المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الرابعة في التراويح] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٥

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌[الخطبة الرابعة في التراويح]

[الخطبة الرابعة في التراويح]

الخطبة الرابعة

في التراويح الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات، وسلم تسليما.

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وقوموا رمضان فإن من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ألا وإن صلاة التروايح من قيام رمضان، ولكنها سميت تراويح؛ لأن الناس في السلف الصالح كانوا كلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا. فصلوا صلاة التروايح بطمأنينة بخشوع وحضور قلب، فإنها صلاة وعبادة ليست مجرد حركات وعمل لا يدري الإنسان ما يقوله فيه، وما يفعل، والمقصود بها التعبد لا سرد الركعات، وإن كثيرا من الناس يتهاون بها الأئمة وغير الأئمة. أما الأئمة فكثير منهم يسرع بها إسراعا مخلا بكثير من السنن، بل ربما يخل بالأركان، وأما غير الأئمة فكثير من الناس يفرطون فيها، فلا يصلونها ومنهم من يصلي بعضها، وينصرف قبل إمامه، وهذا حرمان لفضيلتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» ، فاصبروا حتى يكمل الإمام صلاته، وأوتروا معه، وإذا قمتم من آخر الليل، وأردتم أن تصلوا، فصلوا ركعتين ركعتين، ولا تعيدوا الوتر؛ لأن الوتر لا يعاد مرة ثانية في الليلة ".

واعلموا رحمكم الله أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما كان صلى الله عليه وسلم يعلن ذلك في خطبة الجمعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وكان من هديه في قيام الليل أن لا يزيد على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة لا في رمضان، ولا في غيره، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:«كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (متفق عليه) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . (رواه مسلم) . وصح عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه أمر أبيّ بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (رواه مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف وهو ثقة ثبت عن السائب بن يزيد وهو صحابي) فهذا العدد أعني

ص: 468

الإحدى عشرة هو ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه على ذلك عمر رضي الله عنه فهو خير الهدي، وأكمله، وأتمه، وأحسنه، وقد قال الله عز وجل:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملا، وأحسن العمل، وأتمه ما كان أقوى إخلاصا لله، وأشد اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون التروايح بإحدى عشرة، أو بثلاث عشرة ركعة هو الأفضل والأحسن، ومع ذلك لو صلاها الإنسان ثلاثا وعشرين، أو ثلاثا وأربعين أو تسعا وثلاثين أو سبع عشرة أو تسع عشرة ما أنكر عليه؛ لأن الناس اختلفوا في ذلك، ولكن الفاصل بينهم عند الخلاف هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي ينكر ما يفعله بعض الناس من السرعة العظيمة المخلة المتعبة والإمام راع، فيمن يصلي خلفه، فعليه أن يفعل ما هو الأكمل في حقهم، ولا يسرع بهم ذلك الإسراع المخل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]

أيها المسلمون إن مما أنعم الله به على عباده في هذا العصر مكبرات الصوت التي تبلغ صوت الإمام لمن خلفه، فيسمعه جميع أهل المسجد، وينشطون في صلاتهم لذلك، ولكن بعض الناس استعمله استعمالا سيئا، فرفعه على المنارة، وهذا حرام؛ لأنه وقوع فيما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج على أصحابه وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة، فقال:«كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن» . ولأنه أذية للمصلين حوله في المساجد والبيوت حيث يشوش عليهم القراءة والدعاء، فيحول بينهم وبين ربهم، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ويمكن حصول منفعة مكبر الصوت بدون مضرة بأن يفصل عن المنارة، ويوضع سماعات في داخل المسجد تنفع المصلين، ولا تؤذي من كان خارج المسجد.

اللهم ارزقنا اتباع نبينا، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه، وأدخلنا في شفاعته، واجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارزقنا اغتنام أوقات شهر رمضان بالعمل الصالح المقرب إليك، وزودنا بالتقوى للقيام بين يديك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

ص: 469