نثرتُ رءُوساً بالأحَيْدب منهمُ

كما نُثرتْ فوق العَروس الدراهم

ثم قال: كيف هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت: ويحك: قد قتلتني يا رجل. قال ابن جني: فحكيت هذه الحكاية لأبي الطيب بمدينة السلام، فعرفها، وضحك منها.

قال ابن بابك: حضر المتنبي مجلس أب أحمد بن نصر البازيار، وزير سيف الدولة، وهناك أبو عبد الله بن خالويه النحوي، فتماريا في أشجع السلمي وأبي نواس البصري؛ فقال ابن خالويه: أشجع أشعر، إذا قال في هارون الرشيد:

ص: 63

وعلى عَدَّوك يابنَ عمّ محمد

رَصَدان: ضَوْءُ الصبح والإظلامُ

فإذا تَنَبَّه رُعْتَهُ وإذا غفاء

سَلَّتْ عليه سُيُوفَكَ الأحلامُ

فقال المتنبي: لأبي نواس ما هو أحسن في بني برمك:

لم يَظْلمِ الدهرُ إذ توالتْ

فيهمْ مُصيباتُهُ درِاكَا

كانوا يُجيرون مَنْ يُعاديِ

مِنهُ فعاداهُمْ لِذاكَا

قال عبد المحسن علي ابن كوجك: إن أباه حدثه قال: كنتُ بحضرة سيف الدولة وأبو الطيب اللغوي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالويه مع أبي الطيب اللغوي، والمتنبي ساكت، فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب، فتكلم فيها بما قوى حجة أبي الطيب اللغوي، وضعف قول ابن خالويه.

فأخرج من كمه مفتاحاً حديداً

ص: 64

ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: اسكت ويحك، فإنك أعجمي، وأصلك خوزي، فما لك وللعربية؟ فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسأل دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي من ذلك، إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولا ولا فعلا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه سيف الدولة.

قال ابن الدهان في المآخذ الكندية من المعاني الطائية: إنه قال أبو فراس لسيف الدولة: إن هذا المتمشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاث آلاف دينار، عن ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره، فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام، وعمل فيه، وكان المتنبي غائباً، وبلغته القصة فدخل على

ص: 65

سيف الدولة، وأنشد:

ألا ما لسيفِ الدولةِ عاتبا

فَداه الورى أمضَى السيوف مَضارباَ

ومالي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دونَه

تنائفَ لا أشتاقُهَا وسباسِبا

وقد كان يُدْني مَجْلسي من سمائه

أحادِثُ فيها بدرَها والكواكبا

حنانَيْك مسئولا ولبّيك داعياً

وحسبيَ موهوباً وحسبُكَ واهباً

أهذا جزاءُ الصدقِ إن كنتُ صادقاً

أهذا جزاء الكذْب إنْ كنتُ كاذبا

وإن كان ذنبي كلَّ ذنب فإنه

محا الذَّنب كُلَّ المحو من جاء تائباَ

فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيراً، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي، وانقطع يعمل القصيدة التي أولها:

ص: 66

وأحر قلباهُ مّمن قلبه شَبِمُ

ومَنْ بجسمي وحاليِ عنده سَقَمُ

وجاء وأنشدها، وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه كقوله:

مالي أكتَّمُ حُبَّا قدْ برى جَسدَي

وتدَّعى حبّ سيف الدّولة الأممِ

إن كان يجمعنا حُبُ لغُرَّته

فليت أنَّا بقدر الحبّ نَقتسمُ

قد زرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغْمَدَةُ

وقد نظرتُ إليه والسيوف دَمُ

فهم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة؛ لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:

يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي

فيكَ الخَصامُ وأنتَ الخَصْم والحَكمُ

فقال أبو فراس: مسخت قول دعبل واعيته وهو:

ص: 67

ولست أرجو انتصافاً منك ما ذَرَفَتْ

عيني دموعاً وأنتَ الخصمُ والحكمُ

فقال المتنبي:

أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً

أن تحَسَب الشحمَ فيمنْ شحمُه وَرَمُ

فعلم أبو فراس أنه يعنيه؛ فقال: ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟ فأستمر المتنبي في إنشاده ولم يرد إلى أن قال:

سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا

بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ

أنَا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعتْ كلماتي مَن به صمَمُ

فزاد ذلك غيظاً في أبي فراس، وقال: سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد في قوله:

ص: 68

أوضحتُ من طُرُق الآداب ما اشتكلتْ

دهراً وأظهرتُ إغرابا وإبداعاَ

حتى فتحتُ بإعجاز خُصِصْتُ به

للعُمْي والصَّمّ أبْصاراً وأسْماعاَ

ولما وصل إلى قوله:

والخيلُ والليلُ والبيْداء تعرفني

والحرب والضرب والقرطاسُ والقلمُ

قال أبو فراس: وما أبقيت للأمير، إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة، والرياسة والسماحة، تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير؟ أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النَّخَعي الكُوفّي المعروف بابن العريان العثماني، وهو:

أعاذلتني كم مَهمة قد قطعتُهُ

أليفَ وُحوش ساكناً غيرَ هائبِ

ص: 69

أنا ابن الفلا والطعنِ والضرب والسُّرَي

وجُرْد المذاكي والقَنا والقواضَبِ

حليمُ وَقورُ في البوادي وهيبتي

لها في قلب الناس بطشُ الكتائبِ

فقال المتنبي:

وما انتفاعُ أخيِ الدُّنيا بناظره

إذا استوتْ عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ

قال أبو فراس: وسرقت هذا من مَعْقل العِجْلي، وهو:

إذا لم أُميَّز بين نورٍ وظُلْمة

بعينيَّ فالعيَنان زُورُ وباطِلُ

ولمحمدبن أحمد بن أبي مرة المكي مثله، وهو:

إذا المرءُ لم يدركْ بعينيه ما يُرَى

فما الفرق بين العُمْى والبُصَرَاء

وغضبَ سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال:

ص: 70

إن كان سَركُمُ ما قال حاسدُنا

فما لجرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ

فقال أبو فراس: أخذت هذا من قول بشار:

إذا رضيتُمْ بأن نُجْفَي وسَرَّكُمُ

قَولُ الوُشاةِ فلا شَكْوَى ولا ضَجَر

ومثله لابن الرومي وهو:

إذا ما الفجائُع أكسبني

رضاك فما الدهرُ بالفاجع

فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قاله أبو فراس، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي، عنه في الحال، وأدناه إليه، وقَبَّل رأسه، وأجازه بألف دينار، ثم أردفهُ بألف أخرى، فقال المتنبي:

جاءْت دنانيرُك مختومةً

عاجلةً ألفاً على ألْفِ

أشْبَهها فعلُكَ في فَيْلَق

قلبتَهُ صفاًّ على صَفَّ

ص: 71

وفي آخر هذه القصيدة يقول:

شر البلاد مكانُ لا صديق بهِ

وشرُّ ما يكسبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

وشَرُّ ما قنصتْهُ راحتي قَنَصُ

شُهْبُ البُزَاة سواءُ فيه والرَّخَمُ

البيت الثاني مأخوذ من أبيات لصاحب العلوي الداعي بطبرستان:

أنا من جناب سواك في مَرْعَّى نَدِ

وأقيمُ عندكَ في جنابٍ مُجْدِبِ

إن كنتَ ذا بصر فميّزْ فضلَ ما

بين الفَراء وبين صيدِ الأرنبِ

فجعل موضع الفراء الباز الأشهب، وموضع الأرنب الرخم، الأول من قول محمد بن عيينة المهلبي من قصيدة أولها: دمية قفْرةُ وربعُ جديبُ

لا تثق بالكذوب واعلمْ يقينا

أن شر الرجال عندي الكذوبُ

ص: 72

لي وفاء مَحْضُ وكف جواد

وجلالُ باد ورأىُ صَليبُ

أخبثُ الأرض ما خلتْ من صديق

وأضرُّ الأفعال فعلُ مَعيبُ

وحكى أبو الفرج الببغاء قال: كان أبو الطيب يأنس بي، ويشكو من سيف الدولة، ويأمنني على غيبته له، وكانت الحال بيني وبينه عامرة دون باقي الشعراء، وكان سيف الدولة يغتاظ من تعاظمه، ويجفو عليه إذا كلمه، والمتنبي يجيبه في أكثر الأوقات، ويتغاضى في بعضها، قال أبو الفرج الببغاء: وأذكر ليلة وقد استدعى سيف بدرة فشقها بسكين الدواة، فمد أبو عبد الله ابن خالويه طيلسانه

ص: 73

فحثا فيه سيف الدولة صالحاً، ومددتُ ذيل دُرَّاعتي فحثا لي جانباً، والمتنبي حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا، فما فعل، فغاظه ذلك، فنثرها كلها على الغلمان، فلما رأى المتنبي أنها قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة، فداسوه وركبوه، وصارت عمامته في رقبته، فاستحى ومضت به ليلة عظيمة، وانصرف فخاطب أبو عبد الله بن خالويه سيف الدولة في ذلك، فقال: يتعاظم تلك العظمة، وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقتهُ.

وحكى أن أبا الطيب المتنبي دخل مجلس ابن العميد، وكان يستعرض سيوفاً، فلما نظرا أبا الطيب نهض

ص: 74

من مجلسه، وأجلسه في دسته، ثم قال له: اختر سيفاً من هذه السيوف، فاختار منها واحداً ثقيل الحلي، واختار ابن العميد غيره. فقال كل واحد منهما: سيفي الذي اخترته أجود، ثم اصطلحا على تجربتهما. فقال ابن العميد: فماذا نجربهما؟ قال أبو الطيب في الدنانير يؤتي بها، فينضد بعضها على بعض، ثم يضرب به، فإن قدها فهو قاطع؛ فأستدعى ابن العميد عشرين ديناراً فنضدت، ثم ضربها أبو الطيب فقدها، وتفرقت في المجلس، فقام من مجلسه المفخم يلتقط الدنانير

ص: 75

المتبددة فقال ابن العميد: ليلزم الشيخ مجلسه، فإن أحد الخدام يلتقطها ويأتي بها إليك. فقال: بل صاحب الحاجة أولى. وحكى أبو بكر الخوارزمي أن المتنبي كان قاعداً تحت قول الشاعر:

وأن أحقّ باللَّوم شاعرُ

يلومُ على البخل الرجالَ ويبخلُ

وإنما أعرب عن طريقته وعادته بقوله:

بليتُ بِلىَ الأطلال إنْ لم أقفْ بها

وقوفَ شحيح ضاع في التُّرب خاتَمهُ

قال: وحضرتُ عنده يوماً وقد أحضر مالُ بين يديه من صلات

ص: 76

سيف الدولة على حصير قد فرشه، فوزن وأعيد إلى الكيس، وتخللت قطعة كأصغر ما يكون خلال الحصير، فأكب عليها بمجامعه يعالج ليستنقذها منه، واشتغل عن جلسائه حتى توصل إلى إظهارها، وأنشد قيس بن الخطيم:

تبدَّتْ لنا كالشمس تحت غمامةٍ

بَدَا حاجبُ منها وضَنَّتْ بحاجب

ثم استخرجها، فقال له بعض جلسائه: أما يكفيك ما في هذه الأكياس حتى أدميت إصبعك لأجل هذه القطعة؟ فقال: إنها تحضر المائدة.

وحكى علي بن حمزة البصري قال:

ص: 77

بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة؛ وتلك أنه ما كذب، ولا زني، ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال ذميمة؛ وتلك أنه ما صام، ولا صلى، ولا قرأ القرآن، وقال ابن فورجة في كتاب: التجني على أبي العلاء المعري، عن رجل من أهل الشام، كان يتوكل لأبي الطيب في داره يعرف بأبي سعيد قال: دعاني أبو الطيب يوماً ونحن بحلب، ولم أكن أعرف منه الميل إلى اللهو مع النساء ولا الغلمان فقال لي: أرأيت الغلام ذا الأصداغ الجالس إلى حانوت كذا من السوق؟ وكان

ص: 78

غلاماً وسيما فحاشا، فيما هو سبيله، فقلت: نعم أعرفه. قال: فامض وأتني به، واتخذ دعوة وأنفق وأكثر، وكنت أستطلع رأيه في جميع ما أنفق، فمضت واتخذت له ثلاثة ألوان من الأطمعة، وعدة صفحات من الحلوى، واستدعيت الغلام، فأجاب، وأنا متعجب من جميع ما أسمع منه، إذ لم تجر له عادة في مثله، فعاد أبو الطيب من دار سيف الدولة آخر النهار وقد حضر الغلام، وفرغ من اتخاذ الطعام، فأكلا وأنا ثالثهما، ثم جن الليل، فقدمت شمعة، ومرفع دفاتره،

ص: 79

وكانت تلك عادته كل ليلة، فقال: أحضر لضيفك شراباً، واقعد إلى جانبه ونادمه، ففعلت ما أمرني به. كل ذلك وعينه إلى الدفتر، يدرس ولا يلتفت إلينا إلا في حين بعد حين، فما شربنا إلا قليلاً حتى قال: افرش لضيفك، وافرش لنفسك، وبت ثالثنا، ولم أكن قبل ذلك أبايته في بيته؛ ففعلت وهو يدرس، حتى مضى من الليل أكثره، ثم أوى إلى فراشه ونام. فلما أصلحنا قلت له: ما يصنع؟ فقال احبه واصرفه فقلت له: وكم أعطيه؟ فأطرق ساعة؛ ثم قال: أعطه ثلاثمائة درهم.

ص: 80

فتعجبت من ذلك، ثم جسرت نفسي، فدنوت منه، وقلت له: إنه ممن يجيب بالشيء اليسير، وأنت لم تنل منه حظاً. فغضب ثم قال: أتظنني من أولئك الفسقة؟ أعطه ثلاثمائة درهم، ولينصرف راشداً. ففعلت ما أمرني به، وصرفته.

قال ابن فورجة: كان المتنبي داهية مر النفس شجاعاً حافظاً للأدب، عارفاً بأخلاق الملوك، ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه إلا بخله وشرهه على المال.

وقال أبو البركات بن أبي الفرج المعروف بابن زيد التكريتي الشاعر، قال: بلغني

ص: 81

أنه قيل للمتنبي قد شاع عنك من البخل في الآفاق ما قد صار سمراً بين الرفاق، وأنت تمدح في شعرك الكرم وأهله، وتذم البخل وأهله، ألست أنت القائل:

ومن ينفقِ الساعات في جمعِ مِالهِ

مخافةَ فقْر فالذي فعلَ الفقُر

ومعلوم أن البخل قبيح، ومنك أقبح؛ لأنك تتعاطى كبر النفس، وعلو الهمة، وطلب الملك، والبخل ينافي سائر ذلك. فقال: إن لبخلي سبباً، وذلك أني أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم في جانب منديلي، وخرجت أمشي في

ص: 82

أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمسة من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ، فقال: بغير اكتراث: اذهب، فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: أيها الرجل دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال: ثمنها عشرة دراهم. فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً؛ ودفعت له خمسة دراهم، فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار

ص: 83

قد خرج من الخان، ذاهباً إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه، ودعا له، وقال له: يا مولاي، هذا بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى منزلك. فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم. فقال: بل درهمين. فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، ودعا له، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا، ما رأيت أعجب من جهلك، استمت على في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعته بدرهمين محمولا. فقال: اسكت هذا

ص: 84

يملك مائة ألف دينار. فعلمت أن الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.

قلت وقع في شعر أبي الطيب الوصية بالحزم، وضبط الأموال، كقوله في قصيدته التي أولها:

أودُّ مِنَ الأيام ما لا تَوَدُّهُ

وأشكو إليها بينها وَهْيَ جُنْدُهُ

يُباعِدْنَ حِياًّ يجتمعن ووصُلهُ

فكيف بحب يجتمعن وَصَدُّهُ

أَبي خُلُق الدنيا حبيباً تُديمُهُ

فما طلبي منها حبيباً تردُهُ

ص: 85

إلى أن قال:

وأتعبُ خلقِ الله من زاد هُّمهُ

وقصَّر عما تشتهي النفس جُهْدُهُ

فلا ينحللْ في المجد مالُك كلُّه

فينحَلَّ مجد كان بالمال عَقدُه

ودبَّرهْ تدبيرَ الذي المجدُ كفّه

إذا حارب الأعداء والمالُ زَنْدُهُ

فلا مجدَ في الدنيا لمنْ قَلَّ مالُهُ

ولا مالَ في الدنيا لمن قلَّ مَجْدُهُ

فأمر كافوراً بالبخل، حيث حرمه، وسلك في ذلك مسلك كثير عزة فإنه دخل على هشامبن عبد الملك، وكان بخيلا، فمدحه، فلم يثبه، فقال كثير يخاطبه بقوله:

ص: 86

إذا المال لم يوجب عليك عطاءَهُ

صنيعةُ تَقْوَى أو خليل توافقُه

منعتَ وبعضُ المنع حَزْمُ وقوة

ولم يفتلذك المال إلا حقائقهْ

فقيل لكثير: ما حملك على أن تعلم أمير المؤمنين البخل، فقال: إنه منعني من رفده، وآلمني برده، فأردت أن أحبب إليه المال، فيمنع غيري كما منعني، فيتفق الناس على ذمه.

وأحسن قصائد أبي الطيب في سيف الدولة، وتراجع شعره بعد مفارقته، وسئل عن سبب ذلك فقال: قد تجوزت في قولي، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة

ص: 87

منذ فارقت آل حمدان وفيهم من يقول:

تُسائلني من أنْت وهْيَ عليمة

وهل بفَنًي مثلي على حاله نُكْرُ

فقلتُ كما شاءتْ وشاء لها الهوَى

قتيلَك قالتْ أيهم فهمُ كُثْرُ

فقلتُ لها لو شِئْتِ لم تَتَعَنَّتي

ولم تسألي عني وعندَك بي خُبْرُ

فقالتْ لقد أزْرى بكَ الدّهر بَعْدَنا

فقلتُ معاذَ بل أنْتِ والدهرُ

وما كان للأحزان لولاك مسلكُ

إلى القلبِ لكنّ الهوى للبلى جسْرُ

وتَهلكُ بين الهزل والجد مهجةُ

إذا ما عداها البينُ عذّبها الهجرُ

فأيقنْتُ أن لا عِزَّ بعدي لعاشق

وأنَّ يدي مما عَلقْتُ به صِفْرُ

ص: 88

وإني لنزالِ بكل مخَوفَة

كثيرُ إلى نُزَّلها النظر الشزرُ

وإني لَجرَّارُ لكل كتيبة

معودة ألَاّ يُخِلَّ بها النصرُ

وأظمأ حتى يرتَوي البيضُ والقنا

وأسغبُ حتى يشبع الذئبُ والنسرُ

ويقول:

صبورُ ولو لم تبق مني بقية

قؤولُ ولو أن السيوفَ جوابُ

وقور وأحداثُ الزمان تنوشني

وللموت حولي جيئة وذهابُ

ستذكر أيامي نُميُر بن عامرٍ

وكعب على عِلاتها وكلابُ

أنا الجار لا زادي بطيءُ عليهمُ

ولا دونَ بأبي في الحوادث باب

ص: 89

يعني أبا فراس. وفيهم من يقول:

وقد علمت بما لاقتْه منَا

قبائلُ يعرب وبني نِزارِ

لقيناهُمْ بأرماحٍ طوال

تبشرهم بأعمار قضارِ

يعني أبا زهير بن مهلهل بن نصر بن حمدان. وفيهم من يقول:

أأخا الفوارس لو رأيتَ مواقفي

والخيلُ من تحت الفوارس تَنحطُ

لقرأتَ منها ما تخطّ يدُ الوغى

والبيضُ تَشْكلُ والأسنةُ تنقط

يعني أبا العشائر. قال أبو الفتح بن جني: كنت قرأت ديوان المتنبي عليه، فلما وصلت إلى قوله:

ص: 90

أغالبُ فيكَ الشَّوقُ والشَّوقُ أغلَبُ

وأعْجَبُ مِنْ ذا الهجرِ والوصْل أعجب

فلما انتهيت إلى قوله:

لَحَا الله ذي الدنيا مُناخاً لراكب

فكلُّ بعيدِ الهمَّ فيها معذَّبُ

ألا ليتَ شعْري هل أقول قصيدةً

ولا أشتكى فيها ولا أتعتَّبُ

وبي ما يذودُ الشعرَ عني أقلُّهُ

ولكنَّ قلبي يا ابنة القوم قُلَّبُ

وأخلاقُ كافور إذا شئتُ مدحَهُ

وإن لم أشأ تُملي علىّ وأكتب

إذا ترك الإنسانُ أهلاً وراءه

ويمَّمّ كافوراً فما يتغرب

ص: 91

فقلت له: يَعزُّ علىّ أن يكون هذا الشعر في ممدوحغير سْيفِ الدَّولةِ، فقال: حذَّرنْاه، فما نفع فيه الحذر ألستُ القائلَ فيه: أخا الجود أعط الناس ما أنتَ مالِكُهْ

ولا تُعطينَّ الناس ما أنا قائلُ

فهو الذي أعطاني لكافور بسوء تدبيره، وقِلَّة تمييزه، وهذا البيت من قصيدة له يمدح سيف الدولة بها ويصف دخول رسول ملك إليه، ولو لم يكن للمتنبي سوى هذه القصيدة لاستحق بها فضيلة التقدم على كل من تقدمه وهي:

ص: 92

دروعُ لِمَلْك الروم هذي الرسائلُ

يردُّ بها عن نفسه ويُشاغِلُ

هذا أحسن من قول أبي تمام:

غداَ خائفاً يستنجد الكُتْبَ مُذْعِناً

إليكَ فلا رُسْل ثنَتْكَ ولا كُتْبُ

هي الزَّرَدُ الضَّافي عليه ولفظتُها

عليكَ ثناء سابغ وفضائلُ

وأنَّي اهتديَ هذا الرسولُ بأرضه

وما سكنتْ مُذْ سِرْتَ فيها القساطل

ومن أيّ ماء كان يَسْقى جيِادَه

ولم تَصْفُ من مَزْجِ الدماء المناهلُ

هذا أيضا أحسن من قول البحتري:

ص: 93

يُغالبُ طعمَ الماء في ملتقاهُمُ

حَسا الدمِ حتى يلفظ الماءَ شارِبُه

أتاك يكاد الرأسُ يجحدُ عُنْقَهُ

وتنقذُّ تحت الذُّعْر منه المفاصلُ

يُقوّم تقويمُ السماطين مشْيَهُ

إليك إذا ما عوَّجَتْه الأفاكل

فقاسَمكَ العينين منه ولحظَهُ

سَميَّك والخِلَّ الذي لا يُزايلُ

بنصب العينين، واللحظ، والسمىّ، والخلّ.

وأبصر منه الرزقَ والرّزْقُ مُطمعُ

وأبصر منه الموتَ والموتُ هائلُ

وقبَّل كُمَّا قبَّل التُّربَ قبله

وكلُّ كَمِيّ وقف متضائل

وأسعد مشتاقٍ وأظفَرُ طالبٍ

همامُ إلى تقبيل كَّمكَ واصل

مكان تمناه الشفاهُ ودونه

صدورُ المذاكي والرماحُ الذوابلُ

فما بلغتْه ما أراد كرامةُ

عليك ولكن لم يَخبْ لك سائل

ص: 94

وأكبرُ منه همة بعثتْ به

إليك العدا واستنصرته الجحافل

فأقبل من أصحابه وهو مرسَلُ

وعاد إلى أصحابه وهو عاذل

هذا يشابه قول البحتريّ:

لحظوك أولَ لحظة فاستصغروا

مَن كان يُعْظَمُ عندهم ويُبَجَّل

قد نافس الغَيَبُ الحضورَ على الذي

شهِدوا وقد حسد الرسولَ المرسلُ

تحيَّر في سيفٍ ربيعةُ أصلهُ

وطابعهُ الرحمنُ والمجدُ صاقلُ

وما لونُه مما تحصّل مقلةُ

ولا حدُّه مما تُحِسُّ الأنامِلُ

إذا عاينتك الرسْلُ هانتْ نفوسُها

عليها وما جاءتْ به والمراسلُ

ص: 95

رَجا الرومُ من تُرجَى النوافِل كُلُّها

لديه ولا تُرْجَى لديه الطوائلُ

فإن كان خوف الأسر والقتل سَاقهم

فقد فَعلوا ما الأسر والقتل فاعل

فخافوك جتي ما لقتل زيادةُ

وجاءوك حتى ما تُرادُ السلاسلُ

أرى كلَّ ذي مُلْك إليك مصيرُهُ

كأنكَ بحر والملوكُ جداول

أخذه من ابن المعتز:

مَلك تواضعت الملوكُ لعزَّه

قسراً وفاض على الجداول بحرُهُ

إذا مطرتْ ومنكَ سحائبُ

فوابِلُهُم طَلُّ وطلّك وابلُ

ص: 96

هذا أيضاً كقول البحتري:

أنذرتكم عارضاً تبدو مخايلُهُ

فالقطرة الفذّ منه وابل هَطِلُ

كريمُ متى استوُهِبتَ ما أنت راكب

وقد لقيِحَتْ حربُ فإنك نازلُ

هذا المعنى مأخوذ من خبر روى عن حاتم الطائي قيل إنه بارز عامر بن الطفيل وفقد رمح عامر، فخافه عامر فقال: يا حاتم لأبخلنك قال: بماذا؟ قال: ادفع إلى رمحك أقاتلك به فرمى إليه برمحه، ورجع مولياً. وقال بشار ما ينظر إلى هذا المعنى:

لو كان لي سيفُ غداةَ الوغى

طِبْتُ به نَفساً لأعدائي

ص: 97

وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول البحتري: ماض على عزمه في الجواد لو وهب الشباب يوم لقاء البيض ما ندما قال ابن أحمر:

إني أقيد بالمأثور راحلتي

ولا أبالي وإن كنا على سَفَر

ومازال المتنبي بعد مفارقة سيف الدولة يعرض بمدحه تارة، ويصرخ أخرى؛ فمن ذلك قوله في أول قصيدته التي مدح بها كافورا: فِراق ومن فارقت غير مذمم ومن ذلك أيضاً قوله في قصيدة كافورية:

ص: 98

عشية أحفى الناسِ بي من جَفَوته

وأهدَى طريقيَّ الذي أتجَنَّبُ

ورأيت له قصيدتين في هجاء كافور، ومدح سيف الدولة، ونقلتهما من خط أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النسابوري. قال: إنهما وجدتا في رحلة لما قتل، وعملهما بواسط إحداهما قوله:

أفيقا خُمارُ الهمّ نَغَّصَني الخمرا

وسُكْري منَ الأيام جَّنبني السُّكْرا

تَسُرَّ خليليّ المدامةُ والذي

بقلبيَ يأبى أن أُسَرَّ كما سُرّا

لبستُ صروفَ الدهر أخشَنَ مَلْبَس

فعرّقَني نابً ومزّقني ظُفْرا

ص: 99

وفي كل لحظٍ لي ومَسْمَعِ نَغْمةٍ

يُلاحظني شَزْراً ويُسمعني هُجْرا

سَدِكتُ بصرف الدهر طفلا ويافعاً

فأفنيتهُ عَزما ولم يُفْنني صَبرا

أريدُ من الأيام مالا يريدُه

سواي ولا يجري بخاطره فكرا

وأسأله ما أستحق قضاءه

وما أنا ممن رام حاجته بَسْرا

ولي همةُ من رأىْ همتها النوى

فَشُركبُني من عزمها المركب الوعْر

تروق بني الدنيا عجائبها وَلى

فؤاد ببيض الهند لا بيضها مُغْري

أخو هممَ رحالة لا تزال بي

نوىَ تقطع البيداء أو أقطعَ العمْرا

ص: 100

ومن كان عزمي بين جنبيه حثه

وصير طولَ الأرض في عينه شِبْرا

صحبت ملوكَ الأرض مغتبطاً بهم

وفارقتهم مَلآن من حَنَق صَدرا

ولما رأيت العبد للحرّ مالكا

أبيتُ إباء الحر مسترزقاً حرا

ومصرُ لَعَمريْ أهلُ كلّ عجيبة

ولا مثل ذا المخصيّ أعجوبةً نَكرا

يُعَدّ إذا عُدّ العجائبُ أوّلا

كما يُبتدا في العدّ بالإصبع الصغري

فيا هَرَم الدنيا ويا عبرةَ الورى

ويأيها المخصي مَنْ أمك البَظْر

لُوَيَبْيَّةُ لم تَدْرِ أن بُنَيّها الْ

لُوَيْبيّ دون الله يَعبدُ في مَصر

ص: 101

ويستخدم البيِضَ الكواعبَ كالدُّمى

ورُومَ العِبِدّي والغطارفة الغُرّا

قضاء من الله العليّ أراده

إلَا ربما كانت إرادته شّرا

ولله آياتُ وليس كهذه

أظنك يا كافورُ آيتهَ الكبرى

لَعمرُكَ ما دهرُ به أنت طيِّبُ

أبَحْسبِنُي ذا الدهرُ أحسبه دهرا؟

وأكفرُ يا كافورُ حين تلوح لي

ففراقتُ مذ فارقتك الشّرك والكفرا

عثرتُ بسيري نحوَ مصر فلالَعاً

بها وَلَعاً بالسيَّر عنها ولا عَشْرا

وفارقتُ خيرَ الناس قاصدِ شرَهم

وأكْرمَهم طُرّاً لاْ لأَمهم طُرّا

ص: 102

فعاقبني المخصيُّ بالغدر جازبا

لأن رحيلي كان عن حلب غدرا

وما كنتُ إلاّ فائَل الرأي لم أُعَنْ

بحزْمٍ ولا استصحبتُ في وجهتي حجرْا

وقد أرَى الخنزيرُ أني مدحته

ولو علموا قد كان يُهْجي بما يُطْري

جسَرْتُ على دَهْياء مصرَ فَفُتّها

ولم يكن الدهياءُ إلَاّ مَن استجْرا

سأجلبُها أشباهَ ما حملتْه من

أسنتها خُزْراً مُقَطلةً غُبرا

وأُطلعُ بِيضاً كالشموس مُطلَّةً

إذا طلعتْ بيضاً وإن غَرَبَتْ حُمرا

فإن بلغَتْ نفسي المنى فَبِعزْمها

وإلاّ فقد أبلغتُ في حرصها عُذرْا

والأخرى قوله:

ص: 103

قطعتُ بِسيري كلَّ يَهْماء مَفْزَعٍ

وجُبْتُ بخيلي كلَّ صَرْماء بَلْقَعِ

وثلَّمتُ سيفي في رءوس وأذرعٍ

وحطمت رمحي في نحُور وأضلُع

وصيّرتُ رأيي بعد عزِميَ رائدي

وخالفتُ آراءً توالتْ بمسِمَعي

ولم أنَّرِكْ أمراً أخافُ اغتياله

ولاطَمَحت نفسي إلى غير مَطمَع

وفارقتُ مصراً والأسَيْودُ عينهُ

حذارَ مسيري تَستهلُّ بأدمُع

ألم يَفهم الخنثى مقالي وأنني

أُفارق من أقْلي بقلب مُشَيَّع

ولا أرعوي إلاّ إلى من يَوَدُّني

ولا يَطَّبِيني منزلُ غيرُ مُمْرع

أبا النَّتْن كم قيدتَني بمواعد

مَخافةَ نظم للفؤاد مُرَوَّعِ

وقدّرتَ من فرط الجهالة أننيً

أُقيم على كِذْبٍ رصيف مُصَنَّع

ص: 104

أقم على عبد خَصِيّ منافق

لئيم رديء الفعل للجودِ مُدَّعي

وأتركُ سيف الدولة المَلكَ الرضا

كريمَ المُحيا وابن أروع

فتى بحره عذبُ ومَقْصِدُه غِنىً

ومَرْتعُ مرعي جوده خيرُ مرِتع

تَظل إذا ما جئتَه الدهَر آمنا

بخير مكان بل بأشرف موضع

قال ابن سعيد: إن سيف الدولة كان يكاتب المتنبي، ويهاديهُ فقال بمدحه، وأنفذها إليه من الكوفة، وكان سيف الدولة قد كاتبه إليها بأجمل مكاتبه، وأنفذها إليه كسوة وبرا، وعرض له بالعود.

ما لنا كلُّنا جَوٍ يا رسولُ

أنا أهوى وقلُبك المتبولُ

ص: 105

إلى أن قال:

نحن أدري وقد سألنا بِنَجدٍ

أقصيرُ طريقُنا أم طويلُ

وكثيرُ من السؤال اشتياقًُ

وكثيرُ من رَدّة تعليل

لا أقمنا على مكانٍ وإن طا - ب ولا يمكن المكانَ الرحيلُ

كلما رحّبتْ بنا الروض قلنا

حَلَبُ قصدُنا وأنتِ السبيل

فيك مرعى جِيادنا والمطايا

وإليها وَجيفُنا والذميل

والمسَمَّوْنَ بالأمير كثيرُ

والأميُر الذي بها المأمول

الذي زُلتُ عنه شرقاً وغرباً

ونَداه مُقابلي ما يزول

ص: 106

ومعي حيثما سلكتُ كأني

كلُّ وجه له بوجهي كفيل

فإذا العذلُ في الندى زار سمعا

فَفِداه العذولُ والمعذولُ

ومَوالٍ تُحييهمُ من يديه

نِعَمُ غيرُهم بها مقتول

فرس سابقُ ورمحُ طويل

ودِلاصُ زَغْفُ وسيفُ صقيل

وأرسل إليه من بغداد قصيدة جواب كتاب ورد منه في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وهي:

فهمتُ الكتابَ أبَّر الكُتُب

فسمعاًلأمرِ أميرِ العربْ

إلى أن قال:

ص: 107

وما لاقني بلدُ بعدكم

ولا اعتضتُ من ربّ نعمايَ ربْ

ومن ركب الثورَ بعد الجوا - دِ أنكر أظلافه والغَبَبْ

وما قِستُ كلّ مُلوك البلاد

فدع ذكر بعضٍ بمن في حلب

ولو كنتُ سّميتُهم باسمه

لكان الحديدَ وكانوا الخشب

أفي الرأي يُشبه أم في السخا - ءَ أم في الشجاعة أم في الأدب؟ ولما عزم أبو الطيب على الرحيل من حلب، وذلك في سنة ست وأربعين وثلاثمائة لم يجد بلدا أقرب إليه من دمشق؛ لأن حمص كانت من بلاد سيف الدولة،

ص: 108

فسار إلى الشام، وألقى بها عصا تَسياره، وكان بدمشق يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور ملك مصر، فالتمس من المتنبي أن يمدحه، فثقل عليه، فغضب ابن ملك، وجعل كافور الإخشيدي يكتب في طلب المتنبي من ابن ملك، فكتب إليه ابن ملك: إن أبا الطيب قال: لم أقصد العبد وإن دخلت مصر فما قصدي إلا قصدي إلا ابن سيده، ونَبَت دمشق بأبي الطيب، فسار إلى الرملة، فحمل إليه أميرها الحسين بن طغح هدايا نفيسة،

ص: 109

وخلع عليه، وحمله على فرس بمركب ثقيل، وقلده سيفا محلى، وكان كافور الإخشيدي يقول لأصحابه: أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا؟ وأخبر المتنبي أنه واجد عليه ثم كتب كافور يطلبه من أمير الرملة، فسار إليه.

وكافور هذا عبد أسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين قبيح القدمين ثقيل البدن لا فرق بينه وبين الأمة، وقد سئل عنه بعض بني هلال فقال رأيت أمة سوداء تأمر وتنهي، وكان هذا الأسود لقوم من أهل مصر يعرفون ببني عياش يستخدمونه في

ص: 110

مصالح السوق، وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلا إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة جذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح، وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق كلما رأوه فيضحك فقالوا هذا الأسود خفيف الروح، وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم، فأقاموه على وظيفة الخدمة، ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صغير، وتقيد الأسود بخدمته وأخذته البيعة لولد سيده، وتفرد الأسود بخدمته وخدمة والدته، فقرب من شاء وبعد من شاء فنظر الناس إليه من صغر هممهم، وخسة أنفسهم، فسابقوا إلى التقرب إليه، وسعى

ص: 111

بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يأمن أهل داره على أسراره، وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده، ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر ألا يكلمه أحد من مماليك أبيه، ومن كلمة أتلفه، فلما كبر ابن سيده وتبين ما هو فيه جعل يبوح بما هو في نفسه في بعض الأوقات على الشراب ففزع الأسود منه، وسقاه سما فقتله، وخلت مصر له.

ولما قدم أبو الطيب عليه أمر له بمنزل، ووكل به جماعة وأظهر التهمة له، وطالبه بمدحه فلم يمدحه فخلع عليه، فقال

ص: 112

أبو الطيب في سنة ست وأربعين وثلاثمائة بمصر يمدحه بقصيدته التي أولها:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

إلى آخرها، وكان وعده أن يبلغه ما في نفسه فأنشده قصيدته التي أولها:

من الجآذزُ في زِيّ الأغاريبِ

حمرَ الحليَ والمطايا والجلالبيب

وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من

ص: 113

ممالكيه وهما بالسيوف والمناطق، وكان لا يجلس في مجلس كافور، فأرسل إليه من قال له قد طال قيامك يا أبا الطيب في مجلسه؛ يريد أن يعلم ما في نفسه.

فقال ارتجالا:

يقل له القيام على الرءوس

وبذاُ المُكْرَماتِ منِ النفوس

إذا خانتْه في يوم ضَحوك

فكيف تكون في يوم عَبوس

قلت: ينبغي التعجب! لا يرضى أبو الطيب أن ينشد قائماً عند سيف الدولة وهو على ما كان عليه، وبعد اشتهار في أقطار الأرض، ومعرفة ملوكها بفضله.

ص: 114

فعل ما سمعته. ورأيت له قصيدة ليست في ديوانه يرثى بها أبا بكر ابن طغج الإخشيد أولها:

هو الزمان مُشِتُ بالذي جمعا

في كلّ يومٍ ترى من صَرْفه بِدعَا

إن شئتَ مُتْ أسفاً أو فابْقَ مضطرباً

قد حلّ ما كنت تخشاه وقد وقعا

لو كان ممتنعُ تُغْنيه مَنْعته

لم يصنع الدهُر بالإخشيد ما صنعا

وهي طويلة لم يحضرني منها إلا هذه الأبيات.

وسأل أبو الطيب كافوراً أن يوليه صيداء من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد،

ص: 115

فقال له كافور: أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع، فمن يطيقك؟ ثم وقعت الوحشة بينهما، ووضع عليه العيون والأرصاد خوفاً من أن يهرب وأحس المتنبي بالشر. قال الوحيد كنت بمصر وبها أبو الطيب، ووقفت من أمره على شفا الهلاك ودعتني نفسي لحب أهل الأدب إلى أن أحثه على الخروج من مصر فخشيت على نفسي أن يشيع ذلك عني، وكان هو مستعد للهرب، وإنما فات أظافير الموت، ومخالب المنية من

ص: 116

قرب، وهو جني ذلك على نفسه، لأنه ترك مدح ابن حنزابة وهو وزير كافور، والمقرب منه، وهو مع ذلك من بيت شريف أهل وزارة ورياسة ومن العلم والأدب بموضع جليل، وهو باب الملك، فأتى من غير الباب، وأنشد القصيدة اليائية، وأولها ما يتطير منه، كيف لا ويراعتها:

كفَى بك داءً أن ترى الموتَ شافيا

وحسْبُ المنايا أن يَكُنَّ أمانياَ

تمنَيتها لما تمنيت أن تّرى

صديقا فأعيا أو عدَّوا مُذاجيا

قلت: تذكرت بهذا البيت حكاية وهي ما حدث محمد بن الحسن

ص: 117

الخوارزمي قال: مررت بمحمد بن موسى الملقب بسيبويه الموسوس وهو يقول مدح الناس المتنبي على قوله:

ومن نكِد الدنيا على الحرّ أن يرى

عدوَّا له ما مِنْ صداقته بُدُّ

ولو قال ما من مداراته أو من مداجاته بد لكن أحسن وأجود قال: واجتاز المتنبي به فوقف عليه وقال أيها الشيخ أحب أن أراك، فقال له رعاك الله، وحياك، فقال له بلغني أنك أنكرت على قولي: عدوا له ما من صداقته بد فما كان الصواب عندك؟ فقال له إن الصداقة مشتقة من

ص: 118

الصدق في المودة، ولا يسمى الصديق صديقا وهو كاذب في مودته، فالصداقة إذن ضد العداوة، ولا موقع لها في هذا الموضع، ولو قلت ما من مدارته أو مداجاته لأصبت. هذا رجل منا: يريد نفسه قال:

أتاني في قميص اللاذ يسعى

عدوُّ لي يُلقب بالحبيبِ

فقال المتنبي: أمع هذا غيره؟ قال نعم:

وقد عَبِث الشرابُ بوجنتيه

فصير خدَّه كَسَنَا اللهيب

فقلتُ له متى استعملتَ هذا

لقد أقبلتَ في زيّ عجيب

فقال الشمس أهدتْ لي قميصا

مليحَ اللونِ من نسج المغيب

ص: 119

فثوبي والمدامُ ولونُ خدّي

قريبُ من قريب من قريب

فتبسم المتنبي وانصرف وسيبويه يصيح عليه: أبكم الرجل وحلال الله وكأن المتنبي يذكر قول سيبويه في هذا البيت. قال الوحيد وهذا الابتداء مما تمجه الأسماع فقبح ابن حنزابه أثره، ثم لم يزل يذكر سواد كافور، ووراءه من ينبه على عيوبه كقوله في قصيدته التي أولها:

إنما التهنئاتُ للأكفاءِ

ولمن يدَّني من البُعداء

ص: 120

إلى أن قال: إنما يفخر الكريم أبو الم - سك بما يبتني من العلياء وبأيامه التي انسلخت عن - هـ وما دارُه سوى الهيجاء ويما أثّرت صوارمُه البي - ضُ له في جماجم الأعداء وبمسك يُكْني به ليس بالمس - ك ولكنه أريُج الثناء ومنها: نزلتْ إذ نزلتْهَا الدارُ في أح - سنَ منها من السنا والسناء

حلّ في مَنْبت الرياحين منها

منبتُ المكرمات والآلاء

تفضحُ الشمس كلما ذَرَّت الشم - س بشمسٍ منيرة سوداءِ

ص: 121

إن في ثوبك الذي المجدُ فيه

لَضياءً يُزري بكل ضياءَ

إنما الجلد مَلْبَسُ وابيضاضُ النّ - فسِ خيرُ من ابيضاضِ القَباء

كرمُ في شجاعة وذكاءُ

في بهاء وقدرةُ في وفاء

مَنْ لبيضِ الملوكِ أن تُبْدل الّلوْ - ن بلون الأستاذ والسَّجناء

يا رجاءَ العيونَ في كل أرض

لم يكن غيرَ أن أراك رجائي

فكان يقول ابن حنزابة إنه هزئ بكافور في هذه الأبيات، ويسهل على الناس أمر لونه، ويحسنه له. قال الوحيد: كان المتنبي يعلم أن ذكر السواد

ص: 122

على مسامع كافور أمر من الموت فإذا ذكر لونه بعد ذلك فقد أساء إلى نفسه وعرضها للقتل والحرمان، وكان من إحسان الصنعة، وإجمال الطلب ألا يذكر لونه، وله عنه مندوحة، ولكن الرجل كان سيئ الرأي، وسوء رأيه أخرجه من حضرة سيف الدولة، وشدة تعرضه لعداوة الناس، وقد ذكر سواد كافور في عدة مواضع، وكان اللائق ألا يذكره إلا كقوله:

فجاءتْ بنا إنسانَ عينِ زمانه

وخلَّتْ خلفها ومآقيا

وهذا في أعلى طبقات

ص: 123

الإحسان لكونه كني عن سواده بإنسان عين الزمان. ومن هذه القصيدة:

فتىً ما سريْنا في ظُهور جدودنا

إلى عصره إلَاّ نُرَجّي التلاقيا

ومنها:

أبا المسكِ ذا الوجهُ الذي كنتُ تائقا

إليه وذا الوقتُ الذي كنتُ راجيا

أبا كلّ طيب لا أبا المسكِ وحدَه

وكلّ سحاب لا أخصُّ الغواديا

يُدلُ بمعنى واحدٍ كلُّ فاخرٍ

وقد جمع الرحمن فيك المعانيا

ومن قول سامٍ لو رآك لنسله

فِدَىَ ابن أخي نسلي ونفسي وماليا

ص: 124

قال أبو الفتح بن جني لما قرأت قوله في كافور على أبي الطيب:

وما طربي لما رأيتكُ بِدعة

لقد كنُت أرجو أن أراك فأطربُ

فقلت له لم تزد على أن جعلته أبازنة، فضحك أبو الطيب، فإنه بالذم أشبه منه بالمدح، وبعد هذا البيت:

وتَعْذُلني فيك القوافي وهَّمتي

كأنِّي بمدحٍ قبل مدحِكَ مذنبُ

ومن هذه القصيدة:

وأخلاقُ كافور إذا شئتُ مدحَه

وإن لم أشأ تُملي علىَّ وأكتبُ

ص: 125

إذا ترك الإنسانُ أهلا وراءه

ويميمَّ كافوراً فما يتغربُ

ومنها:

إذا ضربتْ في الحرب بالسيفِ كفُّه

تبيّنتَ أن السيفَ بالكفّ يضربُ

تزيدُ عصاياه على اللَّبث كثرةً

وتلبثُ أمواهُ السحابِ فَتَضُبُ

أبا المسكِ هل في الكأس فضلُ أنا له

فإني أُغني منذ حين وتشرب

وهبتَ على مقدار كفَّىْ زماننا

ونفسي على مقدار كفَّيْكَ تطلب

ص: 126

إذا لم تَنُطْ بي ضَيْعةً أو ولايةً

فجودُك يكسوني وشغلُك يسلب

يضاحكُ في ذا العيدِ كلُّ حبيبَه

حذائي وأبكي مَنْ أُحبُّ وأندب

أحِنُّ إلى أهلي وأهوى لقاءهْم

وأين من المشتاق عَنْقاء مُغرِبُ

فإن لم يكن إلاّ أبو المِسك أوْهُمُ

فإنك أحلى في فؤادي وأعذبُ

إلى أن قال في أثنائها:

وأظلمُ أهلِ الظلمِ من بات حاسداً

لمن بات في نعمائه يتقلبُ

وهذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان أحدهما أن المنعم يحسد المنعم عليه، وكذلك ورد قوله في كافور:

ص: 127

فإن نلتُ ما أملتُ منك فربما

شربت بماءٍ يُعجز الطيرَ ورِدُه

فإنه إذا أخذ بمفرده من غير نظر إلى ما قبله فإنه بالذم أولى منه بالمدح؛ لأنه يتضمن وصف نواله بالبعد، وصدر البيت مفتتح بإن الشرطية، وقد أجيبت بلفظ رب التي معناها التقليل أي لست من نوالك على يقين، فإن نلته فقد وصلت إلى مورد لا يصل إليه الطير لبعده.

وكثيراً ما يقصد المتنبي هذا القسم في كافورياته كقوله:

عدُّوك مذمومُ بكلّ لسانِ

ولو كان من أعدائك القمران

ص: 128

ولله سرَّ في عُلاك وإنما

كلامُ العدا ضربُ من الهذيان

إلى أن قال في أواخرها:

قضى الله يا كافورُ أنكَ أولُ

وليس بقاضٍ أن يُرى ثانِ

فما لكَ تختار القِسِيّ وإنما

عن السعد يرمي دونك الثقلانَ

وما لك تُعني بالأسنة والقنا

وجلدُّك غنيّ عنه بالحَدَثانَ

وهذا مما يدل على براعة البليغ وقدرته على المعاني، ومثله ورد في الحديث النبوي من كلام النبوة الأولى " إذا لم تستحي فاصنع

ص: 129

ما شئت " فهذا الحديث على معنين ضدين ومثله قول الفرزدق:

إذا جعفر مرتْ على هضبْة الحمى

فقد أخْزَت الأحياء منها قبورُها

فإنه يدل أيضاً على معنيين: أحدهما ذم الأموات، والآخر مدح الأموات. وقوله أيضاً في كافور:

فدِىٍ لأبي المسك الكرامُ فإنها

سوابقُ خيل يهتدين بأدهم

أَغرَّ بمجدٍ قد شخصن وراءه

إلى خُلُق رَحْب، وخَلْقِ مُطهَّم

ومن رام معرفة مراد أبي الطيب في هذين البيتين فعليه

ص: 130

بقول ابن الرومي وهو:

هم الغرةُ البيضاءُ من آل مُصْعَبٍ

وهُمْ بقعةُ التحجيل والناسُ أدْهم

وكان أبو الطيب يأنس بمصر بفاتك الإخشيدي المعروف بالمجنون، ومدحه بالقصيدة التي أولها:

لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ

فَلْيُسْعد النطقُ إن لمُ تُسْعد الحالُ

وَاجْز الأميرَ الذي نعماه فاجئهُ

بغير قول ونُعمى الناس أقوال

فتوفي فاتك ورثاه المتنبي وهجا كافورا بقصيدة أولها:

الحزنُ يُقلق والتجمّلُ يَرْدع

والدمعُ بينهما عصّى طّيُعِ

ومنها:

ص: 131

تصفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ

عما مضى فيها وما يتُوقع

ومنها:

كنا نظنُّ ديارَه مملوءةً

ذهباً فمات وكل دار بلقعُ

المجد أخسرُ والمكارمُ صفقةً

من أن يعيش لها الكريم الأروع

ومنها:

يا منُ يُبدلّ كلَّ يوم حُلةً

أنيَّ رضيتَ بحُلةٍ لا تُنزغ

لازلتَ تخلعها على من شاءها

حتى لبستَ اليوم مالا يُخلع

ومنها:

مَنْ للمحافلِ والجحافل والسُّرى

فَقَدتْ بفقدكَ نيّراً لا يَطُلع

ص: 132

ومن اتخذت على الصفوف خليفةً

ضاعوا ومثلكُ لا يكاد يُضيّع

قبحاً لوجهك يا زمانُ فإنه

وجهُ له من كل لؤم بُرقُع

أيموتُ مثلُ أبي شجاع فاتكِ

ويعيشُ حاسُده الخصُّي الأوكُع

وله فيه أيضاً من قصيدة قالها بعد رحيله من مصر وهي:

من لا تشابههُ الأحياءُ في شِيتمِ

أمسى تُشابهُه الأمواتُ في الرّمَمَ

عَدِمْتُه وكأني سرتُ أطلبه

فما تَزيدنَي الدنيا على العَدَم

ص: 133

ما زلت أضْحك إبليْ كلّما نظرتْ

إلى مَن اختضبتْ أخفافُها بِدَم

أُسيرها بين أصنام أشاهدها

ولا أشاهدُ فيها عِفَّة الصنم

حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي

المجدُ للسيف ليس المجدُ للقلم

أكتبْ بنا أبداً بعد الكتابِ به

فإنما نحن للأسياف كالخدم

أسمعتني ودوائي ما أشرتِ به

فإن غفلتُ فدائي قلةُ الفَهَمِ

من اقتضى بسوى الهندي حاجته

أجاب كلَّ سؤال عن هلٍ بِلَمِ

وآخر ما مدح به كافوراً قصيدته التي أولها:

ص: 134

مُنَّى كُنّ لي أن البياضَ خِضابُ

فَيخْفي بتبيض القرون شبابُ

لياليَ عند البيض فَوْداي فتنةُ

وفخرُ وذاك الفخرُ عنديَ عابُ

فكيف أذمّ اليوم ما كنتُ أشتهي وأدعو بما أشكوه حين أجاب

جلا اللونُ عن لونٍ هَدَى كلَّ مسلكٍ

كما انجاب عن ضوء النهار ضباب

وفي الجسم نفسًُ لا تشيبُ بشيبه

ولو أن ما في الوجه منه حِراب

لها ظُفُرُ إنْ كلَّ ظُفْرُ أُعِدُّه

ونابُ إذا لم يبقَ في الفم ناب

ص: 135

يُغيّر مني الدهرُ ما شاء غيرَها

وأبلغ أقصى العُمْرِ وهْي كَعاب

وإني لنجمُ تهتدي صُحبّي به

إذا حال من دون النجوم سَحاب

غنيّ عن الأوطان لا يستفزني

إلى بلدٍ سافرتُ عنه إياب

ومنها:

وهل نافعي أن تُرفعَ الحُجْبُ بيننا

ودونَ الذي أمَّلتُ منكَ حجابُ

أقلُّ سلامي حبَُّ ما خفَّ عنكمُ

وأسكتُ كيما لا يكونَ جواب

وفي النفس حاجاتهُ وفيك فطانةُ

سكوتي بيانُ عندها وخطاب

وانقطع أبو الطيب بعد إنشاد هذه القصيدة لا يلقى الأسودَ إلَاّ أن

ص: 136

يركب فيسير معه في الطريق، وعمل على الرحيل، وقد أعدّ كلَّ ما يحتاج إليه على ممر الأيام بلطف ورفق، ولا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليه التحفظ، فخرج ودفن الرماح في الرمال، وحمل الماء على الإبل لعشر ليال، وتزود لعشرين، وقال في يوم عرفة من سنة خمسين وثلاثمائة قبل سيره من مصر بيوم:

عيدُ بأيّة حالٍ عُدْتَ يا عيدُ

بما مضى أمِ لأمر فيكَ تجديدُ

ومنها:

إني نزلتُ بكذابين ضيفُهمُ

عن القرى وعن التَّرحال محدودُ

ص: 137

جودُ الرجالِ من الأيدي وجودُهمُ

من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ

ومنها:

أكلما اغتال عبدُ السوءِ سيده

أو خانه فله في مصرَ تمهيدُ

صار الخَصيُّ إمامَ الآبقين بها

فالحرُّ مستعَبدُ والعبدُ معبود

وآخرها:

أولى اللثامِ كُوَيفيرُ بمعذرِة

في كل لؤم وبعضُ العذرِ تَفْنيدُ

وذاك أنَّ الفحولَ البيضَ عاجزةُ

عن الجميل فكيف الخصية السود

ص: 138

وفي يوم العيد سار من مصر هارباً، وأخفى طريقه، فلم يؤخذ له أثر، حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين إنما عمل طريقاً تحت الأرض، وتبعته البادية والحاضرة من سائر الجوانب، وبذل كافور في طلبه ذخائر الرغائب، وكتب إلى عماله في سائر أعماله، ودخل أبو الطيب إلى موضع يعرف بنخل بعد أيام، وسار حتى قرب من النقاب فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين، فركب الخيل، وطردهما، حتى أخذهما، فذكروا له أن أهلها

ص: 139

أرسلوهما رائدين، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما، وسارا معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل، فضرب له ملاعب خيمة بيضاء، وذبح له، وسار إلى النقيع، فنزل ببادية معن، فذبح له، وسار إلى أن دخل حسمي، وهي أرض كثيرة النخل، وطابت له حسمي، فأقام بها شهراً، وكان نازلاً بها عند وردان بن ربيعة الطائي، فاستغوى عبيده، وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله. وكاتب الأسود سائر قبائل العرب في طلبه، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان

ص: 140

وردان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفاً مستوراً، فسأله أن ينظره، فأبى، لأنه كان على قائمته مائة مثقال من الذهب، وكان السيف ثميناً، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامرأته، طمعاً في السيف، لأن بعضهم أعطاه خبره، فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد، ووقف على مكاتبة الأسود، ترك عبيده نياماً، وتقدم إلى الجمال فشد عليها أسبابه، وسار والقوم لا يعلمون برحيله، وطرح عبيده على الإبل وهم لا يعلمون، وأخذ في المسير، وأخذ بعض العبيد السيف في الليل، فدفعه

ص: 141

إلى عبد آخر مع فرسه، وجاء ليأخذ فرس أبي الطيب، فتنبه له، فقال الغلام: أخذ العبد الفرس يغالطه، وعدا نحو الفرس ليقعد في ظهره فالتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسل العبد السيف فضرب رسنه، وضرب أبو الطيب وجه العبد، وأمر الغلمان بقتله، وكان هذا العبد أشد من معه وأفرس، فقال أبو الطيب القطعة التي أولها:

أعددت للغادرين أسيافاً

أجدع منهم بهن آنافا

وقال أيضاً يهجو وردان:

إن تك طَيّئ كانت لئاما

فألأمها ربيعةُ أو بنوةُ

وإن تك طيئ كانت كراما

فَوَرْدانُ لغيرهمُ أبوهُ

ص: 142

مرَرْنا منه في حِسْمَي بعبدٍ

يَمُجُّ اللؤمَ مَنْخِرهُ وَفُوهُ

أشذّ بِعِرسه عني عبيديً

فأتلفهم وماليَ أتلفوهُ

فإن شَقِيتْ بأيديهم جِيادي

لقد شقيتْ بِمُنصُلي الوجوهُ

ثم لما توسطه بسيطة وهي أرض تقرب من الكوفة، رأى بعض عبيده ثوراً يلوح فقال هذه منارة الجامع، ونظر آخر إلى نعامة فقال هذه نخلة، فضحك أبو الطيب وضحكت البادية التي كانت معه وقال:

بسيطة مهلاً سُقيتِ القِطارا

تَركْت عيونَ عبيدي حَيارَي

ص: 143

فظنوا النعام عليك النخيلَ

وظنوا الصُّوار عليك المنارَا

وأمسك صحبي بأكوارهم

وقد قَصَد النومُ فيهم وحارَا

وسار أبو الطيب حتى دخل الكوفة في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ونظم المقصورة التي أولها:

الأكل ماشيةِ الخيْزلَي

فِدَى كلّ ماشيةِ الهَيذبَي

وصف فيها مسيرة عن مصر، وذكر المنازل التي قطعها، وهجا كافورا، وعرض بجعفر بن الفرات، ثم توجه إلى مدينة السلام.

أبو الطيب في مدينة السلام

قال أبو علي الحاتميّ: كان أبو الطيب عند

ص: 144

وروده مدينة السلام، قد التحف برداء الكبر والعظمة، يخيل له أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر لا يغترف عذبه غيره، ولا يقطف نواره سواه، ولا يرى أحداً إلا ويرى لنفسه مزية عليه؛ حتى إذا تخيل أنه نسيج وحده، وأنه مالك رق العلم دون غيره، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، وطأطأ كثير منهم رأسه، وخفض جناحه، واطمأن على التسليم جأشه، وتخيل أبو محمد المهلبي أنه لا يتمكن أحد من مساجلته ومقارعته، ولا يقوم لمجادلته، والتعلق

ص: 145

بشيء من مطاعنة، وساء معز الدولة أن يرد على حضرته رجل صدر عن حضرة عدوه، ولم يكن بمملكته أحد يماثله فيما هو فيه، ولا يساويه في منزلته يبدي لهم عواره ويكفي آثاره، ويهتك أستاره ويمزق جلابيب مساويه، فتوخيت أن يجمعنا مجلس أجرى أنا وإياه في مضمار ليعرف السابق من المسبوق فلما لم يتفق ذلك قصدت مجلسه فوافق مصيري إليه حضور جماعة يقرءون عليه شيئاً من شعره فحين استؤذن لي نهض من

ص: 146

مجلسه ودخل بيتاً إلى جانبه، ونزلت عن بغلتي وهو يراني، ودخلت إلى مكانه، فلما خرج إلي نهضت إليه فوفيته حق السلام غير مشاح له في ذلك، وكان سبب قيامه من مجلسه لئلا يقوم لي عند الدخول إليه ولبس سبعة أقبية ملونة وكان الوقت أحر ما يكون من الصيف وأحق بتخفيف اللبس فجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني طرفاً، ولا يكلمني حرفاً، فكدت أتميز غيظاً، وأقبلت أستخف رأيي في قصده، وأعاتب نفسي في التوجه إلى مثله، وهو

ص: 147

مقبل على تكبره ملتفت إلى الجماعة الذين بين يديه وكل واحد منهم يومي إليه، ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني، ويوقظه من ستة جهله ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً جرياً على شاكلة خلقه، ثم توجه إلي فوالله ما زادني على قوله: أي شيء خبرك؟ فقلت ما جنيته على نفسي من قصدك وكلفت قدمي من السعي إلى مثلك، ثم انحدرت عليه انحدار السيل وقلت أبن لي عافاك الله ما الذي يوجب ما أنت عليه من العظمة والكبرياء؟ هل هنا نسب يورثك الفخر، أو شرف

ص: 148

توجت به دون أبناء الدهر، أو علم، أصبت فيه علماً يقع الإيماء إليه، أو مورد تقف الهمم عليه؟ وهل أنت إلا وتد بقاع في أشر البقاع؟ وإني لأسمع جعجعة ولا طحن فامتقع لونه، وجعل يعتذر عن جنايته، وأقول له يا هذا إذا أتاك شريف في نسبه تجاهلت عليه، أو عظيم في أدبه صغرت قدره، أو مقدم عند سلطانه لم تعرف موضعه، هل العز تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، ولكنك مددت الكبر سترا، رواقا دون جهلك، فعاد إلى الاعتذار وأخذت الجماعة في تليين جانبي، والرغبة

ص: 149

في قبول عذره وإعمال مياسرته ومسامحته، ويحلف بالله أنه لم يعرفني فأقول: يا هذا ألم يستأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما كان في هؤلاء الجماعة من يعرفك بي إن كنت جهلتني؟ وهب كان ذلك ألم ترتحتي بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل، وبين يدي عدة غلمان؟ أما شاهدت لباسي أما شممت نشري أما راعك شيء من أمري أتميز به عن غيري؟ وهو خافض جناح الذل، وقد زال عنه ما كان فيه وأقبل على، وأقبلت عليه.

ثم قلت له يا هذا يختلج في نفسي أشياء من شعرك أريد أن أسألك

ص: 150

عنها، وأراجعك فيها. قال وما هي؟ قلت أخبرني عن قولك:

إذا كان بعضُ الناس سيفاً لدولةٍ

ففي الناسِ بُوقاتُ لها وطُبول

أهكذا تمدح الملوك؟ وعن قولك:

خف الله واستر ذا الجمالَ ببرقع

فإن لُحتَ حاضتْ في الخدور العواتقً

أهكذا يتشبب بالمحبوب؟ وعن قولك:

ولا مَن في جَنازتها تِجارُ

يكون وداعُها نفضَ النّعالِ

أهكذا رثاء أحت الملك؟ والله لو قلت هذا في أدنى عبيدها لكان قبيحا، وعن قولك:

ص: 151

سلام الله خالقنا حَنوطا

على الوجه المكفن بالجمال

أما استحييت من سيف الدولة؟ عن قولك في هجاء ابن كيغلغ:

وإذا أشار مُحّدثاً فكأنه

قردُ يُقهقهُ أو عجوزُ تلطمُ

أما كان في أفانين الهجاء التي تصرفت فيها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الذي تنفر عنه الأسماع، ويمجه كل طبع. وأخبرني أيضاً عن قولك في صفة الكلب:

فصار ما في جلده في المرجل

ولم يَضرناْ معه فقدُ الأجدل

أي شيء أعجبك من هذا الوصف؟

ص: 152

أعذوبة عبارته أم لطف معناه؟ أما قرأت رجز الحسن بن هانئ وطردية ابن المعتز أما كان في المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران ما تتشاغل به عن بنيات فكرك من اللفظ اللئيم؟ وعن قولك:

أرقُ على أرقٍ ومثليَ يَأرق

وجَوىً يزيدُ وعبرةُ تترقرقُ

أهكذا تكون الافتتاحات؟ وعن قولك:

أحبُّك أو يقولوا جرّ نملُ

ثَبيِراً وابن رِيعا

أهكذا تكون المخالص؟ وعن قولك:

ص: 153

فقلقلْت بالهمّ الذي قلقل الحشا

قلاقلَ عيِسى كلهن قلاقلُ

قال أبو علي الحاتمي فأقبل على وقال أين أنت من قولي؟

كأن الهامِ في الهيجا عيونُ

وقد طُبِعتْ سيوفُك من رُقاد

وقد صُغتَ الأسَنة من هُموم

فما يَخْطُرْنَ إلَاّ في فؤاد

وأين أنت من قولي في وصف جيش:

في فيلق من حديد لو قذفت به

صَرْفَ الزمان لما دارتْ دوائرُهُ

وأين أنت من قولي؟:

لو تَعقِل الشجرُ التَّي قابلتهاَ

مدّتُْ مَحييِةً إليكَ الأغْصُنا

ص: 154

ومن قولي أيضاً:

أينفع في الخيمة العُذَّلُ

وتشملُ مَنْ دَهَره يَشمَلُ

وما اعتمدَ اللهُ تَقْويضَها

ولكن أشارَ بما تَفْعَلُ

وقولي فيها أيضاً:

وملمومةُ زَرَدُ ثوبُها

ولكنه بالقنا مُخْملُ

وأين أنت من قولي؟

الناسُ ما لم يَرَوْك أشباهُ

والدهرُ لفظُ وأنت معناه

وأين أنت من قولي؟

وما شَرقي بالماء إلاّ تذكراً

لماء به أهلُ الحبيب نزولُ

ص: 155

يُحرمه لمعُ الأسنةِ فوقه

فليس لظمآن إليه سبيلُ

أما يكفيك إحساني في هذه وتغفر إساءتي في تلك؟ قلت: ما أعرف لك إحساناً في جميع ما ذكرت، وإنما أنت سارق متبع، وآخذ مقصر وفيما تقدم عن المعاني مندوحة عن التشاغل بها.

فأما قولك:

كأن الهام في الهيجا عيونُ

وقد طبعت سيوفك من رقاد

وقد صُغتَ الأسنة من هموم

فما يخطرن إلا في فؤاد

فمنقول من منصور النمري:

ص: 156

فكأنما وَقْعُ الحُسامِ بهامه

خَدَرُ الأسنة أو نُعاسُ الهاجع

وأما قولك:

في فيلق من حديد لو قذفت به

صرفَ الزمان لما دارت دوائره

فإنما نقلته نقلاً لم تحسن فيه، وهو قول الناجم:

ولي في أحمد أملُ بعيدُ

ومدحُ قد مدحتُ به طريفُ

مديحُ لو مدحتُ به الليالي

لما دارتْ علىّ لها صروفُ

والناجم نقله من قول أرسطو وهو: قد تكلّمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علىّ صروفه.

وأما قولك:

ص: 157

لو تعقل الشجر التي قابلتها

مدّتْ مُحَيَّيةً إليكَ الأغصنا

فهذا معنى مبذول قد تجاذبته الشعراء، وأول من نطق به الفرزدق بقوله:

يكاد يُمسكه عِرفانَ راحتهِ

ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يَستلمُ

ثم تكرر على ألسنة الشعراء، إلى أن قال أبو تمام:

لو سعتْ بقعةُ لإعظام أخرى

لَسَعى نحوَها المكانُ الجديبُ

وأخذ هذا المعنى البحتري، فقال:

ولَوَ إن مشتاقاً تكلف فوق ما

في وُسْعه لَسعى إليك المنِيرُ

وأما قولك:

ص: 158

وما اعتمد الله تقويضها

ولكن أشار بما تفعل.

فهذا مأخوذ من قول رحل مدح بعض أمراء الموصل، وقد عزم على المسير، فاندق لواؤه فقال:

ما كان مُندقُّ اللواءِ لريبةِ

تُخشى ولا أمر يكون مرتلا

إلَاّ لأن العودَ صغرّ متنهَ

صِغَرُ الولاية فاستقل الموصلا

وأما قولك:

الناس ما لم يَرَك أشباه

والدهر لفظُ وأنت معناه

فمنقول من قول منصور بن بسام

ص: 159

قد استوى الناسُ وماتَ الكمالْ

وصاحَ صرفُ الدهرِ أين الرجالْ

هذا أبو العباسِ في نَعْشهِ

قوموا انظروا كيف تسير الجبالْ

وأما قولك:

وملمومة زردُ ثوبهاُ

ولكنه بالقنا مُخمَلُ.

فمنقول من قول أبي نواس:

أمامَ خَميِس أُرجُوان كأنُه

قميصُ مَحوكُ من قَناً وجياد

وقال بعض الحاضرين ما أحسن قوله: قوموا انظروا كيف تسير الجبال! فقال أبو الطيب اسكت ما فيه من حسن إنما سرقة من قول النابغة وهو:

ص: 160

يقولون حِصنُ ثم تأبى نفوسُهم

وكيف بحصن والجبال جُنوح

قال الحاتمي وأما قولك: " والدهر لفظُ وأنتَ معناه " فمنقولُ من الأخطل وهو:

وإن أمير المؤمنين وفعله

لك الدهر لا عارُ بما فعل الدهرُ

ثم قلتُ له: أتراه أخذه من أحد؟ فأطرق هنية ثم قال: ما تصنع بهذا؟ قلت ليستدل به على موضعك وموضع أمثالك من سرقة الشعر. فقال الله أكبر، سأفهمك، ثم قال: ألا قلت بل أخذه من قول النابغة

ص: 161

الذبياني: وهو أول من ابتكره، فقال:

وعيرتْني بنو ذُبيانَ خشيتَه

وهل علىَّ بأنْ أخشاه منْ عارِ

أخذه أبو تمام فقال وأجاد:

خَشَعوا لصولتك التي هي فيهمُ

كالموت يأتي ليس فيه عارُ

وأما قولك:

وما شَرَقي بالماء إلا تذكرا

لماء به أهل الحبيب نزول

يحرمه لمع الأسنة فوقه

فليس لظمآن إليه وصولُ

فهو من قول عبد الله بن دارة.

ألم تعلمي يا أحسنَ الناس أننَّي

وإن طال هجري في لقائكِ جاهدُ

ص: 162

فلا تعذُلينا في التنائي فإننا

وإياكِ كالظمآن والماءُ بارد

يراه قريباً دانيا غير أنه

تحول المنايا دونَه والمرَاصِدُ

فقال أبو الطيب: ألست القائل:

ذي المعالي فليعلونْ من تعالى

هكذا هكذا وإلاّ فلا لا

شرفُ ينطح النجومَ بِرَوقَيْ - هـ وعز يُقلْقل الأجبالا قلت بل أخذت البيت الأول من بكر بن النطاح:

يتلقى الندى بوجه حَييَّ

وصدورَ القنا بوجه وَقاح

ص: 163

هكذا هكذا تكون المعالي

طُرُق الجِدّ غيرُ طُرْقِ المُزاح

وأخذت الثاني من بيت أبي تمام وأفسدته.

همةُ تنطَحُ النجومَ وحَظُ

آلفُ للحضيض فهو حَضيِضُ

قال: فأي شيء أفسدته؟ قلت: جعلت لشرف الرجل قرنا. قال هي استعارة. قلت: استعارة خبيثة. قال: أقسمت بالله إني لم أقرأ شعراً قط لأبي تمامكم. فقلت: هذه سوءة لو سترتها كان أولى. قال: السوءة قراءة شعر مثله، أليس هو القائل؟:

ص: 164

خَشُنْتِ عليه أختَ بني الخُشينِ

وأنجحَ فيكِ قولُ العاذِلَيْنِ

وهو الذي يقول:

تسعون ألفاً كآساد الشَّرَى نَضِجتْ

جُلُودها قبل نُضجِ التين والعنب

وهو الذي يقول:

أقول لقُرحانٍ من البَينِ لم يُصِبْ

رَسيسَ الهوى بين الحَشاَ والترائب

ما قرحان البين؟ أخرس الله لسانه! فقلت له: يا هذا، قد كذبت نفسك، هذا من أدل الدليل على أنك قد قرأت شعر الرجل، بتتبعك مساويه، ثم قلت: يتسم أبو تمام بميسم النقيصة وهو الذي يقول:

نوالكُ ردّ حُسادي فُلولا

ص: 165

.. وأصلح بين حُسادي وبيني

هلا اعتبرت البيت بهذا البيت الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؟ وأما قوله تسعون ألفا. . . البيت، فله خبر لو عرفته وتقصيته، لما قلت ما قلتثم قصصت عليه سبب إيراده. ثم قلت له وفي هذه القصيدة ما لا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء، وأمراء الكلام وأرباب الصناعة أن يأتي بمثله. قال وما هو؟ قلت لو قال قائل لم يبدأ أحد بأوجه ولا أحسن ولا أخصر من قوله:

السيف أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ

في حَدِه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ

ص: 166

لما عُنّف في ذلك، وفيها يقول:

رمى بك الله بُرجَيْها فهدّمها

ولو رمى بك غيرُ الله لم يُصبِ

وفيها:

لما رأى الحربَ رأىَ العينِ تَوْفَلسُ

والحربُ مشتقةُ المعنى من الحَرَب

ومنها:

فتح تَفَتّحُ أبوابُ السماء له

وتبرزُ الأرض في أثوابها القُشُبِ

غادرتَ فيهمْ بَهيِم الليلِ وهوْ ضُحى

يَشُلُّه وسْطَها صبحُ من اللهَبِ

حتى كأن جلابيب الدجى رغبتْ

عن لونها وكأن الشمس لم تَغبَ

أجبتَهُ معلنا بالسيفِ منصلتا

ولو أجبتَ بغير السيف لم تُجِبِ

وأما قوله. أقول لقرحان من البين. . . البيت فإنه يريد رجلا لم يقطعه أحبابه ولم ينأوا عنه وفي هذه القصيدة من المعاني

ص: 167

الرائعة، والتشبيهات العجيبة، والاستعارات البارعة، ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله، فمن ذلك قوله.

إذا العيِسُ لا قتْ بي أباُ دلَفٍ فقد

تقطَّعَ ما بيني وبين النوائب

يرى أقبحَ الأشياءِ أوْبةَ آمل

كستْه يدُ المأمولِ حلةَ خائب

وأحسنُ من نَوْر تُفتحه الصَّبا

بياضُ العطايا في سواد المَطالب

وقد علم الأفشيِنُ وهْو الذي به

يُصانُ رداءُ الملكِ من كل جاذبِ

بأرشق إذ سالتْ عليهم غمامةُ

جرتْ بالعوالي والعتاق الشوازبِ

ص: 168

بأنك لما استحنَّكَ الأمرُ واكتسىَ

أهابيَّ تَسْفي في وجوه التجارِبِ

وفيها يقول:

ولو كان يَفني الشعرُ أفناه ما قَرَتْ

حياضُك منه في العصور الذواهب

ولكنه فيضُ العقول إذا انجلتْ

سحائب منه أعْقِبَتْ بسحائب

فبهره ما أوردتهُ عليه، وأمسك عنان عبارته، وحبس بنيات صدره، وعقل عن الإجابة لسانه، وكاد أن يشغب، لولا ما خاف من عاقبة شغبه ومعرفته بمكاني في تلك الأيام، وأن ذلك لا يتم له، فما زاد على أن قال: أكثرت من أبي تمام فلا قدس الله روح أبي تمام! فقلت: لا قدس الله روح السارق

ص: 169

منه، الواقع فيه! ثم قلت: ما الفرق في لغة العرب بين التقديس والقداس والقادس؟ قال: وأي شيء غرضك في هذه المذاكرة؟ بل المهاترة؟ ثم قال: التقديس: التطهير، ولذلك سمي القدس قدساً، لأنه يشتمل على الذي يكون به الطهور. وكل هذه الأحرف تئول إليه، فقلت له: ما أحسبك أمعنت النظر في كتب اللغة، وعلوم العرب، ولو تقدم منك مطالعة لها، ما جمعت بين معاني هذه الكلمات، مع تباينها؛ لأن القداس بتشديد الدال: حجر يلقى في البئر لعلم غزارة ما فيه

ص: 170

من قلته. حكى ذلك ابن الأعرابي. والقداس يشبه الجمان يعمل من الفضة حكى ذلك الخليل، واستشهد بقوله " كنظم قداس سلكه متقطع ".

والقادس: السفينة فلما علوته بالكلام قال: يا هذا، اللغة مسلمة لك، فقلت: كيف تسلمها وأنت أبو عذرتها وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقاتها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن غربيها منك، وشرع الجماعة يسألونني العفو عنه، وقبول عذره، وكنت بلغت شيئاً كان في صدري، وعلمت أن الزيادة على

ص: 171

الحد الذي انتهيت إليه ضربُ من الأشر والبغي، ولا أراه في مذهبي، ورأيت له حق التقدم في صناعته فطأطأت له كنفي، واستأنفت جميلا من وصفه، ونهضت، فنهض لي مشيعا إلى باب الدار، حتى ركبت وأقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلت بقية يومي بشغل عن لي عن حضرة الوزير المهلبي، وانتهى إليه الخبر.

وأتت رسله ليلا، فسرت إليه، وقصصت عليه القصة بتمامها، فحصل له من السرور والابتهاج بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة، وإخباره بكل ما أخبرته.

ص: 172

وأخبرني الرئيس أبو القاسم محمد بن العباس أنه بمجرد دخوله على معز الدولة قال: أعلمت ما كان من أبي علي الخاتمي والمتنبي؟ فإنه شفي منه صدراً. قال أبو علي الحاتمي: وشاهدت من فضيلته، وصفاء ذهنه، وجودة حذقه، ما حداني على عمل الحاتمية، وتأكدت بيني وبينه الصحبة، وصرت أتردد إليه أحياناً.

قال الخالديان: كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية جيد النقد. ولقد حكي بعض من كان يحسده أنه كان يضع من الشعراء المحدثين؛ ويغض من البلغاء

ص: 173

الملفقين، وربما قال أنشدوني لأبي تمامكم شيئاً حتى أعرف منزلته من الشعر، فتذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا، فأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعراً له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام استحسنه مولانا أدام الله تأييده فاستجاده واستعاده.

فقال أبو الطيب هذا يشبه قول أبي تمام، وأتى بالبيت المأخوذ منه المعنى، فقلنا قد سررنا لأبي تمام إذ عرفت شعره، فقال: أو يجوز للأديب ألا يعرف شعر أبي تمام، وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده

ص: 174

فقلنا قد قيل إنك تقول كيت وكيت، فأنكر ذلك، وما زال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام، وكان يروي جميع شعره.

وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين علي غريبها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل إن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فقال له في الحال حجلي وظربي.

قال الشيخ أبو علي الفارسي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لها ثالثاً فلم أجد. وحسبك من يقول

ص: 175

مثل أبي على في حقه ذلك. ولما استقر بدار السلام، وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذاهباً بنفسه عن مدح غير الملوك شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء العراق، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، فلم يجبهم، ولم يفكر فيهم، فقيل له في ذلك فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعر منهم:

أرى المتشاعرين غَرُوا بذمي

ومَنْ ذا يحمَدُ الداء العُضالا

ومن يك ذا فمٍ مّرٍ مريضٍ

يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالا

ص: 176

وقوله:

أفي كِلّ يوم تحت ضبِنْي شويعرُ

ضعيفُ يقاويني قصيرُ يُطاولُ

لساني بِنطق صامتُ عنه عادلُ

وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل

وأتعب من ناداكَ من لا تُجيبه

وأغيظُ من عاداك من لا تُشاكل

وما التيهُ طبعي فيهمُ غيرَ أنني

بغيضُ إلىّ الجاهلُ المتغافل

وقولي:

وإذا أتتك مِذَمّتي من ناقص

فهي الشهادةُ لي بأني فاضل

ولما بلغ الحسن بن لنكك بالبصرة

ص: 177

ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء العراق فيه واستخفافهم به كقولهم فيه: أيُّ فضلٍ لشاعر يطلبُ الفض - لَ من الناس بُكرةً وعَشيِاّ عاش حيناً يبيع بالكوفة الما - ءَ وحيناً يبيع ماء المحّيا وكان ابن لنكك حاسداً له، طاعناً عليه، هاجياً إياه، زاعماً أن أباه كان يسقي الماء بالكوفة، فشمت به، وقال:

قواد لأهل زمان لا خلاق لهم

ضلوا عن الرشدِ من جهل بهم وَعُموا

ص: 178

أعطيتمو المتنبي فوق مُنْيته

فزوّجوه برغمٍ أمهاتِكمُ

لكن بغدادَ جاد الغيثُ ساكنهاَ

نِعالُهم في قَفا السقاءِ تزدحمُ

ومن قوله فيه: متنبيكمُ ابنُ سقاءَ كوفا - نِيَّ ويُوحَي من الكنيف إليهِ

كان مِنْ فِيه يَسلحُ الشعرَ حتى

سلحتْ فقحة الزمانِ عليهِ

ومن قوله فيه:

ما أوقحَ المتنبي

فيما حكى وادعاهُ

أبيح مالاً عظيماً

لما أباح قفاه

يا سائلي عن غِناه

من ذاك كان عَناه

ص: 179

إنْ كان ذاك نبيا

فالجاثَليقُ إلهُ

ثم إن أبا الطيب اتخذ الليل جملا، وفارق بغداد متوجها إلى حضرة أبي الفضل ابن العميد. قيل إن الصاحب بن عباد طمع في زيارة المتنبي إياه بأصفهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، وهو إذ ذاك شاب، والحال حويلة، والبحر دُجيلة، ولم يكن استوزر بعد، فكتب يلاطفه في استدعائه، ويضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه: إن غليما معطاء بالري

ص: 180

يريد أن أزوره وأمدحه، ولا سبيل إلى ذلك. فصيره الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة، يتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته وأحفظهم وأكثرهم استعمالا لها، وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته، وكان أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد يسمع بأخبار أبي الطيب، وكيف اشتهاره في الأقطار، وترفعه عن مدح الوزراء.

وسمع أنه خرج من مدينة السلام متوجهاً إلى بلاد فارس وكان يخاف ألا يمدحه، ويعامله معاملة المهلبي، فيتكره من ذكره، ويعرض

ص: 181

عن سماع شعره. قال الربعي: قال لي بعض أصحاب ابن العميد: قال دخلت عليه يوماً قبل دخول المتنبي فوجدته واجماً، وكانت قد ماتت أخته عن قريب، فظننته واجداً لأجلها، فقلت لا يحزن الله الوزير. فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي، واجتهادي في أن أخمد ذكره، وقد ورد على نيف وستون كتاباً في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:

طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرُ

فَزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدُقه أملاً

شَرِقتُ بالدمع حتى كادَ يَشرَقُ بي

ص: 182

فكيف السبيلُ إلى إخماد ذكره؟ فقلت: القدر لا يغالب، والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر، واشتهار الاسم، فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر، وهذان البيتان من قصيدة لأبي الطيب يرثى بها أخت سيف الدولة، وأنفذها إليه من بغداد سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وأول القصيدة:

يا أخت خير أخ يا بنتَ خيرِ أب

كنايةً بهما عن أشرف النسبٍ

وفي الشطر الثاني من هذا البيت نقد للمتأمل.

وفي صفر سنة أربع وخمسين ورد على أبي

ص: 183

الفضل بن العميد وهو بأرجان فحسن موقعه منه، وأنشده:

بادٍ هواكَ صبرتَ أو لم تصبراَ

وبُكاكَ إن لم يجر دمعكُ أو جرى

قيل: سئل أبو الطيب عن نصب تصبرا، فقال: سلوا الشارح، يعني ابن جني.

كم غَرْ صبرُك وابتسامُك صاحبا

لما رآه وفي الحشا ما لا يُرى

قال أبو عبد الله: كان ابن العميد كثير الانتقاد علي أبي الطيب، فإنه لما أنشده هذا البيت قال: يا أبا الطيب، تقول باد هواك ثم تقول بعده كم غر صبرك؟ ما أسرع ما نقضتَ ما ابتدأت به! فقال تلك حال

ص: 184

وهذه حال:

أمرَ الفؤادُ لسانهَ وجفونهَ

فكتمْنَه وكَفَى بجسمكُ مخبرا

تَعِس المهِاري غيرَ مَهْرِيَّ غَدا

بمصَّور لَبسَ الحريرَ مُصَّورا

نافستُ فيه صورةً في خِدره

لو كنتُها لخفِيتُ حتى يَظهر

لا تَتْربِ الأيدي المقيمةُ فوقه

كِسرى مُقامَ الحاجَبيْن وقيصرا

يَقِيانِ في أحد الهوادِج مقلةً

رَحَلتْ وكان لها فؤاديَ محْجرا

وقدَ استعمل أبو الطيب هذه الطريقة حيث قال في وصف الخَيمة وهو:

وأحسنُ من ماء الشيبةِ كله

حيَا بارق في فازة أنا شائمه

عليها رياضُ لم تَحُكُها سحابةُ

وأغصانُ دَوْح لم تُغَنَ حمائمهُ

ص: 185

وفوق حواشي كلّ ثوب مُوَجَّهٍ

من الدّرِ سِمْطُ لم يُثقَّبه ناظمُه

ترى حيوانَ البرّ مصطلحا بهاً

يحارب ضَدّ ضدَّه ويسالمهُ

إذا ضربتْه الريُح ماجَ كأنه

تجول مذاكيه وتَدْ أي ضراغمه

وفي صورة الروميّ ذي التاج ذلةُ

لأبلجَ لا تيجانَ إلَاّ عمائمه

وكذلك أوردها أبو عبادة البحتري في قصيدته التي أولها:

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن ندى كل جبس

إلى أن قال في وصف إيوان كسرى:

ص: 186

وهويُنبيكَ عن عجائبِ قومٍ

لا يُشابِ البيانُ فيهم بَلْبس

فإذا ما رأيتَ صورةَ إنطا - كية ارتعتَ بين روم وفُرس

والمنايا مواثلُ وأنوشِرْ

وأن يُزجي الصفوفَ تحت الدَّرَفس

في اخضرار من اللباسِ على

أصفرَ يختالُ في صَبيغة وَرْس

وعِراكُ الرِجال بين يديه

في خُفوتٍ منهم وإغماض جَرْس

من مُشيحٍ يَهوى بعامل رمح

ومُليح من السنانِ بِتُرْس

ص: 187

تصفُ العينُ أنهم جدُّ أحيا - ءٍ لهم بينهم إشارةُ خَرُس

يَغْتلي فيهمُ ارتيابيَ حتى

تتقراهمُ يدايَ بِلَمْس

والسابق إليها أبو نواس في قوله:

قرراتُها كسرى وفي جَنَباتهِا

مَهاً تدّريها بالقِسِيّ الفوارسُ

ومن قصيدة المتنبي:

أرَجَان أيتها الجياد فإنه

عزمي الذي يَذر الوشيح مُكسر

لو كنتُ أفعل ما اشتهيتِ فَعالهَ

ما شق كوكبكُ العجاجَ الأكدرا

أمَّي أبا الفضل المبَّر أليِتيَّ

لأيممنّ أجلَّ بحر جوهرا

ص: 188

أفتى برؤيته الأنامُ وحاشَ لي

من أن أكون مُقصَّراً أو مُقْصراَ

صغتُ السَّوار لأي كف بشرتْ

بابنِ العميد وأيّ عَبد كَبَرا

ومنها:

يتكسَّبُ القصبُ الضعيفُ بخطه

شرفاً على صُمّ الرماحِ ومَفخَراَ

وَيبينُ فما مسّ منه بنانهُ

تِيهُ المُدلّ فلو مشَى لَتبخَترَا

يا مَنْ إذا وردَ البلاد كتِابُه

قبلِ الجيوش ثنى الجيوشَ تَحَيُّرا

أنتَ الوحيدُ إذا رَكبت طريقةً

ص: 189

.. ومَن الرَّديفُ وقد ركبتَ غَضنفرا

قَطَفَ الرجالُ القولَ قَبْل نَباتهِ

وقَطَفْتَ أنتَ القولَ لما نَوَّرا

فَهُوَ المُتَبَّع بالمسامع إن مَضَى

وهُوَ المضاعَف حُسّنُهُ إنْ كُرَّرَا

وإذا سَكَتَّ فإن أبلغَ خاطب

قَلَمُ لكَ اتَّخذَ الأناملَ مِنبراَ

ورسائلُ قطع العُداةُ سِحَاءَها

فَرَأوْا قَناً وأسنَّةً وسَنَوَّرَا

فدعاكَ حُسَّدُكَ الرئيسَ وأمسَكوا

ودعاكَ خالقكَ الرئيسَ الأكْبَرا

خَلَفَتْ صِفاتُكَ في العيون كَلامَهُ

كالخطَّ يَملأُ مسْمَعَيْ مَنْ أبصَرا

ص: 190

أرَأيتَ هِمةَ اناقتي في ناقةٍ

نَقَلَتْ يدَّ اسُرُحاً وخُفّاً مُجْمراَ

تَرَكَتْ دُخان الرَّمْث في أوطانه

طلبا لقوم يُوقِدُون العَنْبراَ

وتَكَرَّمَتْ رُكَباتُها عن مَبْرَكٍ

تَقَعانِ فيه وليس مِسْكا أذْفَرَا

لا يخفي ما في هذا البيت.

ومنها:

مَنْ مُبلغُ الأعرابِ أنَّىَ بَعْدهاَ

جالَسْتُ رَسْطَاليس وَالإسْكَنْدَرا

ومَلِلْتُ نَحْرَ عِشارها فأضافَني

منْ يَنحَرُ البِدَر النضَار لمن قَرَى

وسَمِعْتُ بَطليموس دارس كُتْبه

مُتَمَلكاً مُتَبَدياً مُتَحَضرا

ولَقيِتُ كلَّ الفاضلينَ كأنماَ

رَدَّ الإلهَ نُفُوسَهْم والأعْصُرَا

ص: 191

نُسِقوا لنا نَسَق الحِسابِ مُقَدَّما

وأتى فذلك إذْ أتيْتَ مُؤخَّراً

ورأيت في نسخة قديمة) وأتت فذلك (.

ومن تأمل هذه الأبيات علم أن أبا الطيب قد ملك رقاب الكلام، واستعبد كرائمها، واستولد عقائمها، وفي ذلك فليتنافس، وعن مقامه فليتقاعس.

ومنها:

يَا ليتَ باكيةً شجاني دَمْعُها

نظرتْ إليكَ كما نظرتُ فتَعْذرَا

فَتَرى الفَضيلةَ لا تردُّ فَضيلةً

الشَّمس تَشْرقُ والسَّحاب كَنَهْورا

وتنازع ندماء ابن العميد في البيت الأخير، فقال: أثبتوه

ص: 192

حتى أتأمله، فأثبت البيت، ووضع بين يديه، فأطرق مليا يفكر فيه، ثم قال هذا يعطلنا عن المهم، وما كان الرجل يدري ما يقول.

وقد أشار المتنبي إلى أن ابن العميد ينتقد شعره بقوله: هل لعُذْرِي إلى الهُمام أبي الفض - ل قَبولُ سَوادُ عيني مدادُهْ

أنا من شِدةِ الحياء عليلُ

مَكرماتُ المُعِلَّةِ عُوَّادهْ

ما كفاني تقصيرُ ما قلتُ فِيِه

عن عُلَاه حتَّى ثناه انتقادُهْ

إنّني أصْيَدُ البُزاةِ ولكنْ - نَ أجَلَّ النجومِ لا أصطادُهْ

ص: 193

رُبَّ مالا يُعَبّر عَنهُ

والذي يُضْمرِ الفؤادُ اعتقادهُ

ما تعوَّدتُ أن أرىَ كأبي الفضْ - ل وهذا الذي أتاهُ اعتيادهُ

إنّ في الموج للغريق لَعُذْراً

واضحاً أن يفوتَهُ تَعدادهْ

وهذه الأبيات من قصيدته التي يمدح بها ابن العميد، ويهنئه بالنوروز وأولها:

جاء نيروزنُا وأنتَ مرادهُ

وَرَرَتْ بالذي أراد زِنادُهْ

هذه النظرةُ التي نالها من - كَ إلى مثلها من الحول زادُهْ

ينثني عنك آخرَ اليوم منه

ناظرُ أنتَ طرْفُه ورُقادُهْ

نحن في أرض فارس في سرور

ذا الصباحُ الذي نرى ميلادُهْ

ص: 194

عظّمته ممالكُ الفرس حتى

كلُّ أيامِ عامهِ حُسّادُهْ

ما لبسنا فيه الأكاليلَ حتى

لَبِسْتها تلاعُه ووهادُهْ

وكان من عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهم، فقال في آخرها: كثُر الفكُر كيف نُهدي كما أه - دت إلى رّبها الرئيسِ عبادُه والذي عندنا من المال والخي - ل فمنه هباتُه وقيادُه

فبعثنا بأربعين مِهارٍ

كلُّ مُهر ميدانهُ إنشادهُ

عددُ عِشتهَ يَرى الجسمُ فيه

أرَبا لا يراه فيما يُزادُه

ص: 195

فارتبطْها فإن قلباً نماها

مربطُ تسبِقُ الجيادَ جيادُه

وهذا من إحسان أبي الطيب. واحتج عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبة، وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليها، فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيدة على هذه العدة، ونسخت القصيدتان، وأنفذتا من أرجان إلى أبي الفتح بن أبي الفضل بن العميد بالري، فعاد الجواب يذكر شوقه إلى أبي الطيب، وسروره به، وأنفذ أبياتاً نظمها طعن فيها على

ص: 196

المتعرضين لقول الشعر، فقال أبو الطيب والكتاب بيده ارتجالاً:

بكُتْبِ الأنام كتابُ ورد

فدتْ يَدَ كاتبه كلُّ يدْ

يُعبرّ عَمَّالنا عنده

ويذكر من شوقه ما نجد

فأخرقَ رائَيه ما رأى

وأبرق ناقَده ما انتقد

إذا سمع الناس ألفاظَه

خلقنَ له في القلوب الحسد

فقلت وقد فَرَس الناطقين

كذا يفعل الأسد ابنُ الأسد

وأبو الفضل بن العميد هذا هو الذي ورد عليه أبو نصر عبد العزيز بن نبانة السعدي

ص: 197

وامتدحه بالقصيدة التي أولها:

بَرْحُ اشتياقي وادّكاري

ولهيبُ أنفاس حرِارِ

ومدامعُ عبراتُها

ترفضّ عن نوم مُطَار

لله قلبي ما يُجنْ - نُ من الهموم وما يُواري لقدِ انقضى سكرُ الشبا - ب وما انقضى وصبُ الخُمارِ

وكَبِرتُ عن وصل الصَّغا

روما سلوت عن الكبار

سَقياً لتغليسي إلى

باب الرُّصافة وابتكاري

ص: 198

أيامَ أخطِرُ في الصِّبا

نشوانَ مسحوب الإزار

حجّي إلى حَجَر الصّرا - ة وفي حدَائقها اعتماري ومواطنُ اللذاتِ أو - طاني ودارُ اللهو دارِي

لم يبق لي عيشُ يلذّم

سوى مُعاقرة العُقار

حَثَّي بألحان ترا - ءتْ بين ألحان القَمارِي وإذا استهل ابن العمي - د تضاحكتْ دِيمُ القِطار

خِرْقُ صفت أخلاقه

صفو السّبيكِ من النُّضار

ص: 199

فكأنما رُدِفتْ موا - هبه بأمواج البِحار

وكأنّ نشر حديثه

نشرُ الخُزامَي والعَرار

وكأننا مما تُفرّم

قُ راحتاه في نِثار

كلفُ بحفظ السر يُحْ - سَبُ صدرهُ ليل السرار إن الكبار من الأمو - رِ تُنال بالهمم الكبار وإلى أبي الفضل انبعثْ - ن هواجسُ الشعر السَّواري فتأخرت صلته عنه، فشفع هذه القصيدة بأخرى، وأتبعها برقعة، فلم يزده ابن العميد على الإهمال،

ص: 200

مع رقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوسل إلى أن دخل عليه يوم المجلس، وهو حافل بأعيان الدولة، ومقدمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه، وأشار بيد إليه، وقال: أيها الرئيس إني قد لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذل النعل، وأكلت النوى المحرق، انتظاراً لصلتك فوالله ما بي شيء من الحرمان إلا شماتة قوم نصحوني فأغششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم؟ وبأي حجة أقاومهم؟ ولم أحصل من مديح بعد مديح، ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم ويأس مسقم، فإن كان

ص: 201

للنجح علامة فأين هي؟ وما هي؟ إن الذين تحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وإن الذين هجوا كانوا مثلك فزاحم بمنكبك أعظمهم سناماً، وأنورهم شعاعاً، وأشرفهم يفاعاً، فحار ابن العميد، ولم بدر ما يقول، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دُفْعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه. فقال ابن نباتة: أيها الرئيس هذه نفثة صدر قد دوى منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغنى إذا

ص: 202

مطل يستلأم، فاستشاط ابن العميد وقال: قد والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله، ولقد نافرت العميد من دون هذا حتى دفعنا إلى شغب عاتم، ولجاج قاتم، ولست ولي نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضى عنك، وإن بعض ما أوقرته في مسامعي، ينقض مرة الحلم، ويبدد شمل الصبر، هذا، ولا استقدمتك بكتاب، ولا استدعيتك برسول

ص: 203

ولا سألتك مديحي، ولا كلفتك تقريضي، فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول ولا سألتني مدحك، ولا كلفتني تقريضك، ولكنك جلست في صدر إيوانك بأبهتك، وقلت لا يخاطبْني أحد إلاّ بالرياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فأني وزير ركن الدولة، وزعيم أولياء الحضرة، والقيم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال، وإن لم تدعني بلسان المقال، فثار ابن العميد مغضباً، وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس، وماج الناس، وسمع ابن نباته وهو مار في صحن الدار يقول: والله إن سف التراب، والمشي

ص: 204

على الجمر، أهون لنا من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهيناً له، ومشتريه مماكساً فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد، وثاب إليه حلمه، التمسه من الغد ليعتذر إليه، ويزيل أثر ما كان منه، فكأنما غاض في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات.

وسار أبو الطيب من بعد ما ودع ابن العميد ومدحه بالقصيدة التي أولها:

نسيتُ وما أنسى عتابا على الصدّ

ولا خَفراً زادتْ به حمرةُ الخدِّ

قاصداً أبا شجاع عضد الدولة

ص: 205

وهو بشيراز، وأنشده القصيدة التي أولها:

أوْه بديلً من قَوْلتي واهاَ

لمن نأتْ والبديلُ ذكراها

وقد رأيتُ الملوك قاطبةً

وسرتُ حتى رأيتُ مولاها

قيل لما سمع سيفُ الدولة هذا البيت قال أتراه أدخلنا في هذه الجملة؟ ومنها:

ومَن مناياهم براحته

بأمرها فيهم وينهاها

أبا شجاع بفارس عضد الدَّ

ولة فَناَّ خُسرُو شَهَنْشاها

أسامياً لم تزدْه معرفةً

وإنما لذةً ذكرناها

ص: 206

تذكرتُ بهذا البيت ما نقله بعض أئمة الأدب: أن رجلاً من مدينة السلام كان يكره أبا الطيب المتنبي، فآلى على نفسه ألا يسكن مدينة يذكر بها أبو الطيب، وينشد كلامه، فهاجر من مدينة السلام، وكان كلما وصل بلداً يسمع بها ذكره يرحل عنها، حتى وصل إلى أقصى بلاد الترك، فسألا أهلها عن أبي الطيب فلم يعرفوه، فتوطنها، فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى صلاتها بالجامع، فسمع الخطيب ينشد بعد ما ذكر أسماء الله الحسنى.

أسامياً لم تزَده معرفةً

وإنما لذةً ذكرناها

فعاد إلى دار السلام. ومن القصيدة:

ص: 207

لو فطنتْ خيلةُ لنائله

لم يُرضَها أن تراه يرضاها

هذا البيت له معنيان: أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه لما رضيت له أن تكون من جملتها لأنها أنفس منها. والثاني لم ترض لأنه إذا ملكها وهبها.

ومنها:

تُشرقُ تيجانهُ بغرّتِه

إشراق ألفاظهِ بمعناها

دان له شرقُها ومغربُها

ونفسهُ تستقل دُنياها

تجمعتْ في فؤاده هممُ

مِلءُ فؤاد الزمان إحداها

وحكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني وكان كاتب الإنشاء

ص: 208

عند عضد الدولة عظيم المنزلة منه قال: لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة، وانصرف عنه، أتبعه بعض جلسائه، وقال له: سله كيف شاهد مجلسنا؟ وأين الأمراء الذين لقيهم منا؟ فامتثلت أمره، وجاريت المتنبي في هذا الميدان، وأطلت معه عنان القول، فكان جوابه عن جميع ما سمعه مني أن قال: ما خدمت عيناي قلبي كاليوم، ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه، وكان ذلك منه أوكد الأسباب التي حظي بها عند الدولة، وكان أبو علي الفارسي

ص: 209

إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي، وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان لابن جنى هوى في أبي الطيب، كثير الإعجاب بشعره، لا يبالي بأحد يذمه أو يحيط منه. وكان يسوء إطناب أبي علي قي ذمه، واتفق أن قال أبو علي يوماً اذكروا لنا بيتاً من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابن جني وأنشد:

حُلْتِ دون المزار لوزر

تِ لحال النحولُ دون العِناق

فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال

ص: 210

لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى، فقال ابن جنى: للذي يقول:

أزورهم وسوادُ الليل يشفعُ لي

وانثنى وبياضُ الصبح يُغرى بي

فقال والله هذا حسن بديع جداً، فلمن هما؟ قال للذي يقول:

أمضى إرادتهِ فسوف له قدُ

واستقرب الأقصى فثَم له هُنا

فكثر إعداب أبي علي، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟ فقال ابن جني: للذي يقول:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى

ص: 211

فقال وهذا والله، وقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا من القائل؟ قال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قلت نعم.

قال والله لقد حببته إلي، ونهض، ودخل على عضد الدولة، فأطال في الثناء على أبي الطيب، ولما اجتاز به استنزله، واستنشده، وكتب عنه أبياتاً من الشعر.

قال الربعي: كنت يوماً عند المتنبي بشيراز، فقيل له أبو علي الفارسي بالباب، وكانت

ص: 212

تأكدت بينهما المودة، فقال بادروا إليه فأنزلوه، فدخل أبو علي وأنا جالس عنده، فقال يا أبا الحسن خذ هذا الجزء، وأعطاني جزءاً من كتاب التذكرة، وقال: اكتب عن الشيخ البيتين اللذين ذكرتك بهما وهما:

سأطلبُ حقي بالقنا ومشايخ

كأنهمُ من طُول ما التثموا مُردُ

ثقال إذا لاقوا خِفافٍ إذا دُعوا

كثير إذا شَدُّوا قليل إذا عُدُّوا

ومن مدائح أبي الطيب في عضد الدولة القصيدة التي يذكر فيها شعب بوان وأولها:

مغاني الشّعبِ طيباً في المغاني

ص: 213

.. بمنزلة الربيع من الزمانِ

ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها

غريبُ الوجه واليدِ واللسانِ

ملاعبُ جنَّة لو سار فيها

سليمانُ لسار بِترْجُمانَ

فلما وصل إلى قوله:

فسرتُ وقد حجبن الشمس عني

وجئن من الضياء بما كفاني

وألقى الشرقُ منها في ثيابي

دنانيرً تفرُ من البنان

فقال عضد الدولة والله لأقرنها وفعل:

لها ثمر تشيرُ إليك منه

بأشربه وقفن بلا أوان

ص: 214

وأمواهُ يَصلُّ بها حصاها

صليل الحليْ في أيدي الغواني

ومنها:

تَحِلُّ به على قلبٍ شجاعٍ

وترحلُ منه عن قلبٍ جبانِ

ومَنْ بالشّعب أحوجُ من حَمامٍ

إذا غنى وناح إلى البيان

وقد يتقاربُ الوصفان جداً

وموصوفاهما متباعدان

يقولُ بشعبِ بوان حصاني

أعن هذا يُسار إلى الطّعان؟

أبوكمْ آدمُ سنَّ المعاصي

وعلّمكم مُفارقة الجِنان

إلى أن قال:

فلو طُرحتْ قلوبُ العشق فيها

لما خافتْ من الحدقِ الحسانِ

ص: 215

ولم أر قبله شِبليْ هِزبْرٍ

كشبلية ولا مُهريْ رِهان

أشدَّ تنازعاً لكريم أصلٍ

وأشبه منظراً بأبٍ هِجانِ

وأكثر في مجالسه استماعاً

فلانُ دقّ رُمحاً في فلانَ

وأول رَأيةٍ رأيا المعالي

فقد علقا بها قبل الأوان

وأول لفظة فهما وقالا

إغاثة صارخ أو فكُ عانى

وكنتَ الشمس تبهر كلَّ عين

فكيف وقد بدتْ معها اثنتان

فعاشا عيشة القمرينُ يحيا

بضوئهما ولا يتحاسدان

ص: 216

ولا مَلَكَا سوى مُلكِ الأعادي

ولا ورِثا سوى مَن يقتلان

وكان ابنا عدو كاثراه

له ياءي حروفِ أنيسيان

أي زيادة أولاد عدوك كزيادة التصغير، فإنه زيادة نقص، وقد ابتدع هذا المعنى

دعاءُ كالثناء بلا رِياء

يؤديه الجَنان إلى الجَنان

ومن قصائده في عضد الدولة القصيدة التي أولها:

أثلث فإنا أيها الطللُ

نَبكي وتُرزِم تحتنا الإبلُ

ومنها:

قالت ألا تصحو فقلت لها

أعلْمَتِني أن الهوى ثملِ

ومنها:

ص: 217

قد رُوا عَفَوْا وعدوا وفَوْا اسئُلوا

أغنوا عَلَوْا ولُوا عدلوا

فوق السماك وفوق ما طلبوا

فإذا أرادوا غاية نزلوا

أخذه من قوله ابن الرومي وهو قوله:

نزلتم علي هام المعالي إذا ارتقى

إليها أناسُ غيرُكم بالسلالم

وذاك بعض المعنى الذي تضمنه قول ابن الرومي، لأنه قال: إنكم نزلتم علي هام المعالي، وأن غيركم يرقى إليها رقُياً، وأما المتنبي فإنه قال إنكم إذا أردتم غاية نزلتم، وأما قوله فوق السماك فإنه يغني عنه قول ابن الرومي نزلتم علي هام المعالي إذ المعالي فوق كل شيء

ص: 218

لأنها مختصة بالعلو مطلقاً، وقال يعزي عضد الدولة بعمته، وقد توفيت ببغداد، وورد عليه الكتاب بشيراز بالقصيدة التي أولها:

آخرُ ما المَلْكُ مُعّزي به

هذا الذي أثر في قلبهَ

لا جَزعا بل أنفاً شابَهُ

أن يَقْدر الدهُر على غَضْبهِ

لو درت الدنيا بما عنده

لاستحيتِ الأيامُ من عَتبهِ

لعلها تحسبِ أن الذي

ليس لديه ليس من حزبهِ

نحن بنو الموتى فما بالنا

نعافُ ما لابُدَّ من شربهِ

ص: 219

لو فكرّ العاشقُ في منتهى

حُسن الذي يسبيهِ

يموت راعي الضأن في جهله

موتة جالينوس في طِبِه

استغفر الله لشخص مضى

كان نداه منتهى ذنبه

يحسبِه دافنهُ وحده

ومجدهُ في القبر من صحبهِ

ما كان عندي أنّ بدر الدجى

يُوحشُه المفقودُ من شُهبهِ

وقال يودعه وهي آخر شعره، وفي أثنائها كلام جرى على لسانه كأنه ينعى فيه نفسه وهي من محاسن ما يؤتي به في المعنى الوداع وأولها:

ص: 220

فِدىً لك مَنْ يُقصّرِ عن مداكا

فلا مَلِكُ إذنْ إلَاّ فَداكا

إلى أن قال:

أروحُ وقد ختمتَ علي فؤادي

بحبّك أن يحُلَّ به سواكا

وقد حمّلْتني شكراً طويلا

ثقيلا لا أطيق به حَراكا

أحاذر أن يَشُقَّ على المطايا

فلا تمشي بنا إلا سِواكا

لعل الله يجعله رحيلا

يُعينُ على الإقامة في ذَراكا

لما أنجحت سفرته، وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة، ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي ألف درهم استأذنه في

ص: 221

المسير عنها، ليقضي حوائج في نفسه، ثم يعود إليها، فأذن له، وأمر بأن يُخلع عليه الخلع الخاصة، وتعاد صلتهُ بالمال الكثير، فامتثل ذلك، وأنشده هذه القصيدة، وفي أثنائها كلام ينعى فيه نفيه وإن لم يقصده كما قدمنا، فمنه قوله:

فلو أنى استطعت خفت خفضتُ طرَْفي

فلن ابصر به حتى أراكا

وهذه لفظة يتطير منها:

أرى أسفي وما سِرنْا شديداً

فكيف إذا غدا السيرُ ابتراكا

وهذا الشوقُ قَبل البين سيفُ

وهأنا ما ضُربتُ وقد أحاكا

ص: 222

إذا التوديع أعرض قال قلبي

عليك الصمتَ لا صاحبتَ فاكا

وهذا أيضاً من ذاك، ومنه:

ولولا أن أكثر ما تمنى

معاودةُ لقلتُ ولا منكاكا

أي لولا أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقلت له ولا بلغت مناك، ومنه:

قد استشفيتَ من داء بداء

وأقتلُ ما أعّلك ما شفاكا

أي قد أضمرت يا قلب شوقاً إلى أهلك، فكان ذلك داء لك،

ص: 223

فاستشفيت منه بأن فارقت عضد الدولة، ومفارقته داء لك أيضاً أعظم من داء شوقك إلى أهلك، فكأنك تداويت من فراقه بما هو أقتل لك من مكابدة الشوق إلى أهلك، وهذا شبيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" كَفى بالسلامة داء ". ومنها:

فأسترُ منك نجوانا وأخفى

هموماً قد أطلتُ لها العراكا

إذا عاصيتهاُ كانتْ شِداداً

وإن طاوعتهاُ كانت رِكاكا

ومنه:

زكم دون الثّوية من حزينٍ

يقول له قدومي ذا بذاكا

الثوية من الكوفة. يقول له قدومي ذا بذاكا: أي هذا القدوم

ص: 224

بتلك الغيبة ولك هذا السرور بذلك الحزن. ومنه:

ومن عَذْبِ الرُّضاب إذا أنخنا

يُقبل رحل تُرْوَك والورِاكا

تروك: اسم ناقة لم ير مثلها لعضد الدولة أمر له بها، والوراك شيء يتخذه الراكب كالمخدة تحت وركه.

يُحرّمُ أن يِمسّ الطيب بعدي

وقد عَلِق العبيرُ به وصاكا

وهذا أيضاً منه:

ويمنع ثغره من كل طيب

ويمنحهُ البشامة والأراكا

ص: 225

يُحدثُ مقلتيه النومُ عني

فليت النوم حدّث عن نداكا

وما أرضي لمقلته بحلم

إذا انتبهتْ توهمه ابتشاكا

ولا إلاّ بأن يُصْغى وأحكي

فليتك لا يتيمة هواكا

ومنه:

وفي الأحباب مُختصُّ يوجد

وآخرُ يدّعي معه اشتراكا

إذا اشتبهتْ دموعُ في خدود

تَبين مَنْ بكى ممن تباكى

ص: 226

فَزُلْ يا بُعدُ عن أيدي رِكاب

لها وقعُ الأسنةَ في حَشاكا

هذه استعارة حسنة لأنه خاطب البعد وجعل له حسا.

وأياً شئتِ يا طُرقي فكوني

أذاةً أو نجاة أو هلاكا

جعل قافية البيت الهلاك فهلك؛ وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال، فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة فقتل، كما

ص: 227

سنشرحه. ومنها:

أذمّتْ مكرماتُ أبي شجاع

لعيني من نواي على أُلاكا

ومَنْ أعتاضُ عنك إذا افترقنا

وكلُّ الناس زورُ ما خلاكا

وما أنا غيرُ سهم في هواء

يعود ولم يَجدْ فيه امتساكا

قال الخالديان كنا كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة، وكيف قتل؟ وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية، وله فضل، وأدب جزل، وحرمة، وجاه، فأجابنا عن كتابنا جوابا طويلاً يقول في أثنائه: وأما ما سألتما عنه من

ص: 228

خبر مقتل أبي الطيب المتنبي فأنا أسوقه لكما، وأشرحه شرحاً بيناً: اعلما أن مسيره كان من أواسط في يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقتل بضيعة تقرب من دير العاقول في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، والذي تولى قتله، وقتل ابنه وغلامه، رجلُ من بني أسد يقال له فاتك بن أبي جهل بن فراس ابن بداد. وكان من قوله لما قتله وهو متعفر: قبحاً لهذه اللحية يا سباب. وسبب

ص: 229

ذلك أن فاتكا هذا خال ضبة أخو والدته. وضبة ابن يزيد العيني الذي هجاه أبو الطيب بقوله:

ما أنصفَ القومُ ضبَّهْ

وأمَّه الطرطُبَّهْ

وإنما قلتُ ما قل

تُ رحمةً لا محبَّهْ

وما عليك من الق

تلِ إنما هي ضربهْ

وما عليك من العا

رِ أن أمك قحبه

وما يشق على الكل

ب أن يكون ابن كلبه

ما ضرها من أتاها

وإنما ضرّ صُلبه

ص: 230

ولم ينكها ولكن

عجانها ناك زُبّه

يا أطيب الناسِ نفسا

وألين الناس ركُبه

وأرخص الناس أما

تبيع ألفاً بحبهّ

كل الأيور سهام

بأمه وهي جعبة

وما على مَن به الدَّا

ءُ من لقاء الأطبة

فيقال إن فاتكا داخلته الحمية لما سمع ذكرها بالقبح في هذا الشعر، وما للمتنبي أسخف من هذا الشعر، ولا أو هي كلاماً، فكان

ص: 231

مع سخافته وركاكته سبب قتله، وقتل ابنه وغلمانه وذهاب ماله.

وأما شرح الخبر فإن فاتكا صديق لي، وهو كما سمى فاتك، لسفكه الدماء، وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال، فلما سمع الشعر الذي هجى به ضبة اشتد غضبه، ورجع على ضبة باللوم، وقال له: كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً، وأضمر غير ما أظهر، واتصل به انصراف المتنبي من بلاد فارس، وتوجهه إلى العراق، وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول، فلم يكن ينزل

ص: 232

عن فرسه، ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه؛ من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد، وكان فاتك خائفاً أن يفوته، وكان كثيراً ما ينزل عندي، فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسائل قوماً مجتازين عن المتنبي: قد أكثرت المسألة عن هذا الرجل. فأي شيء تريد منه إذا لقيته؟ فقال ما أريد إلا الجميل، وعذله على هجاء ضبة، فقلت له: هذا لا يليق بأخلاقك، فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعة لأسفكن دمه،

ص: 233

ولأمحقن حياته إلا أن يحال بيني وبينه قلت له كف - عافاك الله - عن هذا القول، وارجع إلى الله، وأزل هذا الرأي عن قلبك، فإن الرجل شهير الأسم، بعيد الصيت، ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية، والخلفاء في الإسلام، فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه، وقد قال الشاعر:

هجوتُ زهيراً ثم إني مدحتهُ

وما زالتِ الأشرافُ تُهجي وتُمدحُ

ولم يبلغ من جرمه ما يوجب قتله، فقال: يفعل الله ما يشاء وانصرف،

ص: 234

ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي، ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب، والطيب، والتجملات النفيسة، والكتب الثمينة، والآلات لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً، ولا شيئاً يساويه، وكان أكثر إشفاقه على دفاتره، لأنه كان قد انتخبها، وأحكمها قراءة وتصحيحاً، قال أبو نصر: فتلقيته، وأنزلته داري، وسألته عن أخباره، وعمن لقى، فعرفني من ذلك ما سررت به له، وأقبل يصف ابن العميد وفضله، وأدبه، وعلمه، وكرم

ص: 235

عضد الدولة ورغبته في الأدب، وميله إلى أهله، فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيب: على أي شيء أنت مجمع؟ قال: على أن أتخذ الليل مركباً، فإن السير فيه يخف على. قلت: هذا هو الصواب رجاء أن يخيفه الليل، ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً، وقلت له: والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخفية جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد، فقطب وجهه وقال: لم قلت هذا القول؟ فقلت: لتستأنس بهم. فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره، قلت الأمر كما

ص: 236

تقول، والرأي في الذي أشرت به عليك فقال تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح، فعرفني الأمر، وبين لي الخطب، قلت: إن هذا الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو غير راض عنك، لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه، قولهم مثل قوله، فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلا: الصواب ما رآه أبو نصر، خذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يديك إلى بغداد، فاغتاظ أبو الطيب

ص: 237

من غلامه غيظاً شديداً، وشتمه شتما قبيحاً، وقال والله لا أرضي أن يتحدث الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي في حاجة يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك فقال: والله لا فعلت شيئاً من هذا، ثم قال: يا أبا نصر: أبخرء الطير تخشيني؟ ومن عبيد العصا تخاف على؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم

ص: 238

خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن اشغل فكري بهم لحظة عين. فقلت له قل إن شاء الله فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتيا، ثم ركب، فكان آخر العهد به. ولما صح عندي خبر قتله وجهت من دفنه، ودفن ابنه، وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدراً. هذا هو الصحيح من خبره. وقيل سبب قتله أنه لما ورد على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مسرجة محلاة ثم دس له من يسأله: أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن

ص: 239

سيف الدولة كان يعطي طبعاً، وعضد الدولة طبعاً، فغضب عضد الدولة، فلما انصرف جهز إليه قوماً من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالا شديداً، ثم انهزم، فقال له غلامه أين قولك:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والحربُ والضرب والقرطاس والقلم

فقال قتلتني قتلك الله، ثم قاتل حتى قتل. وقيل إن الخفراء جاءوه وطلبوا منه خمسين درهماً ليسيروا معه، فمنعه الشح والكبر، فتقدموه، ووقع به ما وقع، ولما قتل رثاه أبو القاسم المظفر بن

ص: 240

علي الطبسي.

لا رعى الله سِربَ هذا الزمان

إذ دهانا بمثل ذاك اللسان

ما رأى الناسُ ثانيَ المتنبي

أيُّ ثان يُرى لبِكرْ الزمان

كان من نفسه الكبيرةَ في جي

ش وفي الكبرياء ذا سلطان

هو في شعره نبي ولكن

ظهرت معجزاتهُ في المعاني

ورثاه أيضاً ثابت بن هارون الرقي النصراني بقصيدة يستشير فيها عضد الدولة على فاتك الأسدي وهي:

الدهر أخبثُ والليالي أنكدُ

من أن تعيش لأهلها يا أحمدُ

ص: 241

قصدتْكَ لما أن رأتك نفيسها

بُخلا بمثلك والنفائس تُقصدُ

ذقتَ الكريهةَ بغتةً وفَقَدتَها

وكريه فقدك في الورى لا يفقدُ

قل لي إن اسطعت الخطاب فإنني

صبُّ الفؤادِ إلى خطابك مُكمدُ

أتركتَ بعدكَ شاعراً والله لا

لم يبق بعدك في الزمان مُقَصَّدُ

أما العلومُ فأنها يا ربها

تبكي عليك بأدمع لا تَجمدُ

يأيها الملك المؤيدُ دَعوة

مِمنَّ حشاه بالأسى يتوقدُ

هذي بنو أسدٍ بضيفك أوقعتْ

وحوتْ عطاءك إذ حواه الفرقُد

ص: 242

وله عليك بقصدِهِ ياذا العُلا

حقُّ التحرمّ والذمامُ الأوكَدُ

فارع الذمام وكن لضيفك طالباً

إن الذمامَ على الكريم مؤيدُ

ورثاه أبو الفتح ابن جنيبقصيدة أولها:

غاص القريض وأودتْ نضرةُ الأدبِ

وصوَّحتْ بعد ريّ دَوْحةُ الكُتُبِ

منها:

سُلبتَ ثوب بهاء كنتَ تلبسه

كما تُخَطَّفُ بالخطية السَّلبِ

مازِلت تصحب في الجلّي إذا نزلتْ

قلباً جميعاً وعزما غير منشعب

وقد حلبتَ لعمري الدهرَ أشطره

ص: 243

.. تمطو بهمة لاوانٍ ولا نَصِيب

من للهواجلُ يحي مَيْت أرسُمها

بكل جائله التصدير والحَقبِ

قبّاءَ خوصاءَ محمودٍ عُلالَتهاُ

تنبو عريكتها بالحِلسْ والقَتَبِ

أم من لسِرحانها تقريه فضلتهُ

وقد تضّور بين الباس والسغب

أمْ من لبيض الظباتوكا فُهنَّ دمُ

أم من لِسُمر القنا والزَّغْف واليلبِ

أم للمعارك يذكي جمر جماحهما

حتى يُعريها عن ساطع اللهب

أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها

بالنظم والنثر والأمثال والخطب

أم للمناهل والظلماءُ عاكفةُ

يُواصل الكرتين الوردِ والقَرَبِ

أم للملوك تُحليها وتُلبسها

ص: 244

.. حتى تَمايسَ في أبرادها القُشبِ

باتت وسادي أطرابُ تؤرقني

لما غدوتَ لقىً في قبضة النوب

عُمرتَ خِدن المساعي غير مضطهد

ومِتَّ كالنصل لم يدنس ولم يُعَب

فأذهب عليك سلام المجد ما قلقت

خُوص الركائب بالأكوار والشُّعَب

وعلماء الأدب في شعره مختلفون: فمنهم من يرجحه على أبي تمام والبحتري، ومنهم من يرجحهما عليه، ومنهم من يرجح أبا تمام

ص: 245

عليهما، ومنهم من يرجح البحتري. والكلام في هذا المكان يحتاج إلى إرخاء العنان في حلبة البيان، فنقول: قد أجمع أعلام العلم وفرسان النثر والنظم على أن هؤلاء الثلاثة ذللوا جموح الآداب وشموسها. وأطلعوا أقمارها وشموسها. وهم أصول الأدب وفروعه، ومعدته وينبوعه، وإلى كلامهم تميل الطباع، وعلى أبياتهم تقف الخواطر والأسماع. وثمرات البدائع منهم تجتني، وذخائر البراعة من غرائبهم تقتني.

قال ابن الأثير في المثل السائر: هؤلاء الثلاثة لات الشعر

ص: 246

وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة، وحكمة الحكماء، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.

أما أبو تمام فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي برز فيه على الأضراب ولقد مارست من الشعر كل أول وأخبر، ولم أقل ما أقوله إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل، وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه أطاعته

ص: 247

أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينما يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري. ولعمري لقد أنصف في حكمه وأعرب بقوله عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء

ص: 248

في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.

وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، ولكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في مواضع القتال، وأنا أقول فيه قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان

ص: 249

لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقة في ذلك يَضل بسالكه، ويقوم بعذر تاركة، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة، فيصف لسانه ما أداه عيانه، ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن التوسط؛ فإما مفرط في وصفه، وإما مفرط، وهو إن انفرد بطريق صار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من

ص: 250

شعره، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف، وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:

لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته

إن الكرام بأسخاهم يداً خُتموا

ولا تُبال بشعر بعد شاعره

قد أفسد القولُ حتى أحمدَ الصمم

ولقد وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم يبق ديوان لشاعر مفلق يثبت شعره على المحك إلا وعرضته على نظري، فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب

ص: 251

للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجا منهما للطيف الأغراض، ولم أجد أحسن تهذيباً للألفاظ من أبي عبادة، ولا أنفس ديباجة، ولا أبهج سبكا.

وقال الشريف الرضي في هذا المقام، وكلام الشريف شريف الكلام، أما تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر وأما أبو الطيب المتنبي فقائد عسكر. قال ابن الأثير: الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل كأشخاص عليها مهابة

ص: 252

ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق، ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال، قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان، عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي.

وقال ابن شرف القيرواني في مقامته التي ذكر فيها الشعراء: وأما أبو تمام الظائي فمتكلف، إلا أنه يصيب؛ ومتعب لكن له من الراحة نصيب، وشغله المطابقة والتجنيس، جيد ذلك أو بئيس جزل المعاني، مرصوص المباني، مدحه ورثاؤه، لا غزلة

ص: 253

وهجاؤه، فهما طرفا نقيض، وسماء وحضيض، وفي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب، وطارت لها الأمثال، وحفظت له الأقوال، وديوانه مقرو، وشعره متلو.

قال ابن بسام: أما صفته هذه لأبي تمام فنصفة لم يثن عطفها حمية، ولا تعلقت بذيلها عصيبة، حتى لو سمعها حبيب لاتخذها قبلة، واعتمدها ملة.

قال ابن شرف: وأما البحتري فالفظه ماء ثجاج، ودر رجراج، ومعناه سراج وهاج، على أهدي منهاج، يسبقه شعره إلى ما يجيش به صدره، بيسر مراد،

ص: 254

ولين قياد، إن شربته أرواك، وإن قدحته أوراك، طبع لا تكلف يعنيه ولا العناد يثنيه، لا يمل كثيره، ولا يستكره غزيره.

وأما المتنبي فقد شغلت به الأسن، وسهرت في أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره، والغائص في بحره، والمفتش عن جمانه ودره، وقد طال فيه الخلف وكثر عنه الكشف، وله شيعة تغلو في مدحه، وعليه خوارج تتعب في جرحه، والذي أقول: إن له حسنات وسيات، وحسناته أكثر عدداً، وأقوى مدداً، وغرائبه طائرة، وأمثاله

ص: 255

سائرة، وعلمه فسيح، وميزة صحيح، يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر.

والذي يشعر به كلام ابن شرف تقديم البحتري، كما أنه يشعر كلامُ الشريف بتقديم أبي تمام.

وكان الشيخ أبو سعد محمد بن أحمد العميدي عن أبي الطيب في غاية الانحراف، حائدا في التمييز عن سنن الإنصاف، ونحن نورد كلامه، ونرد في نحره سهامه، فإنه تجاوز الحد، وأكثر الرد.

سعَىَ جُهْدَه لَكنْ تجاوزَ حَدَّه

وأكثر فارتابت ولو شاءَ قَلَّلَا

وبراعة كلامه:

إعجاب المرء بنفسه يشرع إليه أسنة الطاعنين، وتطاوله على أبناء جنسه يجمع عليه ألسنة الشانئين، فلا نقيصة

ص: 256

عندي اقبح سمة من اغترار الإنسان بجهله، ولا رذيلة أبلغ وصمة من إنكار فضيلة من يقع الإجماع على فضله، ولا منقبة أجلب للشرف من الاعتراف بالحق إذا وضحت دلائله، ومن الانحراف عن الباطل إذا استقبحت مجاهله، ولا دلالة على الحلم أبين من التوقف عند الشبهات، حتى ينجلي ظلامها، والتصرف على أحكام النصفة حتى تهديك أعلامها، وما أحسن أثر الحاكم إذ عدل وأنصف، وأقبح ذكره إذا مال عن الحق وجنف، والظلم قبيح،

ص: 257

وهو من الحكام أقبح وأشنع، وجحود الفضل سخيف، وهو من الفضلاء أسخف وأفظع، ومن لم يتميز عن العوام بمزية تقديم وتخصيص. سلق المحسنين بلسان ذم وتنقيص، ومن عدم محاسن التمييز والتحصيل، نظر إلى المميزين بعين التقصير والتجهيل، وأكثر آفات كتاب زماننا وشعرائهم أنهم، لا يهتدون لتعليل الكلام وتشقيقه، ويتبعون الهوى فيضلهم عن منهج الحق وطريقه، فإذا سمعوا فصلا من كتاب، أو بيت شعر

ص: 258

ممن لا يكاد يجيل في الأدب قدحا، ولا يعرف هجاء ولا مدحا، فهو يحكم على قائله بالسبق والتفخيم والإجلال والتعظيم، وليس يدري ما رواه: سليم اللفظ أو مختلة، صحيح المعنى أو منحلة وهل ترتيبه مستحسن أو مستهجن؟ وتقسيمه مطبوع أو مصنوع، ونظامه مستعمل أو مسترذل، وكلامه مستعذب أو مستصعب وهل سبقه إلى ذلك المعنى أحد قبله أو هو مبتدع؟ وأورد نظيره سواه أو هو مخترع؟ استبدعوا كلامه، واتبعوا أحكامه،

ص: 259

واعتمدوا على الاعتقاد دون الانتقاد، وقبلوه بالتقليد لا بالاختيار، وقابلوه بالامتثال دون الاعتبار والاختبار، ثم إن بينت لهم عوار ما رووه والله، وخطأ ما حكوه وخطله التزموا نصرة خطئه واقفين مواقف الاعتذار، ومائلين عن طريقة الإنصاف إلى الانتصار، وليست هذه الخصلة من خصال الأدباء الذين هذبتهم الآداب فصاروا قدوة وأعلاماً، ودربتهم العلوم فأصبحوا بين الناس قضاة وحكاماً، وإنما يذهب في مدح الكتاب والشعراء مذهب

ص: 260

التقليد من يكون في علومه خفيف البضاعة، قليل الصناعة، صفر وطاب الأدب، ضيق مجال الفضل، قصير باع الفهم، جديب رباع العقل، فأما من رزق من المعرفة ما يستطيع أن يميز بين غث الكلام وسمينه؛ ويفرق بين سخيفه ومتينه، وأوتي من الفضل ما يحسن أن يعدل به في القضية غير عادل عن الإنصاف، ويحكم بالسوية غير مائل إلى الإسراف والإجحاف، فالأولى به ألا ينظر إلى أحد إلا بعين الاستحقاق والاستيحاب، ولا يحل أحداً من رتب

ص: 261

الجلالة إلا بقدر محله من الآداب، ولا يعظم الجاهلية لتقدمهم إذا أخرتهم معايب، أشعارهم، ولا يستحقر المحدثين لتأخرهم إذا قدمتهم محاسن آثارهم، ويطرح الاحتجاج بالمحال طرحا، ويضرب عن استشعار الباطل صفحاً، ويحل من يشهد بفضائله شهود عدول، ويذل من كلامه عند التأمل منحول معلول. ولقد جرى يوما حديث المتنبي في بعض مجالس أحد الرؤساء، فقال أحد حاملي عرشه: سبحان من ختم بهذا الفاضل الفحول من الشعراء وأكرمه،

ص: 262

وجمع له من المحاسن ما فضل به كل من تقدمه، ولو أنصف لعلق شعره كالسبع المعلقات من الكعبة، ولقدم على جميع شعراء الجاهلية في الرتبة، ولكن حرفة الأدب لحقته، وقلة الإنصاف محت اسمه من جرائد المتقدمين ومحققته، وإلا فهاتوا لأي شاعر شئتم جاهلي أو إسلامي مثل قوله في صفة الفرس:

رجلاه في الركض رجل واليدان يدُ

وفعله ما تريدُ الكفُّ والقدمُ

أليس هذا أبلغ من قول القائل:

ص: 263

درير كخذُروفِ الوليد أمّره

تتابُع كفيه بخيط موصّل

لقد أبدع المتنبي ما شاء وأغرب، وأفصح عن الغرض وأعرب، فقلت للأقيشر ما يقارب هذا المعنى في نعت فرسه، وهو قوله:

يجري كما أختاره فكأنه

بجميع ما أبغيه منه عالمُ

رجلاه رجلُ واليدان يدُ إذا

أحضَرْته والمتين منه سالم

فصاح، وقال: يا قوم أهذا شعر إنسان له مسكة من عقل؟ أو بلغه من فضل؟ والله إن للمتنبي غلمانا وأتباعاً أجل من هذا البليد المجهول، من أي

ص: 264

قبيلة هذا العاجز الذي تكلم بمثل هذا الفضول؟ فقلت: عافاك الله، حديثنا في الإبداع لا في الاتباع، وفي الآداب لا في الأنساب ليس يغني المتنبي جلالة نسبه، مع ضعف أدبه، ولا يضره خلاف دهره، مع اشتهار ذكره.

ولقد تأملتُ أشعاره كلها فوجدت الأبيات التي يفتخر بها أصحابه، وتعتبر فيها آدابه من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم مساوخة. وإني لأعجب من جماعة يغلون في حديث المتنبي وأمره، ويدعون الإعجاز شعره،

ص: 265

ويزعمون أن الأبيات المعروفة له هو مبتدعها، ومخترعها، ومحدثها ومفترعها، لم يسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر.

وهؤلاء المتعصبون له المفتخرون باللمع التي يزعمون أنه استنبطها وأثارها، والمعتدون بالفقر التي يدعون أنه افتض أبكارها، والمترنمون له بأبيات سائرة يذكرون أنه انفرد بألفاظها وعانيها، وأغرب في أمثلتها ومبانيها، والمتمثلون بها في مجالسهم ونواديهم والمستعملون لها في خلواتهم وأغانيهم،

ص: 266

كيف لا يستحون أن يقولوا بعصمته؟ ويتهالكوا في الدلالات على حكمته؟ وكيف يستجيزون لنفوسهم ويستحسنون في عقولهم، أن يشهدوا شهادة قاطعة، ويحكموا حكماً جزماً بأنها له غير مأخوذة ولا مسروقة، وأن طرائقها هو الذي ابتدأ توطئتهاغير مسلوكة لغيره، ولا مطروقة؟ فليت شعري هل أحاطوا علماً بنصف دواوين الشعراء للجاهلية والمخضرمين والمتقدمين والمحدثين فضلا عن جميعها؟ أم هل فيهم من يميزيين مستعملها وبديعها حتى

ص: 267

يطلقوا القول غير محتشمين أن المتنبي من بين أولئك الشعراء أبدع معاني لم يفطن لها سواه ولم يعثر بها أحد ممن يجري مجراه؟ ولقد قال المرزباني فيما حكى عنه: أنه لما صنف كتابه على حروف المعجم بأسماء الشعراء، جمع داوين ألف شاعر حتى اختار من عيونها ما أراد، وامتار من متونها ما ارتاد.

وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أن البحتري على ما بلغه أحرق خمس مئة ديوان للشعراء في أيامه حسداً لهم لئلا

ص: 268

تشتهر أشعارهم، وتنشر محاسنهمُ وأخبارهم؛ فمن أين لهؤلاء المتعصبين للمتنبي أنه سبق جماعتهم في مضماره، ولم يقتبس من بعضها محاسن أشعاره، وهل للذين يتدينون بنصرته بصائر بحسن المأخذ، ولطف المتناول، وجودة السرقة، ووجوه النقل، وإخفاء طرق السلب، وتغميض مواضع القلب، وتغيير الصنعة والترتيب، وإبدال البعيد بالقريب، وإتعاب الخاطر في التثقيف والتهذيب حتى يدعوا علم الغيب في تنزيهه عن السرقات التي لا تخفي صورها

ص: 269

على ناقد، وتبرئته عن المعايب التي يشهد عليه بها ألف شاهد؟ ولست - يعلم الله - أجحد فضل المتنبي، وجودة شعره، وصفاء طبعه، وحلاوة كلامه، وعذوبة ألفاظه، ورشاقة نظمه، ولا أنكر اهتداءه لاستكمال شروط الأخذ إذا لحظ المعنى البعيد لحظاً، واستيفاءه حدود الحذق إذا سلخ المعنى وكساه من عنده لفظاً، ولا أشك في حسن معرفته بحفظ التقسيم الذي يعلق بالقلب موقعه، وإيراد التجنيس الذي يملك النفس مسمعه، ولحاقه في إحكام الصنعة ببعض من سبقه،

ص: 270

وغوصه على ما يستصفي ماؤه ورونقه، وسلامة كثير من أشعاره من الخطل والخلل، والزلل والدخل، والنظام الفاحش الفاسد، والكلام الجامد البارد، والزحاف القبيح المستبشع، واللحن الظاهر المستشنع؛ وأشهد أنه عن درجة أمثاله غير نازل ولا واقع، وأعرف أنه مليح الشعر غير مدافع، غير أني مع هذه الأوصاف الجميلة؛ لا أبرئه من نهب وسرقة ولا أرى أن أجعله وأبا تمام رب المعاني، ومسلم بن الوليد وأشباههما في طبقة واحدة ولا ألحقه في عذوبة الألفاظ

ص: 271

وسهولتها، ورشاقة المعرض، ومجانبة التصنع والتكلف بالبحتري، ولا أقيسه في امتداد النفس وعلم اللغة والاقتدار على ضروب الكلام، وتصوير المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة، والحكم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي، ولا أتهالك في مدحه تهالك من يتعصب له تقليداً، ويغلو فيجعل بينه وبين هؤلاء الفضلاء أمداً بعيداً، إلى أن قال: ولولا أنه كان يجحد فضائل من تقدمه من الشعراء، وينكر حتى أساميهم في محافل

ص: 272

الرؤساء، ويزعم أنه لا يعرف الطائيين وهو على أشعارهما يغير، ولم يسمع بابن الرومي وهو من أشعاره يمير، ويسبهم إذا قيل في أشعارهم إبداع، ويعيبهم متى أنشد لهم مصراع، لكان الناس يغضون عن معايبه ويغطون على مساويه ومثالبه، ويعدونه كسائر الشعراء الذين لا ينبش عظامهم إنسان، ولا يجري بذمهم لسان.

ولقد حدثني من أثق به: أنه لما قتل المتنبي وجد معه ديوانا أبي تمام والبحتري بخطه وعلى حواشي الأوراق علامة كل بيت أخذ

ص: 273

معناه وسلخه، فهل يحل له أن ينكر أسماء الشعراء وكناهم، ويجحد فضائل أولاهم وأخراهم إلى أن قال: وأنا بمشيئة الله تعالى أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها، وادعى الإعجاز لنفسه فيها، ليشهد بلؤم طبعه في إنكار فضيلة السابقين، ويسمه بما نهبه من أشعارهم بسمة السارقين.

قلت: ليعلم أنه لا بد من تقديم متقدمتين قبل إيراد ما سرق به أبو الطيب المتنبي، ليصير العاذل عاذراً والمحجوج مفارخراً: المقدمة الأولى:

ص: 274

من المقرر عند أرباب هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان، أن من المعاني ما يتساوى فيه الشعراء ويشترك فيه المحدثون والقدماء، لأنه كضياء القمر لا يخفي على من أوتي فضيلة النظر، كما إن قلنا في مولانا نجل الحسام: له عزمة أمضى من الحسام، وهو كالليث يوم جداله، وكالغيث وقت نواله، أو إذا قلنا: وجهه كالبدر الزاهر، وكفه كالبحر الزاخر، أو إذا قلنا: كلماته كبرد الشبابُ وألفاظه كبرد الشراب، أو إذا قلنا: لا أشبه وجه مولانا إلا بالعيد

ص: 275

المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه، وتدوم محاسنه، أو إذا قلنا: مولانا كالبدر في ارتفاع قدره، وكالبحر في اتساع صدره، لو أن البحر لا يتغير ماؤه، والبدر لا ينقص ضياؤه، أو إذا قلنا: لمولانا خلق هو المسك لولا سواده، وكف هو البحر لولا نفاده، ووجه هو الشمس لولا كسوفه، والقمر لولا خسوفه، أو إذا قلنا: مولانا كالدهر لولا صروفه، والجبل لولا وقوفه، وقد شاهدت من مساطر كلامه، ومقاطر أقلامه، روضات حزن، بل جنات عدن وكقولهم:

ص: 276

عفت الديار وما عفت آثارها من القلوب، وكقولهم: إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه، وإن الواشي لو علم بمزار الطيف لساءه، وأشباه ذلك، وكقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أول حادث، وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة، ويجري هذا الأمر في سائر أنواع الشعر، فإن أمثال هذه المعاني الظواهر تتوارد عليها جميع الخواطر، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على المتأخر اسم السرقة،

ص: 277

وإنما يطلق اسمها في معنى مخصوص كقول أبي الطيب:

بناها على والقنا يقرع القنا

وموجُ المنايا حولها مُتلاطم

وكان بها مثُل الجنون فأصبحتْ

ومن جُثث القتلى عليها تمائم

فإن هذا معنى، مخصوص ابتداعه أبو الطيب، وكذلك في عضد الدولة وولديه

وكان ابنا عدوًّ كاثراه

له ياءي حروفِ أُنيسيان

وهذا المعنى لأبي الطيب، وهو الذي ابتدعه، فمن أتى من بعده بهذا المعنى أو بجزء منه فإنه يكون سارقاً له، وزعم بعض

ص: 278

أهل الأدب أن ابن الرومي ابتدع قوله:

تشكو المحبّ وتُلْفىَ الدهَر شاكيةً

كالقوس تُصمي الرمايا وهي مِرنان

وليس الأمر كما زعم فإنه من المثل المضروب وهو تلدغ وتضيء ويضرب لمن يبدأ بالأذى ثم يشكو. وزعم كثير أن ابن الخياط ابتدع قوله:

أغارُ إذا آنستُ في الحيّ أنةً

حذاراً عليه أن تكون لِحُبّه

وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:

ص: 279

لو قلت للدنفِ الحزين فديتُه

مما به لأغرتَه بفدائه

وهو أدق معنى من قول ابن الخياط.

المقدمة الثانية: في السرقات الشعرية، والمحمود منها والمذموم، وهي على خمسة عشر ضرباً: الضرب الأول: أن يأخذ الثاني من الأول المعنى واللفظ جميعاً، كقول الفرزدق:

أتعدل أحساباً لئاماً حُماتها

بأحسابِنا؟ إني إلى الله راجعُ

وكقول جرير:

أتعدل أحسابا كراماً حُماتها

بأحسابكم؟ إني إلى الله راجع

ص: 280

فتخالفهما في لفظة واحدة، وهذا الضرب مذموم والمتأخر ملوم. ومن هذا الضرب قول أبي نواس الحكمي:

دارتْ على فتيةٍ ذل الزمانُ لهم

فما أصابُهم إلا بما شاءُوا

أخذه من معبد:

لَهْفِي على فتية ذلّ الزمان لهم

فما أصّابهمُ إلاّ بما شاءُوا

الضرب الثاني: أن يأخذ المعنى وأكثر اللفظ، وهذا الضرب ينقسم قسمين: مذموم ومحمود، فالأول كقول أبي تمام:

محاسنُ أصناف المغنين جَمَّة

وما قَصَباتُ السبق إلاّ لمعَبد

أخذه من قول بعض المتقدمين يمدح معبداً صاحب المغنى:

ص: 281

أجاد طُويسُ والسُّريجيُّ بعده

وما قَصَباتُ السبق إلا لمعبدِ

والثاني كقول أبي الشيص:

أجدُ الملامة في هواكِ لذيذة

حبّاً لذكركِ فليلُمْني اللُّومُ

أخذه أبو الطيب فقال:

أأحبه وأحبّ فيه مَلامةً

إن الملامَةَ فيه من أعدائهِ

وتسمية هذا مبتدعا أولى من تسميته سرقة. وهذان الضربان يسميان نسخا.

الضرب الثالث: أن يأخذ المعنى، ويستخرج منه ما يشبهه، وهذا من أدقها مذهبا، وأحسنها صورة فمن

ص: 282

ذلك قول الحماسي:

لقد زادني حباًّ لنفسيَ أنني

بَغيض إلى كل امرئ غير طائل

أخذه المتنبي، واستخرج منه معنى شبيهاً به، فقال:

وإذا أتتك مَذَمَّتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني فاضلُ

ومن هذا الضرب قول أبي تمام:

رَعْته الفيافي بعد ما كان حِقْبةً

رعاها، وماء الروض ينهلُ ساكبُهْ

أخذه البحتري، واستخرج منه ما يشابهه فقال:

شيخان قد ثقل السلاح عليهما

وعداهما رأىُ السميع المبصرِ

ص: 283

ركبا القنا من بعد ما حَمَلا القنا

في عسكرٍ متحاملٍ في عسكر

ومن هذا الضرب قول أبي تمام أيضا:

لا أظلم النأي قد كانتْ خلائُقها

من قبل وشك النوى عندي نَوىً قَذفَا

أخذه البحتريّ فقال:

أعاتكُ ما كان الشبابُ مقربي

إليك فألحي الشيبَ إذ هو مُبعدي

الضرب الرابع: أن يأخذ المعنى مجرداً من

ص: 284

اللفظ، وهذا لا يكاد يأتي إلا قليلا، ومنه قول جرير:

ولا يَمنْعك من أربِ لَحاهمْ

سواءُ ذو العِمامة والخِمارِ

أخذه المتنبي فقال:

ومَنْ في كفه منهم قَناهُ

كمن في كفه منهم خِضابُ

الضرب الخامس: أن يأخذ المعنى ويسيراً من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات، وأظهرها شناعة على السارق، فمن ذلك قول البحتري:

فوق ضَعْفِ الصغار إن وُكلِ الأم

ر إليه ودون كيد الكبارِ

أخذه من قول أبي نواس:

ص: 285

لم يُجْفَ من كبر عما يُراد به

من الأمور ولا أزْرى به الصغر

وكذلك قول البحتري أيضا:

كلُّ عيد له انقضاء وكفّى

كلَّ يوم من جوده في عيد

أخذه من قول علي بن جَبَلة:

لِلْعيدِ يومُ من الأيام منتظرُ

والناسُ في كل يوم منكَ في عيدِ

وكذلك قول البحتري أيضاً:

جاد حتى أفنى السؤال فلما

بادَ منا السؤالُ جاد ابتداءَ

أخذه من علي بن جبلة:

أعطيتَ حتى لم تدعْ لك سائلا

وبدأتَ إذ قَطَع العُفاةُ سؤالها

وكذلك قول أبي تمام:

ص: 286

قد قَلَّصتْ شفتاه من حفيظته

فَخيِلَ من شدة التعبيس مبتسماً

أخذه من ديك الجن:

وإذا شئتَ أن ترى الموتَ في صو

رة ليثِ في لبدتي رئيال

فَالقَه غيرَ إنما لبدتاه

أبيضُ صارمُ وأسمر عالي

تلقَ ليثا قد قلصّت شفتاه

فيُرى ضاحكاً لِعَبْس الصّيال

ومن هنا أخذ المتنبي قوله:

إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً

فلا تظنّن أن الليثَ مُبتسمُ

لكنه أبرزه في صورة حسنة، فصار أولى به.

وكذلك قال أبو تمام:

ص: 287

ولم أمدحكْ تفخيما بشعري

ولكني مدحتُ بك المديحا

أخذه من قول حسان في النبي صلى الله عليه وسلم:

ما إن مدحتُ محمداً بمقالتي

لكنْ مدحتُ مقالتي بمحمد

وكذلك قول ابن الرمي:

وكلتُ مجدَك في اقتضائك حاجتي

وكفى به متقاضياً ووكيلاً

أخذه من قول أبي تمام:

وإذا المجد كان عوني على المر

ء تقاضيتُه بترك التقاضي

وكذلك قول ابن الرومي:

ص: 288

ومالي عزاءُعن شباب علمتهُ

سوى أنني من بعده لا أخلدّ

أخذه من قول منصور النمري:

قد كدت أقضي على فوت الشباب أسىً

لولا تَعَزىَ أن العيش منقطع

الضرب السادس: أن يأخذ المعنى فيقلبه، وذلك محمود، ويخرجه حسنُه عن حد السرقة، فمما جاء منه قول أبي تمام:

كريمُ متى أمدحْه والورى

معي وإذا ما لمتُه لُمتُه وحدي

أخذه من تأخر عنه فقال:

ص: 289

مدحتُهم وحدي فلما هجوتُهم

هجوتُهم والناس كلهمُ معي

الضرب السابع: أن يأخذ بعض المعنى، وهذا الضرب محمود، فمن ذلك قول أمية ابن أبي الصلت:

عطاؤكَ زين لامرئ إن حبوتَه

ببذل وما كل العطاء يَزينُ

ونيس بشيْن لامرئ بذلُ وجهه

إليك كما بعضُ السؤال يَشينُ

أخذه أبو تمام فقال:

تدْعى عطاياه وفراً وهي شُهرت

كانتْ فخاراً لمن يَعفوه مؤتنفا

ما زلتُ منتظراً أعجوبة زمناً

ص: 290

.. حتى رأيتُ سؤالا يجتني شرفا

ومن هذا الضرب قول علي بن جَبَلة:

وأثّل ما لم يَحْوَه متقدمُ

وإن نال منه آخرُ فهو تابُع

أخذه المتنبي فقال:

ترفع عن عونُ المكارم قدرُه

فما يفعل الفَعْلات إلا عَذاريا

والمتنبي وأبو تمام أبرزا ما أخذاه هاهنا في صورة حسنة، وكذلك قال أبو تمام:

كَلِفُ بِربّ المجد يعلم أنه

لا يُبتدىَ عُرفُ إذا لم يُتممِ

أخذه البحتري فقال:

ومثلك إن أبدي الفَعال أعاده

وإن صنع المعروفَ زاد وتمما

ص: 291

الضرب الثامن: أن يأخذ المعنى فيزيد عليه معنى آخر، وهذا الضرب لا يكون إلا حسناً، فمن ذلك قول جرير:

غرائبُ أُلاّف إذا حان وردها

أخذن طريقاً للقصائد مُعْلماَ

أخذه أبو تمام فقال:

غرائبُ لاقتْ في فنائك أنسَها

من المجد فهي الآن غيرُ غرائب

فهذا أحسن من قول جرير للزيادة التي فيه. وهذا البيت من قصيدة يمدح بها أبا دلف العجلي، وهي من أمهات قصائده، وأولها:

على مثلها من أربعُ وملاعب

أذيلت مصوناتُ الدموع السواكب

ص: 292

أقول لُقرحان من البين لم يُصِبْ

رسيسَ الهوى بين الحشا والترائب

أي أقول لرجل لم يقطعه أحبابه، ولم تبعد عنه أصحابه، وأصل القُرْحان. الذي لم يخرج عليه الجدري. ويروي: لفرحان بالفاء.

أعِنّيَ أُفرقْ شمل دمعي فإنني

أرى الشمل منهم ليس بالمتقاربِ

يقول: قد اجتمع دمعي، لأني لم أبك رجاء أن يقرب الشمل، والآن فقد رأيته ليس بالمتقارب، فأعنى بوقفة على منازلهم، حتى أبكيهم فأستريح.

فما كان في ذا اليوم عذلُك كله

عدّويَ حتى صار جهلك صاحبي

ص: 293

وما بك إركابي من الرشد مَرْكبا

ألا إنما حاولتَ رُشدَ الركائب

يخاطب الرجل القرحان الذي لم يصب بالمصائب، وعذَلَه على الرحيل؛ يقول: ليس بك رشدي. ولكنك تريد أن تريح الركائب، وأريدُ أن أتعبَها بالمسير.

فكلني إلى شوقي وسِرْ يَسيرِ الهوى

إلى حُرُقاني بالدموعِ السواربِ

يقول: أنا لا أطاوعك على ما تريده، فَسر وسلمني إلى شوقي، فإن هواي سيبعث دمعي، ثم خاطب ديار أحبابه، فقال:

أميدانَ لهوى من أتاح لك الردى

ص: 294

.. فأصبحتِ ميدانَ الصَّبا والجنائب

أصابتك أبكارُ الخطوب فَشتّت

هوايَ بأبكار الظباء الكواعب

وركبٍ يُساقون الركابَ زُجاجةً

من السير لم تقصد لها كفّ قاطب

هذا مثل، يقول: يسكرون ويسكرون المطي من التعب فكأنهم سقوها زجاجة ولم تقصد لها كف قاطب أي ليس هي على الحقيقة زجاجة فيها شراب يناولها الساقي.

فقد أكلوا منها الغواربَ بالسُّرى

فصارتْ لها أشباحُهم كالغوارب

ص: 295

يقودُ نواصيها جُديلُ مَشارق

إذا آبهُ همُ عُذيُق مَغاربِ

ويروي: يصرف مسراها، يقول: يسير بهذه الإبل رجل عالم بالشرق والغرب يريد نفسه وهذا من المثل الذي قاله الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، ويضرب لمن يستشفي برأيه، والجذل خشبة تحتك بها الإبل الجربي، والعذق النخلة والتصغير فيهما للتفخيم.

يرى بالكَعاب الرَّوْدِ طلعةَ ثائرٍ

وبالعرْمِس الوجناء غرةَ آئِب

يقول: يصرف هذه الركاب

ص: 296

رجلُ محبب إليه السفر في طلب العلا، فإذا رأى الكاعب من النساء، رأى بها طلعة ثائر دنا لينال منه، لبغضه الكاعب، وحبه السفر، ليبلغ مراده، وإذا رأى الناقة السريعة السير فكأنه رأى غرة إنسان مقبل عليه.

كأن به ضِغنا على كل جانب

من الأرض، أو شوقاً إلى كل جانب

يقول: من حبه للسير في البلاد، كأن به ضغنا على كل مكان، حتى يفارقه، أو شوقا إلى كل مكان، حتى يبلغه؛ وكل ما ذكره من حبه للسير، حتى يقول:

ص: 297

إذا العيسُ لاقتْ بي أبا دلف فقد

تقطع ما بيني وبين النوائب

وهذه الجملة معترضة، جمح بها القلم في ميدانه؛ ونعود إلى ما نحن بصدد بيانه.

ومن هذا الضرب قول مسلمة بن عبد الملك:

أذُلّ الحياة وكُرْهَ المماتِ

وكلا أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غيرُ إحداهما

فسيرا إلى الموت سيراً جميلا

أخذه أبو تمام، فقال:

مثلّ الموتَ بين عينيه والذّل

وكلا رآه خطباً عظيماً

ثم سارتْ به المنيةُ قُدْماً

فأمات العِدا ومات كريما

ص: 298

وقول أبي تمام أحسن. وكذلك ورد قول الطغرائي:

يا منَ إذا اجتمع الكُتّاب كان له

فضلُ الإمارة مقتاداً كتيبتها

شكت إليك دواتي شيب لمتها

وأنت أخلق من طَرَّى شبيبتها

وقال مولانا السيد الأمجد أحمد أفندي الشهير بابن النقيب، دامت معاليه:

لدواة داعيكم مدادُ شاب من

جَوْر اليَراع، وقد رثَتْ لُمصابهِ

وأتت تؤمل فضلكم وترومُ من

إحسانكم تجديدِ شَرْخ شبابهِ

ففي قوله - أيده الله - زيادة حسنة،

ص: 299

وهي جور اليراع، وقد رثت لمصابه. وكذلك ورد قول أبي نواس:

قل لمن يدعي سُلَيْمَى سفاها

لست منها ولا قُلامَة ظفر

إنما أنت مُلَصق مثلُ واو

ألحقتْ في الهجاء ظلما بعمروِ

أخذه البحتري فقال:

خلّ عنا فإنما أنت فينا

واوُ عمرو أو كالحديث المعاد

فالبحتري زاد على أبي نواس: الحديث المعاد.

وأحس من قولهماقول ماجد الديار الشامية، مولانا أحمد أفندي الشاهيني، طال بقاه، وهو:

إنما البهنسي أحمد خَطْبُ

لا خطيب ولا جليل بَقْدرِ

ص: 300

زيدت الياء فيه ظلما وعدوا

نا كواو غَدَتْ بآخر عمرو

ووجه حسنه المناسبة فيه بين الحرفين، وكذلك ورد قول الشريف الرضي:

ولو أن لي يوماً على الدهر إمرةً

وكانت لي العُدوَى على الحَدثَان

خلعت على عطفيك برد شبيبتي

جوادا بعمري واقتبال زماني

فقال الشاهيني حرس الله ببقائه الفضل والكرم؛ ولا برحت أياديه التمائم من العدم: يخاطب شيخه أبا العباس أحمد بن محمد المقريالمغربي في آخر قصيدة، وأرسل إليه هدية وخمسين غرشا ولا يخفي ما في

ص: 301

هذا البيت الثاني من الحسن:

لو كان لي أمر الشباب خلعته

بُرْداً على عَلْياك ذا أردانِ

لكن تعذر بعث أول غايتي

فبعثت نحوك غاية الإمكانِ

وكذلك ورد قول أبي تمام:

يَصُدُّ عن الدنيا إذا عَنَّ سُؤددُ

ولو بَرَزَت في زيّ عَذْراء ناهدِ

أخذه من قول ابن المعذل

ولست بنظار إلى جانب الغنَى

إذا كانت العَلْياء في جانب الفقرِ

وكذلك ورد قول البحتري:

ركبوا الفرات إلى الفرات وأملوا

جذلان يُبدع في السماح ويُغرب

ص: 302

أخذه من قول مسلم بن الوليد

ركبت إليه البحر في مؤخراته

فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر

إلا أنه زاد عليه: جذلان يبدع في السماح ويغرب. وكذلك ورد قول أبي نواس:

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

أخذه من قول جرير:

إذا غضبتْ عليك بنو تميم

حسبت الناس كلهم غضابا

يحكى عن أبي تمام: أنه دخل على ابن أبي داود فقال له: أحسبك عاتبا يا أبا تمام فقال: إنما يعتب على واحد وأنت

ص: 303

الناس جميعا. قال من أين هذه يا أبا تمام؟ فقال: من قول الحاذق أبي نواس وأنشده البيت السابق، وفي بيت أبي نواس زيادة حسنة قد ملكته رق هذا المغني؛ وذلك أن جريراً جعل الناس كلهم في بني تميم، وأبا نواس جعل العالم كله في واحد وذلك أبلغ.

الضرب التاسع: أن يأخذ المعنى فيكسيه عبارة أحسن من الأولى، وهذا هو المحمود الذي يخرجه حسنه عن باب السرقة، وعليه قول أبي نواس:

ص: 304

يَدَل على ما في الضمير من الهوى

تقلب عينيه إلى شخص من يهوى

أخذه المتنبي فأجاد حيث قال:

وإذا خامر الهوى قلبَ صبّ

فغليه لكل عين دليلُ

الضرب العاشر: أن يأخذ المعنى؛ ويسبكه سبكا موجزا، وذلك من أحسن السرقات، فمن ذلك قول بعض المتقدمين:

أمن خوف فقر تعجلتَه

وأخرت إنفاق ما تجمع

فصرتَ الفقير وأنت الغنّى

وما كنت تعدو الذي تصنع

أخذه المتنبي فقال:

ص: 305

ومن ينفق الساعاتِ في جمع ماله

مخافةَ فقر فالذي فعل الفقر

وكذلك ورد قول أبي تمام:

كانت مساءلة الركبان تُخبرني

عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني مما قد رأى بصري

فأخذه أبو الطيب فقال:

وأستكبر الأخبار قبل لقائه

فلما التقينا صغرّ الخبرَ الخُبَر

وقال أبو تمام:

كم صارم عضْب أناف على فتى

منهم لأعباء الوغى حمال

ص: 306

سبق المشيبَ إليه حتى ابتزه

وطن النهى من مفرق وقذال

أخذه المتنبي فقال وأحسن:

يسابق القتلُ فيهم كلّ حادثة

فما يصيبهمُ موت ولا هرم

الضرب الحادي عشر: أن يكون المعنى عاما، فيجعله خاصاً، أو بالعكس، وهذا من السرقات التي يسامحفيها صاحبها، ومنه قول الأخطل:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عارُ عليك إذا فعلت عظيم

أخذه أبو تمام فقال:

ألوم من بخلت يداه وأغتدى

للبخل تِربا؟ ساء ذاك صنيعا

ص: 307

وكذلك قول أبي تمام:

ولو حاردتْ شَوْلُ عذرتُ لِقاحَها

ولكن منعتَ الدرَّ والضَّرعُ حافلُ

أخذه المتنبي فقال:

وما يؤلم الحرمانُ من كف حارم

كما يؤلم الحرمانُ من كفّ رازق

الضرب الثاني عشر: أن يزيد المعنى بياناً مع المساواة في أصله؛ ومنه قول أبي تمام:

هو الصنُّع إن يعجلْ فنفهُ وان يَرِثْ

ص: 308

.. فَلَرَّيثُ في بعض المواطن أنفعُ

أخذه المتنبي فأوضحه بمثال فقال:

ومن الخير بطء سيبك عني

أسرع السحب في المسير الجَهامُ

الضرب الثالث عشر: وهو اتحاد الطريق، واختلاف المقصد، فمن ذلك قول بعضهم:

كأنه غنّى لشمس الضحى

فنقطته طربا بالنجوم

أخذه مولانا الشاهيني أدام الله سودده، فقال وأحسن غاية الإحسان:

وقائلة والشمسَ أعني وقد رأت

قروحاً على خدَّ يفوق على الورد

أما تغتدي تُهدي لِحبك عُوذَةً

فقلت وهل تُغني الرقي من أخي الوجد

ص: 309

فجاءته وَلْهَى بالنجوم تمائما

فأدهشتها حتى نُثِرنْ على الخَدّ

وعلماء الأدب يسمون هذا الضرب سلخاً.

الضرب الرابع عشر: قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة، وهذا الضرب يسمى مسخاً. فمما ورد منه قول ديك الجن:

نحن نُعزيك ومنك الهدى

مستخرجُ والصبر مستقبل

ص: 310

نقول بالعقل وأنت الذي

نأوي إليه وبه نعقل

إذا عفا عنك وأودى بنا الدَّ

هْرُ فذاك المحسنُ المُجمِلُ

أخذه المتنبي فقال:

إن يكن صبر ذي الرزية فضلاً

تكن الأفضلَ الأعزَّ الأجلاّ

أنت يا فوقَ أن تعزى عن الأح

باب فوق الذي يعزيك عقلا

وبألفاظك اهتدى فإذا عَزّ

اك قال الذي له قلت قبلا

الضرب الخامس عشر: قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة، ولا يسمى هذا الضرب

ص: 311

مسخاً وإن سموه، لأنه محمود، والمسخ مذموم، فمن ذلك قول المتنبي:

إني على شغفي بما في خُمْرِهَا

لأعِفُ عما في سراويلاتها

أخذه الشريف الرضي فقال:

أُحِنُّ ما تَضمن الخُمْر والحِليَ

وأصدِفُ عما في ضَمان المآزرِ

وهاهنا ضرب آخر: وهو أن ينقل المعنى من غير اللغة العربية إليها، وهذا يجري مجرى الابتداع كقول المرحوم البوريني:

يقولون في الصبح الدعاءُ مؤثَّرُ

فقلتُ نعم لو كان ليلى له صبحُ

وكذلك قوله:

ص: 312

وأنظر إلى وَرَق الغصونِ فإنها

مشحونةُ بأدلةِ التوحيد

فإنه نقلها من اللغة الفارسية وإذا كانت المقدمة الأولى على ذكر منك، ولم تذهب ضروب الثانية عنك، فيجب أن نورد عليك ما قاله العميدي وأبانه، وما شنع على المتنبي في الإبانة ومن أنصف بعد الوقوف عليهما، ورد ما أورده إليهما، علم أن العميدي دعاه الحسد إلى أن جعل محاسن أبي الطيب عيوباً، وحسناته ذنوباً قال العميدي: قال ديك الجن:

ص: 313

دِعْصُ يُقلّ قضيب بانْ فوقه

شمسُ النهار تُقل ليلا مظلما

قال المتنبي:

غصنُ على نَقَوَيْ فلاةٍ نابتُ

شمس النهار تقل ليلا مظلما

قال العميدي مثل هذا البيت تسميه أصحابه التوارد، وأخصامه النسخ، وأنا أعرف أنه تعب في نظم هذا البيت فله فضيلة التعب، قلتُ كل من البيتين ليس فيه معنى مخصوص حتى يحكم بالسرقة، وتشبيه القد بالقضيب وما تحويه المآزر بالكثيب، والوجه بالشمس، والشعر بالظلام، مما

ص: 314

تتوارد عليه الأفهام، وبيت المتنبي وإن كان هو الأخير فإنه سالم من التكرير، وقد قال أهل الفضل إنه من الوجوه المنقصة لقول العرب القتل أنفى للقتل، فتنبه لأمثاله، ولا تحفل بمقالة. قال العميدي.

قال العلوي الكوفي المعروف بالحِمّاني في برية.

تيهاء لا يتخطاها الدليل بها

إلا وناظره بالنجم معقود

قال المتنبي:

عقدتُ بالنجم طرفي في مفاوزه

وحُرَّ وجهي بحر الشمس إذ أفَلا

قلت: بيت المتنبي أحسن لما فيه من التجنيس والزيادة

ص: 315

في المعنى.

قال العميدي: ذكر ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار لبعض الأعراب:

لي همة فوق السما

ء وباب رزقي الدهرَ مُغْلقْ

هل ينفع الحِرصُ الكثي

رُ لصاحبِ الرزق المُضَيَّق

إن امرأُ أمن الزما

ن لمستغِرّ العقل أحْمَق

قال المتنبي:

فالموت آت والنفوسُ نفائس

والمستقّر بما لديه الأحمق

قلت: الفرق بينهما كما بين السراب والشراب لمن يهتدي مناهج الصواب. قال العميدي: قال ابن الرومي:

ص: 316

شكواي لو أنا أشكوها إلى جَبَلٍ

أصَمَّ ممتنعِ الأركان لا نفلقا

قال المتنبي:

ولو حُمَّلتْ صُمُّ الجبالِ الذي بنا

غداةَ افترقنا أو شكتْ تَتَصَدّعُ

قلت: لو لم يكن في بيت المتنبي إلا ما تراه من الرقة والانسجام لكفاه العدول عن الانفلاق إلى التصدع في هذا المقام.

قال العميدي: قال أبو تمام.

له منظر في العين أبيضُ ناصعُ

ولكنه في القلب أسْودُ أسْفَعُ

وقال العَطّوِيّ:

ص: 317

أَبعدك الله من بياض

بَيَّضتَ مِنْ عينيَ السوادا

قال المتنبي:

اِبعَدْ بَعِدتَ بياضاً لا بياض له

لأنتَ أسودُ في عيني من الظلم

قال العميدي: قوله أسود في النحو ركيك لم يسمع إلا في أبيات شواذ نوادر. قلت لنا مندوحه عن الوجه الذي يرد عليه الاعتراض بأن يكون من للتبعيض قال العميدي: قال نصر الخبزأرزي:

وأسقمني حتى كأني جفونُه

وأثقلني حتى كأني روادفُهْ

ص: 318

وقال محمد بن أبي زُرعة الدمشقي:

أسقمني طرفُه وحَمَّلني

هواه ثِقلا كأنني كَفَلُه

قال المتنبي:

أعارني سقم جفنيه وحملني

من الهوى ثقل ما تحوى مآزره

قلت: لو سمع هذا أبو الطيب لأنشد قول البحتري:

إذا محاسني اللاتي أتيتُ بها

كانت ذنوبي فقل لي كف أعتذر

قال العميدي: قال البحتري:

جلّ عن مذهب المديح فقد كا

د يكون المديحُ فيه هجاء

ص: 319

وقال نصر الخبز أرزي:

ومن قِلّة ما أُثني

عليه صرت كالهاجي

قال المتنبي

وعُظْمُ قدرِك في الآفاق أوهمني

أني بقلة ما أثنيت أهجوكا

قلت حسن بيت المتنبي لا يخفي على ذي مسكة. قال العميدي: قال ابن الرومي:

أقسمتُ بالله ما استيقظتمُ لِخَناً

ولا وُجدتْم عن العليا بُنوّام

وقال بشار بن برد:

سهرتُم في المكرمات وكسبها

سَهراً بغير هوى وغيرِ سَقام

ص: 320

قال المتنبي:

كثيرُ سُهادِ العين من غيرِ علة

يُؤرّقه فيما يُشرّفه الذكرُ

قلت: بيت المتنبي أشرف لشرف الذكر.

قال العميدي: قال ابن الرومي:

وقد سار شعري الأرض شرقاً ومغربا

وغنى به الحَضْرُ المقيمون والسفْرُ

قال المتنبي:

هم الناس إلا أنهم من مكارم

يُغنّي بهم حضْرّ ويحدو بهم سَفْر

قلت: أصاب شاكلة الصواب بقوله: ويحدو.

قال العميدي:

ص: 321

أنشد ابن قتيبة لبعض الأعراب:

بصيرُ بأعقاب الأمور برأيه

كأن له في اليوم عيناً على غدِ

قال المتنبي:

ماضي الجَنان يُريه الحزمُ قبل غد

بقلبه ما ترى عيناه بعد غد

قال المقبول الجزري:

يجود مالاً على العافي سحابهمُ

وتمطر الدمَ أسيافُ لهم قُضُبُ

وقال أبو الحسن النحاس:

إذا أروت الأرضَ أسيافُهم

من الدم خلت سحابا همع

وقال ابن الرومي:

سماءُ أظلت كل شيء وأعملت

سحائب شتى صوبها المال والدم

قال المتنبي:

قومُ إذا أمطرت موتا سيوفهُمُ

حسبتهاَ يحباً جادت على بلد

قال ابن الرومي:

ص: 322

يغدو فتكثر باللحاظ جِراحنا

في وجنتيه وفي القلوب جراحه

قال المتنبي:

ما بالهُ لاحظتُه فتضرّجتْ

وجناته وفؤاديَ المجروح

قال أبو القوافي:

ردت صنائعه عليه حياته

فكأنه من نشرها منشور

وقال مؤنس بن عمران البصري:

طوته المنايا والثناء كفيله

برد حياة ليس يُخلقها الدهر

قال المتنبي:

كفل الثناء له برد حياته

لما انطوى فكأنه منشور

قال بشار بن برد:

ص: 323

وإذا أقلّ ليَ البخيلُ عذرته

إن القليل من البخيل كثير

وقال بعض المتقدمين:

قليلُ منك يكفيني ولكن

قليلك لا يقال له قليل

قال المتنبي:

وقنعت باللقيا وأولِ نظرة

إن القليل من الحبيب كثير

قال ابن الرومي:

وأعوام كأن العام يوم

وأيام كأن اليوم عام

وقال أبو تمام:

أعوام وصل كاد ينسى طولها

ذكرُ النوى فكأنها أيام

ص: 324

ثم انبرت أيامُ هجر أعقبت

بِجَوىً أسى فكأنها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

قال المتنبي:

إن أيامنا دهورُ إذا غب

ت وساعاتنا القصار دهور

قال أبو تمام:

فما تترك الأيام من أنت آخذ

ولا تأخذ الأيام من أنت تارك

وقال معوج الرقي:

ما يفسد الدهر شيئاً أنت تصلحه

وليس شيئاً أنت تفسده

قال المتنبي:

ولا تفتق الأيام ما أنت راتق

ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق

قال أبو العتاهية:

ص: 325

قد كنت صنت دموعي قبل فرقته

فاليوم كل مصون فيه مبتذل

وقال معوج الرقي:

هان من بَعد بُعدك الدمع والصب

رُ وكانا أعزّ خلق مصون

قال المتنبي:

قد كنت أشفق من دمعي على بصري

فاليوم كل عزيز بعد كم هانا

قال معقل العجلي:

ما في الملابس مفخرُ لذوي النهى

إن لم يزنها الجود والإحسان

ص: 326

ليس اللئيم تزينه أثوابه

كالميت ليس تزينه الأكفان

قال المتنبي:

لا يُعجينّ مَضيماً حسنُ بِزته

وهل يَروق دفينا جودة الكفن

قال جابر السنبسي:

خيل شوازب أمثال الصقور لها

فوارس لا يخافون الردى بسل

كأنهم خلقوا والخيل تحته

م أسود وفي أنيابها الأجل

قال المتنبي:

وكأنها نتُجت قياما تحتهم

وكأنهم خلقوا على صهواتها

ص: 327

وقال السيد الحميري:

قوم نبالهمُ ليست بطائشة

وفيهمُ لفساد الدين إصلاح

ويفصحون عن المعنى بألسنة

كأنما هي أسياف وأرماح

وقال البحتري:

وإذا تألق في الندىّ كلامه المص

قول خلت لسانه من عَضْبه

قال المتنبي:

كأن ألسنهم في النطق جعلت

على رماحُهم في الطعنُ خرْصانا

قال امرؤ القيس:

ص: 328

ألم ترياني كلما جئت طارقاً

وجدتُ بها طيباً وإن لم تَطّيبِ

وقال الخليع الأول:

وزائرة ما ضمُختْ قطُّ ثوبَهَا

بمسك ومن أثوابها المسكُ يسطع

ينمّ عليها ريقُها وحُليتّها

وغرتُها في الليل والليل أدرع

وقال بشار بن برد:

وزائرة ما مسها الطيبُ برهة

من الدهر لكنْ طيبُها الدهر فائح

قال المتنبي:

أتت زائرا ما خامر الطيبُ ثوبَها

وكالمسك من أردانها يتضوع

ص: 329

قال ابن الرومي:

لو أبي الراغبون يوماً نداه

لدعاهم إليه بالترغيب

قال المتنبي:

وعطاءُ مال لو عداه طالب

أنفقته في أن تلاقي طالبا

قال التنوخي الكاتب:

أنت في الدهر كالطري من الور

د وفي الشعر كالبديع الغريب

فيك بشر يُدني النجاح من الرا

جي ويقضي بالنيل للمطلوب

قال المتنبي:

ذكر الأنام لنا فكان قصيدة

كنت البديع الفرد من أبياتها

ص: 330

قال العوني:

مضى الربيع وجاء الصيف يقدمه

جيش من الحرّ يرمي الأرض بالشرر

كأن بالجو ما بي من جوى وهوى

ومن شحوب فلا يخلو من الكدر

قال المتنبي:

كأن الجو قاسى ما أقاسي

فصار سواده فيه شحوبا

قال بعض المتقدين وهو جميل بن معمر:

ص: 331

ونغص دهرُ الشيب عيشي ولم يكن

يُنغصه إذ كنت والرأس أسود

نخص زمان الشيب بالذم وحده

وأي زمان يا بثينةُ يُحمد

قال المتنبي:

من خص بالذم الفراق فإنني

من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد

قال محمد بن كناسة الأسدي:

ترى خيلهم مربوطة بقبابهم

وفي كل قلب من سنابكها وقُع

قال المتنبي:

ص: 332

قيامُ بأبواب القباب جيادُهْم

وأشخاصها في قلب خائفهم تعدو

قال ديك الجن:

أخا الرأي والتدبير لا تركب الهوى

فإن الهوىُ يُريدك من حيث لا تدري

ولا تثقن بالغانيات وإن وفتْ

وفاء الغواني بالعهود من الغدر

قال المتنبي:

إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها

ومن عهدها ألَاّ يدوم لها عهد

قال علي بن يحيى المنجم من أبيات يغني بها:

ص: 333

وجهُ كأن البدر ليلةِ تمه

منه استعار النور والإشراقا

وأرى عليه حديقة أضحى لها

حدَقي وأحداقُ الأنام نطاقا

قال المتنبي:

وخصرُ ثبت الأبصار فيه

كان عليه من حَدَق نطاقا

قال بشار بن برد:

إذا ابتسمت جادت دموعي بوابل

من الغيث أجْرته بروقُ المباسِم

وقال الخبز أرزي:

فواعجبا حتام يمطر ناظري

إذا هو أبدى من ثناياه لي برقا

قال المتنبي:

ص: 334

تَبُلُّ خدي كلما ابتسمت

من مطر برقُه ثناياها

قال عبد الصمد بن المعذل

يعطيك فوق المنى من فضل نائله

وليس يعطيك إلَاّ وهو يعتذر قال المتنبي:

يعطيك مبتدئا فإن أعجلته

أعطاك معتذراً كمن قد أجرما

قال صالح بن حيان الطائي:

صبرت ومن يصبر يجد غِبَّ صبره

ألذَّ وأحلى من جني النحل في الفمِ

قال المتنبي:

فثب واثقا بالله وثبة ماجد

ترى الموت في الهيجا جني النحل في الفم

قال أبو تمام:

ص: 335

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا

قال المتنبي:

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

قال أبو مسلم محمد بن صبيح:

فعيش ذي الهم في هم وفي نكد

وذو الجهالة في خصب وفي فرح

وقال أبو الفتح الإسكندري:

اخترْ من الكسب دونا

فإن دهرك دونُ

زجّ الزمان بحمق

إن الزمان زَبون

ص: 336

لا تُكذبنّ بعقل

ما العقل إلا جنون

ولمحمد البجلي الكوفي:

هذا زمان مثوم

كما تراه غشوم

الجهل فيه جميل

والعقل عيب ولوم

والمال طيف ولكن

على اللئام يحوم

قال المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وقال محمد البيدق الشيباني:

إني لأُنصف في إخائك دائماً

حاشاك من ظلم فَلِمْ لا تنصف

ص: 337

الظلم طبعك والعفاف تكلف

والطبع أقوى والتكلف أضعف

قال المتنبي:

والظلم من خُلقُ النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

قال أبو الحسن علي بن مهدي الكسروي:

لم أنس يوم تعانقنا وعللني

من ريقي صافيا ما شابهكدرُ

أبصرتُه فرأيت الشمس طالعة

تغشى العيون فيعشى دونها البصر

هذا على أن حول الشمس من شعر

ليل يقال له الأصداغ والطُّرزُ

ص: 338

أنا القتيل وطرفي قاتلي ودمي

ما بين قلبي ومن عُلَقته هدر

وقال دعبل:

لا تأخذوا بظلامتي أحداً

طرفي وقلبي في دمي اشتركا

قال المتنبي:

وأنا الذي اجتلب المنية طرفُه

فمن المطالبُ والقتيل القاتل

قال العتكي:

هدانا الله بالقتلى نراها

مُصلّبة بأفواه الشعاب

قال المتنبي:

إذا سلك السماوةَ غيرُ عادٍ

فقتلاهمْ لِعينيه مَنارُ

قال أبو تمام:

ص: 339

ولطالما أمسى فؤادُك منزلا

وَمِحلَّة لضباء ذاكَ المنزل

وقال أيضا:

وقفت وأحشائي منازل للأسى

بها وهي قفر قد تعفت منازلة

وقال معوج الرقي:

كم وقفنا على الطلول وجُدنا

بسحاب من الدموع يَهلُّ

يا محل الآرام والعين أهلا

لك في القلب منزل ومحل

قال المتنبي:

لك يا منازل في القلوب منازل

أقفرت أنتِ وهن منك أواهل

قال أبو تمام:

ص: 340

ورحب صدر لوَ أن الأرض واسعة

كوسعه لم يضق عن أهله بلد

قال المتنبي:

تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت

كصدره لم يضق فيها عساكره

قال الناشي:

لما عطفن رءوسهنَّ

إلى الظعائن في الكِلَلْ

قدرتهن لعشقهن

طلبن منهن القبل

قال المتنبي:

ويغيرني جذبُ الزمام لقلبها

فمهما إليك كطالب تقبيلا

قال البحتري:

ص: 341

تلقاه يقطر سيفُه وسنانُه

وبنانُ راحته ندى ونجيعا

قال المتنبي:

ملك سِنان قناته وبنانُه

يتباريان دماً وعُرفاً ساكبا

قال أبو العتاهية:

وإذا الجبان رأى الأسنة شُرَّعاً

عاف الثباتَ فإن تفرد أقدما

قال المتنبي:

وإذا ما خلا الجبانُ بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

قال مسلم بن عياش العامري:

وخيل مؤدبة لا تزال

قوائمها عالكاتِ اللجمْ

ص: 342

تحن إلى الحرب من غير أن

تقادَ وما أقلقتها الحُزُمْ

وقد ستر النقعُ أعرفَنها

فآذانها كرءوس القلمْ

قال المتنبي:

قاد الجياد إلى الطعان ولم يَقُدْ

إلا إلى العادات والأوطان

إن خُلَّيتُ ربطت بآداب الوغى

فدعاؤها يغني عن الأرسان

في جحفل ستر العَيون غبارُه

فكأنما يبصرن بالآذان

قال محمد بن مسلم المعروف بابن المولى:

ص: 343

ما زَلت تقرعهم في كل مُعترك

ضرباً يحل الشيب باللمم

ترى الجماجم منه غير آمنةِ

وسائَر الجسم منها صار في حرَم

قال المتنبي:

خص الجماجم والوجوه كأنما

جاءت إليك جسومهم بأمان

قال علي بن هارون المنجم:

كريم نهته النفس عن شهواتها

ووافته أقساطَ المعالي بلا بخس

إذا لم تكن نفس ابن آدم حرة

تحن إلى العليا فلا خبر في النفس

قال المتنبي:

تلك النفوس الغالبات على العلا

والمجدُ يغلبها على شهواتها

ص: 344

قال أبو تمام:

فإن لم يَفْد يوما إليهن طالبُ

وفدن إلى كل امرئ غيرِ وافد

وقال أيضاً:

وفدتْ إلى الآفاق من نفحاته

نِعَمُ تُسائل عن ذوي الإقتار

قال المتنبي:

وأنفسهم مبذولةُ لوفودهم

وأموالهم في دار من لم يفد وفْدُ

قال أبو عمران الضريرُ الكوفي:

لست أدري كيف ابتليتُ بقوم

لا يخافون ربهم حسادي

حسدوني على الحياة ومن لي

بحياة أنال فيها مرادي

ص: 345

قال المتنبي:

ولكني حُسِدتُ على حياتي

وما خير الحياة بلا سرور

قال أبو أحمد الخراساني:

وكم مهمة قد جبتُه بعد مهمة

وكم مسلك وعْر وكم منهل قفر

يلين بعزمي كلُّ صعب أرومهُ

وهل خطب دهر لا يهوّنه صبري

قال المتنبي:

قد هون الصبرُ عندي كلَّ نازلة

وليَّن العزم حدَّ المركب الخِشن

قال بشر بن هدية الفزاري:

ص: 346

أرى الحرب في عينَّي مثل عقيلة

فَيؤنسني غِشيانُها وعناقُها

ومن لؤم طبع الجاهلين اجتنابُهم

ورودَ المنايا وهي أرىُ مذاقها

قال المتنبي:

يرى الجبناء حبَّ الموت جهلا

وتلك خديعة الطبع اللئيم

قال معوج الرقي:

يُفنى المواهب كي تبقى محامُده

ويخُلص الجودَ من مَنٍ ومن كدر

تلقاه إن وهب الدنيا بجملتها

لسائل خَجِلا في زيّ معنذر

ص: 347

قال المتنبي:

إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى

فلا الحمدُ مكسوبا ولا المال باقيا

قال الناشي:

ومن علت في اكتساب المجد همتُه

ولم يساعْده جَدُّ بات في تعب

قال المتنبي:

وأتعب خلق الله من زاد هُّمه

وقصّر عما تشتهي النفسُ وُجْدهُ

قال البحتري:

وقد هذبتك الحادثاتُ وإنما

صفا الذهب الإبريزُ قبلك بالسبك

قال المتنبي:

ص: 348

لعل عتبك محمودُ عواقبهُ

وربما صحت الأجسامُ بالعلل

قال عبد الله بن طاهر:

إذا كرمتْ الفتى عفَّ قلبهُ

وساعده عيناه واليد والفُم

وغير جميل أن يُرى المرء مطرقاً

وفي قلبه نار من الشوق تُضرمُ

قال المتنبي:

وإطراق طرفِ العين ليس بنافع

إذا كان طرفُ القلب ليس بمطرق

قال أبو العتاهية:

بدني ناحل وصبري بديُن

واعتزاميَ ماض وجسمي حسير

ص: 349

ومن الموت قد سلمتُ ولكن

بعد هذا إلى الممات أصير

يا خليليّ كيف يخدعني الده

ر وإني بهِ بصير خبير

أسقياني من قبل أن يتقضى

أملُ أرتجى وعمر قصير

قال المتنبي:

فإن أمرض فما مرض اصطباري

وإن أُحمم فما حُمّ اعتزامي

وإن أسلم فما أبقى ولكن

سلمت من الحمام إلى الحِمام

تمتع من سهاد أو رقاد

ولا تأمل كَرًى تحت الرِجام

فإن لثالث الحالين معنى

سوى معنى انتباهك والمنام

ص: 350

وقال زريق البصري:

فلا تحسِبوا الإقتارِ عاراً عليكمُ

وأعداؤكم مُشُرون بين المحافلِ

كذا عادةُ الدهر الخئون ولم يزل

يُخلط في الأحكام حقاَّ بباطِل

رأيت الغنى عند الأراذل محنةً

على الناس مثلَ الفقر عند الأفاضلِ

قال المتنبي:

والغنى في يد اللئيم قبيح

مثلُ قبح الكريم في الإملاق

قال الناشي:

يا أكرمَ الناس أخلاقاً وأوفَرهم

عقلا وأسبقهم فيه إلى الأمَدِ

ص: 351

أصبحتَ أفضلَ من يمشي على قدم

بالرأي والعقل لا بالبطش والجَلَد

لئن ضَعُفْتَ وأظناك السقام فلم

يضعف قوى عقلك الصافي ولمَ يمدِ

لو كان أفضلُ ما في الخلق بطشهمُ

دون العقول لكان الفضل للأسَد

وإنما العقل شيء لا يجود به

للناس غيرُ الجواد الواحد الصمدِ

قال المتنبي:

لولا العقولُ لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

قال إدريس الأعور يرثى عبد

ص: 352

الله بن طاهر:

أجيل طرفي فما ألقى سوى جدث

وارى محاسن ذاك المنظر البهج

وتربة ما رأتها عينُ غانية

إلا سخت بدم بالدمع ممتزج

وسودتها بِنِقْسٍ بعد غاليةٍ

وبدلت حمرة التفاح بالسبج

قال المتنبي:

وأبرزت الخدورُ مخبآتٍ

يضعن النقس أمكنة الغوالي

قال أبو تمام:

تعود بسط الكف حتى لو انه

أراد انقباضاً لم تطعه أنامله

وقال ابن الرومي:

ص: 353

تعوَّدَت المواهبَ والعطايا

أناملُ فيضُ راحتِها انسجامُ

فليس لها عن الحمد انفراج

وليس لها على المال انضمام

قال المتنبي:

عجباً له حَفِظَ العِنانَ بأنمل

ما حفظُها الأشياءَ من عاداتها

قال العكوك:

عجبتُ لَحراقة ابن الحُسَيْن

كيف تعوم ولا تَغْرَقُ

وبحران من تحتها واحدُ

وآخرُ من فوقها مُطْبِقُ

وأعجب منَ ذاك عيدانُها

وَقْد مَسَّها كيف لا تُورقُ

وقال أبو البيداء:

ص: 354

هو المشترى الحمدَ الكثيرَ بماله

وفي يده للسائلين سَحاب

ولو مطرت كفاه أرضاً لأخصبت

وأورق صفوانُ عليه تُرابُ

قال المتنبي:

وعجبت من أرضٍ سحابُ أكُفَّهم

من فوقها وصخُورها لا تُورِقُ

قال أبو تمام:

ومن خدم الأقوام يرجو نوالَهم

فإنيَ لم أخدمك إلا لأخدما

قال المتنبي:

وما رغبتي في عسجد أستفيده

ولكنها في مفخر أستجدُّه

قال ابن المعتز:

ص: 355

وأرى الثريا في السماء كأنها

قدمُ تبدتْ في ثياب حداد

وقال معوج الرقي:

كأن بناتِ نعش حين لاحت

نوائحُ واقفاتُ في حداد

قال المتنبي:

كأن بنات نعش في دجاها

خرائدُ سافراتُ في حداد

قال بشار:

وظن وهو مُجدُّ في هزيمته

ما لاح قدامه شخصاً يسابقه

قال أبو نواس:

فكل كف رآها ظنها قدحاً

وكل شيء رآه ظنه الساقي

قال المتنبي:

ص: 356

وضاقت الأرض حتى كاد هاربُهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

قال أبو المتورد:

حلّ المسيب بمفرقي

فكأنه سيف صقيل

أقبحْ بضيف قال لي

لما أتى قُرب الرحيل

وقال البحتري:

وددت بياض السيف يوم لقيني

مكانَ بياض الشبب حل بمفرقي

قال المتنبي:

ضيف ألم برأسي غير مُحتشم

والسيف أحسن فعلا منه باللمم

قال الخليع الأكبر:

ص: 357

وخير بلاد الله عنديَ بلدةُ

أنال بها عزاً وأحوى بها حمدا

وقال البحتري:

وأحب أقطار البلاد إلى الفتى

أرضُ ينال بها كريم المطلب

قال المتنبي:

وكل امرئ يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

قال النابغة:

وتنكر يوم الروع ألوان خيلنا

من الطعن حتى تحسب لجون أشقرا

وقال أبو المهاجر البجلي:

وخاضت عتاقُ الخيل في حومة الوغى

دماء فصارت شُهبُ ألوانها دُهما

ص: 358

قال المتنبي:

جفتني كأني لست أنطقَ قومِها

وأطعنَهم والشهبُ في صورة الدُّهْمِ

قال قدامة بن موسى الجمحي:

شجاع يرى الإحجام كفراً فيتقي

وسمح يرى الإفضال فرضاً فيُفضِل

وما يتناهى القول في وصف مدحه

ولكنني أبغي اختصاراً فأجمل

قال المتنبي:

هو الشجاع يعدّ البخل من جُبُن

وهْو الجواد بعد الجبن من بَخَل

قال إبراهيم البندَ نيجي الكاتب:

ص: 359

أحاول أمرا والقضاء يعوقه

فبيني وبين الدهر فيه طِراد

ولولا الذي حاولت صعبا مرامه

لساعدني فيه عليه شداد

قال المتنبي:

أهمّ بشيء والليالي كأنها

تطاردني عن كونه وأطارد

وحيد من الخُلان في كل بلدة

إذا عظم المطلوب قل المساعد

قال الناشي:

إليكم بنى العباس عني فإنني

إلى الله من ميل إليكم لَتائب

تركتم طريق الرشد بعد اتضاحه

وأقصتكم عنه ظنونُ كواذب

ص: 360

سيظفر أهل الحق بالحق عاجلا

وتبعد كم سُمرُ القنا والقواضب

أترضون أن تطوى صحائف عصبة

كرام لهم في السابقين مراتب

ألم تعلموا أن التراث تراثهم

وهم أظهروا الإسلام والكفرُ غالب

فلا تذكروا منهم مثالبَ إنما

مثالب قوم عند قوم مناقب

قال المتنبي:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائبُ قوم عند قوم فوائد

قال أبو راسب البجلي:

ص: 361

ولولا انتقاد الدهر لم يَكْسُ قاسما

جَلَالا ولم يِسْلُب سواه المعاليا

قال المتنبي:

ولما رأيت الناس دون مَحَله

تيقنت أن الدهر للناس ناقد

وقال أبو راسب أيضاً:

ولو كنت تحوي عمر من قد نهبته

بسيفك في الدنيا لكنتُ مخلداَّ

قال المتنبي:

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدنيا بأنك خالد

قال أبو العتاهية:

شيم فتحت من المجد ما قد

كان مستغلقاً على المُداحِ

قال المتنبي:

ص: 362

وعلموا الناس منك المجد واقتدروا

على دقيق المعاني من معانيكا

قال أبو العالية:

أنارت بك الأوقات حتى تبسمت

ورقت حواشيها وطاب نسيمها

فخذ ما صفا منها وعش في سعادة

فليس بباق لهوها ونعيمها

قال المتنبي:

انعمْ ولَذَّ فللأمور أواخر

أبداً إذا كانت لهن أوائل

قال السيد الحميري:

تخفَى على أغبياء الناس منزلتي

إني النهارُ وهم فيه الخَفافيشُ

قال المتنبي:

ص: 363

وإذا خفيِتُ على الغبيّ فعاذرُ

ألَاّ تراني مقلةُ عمياءُ

قال العوني:

يا صاحبيَّ بعدتما فتركتما

قلبي رهينَ صبابة وتصابي

أبكي وفاء كما وعهد كما كما

أبكي المحبَّ معاهد الأحباب

قال المتنبي:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه

بأن تُسعدا والدمعُ أشفاه ساجمهُ

قال العوني:

أحب ابن بنت المصطفى وأزوره

زيارة مهجور يَحنّ إلى الوصل

وما قدمي في سعيه نحو قبره

بأفضل منه رتبةً مركزُ العقل

ص: 364

قال المتنبي:

خير أعضائنا الرؤوس ولكن

فَضَلَتْها بقصدك الأقدامُ

قال البحتري:

اغتنم فرصة من الدهر واطرب

ليس شيء من الجديدين باقي

وزمان السرور يمضي سريعاً

مثلَ طيبِ العِناق عند الفراق

قال المتنبي:

للهو آونة تمر كأنها

قُبَلُ يُزوَّدُها حبيبُ راحلُ

قال منصور النَّمَري:

رضيت بأيام المشيب وإن مضى

شبابي حميداً والكريم ألوف

قال المتنبي:

ص: 365

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصّبا

لفارقتُ شيبي موجَعَ القلب باكيا

قال البحتري:

تعنو له وزراءُ الملك خاضعةً

وعادةُ السيف أن يَستخدم القلما

وقال ابن الرومي:

كذا قضى الله للأقلام مذ خُلقتْ

أن السيوف لها مذ أرهفت خدم

قال المتنبي:

حتى رجعت وأقلامي قوائلُ لي

المجد للسيف ليس المجد للقلم

ص: 366

اكتبْ بنا أبداً بعد الكِتاب به

فإنما نحن للأسياف كالخدم

قال البحتري:

أضرتْ بضوء البدر والبدرُ طالعُ

وقامت مقام البدر لما تغيبا

وقال نصر الخبرأرزي:

وما حاجة الركب السُّراة إذا بدا

لهم وجهه ليلا إلى طلعة البدرِ

قال المتنبي:

وما حاجةُ الأظعان حولكِ في الدجى

إلى قمر ما واجدُ لكِ عادمه

قال علي بن جبلة:

ص: 367

قمرُ نمّ عليه نورهُ

كيف يُخْفي الليلُ بدراً طلَعاَ

وقال الشعباني:

فإذا جِزعت من الرقيب فلا تزرْ

فالبدر يفضح كلَّ ليل مظلم

قال المتنبي:

أمنِ ازديارَكِ في الدّجا الرقباءُ

إذ حيث كنتِ من الظلام ضياء

قال أبو تمام:

مقيم الظن عندك والأماني

وإن قلقت ركابي في البلاد

قال المتنبي:

وإني عنك بعد غد لغاد

وقلبي عن فنائك غيرُ غاد

قال أبو تمام:

ص: 368

وما سافرت في الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتي وزادي

قال المتنبي:

محبك حيث ما اتجهتْ ركابي

وضيفك حيث كنتُ من البلاد

قال البحتري:

ولم أر في رنْق الصَّرَي ليَ مَوْرِداً

فحاولتُ وردِ النيل عند احتفاله

وقال الكسروي:

وما أنا تارك بحراً نميراً

وأطمع في الجداول والسواقي

إذاً لَجحدتُ ما أوليتنه

من النعمى ومِتّ من النفاق

وقال العطوي:

أأمتاج من بئر قليل معينها

وأقعد عن بحر زُلال مشاربه

قال المتنبي:

ص: 369

قواصدَ كافور تواركَ غيره

ومن قصد البحرَ استقلَ السواقيا

قال إبراهيم بن عيسى في معرض العتاب:

يا وارث المجد التلي

د وبانيَ الكرم الأصيل

مالي أراك قبلت أق

وال الوشاة بلا دليل

قد كنت أحسب أنني

أحظى بنائلك الجزيل

حتى رأيت وسائلي

خَلُقَتْ وضاعت في السبيل

فعلمت أني قد غلط

تُ وتهت في خطب طويل

ص: 370

ولقد أتيتك آنفاً

أرجوك في أمر قليل

أنصف فإنك منصف

إلا لخادمك الذليل

إما إزاحة علة

فيها الشفاء من الغليل

إما فقوتُ ما أعي

ش يصون وجهي عن بخيل

إما فإذنُ استق

لُ به على وجه جميل

من لم يعنك على المقا

م فقد أعان على الرحيل

قال العميدي لمح المتنبي جميع هذه الأبيات وسلخ البيت الأخير في قوله:

ص: 371

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

ألَاّ تفارقهم فالراحلون همُ

قال أبو هفان المهزمي:

جلستَ فقام الدهر فيما تريده

ونمتَ عن الأشغال والجَدُّ ساهر

وأنت لأرباب المكارم كلهم

إمام وإن غابوا فإنك حاضر

قال المتنبي:

ودانت له الدنيا فأصبح جالسا

وأيامه فيما يريد قيام

وكل أناسٍ يتبعون إمامهم

وأنت لأهل المكرمات إمام

قال العميدي: أترى يخفي على النساء دون الرجال هذا وما يجري مجراه أنه سرقة؟ قال عبد

ص: 372

الله بن محمد الرقي المكنى بابن عمران:

صينت ظهورُ مطايانا لغيبته

فليس يركبها من أحد

من يصحب الدهر لم يأمن تقلبه

يعيش حيرانَ ينفذ الأبدُ

قال المتنبي:

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن بان عنا أن نلُمّ به ركباَ

ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت

على عينه حتى يرى صدقها كِذبْا

قال إسماعيل بن محمد الراداني يمدح الحسن بن وهب:

كأنما الناس مخلوق من ظُلَم

وأنتَ وحَدك مخلوقُ من النورِ

ص: 373

تهتز كالغصن عند الجودِ من طرب

وتستعين بقلب غير مذعور

قال المتنبي:

فلو خلق الناس من دهرهم

لكانوا الظلام وكنت النهارا

أشدُّهم في الندى هِزةً

وأبعدهم في عدوّ مُغارا

قال الهرمزيّ:

سَقيم المجد مذ سقمت، ويبرا

حسين تبرا، وبالأعادي السَّقامُ

وإذا ما سلمت فالناس طراَّ

سلموا مثلما سلمت وقاموا

قال المتنبي:

ص: 374

المجد عُوفي مذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى أعدائك الألم

قال سعيد الخطيب:

وما كنت أدري أن في كفك الغنى

وأنت قد أصبحتَ للمجد عنصرا

وقد كنتُ في ليل من لشك مظلم

إلى أن بدا صبح اليقين فاسفرا

تبرعت بالأموال من غير كلفة

وحزتَ بها عني الثناء المحبرا

قال المتنبي:

وعادي محبيه بقوله عُداته

وأصبح في ليل من الشك مظلم

ص: 375

قال المستهل بن الكميت:

وإني وإن أُلْبستُ ثوب خصاصة

فلستُ لَعمري للبخيل بمادح

ومن رام مدح الباخلين فإنه

ضعيفُ أساسِ العقل بادي القبائح

نصحتك: لا تكرم عدوّاً ولا تُهن

صديقا لك الخيرات فاقبل نصائحي

وما أربي في العيش لولا محبتي

لنفع مُحب أو مَضرةّ كاشح

قال المتنبي:

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محب أو إساءة مُجرم

قال البحتري:

ص: 376

إذا ما الجرح رُمَّ على فساد

تبين فيه تفريط الطبيب

قال المتنبي:

فإن الجرح ينغر بعد حين

إذا كان البناء على فساد

قال أبو العتاهية:

يا جامعَ المال والآمال تخدعه

خوفا من الفقر والعَدَمُ

أسأت ظنك بالله الذي خضعت

له الرقاب فشابت قلبَك الظُّلم

قال ابن الرومي:

ومن راح ذا فقر وبخل فإنه

فقير أتاه البخل من كل جانب

قال المتنبي:

ص: 377

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

مخافة فقر فالذي فعل الفقر

قال أحمد بن مهران الكاتب:

أتاني كتاب منك فيه بلاغةُ

يعظمها عُجباً به كل كاتب

معان كأخلاق الكرام حميدةُ

صحاحُ بألفاظ كزُهر الكواكب

قال المتنبي:

كأن المعاني في فصاحة لفظها

نجومُ الثريا أو خلائقُك الزُّهرُ

قال أبو أحمد الخراساني:

وليس يضرني ضعفُ وفقر

إذا أنفقت مالي في المعالي

ص: 378

رأيت العار في بخل وكبر

ولست أراه في فقر الرجال

قال المتنبي:

غَثاثةُ عيشي أن تَغِثَّ كرامتي

وليس بغث أن تغث المآكل

قال العميدي لقد صار هذا غثا لاجتماع الغثاثات فيه.

قال ابن وهب الفزاري وهو جاهلي:

أرى الموت في الحرب مثل الحياة

لتبليغيَ النفس فيها الأملْ

وأعلم أني امرؤ لا أذو

ق طعم الممات بغير الأجل

ص: 379

قال المتنبي:

فموتي في الوغى عيشي لأني

رأيت الموت في إربِ النفوس

قال تميم بن خزيمة:

وليس يَضرُّني قومي إذا ما

غزاهم في ديارهمُ كلابُ

زنادي غيرُ مُصلدة وسيفي

عليه من دمائهمُ قِرابُ

فلا تستحقروني لانفرادي

فإن التبر معدنُه الترابُ

قال المتنبي:

وما أنا منهمُ بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرَّغامُ

قال بشار بن برد:

ص: 380

إذا اعتذر الجاني إلىّ عذرته

ولا سيما إن لم يكن قد تعمدا

فمن عاتب الجهالَ أتعب نفسَه

ومن لام من لا يعرفُ اللومَ أفسدا

قال المتنبي:

وما كلُّ بمعذور ببُخل

ولا كلُّ على بخل يُلام

قال العميدي متهكماً: هذه الألفاظ إذا سمعها الصوفية تواجدوا عليها لمجانستها كلامهم قال أبو سعيد المخزومي:

لم يترك الجودُ فيه غيرَ عادت

ولم يشِن وعدَه كِذْبُ ولا حَلفِ

ص: 381

فلا يلام على إتلافه كرما

أموالَه والذي لم يعْطه تَلَف

حفظ المروءة يؤذي قلب صاحبها

والحب مغزيً به المستهَتْرُ الكَلف

قال المتنبي:

تلذَ له المروءةُ وهي تُؤذْي

ومن يعَشقْ يلَذُّ له الغرامُ

قلت بيت المتنبي أشرف من بيت أبي سعيد المخزومي لمن تَأملَهما إلا أن لفظه تؤذي آذت بيت المتنبي لضعف تركيبها فيه.

وبيان ذاك: أن هذه اللفظة

ص: 382

إذا أوردت في كلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها ليحسن موقعها، كما وردت في قوله تعالى:) إن ذلكم كان يؤذي النبيّ فيستحيي منكم (، وجاءت في بيت المتنبي منقطعة، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي، وأضيف لها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والركة، وذاك أنه اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام فقال:) باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك (، فإنه لما زيد فيها أصلحها وحسنها؛ ولهذا تزاد

ص: 383

الهاء في بعض المواضع كقوله تعالى:) ما أغنى عني مالَيهْ هلك عني سلطانَيهْ (، وهذا الموضع غامض يحتاج إلى إمعان نظر، وربما ينكر هذا من لم يذق طعم الفصاحة، ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها فكم من لفظة واحدة وردت في موضعين زانت أحدهما، وشانت الآخر، وذلك من خاصة التركيب، كما ورد القرآن الكريم:) إن هذا أخي له تسعُ وتسعون نعجةً ولي نعجةُ واحدةُ (فلفظه لي مثل تؤذي، وقد جاءت في الآية

ص: 384

مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب المتنبي:

تُمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغهِ

فما يقول لشيء ليت ذلك لي

فهذه اللفظة وقعت في الآية في غاية الحسن، بخلاف وقوعها في البيت، ونظير ذلك أنك ترى لفظتين يدلان على معنى واحد إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما، وهذا لا يدركه إلا من دق فهمه، فمن ذلك قول تعالى:) ما جعل الله لرجل من قلبين

ص: 385

في جوفه (، وقوله تعالى:) رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً (، فاستعمل الجوف في الأولى، والبطن في الثانية، ولم يستعمل إحداهما مكان الأخرى، وكذلك قوله تعالى:) ما كذب الفؤاد ما رأى (، وقوله:) إن في ذلك لذكرى لمن كاف له قلب (، والقلب والفؤاد سواء، ولم يستعمل أحدهما في مكان الآخر، وعلى هذا ورد قول الحماسي:

نحن بنو الموتِ إذا الموتُ نزلْ

لا عارَ بالموتِ إذا حُمّ الأجَلْ

ص: 386

والموت أحلى عندنا من العسلْ وقال أبو الطيب:

إذا شئتُ حفَّتْ بي على كل سابح

رجالُ كأن الموتَ في فمها شهدُ

فلفظة الشهد في بيت أبي الطيب أحلى من العسل، وقد وردت لفظة العسل في القرآن الكريم دون لفظة الشهد فوقعت أحسن من الشهد، وكثيرا ما تجد ذلك في أقوال الشعراء المفلقين، وبلغاء الكتاب، ومصاقع الخطباء، وتحته دقائق ورموز.

رجع إلى ما قاله العميدي، قال: قال ضمضم الكلابي:

ص: 387

ومُعْترك ضَنْك المجال شهدته

ولم أخش أسباب المنايا هنالكا

شفيتُ جَوَى صدري وصُنتُ عشيرتي

وغادرتُ وجهَ المجد أبيض ضاحكا

فمن شاء أن يبقىَ له العزُّ خالداً

نفى الضيمَ واستسقى السيوفَ البواتكا

إذا لم يكن عن قبضة الموتِ مَخلصُ

فعجزُ وجبنُ أن تخافَ المهالكا

قال المتنبي:

وإذا لم يكن من الموت بُدّ

فمن العجز أن تكون جبانا

قال أبو العتاهية:

ص: 388

إني أكاشر أعدائي مغالطة

وفي الحشا لهبُ من غيظهم ضَرِمُ

ولج في العذل أقوام مقتهمُ

وكان في أذني عن عذلهم صَمَمُ

قال المتنبي:

كأن رقبياً منك سدّ مسامعي

عن العذل حتى ليس يدخلُها عَذْل

قال بشار بن بُرد:

كأن جُفوني كانت العيِسُ فوقها

فسارتْ وسالتْ بعدهن المدامعُ

قال المتنبي:

كأن العيِسَ كانت فوق جفني

مُناخات فلما ثُرْن سالا

قال هرون بن علي بن يحيى

ص: 389

بن أبي منصور المنجم

أرى الصبح فيها منذ فارقتَ مظلما

فإن أبْتَ صار الليل أبيض ناصعا

قال المتنبي:

فالليل حين قدمتَ فيها أبيضُ

والصبح منذُ رحلتَ عنه أسودُ

قال العوني:

إن دهراً سخا بمثلك سَمْحُ

ولقد كان قبل هذا بخيلا

قال المتنبي:

أعدى الزمانَ سخاؤه فسخا به

ولقد يكون به الزمانُ بخيلا

قال الخطيب في تلخيص المفتاح، وإن كان الثاني دون الأول فالثاني مذموم كقول أبي تمام:

ص: 390

هيهات لا يأتي الزمانُ بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

وقول أبي الطيب: ولقد يكون به الزمان بخيلا.

وميز الشارح بيت أبي تمام بعدة وجوه:

منها أن قول المتنبي:) ولقد يكون (لم يصب محزة، إذ المعنى على المضي، ومنها أن المضارع إذا كان على معناه أي يكون الزمان بهلاكه بخيلا، لعلمه بأنه سبب لصلاح الدنيا، ونظام العالم، فيرد: أنه إذا سخا به فقد بذله، فلم يبق له في تصرفه حتى يسمح بهلاكه أو يبخل، ومنها أنه على تقدير

ص: 391

تصحيح ذلك الوجه يكون فيه مضاف، ولا قرينة تدل عليه.

ونقل عن أبي على الفارسي أن في بيت أبي تمام تقصيراً، لأن الغرض في هذا النحو نفي المثل، وأن يقال: إنه يعز وإنه لا يكون، فإذا جعل سبب فقد مثله بخل الزمان به، فقد أخل بالغرض، وجوز وجود المثل، ولم يمنعه من حيث هو، بل من حيث بخل الزمان بأن يجود بمثله. قال أبو الشمقمق:

المرء ليس بمدرك

من دهره ما يبتغيه

ص: 392

يسقى العليل من الدوا

ء خلاف ما هو يشتهيه

قال المتنبي:

ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

قال محمود بن الحسن الوراق:

لا تَلْحَ شيبي وما شاهدتَ من كبرى

ما دمتُ أغدو صحيح العقل والبصر

قالوا:

أبوك تميمي وهمته

شمُّ القُتار وأكل الشحم بالوضَر

وما تميم إذا عدت أولىِ كرمٍ

فقلت في النار معنى ليس في الحجر

ص: 393

قال المتنبي:

فإن تكن تغلب الغلباءُ عنصَرها

فإن في الخمر معنى ليس في العنب

قال العميدي هذا لفظ غث عامي، وذاك منطقي.

قلت بلغ منه تعصبه أنه ذم كلاماً أجمع أهل الأدب على حسنه قال مروان بن سعيد البصري:

أغنيتنيٍ عن سؤال الباخلين فلا

أحتاج ما أنت تبقى لي إلى رجل

وصنتَ عرضي عمن كنتُ أقصدهُ

ص: 394

.. فلم أنل منه غير المنع والبخلَ

مالي وما لِثَمادِ المال أقربهُ

في لجة البحر ما يُغني عن الوَشَل

أنت الذي فيك مجد الناس كلهم

لولاك أصبحت الدنيا بلا رجل

قال المتنبي:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعتَ به

في طلعة البدر ما يُغنيك عن زُحلَ

قال كعب بن معدان الأشقري:

كأن الرماح السمهريات بينهم

همومُ فما يطرُقن غير الحشا طَرقاْ

ص: 395

حُماةُ كُماةُ لم يُزَنُّوا بريبة

ولا غدَروا يوما ولا ضيّعوا حقا

قال المتنبي:

وقد صُغتَ الأسنةَ من هموم

فما يخطُرن إلا في فؤاد

قال محمد بن العباس:

أما ترى الزعفرانَ الغضَّ تحسبهُ

وقت الصباح إذا أبصرتَه عَنَما

مسكُ ووردُ وَلدُّ طِيبَ رائحة

في حالة وكذلك المسك كان دما

قال المتنبي:

وإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

قال علي بن الجهم:

ص: 396

فدارى ومالي والضياع وكلُّ ما

تمتلكهُ من بعض ما هو باذله

قال المتنبي:

أسيرُ إلى إقطاعه في ثيابه

على طِرفهِ من داره بحسامه

قال البحتري:

ملوك يَعدون الرماح مَخَاصرا

إذا زعزعوها والدروع غلائلا

قال المتنبي:

متعوداً لُبس الدروع يخالها

في البرد خزاًّ والهواجر لاذا

قال الخبزأرزي:

وشادن زرتُه فرحب بي

ترحيب جان على مواليه

جنيتُ ورداً من خدّه بفمي

ص: 397

.. فعشتُ لا عاش من يعاديه

تُحيي رفاتَ العظامقُبلتُه

لأن ماء الحياة من فيه

قال المتنبي:

فذُقتُ ماء حياة من مقبَّلِها

لو صاب تُرياً لأحيا سالفَ الأمم

قال أبو نواس:

يبكي فيُذري الدرَّ من نرجس

وَبلطِمُ الوردَ بعُنّابِ

وقال ابن الرومي:

كأن تلك الدموعَ قَطْرُ نَدىً

تَقطر من نَرْجس على وردِ

قال المتنبي:

ترنو إلىّ بعين الظبي مُجْهشةً

وتسمح الطل فوق الورد بالعنم

ص: 398

قال مَعْقلُ العْجِليّ:

كم كتمتُ الهوى حياءً من النا

س وأخفيت لوعتي واحتراقي

أعلنتْ عبرتي سرائر حبي

كيف تَخفي سرائرُ العشاقُ؟

قال المتنبي:

وكاتم الحب يومَ البين منهتكُ

وصاحبُ الدمع لا تَخفي سرائرهُ

قال العوني:

تحار خواطرُ المُدّاح فيه

ويعجز عن فضائله اللسان

وقالا أيضاً:

تضلّ عقولُ الناس في نعت فضله

ويغرق في أمواج أفضاله الفكر

ص: 399

قال المتنبي:

إذا تغلغل فكرُ المرء في طَرَف

من مجده غرقت فيه خواطره

قال البحتري:

وبلوتُ منك خلائقا محمودة

لو كن في فلك لكن نجوما

قال المتنبي:

أقلب منك طرفي في سماء

وإن طلعتْ كواكبها خصالا

قال العَوني:

وإني ليسري بي أغرُّ مُحجلّ

سُرىً لا يبالي فيه بالنحس والسَّعد

ويصحبني من نسل أعوج ضُمَّرُ

عِتاقُ هُداة لا تجورُ عن القصد

عليها كهولُ دارعون تلثموا

حياءً فهم بالبعد في صورة المُردْ

قال المتنبي:

تُبدل أيامي وعيشي ومنزلي

نجائبُ لا يُفْكرِنْ في النحس والسعد

وأوجهُ فتيان حياء تلثموا

عليهن لا خوفا من الحر والبرد

وقال في موضع آخر:

كأنُهم من طول ما التثموا مُرْدا

قال السيد الحميري:

وإن مسيري من ذَراك ضرورةُ

ولولا اضطراري ما رضيتُ بذالكا

وما رحلتي إلا تبشر عاجلا

بأني أقيم الدهرَ تحت ظلالكا

قال بعض المتقدمين:

سنرجع إن عشنا ونقضي أذمة

فكم من فراق كان داعيةَ الوصل

وقال أبو تمام:

أآلَفة النحيب كم افتراق

أظل فكان داعيةَ اجتماع

قال المتنبي:

لعل اللهَ يجعله رحيلا

يُعين على الإقامة في ذَراكا

قال ابن الرومي:

يرى الصعب سهلا إن توجه نحوه

بعزم صقيل لا تُفَلُّ مضاربُه

وغُّرَّة وجه يهزم النحسَ سعدهُ

وتَطلعُ في أفق السعود كواكبه

قال المتنبي:

فإنك ما مر النحوسُ بكوكب

وقابلتهَ إلا ووجهكُ سَعْدُه

قال الهيثم بن الأسود النخعي:

إذا نال بالسيف الفتى سؤُل نفسه

ترفع عن تدنيسها بسؤال

ومن لم يصن في حاجة ماءَ وجهه

عن الناس لم يلبس ثيابَ جلال

قال المتنبي:

من أطاق التماس شيء غلابا

واغتصابا لم يلتمسه سؤالا

وقال موسى بن عمران:

أصبحت من معشر ما في قلوبهمِ

من السيوف ومن خوض الردى فَرَقُ

يستسهلون صعابَ الحادثات فهم

يلقَوْنها بنفوس ما بها قلقُ

قال المتنبي:

وإنا لنلتقي الحادثاتِ بأنفسٍ

كثيرُ الرزايا عندهنَّ قليلُ

لِمنَ هون الدنيا على النفس ساعة

وللبيض في هام الكماة صليلُ

وقال البحتري:

كستك يدُ الأيام ثوبَ جلالة

فغابت عواديها وزالتْ خطوبهاُ

إذا اعتل ذو فقر فأنت شفاؤه

وإن شكتِ الدنيا فأنتَ طبيبهاُ

قال المتنبي:

وكيف تُعِلك الدنيا بشيء

وأنت لعلة الدنيا طبيب؟

قال ابن الرومي:

إن أقبلتْ فالبدر لاح وإن مشت

فالمسك فاح وإن رنت فالريمُ

قال المتنبي:

بدت قمراً ومالت خُوطَ بان

وفاحتْ عنبراً ورنت غزالا

قال مَخْلدَ بن بكار الموصليّ:

لا عدمناه من همام كريم العهد

غمر الندى حميد الخصال

يُحسن الكرَّ في الكلام وفي الإق

دام يوم الوغى وعند النَّوال

قال المتنبي:

هم المحسنون الكَرَّ في حومةِ الوغى

وأحسن منه كُّرهم في المكارم

قال أبو العتاهية:

أجدادهُ علَّموه في طفولته

قتل العدِا واكتسابَ الحمد بالجود

ص: 400

فاجتثَّ دابر أعداء ذوي حسد

وفي السماحة أفنى كلَّ موجود

قال المتنبي:

فتى علمتْه نفسُه وجدودُه

قِراعَ الأعادي وابتدار الرغائب

ألا أيها المالُ الذي قد أباده

تَعزَّ فهذا فعلُه في الكتائبِ

قال بشار بن بُرد:

لعمري لقد هذبتُ قولي ولم أدع

مقالات لمغتاب ودعوى لمن لَحا

ومن كان ذا فهم بليد وعقله

به عِلةُ عاب الكلام المنقحا

ص: 401

قال المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم

قال عبد الرحمن بن دارة:

فإن أنتمُ لم تقتلوا بأخيكمُ

فكونوا بقايا للخَلوق وللكُحل

وبيعوا الردينيات بالخمر واقعدوا

على العار وابتاعوا المغازل بالنَّبل

قال الناشي الأكبر:

إن كنت بالذل راضياً فأرِحْ

في الجَفْن حدَّ المهند الخَذِمِ

فالمرءُ بالجود والشجاعة وال

همة يحوي محاسنَ الكرمِ

ص: 402

قال المتنبي:

إذا كنتَ ترضى أن تعيشَ بذلة

فلا تستعِدَّنَّ الحسُام اليمانيا

ولا تستطيلنَ الرماحَ لغارةٍ

ولا تستجيدنَّ العِتاقَ المَذَاكيا

قال بشار بن بُردْ:

والجِد ليس بزائد في رزق مَن

يسعى وليس بنائم عن نائم

ويموتُ راعى الضأن عند تمامه

موت الطبيب الفيلسوف العالم

قال المتنبي:

يموتُ راعي الضأن في جهله

ميتة جالينوس في طبِهِ

وقال الخبزأرزي:

ص: 403

إن نفسي تذوبُ في كل حين

حسراتٍ ومن جفوني تسيلُ

وقال الجْهَمِيّ:

وليس الذي يجري من العين ماؤها

ولكنها روحُ تذوبُ فتقْطرُ

وقال الواسطي:

وقائله: أيُّ الدماء التي غدتْ

تجود بها عند الوداع المحاجزُ

فقلت لها: نار الحشا صعدَّت بها

فهن على خدَّي بيض بوادر

ألم تَرَ حسنَ الورد يبيض ماؤه

فيقطرُ من نار تُجِنّ الضمائر

وقال الجُعفي الكوفي:

ص: 404

دمعي جرى من جفوني يوم بينهمُ

فلستُ أعلم دمعي كان أم روحي؟

وقال بشار:

حشاشتي ودعْتني يومَ بينهم

وشيعتهمْ وخلتني وأحزاني

وقد أشاروا بتسليم على حذر

من الرقيب بأطراف وأجفان

قال المتنبي:

حشاشة نفس ودعتْ يوم ودّعوا

فلم أدر أيَّ الظاعنين أشيع؟

أشاورا بتسليم فجُدنا بأنفس

تسيلُ من الآماق والسَّمُ أدمع

قال أبو العتاهية:

قد صار يحسُدني من كان يَعذرني

فيه، ويعذرني رهطي وأضدادي

ص: 405

والسقمُ لازمني حتى أنسِتُْ به

وفرَّ مني أطبائي وعُوّادي

قال المتنبي:

عواذلُ ذات الخال فيّ حواسدُ

وإن ضجيع الخَوْدِ مني لَماجدُ

ألح علىّ السقْمُ حتى ألفِتُه

وملَّ طبيبي جانبي والعوائدَ

قال أبو الشّيص:

دعتني جفونُك حتى عشقتُ

ولم أكُ من قبلها أعشق

فدمعي يسيلُ وصبري يزولُ

وجسميَ في عبرتي يغرقُ

قال المتنبي:

وما كنت ممن يدخل العشقُ قلبه

ولكن من يُبصِرْ جفونَك يعشَق

ص: 406

قال السيد الحميري:

همة تنطح الثريا وعزُّ

نبوي يُزعزع الأجبالا

وعطاءُ إذا تأخر عنه

سائلوه اقتضاهمُ استعجالا

قال المتنبي:

شرف ينطح النجوم بِرَوْقَي

هـ وعزُّ يقلقل الأجبالا

قال صاحب نصر بن سيار:

طال عتبُ الزمانِ ظلماً علينا

وجفانا فما له إعتابُ

فأجرناْ منِ عَتْبه وأذاه

أنت ترجى لمثله وتهاب

ما لنا مُنصف سواك فُيشْكَي

أنت كالنصل والملوكُ قِراب

قال المتنبي:

لنا عند هذا الدهر حق يَلُطّه

وقد قل إعتاب وطال عتابُ

ولا مُلْكَ إلا أنت والمُلكُ فضلة

كأنك سيف فيه وهْو قِراب

ص: 407

قال إبراهيم بن متمم بن نويرة:

والخيلُ قد نسجتْ على صهواتها

أيدي الرياح براقعا وجلالا

ضاقت عليهن الفلاةُ فلا ترى

من كثرة القتلى لهن مجالا

قال المتنبي:

صافيات الألوان قد نسج النق

عُ عليها بَراقعا وجِلالا

ولَتَمْضِنَّ حيث لا يجد الرم

ح مداراً ولا الحصان مجالا

قال بشار بن بُرْد:

حظي من الخير منحولُ وأعجبُ ما

أراه أتى على الحِرْمانَ محْسود

أغدو وأمسى وآمالي قطعتُ بها

عمري تخيب وأموالي المواعيد

ص: 408

وأكرمُ الناس من تأتى مواهبه

من غيرِ وعد فيه الخيرُ موجود

قال المتنبي:

ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها

أني بما أنا باك منه محسود

أمسيت أرْوَحَ مُثْر خازنا ويدا

أنا الغنى وأموالي المواعيد

جود الرجال من الأيدي وجودهمُ

من اللسان فلا كانوا ولا الجود

قال العميدي: من قال إن هذا غير مأخوذ من كلام بشار فقد عدم الفطنة والتمييز، وجميع الرشاد والتوفيق. وجهل مواقع الأخذ، واحتاج أن يسقى شربة تشحذ فهمه،

ص: 409

وتجلو طبعه، وتزيل العي عنه.

قال محمد بن أبي عيينة المهلبي:

إني لأختار الحما

م على مصاحبة اللئامِ

وأفر منهم ما حيي

ت ولا أفرِ من الحسامِ

نفسي الكريمة لا تَقَرُّ

على المذلة والملام

والموت أطيب في فمي

عند الهوان من المدامِ

قال المتنبي:

وعندها لَذَّ طعمَ الموتِ شاربهُ

إن المنية عند الذلّ قِنديدُ

قال أبو العتاهية:

ص: 410

أزُفّ أبكار أشعاري إليك فما

عندي سوى الشكر لا خيلُ ولا مال

فأقبل هدية من تصفو مودته

إن لم تساعده فيما رامه الحال

قال المتنبي:

لا خيلَ عندك تُهديها ولا مال

فليسُعد النطقُ إن لم يسعد الحالُ

قال علي بن الجهم:

ولا خير في عيش امرئ وهو خامل

وذكرُ الفتى بالخير عمر مُجَدَّد

فنبه عن النوم الحسامَ ولا تنم

لتبقى فما في الأرض شيء مُخلدَّ

قال المتنبي:

ص: 411

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته

ما قاته وفضولهُ العيش أشغال

قال سليمان الخزاعي:

فَطِنُ بالذي أرُيُد فقولي

ليس يغنى ولا سكوتي يَضرُّ

يسبق البذُل وعدّه فَنَداه

ليس يَفنى وسُحْبُه ما تَعزُّ

وقال بعض المتقدمين:

أروحُ بلا شُغل وأغدو بمثلهِ

وحسبكُ بالتسليم منى تقاضيا

وقال العِرزْمِيُّ:

وإذا طلبتَ إلى كريم جاجةً

فلقاؤه يُغنيك والتسليمُ

قال المتنبي:

ص: 412

وفي نفس حاجاتُ وفيك فطانةُ

سكوتي بيانُ عندها وخطابُ

ومما ينتظم في هذا السلك قول بعض خدام واحد الدنيا ونير فلك العليا، من زينب بمدائحه غرز الآداب، المولى المخدوم بهذا الكتاب، من قصيدة يمدحه بها ويهنئه بعيد الأضحى من سنة خمسين وألف:

يا بن مَنْ مَالهَ إذا كان قد عُدّ

م أولو الفضل في الفضائل ثاني

وهما النيران في كلٍ مجدٍ

دونه في عُلوه النيرانِ

ص: 413

أنت أذكى الأنامِ طُراً وقد جئ

تُ وحالي تُغنى عن التّرجمانَ

وإذا ما أعرتَني وحيَ حظٍ

كنت أدري مني بما في جَناني

قال العميدي: قال سليمان بن مهاجر البجلي الكوفي:

دقَّتْ مضارِبُ سيفه فكأنه

صبُّ وأعناق الرجال حبائبُ

وأسنة الأرماح يَحكى ضوءُها

شمساً وأحشاء الرجالِ مغارب

قال المتنبي:

رقَّتْ مضاربُه فهنَّ كأنما

يُبدين من عشق الرقاب نُحولا

ص: 414

والمتنبي وإن أخذ بعض معاني الأبيات التي أوردها العميدي فقد زاد من ألفاظه ما يحلو سماعه، وتعذب أنواعه، ويلطف موقعه، ويخف على القلوب موضعه، ويصل إلى النفوس بلا تكلف، ويمتزج بالأرواح بلا تعسف، وكساها من عنده ملاحة، فاستوفى شروط الكمال كلها، وأذهب كلها، ونظم محاسنها المتفرقة بحسن صنعته، وأزال الكزازة عنها بحذقة وبراعته، فصار أولى بها من مبدعها، وأحق بأن يشهد له الفضلاء بانفراده بها، لجلالة وقعها،

ص: 415

قال علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح: كان أبو محمد بن وكيع متأدباً ظريفاً، ويقول الشعر، وعمل كتاباً في سرقات المتنبي، وحاف عليه كثيراً، وسألني يوما أن أخرج معه، واستصحب مغنياً وأمره ألا يغني إلا بشعره فغنى:

لو كان كلُّ عليلِ

يزداد مثلَك حُسنا

لكان كلُّ صحيح

يودُّ لو كان مُضني

يا أكملَ الناس حسْناً

صِل أكمل الناس حْزنا

ص: 416

غَنيِت عني ومالي

وجه به عنك أغنى

فقلت له: هل تثقل عليك المؤاخذة؟ قال: لا. فقلت: إن أبياتك مسروقة: الأول من قول بعضهم.

فلو كان المريضُ يزيدُ حسناً

كما تزدادُ أنت علي السقام

لما عِبدَ المريض إذن وعُدَّتْ

شِكايتُه من النِعَم الجِسام

والثاني من قول رؤبة:

سَلْمُ ما أنساكِ ما حييت

لو أشرب السلوانَ ما سَلِيتُ

مالي غنى عنك ولو غَنيِتُ فقال: والله ما سمعت بهذا. فقلت:

ص: 417

إذا كان الأمر على هذا فاعذر المتنبي على مثله، ولا تبادر إلى الحط عليه، ولا المؤاخذة له، والمعاني يستدعي بعضها بعضاً.

قال ياقوت: كان المتنبي يوماً جالساً بواسط فدخل عليه بعض الناس، فقال أريد أن تجيز لنا هذا البيت، وهو:

زارنا في الظلام يطلبُ سِترا

فافتضحنا بنوره في الظلام

فرفع رأسه، وكان ابنه المحسد واقفاً بين يديه، وقال له: يا محسد: قد جاءك بالشمال، فأنه باليمين، فقال ارتجالا:

فالتجأ إلى حنادس شعر

سَتَرَتنا عن أعين اللوَّام

ص: 418

ومعنى قول المتنبي لولده جاءك بالشمال فأته باليمين، أي أن اليسرى لا يتم بها عمل، وباليمين تتم الأعمال، ومراده: أن المعنى يحتمل الزيدة، فأوردها، وقد لطف في الإشارة.

وعقد الثعالبي لذكره بابا مستقلاً في يتيمته فقال: الباب الخامس في ذكر أبي الطيب المتنبي وما له وعليه.

هو وإن كان كوفي المولد شامي المنشأ، وبها نخرج، ومنها خرج نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة، المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في

ص: 419

البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال:

وما الدهر إلا من رواةُ قصائدي

إذا قلتُ شعراً أصبحَ الدهرُ منشدا

فساو به من لا يسير مشمّراً

وغَنىَّ به من لا يغنى مُغَردا

وكما قال:

ولي فيك ما لم يقلُ قائلُ

وما لم يَسِرْ قمر حيث سارا

وعندي لك الشُّرَّدُ السائرا

ت لا يختصصن من الأرض دارا

قواف إذا سِرْنَ عن مِقْوَلي

وَثَبْنَ الجبالَ وخُضْنَ البحارا

ص: 420

وهذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم، وهو:

ولكن إحسان الخليفة جَعْفَر

دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر

فسار مسيرَ الشمس في كل بلدة

وهَبَّ هبوب الريح في البر والبحر

فليس اليومَ مجالسُ الدرس أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون القوالين والمغنين أشغل من كتب المؤلفين والمصنفين، فقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل

ص: 421

مشكله وعويصه، وكسرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه، وتفرقوا فرقا في مدحه وذمه، والقدح فيه، والنضح عنه، والتعصب له وعليه؛ وذلك أدل دليل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته.

وقد انتدب العلماء لديوانه، وشرحوه شروحاً كثيرة: فمنهم من تكلم

ص: 422

على ديوانه أجمع، ومنهم من تكلم على بعضه، فمن شروحه كتاب ابن جني، وهو أول من شرحه، وكتاب اللامع العزيزي لأبي العلاء المعري، وكتاب معجز أحمد لأبي العلاء أيضاً، وكتاب أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي، وكتاب الموضح لأبي زكريا التبريزي، وكتاب عبد

ص: 423

القاهر الجرجاني، وكتاب أبي منصور محمد بن عبد الجبار السمعاني، وكتاب أبي القاسم إبراهيم بن محمد الأفليلي، وكتاب أبي الحجاج يوسف بن سليمان الأعلم، وكتاب عبد الرحمن بن محمد الأنباري، وكتاب في سرقات المتنبي للحسن بن محمد بن وكيع، وسماه المنصف، وكتاب أبي البقاء عبد الله العكبري، وكتاب أبي اليمن يزيد بن الحسين الكندي، وكتاب عبد الواحد بن محمد بن علي بن زكريا، وكتاب محمد ابن علي بن إبراهيم الهراسي الكافي، وكتاب أبي الحسن محمد بن عبد الله الدلقي عشر مجلدات، وكتاب كمال الدين بن القاسم الواسطي، وكتاب الوساطة للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكتاب أبي بكر محمد

ص: 424

بن العباس الخوارزمي، وكتاب عبد الرحمن بن دوست النيسابوري، وكتاب أبي الفضل أحمد بن محمد العروضي، وكتاب التجني على ابن جني لابن فورجة، وكتاب الفتح على أبي الفتح لابن فورجة أيضا، وكتاب معاني أبياته لابن جني، وكتاب التنبيه لأبي الحسن علي بن عيسى الربعي، وقد رد فيه على ابن جني أيضاً، وكتاب أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني، وكتاب الحسين بن محمد بن طاهر الشاعر، وكتاب أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز القيرواني، وكتاب علي بن جعفر بن القطاع،

ص: 425

وكتاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد، وكتاب أبي الحسن عبد الرحمن الصقلي، وكتاب قصائد الصبا للأعلم، وكتاب نزهة الأديب في سرقات المتنبي من حبيب لابن حسنون المصري، وكتاب الانتصار لأبي الحسن أحمد بن أحمد المغربي، وكتاب التنبيه عن رذائل المتنبي لأحمد المغربي أيضاً، وكتاب بقية الانتصار، المكثر من الاختصار لأحمد المغربي أيضاً، وكتاب الرسالة الحاتمية لأبي الحسن محمد بن المظفر الحاتمي وكتاب جبهة الأدب

ص: 426

للحاتمي أيضاً، وكتاب المآخذ الكندية من المعاني الطائية، وكتاب الاستدراك علي ابن الدهان للوزير ضياء الدين ابن الأثير الجزري، وكتاب الإبانة للصاحب العميدي. سوى الشروح التي لم نسمع بذكرها.

ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية ولا في الإسلام شرح هكذا مثل هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا تداول على ألسنة الأدباء في نظم ونثر أكثر من شعر المتنبي.

هذا الصاحب مع بغضه له، وتعصبه عليه، أكثر الناس استعمالا لكلماته، في محاضراته ومكاتباته.

فمن ذلك فصل له من رسالة في وصف

ص: 427

قلعة افتتحها عضد الدولة: وأما قلعة كذا، فقد كانت بقية الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، وترى أن الأيام قد صالحتها على الإعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها وأبا بأسها ونجدتها، جهلوا بون ما بين البحور والنهار، وظنوا الأقدار تأتيهم على مقدار، فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين، ومثواهم القديم، نهزه الحوادث، وفرصة البوائق، ومجر العوالي

ص: 428

ومجرى السوابق.

وإنما ألم بألفاظ بيتين لأبي الطيب أحدهما:

حتى أتى الدنيا ابنُ بَجْدتها

فشكى إليه السهلُ والجبلُ

والآخر:

تذكرتُ ما بين العُذَيب وبارق

مَجَرَّ عوالينا ومجرى السوابق

ومن ذلك فصل آخر له أيضاً.

لئن كان الفتح جليل الخطر، حميد الأثر فإن سعادة مولانا لتبشر بشوافع له، يعلم معها أن الله أسرار في علاه لا يزال يبديها، ويصل أوائلها بتواليها.

وهو من قول أبي الطيب:

ص: 429

ولله سرّ في عُلاك وإنما

كلام العِدا ضرب من الهَذَيان

ومن ذلك ولو كان ما أحسنه شَظية من قلم كاتب لما غير خطة، أو قذى في عين نائم لما انتبه جفنه.

وهو من قول أبي الطيب:

ولو قلم ألقيتُ في شق رأسه

من السقْم ما غيرتُ من خط كاتب

وقول نصر:

ضَنِيتُ حتى صرت لو زُجَّ بي

في ناظر النائم لم ينتبهْ

ومنه أخذ ابن العميد قوله:

ص: 430

فلو أن ما أبقيتِ من جسدي قذىً

في العين لم يمنع من الإغفاء

ومن ذلك في التعزية..

إذا كان الشيخ القدوة في العلم وما يقتضيه، والأسوة في الدين وما يجب فيه، لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في ثارات الأسى بمذهبه، فكيف لنا بتعزيته عند حادث رزيته، إلا إذا رددنا له بعض ما أخذناه عنه، وأعدنا إليه طائفة مما استفدناه منه وإنما هو حل من

ص: 431

قول أبي الطيب:

أنت يا فوقَ أن تُعزَّى عن الأح

باب فوق الذي يعزيك عقلا

وبألفاظك اهتدي فإذا عَزَّ

اك قال الذي له قلت قبلا

ومن ذلك: وقد أثنى عليه ثناء لسان الزهر على راحة المطر، وهو من قول أبي الطيب:

وذكىّ رائحة الرياض كلامُها

تبغي الثناء على الحيا فتفوح

والأصل فيه قول ابن الرومي:

شكرتْ نعمة الوليّ على الوس

ميّ ثم العهاد بعد العهادِ

ص: 432

فهي تثنى على السماء ثناء

طيب النَّشر شائعا في البلاد

من نسيم كأن مسراه في الأر

واح مَسرى الأرواح في الأجساد

ومما أورده من أبيات أبي الطيب كما هي قوله في كتاب أجاب به ابن العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئ بحر في وصف مراكبه وعجائبه: وقد علمت أن سيدنا كتب وما أخطر بفكره سعة صدره، ولو فعل ذلك لرأى البحر وشلا، لا يفضل عن التبرض، وثمدا. لا يكثر عن الترشف.

وكم من جبال جُبْت تَشْهَدُ أنك الْ

جبالُ

ص: 433

وبحر شاهد أنك البحرُ.

وله من رسالة في التهنئة ببنت، أولها:) أهلا بعقيلة النساء، وكريمة الآباء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار (ثم يقول فيها:

ولو كان النساء كمثل هذي

لفضلتُ النساءُ على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيبُ

ولا التذكيرُ فخرُ للهلال

وله من كتاب تعزية:) وقلنا قد أخذ الزمان من أخذ، وترك من ترك، فهو لاشك يعفو عن القمر، وقد أسلم الشمس للطفل، ولا يصل الصروف

ص: 434

بالصروف، ولا يجمع الكسوف إلى الخسوف. فأبى حكم الملوين. وقد غبنك إذ قاسمك الأخوين، فأبى إلا أن يعود فيلحق الباقي بالفاني، والغابر بالماضي.

وعاد في طلب المتروك تاركه

إنا لنغفل والأيام في الطلب

ما كان أقصر وقتا كان بينهما

كأنه الوقت بين الورِد والقَرَب

أقول هذا كعادة المصدور في النفث، وشكوى الحزن والبث، وإلا فما يعجب السفر من تقدم بعض، وكل بين الرحل؛ لا يترك الموت ساعياً على

ص: 435

وجه الأرض حتى ينقله إلى بطن التراب.

نحن بنو الموتى فما بالنا

نعاف ما لا بد من شربه

تبخل أيدينا بأرواحنا

على زمان هي من كسبه

فهذه الأرواح من جوه

وهذه الأجسام من تربه

وهذا غيض من فيض ما اغترفه الصاحب من بحر المتنبي، وتمثل به من شعره وكان مثله معه كما قال الشاعر:

شتمت من تيمني مغالطا

لأصرف العاذل عن لَجاجته

ص: 436

فقال لما وقع البزاز في الثم

وب علمنا أنه من حاجته

وكما قال الآخر:

وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها

ولم أر كالدنيا تُذم وتُحْلب

وكما قال الآخر:

نبئت أني إذا ما غِبتُ تشتمني

قل ما بدا لك فالمحبوب مسبوب

وليس الصاحب بأوحد في الاقتباس من كلام المتنبي؛ وهذا أبو إسحاق الصابي له من ذلك غير فصل.

فمن ذلك ما كتب في تقريظ شاب مقتبل الشبيبة، مكتهل الفضيلة:) ولقد آتاه الله في اقتبال العمر

ص: 437

جوامع الفضل، وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال، فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة تسدها بمزايا الحنكة (.

وهذا من قول أبي الطيب:

لا تجدُ الخمرُ في مكارمه

إذا انتشى خَلة تلافاها

وأخذه من قول البحتري:

تكرمَت من قبل الكئوس عليهم

فما اسطَعْنَ أن يُحدثْنَ فيك تكَرُّما

ومن ذلك ما كتب إلى ابن معروف تهنئة بقضاء القضاة: منزلة قاضي القضاة

ص: 438

تجل عن التهنئة بالولاية لأن ما تكتسبه الولاة بها من الصيت والذكر ويدرعونه فيها من الجمال والفخر، سابق له عنده، وحاصل قبلها له، وإذا مد أحدهم إليها يدا تجذبها إلى سفال. جذبتها يده إلى المحل العالي، فكأن أبا الطيب عناه، أو حكاه بقوله:

فوق السماء وفوق ما طلبوا

فإذا أرادوا غايةً نَزَلُوا

ومن ذلك ما كتب:) وعاد مولانا إلى مستقر عزه عود الحلي إلى العاطل، والغيث إلى الروض الماحل (وهذا من قول أبي الطيب:

ص: 439

وعُدتَ إلى حَلَب ظافراً

كعَود الحُلىّ إلى العاطل

وإذا كان هذان الصدران المقدمان على بلغاء الزمان يقتبسان من أبي الطيب في رسائلهما، فما الظن بغيرهما؟ وما أحسن قول الشاعر:

ألا إن حَلَّ الشعر زينة كاتب

ولكن منهم من يَحلُ فيَعْقِدُ

وممن يحذو حذوهما الأستاذُ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضَّبي. وما أظرف ما قاله في كتابه إلى أبي سعيد الشبيبي: وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين، فكان في الحسن

ص: 440

روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب، وهو من قول أبي الطيب:

كأن كل سؤال في مسامعه

قميص يوسف في أجفان يعقوب

ومن ذلك فصل لأبي بكر الخوارزمي:) وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء، وامتلأت من ذكره الأرض والسماء. وأبصره الأعمى بلا عين، وسمعه الأصم بلا أذن (وهو من قول أبي الطيب:

تُنشد أثوابنا مدائحه

بألْسُن ما لهن أفواهُ

إذا مررنا على الأصم بها

أغنته عن مِسْمعيه عيناهُ

ص: 441

ولأبي بكر الخوارزمي من رسالة:) ولقد تساوت الألسن حتى حسد الأبكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم (.

وهو من قول أبي الطيب:

ولا تبالِ بشعر بعد شاعره

قد افسد القول حتى أحمد الصمم

قال أبو الطيب:

وقد أخذ التمامَ البدرُ فيهمْ

وأعطاني من السقَّم المِحاقا

أخذه أبو الفرج الببغاء فلطفه، وقال:

ص: 442

أوَ ليس من إحدى العجائب أنني

فارقته وحييت بعد فراقه

يا من يحاكي البدرَ عند تمامه

أرْحم فتى يحكيه عند مِحاقه

وقال أبو الطيب:

قد علَّم البينُ منا البينَ أجفانا

تَدْمَي وألفَّ في ذا القلب أحزانا

أخذه المهلبي، فقال:

تصارمت الأجفان منذ صرمتني

فما تلتقِي إلا على عَبرة تجري

وقال أبو الطيب:

وكنتُ إذا يممتُ أرضا بعيدة

سريتُ فكنتُ السرَّ والليل كاتمه

ص: 443

أخذه الصاحب، فقال:

تجشمتها والليل وَحْفُ جناحهُ

كأنيَ سرُ والظلامُ ضميرُ

وقال أبو الطيب:

لبِسْن الوشي لا متجملات

ولكن كي يُصنَّ به الجمالا

أغار عليه الصاحب؛ فقال:

لبسن برودَ الوشي لا لتجمل

ولكن لصون الحسن بين بُرُود

وقال أبو الطيب:

سقاكِ وحيانا بك اللهُ إنما

على العِيس نَوْرُ والخُدور كمائمهْ

أخذه السَّرِيّ، فقال:

ص: 444

حيا به اللهُ عاشقيه فقد

أصبح ريحانةً لمن عشقا

وقال أبو الطيب:

يَخِدن بنا في جَوْزِه وكأننا

على كُرَةٍ أو أرضُه سَفْرُ

أخذه السري، فقال:

وخَرْقٍ طال فيه السير حتى

حسبناه يسير مع الركاب

قال أبو الطيب:

هام الفؤاد بأعرابية سكنت

بيتا من القلب لمَ تَمْددْ له طُنباُ

أخذه السرى، فقال:

وأحلَّها من قلب عاشقها الهوَى

بيتاً بلا عمد ولا أطنابِ

قال أبو الطيب:

ليت الغمامَ الذي عندي صواعقه

يُزيلهن إلى من عنده الديمُ

أخذه السرى، فقال:

وأنا الفِداء لمن مَخيِلةُ بَرقِه

عندي، وعند سواي من أنوائه

ص: 445

وقال أبو الطيب:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وقال أيضاً:

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذَّهب الرَّغامُ

أخذ أبو بكر الخوارزمي معنى البيتين فقال:

فديتُك ما بدا لي قصدُ حُرً

سواك من الورى إلاّ بَدَا لي

وأنك منهمُ وكذاك أيضاً

من الماء الفرائُد واللآلي

وتسكن دارهم وكذاك سكنى ال

حجارة والزُّمرُّد في الجبال

وهذا معنى قد اخترعه المتنبي،

ص: 446

وكرره في تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان حيث قال:

فإن يكُ سيارُ بن مُكْرَم انقضى

فإنكَ ماء الورد إن ذهب الورد

وقال أيضا:

فإن تكنْ تغلبُ الغلباءُ عنصُرَها

فإن في الخمر مَعْنىً ليس في العنب

ألم به أبو الفتح البستي، فقال:

أبوك حوى العليا وأنت مبرزَّ

عليه إذا نازعته قصب المجد

وفي الخمر معنى ليس في الكرم مثلُه

وفي النار نُورُ ليس يوجد في الزنَّد

ص: 447

وخير من القول المقدَّم فاعترف

نتيجةُ والنحلُ يُكرم للشهد

وقال أيضاً:

أبوك كريم غير أنك سابق

مداه بلا ضيم عليه ولا ذَيم

فلا يَعجبنَّ الناسُ مما اقوله

وأقضي به فالغيث أندى من الغَيم

وقال أبو الطيب:

وصرت أشك فيمن أصطفيه

لعلمي أنه بعض الأنام

أخذه أبو بكر الخوارزمي، فقال:

ص: 448

قد ظلمناك بحسن الظّم

ن يا بعض الأنام

وقال أبو الطيب:

أتى الزمانَ بنوه في شَبيبته

فسَّرهم وأتيناه على الهَرَمِ

أخذه أبو الفتح، وحسنه، فقال:

لا غرو أنَ لم نجد في الدهر مُخْترَفاً

فقد أتيناهُ بعد الشَّيب والْخَرَفِ

وقال أبو الطيب:

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى

ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

امتثله السَّلامي، فقال:

وبشرت آمالي بِمَلْك هو الورىَ

ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

ص: 449

وقال أبو الطيب:

لم تزل تسمع المديح ولكنّ

م صهالَ الجياد غيرُ النهاق

أخذه الزعفراني، ولطفه، فقال:

وتغنّيك في النَّدىّ طيور

أنا وحدي ما بينهن الهَزارُ

قال مخلد الموصلي:

يا منزلاً ضَنَّ بالسلام

سُقيت رِياَّ من الغمام

لم يترك الدهرُ منك إلا

ما ترك الشوقُ من عظامي

أخذه أبو الطيب، فجوده حيث قال:

ص: 450

ما زال كلُّ هزيمِ الودقِ يُنْحلهاُ

والشوقُ يُنحِلُني حتى حكت جسدي

قال عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنَّهاب وبالسبايا

وابنا بالملوك مُضَفَّدينا

أخذه أبو تمام، فأحسن إذ قال:

إن الأسودَ أسودَ الغاب هِمتها

يومَ الكريهة في المسْلوب لا السلبِ

أخذه أبو الطيب، فلم يحسن في تكرير النهب، وذكر القماش إذ هو من ألفاظ العامة والسوقة، حيث قال:

ونهبُ نفوسِ أهل النهب أولى

بأهل المجد من نَهْب القُماش

وقال بشارُ بن بُرد:

كأن مُثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافَنا ليلُ تهاوَى كواكبُهْ

ص: 451

أخذه أبو الطيب، وذكر الرماح مكان الأسياف، فقال:

وكأنما كُسيِ النهارُ بهاُ دجىَ

ليل وأطلعتِ الرماحُ كواكبا

وقال مسلم بن الوليد:

أرادوا ليُخفوا قبَره من عدوه

فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبر

ألم به أبو الطيب، فقال:

وما ريحُ الرياض لها ولكن

كساها دفنُهم في التْرب طِيبا

قال الفرزدق:

وكنتُ فيهم كمطمور ببلدته

يُسَرُّ أنْ جمع الأوطانَ والمَطَرا

أخذه المتنبي، فقال:

ص: 452

وليس الذي يتَّبَّع الوبل رائدا

كمن جاءه في داره رائدُ الوْبْل

وفي قوله في هذه القصيدة:

وخيل إذا مرت بوحش وروضة

أبت رعيها إلا ومِرْجلُنا يَغلي

رائحة من قول امرئ القيس:

إذا ما ركبنا قال ولد أنُ أهلنا

تعالواَ إلى أن يأتنا الصيدُ نَحْطِبِ

قال أبو نواس:

وكلتَ بالدهر عيناً غيرَ غافلة

بجود كفيك تأسو كل ما جرحا

ويقال إنه أمدح بيت للمحدثين، أخذه أبو الطيب وزاد فيه حسن التشبيه، فقال:

ص: 453

تَتَبَّع آثار الرزايا بجوده

تتبعَ آثار الأسنة بالفُتْلِ

قال أبو نواس في وصف الخمر، وهو من قلائده:

إذا ما أتت دون اللَّهاةِ من الفتى

دعا هَمُّه من صدره برحيل

أخذه أبو الطيب، ونقله إلى معنى آخر، فقال:

وما هي إلا لحظة بعد لحظة

إذا نزلت في قلبه رحل العقل

قال ابن أبي عيينة، ويروي للخليل:

زُرْ واديَ القصرِ نعم القصرُ والوادي

في منزل حاضر إن شئت أو بادي

ص: 454

تَلْقَى به السفْن والظَّلمان حاضرة

والضبَّ والنونَ والملاحَ والحاديِ

وهذا أحسن ما قيل في وصف مكان يجمع بين أوصاف البر والبحر والحاضر والبادية.

ألم به أبو الطيب في وصف متصيد عضد الدولة بناحية سهلية جبلية تجمع الأضداد: سقياً لدَشْتِ الأرْزَن الطوال

بين المروج الفيح والأغيال

مُجاور الخنزير للرئبال

داني الخنانيص من الأشبالِ

مُشْتَرِفِ الدُّبَ على الغزال

مُجتمع الأضدادِ والأشكال

قال بعض العرب وهو من الأمثال السائرة:

إذا بَلَّ من داء به ظَنَّ أنه

نجا، وبه الداءُ الذي هو قاتلهُ

أخذه أبو الطيب، فقال، وأحسن:

وإن أسلم فما أبقى ولكن

سلمِتُ من الحِمام إلى الحِمامِ

قال بعض الرُّجَّاز: هل يَغْلبِنَّي واحدُ أقاتلُهْ ريمُ على لَباتِه سلاسلُهْ.

سلاحه يوم الوغى مَكاحِلهُ أخذه أبو الطيب، فأكمل الوصف، وأظهر الغرض حيث قال:

مِن طاعني ثُغَر الرجال جآذرُ

ومن الرماح دمالج وخَلاخلُ

ولذا اسم أغطيةِ العيون جفونُها

من أنها عملَ السيوفِ عواملُ

قال أبو تمام:

غُربت خلائِقهُ وأغرب شاعرُ

فيه فأبدع مُغربُ في مغُرِب

أخذه أبو الطيب، فقال:

شاعر المجد خِدْنه شاعر اللف

ظ كلانا رب المعاني الدقاق

قال أبو تمام:

يمدون بالبيض القواطع أيْدياً

فهن سواءُ والسيوفُ القواطعُ

ص: 455

أخذه أبو الطيب، فأوقع التشبيه على الجملة حيث قال:

همامُ إذا ما فارق الغمدَ سيفهُ

وعاينْتهَ لم تدرِ أُيِهما النصل؟

قال ابن الرومي:

لا قُدّستْ نُعْمى تسر بلْتها

كم حجة فيها لزِنديقِ

أخذه أبو الطيب، فقال:

فإنه حجةُ يؤذي القلوب بها

مَنْ دينُه الدهرُ والتعطيلُ والقِدمُ

وقال ابن الرومي:

وأحسن من عِقد العقيلةِ جيِدُها

وأحسن مِن سربالها المُتجرَّد

ص: 456

أخذه أبو الطيب، فقال:

ورب قبح رحُليّ ثقالٍ

أحسن منها الحسنُ في المعطال

قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

وجَربت حتى ما رأى الدهر مُغربا

على بشيء لم يكن في تجاربي

أخذه أبو الطيب، فقال:

قد بلوتَ الخطوب مراًّ وحلواً

وسلكتَ الأنام حَزْنا وسهلا

وقتلتَ الزمان علما فما يُغ

رِب قولا ولا يُجدد فعلا

وكرر هذا المعنى، فقال:

ص: 459

عرفتُ الليالي قبل ما صنعتْ بنا

فلما دهتني لم تزدني بها علما

وكتب ابن المعتز لعبيد الله بن سليمان يعزيه عن ابنه أبى محمد، ويسليه ببقاء أبي الحسين القاسم أبياتاً منها:

ولقد غَبَنْتَ الدهرَ إذ شاطرته

لكنَّ يمنى المرء خيرُ يديه

فأخذ أبو الطيب هذا المعنى، وقال لسيف الدولة من قصيدة يعزيه بها عن أخته الصغرى، ويسليه ببقاء الكبرى حيث قال:

ص: 460

قاسمتْك المنونُ شخصَين جوراً

جعل القسْمُ نفسه فيك عَدلا

فإذا قست ما أخذن بماغا

درْن سَّرى عن الفؤاد وسلَّي

وتيقنتَ أن حظك أوفى

وتبينتَ أن جَدَّك أعلى

وكان أبو الطيب كثير الأخذ من ابن المعتز، على تركه الإقرار بالنظر في شعر المحدثين، فمما أخذه منه قوله:

تَكَسَّبُ الشمس منك النَورَ طالعةً

كما تكسَّبَ منها نورها القمرُ

وهو معنى قول ابن المعتز:

ص: 461

البدر مِن شمس الضحى نورهُ

والشمسُ من نورك تستملي

وأخذه قوله، وهو من قلائده، قيل ولعله أمير شعره:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وانثنى وبياض الصبح يُغرِي بي

من مصراع لابن المعتز. . .

ذكر ابن جني، قال حدثني المتنبي وقت القراءة عليه قال: قال لي ابن حنزابة وزير كافور: أعلمت أني أحضرت كتبي كلها وجماعة من أهل الأدب يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى، فلم يظفروا بذلك، وكان أكثر من رأيت كتبا. قال ابن جني: ثم إني عثرت

ص: 462

بالموضع الذي أخذه منه إذا وجدت لابن المعتز مصراعاً بلفظ لين صغير جدا فيه معنى بيت المتنبي كله على جلالة لفظه وحسن تقسيمه، وهو قوله: فالشمس نمامة والليل قواد. ولن يخلو المتنبي من إحدى ثلاث إما أن يكون ألم بهذا المصراع فحسنه، وزينه، وصار أولى به. وإما أن يكون قد عثر بالموضع الذي عثر ابن المعتز به، فأربى عليه في جودة الأخذ. وإما أن يكون قد اخترع المعنى، وابتدعه، وتفرد به، ولله دره. وناهيك بشرف لفظه، وبراعة نسجه. وما أحسن ما جمع

ص: 463

أربع مطابقات في بيت واحد، وما أراه سبق إلى مثلها، وما زال الناس يتعجبون من جمع البحتري ثلاث مطابقات في قوله:

وأمة كان قبحُ الجور يُسخطها

دهراً فأصبح حسن العدل يُرضيها

حتى جاء أبو الطيب، فزاد عليه، مع عذوبة اللفظ، ورشاقة الصنعة.

قال ابن الرومي:

أرى فضل مالِ المرء داءً لِعرضِه

كما أن نضل الزاد داءُ لجسمِهِ

فليس لداء العِرض شيءُ كبذله

وليس لداء الجسم شيء كُحَسْمه

ألم به أبو الطيب، فقال:

ص: 464

يتداوى من كثرةِ المال بالإق

لال جودا كأن مالا سقامُ

قال:

وأنت المرء تُمرضُه الحَشايا

لهمته وتَشفيه الحروبُ

وقال:

وما في طِبّه أني جواد

أضر بجسمه طول الجِمام

وقال:

ليت الحبيبَ الهاجري هَجْرَ الكَرى

من غير جُرم واصلي صِلةَ الضَّنى

وقال:

ص: 465

فياليت ما بيني وبين ثحبتي

من البُعد ما بيني وبين المصائب

وقال:

إذا بدا حجبتْ عينيك هيبتُه

وليس يحجبه سِتُر إذا احتجبا

وقال:

أصبحتَ تأمر بالحِجاب لخلوةٍ

هيهات لست على الحجاب بقادر

من كان ضوءُ جبينه ونوالُه

لم يُحجبا لم يحتجب عن ناظر

فإذا احتجبت فأنت غير محجب

وإذا بَطَنْت فأنت عينُ الظاهر

وقال:

أميرُ أميرُ عليه الندى

جواد بخيل بألا يجودا

ص: 466

وقال:

ألا إن الندى أضحى أميرا

على مال الأمير أبي الحسين

وقال:

ومال وهبتَ بلا موعد

وقِرْن سبقتَ إليه الوعيدا

وقال:

لقد حال بالسيف دون الوعيد

وحالت عطاياه دون الوعود

وقال:

وما رغبتي في عسجد أستفيده

ولكنها في مَفخَر أستجدُّهُ

وقال:

فسرت إليك في طلب المعالي

وسار سواي في طلب المعاش

ص: 467

وقال:

قد علم البين منا البين أجفانا

تَدَمى وألف في ذا القلب أحزانا

وقال:

كأن الجفون على مقلتي

ثياب شُقِقْن على ثاكل

وقال:

كأنك بالفقر تبغي الغنى

وبالموت في الحرب تبغي الخلودا

وقال:

كأنك في الإعطاء للمال مبغضُ

وفي كل حرب للمنية عاشق

وقال:

ص: 468

الذي زُلتُ عنه شرقا وغربا

ونداه مقابلي ما يزول

وقال:

ومن فرَّ من إحسانه حسدا له

تلقاه منه حينما سار نائل

وقال:

فكأنما نُتِجتْ قياماً تحتهم

وكأنما وُلدوا على صَهَواتها

وقال:

وَطْعنَ غطاريفٍ كأن أكفهم

عَرفْن الرُّدَينياتِ قبل المعاصم

وقال:

جَرَحْتِ مُجرّحا لم يبق فيه

مكانُ للسيوف وللسهام

وقال:

ص: 469

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهامُ

تكسرت النصالُ على النصالِ

وقال:

وشيكتي فقدُ السَّقام لأنه

قد كان لما كان لي أعضاءُ

وقال:

لم يتركُ الحبُّ من قلبي ومن كبدي

شيئاً تُتَيمه عينُ ولا جيِدُ

وقال:

تصدُّ الرياحُ الهُوج عنها مخافةً

وتفزَع فيها الطيرُ أن تلقط الحبا

وقال:

ص: 470

إذا أتتها الرياحُ النكبُ من بلد

فما تَهُب بها إلا بترتيب

وقال:

إذا ضوءها لاقى من الطير فرجة

تدور فوق البيض مثلَ الدراهم

وقال:

وألقى الشرق منها في ثيابي

دنانيرا تفر من البنان

وقال:

ولقد بكيت على الشباب ولِمتي

مسودة ولِماء وجهيَ رَوْنق

حذرا عليه قبل يوم فراقه

حتى لكدت بماء جفنيَ أشرق

وقال:

ص: 471

هاَّويةُ ما رأيت مهديها

إلا رأيت العباد في رجل

وقال: أم الخلق في شخص حَي أعِيدا وقال: ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق ثم كرره، وزاد فيه، فقال:

ولقيتُ كل الفاضلين كأنما

رد الإلهُ نفوسَهم والأعصُرا

نُسقوا لنا نسق الحساب مقدَّما

وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا

والأصل فيه قول أبي نواس:

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

وقوله وقد كرره:

ص: 472