المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقد تميزت هذه المنظومة بأمور منها: - العقد الثمين في شرح منظومة الشيخ ابن عثيمين

[خالد المشيقح]

الفصل: ‌وقد تميزت هذه المنظومة بأمور منها:

‌مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقمت بحمد الله بشرح منظومة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، آمين، في عدة دورات في مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية والكويت، وآخر هذه الشروح قمت به في الحرمين الشريفين، في الحرم المكي الشريف ربيع الأول عام 1434 هـ، وفي الحرم المدني في شعبان 1434 هـ.

‌وقد تميزت هذه المنظومة بأمور منها:

أولاً: سهولة اللفظ ووضوح المعنى.

ثانيًا: اشتملت على جملة من القواعد الأصولية، والقواعد الفقهية، والضوابط الفقهية، والفروق الفقهية.

ثالثًا: أن ناظمها عالم كبير له قدم راسخة في فنون العلم.

وقد أقبل عليها كثير من طلبة العلم بحفظها وتدارسها وذلك لما تقدم من سهولة لفظها ووضوح معانيها وما شملته من فنون العلم السالفة

ص: 5

الذكر.

وقد قام الأخ/ محمد بن مفتاح الفهمي وفقه الله بتفريغ الأشرطة المسجلة وترتيبها والعناية بذلك.

كما قام الأخ/ إبراهيم بن أحمد الحميضي وفقه الله بالعناية بتخريج الأحاديث، فجزاهما الله خيرًا.

أسأل الله أن ينفع بها ناظمها، وشارحها، والمستفيد من ذلك، آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه

أ. د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

أستاذ الدراسات العليا بجامعة القصيم - قسم الفقه

في 15/ 6/ 1434 هـ

ص: 6

‌ترجمة المؤلف

فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين

‌نسبه:

هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن سليمان بن عبد الرحمن ابن عثمان الوهيبي التميمي وجده الرابع أطلق عليه عثيمين فاشتهر به.

‌مولده:

ولد في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347 هـ.

‌نشأته:

قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه عبد الرحمن ابن سليمان آل دامغ رحمه الله فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب، وكان الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله قد أقام اثنين من طلبة العلم عنده ليدرسا الطلبة الصغار أحدهما الشيخ علي الصالحي، والثاني الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله، قرأ عليه مختصر العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرحمن السعدي، ومنهاج السالكين في الفقه للشيخ عبد الرحمن أيضًا، والأجرومية والألفية.

وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان في الفرائض والفقه.

وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي الذي يعتبر شيخه الأول حيث لازمه وقرأ عليه التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول

ص: 7

الفقه والفرائض ومصطلح الحديث والنحو والصرف.

وكانت لفضيلة الشيخ منزلة عظيمة عند شيخه رحمه الله فعندما انتقل والد الشيخ محمد رحمه الله إلى الرياض إبان أول تطوره رغب في أن ينتقل معه ولده - الشيخ رحمه الله فكتب له الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله (إن هذا لا يمكن نريد محمدًا أن يمكث هنا حتى يستفيد).

ويقول فضيلة الشيخ رحمه الله: (إنني تأثرت به كثيرًا في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني، وكذلك أيضًا تأثرت به من ناحية الأخلاق لأن الشيخ عبد الرحمن رحمه الله كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، وكان رحمه الله على قدر كبير في العلم والعبادة، وكان يمازح الصغير، ويضحك إلى الكبير، وهو من أحسن من رأيت أخلاقًا).

قرأ على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث يعتبر شيخه الثاني، فابتدأ عليه قراءة صحيح البخاري وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية.

يقول الشيخ (تأثرت بالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من جهة العناية بالحديث، وتأثرت به من جهة الأخلاق أيضًا وبسط نفسه للناس).

في عام 1371 هـ جلس للتدريس في الجامع، ولما فتحت المعاهد العلمية في الرياض التحق بها عام 1372 هـ، يقول الشيخ رحمه الله:(دخلت المعهد العلمي من السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي، وبعد أن استأذنت من الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين خاص وعام، فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت أيضًا من شاء أن يقفز - كما يعبرون - بمعنى أنه يدرس السنة المستقبلية له في أثناء الإجازة ثم يختبرها في أول العام الثاني، فإذا نجح انتقل إلى السنة التي بعدها وبهذا اختصرت الزمن) ا هـ.

ص: 8

وبعد سنتين تخرج وعين مدرسًا في معهد عنيزة العلمي مع مواصلة الدراسة انتسابًا في كلية الشريعة ومواصلة طلب العلم على يد الشيخ عبد الرحمن السعدي.

ولما توفي فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية بالإضافة إلى التدريس في المعهد العلمي ثم انتقل إلى التدريس في كليتي الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وكان لفضيلة الشيخ رحمه الله نشاط كبير في الدعوة إلى الله عز وجل وتبصير الدعاة في كل مكان وله جهود مشكورة في هذا المجال.

والجدير بالذكر أن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قد عرض بل ألح على فضيلة الشيخ في تولي القضاء، بل أصدر قراره بتعيينه رحمه الله تعالى رئيسًا للمحكمة الشرعية بالإحساء فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات واتصال شخصي مع فضيلة الشيخ سمح رحمه الله تعالى بإعفائه من منصب القضاء.

‌مؤلفاته:

له رحمه الله تعالى مؤلفات كثيرة تزيد على المائة ما بين كتاب ورسالة.

‌وفاته:

كانت في عصر يوم الأربعاء بتاريخ 15/ 10/ 1421 هـ الموافق 10/ 11/ 2001 م وتم دفنه بمقبرة العدل بمكة المكرمة بجوار قبر شيخه العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.

وأسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة وأن يجمعنا وإياه في جنات النعيم وأن يجزيه عما قدّم للإسلام والمسلمين خيرًا.

ص: 9

‌منظومة أصول الفقه وقواعده

قال الناظم الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:

1 -

الحمدُ للهِ المُعِيد المُبْدِي

مُعْطِي النَّوالِ كُلَّ مَنْ يَسْتَجدِيِ

2 -

مُثَبِّتِ الأحكامِ بالأصُولِ

مُعينِ مَنْ يَصْبُو إلى الوُصُولِ

3 -

ثُمَّ الصلاةُ مَعْ سَلامٍ قدْ أَتمْ

على الذِي أُعطِي جَوامِعَ الكَلِمْ

4 -

مُحَمّدِ المبعُوثِ رَحْمةَ الوَرَى

وَخَيرِ هادٍ لجَميعِ مَنْ دَرَى

5 -

وبعدُ فالعلمُ بحورٌ زاخِرَهْ

لنْ يَبْلغَ الكادِحُ فِيهِ آخِرَهْ

6 -

لكنَّ في أصولِهِ تَسْهِيلا

لنَيْلِه فَاحرصْ تجِدْ سَبِيلا

7 -

فاغْتنِمِ القواعدَ الأصُولا

فَمْن تَفُتْهُ يُحْرَمِ الوُصولا

8 -

وهَاكَ مِنْ هذِي الأصولِ جُمَلا

أرجُو بِها عالِ الجنَانِ نُزُلا

9 -

قواعِدًا مِنْ قولِ أَهلِ العِلْمِ

وليس لي فيها سِوىَ ذا النظْمِ

‌القواعد والأصول

10 -

الدينُ جاءَ لسعادَةِ البَشَرْ

ولانْتِفَاءِ الشَّرِّ عَنْهُم والضَّرَرْ

11 -

فكُلُّ أمرٍ نافعٍ قَدْ شَرَعَه

وكُلُّ ما يَضُرُّنَا قَدْ مَنَعَهْ

12 -

ومعْ تساوِي ضَرَرٍ ومَنْفَعَه

يكونُ ممنوعًا لدَرْءِ المفْسَدَهْ

13 -

وكُلُّ ما كَلَّفَهُ قدْ يُسِّرَا

من أَصْلِهِ وعِندَ عارضٍ طَرَا

14 -

فاجْلِبْ لتيسيرٍ بِكُلِّ ذِي شَطَطْ

فليسَ فِي الدِّين الحَنيفِ مِنْ شَطَطْ

15 -

وما استطعتَ افعَلْ مِنَ المأمُورِ

واجْتَنِبِ الكُلَّ مِنَ المحظورِ

16 -

والشرعُ لا يَلزمُ قبلَ العِلمِ

دَليلُهُ فِعلُ المسِيَ فَافْتَهِمِ

17 -

لكنْ إذا فَرَّطَ في التَّعلُّمِ

فَذَا مَحَلُّ نَظرٍ فَلْتَعْلَمِ

18 -

وكُلَّ ممنوعٍ فَللضَّرورَةِ

يُباحُ والمكْرُوهُ عِنْدَ الحَاجةِ

ص: 10

19 -

لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ

يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ

20 -

وما نُهِي عَنهُ من التَّعَبُّدِ

أوْ غَيرِهِ أفْسِدْه لا تَرَدَّدِ

21 -

فكلُّ نَهيٍ عادَ للذَّواتِ

أو للشُروطِ مفْسِدًا سَيَاتِي

22 -

وإِنْ يَعُدْ لِخَارجٍ كالعِمّهْ

فَلنْ يَضِيرَ فافْهَمَنَّ العِلَّهْ

23 -

والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامْنَعِ

عِبَادَةً إلا بإذنِ الشَّارِعِ

24 -

فإنْ يقعْ في الحكمِ شَكٌ فارجعِ

للأصلِ في النوعَيْنِ ثم اتبِعِ

25 -

والأصلُ أنَّ الأمرَ والنَّهي حُتِمْ

إلا إذا النَّدبُ أو الكُرْهُ عُلِمْ

26 -

وكلُّ مَا رُتِّبَ فِيهِ الفَضْلُ

مِنْ غَيرِ أمرٍ فهْو نَدبٌ يَجْلُو

27 -

وكلُّ فِعلِ للنَّبيِّ جُرِّدَا

عن أمرِهِ فَغَيرُ وَاجِبٍ بَدَا

28 -

وإِنْ يكنْ مُبيِّنًا لأمرِ

فالحُكْمُ فيه حُكمُ ذاكَ الأمْرِ

29 -

وقدِّم الأعلَى لدَى التَّزاحُمِ

في صَالحٍ والعَكسُ في المظالِمِ

30 -

وادفعْ خفيفَ الضَّرَرَيْنِ بالأخفْ

وخذْ بعالِي الفاضَليْنِ لا تَخَفْ

31 -

إنْ يَجْتَمِعْ معَ مُبِيحٍ ما مُنِعْ

فَقَدِّمَنْ تغليبًا الذي مُنِعْ

32 -

وكلُّ حكمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ

إِنْ وُجِدَتْ يُوجَدْ وإلا يَمْتَنِعْ

33 -

وأَلْغِ كلَّ سابقٍ لسببِهْ

لا شرطِهِ فادْرِ الفروقَ وانتبهْ

34 -

والشَيءُ لا يَتِمُّ إلا أنْ تَتِمْ

شُروطُه ومَانِعٌ مِنهُ عُدِمْ

35 -

والظنُّ فِي العِبَادةِ المُعْتَبَرُ

ونَفسَ الامرِ في العُقُودِ اعتَبَرُوا

36 -

لكنْ إذَا تَبَيَّنَ الظنُّ خَطَا

فأبْرِيءِ الذّمةَ صَحِّحِ الخَطَا

37 -

كَرَجُلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الوَقْتِ

فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ بَعْدَ الوَقتِ

38 -

والشَّكُّ بعدَ الفِعلِ لا يُؤثِّرُ

وهكذَا إذا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ

39 -

أوْتَكُ وَهْمًا مِثلَ وَسْوَاسٍ فَدَعْ

لِكلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِه لُكَعْ

40 -

ثمَّ حديثُ النفسِ مَعْفُوٌّ فَلا

حُكمَ لهُ مَا لمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا

41 -

والأمرُ للفَورِ فَبَادِرِ الزَّمَنْ

إِلا إذَا دَلَّ دَليلٌ فاسْمَعَنْ

42 -

والأمرُ إنْ رُوعيَ فيهِ الفَاعلُ

فَذَاكَ ذُوعَيْنٍ وذَاكَ الفَاضِلُ

43 -

وإنْ يُرَاعَ الفِعْلُ معْ قطعِ النَّظَرْ

عنْ فاعِلِ فَذو كِفَايةٍ أُثِرْ

44 -

والأمرُ بعدَ النَّهيِ للحِلّ وَفيِ

قولٍ لِرفعِ النهي خُذْ بِه تَفِي

ص: 11

45 -

وافْعَلْ عَبادةً إذا تَنَوَّعَتْ

وُجُوهُهَا بِكلِّ مَا قَدْ وَرَدَتْ

46 -

لِتَفْعَلَ السُّنَّةَ في الوَجْهَيْنِ

وتحفظَ الشَّرْعَ بِذِي النّوعَيْنِ

47 -

والْزَمْ طرِيقَةَ النَّبِيِّ المُصْطفَى

وَخُذْ بِقَوْلِ الرَّاشِدِين الخُلَفَا

48 -

قولُ الصَّحابِيْ حُجَّةٌ على الأصَحْ

ما لمْ يُخالِفْ مِثلَه فمَا رَجَحْ

49 -

وحجَّةُ التّكْلِيفِ خُذهَا أربعَهْ

قرآنُنَا وَسُنَّةٌ مُثَبَّتَهْ

50 -

مِنْ بَعدِها إجماعُ هذِي الأُمَّهْ

والرَّابعُ القياسُ فَافْهَمَنَّهْ

51 -

واحْكُمْ لِكلِّ عَامَلٍ بنيّتِه

واسْدُدْ على المحتَالِ بابَ حيلتِهْ

52 -

فإنَّما الأعمالُ بالنَّيَّاتِ

كَما أَتَى في خبرِ الثِّقاتِ

53 -

ويَحْرُمُ المُضِيُّ فيما فَسَدَا

إلا بحجِّ واعْتِمَارٍ أَبَدَا

54 -

والنَّفلُ جوِّزْ قطعَهُ مَا لم يَقَعْ

حَجًا وعُمرةً فَقَطعُهُ امْتَنَع

55 -

والإثمُ والضَّمانُ يَسقُطانِ

بِالجَهْلِ والإكراهِ والنِّسْيَانِ

56 -

إن كان ذا في حقِّ مولانا ولا

تُسقطْ ضمانًا في حقوق للمَلا

57 -

وكلُّ مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا

لَمَ يكْن الاتلافُ مِنْ دَفع الأَذَى

58 -

أويكُ مأذونًا به مِنْ مالكِ

أو ربِّنَا ذي المِلكِ خيرِ مالكِ

59 -

فكُلُّ ما يحصلُ مما قدْ أُذِنْ

فليس مضمونًا وعكسُهُ ضُمِنْ

60 -

ويُضْمَنُ المثليُّ بالمثلِ ومَا

ليس بمثليَّ بما قد قُوِّمَا

61 -

وما على المُحسنِ مِنْ سبيلِ

وعكسُهُ الظالمُ فاسْمَع قِيْلِي

62 -

ثمَّ العُقودُ إنْ تَكُنْ مُعاوضَهْ

فَحَرِّرَنْهَا ودَعِ المخَاطَرَهْ

63 -

وإنْ تكُنْ تَبَرُّعًا أو تَوْثِقهْ

فأمْرُها أخفُّ فادْرِ التفرِقَهْ

64 -

لأنَّ ذِي إنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمْ

وإنْ تَفُتْ فَلَيس فِيها مَغْرَمْ

65 -

وكُلُّ ما أَتَى وَلمْ يُحَدَّدِ

بالشَّرِع كالحرْزِ فبالعُرفِ احْدُدِ

66 -

منْ ذاكَ صِيغاتُ العُقُودِ مُطلقًا

ونحوُها في قَولِ مَنْ قَدْ حَقَّقَا

67 -

واجْعَلْ كَلَفْظٍ كُلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ

فَشَرطُنَا العُرفيُّ كَاللفْظِيْ يَرِدْ

68 -

وشَرْطُ عَقْدٍ كوْنُه منْ مَالكِ

وكلُّ ذِي ولايَةٍ كالمالكِ

69 -

وكلُّ مَنْ رِضاه غيرُ مُعْتَبَرْ

كُمْبْرَإٍ فعلمُهُ لا يُعْتَبَرْ

70 -

وكُلُّ دَعوَى لِفسادِ العَقْدِ

مَعَ ادِّعاءِ صِحَّةٍ لا تُجْدِي

ص: 12

71 -

وكُلُّ مَا يُنكِرهُ الحِسُّ امنَعَا

سَمَاعَ دَعْواهُ وضِدَّهُ اسْمعَا

72 -

بيَّنةً أَلْزِمْ لكُلِّ مُدَّعِ

وَمُنْكِرًا أَلْزِمْ يمينًا تُطِعِ

73 -

كُلُّ أمِينٍ يدّعي الرَّدَّ قُبِلْ

مَالمْ يَكُنْ فِيمَا لَه حظٌ حَصَلْ

74 -

وَأطْلِق القَبُولَ في دَعْوَى التلَفْ

وكُلُّ مَنْ يُقْبَل قولُه حَلَفْ

75 -

أدِّ الأمانَ لِلذي قدْ أَمَّنَكْ

ولا تَخُنْ مَنْ خَان فَهْوَ قدْ هَلك

76 -

وَجَائِزٌ أخذُك مالًا استُحِقْ

شَرعًا ولو سِرًّا كَضَيفٍ فهْو حَقْ

77 -

قد يَثْبُتُ الشَّيءُ لغيرِهِ تَبَعْ

وإنْ يَكُنْ لوِ استَقَلَّ لا مْتَنَعْ

78 -

كَحَامِلٍ إنْ بِيعَ حَمْلُها امْتَنَعْ

وَلَوْ تُباعُ حَامِلًا لم يَمْتَنِعْ

79 -

وكُلُّ شَرطٍ مُفْسِدٍ للعقدِ

بِذِكرِهِ يُفسِدُهُ بِالقصْدِ

80 -

مِثْلُ نِكَاحِ قاصِدِ التَّحْلِيلِ

ومَنْ نَوى الطلاقَ للرَّحِيلِ

81 -

لكنَّ مَنْ يَجْهلُ قَصْدَ صاحبِهْ

فالعقْدُ غيرُ فاسدٍ مِنْ جانبِهْ

82 -

لأنَّه لا يَعلمُ الذي أَسَرْ

فَأُجْرِيَ العَقْدُ على ما قدْ ظَهَرْ

83 -

والشَّرطُ والصُّلحُ إذا ما حلَّلا

مُحرَّمًا أو عكسُه لنْ يُقْبَلا

84 -

وكُلُّ مَشْغُولٍ فَليسَ يُشْغَلُ

بِمُسْقِطٍ لِما بِهِ يَنْشَغِلُ

85 -

كَمُبْدَلٍ في حُكْمِهِ اجعَلْ بَدَلا

ورُبَّ مَفْضُولٍ يكونُ أَفْضَلَا

86 -

كُلُّ استِدَامَةٍ فأقوى مِنْ بَدَا

فِي مِثْلِ طِيبِ مُحْرِمٍ ذَا قَدْ بَدَا

87 -

وكلُّ مَعلومٍ وجُودًا أو عَدَمْ

فالأصْلُ أنْ يَبْقَى على ما قد عُلِمْ

88 -

والنَّفْيُ للوُجُودِ ثُمَّ الصِّحهْ

ثُمّ الكَمَالِ فارْعَيَنَّ الرُتْبَهْ

89 -

وَالأصْلُ في القَيْدِ احترازٌ وَيَقِلْ

لِغَيْرِهِ كَكَشفِ تَعْليل جُهِلْ

90 -

وَإنْ تَعَذَّرَ اليَقِينُ فارْجِعَا

لِغَالِبِ الظَّنِّ تكنْ مُتَّبِعَا

91 -

وكلُّ مَا لأمرُ بِهِ يَشْتَبِهُ

مِنْ غَيْرِ مَيْزٍ قُرعَةٌ تُوْضِحُهُ

92 -

وكلُّ مَنْ تَعَجَّلَ الشَّيءَ علَى

وجْهٍ مُحَرَّمٍ فَمَنْعُه جَلا

93 -

وَضَاعِفِ الغُرْمَ عَلى مَنْ ثَبَتَتْ

عُقُوبةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ سَقَطَتْ

94 -

لِمَانعٍ كسارقٍ مِنْ غيرِ مَا

مُحَرَّزٍ وَمَنْ لِضالٍ كَتَمَا

95 -

وكلُّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيِّ جُعِلْ

كَمَيْتِهِ في حُكْمِهِ طُهْرًا وَحِلْ

96 -

وكانَ تَأتي للدَّوَامِ غالبًا

وليس ذا بِلازِمٍ مُصَاحِبًا

ص: 13

97 -

وإِنْ يُضَفْ جَمعٌ وَمُفردٌ يَعُمْ

والشَّرطُ والموصُولُ ذا لهُ انحتَم

98 -

مُنَكَّرٌ إِنْ بَعدَ إثباتٍ يَرِدْ

فَمُطلقٌ ولِلعُمومِ إنْ يَرِدْ

99 -

مِنْ بَعدِ نَفْيٍ نَهْيٍ استفهامِ

شَرْطٍ وَفي الإثبات للإنعامِ

100 -

واعتبرِ العمومَ فِي نصًّ أُثِرْ

أمّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ

101 -

ما لمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِوَصْفِ

يُفيدُ عِلةً فَخُذْ بِالوَصْفِ

102 -

وخَصِّصِ العامَّ بِخاصٍ وَرَدَا

كَقَيْدِ مُطلقٍ بِما قد قُيِّدَا

103 -

ما لمْ يكُ التِّخْصيصُ ذِكرَ البعضِ

مِنَ العُمُومِ فالعُمُومَ أَمْضِ

ص: 14

‌التمهيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فعنوان هذه المنظومة: (منظومة في أصول الفقه وقواعد الفقه).

قوله: (منظومة) النظم لغة: يطلق على معان منها: التأليف، والترتيب. والنظم خلاف النثر.

والمراد: الكلام المقفى الموزون.

والأصول: جمع أصل: وهو ما يُبنى عليه غيره، أو ما يتفرع منه غيره، وسيأتي أن العلماء يطلقون الأصل ويريدون به عدة أشياء.

(1)

والفقه في اللغة: الفَهْم، ومنه قوله تعالى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28].

واصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

قولنا: (معرفة): يشمل العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيًا، وقد يكون ظنيًا.

قولنا: (الأحكام): يأتي تعريف الأحكام عند الكلام على البيت الثاني من هذه المنظومة.

(1)

انظر البيت رقم (49).

ص: 15

وقولنا: (الشرعية): أي: المتلقاة من الشرع، كالوجوب والحرمة. فخرج به الأحكام العقلية، كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء، والعادية كمعرفة أن الماء مروٍ، وأن الخبز مُشبع.

قولنا: (العملية): يخرج الاعتقادية كتوحيد الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمى ذلك فقهًا اصطلاحًا.

وقولنا: (المكتسبة من الأدلة التفصيلية): أي: أن هذه الأحكام من الأدلة المفصِّلة للأحكام فخرج بذلك أصول الفقه؛ لأنه مكتسب من الأدلة الإجمالية.

وتعريف أصول الفقه باعتباره فنًا مستقلًا هو: أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.

فقولنا: (أدلة الفقه الإجمالية): يشمل الأدلة المتفق عليها، والأدلة المختلف فيها؛ لأن أدلة الفقه تنقسم قسمين:

القسم الأول: أدلة متفق عليها.

القسم الثاني: أدلة مختلف فيها، كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه في النظم.

(1)

وقولنا: (الإجمالية): يخرج أدلة الفقه، فإن أدلة الفقه تفصيلية.

وقولنا: (كيفية الاستفادة منها): يعني معرفة طرق الاستنباط: الأمر، والنهي، والمطلق، والمقيد، والعام، والخاص

إلخ.

وقولنا: (حال المستفيد): المستفيد: هو المجتهد، ففي أصول الفقه تُبْحَثُ أحكامُ المجتهد وما يُلحق بذلك من أحكام الفتوى، والتعارض، والترجيح؛ لأنها من خصائص المجتهد، وتدخل مباحث التقليد لكون المقلّد تابعًا له.

(1)

انظر ص (268).

ص: 16

والقواعد لغة: جمع قاعدة، وهي تنقسم قسمين:

القسم الأول: قواعد حسية مثل: قواعد البيت وأساسه قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

القسم الثاني: قواعد معنوية مثل: قواعد الفقه: [لا ضرر ولا ضرار]، و [الأمور بمقاصدها]

إلخ، والفقه سبق تعريفه

(1)

.

وعُرّفت القواعد الفقهية في الاصطلاح بتعاريف كثيرة. وهي - وإن اختلفت عباراتها - متقاربة المعنى وهي: حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته لتُعرف أحكامها منها.

قولنا: (حكم) سيأتي تعريفه.

(2)

وقولنا: (أغلبي): ليس كليًا وهذا من الفروق بين القواعد الفقهية، والقواعد الأصولية، فالقواعد الأصولية قواعد كلية، تندرج جميع الجزئيات تحتها. وأما القواعد الفقهية فهي أغلبية.

وقولنا: (حكم أغلبي): أي أن هناك مسائل مستثناة من تلك القواعد تخالف أحكامها حكم القاعدة، وهذا الاستثناء لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها للأسباب الآتية:

أولًا: ما ذكره الشاطبي في موافقاته بقوله: إن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضاه لا يخرجه عن كونه كليًا، وأيضًا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي.

ثانيًا: إن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحًا في الكليات العقلية.

(1)

سبق تعريفه قريبًا.

(2)

انظر البيت رقم (2).

ص: 17

فالكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.

ثالثًا: إن تخلف مسألة ما عن حكم قاعدة لا يلزم منه اندراج هذه المسألة تحت حكم قاعدة أخرى، فالمسألة المُخرَّجة تندرج ظاهرًا تحت حكم قاعدة، ولكنها في الحقيقة مندرجة تحت حكم قاعدة أخرى. وهذا من باب تنازع المسألة بين قاعدتين.

فليس إذًا استثناء جزئية من قاعدة ما بقادح في كلية هذه القاعدة ولا بمخرج لتلك الجزئية عن الاندراج تحت قاعدة أخرى.

وقولنا: (لتعرف أحكامها منها): هذه فائدة القواعد الفقهية أنك تعرف الحكم من هذه القاعدة، فقد لا تستحضر الدليل لكن إذا استحضرت القاعدة الفقهية فإنك تعرف الحكم منها.

مثال ذلك: من القواعد الفقهية: [الأصل في المياه الطهارة] فإنك تستدل بهذه القاعدة على أن الماء الذي غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء طهور؛ لأن الأصل في المياه الطهارة، فهذا الماء طهور يرفع الحدث، ويزيل الخبث، وأيضًا الماء المستعمل في رفع الحدث طهور

إلخ، فإذا كانت عندك هذه القاعدة فإنك تعرف الأحكام من هذه القاعدة.

وقولنا: (لتعرف أحكامها منها): هذا بيان لثمرة القاعدة، وقد قيل: إن ثمرة الشيء لا تدخل في حقيقته.

‌الفرق بين القاعدة الفقهية، والضابط الفقهي:

الفقهاء كثيرًا ما يستعملون لفظ «القاعدة» ويَعْنُون بها الضابط ويستعملون لفظ «الضابط» ويَعْنُون به القاعدة لكن ثمة فروقًا بين القاعدة والضابط هي:

الفرق الأول: أن القاعدة - كما سبق - تجمع فروعًا من أبواب شتى،

ص: 18

ويندرج تحتها من مسائل الفقه ما لا يحصى، وأما الضابط فإنه يختص بباب واحد من أبواب الفقه تعلل به مسائله، أو يختص بفرع واحد فقط مثاله:[كل ما صح بيعه صح رهنه]، فهو خاص بباب الرهن.

الفرق الثاني: أن القاعدة في الأعم الأغلب متفق على مضمونها بين المذاهب أو متفق على أكثرها، وأما الضابط فقد يختص بمذهب معين بل منه ما يكون وجهة نظر فقيه واحد في مذهب معين قد يخالفه فيه فقهاء آخرون من المذهب نفسه مثاله:«المُحْرِمُ إذا أخر النسك عن وقته أو قدمه لزمه دم «هذا ضابطٌ» عند أبي حنيفة. وخالفه في ذلك غيره؛ منهم تلميذاه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن.

الفرق الثالث: أن القاعدة الفقهية فيها إشارة لمأخذ الحكم ودليل الحكم مثل: [الأمور بمقاصدها] فيه إشارة لمأخذ الحكم. بينما الضابط الفقهي لا يشير إلى مأخذ المسألة ودليلها، ومن أمثلة الضابط الفقهي:[ما جاز في الفريضة من الصلوات جاز في النفل] وطريقة جمهور من يصنّف في قواعد الفقه بحسب التتبع أنهم لا يفرقون بين القاعدة الفقهية، و الضابط الفقهي.

وهذا يقع كثيرًا في قواعد ابن رجب رحمه الله، وفي كتاب الفروق للقَرَافي وغيرهم، بل إن بعضهم قد يذكر ضوابط كثيرة ويسميها كتاب القواعد، أو قواعد الفقه، وكثير منهم قد فرق بينهما من جهة الاصطلاح لكنه لم يفرق من جهة العمل والتطبيق.

‌الفرق بين قواعد الأصول وقواعد الفقه:

إذا نظرنا في قواعد الأصول وقواعد الفقه رأينا أن فروقًا عدة تميز بينهما منها:

أولًا: أن قواعد الأصول تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.

ص: 19

ثانيًا: أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله، وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية. وأما قواعد الفقه فإنما يراد بها ربط المسائل المختلفة الأبواب برباط متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.

ثالثًا: أن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية. وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.

وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلًا لها.

رابعًا: أن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد الفقه فليست محصورة أو محدودة العدد، بل هي كثيرة جدًا منثورة في كتب الفقه العام وكتب الفتاوى في جميع المذاهب.

خامسًا: أن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء فهي قواعد كلية مطردة - كقواعد العربية - بلا خلاف.

وأما قواعد الفقه فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب كالاستثناء بالنص، أو الإجماع، أو الضرورة، أو غير ذلك من أسباب الاستثناء، ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها قواعد أغلبية أكثرية لا كليَّة مطردة.

ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد قواعد مشتركة بين العلمين ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية ينظر إليها من حيث كونها دليلًا إجماليًا يستنبط منه حُكم كلي، والقاعدة الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكمًا جزئيًا لفعل من أفعال المكلفين.

فمثلًا قاعدة: [الاجتهاد لا ينقض بمثله أو بالاجتهاد]:

ينظر إليها

ص: 20

الأصولي من حيث كونها دليلًا يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال. وينظر إليها الفقيه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين فيبين حكمه من خلالها.

ص: 21

‌ميزة القواعد الفقهية وفوائدها

‌الميزة الأولى:

ما ذكره القَرَافي: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا.

هذه المقولة تعطينا ميزات عظيمة من ميزات القواعد الفقهية وهي كونها قواعد كثيرة جدًا غير محصورة بعدد، وهي منثورة في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام، وهو رحمه الله قد أراد من تأليف كتابه (الفروق) جمع هذه القواعد في كتاب واحد يجمع شتاتها ويكشف أسرارها وحكمها.

‌والميزة الثانية:

إيجاز عبارتها مع عموم معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية إذْ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة مكونة من كلمتين، أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعدة [العادة محكمة] وقاعدة:[الأمور بمقاصدها] وقاعدة: [المشقة تجلب التيسير] فكلٌّ من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم؛ إذ يندرج تحت كل منها ما لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.

‌والميزة الثالثة:

أن كلًا منها ضابط يضبط فروع الأحكام العملية ويربط بينها برابطة

ص: 22

تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها.

وأما فوائد القواعد الفقهية فهي كثيرة جدًا نكتفي بذكر بعضٍ منها:

أولًا: أنها تضبط الفروع الفقهية وتجمع شتاتها تحت ضابط واحد مهما اختلفت موضوعاتها إذا اتحد حكمها.

فهي بذلك تيسر على الفقهاء والمفتين ضبط الفقه بأحكامه كما قال القرافي: (من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات).

لأن حفظ جزئيات الفقه وفروعه يستحيل أن يقدر عليه إنسان، لكن حفظ القواعد مهما كثرت تدخل تحت الإمكان.

ثانيًا: أنها تكوِّن عند الباحث ملكة فقهية قوية تُنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة، ومعرفة الأحكام الشرعية، واستنباط الحلول للوقائع المتجددة والمسائل المتكررة.

ثالثًا: أنها تعين القضاة والمفتين والحكام عند البحث عن حلول للمسائل المعروضة والنوازل الطارئة بأيسر سبيل وأقرب طريق.

ولذلك قال بعضهم: إن حكم دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها على القضاة والمفتين فرض عين، وعلى غيرهم فرض كفاية.

رابعًا: أنها تربي عند الباحث ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة، وتوضح له وجهًا من وجوه الاختلاف وأسبابه بين المذاهب.

خامسًا: أنها تظهر مدى استيعاب الفقه الإسلامي للأحكام، ومراعاته للحقوق والواجبات، وتسهل على غير المختصين بالفقه الاطلاع على محاسن هذا الدين، وتبطل دعوى من ينتقصون الفقه الإسلامي، ويتهمونه بأنه إنما يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية.

ص: 23

‌مراتب القواعد الفقهية

القواعد الفقهية ليست نوعًا واحدًا، ولا في مرتبة واحدة، وإنما هي أنواع ومراتب:

المرتبة الأولى: القواعد الكلية الكبرى ذوات الشمول العام للفروع والمسائل؛ حيث يندرج تحت كلِّ منها جُلُّ أبواب الفقه ومسائله وأفعال المكلفين.

وهذه القواعد ست هي:

1 -

قاعدة: [إنما الأعمال بالنيات أو الأمور بمقاصدها].

2 -

قاعدة: [اليقين لا يزول - أو لا يرتفع - بالشك].

3 -

قاعدة: [المشقة تجلب التيسير].

4 -

قاعدة: [لا ضرر ولا ضرار أو الضرر يزال].

5 -

قاعدة: [العادة محكّمة].

6 -

قاعدة: [إعمال الكلام أولى من إهماله].

المرتبة الثانية: قواعد أضيق مجالًا من سابقاتها - وإن كانت ذوات شمول واسع - حيث يندرج تحت كل منها أعداد لا تحصى من مسائل الفقه في الأبواب المختلفة.

ومثال ذلك قاعدة: [الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد - أو بمثله].

وقاعدة: [تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة].

المرتبة الثالثة: القواعد ذوات المجال الضيق التي لا عموم فيها حيث تختص بباب أو جزء باب، وهذه التي تسمى بالضوابط جمع ضابط وفي

ص: 24

هذا يقول عبد الوهاب بن السبكي رحمه الله فالقاعدة: «الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها» ومنها ما لا يختص بباب كقولنا: [اليقين لا يرفع الشك] ومنها ما يختص كقولنا: [كل كفارة سببها معصية فهي على الفور].

والغالب فيما قصد بباب وقُصد به نظم صور متشابهة أن يسمى ضابطًا.

المرتبة الرابعة: القواعد المذهبية التي تختص بمذهب دون مذهب، أو يعمل بمضمونها بعض الفقهاء دون الآخرين مع شمولها وسعة استيعابها لكثير من مسائل الفقه من أبواب مختلفة.

وهذه تعتبر من أسباب اختلاف الفقهاء في إصدار الأحكام تبعًا لاختلاف النظرة في مجال تعليل الأحكام.

ومن أمثلة هذه المرتبة: قاعدة: [لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل] وأساسها قولهم: [إن التهمة إذا تطرقت إلى فعل الفاعل حكم بفساد فعله] وهذه القاعدة يعمل بها الحنفية والحنابلة دون الشافعية، وقد يعمل بها المالكية ضمن قيود، ومنها عند الحنفية:[الأصل أن جواز البيع يتبع الضمان] وأما عند الشافعي: [فإن جواز البيع يتبع الطهارة] .... إلخ.

‌موضوع أصول الفقه:

هو معرفة الأدلة ومراتبها وأحوالها.

‌مصادر أصول الفقه:

المقصود بها: الأدلة والأصول التي بنيت عليها قواعده وهي:

1 -

استقراء نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.

2 -

الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.

3 -

إجماع السلف الصالح.

4 -

قواعد اللغة العربية وشواهدها المنقولة عن العرب.

5 -

الفطرة والعقل السليم.

ص: 25

6 -

اجتهاد أهل العلم واستنباطاتهم وفق الضوابط الشرعية.

‌فائدة أصول الفقه:

من فوائد علم أصول الفقه:

الفائدة الأولى: ضبط أصول الاستدلال، وذلك ببيان الأدلة الصحيحة من الزائفة.

الفائدة الثانية: إيضاح الوجه الصحيح للاستدلال، فليس كل دليل صحيح يكون الاستدلال به صحيحًا.

الفائدة الثالثة: تيسير عملية الاجتهاد وإعطاء الحوادث الجديدة ما يناسبها من الأحكام.

الفائدة الرابعة: بيان ضوابط الفتوى، وشروط المفتي، وآدابه.

الفائدة الخامسة: معرفة الأسباب التي أدت إلى وقوع الخلاف بين العلماء والتماس الأعذار لهم في ذلك.

الفائدة السادسة: الدعوة إلى اتباع الدليل حيثما كان، وترك التعصب والتقليد الأعمى.

الفائدة السابعة: حفظ العقيدة الإسلامية بحماية أصول الاستدلال، والرد على شبه المحرفين.

الفائدة الثامنة: صيانة الفقه الإسلامي من الانفتاح المترتب على وضع مصادر جديدة.

الفائدة التاسعة: ضبط قواعد الحوار والمناظرة؛ وذلك بالرجوع إلى الأدلة الصحيحة المعتبرة.

الفائدة العاشرة: الوقوف على سماحة الشريعة ويسرها والاطلاع على محاسن هذا الدين.

• • •

ص: 26

أهم المؤلفات في القواعد الفقهية

المؤلفات في القواعد الفقهية كثيرة، ومن أهم هذه الكتب:

في مذهب الحنفية:

1 -

أصول الكرخي (ت 340 هـ).

2 -

تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي (ت 430 هـ).

3 -

الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ).

وفي مذهب المالكية:

1 -

كتاب الفروق للقرافي (ت 684 هـ).

2 -

القواعد لمحمد بن محمد المقري (ت 758 هـ).

3 -

إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، لأحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914 هـ).

وفي مذهب الشافعية:

1 -

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ).

2 -

الأشباه والنظائر، لتاج الدين عبد الوهاب السبكي (ت 771 هـ).

3 -

الأشباه والنظائر، لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ).

ومن كتب الحنابلة:

1 -

القواعد النورانية الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ).

2 -

كتاب تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لابن رجب (ت 795 هـ).

ص: 27

العقد الثمين في شرح منظومة ابن عثيمين

قال المؤلف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم]:

[الباء]: حرف جر للمصاحبة أو للاستعانة وكسرت الباء وإن كان حق الحروف المفردة الفتح للزومها الحرفية والجر، ولِتشابهِ حركتها عملها.

و [اسم]: اسم مجرور بالباء وحذفت الألف من (اسم)؛ لكثرة الاستعمال، والجار والمجرور مُتعلق بمحذوف وهذا المحذوف نقدره فعلًا مؤخرًا مناسبًا للمقام وإنما قدره العلماء فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، ونقدره مؤخرًا لأمرين:

الأمر الأول: التبرك بالبداءة باسم الله عز وجل.

الأمر الثاني: الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

وقدرناه مناسبًا للمقام؛ لأنه أدل على المراد، فمثلًا إذا أردت أن تقرأ تقول:(باسم الله) التقدير باسم الله أقرأ، وإذا أردت أن تذبح قلت:(باسم الله) فالتقدير: باسم الله أذبح هذا أدل على المراد من قولنا: (باسم الله ابتدئ) فكونك تقدره بأقرأ إذا أردت أن تقرأ أولى من أن تقدره بابتديء؛ لأن أقرأ أدل على المراد الذي تريد أن تفعله.

[والله]: أصله الإله حُذفت الهمزة وأُدغمت اللام في اللام فقيل: (الله)، ومعنى (الله) أي ذي الألوهية والربوبية على خلقه أجمعين. فإذا جُمِع بين لفظ الجلالة وبين الرب فإن (لفظ الجلالة) يُفسَّر بتوحيد الألوهية يعني ذا الألوهية على خلقه أجمعين، (والرب) يفسَّر بتوحيد

ص: 28

الربوبية يعني ذا الربوبية على خلقه أجمعين.

وأما إذا قيل: (الله) فقط في بسم الله فإن لفظ الجلالة نُفسره بذي الألوهية والربوبية على خلقه أجمعين، ومعنى (ذو الألوهية) أي الذي تألهه القلوب محبة وتعظيمًا، (ومعنى الربوبية) أي المالك الخالق المدبر وهو الذي ربَّى عباده تربية عامة وتربية خاصة فالله عز وجل ربّاهم وأوجدهم من العدم ورزقهم من النعم.

وقوله: [الله]: علم على الباري جل وعلا من أسمائه الخاصة وهو أعرف المعارف الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولذا يضاف إليه بقية أسماء الله فيقال: الرحمن، والرحيم من أسماء الله ولا يقال:(الله) من أسماء الرحمن أو الرحيم

إلخ.

قوله: [الرحمن]: هذا أيضًا من أسماء الله عز وجل الخاصة به وهو ذو الرحمة الواسعة.

قوله: [الرحيم]: أي ذو الرحمة الواصلة.

• • •

ص: 29

‌1 - الحمدُ للهِ المُعِيد المُبْدِي

مُعْطِي النَّوالِ كُلَّ مَنْ يَسْتَجدِيِ

قوله: [الحمد لله]: الحمد عُرّف لغة: بأنه الثناء بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة، سواء أكان ذلك في مقابلة نعمة أم لم يكن كذلك.

وفي الاصطلاح: قيل: بأنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد أو غيره، وفيه إشارة إلى أن الحمد متعلق بالإنعام وليس كذلك بل يتعلق بجميع صفات الكمال.

وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله بأنه: (وصف المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيمًا). قال ابن القيم رحمه الله: (فإن تجرد الحمد عن المحبة والتعظيم فهو مدح، وإن اقترن بالحمد محبة وتعظيمًا فهو حمد) وبهذا نَعْرِف الفرق بين الحمد والمدح؛ فالحمد يكون مع المحبة والتعظيم، والمدح لا يكون معهما.

وهنا الألف واللام للجنس المفيدة للاستغراق، فالمحامد كلها لله عز وجل إما مِلْكًا وهذا فيما يتعلق بحمد العباد له سبحانه، وحمد العباد بعضهم لبعض، أو استحقاقًا وهذا فيما يتعلق بحمد الله عز وجل لنفسه.

قوله: [لله]: اللام للاختصاص، والاستحقاق، ولفظ الجلالة سبق تعريفه.

والحمد ينقسم قسمين:

القسم الأول: حمد مطلق، وهذا خاص بالله عز وجل؛ فالله يُحمد على كل صفاته وكل أسمائه وأفعاله.

القسم الثاني: حمد مُقيّد وهذا يكون للمخلوق؛ فالمخلوق لا يُحمد حمدًا مطلقًا وإنما يُحمد حمدًا مقيدًا، يُحمد على هذا الفعل ولا يُحمد على ذلك الفعل؛ لأن المخلوق ناقص، ولهذا يأتينا أن الناظم رحمه الله ذكر من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم محمد

(1)

وسُمي بذلك؛ لكثرة محامده.

(1)

انظر ص (58).

ص: 30

قوله: [المعيد]: هذه صفة من صفات الله عز وجل؛ فالذي يُعيد الأشياء - يعني يرجعها مرة بعد أخرى - هو الله عز وجل فالله عز وجل المنفرد بإبداء الخلق، وإعادته مرة أخرى، فلا يشاركه في ذلك مشارك، وهو الذي يبعث الشمس ثم يعيدها مرة أخرى بعد غروبها.

قوله: [المبدي]: بدأ الله عز وجل الخلق أي خلقهم وهاتان صفتان لله عز وجل: الإعادة والابتداء قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج: 13].

قوله: [معطِي النَّوالِ]: معطي هذا ظاهر. والنَّوال: هو العطاء وهو المفعول الأول لاسم الفاعل معطي؛ لأن أعطى تنصب مفعولين: المفعول الأول (النَّوال)، والمفعول الثاني (كل).

قوله: [كل من يستجدي]: الاستجداء: الطلب، والمعنى أن الله تعالى يعطي العطاء كل من يطلبه منه.

• • •

ص: 31

‌2 - مُثَبِّتِ الأحكامِ بالأصُولِ

مُعينِ مَنْ يَصْبُو إلى الوُصُولِ

قوله: [مثبت الأحكام]: يعني أن الأحكام تؤخذ من الأصول والمراد بالأصول هنا الأدلة فالأحكام تثبت وتؤخذ من الأصول والأحكام جمع حكم.

والحكم في اللغة: المنع.

وأما في الاصطلاح: فهو إثبات أمرٍ لأمر، أو نفيه عنه.

والأحكام يقسمها العلماء ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أحكام شرعية.

القسم الثاني: أحكام عقلية.

القسم الثالث: أحكام عادية.

والأحكام الشرعية يقسمها الأصوليون إلى قسمين:

القسم الأول: الأحكام التكليفية، والحكم التكليفي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.

القسم الثاني: الأحكام الوضعية: والحكم الوضعي: هو خطاب الشارع المتعلّق بجعل الشيء سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، أو كونه صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، أو أداء، أو إعادة، أو قضاء.

والفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية:

أن الحكم التكليفي أمر، وطلب كالأمر بالصلاة، أما الوضعي فهو إخبار.

والحكم التكليفي يشترط فيه علم المكلف وقدرته على الفعل كالصلاة والصيام مثلًا بخلاف الحكم الوضعي، كالصبي مثلًا فإنه وإن لم يكن مكلفًا يغرم المتلفات.

والحكم الشرعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين

ص: 32

بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

والحكم العقلي: هو معرفة نسبة أمر لأمر، أو نفيه عنه عقلًا؛ مثل الكل أكبر من الجزء.

والحكم العادي: هو معرفة نسبة أمر لأمر، أو نفيه عنه عادة مثل الماء مرو، والخبز مشبع، والنار حارة .... إلخ.

قوله: [بالأصول]: الأصول: جمع أصل، وتقدم أن الأصل ما يُبنى عليه غيره أو ما يتفرع منه غيره.

واعلم أن العلماء رحمهم الله يطلقون الأصل على عدة إطلاقات:

الإطلاق الأول: الدليل فمثلًا يقولون: الأصل في وجوب الصوم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ويقولون أيضًا: الأصل في وجوب الصلاة والزكاة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].

الإطلاق الثاني: القاعدة المستمرة فمثلًا يقولون: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل؛ لأن الأصل تحريم الميتة.

الإطلاق الثالث: في باب القياس فيُطلقون الأصل على المقيس عليه؛ لأن القياس له أركان أربعة:

الركن الأول: الأصل: وهو المقيس عليه.

الركن الثاني: الفرع: وهو المقيس.

الركن الثالث: العلة الجامعة.

الركن الرابع: الحكم: وهو محل القياس.

الإطلاق الرابع: الراجح.

قوله: [من يصبو]: أي يميل.

قوله: [إلى الوصول]: أي إلى مقصوده من تعلم العلم والوصول إلى

ص: 33

الحق، فالله جل وعلا يعين كل شخص يطلب الوصول إلى الحق لكن قد يتخلف المقصود لوجود مانع أو لحكمة أرادها الله عز وجل. وهذا البيت:

[مثبت الأحكام بالأصول

معين من يصبو إلى الوصول]

يسميه علماء البلاغة: براعة الاستهلال، وبراعة الاستهلال: أن يأتي المؤلف في خطبة كتابه ما يفيد بيان موضوع ما سيؤلف فيه، أو يتحدث عنه.

مثال ذلك: إذا أراد الإنسان أن يؤلف في الفقه فإنك تجده يقول: الحمد لله الذي فَقَّه من شاء من عباده بكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وإذا أراد أن يؤلف كتابًا في النكاح يقول: الحمد لله الذي أمر بالزواج .. إلخ.

ونظير ذلك قول الشيخ السعدي رحمه الله في منظومته في الأصول والقواعد الفقهية:

الحمد لله العلي الأرفق

وجامع الأشياء والمفرق

(1)

قوله: [وجامع الأشياء]: أفاد أنه سينْظُم أبياتًا تجمع أشياء متفرقة وهي القواعد الفقهية.

• • •

(1)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي البيت رقم (1).

ص: 34

‌3 - ثُمَّ الصلاةُ مَعْ سَلامٍ قدْ أُتمْ

على الذِي أُعطِي جَوامِعَ الكَلِمْ

قوله: [ثم الصلاة]: قال الأزهري رحمه الله في تعريفها: (معناها من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء والتضرع) والراجح ما قاله أبو العالية رحمه الله كما في صحيح البخاري: (الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى)

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام: (الصلاة المأمور بها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه، وإظهار شرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه) فإذا قلنا: اللهم صلِّ على محمد فإننا ندعو الله عز وجل أن يفعل ذلك بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو الثناء عليه، وأن يظهر شرفه، ويقربه ويكرمه.

قال ابن القيم رحمه الله: (وصلاتنا سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك به) وهذا القول هو الصواب.

وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام في هذه المسألة، وردَّ القول بأن المراد بالصلاة الرحمة ومما ذكر قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].

فإن الواو تقتضي المغايرة، وعطف الرحمة على الصلاة يدل ذلك على أن الصلاة ليست بمعنى الرحمة، وأيضًا لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين، واختلف السلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء.

قوله: [مع سلام]: السلام: اسم مصدر من سلم، ومصدره تسليم، والسلام اسم من أسماء الله عز وجل كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ

(1)

أخرجه البخاري، باب قوله:(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

ص: 35

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].

فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه والسالم من النقص، ومن كل ما ينافي كماله.

والسلام أيضًا يطلق على التحية، وعلى الأمان، وعلى السلامة من النقائص. فإذا قلت:(السلام عليك أيها النبي) فأنت تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة من كل آفة، والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة ينقسم قسمين:

القسم الأول: دعاء بالسلامة الحسية.

القسم الثاني: دعاء بالسلامة المعنوية.

أما الدعاء بالسلامة الحسية: ففي حياته أن يحفظ بدن النبي صلى الله عليه وسلم من النقائص والآفات

إلخ. وبعد مماته تدعو أن يسلمه الله عز وجل من أهوال يوم القيامة؛ فإن الرسل يجثون على ركبهم من شدة هول ذلك اليوم ويدعون «اللهم سلِّم سلِّم» .

(1)

وأما الدعاء بالسلامة المعنوية: فهي أن تدعو لسنته وشرعه بالسلامة من تأويل المبطلين وانتحال الغالين.

قوله: [قد أتم]: يعني أنه ينبغي للإنسان أن يُسلِّم تسليمًا تامًا كما قال تعالى: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، ولهذا أتى الله عز وجل بالمصدر الذي يفيد التأكيد.

قوله: [على الذي أُعطي جوامع الكلم]: الجوامع: جمع جامع. والكلم: أي الكلمات. وجوامع الكلم: ما قل لفظه وكثر معناه، والنبي صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم.

(2)

أي أنه اختصر له الكلام؛ فتجد في السنة كلمات جمعت أشياء

(1)

أخرجه البخاري رقم (806) ومسلم رقم (182).

(2)

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الأنبياء بست): أُعطيت جوامع الكلم

الحديث أخرجه مسلم رقم (523).

ص: 36

كثيرة، فمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه:«إنما الأعمال بالنيات»

(1)

يدخل تحت هذا الحديث من المسائل والتفريعات الشيء الكثير فهو داخل في جملة أبواب الفقه والشريعة.

وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(2)

يعني عمله مردود عليه. يدخل تحته الشيء الكثير.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907).

(2)

الحديث بهذا اللفظ من أفراد مسلم رقم (1718) ولفظ المتفق عليه «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718).

ص: 37

‌4 - مُحَمّدِ المبعُوثِ رَحْمة الوَرَى

وَخَيرِ هادٍ لجَميعِ مَنْ دَرَى

قوله: [محمد]: اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].

والنبي صلى الله عليه وسلم له أسماء:

1 -

محمد كما ذكره الناظم رحمه الله.

2 -

أحمد كما قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

3 -

الحاشر. 4 - العاقب. 5 - المُقَفِّي.

6 -

الماحي. 7 - نبي الرحمة. 8 - نبي التوبة.

لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد»

(1)

متفق عليه.

وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»

(2)

رواه مسلم.

ومحمد على وزن مُفَعَّل سمي بذلك؛ لكثرة محامده صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم له محامد فاق بها بقية البشر فهو صلى الله عليه وسلم يحمد أكثر وأفضل مما يحمد غيره.

(1)

أخرجه البخاري رقم (4396) ومسلم رقم (2354).

(2)

أخرجه مسلم رقم (2355).

ص: 38

قوله: [المبعوث]: أي المرسل، فالبعث بمعنى الإرسال قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36].

قوله: [رحمة الورى]: الورى هم الخلق وهذا يشمل الجن والإنس.

وقوله: [رحمة]: هذا فيه بيان حكمة من حكم بعث الرسل فالرسل بعثوا لحكمتين:

الحكمة الأولى: رحمة للخلق.

الحكمة الثانية: إقامة الحجة عليهم؛ أي: على الخلق.

أما الحكمة الأولى فدليلها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وأما الحكمة الثانية فدليلها قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].

ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه بُعث إلى الناس كافة، وأما الرسل قبله فما كانوا يبعثون إلا إلى قومهم خاصة.

قوله: [وخير هاد]: هذه صفة لقوله: (محمد) وهاد من الهدَاية وهي: الدلالة.

والهداية تنقسم قسمين:

القسم الأول: هداية الدلالة والإرشاد. القسم الثاني: هداية التوفيق.

هداية الدلالة والإرشاد: هي التي أُثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي أنك تدل وتبيّن وتوضح.

وأما هداية التوفيق فهي خاصة بالله عز وجل كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].

وقوله رحمه الله هنا: (خير هاد) من الهداية التي بمعنى الدلالة والإرشاد

ص: 39

وليست من الهداية التي بمعنى التوفيق.

قوله: [لجميع من درى]: يعني كل من كان ذا علم ودراية وبصيرة فإنه يعرف هداية النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أعمى البصيرة، فإنه لا يعرفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالنور من عند الله، نور الوحيين (الكتاب، والسنة)، والوحيان أمرهما ظاهر وبيِّن فكل من قرأهما وسمعهما فإنه يهتدي بإذن الله عز وجل.

• • •

ص: 40

‌5 - وبعدُ فالعلمُ بحورٌ زاخِرَهْ

لنْ يَبْلغَ الكادِحُ فِيهِ آخِرَهْ

قوله: [وبعد فالعلم]: (بعد) ظرف زمان مبني على الضم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الفائدة من (أما بعد) فقال بعض العلماء: يُؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر.

وقال بعضهم: يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى صلب الموضوع وهذا القول هو الصواب.

واختلف العلماء رحمهم الله في‌

‌ أول من تكلم ب (أما بعد):

فقيل: داود عليه السلام، وقيل: يعقوب عليه السلام، وقيل: بأنه يَعْرُب بن قحطان، وقيل: قِس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي.

قال ابن حجر: (والأول أشبه).

وقوله: [فالعلم]: العلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه.

قوله: [بحور]: جمع بحر والبحر معروف. ولا شك أن العلم بحور وفنون متنوعة، كعلم العقيدة، وعلم الفقه، وعلم الحديث

إلخ.

قوله: [زاخرة]: أي ممتلئة.

قوله: [لن يبلغ الكادح فيه آخره]: الكادح: هو المُجِدُّ في العمل، أي أن الإنسان مهما جد واجتهد فإنه لن يبلغ آخر العلم؛ لأنه لن يستطيع أحد أن يبلغ البحر مهما كان وبهذا نستفيد من كلام المؤلف رحمه الله أن الإنسان لا يلزم أن يكون فقيهًا مدققًا يعني أن يبلغ الغاية في الفقه، أو أن يكون أصوليًا محرِّرًا، أو أن يكون محدثًا حافظًا، هذا ليس بلازم؛ لأنه كما ذكر الشيخ رحمه الله أن العلم بحور زاخره

إلخ. لكن الإنسان يجدّ ويجتهد ولا يشترط أن يبلغ النهاية فإن بلوغ النهاية هذا غير ممكن.

• • •

ص: 41

‌6 - لكنَّ في أصولِهِ تَسْهِيلا

لنَيْلِه فَاحرصْ تجِدْ سَبِيلا

قوله: [لكن في أصوله]: أي أن في أصول العلم تسهيل لنيله، وهذه فائدة من فوائد أصول الفقه والقواعد الفقهية، فإن الإنسان إذا عرف القواعد الفقهية وأصول الفقه عرف كثيرًا من الفروع، وقد تقدم قريبًا بيان فوائد القواعد الفقهية، وأصول الفقه.

قوله: [في أصوله]: تقدم تحرير ذلك.

(1)

قوله: [فاحرص]: الحرص: شدة الرغبة في الشيء.

قوله: [تجد سبيلا]: يعني طريقًا إلى معرفة العلم، والوصول إلى ما قصدت معرفته وذلك بضبط هذه الأصول والقواعد.

• • •

(1)

انظر البيت رقم (2).

ص: 42

‌7 - فاغْتنِمِ القواعدَ الأصُولا

فَمْن تَفُتْهُ يُحْرَمِ الوُصولا

قوله: [اغتنم]: خُذ واظفر بالقواعد والأصول كما أن المجاهد يحرص على أن يظفر بالغنيمة.

قوله: [فمن تفته]: (من) اسم شرط جازم، و (تفته) فعل الشرط.

قوله: [يحرمِ الوصولا]: (يحرم) جواب الشرط وحُرِّك لالتقاء الساكنين، يعني يُحرَم أن يصل إلى مقصوده من التمكن من العلم، ففرق بين شخص ألمّ بهذه الأصول والقواعد فإنه يتمكن من العلم وبين شخص قد فاتته هذه الأصول والقواعد فإنه سبب للحرمان من التمكن، وهذا ليس خاصًا فقط بأصول الفقه وقواعده، بل في مصطلح الحديث إذا ألمّ بقواعد الجرح، والتعديل، وما يتعلق بقواعد التصحيح

إلخ. فإنه يضبط علم الحديث وإذا فاتته مثل هذه القواعد فإنه يُحرم الوصول إلى الضبط وهكذا في قواعد التفسير، وغير ذلك من الفنون.

• • •

ص: 43

‌8 - وهَاكَ مِنْ هذِي الأصولِ جُمَلا

أرجُو بِها عالِ الجنَانِ نُزُلا

قوله: [هاك]: اسم فعل أمر بمعنى خذ، والفرق بين اسم الفعل والفعل: أنه إن جاز إسناده إلى ألف الاثنين وواو الجماعة وياء المخاطبة فهو فعل، وإن لم يجز فهو اسم فعل.

وهاك: لا يتغير إذا خاطبت به الواحد والاثنين والجماعة وإنما يتغير كاف الخطاب فقط.

قوله: [من]: هذه تبعيضية فالشيخ رحمه الله لم يذكر كافة الأصول والقواعد وإنما ذكر منها جملة، والذي ذكره الشيخ رحمه الله إذا تأمله الإنسان يجد أنه استوعب مهمات الأصول والقواعد كما سيأتي إن شاء الله.

قوله: [أرجو]: يعني أسأل الله عز وجل ونسأل الله عز وجل لشيخنا أن يُحقق له مطلوبه بأن يُجيب سُؤْله.

قوله: [عال الجنان نزلا]: يعني العالي منها وهي: جنة الفردوس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تُفجَّر أنهار الجنة» .

(1)

قوله: [الجنان]: جمع جنة وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه في الآخرة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها تُجِنّ من دخلها لكثرة أشجارها؛ أو لأنها مُجْتَنَّة يعني مستترة بكثرة أشجارها.

قوله: [نزلًا]: أي منزلًا وضيافة.

(1)

أخرجه البخاري رقم: (2790)، (7423).

ص: 44

‌9 - قواعِدًا مِنْ قولِ أَهلِ العِلْمِ

وليس لي فيها سِوىَ ذا النظْمِ

قوله: [قواعدًا]: بالفتح لكن نُوّن وإن كان لا ينصرف لضرورة النظم.

قوله: [وليس لي فيها سوى ذا النظم]: يعني أن الشيخ رحمه الله لم يأتِ بها من عنده وإنما هذه القواعد سطرها العلماء رحمهم الله وحرروها وكتبوها. وهناك كتب كثيرة في القواعد للعلماء رحمهم الله ذكروها نثرًا فقام الشيخ رحمه الله ونظم هذه القواعد.

• • •

ص: 45

‌القواعد والأصول

القواعد والأصول هذا عنوان لما سيذكر بعد من القواعد الفقهية والأصولية وقد تقدم تعريفهما والفرق بينهما.

‌10 - الدينُ جاءَ لسعادَةِ البَشَرْ

ولانْتِفَاءِ الشَّرِّ عَنْهُم والضَّرَرْ

قوله: [الدين جاء لسعادة البشر]: قال الشيخ السعدي رحمه الله في منظومته:

الدين مبني على المصالح

في جلبها والدرء للقبائح

(1)

فنظير قول الشيخ رحمه الله: [الدين جاء لسعادة البشر

إلخ] قول الشيخ السعدي رحمه الله: [الدين مبني على المصالح

إلخ] وإذا تأملت الشريعة فهي كما ذكر الشيخ رحمه الله، وكما ذكره قبله أيضًا الشيخ السعدي أن الدين جاء لسعادة البشر إذْ الدين مبني على مصالح الخلق وبهذا تحصل سعادتهم.

فالله عز وجل أكمل الدين وأتمه وبناه على المصالح، ويتضح هذا بمعرفة هذه المصالح.

المصالح: جمع مصلحة والمصلحة على وزن مفعلة وهي في اللغة: المنفعة. وأما في الاصطلاح: فهي المنفعة التي قصدها الشارع لعباده من حفظ أديانهم، وعقولهم، وأموالهم، ونسلهم، وأنفسهم، ودفع كل ما يفوت هذه المصالح أو يخل بها.

قال: في شرح مختصر التحرير (لا خلاف بين الملل والأديان في

(1)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي، البيت رقم (12).

ص: 46

كون المصلحة أتت للحفاظ على هذه الكليات). أ. هـ

ومن الأدلة على اعتبار الشريعة للمصلحة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ .... } الآية [النحل: 90].

فتأمل ما أمر الله به تجده مصلحة ومنفعة: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وتأمل ما نهى عنه تجده مفسدة ومضرة: الفحشاء، والمنكر، والبغي.

والتوحيد فيه من المصالح العظيمة كتسليم القلب لخالقه ولمَّ شعثه عن التوجه لغير الله تعالى، وعدم الخنوع لمخلوق مثله لا ينفعه ولا يضره والفوز بجزاء الموحدين، والنجاة من عقاب المشركين.

والصلاة صلة بين العبد وربه يناجي ربه ويجد فيها راحة قلبه وقرة عينه وتكفير سيئاته وزيادة حسناته.

والزكاة طهرة للقلوب والأخلاق، والأموال، والفقراء، والأغنياء، وهكذا الصوم والحج .... إلخ.

ولو تأمل العبد العبادات الشرعية والمعاملات لوجد من حِكَمِها ومصالحها ما يبهر العقل مع أنه لا يدرك إلا جزءًا يسيرًا من حِكَمِها ومصالحها.

والأحكام الشرعية جاءت لمصلحة المكلفين؛ وذلك بحفظ الكليات الخمس؛ فما من أمر ولا نهي في الشرع إلا لحفظ الكليات الخمس: [الدين، والعقل، والمال، والنفس، والنسل].

والعلماء رحمهم الله يقسمون المصالح إلى ثلاثة أقسام:

1 -

مصالح ضرورية.

2 -

مصالح حاجية.

3 -

مصالح تحسينية.

ص: 47

المصالح الضرورية: هي التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وهي تشمل حفظ‌

‌ الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع على حفظها

وهي:

1 -

حفظ الدين. 2 - حفظ العقل.

3 -

حفظ المال. 4 - حفظ النفس.

5 -

حفظ النسل.

إذا تأملت الشريعة وجدتها قد جاءت بحفظ الدين من عدة أوجه:

الوجه الأول: شرعت الدعوة إلى الدين.

الوجه الثاني: أوجبت الإيمان بأركان الإسلام، وأركان الإيمان والإحسان، وأيضًا جاء الأمر بالتوحيد، والإحسان.

الوجه الثالث: شرعت الجهاد لكل من يقف أمام نشر الدين.

الوجه الرابع: أوجبت قتل كل من غيّر دينه .... إلخ.

الوجه الخامس: رَغّبَتْ بفعل كل ما يقوي الدين من سائر النوافل والطاعات.

الوجه السادس: شرعت التعزيرات لكل من يخل بواجبات الدين

إلخ.

الوجه السابع: الدفاع عنه، وبيان تحريف المبطلين، وتأويل الغالين.

وأيضا جاءت الشريعة بحفظ العقل من عدة أوجه:

الوجه الأول: حرمت كل مسكر ومفتِّر.

الوجه الثاني: أوجبت العقوبة على كل من شرب مسكرًا.

الوجه الثالث: أوجبت دية كاملة على كل من جنى على العقل

إلخ.

الوجه الرابع: رغَّبَتْ في التفكر، والنظر، والتدبر مما يُنمي العقل

إلخ.

ص: 48

وجاءت الشريعة بحفظ المال من عدة أوجه:

الوجه الأول: شرعت العمل في كسب المال بطرق مباحة.

الوجه الثاني: حرمت الإسراف والتبذير.

الوجه الثالث: أوجبت حد السرقة على من سرق هذا المال.

الوجه الرابع: من أتلف مالًا لغيره فإن الشريعة أوجبت عليه ضمان هذا المال.

الوجه الخامس: حرمت كل الطرق التي تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، أو ظلمهم فيها كالربا، والميسر، والغرر، والرشوة، والغش، وغير ذلك.

وجاءت الشريعة بحفظ النفس من عدة أوجه:

الوجه الأول: حرمت القتل وأوجبت القصاص، أو الدية في قتل النفس عمدًا بل حرمت حتى الإشارة بالسلاح إلى النفس المعصومة.

الوجه الثاني: أوجبت الدية في قتل النفس شبه العمد، والخطأ.

الوجه الثالث: أوجبت الكفارة المغلظة في قتل النفس شبه العمد أو الخطأ .. إلخ.

الوجه الرابع: حرمت الاعتداء على النفس المعصومة وهي أربعة أنواع:

1 -

المسلم.

2 -

الذمي.

3 -

المعاهد.

4 -

المستأمن، وأوجبت في قتلها الدية، والكفارة، على تفصيل عند الفقهاء.

الوجه الخامس: حرمت الجناية على مادون النفس.

أيضًا بالنسبة للنسل والعِرض فقد جاءت الشريعة بحفظه من عدة أوجه:

ص: 49

الوجه الأول: حرّمت الزنا.

الوجه الثاني: حرمت القذف.

الوجه الثالث: أمرت بالزواج لتكثير النسل وحثت على التعدد عند القدرة عليه، وعلى تزوج الولود، ورغبت في تخفيف الصداق

إلخ.

الوجه الرابع: حرمت التبني.

والمصالح الحاجية: هي المصالح التي يحتاج إليها؛ لأجل التوسعة، ورفع كل ما يؤدي إلى الحرج والمشقة.

وإذا تأملت الشريعة وجدتها قد جاءت به سواء أكان ذلك في العبادات أم المعاملات أم العقود أم الحدود أم القصاص

إلخ.

مثال ذلك: رُخص العبادات كالإفطار للمسافر، والمريض، والقصر، والجمع للمسافر، وإذا عدم الماء له أن يتيمم، والمريض له أن يجمع الصلوات

إلخ.

وفي المعاملات شرعت عقود يحتاج الناس إليها، كعقد السلَم، وعقد الاستصْناع، وعقد الشركة، وعقد المساقاة، وعقد المزارعة

إلخ.

فكل ما يُحتاج إليه لأجل المشقة والتوسعة وعدمه يؤدي إلى المشقة والحرج فإن الشريعة جاءت به.

والمصالح التحسينية هي: ما يدعو إلى الأخذ بمحاسن الأخلاق ومكارم العادات وقد جاءت الشريعة بسنن الفطرة كتقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والتنظف، والتجمل، والتطيب، والسواك.

وكل ما يشمل مكارم الأخلاق جاءت به الشريعة كإكرام الضيف، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وإكرام الجار، وعدم إيذائه، وقُلْ مثل ذلك في المعاملات: التيسير في البيع والشراء والإقالة

إلخ. ومثله أيضًا: في الأنكحة والحدود والقصاص فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قتلتم فأحسنوا

ص: 50

القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته».

(1)

فتبين لنا في هذا الشطر من البيت كما قال الشيخ رحمه الله أن الدين جاء لسعادة البشر فكل ما فيه خير جاء الدين بشرعه، وكل ما فيه شر وضرر جاء الدين بنفيه.

قوله: [ولانتفاء الشر عنهم والضرر]: هذا الشطر من البيت هو عبارة عن إحدى قواعد الفقه الخمس الكلية وهي قاعدة: [لا ضرر ولا ضرار].

والقواعد الكلية خمس كما سيأتي إن شاء الله وهي:

القاعدة الأولى: قاعدة: [الأمور بمقاصدها].

القاعدة الثانية: قاعدة: [لا ضرر ولا ضِرار].

القاعدة الثالثة: قاعدة: [اليقين لا يزول بالشك].

القاعدة الرابعة: قاعدة: [المشقة تجلب التيسير].

القاعدة الخامسة: قاعدة: [العادة مُحكَّمة].

وبعض العلماء يزيد قاعدة: [إعمال الكلام أولى من إهماله].

فدليل قاعدة [لا ضرر ولا ضِرار] قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 233] وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].

وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12].

وقد روى في حديث أبي سعيد

(2)

وعبادة

(3)

وأبي هريرة

(4)

(1)

أخرجه مسلم رقم (1955).

(2)

أخرجه الدارقطني (3/ 77)، والحاكم (2/ 57).

(3)

أخرج أحمد (1/ 313)، وابن ماجه رقم (2340).

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 228).

ص: 51

وابن عباس

(1)

وعائشة

(2)

رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» وهذا الحديث لا يصح مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه يصح مرسلًا في موطأ الإمام مالك رحمه الله

(3)

وعلى كل حال هذا الحديث ورد له طرق كثيرة، وإذا لم يثبت فإن هذه القاعدة ثابتة في القرآن كما تقدم في الآيات السابقة.

والضُّرُ: خلاف النفع. وأما في الاصطلاح: فهو إلحاق مشقة بالغير.

‌مسألة: معنى الضرر والضرار:

قال ابن رجب رحمه الله: (واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضرر والضِرار فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد. والمشهور أن بينهما فرقًا؛ فالضرر: هو الاسم. والضرار: هو الفعل. وقيل: الضرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضررًا بما لا منفعة له به. ورجح هذا القول طائفة منهم: ابن عبد البر، وابن الصلاح رحمهم الله.

وقيل: إن الضرر أن يضر بمن لا يضره، والضِرار أن يضر بمن قد أضره، وبكل حال فالشرع إنما نفى الضرر والضرار بغير حق، وأما إدخال الضرر على أحد بحق لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر اعتدائه، أو كونه ظلم غيره فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل فهذا غير مراد قطعًا .... أ. هـ.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2341)، وأحمد (1/ 313)

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 227).

(3)

الموطأ (2/ 745).

وضعف هذا الخبر ابن عبد البر في التمهيد (20/ 157 - 158) وقال: لا يسند من وجه صحيح. وقال خالد بن سعد الأندلسي لم يصح حديث: «لا ضرر ولا ضرار» مسندًا جامع العلوم والحكم.

كما ضعف هذا الخبر ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 538). وضعفه أيضًا الذهبي في تنقيح التحقيق (2/ 323) وضعفه ابن حزم أيضًا كما في المحلى.

ص: 52

والضُّرُ ينقسم قسمين:

القسم الأول: أن يكون أصلًا.

القسم الثاني: أن يكون تبعًا.

أن يكون أصلًا: مثل أن يتعمد الإنسان إيذاء الناس مباشرة فيؤذيهم في أبدانهم، أو أعراضهم، أو أموالهم فهذا محرم ولا يجوز وجاء الشرع بنفيه.

أن يكون تبعًا: لا يتعمد ذلك لكن عمله هذا يؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين.

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: لو تصرف الجار في بيته بما يضر جاره، ففتح الماء في بيته فأدى إلى تسرب الماء إلى بيت الجار فيضر الجار، فإن هذا حتى لو كان تبعًا، فإن الشريعة جاءت بنفيه وأن هذا لا يجوز.

المثال الثاني: لو أحدث في بيته كنيفًا، أو تنورًا، أو غيره بما يلحق الضرر بجاره فهذا محرم.

وقد يكون الضرر تابعًا لكن يعفو عنه الشارع لمصلحة أكبر، وذلك مثل الزواج بالثانية، لاشك أن الأُولى تتضرر بذلك لكن لمّا كانت المصلحة أكبر فإن الشارع عفا عن هذا الضرر.

كذلك الضرر في الشريعة مدفوع ومرفوع:

مدفوع قبل وقوعه فأنت منهي أن تضار غيرك، ومرفوع أيضًا بعد وقوعه فأنت مأمور بترك هذا الضرر.

• • •

‌11 - فكُلُّ أمرٍ نافعٍ قَدْ شَرَعَه

وكُلُّ ما يَضُرُّنَا قَدْ مَنَعَهْ

قوله: [فكل أمر نافعٍ قد شرعه]: سبق أن الشريعة جاءت بالمصالح الثلاث:

1 -

المصالح الضرورية.

ص: 53

2 -

المصالح الحاجية.

3 -

المصالح التحسينية.

قوله: [وكل ما يضرنا قد منعه]: تقدم أن من القواعد الكلية قاعدة [لا ضرر ولا ضِرار].

• • •

ص: 54

‌12 - ومعْ تساوِي ضَرَرٍ ومَنْفَعَه

يكونُ ممنوعًا لدَرْءِ المفْسَدَهْ

هذا البيت عبارة عن قاعدة: [درء المفاسد مقدم على جلب المصالح] وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة: [لا ضرر ولا ضِرار]، وهنا جملة من القواعد المندرجة تحت قاعدة:[لا ضَرر ولا ضِرار].

‌القاعدة الأولى: [درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة]

ودليلها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فسب الكفار فيه مصلحة وهي إهانتهم وبيان فساد دينهم، فإذا تضمن مفسدة وهي مقابلتهم السب بسب الله عز وجل نهي عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو على الإباحة، أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملًا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به والإباحة، بل يُقطع أن الشرع يحرمه لاسيما إذا كان مفضيًا إلى ما يبغضه الله ورسوله).

ونمثل لذلك بأمثلة:

المثال الأول: وجود رائحة البصل، أو الثوم في الإنسان، هذه مفسدة، وصلاة الجماعة مصلحة، فكون الإنسان إذا جاء إلى المسجد سيؤذي الناس برائحة البصل، أو الثوم، أو بغيرهما فهذه مفسدة وصلاة الجماعة مصلحة فهنا تعارضت المفسدة والمصلحة فنقول:[درء المفاسد مقدم على جلب المصالح] فما دام أن البصل والثوم فيه رائحة فنقول: اجلس ولا تصلِّ مع الناس ولو كان سيفوته مصلحة وهي صلاة الجماعة.

المثال الثاني: لو أن الإنسان سيقوم الليل وقيامه لليل سيؤدي إلى تفويت صلاة الفجر مع الجماعة، فهنا مصلحة ومفسدة فنقول: اترك قيام الليل لكي تصلي الفجر مع جماعة الناس.

المثال الثالث: التجارة في المحرمات فيه مفسدة فيمنع، ولو كان في

ص: 55

التجارة مصلحة وهي الربح.

وجعل ابن القيم رحمه الله إنكار المنكر على أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقِلَّ وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.

قال ابن القيم رحمه الله: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون الشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلًا لهم.

وإذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها إلى كتب البدع والضلال والسحرة فدعه وكتبه الأولى.

وهذا باب واسع.

ومن أدلة هذه القاعدة أن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» .

(1)

‌القاعدة الثانية: [الضرر الخاص يُتحمَّل لدفع الضرر العام].

فإن الضرر الحاصل للعامة يزال بالضرر الخاص بالواحد؛ لأنه أهون

(1)

أخرجه البخاري رقم (7288)، ومسلم رقم (1337).

ص: 56

الشرين، وأدنى المفسدتين.

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: الطبيب الجاهل يُحْجَر عليه لمصلحة الناس فكوننا نَحْجُر عليه ونمنعه من التطبب فيه ضرر خاص، لكن يُتحمّل لدفع الضرر العام، إذ لو تركناه يداوي الناس وهو جاهل لتضرر الناس.

المثال الثاني: المفتي الجاهل يُحْجَر عليه، فالطبيب الجاهل يُحجر عليه لضرر الناس في أبدانهم، والمفتي الجاهل يُحجر عليه لضرر الناس في أديانهم وإن كان يلحقه ضرر لكن هذا الضرر الخاص من أجل المصلحة العامة.

المثال الثالث: قال العلماء: لو تَتَرَّس الكفار بمسلمين فاحتجنا إلى أن نرمي الكفار وأدّى ذلك إلى قتل المسلمين، فهنا ضرر خاص لحقهم لكنه يُتحمَّل للضرر العام.

المثال الرابع: الساحر يُقتل؛ لأنه يفتن الناس، فيتحمل الضرر الخاص بقتله ويدفع الضرر الأعم للأمة، وهذه القاعدة كما يحتاجها الفقيه أيضًا يحتاجها غيره: كالقاضي، والمعلم، والمربي، والداعية إلى الله عز وجل، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وكذلك الوالد مع أولاده، والمدير مع موظفيه.

‌القاعدة الثالثة: [الضرر لا يزال بالضرر]،

وإزالة الضرر له ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن لا يترتب على الإزالة ضررًا مطلقًا وحينئذٍ يجب إزالته بالكلية.

الحال الثانية: أن يترتب على إزالة الضرر ضرر أخف فيرتكب الضرر الأخف من أجل دفع الأعظم.

الحال الثالثة: أن يترتب على إزالة الضرر ضرر أعظم من الضرر المزال، أو مساوٍ له فهذا هو معنى هذه القاعدة [فلا يزال الضرر بضرر

ص: 57

مثله أو أشد منه].

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: رجل جائع ليس معه ما يسد رَمقَه أي: ما يمسك حياته، وآخر جائع معه ما يسد رمقه، معه خبز فنقول: الضرر لا يزال بالضرر فكون هذا المضطر يأخذ الخبزة من الآخر فهذا أزال ضرره بضرر غيره فليس له ذلك.

المثال الثاني: لو أن شخصًا أُكره على القتل، قيل له: إما أن تَقتل زيدًا وإلا قتلتك فكونه يزيل الضرر عنه بقتل زيد ليس له ذلك.

‌القاعدة الرابعة: [الضرر يزال بقدر الإمكان]

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: لو أن هناك مالًا ليتيم وجاء ظالم ليأخذه فلا بأس لولي اليتيم أن يدفع من مال اليتيم ما يدفع به أخذ المال كله إذا كان يندفع بكذا وكذا لا يُزاد على ذلك

إلخ.

المثال الثاني: الحَجْر على السفيه لدفع سوء تصرفاته المالية، يحجر عليه فيما يتعلق بالمال دون غيره من بقية التصرفات.

‌القاعدة الخامسة: [الضرر اليسير يُحتمل في العقود]

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: العيب اليسير عُرفًا عند التجار يُحتمل في العقود فلو أنك اشتريت سلعة ووجدت فيها عيبًا يسيرًا فهذا ضرر يسير في العقود فيحتمل.

المثال الثاني: لو اشتريت سلعة وحصل لك غبن يسير يتغابن فيه الناس

إلخ فإن هذا يحتمل في العقود.

ومثل ذلك: أساسات الحيطان لا يشترط العلم بها.

‌القاعدة السادسة: [الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف]

مثّل العلماء رحمهم الله: بنفقة الأولاد، والزوجة

إلخ فيجبر الأب على أن ينفق على أولاده والزوج على زوجته

إلخ.

ص: 58

‌القاعدة السابعة: [الاضطرار لا يبطل حق الغير]

فإذا اضطر الإنسان إلى عين مال الغير كما لو اضطر إلى طعامه إلى أكله فيجب عليه ضمانه.

وعند شيخ الإسلام لا يجب الضمان إلا مع الغنى، وأما إذا اضطر إلى نفع مال الغير كما لو اضطر إلى ثوب الغير ليتقي به البرد، أو الحر ونحو ذلك فلا يجب الضمان.

‌13 - وكُلُّ ما كَلَّفَهُ قدْ يُسِّرَا

من أَصْلِهِ وعِندَ عارضٍ طَرَا

قوله: [كلفه]: التكليف بالأمر فرضه على من يستطيع القيام به.

قوله: [طرا]: طرأ طرءًا وطروءًا حدث وخرج فجأة فهو طارئ.

هنا أشار الشيخ رحمه الله إلى أن التكاليف الشرعية ولله الحمد قد دخلها التيسير، ودخول التيسير في الأوامر الشرعية من وجهين: -

الوجه الأول: من حيث الأصل: فالأصل في التكاليف الشرعية أنها مبنية على التيسير، والتسهيل، والدليل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» .

(1)

فالوضوء، والغسل، والصلاة، والصيام، والزكاة كلها مبنية على التيسير، فالآصار والأغلال هذه كانت على الأمم قبلنا، أما هذه الأمة فالأصل في الشريعة أنها مبنية على التيسير.

الوجه الثاني: من حيث العارض؛ فقد يعرض لهذه التكاليف الشرعية المبنية على التيسير أسباب؛ فيدخلها التيسير مرة أخرى ولهذا قال الشيخ رحمه الله: [وعند عارض طرا].

(1)

أخرجه البخاري رقم (39)، ومسلم رقم (2816)

ص: 59

وهذه هي القاعدة الثانية الكلية من القواعد الخمس وهي قاعدة: [المشقة تجلب التيسير].

وهذه القاعدة يُعبّر عنها أيضًا بلفظ آخر: [إذا ضاق الأمر اتسع].

ودليل هذه القاعدة: ما تقدم من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وما رواه أحمد في مسنده وغيره مرفوعًا «إنما بعثت بالحنيفية السمحة»

(1)

وأما الإجماع: فحكاه غير واحد كالشاطبي في «موافقاته» .

والمشقة قسّمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:

القسم الأول: مشقة معتادة: فهذه يُكلِّف بها الشارع فالإنسان يعتاد أن يتحملها، فكون الإنسان يُصلي الصلوات الخمس هذه مشقة لكنها معتادة، وكونه يصوم شهر رمضان ويزكي هذا الجزء من ماله هذه مشقة لكنها معتادة.

القسم الثاني: مشقة خارجة على العادة: فهذه لا يُكلِّف بها الشارع.

مثال ذلك: إطالة السهر في القيام، وإطالة الصوم في النهار، وإخراج كل المال في الزكاة، أو نصف المال، أو ربعه

إلخ هذه لا يُكلِّف بها الشارع.

والمشقة يقسمها الفقهاء كما نص على ذلك ابن نُجيم الحنفي في (الأشباه والنظائر) إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مشقة تخرج الفعل عن طاقة العبد وقدرته، (كإخراج المال كله في الزكاة).

(1)

هذا الخبر بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 170) وسنده ضعيف وآفته عُفير بن معدان وهو ضعيف، ورواه أحمد في مسنده (6/ 116) ولفظه «إني أرسلت بحنيفية سمحة» ورجاله ثقات حفاظ.

ص: 60

القسم الثاني: مشقة خفيفة لا تخرج الفعل عن طاقة العبد وقدرته (كأدنى مرض).

القسم الثالث: مشقة يتنازعها القسمان السابقان فقد تصل إلى رتبة الأول وقد تنزل إلى رتبة القسم الثاني، وإنما جاءت الرخصة مع هذا النوع من المشاق لسببين اثنين كما قال الشاطبي رحمه الله في (الموافقات):

الأول: لحفظ جوارح العبد، ونفسه، وماله، وما إلى ذلك حتى لا ينقطع عن العبادة ويكره التعبد لله.

الثاني: حتى لا يصيب العبد انقطاع عن العبادة عند تزاحم الأعمال التعبدية ويصيبه الكسل والملل.

واعلم أن المشقة من حيث مجيئها وأحكامها ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مشقة لا تعلق للعبد وفعله بمجيئها مثل المصائب، والابتلاءات كالأمراض

إلخ.

القسم الثاني: مشقة للعبد تعلق بمجيئها وقد يأتي الفعل بدونها فهذه غير مطلوبة شرعًا من المكلف مثل ما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صنيع أبي إسرائيل من كونه «نذر أن لا يستظل، وأن لا يفطر، وأن لا يقعد، وأن لا يتكلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستظل، ويقعد، ويتكلم وأن يستمر في صيامه»

(1)

فهذه جلبها العبد على نفسه.

القسم الثالث: ما كانت مصاحبة للفعل وهي نوعان:

الأول: مشقة اعتيادية. الثاني: مشقة زائدة.

قوله: [وعند عارض طرا]: ما هو هذا العارض؟ هذا العارض يُعبِّر عنه العلماء رحمهم الله بقولهم: [أسباب التخفيف].

والتخفيف في الشريعة له أسباب:

(1)

أخرجه البخاري رقم (6704).

ص: 61

السبب الأول: النسيان، وسيأتينا في كلام الشيخ رحمه الله فنؤجل الكلام على هذا السبب إلى أن يرد في كلام الشيخ رحمه الله.

(1)

مثال ذلك: لو أن الإنسان نسي وصلى وعليه نجاسة فنقول: هذا النسيان من أسباب التخفيف فصلاته صحيحة. ولو نسي وأكل وهو صائم، فإن هذا من أسباب التخفيف فصيامه صحيح، ولو نسي وصلى وهو محدث، فإن هذا من أسباب التخفيف لا إثم عليه لكن يجب عليه أن يعيد الصلاة.

السبب الثاني: الخطأ، وسيأتي إن شاء الله وسيتكلم عليه المؤلف رحمه الله مع النسيان.

(2)

السبب الثالث: المرض.

المرض في اللغة: هو السَّقَم، واعتلال الصحة.

وأما في الاصطلاح: فهو كل ما يكون معه حرج ومشقة حال فعل المأمور.

ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إذا كان الإنسان يلحقه حرج ومشقة ظاهرة إذا لم يفطر وهو مريض، فهذا من أسباب التخفيف.

المثال الثاني: إذا كان المريض يلحقه مشقة ظاهرة إذا لم يجمع، أو لم يتيمم، فهذا من أسباب التخفيف، فله الجمع والتيمم، وكذا إذا لحقه حرج ومشقة إذا صلى قائماً أو راكعاً أو ساجداً، فإنه يجلس ويؤمئ بالركوع والسجود.

والدليل على أن المرض من أسباب التخفيف:

(1)

انظر البيت رقم (55).

(2)

انظر البيت رقم (55).

ص: 62

1 -

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 184.

2 -

وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما شكى له أن به بواسير: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"

(1)

.

السبب الرابع: السفر:

السفر في اللغة: قطع المسافة.

وأما في الاصطلاح: فهو الخروج من الوطن على قصد السفر عرفاً.

والدليل على أن السفر من أسباب التخفيف:

1 -

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 184.

2 -

فعل النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه إذا سافر قصر وجمع، فدل على أنه من أسباب التخفيف.

مسألة: ذكر العلماء رحمهم الله شروطاً للسفر الذي يكون من أسباب التخفيف؛ إذْ ليس كل سفر يكون سبباً للتخفيف، وهذه الشروط على سبيل الإجمال:

الشرط الأول: المسافة، فهل يشترط للسفر مسافة معينة أو لا يُشترط؟ هذا موضع خلاف:

جمهور أهل العلم رحمهم الله: أن مسافة القصر: مسيرة يومين، تساوي 48 ميلا، والميل يساوي كيلو وستين متر، تساوي 77. 72 كيلو مترا، وقيل: تساوي 77. 238 كيلو مترا وستة أسباع المتر.

وعند الحنفية: مسيرة ثلاثة أيام.

(1)

رواه البخاري (1117).

ص: 63

وعند داود الظاهري: يقصر في طويل السفر وقصيره.

والأقرب: ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله، لما ثبت أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما:"كانا يقصران ويفطران في أربعة برد" علقه البخاري بصيغة الجزم.

الشرط الثاني: أن لا يكون سفراً محرماً، فمتى كان سفراً محرماً فلا يجوز له أن يترخص فيه برخص السفر، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

واستدلوا: بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} البقرة: 173.

قالوا: الباغي: هو الذي يخرج على الإمام، والعادي: هو قاطع الطريق، وهذا يكون في السفر.

الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة، وشيخ الإسلام -رحمهما الله-: أن هذا ليس شرطاً؛ لعمومات الأدلة، وهذا هو الأقرب، فيترخص الإنسان في جنس السفر، حتى في السفر المحرم يجمع ويقصر ويمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الآية: "إن الباغي: هو الذي يَبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: هو الذي يتجاوز قدر الحاجة".

الشرط الثالث: الخروج من البلد، فليس له أن يترخص داخل البلد، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 184، ولم يقل الله عز وجل: أو على نية السفر، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترخص حتى خرج من البلد.

الشرط الرابع: المدة، فهل للسفر الذي يُترخص فيه مدة محددة أو ليس له مدة محددة؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:

الرأي الأول: رأي الحنابلة رحمهم الله: أن مدة السفر الذي

ص: 64

يترخص فيه أربعة أيام، فإذا أراد أن يقيم أكثر من أربعة أيام ووصل البلد فليس له أن يترخص.

الرأي الثاني: رأي المالكية والشافعية-رحمهم الله: إذا نوى إقامة ثلاثة أيام قصر، وأكثر يتم.

الرأي الثالث: رأي الحنفية رحمهم الله: إذا نوى خمسة عشر يوماً فأكثر أتم، وأقل يقصر.

والصواب في ذلك: أنه ليس له حد، لكن إذا أطال الإنسان الإقامة وتشبه بالمقيمين بطول الإقامة فإنه لا يترخص، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما حده بتسعة عشر يوماً، وهي أعلى مدة قصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيصار إليها.

السبب الخامس: الجهل: من أسباب التخفيف وسيأتي إن شاء الله في كلام الناظم رحمه الله عند قوله: والشرع لا يلزم قبل العلم.

(1)

السبب السادس: الإكراه.

الإكراه: من الكَرْه بالفتح وهو المشقة، قاله الفرَّاء.

وقيل: من الكُرْه، قال ابن منظور في (اللسان):"أَجمع كثير من أَهل اللغة أَنْ الكَرْهَ والكُرْهَ لُغتانِ، فبأَيِّ لغة وقع فجائِزٌ، إلا الفراء فإنه زعم أَنْ الكُرْهَ ما أَكْرهْتَ نَفْسَك عليه، والكَرْه ما أَكْرَهَكَ غيرُكَ عليه".

والإكراه: هو حمل الغير على أمر لا يرضاه لو خُلِّي ونفسه.

الدليل على أن الإكراه من أسباب لتخفيف:

1 -

قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النحل: 106.

2 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي

(1)

انظر ص (208).

ص: 65

عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"

(1)

.

3 -

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق"

(2)

، أي: إكراه.

والحديثان فيهما ضعف.

مسألة: اشترط العلماء رحمهم الله في الإكراه الذي يكون سببا للتخفيف شروطاً:

الشرط الأول: أن يكون المُكرِه قادراً على إيقاع ما هدد به، والمُكرَه ليس قادراً على دفعه.

الشرط الثاني: أن يكون الإكراه عاجلاً ليس آجلاً.

مثال ذلك: لو قال له رجل: طلق زوجتك وإلا قتلتك بعد سنة، فإنه لا يكون إكراهاً معتبراً.

الشرط الثالث: أن يكون ما يُكَره عليه يشق تحمله.

الشرط الرابع: أن يظن المكرَه أن المكرِه سيوقع ما هدد به؛ لأن ذلك لا يخلو من ثلاث حالات:

1 -

أن يعلم أنه سيوقع ما هدد به: فيكون سبباً للتخفيف.

2 -

أن يظن أنه سيوقع ما هدد به: فهنا أيضاً يكون سبباً للتخفيف.

3 -

أن يشك أو يظن أنه لن يوقع ما هدد به: فهذا لا يكون سبباً للتخفيف.

الشرط الخامس: أن يكون الإكراه بغير حق، فإن كان بحق فلا يكون سبباً للتخفيف.

مسألة: الأصل أن الإكراه سبب للتخفيف في الإثم والضمان، لكن قد

(1)

سبق تخريجه ص (86).

(2)

رواه أبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، وحكم على ضعفه: الإمام أبو حاتم كما في العلل لابنه (1300)، كما حكم بضعفه: ابن عبد الحق في الأحكام الوسطى (3/ 200)، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 251).

ص: 66

لا يكون سبباً في التخفيف كما في مسألة القتل، ونحوها.

مثال ما كان الإكراه سبباً للتخفيف:

في العبادات: إذا أُكره على الإفطار في رمضان فلا يبطل صومه، أو أُكره أن يأكل في الصلاة، فإن صلاته لا تبطل.

وكذلك في المعاملات: فلو أُكره على البيع أو الشراء، أو أُكره في النكاح على الطلاق، فكل ذلك لا يقع.

وقد لا يكون الإكراه سبباً للتخفيف: كما لو أُكره على قتل إنسان، فليس له أن يقتله.

مسألة: ينقسم الإكراه إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون في حقوق الله:

أ - من حيث الحكم التكليفي: فإنه لا يأثم؛ لما تقدم من الأدلة.

ب - من حيث الحكم الوضعي - الضمان-: فإن كان من باب الأوامر: فإنه يعيد؛ لأنه يمكنه أن يستدرك، فلو أكره على أن يصلي بلا وضوء، فلا إثم عليه لكن يعيد الصلاة.

وأما إن كان من باب النواهي: فإنه يعذر، فلو أُكره على أن يتكلم في الصلاة، أو يأكل وهو صائم، فإنه معذور في هذه الحال، فلا يعيد.

القسم الثاني: أن يكون في حقوق المخلوقين:

أ - من حيث الحكم التكليفي: فلا يأثم، كما تقدم.

ب - من حيث الحكم الوضعي -الضمان-: فإنه يوجب الضمان، لكن يكون تارة على المُكرِه فقط، وتارة يكون على المُكرِه والمُكرَه معاً.

فالأصل: أن الضمان يكون على المكرِه، كما لو أَكرَه زيدٌ عمراً على إتلاف مال صالح، فالضمان على زيد.

وقد يكون الضمان عليهما جميعاً، كما لو أَكرَه زيدٌ عمراً على القتل، فالقصاص عليهما جميعا، فالمكرِه متسبب، والمُكرَه مباشر، وليست

ص: 67

نفسه أولى بالبقاء من نفس المقتول.

*مسألة: الإكراه يكون في الأقوال كما يكون في الأفعال غير أنها لا تنفذ بالإكراه، فمن أكره على الكفر لا يكفر بنطقه، ومن أكره على البيع لا ينعقد بيعه، ومن أكره على الطلاق لا ينفذ طلاقه وهكذا، ولذلك قالوا:" قول المكره بغير حق ملغى".

قال ابن رجب رحمه الله: (وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته، وأن من أكره على قول محرم إكراهاً معتبراً أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه، وقد دل عليه قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]).

ولما عدد المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نواقض الإسلام التي يخرج بفعلها أو قولها من الإسلام استثنى المكره.

السبب السابع: النقص.

والنقص ذكر العلماء رحمهم الله له أنواعاً:

النوع الأول: الجنون:

والجنون: فقدٌ للعقل يصحبه اضطراب وهيجان أحياناً.

والقاعدة في المجنون من حيث التخفيف:

1 -

العبادات البدنية المحضة: فلا تجب عليه، ولا تصح منه كالصلاة والصيام ونحو ذلك.

2 -

العبادات المركبة من المال والبدن: لا تجب عليه ولا تصح منه، كالجهاد، والحج، والعمرة، والكفارات.

3 -

العبادات المالية: كالزكاة تجب في ماله.

4 -

الحقوق المالية المحضة: كالنفقات، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات، تجب في ماله، فلا يكون الجنون هنا سبباً للتخفيف، إلا إذا بلغ أرش الجناية ثلث الدية فعلى العاقلة، وأقل من الثلث في ماله.

ص: 68

5 -

ما يتعلق بعقوده وفسوخه: فلا تصح منه.

6 -

ما يتعلق بجناياته وحدوده: فالجنون سبب للتخفيف، فلا يقتص منه، ولا يقام عليه حد، لكن ما يتعلق بأرش جنايته تقدم الكلام عليها.

النوع الثاني من أنواع النقص: العَتَه.

والفرق بين العته والجنون؛ أن الجنون: فقد للعقل يصحبه اضطراب وهيجان أحياناً.

وأما العته: فهو نقص في العقل يصحبه خمول وكسل وسكون.

والقاعدة: أن العته بالنسبة للتخفيف ينقسم قسمين:

القسم الأول: عته ليس معه إدراك، فهذا حكمه حكم المجنون، وقد تقدم حكمه.

القسم الثاني: عته معه إدراك، فهذا حكمه حكم الصبي المميز، ويأتي حكمه.

النوع الثالث من أنواع النقص: الأنوثة.

الأنوثة قد تكون سبباً للتخفيف، فيسقط عنها من التكاليف ما لا يسقط عن الذكر.

والقاعدة: [أن الأصل تساوي الذكور والإناث في التكاليف إلا ما دل الدليل عليه].

فالأنثى لا تجب عليها صلاة الجماعة، ولا الجمعة، ولا الجهاد، ولا الأذان، ولا الإقامة؛ لدلالة الدليل على ذلك، فهو سبب للتخفيف، وإلا فالأصل التساوي في الأحكام، فيجب على الأنثى ما يجب على الذكر من عبادات، وتكاليف، كالصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، ويحرم عليها ما يحرم على الذكر من محرمات كالزنى، وشرب الخمر، والسرقة وغير ذلك، ويصح منها ما يصح من الذكر من عقود كالبيع، والاجارة، والوقف، وغير ذلك.

ص: 69

ودليل ذلك:

1 -

عموم الأدلة من القرآن والسنة، فهي شاملة للذكور والإناث.

2 -

الإجماع على ذلك.

النوع الرابع من أنواع النقص: الرِّق.

والرق في اللغة: العبودية.

وفي الاصطلاح: عجز حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر بالله عز وجل.

والقاعدة: أن التكاليف الشرعية بالنسبة للرقيق تنقسم إلى أقسام:

1 -

العبادات البدنية المحضة: فحكمه التساوي مع الحُر، فالصلاة، والصيام ونحو ذلك يجبان على الحر والرقيق، وكذا الكفارات البدنية كالصيام.

والصواب: حتى صلاة الجماعة، والجمعة تجبان على الرقيق.

2 -

العبادات المالية المحضة: فلا تجب على الرقيق، كالزكاة، والكفارات المالية كالعتق والإطعام والكسوة، ونحوها.

3 -

العبادات المركبة من المال والبدن: فلا تجب على الرقيق، كالحج والعمرة والجهاد.

4 -

الحقوق المالية: كأروش الجنايات وقيم المتلفات وغيرها، قال السعدي رحمه الله: (وقسّموا ما يتعلق بالرقيق من ضمانات الأموال إلى أربعة أقسام:

قسم يتعلق بذمة سيده قليله وكثيره، وهو ما أذن له فيه.

وقسم يتعلق برقبة العبد وهو جناياته وإتلافاته فيخيّر سيده بين فدائه بالأقل من قيمته أو أرش الجناية والإتلاف، أو يسلمه للمجني عليه.

وقسم يتعلق أيضاً برقبته على المشهور، وهو تصرفاته التي يلزم فيها مال - مثل: زواجه بلا إذن سيده، فإنه يلزم منه المهر-، وعلى القول الصحيح: هذا القسم يتعلق بذمته.

القسم الرابع: ديون العبد التي بلا إذن السيد، فتتعلق بذمته قولاً

ص: 70

واحداً يتبع بها بعد عتقه، والله أعلم).

5 -

عقوده وفسوخه: من البيع والإجارة والنكاح ونحو ذلك، فتصرفات الرقيق كلها غير صحيحة وباطلة إلا مع الإذن، لكن يقع طلاقه.

وهل يملك بالتمليك سواء كان التمليك من السيد أو غيره؟ فيه خلاف.

6 -

ما يتعلق بجناياته وحدوده: فالرق ليس سبباً للتخفيف، فتقام عليه الحدود والقصاص في العمد، إلا ما ورد من تنصيف الحد في حقه.

وفي غير العمد: تقدم ما يتعلق بأروش الجنايات.

النوع الخامس من أنواع النقص: النوم والإغماء.

فالنوم والإغماء من أسباب التخفيف، ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ"

(1)

، والمغمى عليه أشد من النائم.

والتخفيف عن النائم والمغمى عليه ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما يتعلق بالإثم: فلا يأثم عند ترك المأمور وفعل المحظور، لكن يجب عليه تدارك المأمور الذي يجب عليه تداركه.

فالمغمى عليه إذا كان الإغماء بغير اختياره، فإنه لا يجب عليه قضاء الصلاة إلا إذا أفاق فيها أو أغمي عليه في وقتها ولم يصلها، أو أغمي عليه باختياره، وإذا نام الإنسان عن الصلاة لا يأثم لكن يجب عليه القضاء.

القسم الثاني: ما يتعلق بأقوالهما: لا يترتب عليها أثر، فلا تنعقد عقودهما مثلا كعقود المعاملات، والتبرعات، والأنكحة، والفسوخ ونحوها فلا تنعقد من النائم، والمغمى عليه.

(1)

رواه أبو داود (4401)، والنسائي (7343).

ص: 71

من أمثلة ذلك: إذا باع أو اشترى وهو نائم فلا يصح، أو طلق وهو نائم فلا يقع.

وكذلك إذا باع أو اشترى وهو مغمى عليه فلا يصح منه، أو طلق زوجته فلا يقع عليها.

القسم الثالث: ما يتعلق بأفعالهما:

أما يتعلق بحقوق المخلوقين: فيضمنان، فلو أتلفا مالاً لمخلوق ضمنا، لما تقدم من الأدلة على ضمان أموال المخلوقين.

وأما ما يتعلق بحقوق الله: فلا ضمان عليهما، فلو شربا خمراً، أو أتلفا صيداً في الحرم فلا ضمان عليهما، ولا حد.

النوع السادس من أنواع النقص: الصغر.

فالصغير يخفف عنه، والأوامر بالنسبة إلى الصغير تنقسم إلى أقسام:

1 -

العبادات البدنية المحضة: كالصلاة، والصيام، والوضوء، والغسل لا تجب عليه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "رفع القلم عن ثلاثة

"، وتصح منه إذا ميّز، وأجرها له، ولوليه أجر، لقوله تعالى:(من عمل صالحا فلنفسه).

2 -

العبادات المركبة من المال والبدن: كالحج، والعمرة، والجهاد، لا تجب عليه ويصح منه الحج والعمرة مطلقاً ولو كان غير مميز، وله أجره، ولوليه أجر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رفعت إليه صبيا فقالت: ألهذا حج؟، قال: نعم ولك أجر) رواه مسلم.

3 -

العبادات المالية المحضة: كالزكاة، فتجب عليه، ولو كان غير مميز.

4 -

الحقوق المالية: كقيم المتلفات، وأروش الجنايات، والنفقات، فتجب عليه مطلقا في ماله، إلا ما يتعلق بأروش الجنايات إذا بلغت ثلث الدية فتجب على عاقلته.

ص: 72

5 -

عقوده وفسوخه: لا تصح منه، إلا أنه يستثنى من عقوده ما يلي:

أ- الأمور اليسيرة عرفا، فتصح.

ب - ما كان مصلحة محضة، كقبول الهبة والوقف ونحو ذلك، فتصح.

ج- إذا كان القصد اختباره عند تسليم ماله إليه، فلا بأس أن يؤذن له في بعض التصرفات لينظر رشده.

6 -

الحدود والجنايات: لا تجب عليه، لكن ما يتعلق بأروش الجنايات تقدم الكلام عليه.

السبب الثامن من أسباب التخفيف: العسر وعموم البلوى.

وهو شيوع البلاء بحيث يصعب على المرء التخلص أو الابتعاد، كطهارة فم الهرة وسؤرها لكثرة تطوافها.

مسألة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل

(1)

حتى تتفطر قدماه ويقرأ

(2)

بالبقرة، وآل عمران، والنساء، قال بعض أهل العلم: إنه عليه الصلاة والسلام ارتاحت نفسه إلى العبادة أما غيره من الناس فليس مثله. وأيضًا ما جاء عن بعض السلف لعلهم ارتاحت نفوسهم إلى هذه فأحبوها، ولا يوجد في أحكام الشريعة ما هو شاق أو ما لا يستطاع فعله بالنسبة للمكلفين بل إن العباد يطيقون أكثر مما كلفوا به وهذا موضع إجماع الأمة.

• • •

‌14 - فاجْلِبْ لتيسيرٍ بِكُلِّ ذِي شَطَطْ

فليسَ فِي الدِّين الحَنيفِ مِنْ شَطَطْ

هذا البيت تابع للقاعدة السابقة.

قوله: [شطط]: يعني مشقة يُقال شَطَّ في القول شَطَطًا وشُطُوطًا أغلظ فيه، فإذا حصلت المشقة فإنه يُجلب التيسير ويؤتى به.

قوله [الدين الحنيف]: أي المائل عن الشرك. ولا شك أن الدين قائم

(1)

قيام النبي صلى الله عليه وسلم جاء في البخاري رقم (4837)، ومسلم رقم (2820).

(2)

وقراءته صلى الله عليه وسلم ثبتت في صحيح مسلم رقم (772).

ص: 73

على التوحيد في أقسامه الثلاثة

(1)

، مائل عن الشرك بأنواعه.

(1)

أقسام التوحيد الثلاثة هي:

1 -

توحيد الربوبية: وهو إفراد الله بما يختص به من الملك، والتدبير، والخلق.

2 -

توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة.

3 -

توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بما يختص به من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.

ص: 74

‌15 - وما استطعتَ افعَلْ مِنَ المأمُورِ

واجْتَنِبِ الكُلَّ مِنَ المحظورِ

أي أن المأمور يجب عليك أن تفعل ما استطعت منه.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .

(1)

وحديث عمران رضي الله عنه السابق قال صلى الله عليه وسلم: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»

(2)

الأصل في المأمور أنك تأتي به كله، فإذا لم تستطع أن تأتي به كله فتأتي بما استطعت منه؛ إذْ المأمور شرع من أجل تحصيل المصلحة فإذا لم تتمكن من جميعها حصل ما تستطيع منها. ويدخل تحت هذه القاعدة فروع كثيرة من ذلك: الصلاة يصلي المسلم قائمًا فإذا لم يستطع أن يصلي قائمًا يصلي جالسًا ويؤميء بالركوع والسجود

إلخ.

وفي زكاة الفطر يجب أن يؤدي المسلم صاعًا، فإذا لم يجد إلا نصف صاع فإنه يؤديه، وكذلك الحج الأصل أن الإنسان يحج بماله وبدنه، فإذا لم يستطع أن يحج بماله وبدنه فإنه ينيب من يحج عنه.

مسألة: إذا قدر على بعض المأمور وعجز عن بعضه، فتحته أقسام:

الأول: أن يكون المقدور عليه وسيلة محضة؛ فلا يجب الإتيان به.

مثاله: لو قدر على الذهاب إلى المسجد، لكن عجز عن الصلاة مع الجماعة.

الثاني: أن يكون المقدور عليه عبادة لو انفرد؛ فيجب الإتيان به.

مثاله: لو قدر على نصف صاع من زكاة الفطر، وجب عليه أن يخرجه.

الثالث: أن يكون غير عبادة لو انفرد، فلا يجب الإتيان به.

مثاله: لو قدر على الصيام إلى نصف النهار فلا يجب عليه الصيام.

قوله: [واجتنب الكل من المحظور]: يعني المنهي عنه.

ويدل لذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»

(3)

إذا نهى الشارع عن شيء يجب

(1)

تقدم تخريجه ص (65).

(2)

تقدم تخريجه ص (74).

(3)

تقدم تخريجه ص (65).

ص: 75

على الإنسان أن يجتنبه ويجتنب كل طرقه ووسائله.

مثال ذلك: نهى الشارع عن الزنا، فيجب أن ينتهي عنه، وعن كل الطرق الموصلة إليه؛ لأن الترك أسهل من الفعل، ولأن الإنسان لو فعل شيئًا من هذا المحظور فإنه يكون قد أدّى شيئًا من المفسدة؛ لأن المحظور نهى عنه للمفسدة المترتبة عليه.

• • •

ص: 76

‌16 - والشرعُ لا يَلزمُ قبلَ العِلمِ

دَليلُهُ فِعلُ المسِي فَافْتَهِمِ

هذا كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (إن الشرائع لا تلزم قبل العلم) ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

ومن السنة ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: [فعل المسيء فافتهم] وفعل المسيء هذا أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في المسجد فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصل» ثلاثًا قال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» .

(1)

وجه الدلالة: أن الأعرابي أخل بالطمأنينة ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة السابقة، وإنما أمره بإعادة الصلاة الحاضرة فهذا دليل على أن الجاهل يعذر بالجهل وأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم.

ومن الأدلة على هذه القاعدة: قصة المستحاضة

(2)

التي سألته عن تركها للصلاة ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة ما سبق من الصلوات، مع أنها ظنت أن هذا الدم حيض وتركت الصلاة.

• • •

‌17 - لكنْ إذا فَرَّطَ في التَّعلُّمِ

فَذَا مَحَلُّ نَظرٍ فَلْتَعْلَمِ

الأصل كما مشى عليه الناظم رحمه الله أنه يُعذر بالجهل وتقدم دليل ذلك

(1)

أخرجه البخاري رقم (757)، ومسلم رقم (397).

(2)

أخرجه البخاري رقم (325) ومسلم رقم (333).

ص: 77

من الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك ذكر الناظم رحمه الله أن الإنسان إذا فرط في التعلم فإنه لا يعذر، وعلى هذا نقول‌

‌ العذر بالجهل ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن يكون حديث عهد بإسلام فهذا يعذر بالجهل فإذا أسلم حديثًا، ثم شرب الخمر، أو لعب الميسر ونحو ذلك فإنه يُعذر بالجهل.

القسم الثاني: أن يكون ناشئًا ببادية بعيدة عن حواضر المسلمين بحيث لا يسمع من العلماء

إلخ فهذا يُعذر بالجهل.

ودليل ذلك: ما تقدم من حديث المسيء صلاته

(1)

؛ لأنه أعرابي ناشيء في البادية فَعذَره النبي صلى الله عليه وسلم.

القسم الثالث: أن يكون ناشئًا ببلاد الكفار قال العلماء: إنه يُعذر بالجهل إلحاقًا له بالناشيء في البادية.

القسم الرابع: ما يَدِقُّ ويغمض من المسائل التي لا يعلمها إلا أهل العلم، فإن العامي يعذر فيها.

القسم الخامس: إذا كان الإنسان مقيمًا في المدن ولم تقم عنده شبهة بأن هذا محرم، أو أن هذا شرك ونحو ذلك فإنه يُعذر أما إن قامت عنده شبهة وأَمْكَنه التعليم ولم يتعلم فإنه لا يعذر وهذا القسم هو الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: [لكن إذا فرط في التعلم

فذا محل نظر فلتعلم].

فإذا توفر عنده أمران:

الأمر الأول: قيام الشبهة.

الأمر الثاني: تمكنه من التعليم بحيث يمكنه أن يسأل العلماء عن هذا الحكم ولم يفعل فإنه لا عذر له، لكونه مفرطًا أما إن كانت الشبهة لم تقم عنده أو قامت عنده ولم يتمكن من السؤال بحيث لم يجد عالمًا يسأله

إلخ فإنه يعذر حينئذٍ لعدم تفريطه.

ويأتي أيضًا عند قول المؤلف: والإثم والضمان يسقطان بالجهل

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 78

والإكراه والنسيان

(1)

• • •

(1)

انظر ص (134)

ص: 79

‌18 - وكُلَّ ممنوعٍ فَللضَّرورَةِ

يُباحُ والمكْرُوهُ عِنْدَ الحَاجةِ

هذه قاعدة:

[أن الضرورات تبيح المحظورات]: المحظورات: هي المحرمات والأصل أن هذه المحرمات لا تبيحها إلا الضرورات، والمكروهات تبيحها الحاجات.

قال بعض العلماء: إلا ما كان تحريمه تحريم وسائل فإن الحاجة أيضًا تبيحه ويأتي قوله:

وكُلَّ ممنوعٍ فَللضَّرورَةِ

يُباحُ والمكْرُوهُ عِنْدَ الحَاجةِ

الدليل على أن الضرورات تبيح المحظورات قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].

لكن يشترط لذلك شروط:

الشرط الأول: أن تكون الضرورة واقعة فإن كانت منتظرة فإن المحرم لا يباح.

مثال ذلك: إنسان وقع في مخمصة وهي شدة الجوع فإن له أن يأكل من الميتة، أما إذا لم يصبه الجوع، وإنما يخشاه فليس له أن يأكل منها.

الشرط الثاني: أن لا يكون هناك وسيلة أخرى غير المحرم، فإن كان هناك وسيلة مباحة فإنه لا يجوز؛ ولهذا قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} .

الباغي: هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال.

الشرط الثالث: أن يكون الأخذ من المحرم بقدره وعبَّر عنه بعض العلماء بقوله: [أن يكون زمن الإباحة مقيدًا بزمن بقاء العذر]، وعبّر عنه بعض العلماء بقوله:[الضرورة تُقَدَّر بقَدْرِها] فيأخذ من المحرّم ما يسد رمقه.

والدليل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} والباغي والعادي تقدم تعريفهما.

(1)

(1)

انظر ص (65).

ص: 80

مثال ذلك: نظر الطبيب للمريضة، أو لعورة المريض للضرورة لا يبيح النظر مطلقًا بل القدر الذي تندفع به الضرورة.

الشرط الرابع: أن تندفع الضرورة بهذا المحرم، فإذا لم تندفع به فإنه لا يجوز، وإذا شككنا هل تندفع الضرورة بهذا المحرم أو لا؟ فالأصل عدم الحل؛ لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة واندفاع الضرورة مشكوك فيه، واليقين مُقدم على الشك.

الشرط الخامس: أن يكون المحظور أنقص من الضرورة.

مثاله: إذا أجبر إنسان وهُدِّد على أن يقتل إنسانًا، قيل له: اقتل هذا الرجل وإلا قتلناك ففي هذه الحال لا يجوز أن يقتله؛ لأن هذا المحظور ليس أنقص بل مساوٍ.

قال الشيخ السعدي رحمه الله في منظومته:

وكل محظور مع الضرورة

بقدر ما تحتاجه الضرورة

(1)

قوله: [والمكروه عند الحاجة]:‌

‌ الفرق بين الضرورة والحاجة:

أن الضرورة: ما يضطره الإنسان للمحافظة على نفسه، أو منافعه، أو أطرافه.

وقيل: الضرورة: حالة تطرأ يخاف معها فوت شيء من مصالح الدين أو الدنيا، بحيث لا تندفع إلا بارتكاب محرم، أو ترك واجب.

والحاجة: ما يلحق الحرج والمشقة بعدمها.

يعني المكروه تبيحه الحاجة، فالمكروه أخف من المحرم، فإذا احتاج الإنسان إلى هذا المكروه فإنه يباح.

مثال ذلك: أكل البصل والثوم مكروه لكن إذا احتاج إلى الأكل منهما، وإن لم يكن مضطرًا فإنه لايكره حتى وإن كان هناك شيء آخر يستطيع أن

(1)

منظومة القواعد الفقهية، للسعدي، البيت رقم (17).

ص: 81

يدفع به غير الثوم أو البصل.

مثال آخر: سفر الإنسان وحده هذا مكروه، لكن قد يحتاج إلى السفر وحده ولا يضطر فيباح، وكذلك الالتفات في الصلاة مكروه لكن الحاجة تبيحه، فإذا احتاج الإنسان أن يبصق فإنه يلتفت ويتفل عن يساره.

• • •

‌19 - لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ

يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ

قوله رحمه الله: [لكن ما حرم للذريعة يجوز للحاجة كالعرية] قلنا: إن المحرم لا يباح إلا عند الضرورة، ويُستثنى من ذلك ما كان تحريمه من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد فإن الحاجة تبيحه.

ومعنى الحاجة: هي الحالة التي يصل فيها الإنسان حدًا إذا لم تراعَ لكان في ضيق وحرج، لكن لا تضيع مصالحه الضرورية، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.

قولنا: (عامة): هي الحاجة الشاملة لجميع الأمة.

وقولنا: (خاصة): هي الحاجة الشاملة لطائفة معينة من الناس كأهل بلد، أو حرفة معينة كالتجار، أو الصنّاع، أو الزراع. أما الحاجة الخاصة بفرد، أو بأفراد محصورين فغير معتبرة أصلًا ولا تلحق بالضرورة؛ لأن لكل فرد حاجات متجددة ومختلفة عن غيره ولا يمكن أن يكون لكل فرد تشريع خاص به.

والفرق بين الضرورة والحاجة من وجهين:

الوجه الأول: أن الضرورة في الغالب تكون إباحة لمحظور ممنوع بنص شرعي، وتكون هذه الإباحة مؤقتة حيث تنتهي بزوال الاضطرار، وتتقيد بالشخص المضطر.

أما الإباحة الاستثنائية الثابتة بالحاجة فهي غالبًا لا تخالف نصًا صريحًا لكن تخالف القواعد العامة في الشرع، والحكم في الغالب يكون بصورة ثابتة.

ص: 82

الوجه الثاني: أن الضرورة تبيح المحظورات، سواء أكان الاضطرار حاصلًا للفرد أم للجماعة، أما الحاجة فلا تكون سببًا للتيسير إلا إذا كانت حاجة عامة أو خاصة بطائفة كثيرة غير محصورة فلا تكون سببًا للتيسير في حق فرد وأفراد محصورين.

وقوله: [يجوز للحاجة كالعرية].

ضرب المؤلف رحمه الله مثالًا بالعرية ومسألة العرايا مستثناة من المزابنة.

والمزابنة: هي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر اليابس. الأصل أنه لا يجوز بيع التمر اليابس بالتمر الرطب، لأنك إذا بعت ربويًا بجنسه فإنه يشترط التساوي من كل وجه لابد أن يكون يدًا بيد مثلًا بمثل، ويدل لذلك: حديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء» .

(1)

فإذا بعت تمرًا بتمر فلابد أن يكون يدًا بيد، وأن يتساويا في الكيل، وفي اليبوسة والرطوبة، لابد أن يكون تمرًا رطبًا بتمر رطب، وتمرًا يابسًا بتمر يابس، فإذا اختلفا في الرطوبة واليبوسة وقعت في ربا الفضل؛ ولهذا في حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن بيع التمر بالرطب يعني التمر اليابس بالرطب فقال صلى الله عليه وسلم:«أينقص الرطب إذا يبس. قالوا: نعم، فنهى عن ذلك» .

(2)

فالمزابنة كما تقدم هي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر اليابس، يُستثنى من ذلك مسألة العريّة وهي بيع الرطب على رؤوس

(1)

أخرجه مسلم رقم (1587)، وحديث أبي سعيد في الصحيحين البخاري رقم (2176)، ومسلم رقم (1584) ..

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 624)، أبو داود رقم (3359)، والترمذي رقم (1225)، والنسائي (7/ 268)، وابن ماجه رقم (2264). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذلك صححه الحاكم وابن الملقن وغيرهم، ولم يصب من ضعفه.

ص: 83

النخل بالتمر اليابس بشروط، فإذا توفرت هذه الشروط فمسألة العرّية أباحها الشارع:

الشرط الأول: أن تكون فيما دون خمسة أوسق. فخمسة أوسق فأكثر لا تجوز.

الشرط الثاني: أن يكون لا ثمن معه يشتري به الرطب.

الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا لأكلها رطبًا لكي يتفكه مع الناس، أما إذا كان يشتري الرطب بالتمر اليابس لكي يبيع الرطب فلا يجوز.

الشرط الرابع: الحلول والتقابض، التمر اليابس يقبضه البائع وهو الفلاّح بكيله يكيله له المشتري ويقبضه البائع، والنخل قَبْضه بتخليته، فالبائع يُخلي بين المشتري وبين هذه النخلة.

الشرط الخامس: التساوي في ذلك بأن يبيعه كيلًا بمثل ما يؤول إليه إذا جف هذا الرطب، فإذا كان رطبًا يساوي وسقين، وإذا جف يساوي وسقًا ونصف مثلًا، فنقول: هنا يأخذ وسقًا ونصفًا من التمر اليابس، فإذا كان كذلك فإنه تباح مسألة العرية.

والدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق»

(1)

.

وحديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في بيع العرايا» .

(2)

فهنا أُبيحت العرايا. قال العلماء رحمهم الله: (إن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل وليس من باب تحريم المقاصد).

فأباح الشارع مسألة العرايا والتساوي ليس مقطوعًا فيه وقد قال العلماء رحمهم الله في باب ربا الفضل: [الشك في التماثل كالعلم

(1)

أخرجه البخاري رقم (2190)، ومسلم رقم (1541).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2191)، ومسلم رقم (1540).

ص: 84

بالتفاضل] يعني إذا بادلت ربويًا بجنسه وأنت تشك في التماثل فكما لو علمت بالتفاضل فيحرم ذلك؛ لابد أن تعلم التماثل تمامًا، وهنا في مسألة الرطب بالتمر لا نعلم التماثل كل الأمر مبني على الخرص والتقدير وهذا الغالب أن يكون فيه تفاضل فربا الفضل هذا أبيح في هذه الحال للحاجة.

ومسألة العرايا ليس فيها ضرورة وإنما حاجة فقط لكي يتفكّه، فليس هناك ضرورة إلى أن يحفظ نفسه أو أطرافه وإنما يحتاج فقط أن يتفكه فأبيح له مسألة العرايا، فقال العلماء رحمهم الله:«تحريم ربا النسيئة تحريمه من باب تحريم المقاصد، وأما ربا الفضل فتحريمه من باب تحريم الوسائل، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة رضي الله عنه: «إنما الربا في النسيئة»

(1)

فقالوا إذا كان كذلك فإن الحاجة تبيحه كمسألة العرايا.

ومن المسائل المترتبة على ذلك لبس الحرير قال العلماء رحمهم الله: (بأن لبس الحرير تحريمه من باب تحريم الوسائل فالحاجة تبيحه) فلو كان إنسان فيه حكَّة أو قمل، أو نحو ذلك واحتاج إلى لبس الحرير ليس هنا ضرورة، وإنما حاجة فلا بأس ولهذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس ثوب الحرير من حكة بهما.

(2)

ويظهر لي: أن تقسيم المحرم إلى تحريم وسائل وتحريم مقاصد فيه نظر، وأن ما ورد الدليل على تحريمه فإنه لا يباح إلا لضرورة، إلا لدليل يدل على خلاف ذلك.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2178)، ومسلم رقم (1596).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2919)، ومسلم رقم (2076).

ص: 85

‌20 - وما نُهِي عَنهُ من التَّعَبُّدِ

أوْ غَيرِهِ أفْسِدْه لا تَرَدَّدِ

‌21 - فكلُّ نَهيٍ عادَ للذَّوات

أو للشُروطِ مفْسِدًا سَيَاتِي

‌22 - وإِنْ يَعُدْ لِخَارجٍ كالعِمّهْ

فَلنْ يَضِيرَ فافْهَمَنَّ العِلَّهْ

هذه قاعدة أصولية وهي قاعدة مشهورة: [النهي يقتضي الفساد] وهذه القاعدة أُلفت فيها مؤلفات منها كتاب العلائي (تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد) ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»

(1)

فدل ذلك على أن ما نهى عنه الشارع فإنه يقتضي الفساد.

قوله: [وما نهي عنه من التعبد أو غيره]: يعني ما نهي عنه من العبادات أو غيره من المعاملات، والتبرعات، والأنكحة

إلخ.

قوله: [أفسده]: يعني أحكم عليه بالفساد.

ذكر المؤلف رحمه الله‌

‌ أقسام هذه القاعدة

وأن هذه القاعدة تنقسم إلى أقسام:

واعلم أن الحنابلة من أوسع المذاهب في تطبيق هذه القاعدة، ولذلك ثلاثة من هذه الأقسام الأربعة يرون أنها تقتضي الفساد.

القسم الأول: أن يكون النهي عائدًا إلى ذات المنهي عنه، فإنه يقتضي الفساد.

ويدل له: أحاديث وآثار كثيرة كنحو ما رواه أحمد في المسند مرفوعًا «لا صلاة لمن لا وضوء له» .

(2)

وما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الفجر بالناس وهو جنب فأعادها ولم يعيدوا.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2168) ومسلم رقم (1504).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (2/ 418)، وأبو داود رقم (101)، وضعفه الإمام أحمد والعقيلي والبزار وأشار إلى ضعفه الترمذي.

ص: 86

والمراد بالفساد: أنه لا يترتب على الفعل الآثار المقصودة منه سواء في العبادات، أو العقود. قال الخطابي رحمه الله:(هذا مذهب العلماء في قديم الدهر وحديثه).

والعلماء لا يفرقون بين الفاسد والباطل، والحنفية يفرقون فعندهم الفاسد ما نهي عنه لوصفه، والباطل ما نهي عنه لأصله.

وبعض الحنابلة يقول: الفاسد مالم يقع إجماع على تحريمه وفساده، والباطل ما وقع إجماع على تحريمه، ولذلك يقولون: نكاح المتعة باطل للإجماع على تحريمه، والنكاح بلا ولي فاسد لعدم الاتفاق عليه. ولهذا أمثلة منها:

المثال الأول: صيام يوم العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن صوم يوم العيد»

(1)

فنقول بأن هذا الصيام فاسد.

المثال الثاني: الصلاة في أوقات النهي نقول بأنها فاسدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الصحيحين قال: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» .

(2)

المثال الثالث: الصلاة في المقبرة، والحمام، وأعطان الإبل كل هذه نهى الشارع عنها، فالنهي يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد.

المثال الرابع: نكاح المحارم فنكاح زوجة الأب أو نكاح زوجة الابن كل هذا النهي يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد.

قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22].

المثال الخامس: بيع الميتة .. إلخ كما في حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة،

(1)

أخرجه البخاري رقم (1197)، ومسلم رقم (827) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين «يوم الفطر، ويوم النحر» .

(2)

أخرجه البخاري رقم (586)، ومسلم رقم (827).

ص: 87

والخنزير، والأصنام».

(1)

القسم الثاني: أن يكون النهي عائدًا إلى أمر خارج فلا يقتضي الفساد. ومثَّل المؤلف رحمه الله بقوله: [وإن يعد لخارج كالعمة] العِمَّة: لغة في العمامة.

مثال ذلك: إنسان صلى وعليه عمامة من حرير فهذا لا يتعلق بذات الصلاة، ولا بشروط الصلاة فنقول: لا يقتضي الفساد.

المثال الثاني: صلى وعليه خاتم من ذهب، فصلاته صحيحة

إلخ.

المثال الثالث: اغتاب وهو صائم فصيامه صحيح

إلخ فما دام أن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه ولا شرطه، وإنما يعود إلى أمر خارج فإنه لا يقتضي الفساد.

القسم الثالث: أن يعود إلى شرط العبادة، أو المعاملة على وجه يختص بتلك العبادة، أو المعاملة؛ فإذا كان كذلك فإنه يقتضي الفساد.

مثال ذلك: الشارع نهى عن كون الثمن مجهولًا، فالنهي هنا يعود إلى شرط المعاملة، لكن على وجه يختص بهذه المعاملة (يختص بالبيع) فهذا النهي يقتضي الفساد.

روى أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الغرر»

(2)

فما دام أنه يختص بهذه المعاملة ويتعلق بالبيع وتوجه النهي إلى الشرط، فإنه يقتضي الفساد.

المثال الثاني: بيع الإنسان شيئًا لا يملكه، فهذا يعود إلى شرط من شروط المعاملة يختص بهذه المعاملة فالنهي يقتضي الفساد.

المثال الثالث: إذا صلى وعلى ثوبه نجاسة فإن هذا يختص بشرط العبادة على وجه يختص بالعبادة فإن النهي يقتضي الفساد

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2236)، ومسلم رقم (1581).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1513).

(3)

لكن إذا كان جاهلًا أو ناسيًا فإنها لا تقتضي الفساد.

ص: 88

القسم الرابع: أن يعود النهي إلى شرط العبادة، أو المعاملة على وجه لا يختص بالعبادة، أو المعاملة فهذا موضع خلاف، والصحيح: أن النهي لا يقتضي الفساد.

وله أمثلة كثيرة:

المثال الأول: الوضوء بماء مغصوب، الغصب لا يتعلق بالعبادة، الذي يتعلق بالعبادة أن الإنسان يتوضأ بماء طهور فيرتفع حدثه والشارع نهى عن الغصب، ولم ينه عن الوضوء بالماء المغصوب فالنهي عاد إلى شرط من شروط العبادة لكن على وجه لا يختص بتلك العبادة.

المثال الثاني: التيمم على تراب مغصوب، وكذلك الصلاة في بيت مغصوب، أو في ثوب مسروق، أو منتهب، أو مختلس

إلخ، فكل هذه الأشياء النهي فيها لا يختص بتلك العبادة فلا يقتضي الفساد؛ لأن الشارع نهى فقط عن الغصب.

قال أهل العلم رحمهم الله: إن الجهة إذا انفكت فكان مأمورًا من وجه ومنهيًا من وجه صحت العبادة؛ لأن النهي لا يعود إلى شرط العبادة ولا إلى ركنها وهو لا شك أنه عاص بفعله هذا؛ ولأن النهي غير متعلق بذات العبادات شرعًا فهو تعلّق بعيد لا يلتفت إليه الشرع في الإبطال.

قوله: [فلن يضير]: يعني لا يضر إذا كان عائدًا إلى أمر خارج.

قوله: [فافهمن العلة]: المؤلف رحمه الله أمرك أن تفهم العلة وهذا يشمل العلة في كل المسائل، وسيأتي تعريف العلة عند قول المؤلف:((وكل حكم فلعلة تبع)). إذا فهم الطالب العلل فإنه يعرف سمو الشريعة وحكمتها، وبناء الأحكام فيها، وأنه لم يُشرع فيها شيء إلا لسبب يقتضيه.

قال السعدي رحمه الله:

وإن أتى التحريم في نفس العمل

أو شرطه فذو فساد وخلل

(1)

• • •

(1)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي البيت رقم (30).

ص: 89

‌23 - والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامْنَعِ

عِبَادَةً إلا بإذنِ الشَّارِعِ

هذه قاعدة فقهية ويدخل تحت ذلك أشياء كثيرة وهذه قاعدة مندرجة تحت إحدى القواعد الخمس الكلية وهي: [اليقين لا يزول بالشك] فمن القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة كما سيأتي إن شاء الله قاعدة: [الأصل في الأشياء الحل] يندرج تحت ذلك أشياء كثيرة، فالأصل في المعاملات من بيع، وإجارة، ورهن، وشركة، وغير ذلك الحل، وكذلك التبرعات، من هبات وأوقاف ووصايا، وفي باب الأطعمة من حيوانات ونباتات، وزروع، وثمار، وطيور، الأصل في ذلك الحل، وأيضًا في باب الألبسة من قطن، وصوف، وشعر، وكَتَّان، وغير ذلك، وكذلك في باب الأنكحة الأصل في ذلك الحل فالإنسان له أن يتزوج أي امرأة إلا إذا كان هناك مانع وإلا فالأصل في الأشياء الحل.

ودليل ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فساق الآية مساق الامتنان وغايته الحل والإباحة كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره.

وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 10 - 12] وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ولما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يحرم ثم حرم من أجل مسألته»

(1)

رواه البخاري ومسلم.

فهذه الأدلة تدل على أن الأصل في الأشياء الحل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (هو كالإجماع)،

(1)

أخرجه البخاري رقم (7289)، ومسلم رقم (2358).

ص: 90

وأنكر وجود المخالف في هذه المسألة عندهم، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأصل في الأشياء الإباحة وطهارة الثياب والحجارة لمن كان مسلمًا يعمل الصالحات؛ لأنها إعانة له على الطاعة، وأما الكافر ومن يستعملها في غير محلها فإن الأصل في حقهم المنع سدًا لذريعة التقوي بها على المعاصي.

قوله: [وامنع عبادة إلا بإذن الشارع]: الأصل في العبادات الحظر والمنع فلا يتعبد الإنسان بأي عبادة إلا بعبادة جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام: (العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع).

ودليل ذلك: القرآن والسنة فأما القرآن فقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فحصر الله التحليل والتحريم إليه سبحانه وحده.

وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18، 19].

وأما السنة فحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(1)

أي أن عمله مردود عليه. قال الشاطبي رحمه الله في (الاعتصام) وهذا أصل في أن الأصل في العبادات المنع والحظر. أ. هـ.

وقال أيضًا: (وهذا - يعني حديث عائشة - عده العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية).

(1)

تقدم تخريجه ص (43).

ص: 91

وأخرج البيهقي في (السنن الكبرى) والخطيب في الفقيه والمتفقه عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين زائدتين عن سنة الفجر يطيل في سجودهما وركوعهما فزجره عن ذلك

(1)

. وأيضًا حكى شيخ الإسلام رحمه الله في (مجموع الفتاوى) اتفاق السلف رحمهم الله على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.

ولابد أن تكون هذه العبادة موافقة للشرع في ستة أمور:

1 -

السبب. 2 - الجنس. 3 - القدْر.

4 -

الكيفية والهيئة. 5 - المكان. 6 - الزمان.

فإن خالفت في أحد هذه الأمور فغير مشروعة لابد أن تكون موافقة للشرع في هذه الأمور الستة:

الأمر الأول: السبب، فعلى هذا لو اتخذ عبادة عند سبب لم يرد به الشرع فإن هذا لا يصح.

مثال ذلك: لو أنه استاك عند دخوله المسجد قياسًا على الاستياك عند دخول البيت، فإن هذا لا يصح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة) أي إذا وجد المقتضي، وزال المانع، ولم يكن الترك لحق الغير فالترك هو السنة. فالفعل كما يكون سنة أيضًا الترك يكون سنة، فكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله يكون تركه سنة، وبهذا نعلم أن ما يقام من حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدعة؛ لأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم وجد سببه في عهده ولم يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله الخلفاء الراشدون.

فالخلاصة في ذلك: أن من يتخذ سببًا لعبادة من العبادات ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يجوز.

(1)

أخرجه الدارمي في سننه (1/ 116)، والبيهقي في سننه (2/ 466)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 381) وإسناده لا بأس به.

ص: 92

الأمر الثاني: أن تكون موافقة للشرع في الجنس، وعلى هذا لو تعبد الإنسان بجنس لم يأتِ به الشرع فإن هذا بدعة، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: في الهدي والأضحية، فالشرع جاء بجنس مُعيّن وهي بهيمة الأنعام، فكون الإنسان يضحي مثلًا بدجاج، أو بسائر الطيور فإن هذا بدعة؛ لأن هذا ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

المثال الثاني: في العقيقة جاءت الشريعة بذبح شاتين للذكر وشاة للأنثى، فلو أن الإنسان عقّ عن ابنه بغزال فإن هذا جنس لم يأتِ به الشرع.

الأمر الثالث: القَدْر فلابد أن تكون هذه العبادة موافقة للشرع في قدرها وهذه المسألة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون ما زاد على القدر المشروع لا يتبعّض فهذا بدعة، فلو صلى الظهر خمسًا، أو المغرب أربعًا فإنه جاء بعبادة لم يأتِ بها الشرع فيما يتعلق بالقدْر.

القسم الثاني: أن يكون ما زاد على القدر المشروع يتبعّض ويمكن فصله فهذا فيه تفصيل: إن اعتقد أنه من الوارد فإنه بدعة، وإنه لم يعتقد أنه من الوارد، وإنما أراد أن يتعبد به استقلالًا فإن هذا لا بأس به.

مثال ذلك: الواجب في زكاة الفطر صاع فلو أن الإنسان أخرج صاعين على أن هذه الزيادة صدقة ونافلة، فإن هذا لا بأس به لكن لو أخرجه على أنه يتقرب به وأنه زكاة واردة فإن هذا بدعة، ونظير ذلك أيضًا أن المشروع في دبر كل صلاة أن يسبح الله ويحمده ويكبره تسعًا وتسعين مرة ثم يقول في تمام المائة:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) فلو زاد على ذلك من هذا التسبيح، إن اعتقد أنه سنة واردة في هذا الموضع فإنه بدعة، وأما إذا زاد على أنه يتنفل بهذه العبادة فإنه لا بأس به.

ص: 93

الأمر الرابع: الهيئة والكيفية، فإذا خالفت في ذلك فإنها تكون بدعة؛ فلو أنه صلى صلاة خلاف الصلاة المشروعة فإن هذه بدعة، أو صام صيامًا أو حجًا خلاف الحج والصوم المشروعين فإن هذا بدعة؛ كما لو قدم السجود على الركوع أو ركع ركوعين أو نحو ذلك فإن هذا بدعة.

الأمر الخامس: المكان فإذا خالفت الشرع في مكانها فإن ذلك بدعة.

مثال ذلك: الحج له أمكنة معلومة فالطواف لا يكون إلا في البيت فلو طاف في غير البيت فهذا بدعة، والوقوف في عرفة ومزدلفة هذه أمكنة حدّدها الشارع، وكذلك الاعتكاف لا يكون في غير المسجد

إلخ.

الأمر السادس: الزمن فإذا خالفت الشرع في زمانها فإنها تكون بدعة، فلو أن رجلًا صلى الظهر قبل زوال الشمس، أو صلى الفجر بعد طلوع الشمس

إلخ، هذا كله خلاف أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

• • •

ص: 94

‌24 - فإنْ يقعْ في الحكمِ شَكٌ فارجعِ

للأصلِ في النوعَيْنِ ثم اتبِعِ

أي إن يقع في الشيء الحادث شك، يعني إذا شك في أمر هل هو حلال أو حرام؟ هل هو مشروع أو غير مشروع؟

[فارجع للأصل في النوعين] والنوعان تقدم ما يتعلق بالعبادات وغير العبادات فتدخل المعاملات، والتبرعات، والأنكحة، والعادات.

فالعبادات إذا شكَكْت هل هي مشروعة أو غير مشروعة؟ فالأصل عدم المشروعية، وأما في غير العبادات إذا شكَكْت هل هو حلال أو حرام؟ فالأصل في ذلك الحل.

مثال ذلك: شكَكْت في نوع من أنواع المعاملات كالألبسة أو شكَكْت في نوع من أنواع الأطعمة، أو العادات، والهيئات هل هو مباح أو ليس مباحًا؟ فالأصل في ذلك الإباحة. وفي هذا البيت إشارة إلى إحدى القواعد الخمس الكلية وهي‌

‌ قاعدة: [اليقين لا يزول بالشك]

وهذه القاعدة من أوسع القواعد الفقهية تطبيقًا وأكثرها امتدادًا في أبواب الفقه وقد ذكر السيوطي أنها تدخل في جميع أبواب الفقه.

واليقين في اللغة في المشهور: العلم وزوال الشك، وقد يأتي بمعنى الظن الراجح والغالب، وقد استعمل الظن بمعنى اليقين في القرآن في عدد من الآيات قال تعالى:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]. وقال النووي: (اعلم أنهم يطلقون العلم واليقين ويريدون بهما الظن الظاهر لا حقيقة العلم واليقين فإن اليقين هو الاعتقاد الجازم

). أ. هـ

وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

وجه الدلالة: أنه قد فسر الظن هنا بالتوهم، وقد علمنا أن الوهم قد يطلق عليه الظن الفاسد.

ص: 95

اعتراض وجواب عنه:

من المعلوم عقلًا أنه لا يمكن اجتماع اليقين والشك في حال واحدة، وفي الوقت نفسه لدى شخص واحد، والذي يفهم من ظاهر النص أنه يمكن اجتماعها في تلك الحال

إلخ.

والجواب: أن المراد بنص القاعدة أن اليقين السابق لا يزول بالشك الطارئ اللاحق، فلم يحصل إذًا اجتماع لليقين والشك.

الاعتراض الثاني: أن من الأمور المقررة أن اليقين إذا طرأ عليه شك زال اليقين؛ بمعنى أنه لو كان الشخص متيقنًا ثم شك، فإنه يوصف بأنه شاك لا أنه متيقن، و الذي يفهم من القاعدة: أن اليقين لا يزول بالشك الطارئ بل يبقى، وهذا تناقض.

والجواب: أن المقصود من نص القاعدة أن حكم اليقين لا يزول بالشك وليس المقصود أن ذات اليقين لا يزول بالشك بل اليقين في ذاته زائل بالشك والباقي إنما هو حكم اليقين.

قال مجاهد رحمه الله: (كل ظن في القرآن فهو يقين) وهذا إشكال إلا أن الزركشي رحمه الله قال: هناك ضابطان للفرق بين اليقين والظن في القرآن:

أحدهما: أنه حيث وجد الظن محمودًا مثابًا عليه فهو اليقين، وحيث وجد مذمومًا متوعدًا عليه بالعذاب فهو الشك.

والثاني: أن كل ظن به (أنْ) المخففة فهو شك وكل ظن يتصل به (أنَّ) المشددة فهو يقين؛ لأن المشددة للتأكيد خلافًا للمخففة.

ودليل هذه القاعدة: قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم شُكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا

ص: 96

أو يجد ريحًا»

(1)

ولحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه كما سيأتي، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى أثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن» .

(2)

فإذا شك الإنسان هل أحدث أو لم يحدث؟ فالأصل في ذلك بقاء الطهارة، وإذا شك هل تطهر أو لم يتطهر؟ فالأصل بقاء الحدث، وإذا شك هل طلع الفجر أو لم يطلع؟ فالأصل بقاء الليل، له أن يأكل حتى يطلع الفجر، وإذا شك في غروب الشمس هل غربت أو لم تغرب؟ فالأصل بقاء النهار، فليس له أن يأكل ولا يصلي المغرب، وإذا شك هل وقع الطلاق أو لم يقع؟ فالأصل بقاء النكاح

وهكذا.

وأما الإجماع: أي على القاعدة فحكاه غير واحد كالقرافي في (الذخيرة) وفي (الفروق) وابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام).

وهذه القاعدة: [اليقين لا يزول بالشك]. لها قواعد تتفرع عنها نذكرها على سبيل الإجمال ونمثل لكل قاعدة بمثال:

القاعدة الأولى: [الأصل عدم المُسْقِط وبقاء الواجب].

مثال ذلك: إذا شك الإنسان هل قضى الصلاة التي عليه أو لم يقضها؟ فالأصل عدم قضاء الصلاة وبقاء الواجب، ولو شك هل قضى الدَّين الذي عليه أو لم يقضه؟ فالأصل بقاء الدين في الذمة.

القاعدة الثانية: [الأصل بقاء ما كان على ما كان](بقاء ما كان): أي ثبوت الأمر في الزمان الحاضر.

(على ما كان) أي على ما ثبت عليه في الزمان الماضي.

ومعنى (الأصل): أي القاعدة المستمرة في الشرع وهذه القاعدة: دليل الاستصحاب. وسيأتي الكلام عليها في الأدلة المختلف فيها.

(1)

أخرجه البخاري رقم (137)، ومسلم رقم (361).

(2)

أخرجه مسلم رقم (571).

ص: 97

القاعدة الثالثة: [الأصل براءة الذمة]: أي السلامة والخلو من التكليف، فمعنى القاعدة: أن الإنسان بريء الذمة من وجوب شيء أو لزومه، وكونه مشغول الذمة خلاف الأصل ويدل لهذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(1)

. ومن الفروع المترتبة على ذلك لو ادعى شخص على شخص حقًا من الحقوق فنقول: بأن المدَّعَى عليه الأصل براءة ذمته حتى يثبت هذا الحق بالبينة.

القاعدة الرابعة: [الأصل في الأبضاع واللحوم التحريم]: هاتان قاعدتان: الأولى: الأصل في اللحوم التحريم، لكن تقيد هذه القاعدة بما إذا حصل شك واشتباه، وإلا فالأصل الحل.

وعلى هذا لو أن الإنسان شك في لحم هل هو مذكى أو لحم ميتة؟ فالأصل في ذلك التحريم.

ويدل لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي رضي الله عنه: «فإن وجدت مع كلبك كلبًا آخر فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على غيره»

(2)

وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا وجدته قد وقع في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك»

(3)

فدل على أن الأصل في اللحوم التحريم، وإذا شك أيضًا هل ذُبح هذا اللحم على وفق الشرع أو لم يُذبح على وفقه؟ فالأصل في ذلك التحريم لكن عندنا قاعدة أخرى وهي:[أن الفعل الصادر من أهله الأصل فيه الصحة] فإذا كان هذا اللحم من مسلمين، أو من أهل كتاب

(1)

أخرجه البيهقي (10/ 252) وبعضه في الصحيحين من حديث ابن عباس «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه» أخرجه البخاري برقم (4552) ومسلم رقم (1711)، وصححه ابن الملقن وحسنه ابن الصلاح، جامع العلوم والحكم (2/ 236) وحسنه كذلك ابن حجر في الفتح تحت حديث (2669).

(2)

أخرجه البخاري رقم (5475)، ومسلم رقم (1929).

(3)

أخرجه البخاري رقم (5484)، ومسلم رقم (1929).

ص: 98

فلا تسأل عن فعلهم؛ لأن الأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة.

ويدل لذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قومًا حديثو عهد بإسلام يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سموا الله عليه أنتم وكلوه» .

(1)

أنتم مسؤولون عن فعلكم وفعل غيركم لستم مسؤولين عنه.

القاعدة الثانية: الأصل في الأبضاع التحريم.

ويدل لهذا أدلة كثيرة منها:

1 -

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} .

2 -

أدلة تحريم الزنا، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»

(2)

متفق عليه.

لكن الأصل في النساء الحل؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد أن ذكر ما يحرم من النساء.

لكن لو اشتبهت أجنبية بامرأة غير أجنبية فنقول: لا يجوز له أن يتزوج بها مع أن الأصل الحل لكن لما كان عنده امرأتان هند وأختها إحداهما رضعت معه من أمه فاشتبهت الآن الأجنبية بالمحرم فلا يجوز له أن يتزوج بها؛ لأننا لا ندري أيهما رضعت من أمه هل هي هند أو فاطمة؟

القاعدة الخامسة: [الأصل في الصفات العارضة العدم] ومن أمثلة هذه القاعدة: لو أن أحدًا اشترى سلعة ثم وجد بها عيبًا فنقول: الأصل عدم العيب، فإذا اختلف البائع والمشتري نقدم قول

(1)

أخرجه البخاري رقم (2057).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2475)، ومسلم رقم (57).

ص: 99

البائع؛ لأن الأصل في الصفات العارضة العدم وأن هذا البائع باع هذه السلعة وليست معيبة.

القاعدة السادسة: [الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته] الحادث: الشيء الذي لم يكن موجودًا ثم وجد أي: أن وقته المعتبر هو الوقت القريب، فلو أن شخصًا نام ثم وجد في ثوبه منيا ثم شك هل حصل من نوم الليل أو النهار؟ نقول يُرجعه إلى أقرب أوقاته وأقرب الأوقات النوم بالنهار.

القاعدة السابعة: [لا ينسب إلى ساكت قول، لكن السكوت في معرض البيان بيان].

فهذه القاعدة تشتمل على أمرين:

الأمر الأول: لا ينسب إلى ساكت قول، إذْ الأحكام تبنى على الألفاظ في الأصل، ومن أمثلة ذلك: إذا سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح لم يقم سكوتها مقام الإذن.

ومن ذلك: لو أتلف شخص مال آخر، وصاحب المال ساكت فلا يكون سكوته إذنًا في الإتلاف بل يضمن.

الأمر الثاني: لكن السكوت في معرض البيان بيان، وهذا كالاستثناء من القاعدة، ومن أمثلة ذلك: سكوت البكر عند استئمار وليها قبل التزويج.

ومن ذلك: إذا سكت المحرم وقد حُلِق رأسه مع القدرة على منعه تلزمه الفدية.

القاعدة الثامنة: [لا عبرة بالتوهم] التوهم أدنى من الظن، والمراد به: الاحتمال العقلي البعيد.

ومن أمثلة ذلك: لو اشتبهت القبلة فصلى بلا تحر ولا اجتهاد فلا تصح صلاته لبنائها على الوهم.

القاعدة التاسعة: [الممتنع عادة كالممتنع حقيقة].

ص: 100

الممتنع حقيقة: هو المستحيل الذي لا يمكن وقوعه عقلًا.

والممتنع عادة: هو الذي لم يعهد وقوعه، وإن كان فيه احتمال بعيد بالوقوع.

ومن أمثلة ذلك: ادعاء من عُرِف بالفقر أموالًا عظيمة على شخص وأنه قد اقترضها منه.

القاعدة العاشرة: [الأصل حمل الكلام على ظاهره].

القاعدة الحادية عشر: [الأصل في العقود والشرط في العقود الصحة].

القاعدة الثانية عشر: [الأصل في الأعيان الحل والطهارة].

• • •

ص: 101

‌25 - والأصلُ أنَّ الأمرَ والنَّهي حُتِمْ

إلا إذا النَّدبُ أو الكُرْهُ عُلِمْ

أفاد المؤلف رحمه الله في هذا الشطر قاعدتين أصوليتين:

القاعدة الأولى: [الأمر يقتضي الوجوب إلا لصارف].

القاعدة الثانية: [النهي يقتضي التحريم إلا لصارف].

والدليل على القاعدة الأولى:

أولًا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

فدل على أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا قضيا أمرًا، فإن المؤمن لا يكون له الخيرة من أمره، وأنه يجب عليه أن يتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الأصل في الأوامر الوجوب.

ثانيًا: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] فقوله (عن أمره) هذا مفرد مضاف يشمل كل أوامر الله عز وجل فالذي يخالف الأمر هذا يحذر أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم.

قال الإمام أحمد رحمه الله: (أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك)

(1)

وتفسير الإمام أحمد رحمه الله الفتنة بالشرك تفسير بأعلى الفتن وإلا فإن الفتنة تشمل الشرك وغيره، فهذا الوعيد على من خالف أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن الأصل في الأوامر الوجوب.

ثالثًا: من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»

(2)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق) دل على أن الأمر فيه مشقة ولا يكون فيه

(1)

رواه ابن بطه في الإبانة الكبرى (97).

(2)

أخرجه البخاري رقم (887)، ومسلم رقم (252).

ص: 102

مشقة إلا إذا كان الأمر دالًا على الوجوب إذْ لو لم يدل على الوجوب لم يكن فيه مشقة وفي لفظ «عند كل وضوء»

(1)

فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الوجوب فلو كان يقتضي الاستحباب لم يكن فيه مشقة؛ لأن الإنسان يكون مخيرًا بين الفعل والترك والأفضل له أن يفعل.

رابعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر صلاة العشاء ثم خرج فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» .

(2)

فهذا يدل على أن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي الوجوب؛ إذْ لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تؤدَّى صلاة العشاء في ذلك الوقت لكان في ذلك مشقة وترتُّب المشقة يدل على وجوبه.

خامسًا: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم دون السؤال عما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمره.

سادسًا: اللغة: فإنها تدل على ذلك فإن السيّد إذا أمر خادمه بأمر ثم بعد ذلك لم يمتثل لَحسُن لومه فكونه إذا ترك الامتثال يحسن لومه دل على أنه ترك واجبًا من الواجبات، وكذلك لو أن الأب أمر ابنه بأمر ثم بعد ذلك لم يمتثل لحسن لومه وتوبيخه فهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب.

قوله: [أن الأمر والنهي حُتم]: أيضًا النهي يقتضي التحريم فالأصل في النواهي أنها تقتضي التحريم ويدل لذلك:

أولًا: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} هذا أمر بالانتهاء والأمر يدل على الوجوب كما سبق فدل ذلك على أن فعل المنهي يقتضي التحريم لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

(1)

أخرجه مالك في الموطأ (1/ 66)، وأحمد في مسنده (2/ 460)، والنسائي (1/ 12).

(2)

أخرجه مسلم رقم (638).

ص: 103

هنا أمر الله عز وجل بالانتهاء عن الأشياء التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن الانتهاء واجب وترك الواجب فيه الإثم.

ثانيًا: من السنة قوله صلى الله عليه وسلم «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه»

(1)

هنا أمر بالاجتناب، والأمر يدل على الوجوب فدل ذلك على أن فعل المنهي عنه يدل على التحريم؛ لأن في ذلك تركًا للواجب.

ثالثًا: اتفاق الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن النهي يقتضي التحريم.

رابعًا: اللغة فإن السيد لو نهى خادمه عن أمر من الأمور، ثم بعد ذلك فعل هذا الأمر الذي نُهي عنه فإنه يحسن لومه وتوبيخه، وكذلك الأب لو نهى ولده ثم فعله فإنه يحسن لومه وتوبيخه، فدل ذلك على أن النهي يقتضي التحريم.

فإن قال قائل: هل النهي في الأدب يكون دالًا على التحريم؟ نقول إن بعض العلماء قال: نفرق بين الأحكام والآداب.

أولًا: لعموم النصوص، فإن النصوص الدالة على أن النهي يفيد التحريم تشمل الأمرين.

ثانيًا: أنه لا يوجد تفريق مضبوط لا يخترم بين الأحكام والآداب.

ثالثًا: أن الشريعة تُعنى بالأحكام، والآداب تنتج عن هذه الأحكام.

وذهب أكثر العلماء: على أن الأمر أو النهي إذا قصد به الآداب والإرشاد لا يقتضي الوجوب، أو التحريم كما سيأتي.

قوله: [إلا إذا الندب أو الكره علم]: الأصل كما تقدم أن الأوامر تقتضي الوجوب وأن النواهي تقتضي التحريم إلا إذا وجد صارف وقد ذكر العلماء رحمهم الله الصوارف:

الصارف الأول: أن يدل الدليل على أن المراد بهذا الأمر الاستحباب

(1)

تقدم تخريجه ص (65).

ص: 104

ولا يراد به الوجوب وهذا له أمثلة كثيرة نذكر منها:

المثال الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال»

(1)

، هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من هذه الأربع، ووجد أن الصارف الذي يدل على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع أنه للاستحباب وليس للوجوب وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر التشهد الأول قال:«ثم لْيَتَخيّر من الدعاء أعجبه»

(2)

أي أعجب الدعاء إليه فدل على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع ليس واجبًا.

المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يشرب الرجل قائمًا»

(3)

وشرِبَ النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا

(4)

فدل ذلك على أن النهي هنا لا يدل على التحريم وإنما يدل على الكراهة.

الصارف الثاني: الإجماع قد يُجمع العلماء رحمهم الله على أن هذا الأمر لا يراد به الوجوب.

ومن الأمثلة على ذلك:

قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] هذا أمر ومع ذلك العلماء رحمهم الله مجمعون على أن الإنسان إذا حلّ من إحرامه لا يجب عليه أن يصطاد.

الصارف الثالث: إذا علمنا أن هذا الأمر، أو أن هذا النهي يُقصد به الإرشاد والأدب فإن هذا الأمر لا يقتضي الوجوب، وأن هذا النهي لا

(1)

أخرجه مسلم رقم (588).

(2)

أخرجه البخاري رقم (835)، ومسلم (402).

(3)

أخرجه مسلم رقم (2024).

(4)

أخرجه البخاري رقم (5615).

ص: 105

يقتضي التحريم اللهم إلا إذا قامت قرينة تدل على أنه يقصد به الوجوب، أو يقصد به التحريم فإنه يبقى على الأصل، وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم، ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأتم أو لبستم فابدؤوا بميامنكم»

(1)

فإذا توضأ الإنسان، أو لبس هنا أمره أن يبدأ بيمينه لكن هذا في الإرشاد والأدب فحمله العلماء على الاستحباب.

المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تخلف عن الصلاة وأناب أبا بكر رضي الله عنه، وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة من مرضه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه أبو بكر أراد أن يتأخر لكي يقوم النبي صلى الله عليه وسلم من مقامه فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمكث فلم يمكث أبو بكر

(2)

؛ لأن أبا بكر علم من إشارة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس للإلزام وإنما أراد بذلك الإكرام فدل ذلك على أن الشيء إذا قُصد به الأدب والإكرام والإرشاد أنه لا يقتضي الوجوب، لكن إذا دلت القرائن على أن الشارع أراد بهذا الأمر الوجوب، أو النهي التحريم حتى ولو كان على سبيل الإرشاد والإكرام فإنه يبقى على الأصل.

ومن الأدلة على ذلك:

أن الشارع أمر بالأكل باليمين، ونهى عن الأكل بالشمال وهذا من باب الإرشاد والأدب قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»

(3)

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل والشرب باليمين ونهى عن الأكل والشرب بالشمال وأخبر أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله، هذا الأمر حسب ما ذكرنا أنه

(1)

أخرجه أبو داود رقم (4141) وابن ماجه رقم (402)، وابن خزيمة (1/ 91)، وقال ابن الصلاح والنووي حديث حسن وإسناده جيد، وقال ابن دقيق العيد هو حقيق بأن يصحح، وصححه ابن الملقن البدر المنير (3/ 418).

(2)

أخرجه البخاري رقم (683)، ومسلم (418).

(3)

أخرجه مسلم رقم (2020).

ص: 106

إذا قصد به الإرشاد والأدب يُحمل على الاستحباب لكن دلت قرينة على أن المراد به الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، ونحن منهيون عن اتباع خطوات الشيطان وموافقته؛ لأنه عدوٌ لنا فلا يكون إمامًا لنا.

• • •

ص: 107

‌26 - وكلُّ مَا رُتِّبَ فِيهِ الفَضْلُ

مِنْ غَيرِ أمرٍ فهْو نَدبٌ يَجْلُو

قوله: [يجلو]: بمعنى يتبين ويظهر، فإن الأشياء التي رُتب عليها الفضل ولم يرد فيها أمر لا تقتضي الوجوب وإنما تقتضي الاستحباب، وعلى هذا فإن ما رُتب عليه فضل لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يرد فيه الأمر، فهذا حكمه كما سبق من حيث كونه يقتضي الوجوب إلا لصارف.

الأمر الثاني: أن لا يرد فيه أمر، فإنه لا يقتضي الوجوب وإنما يقتضي الفضل والاستحباب.

ومن الأمثلة:

المثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»

(1)

فالفقه في الدين هذا كله ليس واجبًا، لكن يجب منه ما يحتاج إليه الإنسان لتصحيح عبادته ومعاملته، وما عدا ذلك لا يجب بل يستحب.

المثال الثاني: قال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين

(3)

في الجنة»

(4)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»

(5)

فمثل هذه الأشياء ورد فيها الفضل لا نقول بأنها تدل على الوجوب وإنما تدل على الاستحباب في الجملة.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (71)، ومسلم رقم (1037).

(2)

أخرجه مسلم رقم (2699).

(3)

وأشار الراوي وهو مالك بن أنس بالسبابة والوسطى.

(4)

أخرجه مسلم رقم (2983).

(5)

أخرجه مسلم رقم (2699).

ص: 108

‌27 - وكلُّ فِعلِ للنَّبيِّ جُرِّدَا

عن أمرِهِ فَغَيرُ وَاجِبٍ بَدَا

قوله: [النبي]: المراد به النبي محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

فأل هنا للعهد الذهني، وليست للعهد الذِّكري، أو الحضوري؛ لأنه لم يُذكر وليس بحاضر.

قوله: [جردا عن أمره]: يعني الفعل المجرد غير واجب بدا وهذا البيت يفيد قاعدة وهي: [أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة الأوامر تفيد الاستحباب ولا تفيد الوجوب].

واعلم أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

- القسم الأول: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه القربة والطاعة فهذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يدل دليل على اختصاصه بهذا الفعل فإنه يختص به ولا يكون مشروعًا لغيره وذلك مثل: الوِصَال «وصال النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم»

(2)

فهذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك: صلاة ركعتين بعد العصر

(3)

فهذا جعله بعض أهل العلم من خصائصه

إلخ.

الأمر الثاني: أن لا يدل دليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم، فإن الأصل في ذلك التأسّي.

ويدل لذلك أدلة منها:

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}

(1)

سيأتي الفرق بين النبي والرسول ص (180).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1994)، ومسلم رقم (1105).

(3)

أخرجه البخاري رقم (591)، ومسلم رقم (835).

ص: 109

[آل عمران: 132] وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وأيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» .

(1)

فالأشياء التي لم يقم دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بها فالأصل عدم الخصوصية ومن ادعى الخصوصية فعليه الدليل.

ومن الأمثلة على ذلك:

ما ثبت في صحيح مسلم عن شريح بن هاني قال: «قلت لعائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ فقالت: بالسواك»

(2)

هذا الفعل فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم على وجه القربة والطاعة ولم يقم دليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم فما دام كذلك فالأصل التأسي.

- القسم الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لا على وجه القربة والطاعة وهذا تحته أقسام:

القسم الأول: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجِبِلَّة والطبيعة فهذا في حد ذاته لا يتعلق به أمر ولا نهي، فلا نقول للإنسان إنك تفعل كذا أولا تفعل كذا .. إلخ.

مثال ذلك: نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأكله وشربه ونكاحه

إلخ. هذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن هيئات مثل هذه الأشياء قد يتعلق بها أمر أو نهي فالأكل قد يتعلق به أمر وقد يتعلق به نهي كالأكل باليمين، والشرب باليمين، والتسمية، والحمدلة، ولا يأكل ما يضره

إلخ وكذلك النوم فإنه ينام على طهارة، وعلى جنبه الأيمن، ويأتي بأذكار النوم

إلخ وأما ذات

(1)

أخرجه مسلم رقم (867).

(2)

أخرجه مسلم (253).

ص: 110

النوم، وذات الأكل والشرب

إلخ فهذه الأشياء فعلها النبي صلى الله عليه وسلم جبلة فلا يتعلق بها أمر ولا نهي.

القسم الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه العادة فهذا أيضًا مباح مثل: كيفية الأكل، والشرب، واللباس هذه من قبيل العادات لكن الشارع قد يأمر ببعض الكيفيات وينهى عن بعض، مثل أن يأكل كذا، أو يشرب كذا، أو يأكل على هذه الهيئة أو ينام على هذه الهيئة .... إلخ فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة هذا لا نقول بأن الإنسان مأمور أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء فإنه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، بل السنة للإنسان أن يفعل العادة في المكان والزمان الذي هو فيه ما لم يخالف الشرع. يعني يوافق أهل بلده في عادتهم.

مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم لبس عمامة لكن عادة الناس في مثل هذا البلد أنهم لا يلبسون عمامة، والسنة أن الإنسان يوافق الزمان، والمكان الذي هو موجود فيه كلبس الشماغ أو الغترة

إلخ فيوافقهم في ذلك ما لم يخالف الشرع؛ لأنه لو خالف الناس لأصبح لباسه لباس شهرة.

وأيضًا: النبي صلى الله عليه وسلم ركب الخيل والحمار والناس الآن في هذا البلد لا يركبون الخيل والحمار

إلخ فهل نقول: بأنك توافق النبي صلى الله عليه وسلم في عادته، أو نقول: له اركب السيارة مثل فعل الناس؟ السنة أن يترك مثل هذه الأشياء ويفعل ما يفعله الناس؛ لأن كونه يوافق الناس هذا يبعده عن الشهرة وكونه يركب الخيل، ويقول أريد أن أقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم نقول: هذا من قبيل العادات والنبي صلى الله عليه وسلم فعل ما يوافق أهل بلده وزمانه وأنت السنة أن توافق زمانك ومكانك.

القسم الثالث: ما تردد بين العادة والمشروعية، قد يوجد أفعال للنبي صلى الله عليه وسلم يتردد أمرها بين العادة وبين المشروعية فهل فعلها من السنة أو لا؟

الضابط في ذلك: أن ما تردد بين العادة والمشروعية: إن قَدّرْت أن

ص: 111

لنبي صلى الله عليه وسلم فعله مُوافَقةً لزمانه ومكانه فليس من قبيل السنة وإنما هو من قبيل العادة، وإن قَدَّرْت أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف فيه زمانه ومكانه فهو من قبيل السنة.

مثال ذلك: اتخاذ الشعر فعله النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

موافقًا لأهل زمانه ومكانه؛ لأن العرب كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتخذون الشعور ففعله النبي صلى الله عليه وسلم موافقًا لأهل زمانه ومكانه فلا نقول: بأنه سنة بل هو من قبيل العادات، وأيضًا لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة وقف وبال وتوضأ وضوءًا خفيفًا

(2)

إلخ فهل هو من قبيل السنة أو العادة؟ الأقرب أنه من قبيل العادة ولهذا لا يطلب من الإنسان أن يفعل مثل هذه الأشياء.

- القسم الثالث: ما كان بيانًا لأمر فحكمه حكم ذلك الأمر وهذا أفاده الشيخ رحمه الله بقوله:

‌28 - وإِنْ يكنْ مُبيِّنًا لأمرِ

فالحُكْمُ فيه حُكمُ ذاكَ الأمْرِ

فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لأمر فهذا حكمه حكم ذلك الأمر، فإن كان الأمر يقتضي الوجوب فهذا الفعل حكمه حكم ذلك الأمر وهو الوجوب، وإن كان يقتضي الاستحباب فحكمه حكم ذلك الأمر وهو الاستحباب.

مثال الوجوب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فالنبي صلى الله عليه وسلم مسح كل رأسه ولم يقتصر على مسح بعض الرأس «بدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه»

(3)

فمسح كل رأسه.

مثال الاستحباب: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

(1)

أخرجه البخاري رقم (3551).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1280).

(3)

أخرجه البخاري رقم (185)، ومسلم رقم (235).

ص: 112

[البقرة: 125] هذا أمر بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المقام قرأ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وصلى خلف المقام ركعتين

(1)

وحكم ركعتي الطواف خلف المقام السنية بالإجماع فالعلماء مجمعون على أن صلاة ركعتي الطواف خلف المقام سنة فهذا الأمر مصروف عن الوجوب بالإجماع، فيكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيّنًا لهذا الأمر، وهذا الأمر، للاستحباب فيأخذ حكمه وهو الاستحباب.

• • •

(1)

أخرجه مسلم رقم (1218).

ص: 113

‌29 - وقدِّم الأعلَى لدَى التَّزاحُمِ

في صَالحٍ والعَكسُ في المظالِمِ

‌30 - وادفعْ خفيفَ الضَّرَرَيْنِ بالأخفْ

وخذْ بعالِي الفاضَليْنِ لا تَخَفْ

عندنا هنا تزاحم المصالح، وتزاحم المفاسد.

فالمصالح: هي أوامر الشرع. والمفاسد: هي نواهي الشرع.

فعندنا في هذا الشطر قاعدتان: [أنه عند تزاحم المصالح نقدم الأعلى منها] و [وعند تزاحم المفاسد نقدم الأخف منها] ويقول السعدي رحمه الله:

فإن تزاحم عدد المصالح

وضده تزاحم المفاسد

يُقدم الأعلى من المصالح

(1)

يرتكب الأدنى من المفاسد

(2)

وتزاحم المصالح لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: إمكانية الجمع بين هذه المصالح، بحيث يستطيع أن يأتي بها كلها فنقول يأتي بها جميعًا.

الأمر الثاني: عدم إمكانية الجمع بين هذه المصالح بحيث لا يستطيع أن يفعل إلا إحدى المصلحتين وهذا هو المراد هنا فأيهما يقدم؟ هذا تحته أقسام:

القسم الأول: أن تتزاحم الواجبات، فإذا تزاحمت فإننا نقدم آكد الواجبين، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إنسان عنده ماء وحضر وقت الصلاة، وهذا الماء يحتاجه للشرب ويحتاجه للوضوء فالوضوء واجب، وإبقاء النفس، والمحافظة عليها واجب فأيهما آكد؟ نقول: إبقاء النفس آكد فيقدم الشرب على الوضوء.

المثال الثاني: إنسان عليه فائتة وعليه حاضرة، عليه فائتة صلاة الفجر،

(1)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي، البيت رقم (13).

(2)

نفس المرجع، البيت رقم (14).

ص: 114

وعليه صلاة الظهر وهي صلاة حاضرة فنسي أن يصليها حتى تضايق وقتها لم يببقَ إلا عشر دقائق لفعل صلاة الظهر فنقول: ابدأ بالحاضرة؛ لأن الحاضرة هنا آكد إذْ لو فعلها يكون أداء في وقتها وعلى هذا فقس.

القسم الثاني: تعارض واجب ومستحب، فالأمر في ذلك ظاهر، فإنه يُقدم الواجب على المستحب. ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إنسان عنده دراهم وعليه زكاة، إما أن يخرجها صدقة، وإما أن يخرجها زكاة فنقول: يبدأ بالزكاة.

المثال الثاني: إنسان عنده دراهم، إما أن يتصدق بها، أو ينفقها على أهله ونفسه فإنه يبدأ بالنفس والأهل؛ لأن الواجب مقدم على المستحب.

المثال الثالث: لو تعارضت نوافل الصلاة مع الواجب

إلخ فيقدم الواجب وعلى هذا فقس.

القسم الثالث: إذا تعارض عنده مستحبان، أو سنتان فيقدم أفضل السنتين، أو المستحبين. والتفضيل ذكر العلماء له أسبابًا منها:

السبب الأول: التفضيل للآكدية مثاله: إنسان إما أن يصلي الوتر، أو يصلي النافلة المطلقة قبيل طلوع الفجر. يعني بقي ثلاث دقائق على طلوعه، فإنه يقدم الآكد وهو الوتر.

السبب الثاني: كون إحدى السنتين أنفع للقلب، وأصلح له مثال ذلك: إنسان تعارض عنده إما أن يقرأ القرآن بلا صلاة، أو يصلي فإنه يفعل ما هو أصلح للقلب سواء قراءة القرآن أو الصلاة.

السبب الثالث: كون إحدى السنتين نفعها متعد.

مثال ذلك: تعارض عنده في هذه الساعة إما أن يحضر الدرس، أو يقوم يصلي فنقول يحضر الدرس؛ لأن كونه يتعلم هذا نفع متعد؛ لأنه إذا تعلم فإنه سيُعلِّم

إلخ.

السبب الرابع: كون السنة مشروعة في هذا الحال، أو في هذا

ص: 115

الزمان، أو هذا المكان فإنها تقدم على غيرها.

مثال ذلك: بعد انتهاء الصلاة المكتوبة فإن السنة أن يأتي بالأذكار من تهليل، وتسبيح

إلخ، والقرآن أشرف الذكر فإذا انتهت الصلاة، إما أن يذكر الله عز وجل، أو يقرأ القرآن، فالسنة أن يقدم الذكر هنا على قراءة القرآن.

السبب الخامس: كون هذا التقديم يؤدي إلى العمل بالسنة كلها.

مثال ذلك: بعد الانتهاء من الصلاة إما أن يسبح المصلي ثلاثًا وثلاثين مرة ويحمد الله ثلاثًا وثلاثين مرة ويكبر الله ثلاثًا وثلاثين مرة، ويقول في تمام المائة:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، أو أن يسبح عشرًا ويحمد عشرًا ويكبر عشرًا

إلخ تزاحم ذلك عنده فنقول: يقدم العمل بالسنة كلها بأن يأتي بهذا تارة، ويأتي بهذا تارة أخرى ليعمل بالسنة كلها.

السبب السادس: دفع المفسدة:

مثال ذلك: الإسرار بالصدقة أفضل من الجهر بها، لكن إذا كان في جهره دفع مفسدة حيث إن هذا الشخص مُتهم بأنه لا يتصدق وأراد أن يدفع المفسدة عن نفسه، أو أن هذا العمل غير مشروع، بأن يُظن أن الصدقة في هذا المكان غير مشروعة فأراد أن يدفع هذه المفسدة فأظهر الصدقة فهذا أفضل.

قال ابن القيم رحمه الله: (إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبًا للشارع). ومما يدل لهذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .

(1)

وأيضًا الأمر بالأخذ بالأحسن كما في قوله:

(1)

أخرجه البخاري رقم (9)، ومسلم رقم (35).

ص: 116

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17، 18].

كذلك تزاحم المفاسد، إذا تزاحمت المفاسد فإنه يرتكب الأدنى منها وتزاحم المفاسد تحته أقسام:

القسم الأول: أن يتزاحم عنده محرمان فإنه يقدم أخف المحرمين.

مثال ذلك: إنسان في مخمصة أي: في شدة جوع إما أن يأكل من الميتة التي ماتت حتف أنفها، أو يأكل من شاة اشتبه عليه هل ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر فيقدم المشتبه فيها على الميتة؛ لأن الميتة أشد تحريمًا.

القسم الثاني: تزاحم المكروهات، إذا تزاحم مكروهان من المكروهات فإنه يقدم أخفهما.

مثال ذلك: تعارض عنده إما أن يأكل من البصل، أو يأكل من الثوم، فإنه يقدم أقلهما كراهة وهو البصل؛ لأن البصل أقل رائحة.

القسم الثالث: أن يتعارض عنده محرم، ومكروه فيقدم المكروه على المحرم.

مثال ذلك: عنده بصل، وعنده ميتة، وهو في مخمصة فإنه يبدأ بالبصل ويأكل منه.

وأما قوله: [وادفع خفيف الضررين بالأخف

إلخ] فتقدم بيانه وشرحه فيما سبق وذكرنا الأمثلة عليه وأنه إذا تعارض ضرران يُقدم الأخف وإذا تزاحمت المصالح يأخذ بالأعلى منها

إلخ.

(1)

(1)

تقدم قريبًا عند تزاحم المفاسد والمصالح.

ص: 117

‌31 - إنْ يَجْتَمِعْ معَ مُبِيحٍ ما مُنِعْ

فَقَدِّمَنْ تغليبًا الذي مُنِعْ

قوله: [مبيح]: أ ي المباح.

قوله: [منع]: أي المحرم.

[إذا اجتمع حاظر ومبيح فإننا نغلّب جانب الحظر] ولهذا أمثلة منها:

المثال الأول: البغل متولد من الحمار والفرس فنقول: بأنه محرم؛ لأنه اجتمع عندنا حاظر وهو أكل الحمار، ومبيح وهو أكل الفرس فنغلِّب جانب الحظر.

المثال الثاني: السِّمْع متولد من الضبع والذئب، الضبع حلال والذئب حرام، فنقول: بأنه محرم تغليبًا لجانب الحظر.

المثال الثالث: رجل عنده امرأتان اشتبهتا عليه إحداهما حلال والأخرى حرام، إحداهما رضعت من أمه والأخرى لم ترضع منها فهنا اشتبهتا فنقول: اجتنب المرأتين كلتيهما تغليبًا لجانب الحظر، ودليل هذه القاعدة، قوله صلى الله عليه وسلم لعدي رضي الله عنه:«فإن وجدت مع كلبك كلبًا آخر، فلا تأكل فإنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على الكلب الآخر»

(1)

وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن وجدته في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» .

(2)

• • •

(1)

تقدم تخريجه ص (115).

(2)

تقدم تخريجه ص (115).

ص: 118

‌32 - وكلُّ حكمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ

إِنْ وُجِدَتْ يُوجَدْ وإلا يَمْتَنِعْ

قوله: [وكل حكم]: تقدم الكلام على الحكم.

(1)

قوله: [فلعلة تبع]: العلة في اللغة: المرض، سمي المرض علة؛ لأنه يعل البدن أي يغيره ويخرجه عن طبيعته.

قال الفيومي في المصباح العلة: (هي المرض المشغل).

اصطلاحًا: هي المعنى الذي من أجله شرع الحكم، أي شرع لوجود هذا المعنى فيه، فالإسكار علة تحريم الخمر؛ إذا وجد الإسكار حرم الشرب.

وعرّفها الإمام مالك رحمه الله بقوله: (العلة هي الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها) وعرّفها الشاطبي رحمه الله بقوله: (الحِكَمُ والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، أو المفاسد التي تعلقت بها النواهي).

وقال الباجي في (الحدود) وبه قطع الآمدي وابن الحاجب رحمهم الله بأن العلة في الاصطلاح: الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

وهذه القاعدة أغلبية لا مطّردة، وقد اتفق عليها الفقهاء قاله ابن النجار في (شرح مختصر التحرير).

وبنحوه قال الشاطبي (في الموافقات) ومثالها ما جاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إنما نهيتكم من أجل الدَافَّة التي دفَّت فكلوا وادخروا وتصدقوا» .

(2)

والدَافَّة: هم الأعراب الفقراء الذين دفَّوا - والدف نوع من أنواع المشي - إلى المدينة وقت عيد الأضحى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن

(1)

انظر ص (19).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1971) ونحوه عند البخاري رقم (1719).

ص: 119

ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث حتى يتصدقوا على هؤلاء الفقراء.

وإنما قيل: إن القاعدة السابقة أغلبية؛ لأن لها استثناءات. وهي ترجع إلى مجموعة أمور:

أولها: ما كان له - يعني الحكم - أكثر من علة فإن انتفاء بعض العلل لا يوجب انتفاء الحكم، كالحدث ببول وغائط فإنه يوجب عدم الصلاة حتى يرتفع الحدث، فلو انتفت علة البول فلا يعني جواز مباشرة الصلاة وصحتها؛ لأنه قد يوجد علة أخرى وهي الغائط مثلًا تمنع الصلاة.

ثانيها: الحكم الذي بقي مع انتفاء علته مثل الرَّمَل

(1)

، فإن العلة انتفت وهي إظهار النشاط للكفار

(2)

وبقي الحكم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حجة الوداع.

(3)

ثالثها: ما كان الحكم مبنيًا على علة ظنية، مثل الرخص المتعلقة بالسفر لمظنة المشقة، فإن أحكام الرخص تستمر ولو لم توجد تلك العلة، وهي المشقة؛ لكونها ظنية قاله شيخ الإسلام رحمه الله في (مجموع الفتاوى).

العلة: وصف مناسب للحكم، والأحكام الشرعية كلها معللة؛ أي: مبنية على أوصاف ومعاني مناسبة للحكم، والعلل في الأحكام الشرعية تنقسم قسمين:

- القسم الأول: علل معلومة وهي تنقسم إلى قسمين كذلك:

القسم الأول: علل منصوصة أي نص عليها الشارع.

القسم الثاني: علل مستنبطة أي لم ينص عليها الشارع.

(1)

الرمل: هو «الإسراع في المشي مع تقارب الخطا» .

(2)

وذلك عندما قال المشركون أنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة. أخرجه البخاري رقم (1602) ومسلم (1266).

(3)

فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أخرجه مسلم (1218).

ص: 120

- القسم الثاني: علل غير معلومة وهي التي يعبر عنها الفقهاء رحمهم الله: [بأن الحكم تعبدي] يعني غير معلل.

قوله: [إن وجدت]: (إن) شرطية، و (وجدت) فعل الشرط، و (يوجد) جواب الشرط.

معنى ذلك: أن الحكم يتبع علته وجودًا وعدمًا فإذا وجِدت العلة وجد الحكم وإذا لم توجد العلة لم يوجد الحكم.

واعلم أن العلة من حيث وجود الحكم وعدمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: علة منصوصة، فإذا كانت العلة منصوصة، فإنه يوجد الحكم، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه»

(1)

فقوله: (من أجل أن ذلك يحزنه) هذه علة منصوصة يوجد الحكم إذا وجد التناجي من ثلاثة؛ لأن ذلك يحزنه.

فإن تناجى ثلاثة دون الرابع فإنه لا يجوز؛ لأن العلة موجودة الآن (من أجل أن ذلك يحزنه) وكذلك لو تكلم اثنان بلغة أجنبية دون الثالث وهو لم يفهم ولم يتناجيا، فإنه لا يجوز؛ لأن العلة هنا موجودة (من أجل أن ذلك يحزنه).

ولو تناجى صبيان دون رجل كبير جاز، لأن ذلك لا يحزنه.

المثال الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظُّفُر» قال: «أما السن فعظم» .

(2)

فالعلة الآن موجودة، لو ذبحت بعظم آخر غير السن فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّل فقال: (أما

(1)

أخرجه البخاري رقم (6288) ومسلم رقم (2183).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2488) ومسلم رقم (1968).

ص: 121

السن فعظم) فلا يجوز التذكية بسائر العظام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل وهكذا.

القسم الثاني: أن تكون العلة مستنبطة وهي قريبة فحكمها كالقسم السابق

مثال ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان»

(1)

العلة في ذلك: هي التشويش وإشغال الذهن، فلو صلى في حر شديد، أوبرد شديد فإنه يأخذ الحكم؛ لأن المقصود الإشغال وهو موجود سواء أكان بحضرة طعام، أم وهو يدافعه الأخبثان، أم غير ذلك، وكذلك لو صلى وهناك شيء يلهيه عن صلاته يأخذ الحكم وهو الكراهة.

القسم الثالث: أن تكون العلة مستنبطة، وهي بعيدة فالحكم لا يتبعها.

مثال ذلك: ما ورد في حديث عبادة وحديث أبي سعيد رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء مثلًا بمثل»

(2)

. ما هي العلة في الذهب والفضة؟

الحنابلة رحمهم الله قالوا: بأن العلة في الذهب والفضة هي الوزن، فيجري الربا في كل الموزونات من ذهب، وفضة، وحديد، ورصاص، ونحاس، وصُفْر، وشعر، وحرير، وقطن وغير ذلك.

فإذا بادلت ذهبًا بذهب لابد أن يكون مثلًا بمثل سواء بسواء، وإذا بادلت فضة بفضة لابد أن يكون مثلًا بمثل سواء بسواء، وكذلك في بقية الموزونات الحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، والرصاص بالرصاص مثلًا بمثل سواء بسواء، وهذه العلة بعيدة.

والصواب: أن العلة في الذهب والفضة ليست الوزن، وإنما هي غلبة

(1)

أخرجه مسلم رقم (560).

(2)

تقدم تخريجه ص (94).

ص: 122

الثمنية؛ أي: كون هذه الأشياء ثمنًا للمبيعات، أما التعليل بالوزن فضعيف، ولهذا رده ابن القيم رحمه الله من وجوه:

منها أن الشارع رخص في السلم في الموزونات لما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

(1)

وأنت إذا أسلفت في الوزن سُتعطي ذهبًا موزونًا بحديد موزون، فالشارع جوز في السلّم تأخير القبض، وإذا قلنا بأن العلة الوزن يؤدي إلى إغلاق باب السلم في الموزونات.

والصواب في ذلك: أن العلة ليست هي الوزن، وإنما هي الثمنية، فكل ما اتخذه الناس ثمنًا هو الذي يجري فيه الربا، أما التعليل بالوزن هذا ضعيف.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (2239) ومسلم رقم (1604).

ص: 123

‌33 - وأَلْغِ كلَّ سابقٍ لسببِهْ

لا شرطِهِ فادْرِ الفروقَ وانتبهْ

السبب لغة: كل ما يتوصل به إلى الغير، ومنه الحبل.

وفي الاصطلاح: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.

والشرط لغة: إلْزام الشيء والتزامه.

وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، عندنا سبب، وعندنا شرط، وهذا البيت قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله بقوله:(العبادات كلها بدنية، أو مالية، أو مركبة من البدن والمال لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد السبب وقبل شرط الوجوب).

فالأحول ثلاثة:

الحال الأولى: أن يكون قبل السبب وقبل الشرط، فهذه الحال لا تصح عند الجميع.

مثال: لو قال إنسان سأُكفِّر كفارة، إذْ يمكن أن أحلف في يوم من الأيام، فلا تجزئ وتكون صدقة؛ لأن سبب الوجوب لم يوجد وهو الحلف.

الحال الثانية: أن يكون بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب فهذا مجزئ عند جماهير العلماء لظاهر ما في الصحيحين.

(1)

وهذا له أمثلة منها:

المثال الأول: كفارة اليمين يجوز لك أن تقدم الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث.

مثال ذلك: إنسان قال: والله لا أسافر اليوم إلى مكة. الحنث السفر، يجوز له أنه يقدم الكفارة قبل السفر، لكن هل يجوز أن يقدم الكفارة قبل

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 124

اليمين؟ لا يجوز؛ لأن هذا تقديم للعبادة على سببها، لكن تقديم الكفارة بعد السبب يجوز. يعني السبب هو اليمين، واليمين وجد الآن فتجوز الكفارة قبل الحنث قال صلى الله عليه وسلم:«وإني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، ثم أرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» .

(1)

المثال الثاني: الزكاة يجوز أن تُقدمها بعد السبب، وهو بلوغ النصاب، وقبل الحول؛ أي: قبل شرط الوجوب على الصحيح كما هو عند أحمد وجماعة من أهل العلم؛ لحديث العباس

(2)

وجاء في معناه حديث علي رضي الله عنه

(3)

. فإذا اكتمل النصاب أربعون شاة يجوز لك أن تقدم الزكاة بعد تمام النصاب، وقبل شرط الوجوب؛ أي قبل الحول.

المثال الثالث: قتل الخطأ فيه كفارة، فكونه يُقدم الكفارة قبلأن يجرحه لا يجوز.

مثال ذلك: إنسان قال: أنا أخشى أن أقتل شخصًا خطًا، فسأعتق رقبة الآن لا يجوز؛ لأنه تقديم على السبب، لكن لو أن إنسانًا جنى على شخص خطأ، وقبل أن يموت قام وأخرج الكفارة فإن هذا يصح.

المثال الرابع: فدية الأذى مثال: إنسان مُحرِم احتاج إلى أن يفعل محظورًا من محظورات الإحرام مثل كعب بن عجرة رضي الله عنه احتاج إلى أن يحلق رأسه

(4)

، فإنه لا بأس أن يخرج الكفارة ثم يفعل المحظور وعلى

(1)

أخرجه البخاري رقم (6623)، ومسلم رقم (1649).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1468)، ومسلم رقم (983).

(3)

رواه أحمد (781)، وأبو داود رقم (1624)، والترمذي (678) والحاكم (5431) وصوب الدارقطني في علله إرساله من مراسيل الحسن بن ينَّاق، وكذلك رجح إرساله أبو زرعة، وأبو حاتم العلل (1/ 215) وأبو داود في سننه. ومال إلى تضعيفه ابن الملقن والنووي في المجموع (5/ 318) وضعفه ابن حجر في الفتح.

(4)

أخرجه البخاري رقم (1816) ومسلم رقم (1201).

ص: 125

هذا فقس.

فتقديم الشيء على السبب لا يجوز، وتقديمه بعد السبب وقبل الشرط - شرط الوجوب - جائز.

الحال الثالثة: أن يكون بعدهما جميعًا، فهذا مجزئ بلا خلاف.

قوله: [فادر الفروق وانتبه]: يعني ينبغي للمتعلم أن يعرف الفروق.

والفروق: هو العلم الذي يبحث في المسائل المشتبهة في الصورة، المختلفة في الحكم، والدليل، والعلة. وقد عني العلماء رحمهم الله بالفروق وجعلوا لها كتبًا خاصة وذكروها أيضًا في ثنايا بحوثهم فإذا عرف الإنسان الفروق لا تشتبه عليه المسائل، يستطيع أن يفرق بين هذه المسألة وبين المسائل الأخرى فالفائدة من ذلك:

أولا: لا تشتبه عليه المسائل.

ثانيًا: يحفظ هذه المسائل ويُلم بها.

ثالثًا: معرفة شيء من حِكَم الشريعة وأسرارها، ومقاصدها.

ص: 126

‌34 - والشَيءُ لا يَتِمُّ إلا أنْ تَتِمْ

شُروطُه ومَانِعٌ مِنهُ عُدِمْ

قوله: [الشيء] يشمل العبادات، والمعاملات، والتبرعات، والأنكحة، والحدود، والقصاص

إلخ.

قوله: [مانع]: المانع اسم فاعل من المنع.

وأما في الاصطلاح: فله تعريفات منها: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كالحيض مع الصلاة فإنه مانع من صحتها.

وحاصل كلام الناظم: أن الحكم الشرعي لا يتم إلا باستكمال شروطه وانتفاء موانعه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(اتفق على ذلك أهل العلم، ولا خلاف بينهم في ذلك؛ ولكنهم اختلفوا في تنزيلها على بعض القضايا الشرعية والعقلية).

وحكى الاتفاق غير واحد كالغزالي في (المستصفى) والآمدي في (الأحكام).

وهذه القاعدة لابد من مراعاتها عند تنزيل الأحكام الشرعية كالتكفير مثلًا، فلا يكفر المعين حتى تتوفر الشروط: منها كونه مكلفًا، عالمًا بالحكم، مختارًا، وانتفت الموانع ومنها: التأويل السائغ، والجهل، والإكراه.

قال شيخ الإسلام: (اتفق على ذلك عامة السلف، وفقهاء الملة).

والحكم الشرعي هو المقصود، سواء أكان تكليفيًا، أم وضعيًا.

حتى في باب العقائد لا يتم الحكم، ولا يترتب الأثر إلا بهذين الأمرين:

الأمر الأول: توفر الشروط.

الأمر الثاني: انتفاء الموانع.

مثال ذلك: الوضوء لا يتم ولا يترتب عليه أثره، فيرتفع بذلك الحدث،

ص: 127

وتصح به الصلاة إلا إذا توفرت شروطه، وانتفت موانعه.

وشروطه: تكلم عليها العلماء رحمهم الله فذكروا: الإسلام، والعقل، والتمييز، وإزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة

إلى غير ذلك من الشروط؛ فلابد من توفرها، وكذلك الموانع لابد من انتفائها، فلو توضأ المسلم فتمضمض، واستنشق وهو لا يزال يخرج منه الحدث، فإن وضوءه غير صحيح؛ لأن المانع لا يزال باقيًا فلا يترتب عليه أثر.

المثال الثاني: الصلاة لابد من توفر شروطها، وانتفاء موانعها، فلو صلى الإنسان قبل الوقت فصلاته غير صحيحة؛ لتخلف شرط من شروط الصلاة، وكذا لو صلى ولم يستر عورته، أو عليه خبث، أو لم يرفع الحدث

إلخ، لابد من توفر الشروط التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وكذلك لابد من انتفاء الموانع التي تمنع من صحة الصلاة، فلو تنفل تنفلًا مطلقًا في وقت النهي، فصلاته غير صحيحة؛ لوجود المانع، وكذلك لو أكل في الصلاة، أو تكلم فيها

إلخ فصلاته غير صحيحة؛ لوجود المانع.

المثال الثالث: المعاملات، لابد فيها من توفر الشروط وانتفاء الموانع، فلو أن شخصًا عَقَدَ عقْد بيع فلابد من العلم بالثمن، والعلم بالمثمن، وأن يكون البيع صادرًا من مالك، أو من يقوم مقامه، وأن يكون العاقد جائز التصرف

إلخ فلابد من توفر الشروط، وكذلك لابد من انتفاء الموانع، فلو باع أو اشترى بعد أن تضايق وقت المكتوبة فالبيع غير صحيح، أو باع واشترى بعد أذان الجمعة الثاني فهذا البيع غير صحيح؛ لأن الموانع ليست منتفية.

وكذلك في الأنكحة: لو أن شخصًا عقد على امرأة فلابد من توفر الشروط وهي: رضا الزوجين، وتعيينهما، والإشهاد، والولي

إلخ. ولابد من انتفاء الموانع، فلو عقد على امرأة في عدتها، أو هي مُحْرِمة،

ص: 128

أو عقد على امرأة وأختها لازالت في عصمته لم يفارقها بطلاق، أو فسخ، فإن هذا العقد غير صحيح؛ لوجود المانع.

وكذلك في التبرعات فإذا وقَّف الإنسان وقفًا، أو تصدق بصدقة، لابد أن تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، وشروط الوقف ذكرها العلماء رحمهم الله وهي:

أن يكون المسبِّل جائز التبرع، وأن يكون الوقف على بِر إلى آخر ما ذكر العلماء من الشروط، وكذلك لابد من انتفاء الموانع، فلو وقَّف وعليه ديون، أو تصدق وعليه ديون

إلخ فوقفه وصدقته لا تصح؛ لوجود المانع.

وكذلك أيضًا في الوصايا لابد أن تتوفر الشروط، وتنتفي الموانع، فشروط الوصية التي ذكرها العلماء رحمهم الله منها:

العقل، والتمييز، وأن يكون الموصى له أهلًا للتملك

إلخ. وكذلك لابد أن تنتفي الموانع، فلو وصّى بأكثر من الثلث، أو وصى لوارث

إلخ فوصيته لا تصح. فلابد فيها من توفر الشروط وانتفاء الموانع.

المثال الرابع: آيات الوعيد هي في حق من ارتكب أمورًا محرمة، فهو أهل؛ لما جاء في النصوص من الوعيد، لكن قد يكون هناك مانع من العقاب، كالتوبة، أو استغفار المؤمنين له، أو المصائب.

وقد توجد شروط الإرث ويكون هناك مانع من رق، أو قتل، أو اختلاف دِين

إلخ.

والدليل على هذه القاعدة: أن الشارع اشترط اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع:

فالوقت شرط لصحة الصلاة قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وقال عمر رضي الله عنه: «إن للصلاة وقتًا اشترطه الله لها لا تصلح إلا به» ودليل انتفاء المانع في الصلاة قوله

ص: 129

(1)

أخرجه البخاري رقم (36).

(2)

أخرجه الترمذي رقم (1232) وأبو داود رقم (3503) والنسائي (4617) وابن ماجه رقم (2188) وصححه ابن الملقن في البدر المنير (6/ 448).

ص: 130

‌35 - والظنُّ فِي العِبَادةِ المُعْتَبَرُ

ونَفسَ الامرِ في العُقُودِ اعتَبَرُوا

يقول الشيخ رحمه الله: المعتبر في باب العبادات الظن، وأما المعتبر في باب المعاملات فنفس الأمر. قال ابن رجب رحمه الله في القواعد في قاعدة ترجم لها بقوله:(من تصرف في شيء يظن أنه لا يملكه، ثم تبين له أنه يملكه).

ودليل ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها في صفة غُسل النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: «حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات»

(1)

فدل ذلك على أن العبادات يُكتفى فيها بالظن، فلو وقعت على ثوب إنسان نجاسة فنقول: يغسل حتى يظن أنها قد زالت فإذا ظن ذلك كفى، وكذلك إذا أصاب المسلم موجب من موجبات الغسل كجنابة، أو حيض، أو نفاس

إلخ فإنه يفيض الماء على بدنه حتى يظن أنه قد عمّ بدنه بالماء، فإذا ظن ذلك، فإنه كاف، وكذلك لو توضأ الإنسان فإنه يغسل أعضاءه الأربعة حتى إذا ظن أنه قد أسبغ كفى ذلك.

وكذلك في الصيام له أن يأكل إذا ظن أن الشمس قد غربت؛ ولهذا في حديث أسماء رضي الله عنها قالت: «أفطرنا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس» .

(2)

فهنا بنوا على الظن ولو بنوا على اليقين لما طلعت الشمس.

وكذلك في الحج؛ إذا رمى الإنسان الجمار فظن أن الحصى وصلت المرمى، أو ظن أنه طاف سبعة أشواط فإن ذلك كاف

إلخ، وعلى هذا فقس، وأما في المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر، وذكر ابن رجب رحمه الله وغيره صورًا وأمثلة لهذا:

(1)

أخرجه البخاري رقم (272) ومسلم رقم (316).

(2)

أخرجه البخاري (1959).

ص: 131

المثال الأول: لو باع شخصٌ سلعة شخص، ولم يوَكّله هذا الشخص في بيعه، فالأصل أن العقد لا يصح؛ لأن العقد ليس من المالك ولا من يقوم مقام المالك، لكن إذا تبين أن المالك قد وكّله في البيع فإن البيع صحيح اعتبارًا بما في نفس الأمر.

المثال الثاني: إنسان باع سلعة أبيه، وأبوه لم يوكله، ثم بعد ذلك تبين أن أباه قد مات وأنه ورث هذه السلعة ودخلت في ملكه، فإن العقد صحيح اعتبارًا بما في نفس الأمر، ونفس الأمر أنه يملك العقد على هذه السلعة، في المثال الأول يملك العقد على هذه السلعة نيابة، وأما في المثال الثاني فيملك العقد على هذه السلعة أصالة.

المثال الثالث: لو أنه قال لامرأته: أنت طالق يظنها أجنبية وأنها ليست زوجته، ثم تبين بعد ذلك أن هذه المرأة التي واجهها بالطلاق هي زوجته فلا عبرة بالظن وإنما العبرة بما في نفس الأمر، ونفس الأمر هي زوجته وقد واجهها بالطلاق فيقع عليها الطلاق، ذكر ذلك الحنابلة رحمهم الله.

المثال الرابع: لو قال لرقيقه: أنت حر يظن أنه أجنبي ليس رقيقه، ثم بعد ذلك تبيّن أنه رقيقه فإنه يعتق عليه اعتبارًا بما في نفس الأمر

وهكذا.

وقولهم: (العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر) فيه نظر، لاشتراط الرضا في العقود.

• • •

ص: 132

‌36 - لكنْ إذَا تَبَيَّنَ الظنُّ خَطَا

فأبْرِيءِ الذّمةَ صَحِّحِ الخَطَا

يعني إذا تبيّن أن الظن قد أخطأ فيه الإنسان فإنه يستدرك؛ لأنه كما تقدم لنا في باب الأوامر أنه لا يعذر فيها بالجهل، والنسيان، والإكراه ما دام أنه يمكنه أن يستدرك، مثال ذلك قال:

‌37 - كَرَجُلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الوَقْتِ

فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ بَعْدَ الوَقتِ

إذا ظن الإنسان دخول الوقت فله أن يصلي، فإذا صلى لا يخلو من ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن يعلم أنه قد صلى بعد دخول الوقت، فصلاته صحيحة؛ لأنه أدى الصلاة في وقتها.

الحال الثانية: أن يعلم أنه كبَّر قبل الوقت، فهنا يعيد الصلاة كما قال الشيخ رحمه الله:

لكن إذا تبين الظن خطا .... فابرئ الذمة صحح الخطا

فيعيد الصلاة

الحال الثالثة: أن لا يتبين له شيء فالأصل صحة العبادة؛ لأن الإنسان مأمور بإعمال الظن في العبادات، وذكرنا الدليل على ذلك، وإنما يعيد إذا تبين الظن خطأ في باب الأوامر، أما إذا كان في باب النواهي فإنه لا يعيد؛ لأن النواهي يُعذر فيها بالجهل والنسيان والإكراه.

مثال ذلك: إنسان ظن غروب الشمس فأفطر، فهذا لا يخلو من ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن يتبين أنه أفطر بعد غروب الشمس فصيامه صحيح، وهذا بالاتفاق.

الحال الثانية: أن يتبين أنه أفطر قبل غروب الشمس كما في حديث أسماء

(1)

فصيامه صحيح وهو معذور لا يجب عليه أن يعيد الصيام؛ لأن

(1)

تقدم ص (156).

ص: 133

هذا من باب التروك والنواهي، لكن يمسك حتى تغرب الشمس.

الحال الثالثة: أن لا يتبين له شيء فصيامه صحيح.

ومثال ذلك: لو أن الإنسان يظن عدم طلوع الفجر فأكل، أو جامع على الصحيح فإن هذا لا يخلو من ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن يتبين أنه أكل قبل طلوع الفجر، فصيامه صحيح.

الحال الثانية: أن يتبين أنه أكل بعد طلوع الفجر، فصيامه صحيح ولا شيء عليه، فما دام أنه من باب التروك والنواهي فإنه معذور.

الحال الثالثة: أن لا يتبين له شيء فصيامه صحيح.

• • •

ص: 134

‌38 - والشَّكُّ بعدَ الفِعلِ لا يُؤثِّرُ

وهكذَا إذا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ

‌39 - أوْتَكُ وَهْمًا مِثلَ وَسْوَاسٍ فَدَعْ

لِكلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِه لُكَعْ

الشك: هو التردد بين الشيئين، وذكر الناظم رحمه الله أنه لا يُنظر إليه في ثلاث حالات:

الحال الأولى: بعد الفعل، إذا انتهى الإنسان من الفعل فإنه لا ينظر إلى الشك. ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إنسان توضأ وبعد أن انتهى من الوضوء شك هل تمضمض أو لا؟

نقول: لا ينظر إلى الشك؛ لأنه من الشيطان، والأصل وقوع العبادة صحيحة مادام أن العبادة قد انتهت.

المثال الثاني: إنسان اغتسل، ثم شك هل استنشق، أو لم يستنشق فلا ينظر إلى ذلك.

المثال الثالث: إنسان صلى ثم شك هل سبّح في الركوع، أو السجود أو لا؟ فلا ينظر إلى ذلك.

المثال الرابع: إنسان ذبح الذبيحة ثم شك هل سمى، أو لم يسم نقول: لا تنظر إلى ذلك.

المثال الخامس: إذا عَقَدَ عَقْد النكاح، ثم شك هل توفرت شروطه وأركانه أو شك في البيع هل توفرت شروطه أو لا

إلخ، فالأصل في ذلك وقوعه على وجه الصحة.

الحال الثانية: إذا كثرت الشكوك مع الإنسان، يشك في الوضوء، والغسل، والصلاة، والصيام، والزكاة

إلخ، فإنه لا ينظر إلى هذه الشكوك؛ لأن هذه الشكوك من الشيطان ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:«أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» .

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2035)، ومسلم رقم (2175).

ص: 135

ويقول تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] الآية. والنجوى: حديث النفس.

وفي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» .

(1)

الحال الثالثة: إذا كان الشك مجرد وهم فإن الإنسان لا ينظر إليه.

والشك: تساوي الأمرين، فإن ترجح أحدهما فالراجح ظن، والمرجوح وهم، فإذا كان الشك مجرد وهم؛ فإن الإنسان لا ينظر إليه؛ لأن هذه الخطرات لا حقيقة لها.

قوله: [لكع]: بوزن عمر، يقال: رجل لكع: أي لئيم، وقيل: هو العبد الذليل النفس.

والمراد به الشيطان، فالمسلم يترك مثل هذه الشكوك لا ينظر إليها في هذه المواضع؛ لأنها من الشيطان، وهذه الشكوك تولد الوسواس عند الإنسان فإذا حصل له الوسواس ثقلت عليه العبادات كالوضوء، والغسل، والصلاة، وإذا ثقلت عليه أدّى به ذلك إلى تركها نسأل الله السلامة، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج مثل هذه الشكوك قال صلى الله عليه وسلم:«لينته، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم»

(2)

فإذا فعل ذلك فإنها تزول عنه بإذن الله.

وقوله: [لينته] أي ليعرض عن هذه الوساوس، ولا ينظر إليها.

• • •

(1)

تقدم تخريجه ص (113).

(2)

أخرجه البخاري (3276)، ومسلم رقم (134).

ص: 136

‌40 - ثمَّ حديثُ النفسِ مَعْفُوٌّ فَلا

حُكمَ لهُ مَا لمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا

قوله: [حديث النفس]: هي النجوى التي تحدث للإنسان في قرارة نفسه؛ لأن الإنسان له نفس أمارة بالسوء، ونفس لوامة.

فالنفس الأمارة بالسوء: تأمره وتحثه على الشر

إلخ. والنفس اللوامة: تلومه على فعل الشر وتحثّه على فعل الخير، فإذا حصل للإنسان حديث نفس؛ سواء أكان من النفس اللوامة، أم من النفس الأمارة فإنه معفو عن ذلك. وحديث النفس الأمارة بالسوء من الشيطان كما تقدم لنا قوله تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»

(1)

فيقول الشيخ رحمه الله: إن هذا معفو عنه إلا إذا تحول هذا الحديث إلى عمل، سواء أكان هذا العمل قولًا أم فعلًا. والدليل على أنه معفو عنه: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم» .

(2)

مثال ذلك: لو أن إنسانًا في الصلاة حدث نفسه أنه سيذهب ويشتري

إلخ، فلا نقول بأن صلاته باطلة، أو حدث نفسه أنه سيعمل معصية كذا وكذا، فلا نقول بأنه يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم» إلا إذا كان عاجزًا عن الأسباب، فهذا عليه وزر النية، وعلى هذا نقول فيما يتعلق بفعل الطاعة بأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يحدث نفسه بالطاعة مع فعل الأسباب لكن لا يتمكن منها، فهذا يكتب له أجر العمل، والأمثلة على ذلك كثيرة:

(1)

تقدم تخريجه ص (160).

(2)

أخرجه البخاري رقم (5269)، ومسلم رقم (127).

ص: 137

المثال الأول: إنسان نوى أن يصلي صلاة الضحى وقام يتوضأ، لكن قبل أن يشرع في صلاة الضحى حصل له عذر يمنعه من فعل الصلاة فما دام أنه فعل السبب لفعل هذه الصلاة، فإنه يكتب له أجر العمل كأنه صلى، ولله الحمد.

المثال الثاني: إنسان أراد أن يحضر الدرس وفعل الأسباب، لكن حصل له عائق يعوقه عن الدرس، فإنه يكتب له أجر العمل، ويدل لذلك: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»

(1)

فإنه لما أخذ السيف ورفعه في وجه صاحبه كُتب كأنه عمل ذلك؛ لأنه عمل السبب فيُكتب له كأنه قتل صاحبه في الإثم.

القسم الثاني: أن ينوي فعل الطاعة، ولم يفعل السبب فهذا يكتب له أجر النية وليس أجر العمل. ويدل لذلك: ما في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر» وذكر منهم «رجلًا قال: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء» .

(2)

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكتب له أجر النية.

القسم الثالث: أن لا تطرأ نية الطاعة على قلبه فهذا لا له ولا عليه.

وأما ما يتعلق بالهم بفعل المعصية تحته أقسام:

القسم الأول: أن تحدثه نفسه بفعل المعصية مع فعل الأسباب، فإنه يكتب عليه وزر العمل.

مثال ذلك: إنسان أراد أن يشرب دخانًا فذهب وأحضر الدراهم، لكي يشتري الدخان، لكن لم يتمكن من ذلك حصل له عائق، فإنه يُكتب عليه

(1)

أخرجه البخاري رقم (31)، ومسلم رقم (2888).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 231)، والترمذي (3225) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 138

وزر العمل كأنه عمل العمل، ودليل ذلك: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كان حريصًا على قتل صاحبه» .

(1)

وقيل: وزر النية، والحديث خاص بالقتل.

القسم الثاني: أن يحدث نفسه بفعل المعصية، لكنه يعجز عن فعل الأسباب. يعني لو أنه استطاع لاشترى الخمر وشربه، لكنه ليس عنده ولا يتمكن منه فيكتب عليه وزر النية وهذا دليله قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الدنيا الأربعة نفر. وذكر منهم رجلًا قال: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان في الشر فقال صلى الله عليه وسلم: «فهو بنيته فوزرهما سواء»

(2)

فهذا يكتب عليه وزر النية.

القسم الثالث: أن لا تطرأ المعصية على قلبه فهذا لا له ولا عليه.

القسم الرابع: أن يترك المعصية خوفًا من الله عز وجل فهذا يكتب له أجر الترك. يعني لم يتركها عجزًا عن أسبابها، ولم يتركها بعد فعل الأسباب، وإنما تركها خوفًا من الله عز وجل فهذا يُكتب له أجر الترك لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما تركها من جَرَّائي»

(3)

كما في الحديث القدسي.

والإثم المرتب على الفعل المحرم أنواع منها:

النوع الأول: إثم على ذات الفعل.

النوع الثاني: إثم على النتائج والآثار المترتبة على الفعل، فمن زنى بأجنبية فإنه قد ترتب على ذلك آثار منها: إدخال الولد الأجنبي على غير والده، ومنها: إفساد المرأة على زوجها

إلخ. فالعبد يُعاقب بالفعل ذاته والآثار المترتبة عليه.

ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

أخرجه مسلم (129).

ص: 139

الأول كفل منها».

(1)

وجاء في الحديث: «ومن سنَّ سيئة فعليه وزرها

»

(2)

الحديث.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (7321)، ومسلم رقم (1677). وفيه وربما قال سفيان من دمها - لأنه أول من سن القتل أولًا.

(2)

أخرجه مسلم رقم (1017). وفيه (ومن سن في اِلإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

ص: 140

‌41 - والأمرُ للفَورِ فَبَادِرِ الزَّمَنْ

إِلا إذَا دَلَّ دَليلٌ فاسْمَعَنْ

هذه قاعدة أصولية: [أن أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي الفورية] وتقدم أن الأصل في الأوامر أنها تقتضي الوجوب إلا إذا قام الصارف، وهنا نقول:[الأصل في الأوامر أنها تقتضي الفورية إلا إذا وجِد صارف] ويدل لذلك:

أولًا: من السنة حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه: «لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية الصحابة رضي الله عنهم أن يحلوا من إحرامهم، فتأخر الصحابة رضي الله عنهم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على أم سلمة وأخبرها فأشارت إليه أن يخرج وأن يدعو الحلاق ويحلق رأسه، فلما رآه الناس فعلوا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم» .

(1)

الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تأخر الصحابة شق عليه وغضب فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الفورية إذْ لو لم يقتضِ الفورية لمَا غضب النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: حديث عائشة رضي الله عنها

(2)

في حجة الوداع «لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم كل من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه، وأن يجعلها عمرة لكي يكون متمتعًا فتأخر الصحابة رضي الله عنهم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم» فهذا يدل على أن الأمر يقتضي الفورية.

ثالثًا: من حيث اللغة لو أن السيد قال لخادمه: أحضر كذا وكذا فتأخر فإنه يحسن لومه.

رابعًا: فَهْم الصحابة رضي الله عنهم أنه يُراد بالأوامر الفورية، لشدة مبادرتهم بامتثال الأوامر، وهذا القول هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.

الرأي الثاني: أن الأوامر لا تقتضي الفورية، وإنما هي على التراخي، وبه قال الشافعي رحمه الله واحتجوا على ذلك بحجج منها:

أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر تأخر حتى خرج من ذلك الوادي

(3)

، ثم بعد ذلك صلى.

ويجاب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر، بل فعلها مباشرة، وإنما خرج من الوادي؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:«هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان» .

(4)

ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم فُرض عليه الحج في السنة السادسة، أو التاسعة ومع ذلك لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة.

فيجاب عن ذلك بأن الصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه الحج في السنة التاسعة للهجرة، لكن تأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله

(1)

أخرجه البخاري رقم (2731).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1211).

(3)

أخرجه مسلم رقم (680).

(4)

أخرجه مسلم رقم (680) وفيه (فإن هذا منزل [بدل: وادٍ] حضرنا

إلخ.

ص: 141

لتأخره أعذارًا كثيرة وأصح ما قيل في ذلك:

أن مكة فُتحت في السنة الثامنة من الهجرة، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأصبح الناس يقْدمون على النبي صلى الله عليه وسلم لمبايعته، ولذلك سُمي العام التاسع بعام الوفود؛ لكثرة من يفد على النبي صلى الله عليه وسلم فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس في المدينة، لكي يُبايع الناس وأناب أبا بكر رضي الله عنه على الموسم.

أو يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر إلى السنة العاشرة؛ لأن مكة كانت قبل السنة التاسعة في قبضة المشركين فتأخر ولم يحج في السنة التاسعة لكي لا يشارك الكفار المسلمين في حجهم ولهذا بعث أبا بكر رضي الله عنه وأمره أن ينادي «ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان»

(1)

فلكي لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك وتتمحض الحجة للمسلمين تأخر النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري رقم (1622)، ومسلم رقم (1347).

ص: 142

فالصواب: أن الأمر يقتضي الفورية إلا إذا قام الدليل، ومن ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فالأمر بقضاء رمضان على التراخي بدليل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضية إلا في شعبان لمكان الرسول صلى الله عليه وسلم مني»

(1)

. وأيضًا الصلاة وقتها موسع فلا بأس أن الإنسان يصلي أول الوقت، أو في وسطه، أو في آخره مالم يترك واجبًا كالجماعة، فإذا لم يقم دليل على صرف الأمر من الفورية إلى التراخي فالأصل في ذلك الفورية فمثلًا: الصلاة والزكاة، والحج، والكفارات قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وقوله: صلى الله عليه وسلم: «فكفر عن يمينك»

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا»

(3)

.

وكذلك النذر لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»

(4)

فيجب على الفور

إلخ.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (1950) ومسلم رقم (1146).

(2)

أخرجه البخاري رقم (6622)، ومسلم رقم (1652).

(3)

أخرجه مسلم: (1337).

(4)

أخرجه البخاري رقم (6696) وأبو داود رقم (3289).

ص: 143

‌42 - والأمرُ إنْ رُوعيَ فيهِ الفَاعلُ

فَذَاكَ ذُوعَيْنٍ وذَاكَ الفَاضِلُ

‌43 - وإنْ يُرَاعَ الفِعْلُ معْ قطعِ النَّظَرْ

عنْ فاعلٍ فَذو كِفَايةٍ أُثِرْ

هذان البيتان تكلم فيهما الناظم رحمه الله عن الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية؛ لأن الفروض تنقسم قسمين:

القسم الأول: فروض الأعيان.

القسم الثاني: فروض الكفايات.

والفرق بينهما: أنه إن لوحظ العامل في الأمر فذاك فرض عين، وإن لوحظ في الأمر العمل دون العامل فذاك فرض كفاية.

ففرض العين: هو الذي يطلب من كل شخص بعينه.

وأما فرض الكفاية: هو الذي لا يطلب من كل شخص بعينه، وإنما يطلب العمل فقط.

مثال ذلك: الأمر بالصلاة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] الأمر هنا لوحظ فيه العامل، فهو فرض عين، فإقامة الصلاة مطلوبة من كل أحد.

المثال الثاني: الأمر بالوضوء: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ

} [المائدة: 6] الآية.

الأمر هنا لوحظ فيه العامل فنقول: بأنه فرض عين؛ لأن الوضوء مطلوب من كل أحد، وكذلك الغسل فرض عين؛ لأنه مطلوب من كل أحد.

المثال الثالث: صلاة الجمعة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]

الآية؟.

الأمر هنا لوحظ فيه العامل فنقول: بأنه فرض عين وهكذا.

المثال الرابع: الأذان لم يلاحظ فيه العامل، وإنما لوحظ فيه العمل، المقصود إيجاد الفعل فسواء قام بالأذان زيد أو عمرو

إلخ حصل

ص: 144

الغرض، وكذلك الإقامة نقول: من فروض الكفايات وكذلك تغسيل الميت قال صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماءٍ وسدر»

(1)

كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين فتغسيل الميت هنا لم يلاحظ فيه العامل، وإنما لوحظ فيه العمل، وكذلك تكفين الميت والصلاة عليه.

قوله: [وذاك الفاضل]: في هذا بيان أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية ووجه ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»

(2)

ولأن الله عز وجل أمر به جميع الناس فدل ذلك على فضله، وكذلك سنة العين أفضل من سنة الكفاية.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (1265) ومسلم رقم (1206).

(2)

أخرجه البخاري رقم (6502).

ص: 145

‌44 - والأمرُ بعدَ النَّهيِ للحِلّ وَفيِ

قولٍ لِرفعِ النهي خُذْ بِه تَفِي

الأوامر بعد النواهي هل تدل على الإباحة، أو أن الأمر يعود على ما كان عليه قبل النهي؟ هذا موضع خلاف.

ففي ذلك رأيان للأصوليين:

الرأي الأول: أن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة.

الرأي الثاني: أن الأمر بعد النهي يعود إلى ما كان عليه قبل النهي، فإذا كان قبل النهي واجبًا فإنه الآن يكون واجبًا، وإن كان مستحبًا فإنه الآن يكون مستحبًا، وإن كان مباحًا فإنه يكون الآن مباحًا

وهكذا وهذا القول هو الصحيح: ولهذا أمثلة:

المثال الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] المسلم محرَّم عليه الصيد حال إحرامه، ثم بعد ذلك أُمر به، فالأمر هنا بعد الحظر يفيد الإباحة؛ لأن الصيد قبل النهي للإباحة.

المثال الثاني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 9، 10].

هنا الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة؛ لأن البيع قبل النهي مباح، ثم أُمر به بعد النهي فيقتضي الإباحة.

المثال الثالث: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].

نُهي عن قتل المشركين في الأشهر الحرم، ثم بعد ذلك أُمِر به بعد انسلاخ الأشهر الحرم، الأمر هنا بعد الحظر يفيد الوجوب؛ لأن قتل المشركين قبل الأشهر الحرم واجب كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].

المثال الرابع: التطوع في وقت النهي ممنوع، لكن بعد وقت النهي

ص: 146

مأمور به فيقتضي الاستحباب؛ لأنه قبل وقت النهي هذا التطوع مستحب لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأعنِيِّ على نفسك بكثرة السجود» .

(1)

• • •

(1)

أخرجه مسلم رقم (489).

ص: 147

‌45 - وافْعَلْ عَبادةً إذا تَنَوَّعَتْ

وُجُوهُهَا بِكلِّ مَا قَدْ وَرَدَتْ

‌46 - لِتَفْعَلَ السُّنَّةَ في الوَجْهَيْنِ

وتحفظَ الشَّرْعَ بِذِي النّوعَيْنِ

هذه قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله في قواعده: وذلك أنه إذا وردت العبادة على وجوه متنوعة، فاختلف أهل العلم رحمهم الله: هل يخصص نوع من هذه الأنواع، أو أن هذه الأنواع تفعل كلها؟

الرأي الأول: أنه يخصص نوع من الأنواع، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فمثلا في الاستفتاحات يستحب أن يستفتح (بسبحانك اللهم وبحمدك .. )

(1)

وفي التشهدات يقولون: يُستحب أن يتشهد بتشهد ابن مسعود رضي الله عنه

إلخ

(2)

، وهذا قول كثير من أهل العلم رحمهم الله: أنه يخصص نوع من هذه الأنواع، إما لمعنى فيه، أو لكثرته، أو لكونه أصح من غيره، أو لغير ذلك.

الرأي الثاني: أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة لا يخصص شيء منها، بل تفعل هذه العبادات كلها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فمثلًا ورد استفتاحات عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «سبحانك اللهم وبحمدك

»

(3)

، وحديث أبي هريرة «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب

»

(4)

، وحديث عائشة رضي الله عنها «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل،

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(3)

أخرجه أبو داود رقم (775)، والترمذي رقم (242)، والنسائي رقم (900)، وابن ماجه رقم (804) ولفظه: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وصوب أبو داود إرساله وضعفه الترمذي، وكذلك ضعفه الإمام أحمد كما في مسائل ابنه عبد الله ص (76)، وقد جاء هذا الاستفتاح من قول عمر رضي الله عنه موقوفًا، رواه مسلم في صحيحه رقم (399).

(4)

أخرجه البخاري رقم (744) ومسلم رقم (598) ولفظه «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» .

ص: 148

وإسرافيل

»

(1)

وحديث علي رضي الله عنه «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض

»

(2)

. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما «اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن

»

(3)

وغير ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: تشهد ابن مسعود «التحيات لله والصلوات والطيبات

»

(4)

وتشهد ابن عباس «التحيات المباركات الصلوات الطيبات

»

(5)

وتشهد أبي موسى رضي الله عنه «التحيات الطيبات الصلوات لله

»

(6)

وتشهد عمر

(7)

.

(1)

أخرجه مسلم رقم (770) ولفظه: قالت عائشة رضي الله عنها «كان - أي - النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

(2)

أخرجه مسلم رقم (771) ولفظه «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك» .

(3)

أخرجه البخاري رقم (1120)، ومسلم رقم (769) ولفظه «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت - أو: لا إله غيرك» .

(4)

أخرجه البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402).

(5)

أخرجه مسلم رقم (403)«التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله» .

(6)

أخرجه مسلم رقم (404) ولفظه «التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» .

(7)

أخرجه مالك في الموطأ (53) والشافعي في الرسالة (738)، وعبد الرزاق (3067) والبيهقي (2/ 144) ولفظه عند مالك والبيهقي «التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله

» إلخ كتشهد ابن مسعود، وفي لفظ للبيهقي «التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله

» كتشهد ابن مسعود، وقال الدارقطني في علله (2/ 180) ولم يختلفوا أن الحديث موقوف على عمر ورواه بعض المتأخرين عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن الزهري عن عروة عن ابن عبدٍ عن عمر مرفوعًا. ووهم في رفعه والصواب موقوفًا، وكذلك صححه موقوفًا ابن الملقن في البدر المنير (4/ 25).

ص: 149

وتشهد ابن عمر

(1)

، وتشهد عائشة

(2)

رضي الله عنهم، وغير ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان يفعلها كلها، يفعل هذا تارة، وهذا تارة أخرى، وأيضًا التسبيح بعد الصلاة، يسبح، ويحمد، ويكبر ثلاثًا وثلاثين، ثم يقول في تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

(3)

أو يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين ويقول في تمام المائة: الله أكبر

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود رقم (971) والدارقطني (1/ 351) كتشهد ابن مسعود رضي الله عنه وفيه - قال ابن عمر: وزدت فيها «وحده لا شريك له» بعد شهادة أن لا إله إلا الله وقال الدارقطني في سننه (هذا إسناد صحيح) وكذلك صححه ابن الملقن كما في البدر المنير (4/ 27).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (55) وابن أبي شيبة (1/ 293) والبيهقي (2/ 144) ولفظه كما روى القاسم بن محمد عنها قال: «كانت عائشة تعلمنا التشهد وتشير بيدها تقول: التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله السلام على النبي ورحمة الله وبركاته

» إلخ كتشهد ابن مسعود وإسناده صحيح. وقال الدارقطني في علله: وروي هذا الحديث عن عائشة مرفوعًا والصواب وقفه عليها.

(3)

أخرجه مسلم رقم (597).

(4)

أخرجه البخاري رقم (843)، ومسلم رقم (595).

ص: 150

أو يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمسًا وعشرين مرة.

(1)

أو يسبح عشرًا، ويحمد عشرًا، ويكبر عشرًا

(2)

فيفعلها كلها، تارة يفعل هذا، وتارة يفعل هذا، وذكر الشيخ رحمه الله من الفوائد:

أولًا: فعل السنة كلها.

ثانيًا: [وتحفظ الشرع بذي النوعين]: أي: أنك تحفظ العلم لا تنساه، أما إذا داوم الإنسان على عبادة واحدة فإنه ينسى بقية العبادات.

ثالثًا: أن الإنسان إذا كان ينوع فإن هذا أدعى إلى حضور القلب وخشوعه، لكن إذا كان مصِّرا على نوع فإن هذا أبعد عن الخشوع.

رابعًا: أن الإنسان قد يكون مشغولًا لا يتمكن الإتيان من الذكر الطويل، وإنما يتمكن من الذكر القصير فيأتي به وتحصل له السنة.

• • •

(1)

أخرجه ابن خزيمة رقم (752) وابن حبان رقم (2017)، وأحمد (5/ 184)، والترمذي رقم (3413) والنسائي رقم (1351)، والدارمي (1/ 312)، والحاكم (1/ 253)، والطبراني رقم (4898) وقال الترمذي حديث حسن صحيح وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

(2)

أخرجه البخاري رقم (6329).

ص: 151

‌47 - والْزَمْ طرِيقَةَ النَّبِيِّ المُصْطفَى

وَخُذْ بِقَوْلِ الرَّاشِدِين الخُلَفَا

قوله: [والزم طريقة النبي المصطفى]: الطريقة: السيرة، والسنة، ونحوذلك.

وقوله: [النبي المصطفى]: النبي المراد به محمد صلى الله عليه وسلم.

و (أل) هنا للعهد الذهني، وليست للعهد الذكري، ولا للعهد الحضوري.

والنبي: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب النبوات: (أن النبي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله فهو رسول. وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول) اه.

قوله: [وخذ بقول الراشدين الخلفا] الراشد: اسم فاعل من رشد يرشد رشدًا، والرشد نقيض الضلال، وهو إصابة وجه الأمر؛ أي: خذ بقول الخلفاء الراشدين.

ودليل ذلك: حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ

».

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا»

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

(3)

(1)

أخرجه أحمد (4/ 126) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وابن ماجه رقم (42) والدارمي رقم (95)، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وكذلك صححه ابن حبان والحاكم وأبو نعيم كما في جامع العلوم والحكم وصححه البزار فيما نقله عنه ابن عبد البر، وأيضًا صححه ابن عبد البر كما في الجامع وصححه الهروي في ذم الكلام وصححه ابن رجب في الجامع.

(2)

أخرجه مسلم رقم (681).

(3)

أخرجه الترمذي رقم (3662)، وأحمد (5/ 382)، والبيهقي (5/ 12) وفي إسناده ضعف لحال سالم أبي العلاء.

ص: 152

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» .

(1)

فنأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونأخذ أيضًا بسنة الخلفاء الراشدين من بعده أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، فإذا ورد عن هؤلاء سنة لم تخالف الكتاب والسنة كما سيأتينا في شروط قبول قول الصحابي فإننا نأخذ بها.

• • •

(1)

أخرجه الترمذي رقم (3682) وأحمد (2/ 53، 401) والحاكم (3/ 86، 87).

ص: 153

‌48 - قولُ الصَّحابِيْ حُجَّةٌ على الأصَحْ

ما لمْ يُخالِفْ مِثلَه فمَا رَجَحْ

قوله: [قول الصحابي] هو ما أثر عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير في أمر من أمور الدين. والصحابي: هو من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة، أو رآه مؤمنًا ومات على ذلك.

وقول الصحابي ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: قوله فيما لا مجال للرأي فيه فهذا حجة.

القسم الثاني: إذا قال قولًا وخالفه غيره من الصحابة، فليس حجة.

وقد نقل الآمدي، وابن الحاجب، والأسنوي، والفتوحي وغيرهم: الإجماع على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس حجة على صحابي آخر؛ ولهذا قال المؤلف: (ما يخالف مثله فما رجح) لكن ما موقفنا من أقوال الصحابة رضي الله عنهم؟

نقول: موقفنا من أقوالهم أننا نتخير من أقوالهم ما كان أقرب إلى الدليل، وقواعد الشرع وأصوله.

القسم الثالث: إذا قال الصحابي قولًا وانتشر ولم يظهر له مخالف، فجمهور أهل العلم على أنه حجة، وهذا هو الإجماع السكوتي.

القسم الرابع: ما عدا هذه الأقسام، اختلف أهل العلم رحمهم الله هل قول الصحابي حجة أو ليس بحجة؟

الرأي الأول: أنه حجة بشرطين وهو قول جمهور أهل العلم:

الشرط الأول: أن لا يخالف النص؛ أي: الدليل من الكتاب والسنة، وأضاف بعض العلماء شرطًا ثانيًا وهو أن لا يخالف القياس، فإن خالف القياس فالأكثر أنه يحمل على التوقيف؛ لأنه لا يمكن أن يخالف القياس باجتهاد من عنده.

وقال بعض العلماء: لا يكون حجة؛ لأنه خالفه دليل شرعي، أما إن خالف قول صحابي آخر فهذا تقدم بيانه.

ص: 154

واستدلوا على أنه حجة: أولًا: بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100].

ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .

(1)

ثالثًا: أن فتواه لا تخرج عن ستة أمور: إما أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، أو سمعها ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو فهمها من كتاب الله عز وجل فهمًا خفي علينا، أو أن ملأهم اتفقوا عليها ولم يبلغنا إلا قول المفتي، أو أن يكون ذلك لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، ففي كل ما تقدم حجة، وإن فهم ما لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم فليس بحجة.

رابعًا: سلامة عقيدتهم وأنهم أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم؛ لأنهم عاصروه، وعاصروا التنزيل، وأيضًا لم تظهر في عهدهم الآراء والأهواء

إلخ.

الرأي الثاني: أن قول الصحابي ليس بحجة، وهذا نسبه صاحب الورقات أبو المعالي الجويني رحمه الله للشافعي في قوله الجديد، وقد نفى ابن القيم أن الشافعي في الجديد يقول بعدم حجية قول الصحابي كما في إعلام الموقعين.

وممن قال بعدم حجية قول الصحابي أيضًا: الغزالي، ومال إليه أبو المعالي الجويني كما في كتابه التلخيص، وأما في كتابه البرهان فمال إلى أن قول الصحابي حجة إذا خالف القياس.

واستدل من قال بعدم حجيته: أن الصحابة رضي الله عنهم غير معصومين، ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة منها: العول، والجد، والإخوة، وأمهات الأولاد وغير ذلك.

(1)

أخرجه البخاري رقم (3673 (ومسلم رقم (2541).

ص: 155

الرأي الثالث: أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا» .

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» .

(3)

الرأي الرابع: أن الحجة قول الخلفاء الراشدين؛ لما تقدم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه

(4)

، والراجح: أن قول الصحابي حجة.

• • •

(1)

تقدم ص (180).

(2)

تقدم ص (180).

(3)

تقدم تخريجه ص (180).

(4)

تقدم ص (180).

ص: 156

‌49 - وحجَّةُ التّكْلِيفِ خُذهَا أربعَهْ

قرآنُنَا وَسُنَّةٌ مُثَبَّتَهْ

‌50 - مِنْ بَعدِها إجماعُ هذِي الأُمَّهْ

والرَّابعُ القياسُ فَافْهَمَنَّهْ

قوله: [التكليف]: هو ما كلف المخاطب بمقتضاه فعلًا، أو تركًا.

والمكلف هو: البالغ العاقل.

في هذين الشطرين تكلم المؤلف رحمه الله عن أدلة التشريع.

واعلم أن أدلة التشريع تنقسم قسمين:

القسم الأول: أدلة متفق عليها.

القسم الثاني: أدلة مختلف فيها، وسنتعرض إن شاء الله لبيان هذه الأدلة وذكر ما يتعلق بها.

فالأدلة المتفق عليها:

أولًا: القرآن: وهو كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بنفسه، المتعبّد بتلاوته، والقرآن حجة بإجماع المسلمين، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، فالقرآن كله دليل على أن القرآن حجة، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] وأيضا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] فقال: (برهان) يعني حجة.

‌هل في القرآن لفظ غير عربي؟

ذهب الإمام الشافعي إلى أن القرآن محض بلسان العرب، لا يخلطه فيه غيره.

واستدل على ذلك بأدلة منها:

أولًا: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].

ص: 157

ثانيًا: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195].

ثالثًا: أنه نفى عنه سبحانه وتعالى كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه:

الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].

الثانية: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. ولا يُشكل على كون القرآن عربيًا وجود بعض الكلمات الأعجمية فيه، مثل: المشكاة، والإستبرق؛ إذ يمكن حمل هذه الألفاظ التي يقال: إنها أعجمية على واحدٍ مما يلي:

الأول: أن هذه الألفاظ إنما هي عربية لكن قد يجهل بعض الناس كون هذه الألفاظ عربية، ذلك أن لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولا يمتنع أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلًا من لسان العرب.

الثاني: أن هذه الألفاظ أصلها غير عربي ثم عربتها العرب واستعملتها؛ فصارت من لسانها وإن كان أصلها أعجميًا.

‌المحكم والمتشابه في القرآن الكريم:

وسيكون الكلام عن هذا المبحث من خلال الأمور الآتية:

‌الأمر الأول: معنى المحكم والمتشابه بالاعتبار العام الكلي:

ورد وصف القرآن كله بأنه محكم فقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، بمعنى: أنه متقن غاية الإتقان في أحكامه وألفاظه ومعانيه، فهو غاية في الفصاحة والإعجاز.

ص: 158

وورد وصف القرآن كله بأنه متشابه، فقال تعالى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، بمعنى: أن آياته يشبه بعضها بعضًا في الإعجاز والصدق والعدل.

‌الأمر الثاني: معنى المحكم والمتشابه بالاعتبار الخاص النسبي:

ورد أيضًا أن من القرآن ما هو محكم ومنه ما هو متشابه:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

وقد اختلف العلماء في تفسير المحكم والمتشابه والأظهر أن المحكم:

هو ما اتضح معناه، والمتشابه، هو ما لم يتضح معناه، إما لاشتراك أو إجمال.

‌الأمر الثالث: طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه:

الواجب على كل أحد أن يعمل بما استبان له، وأن يؤمن بما اشتبه عليه، وأن يرد المتشابه إلى المحكم، ويأخذ من المحكم ما يفسر له المتشابه ويبينه، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم.

هذه طريقة الصحابة والتابعين في التعامل مع المحكم والمتشابه.

ص: 159

وهنا أمور:

اتفق العلماء على أن ليس في القرآن ما لا معنى له.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الله تعالى قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا، ولم يستثن منه شيئًا لا يتدبر، ولا قال: لا تدبروا المتشابه

وأيضًا فالكلام إنما المقصود به الإفهام؛ فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث

).

واتفق السلف على أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله، كالروح، ووقت الساعة، والآجال، وهذا قد يسمى بالمتشابه.

وأن أسماء الله تعالى وصفاته تكون من المتشابه باعتبار كيفيتها، وليست من المتشابه باعتبار معناها.

‌مسألة: قد اختلف في الأحرف السبعة على أقوال كثيرة:

فقيل: إنها من المشكل المتشابه، وقيل: سبعة أصناف من الحلال والحرام والأمر والنهي

، وقيل: سبع لغات من لغات العرب، وقيل: إن حقيقة العدد ليست مرادة وإنما المراد التسهيل وأن يقرأ كل صحابي بلغته، وقيل: إن هذه اللغات تكون في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.

والأقرب: أنها وجوه متعددة متغايرة منزلة من وجوه القراءة يمكنك أن تقرأ بأي وجه منها، وأقصى حد يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية المنزلة سبعة أوجه.

‌القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة:

القراءة الصحيحة: هي ما صح سندها، ووافقت اللغة ولو من وجه، ووافقت رسم المصحف العثماني.

والقراءة الشاذة: ما صح سندها ووافقت اللغة ولو من وجه، وخالفت رسم المصحف العثماني.

والمخالفة قد تكون بزيادة كلمة أو تغييرها ونحو ذلك، ومثالها قراءة ابن مسعود:«فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ، فكلمة (متتابعات) غير موجودة في المصحف العثماني، ولهذا أطلق عليها بعض العلماء اسم القراءة

ص: 160

الشاذة أو الآحادية.

ولما كان رسم المصحف العثماني متواترًا، عدوا ما خرج عنه آحادا أو شاذا.

واختلفوا في القراءة الشاذة أو الآحادية هل تجوز القراءة بها في الصلاة؟

فذهب الجمهور إلى عدم صحة القراءة بها؛ لأنها ليست قرآنا؛ إذ القرآن متواتر وهي ليست متواترة.

وذهب بعض العلماء إلى صحة القراءة بها في الصلاة إذا صح سندها، واستدل بأن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرأون بها ولا يمكن أن نقول ببطلان صلاة هؤلاء وأمثالهم.

وهذا القول إحدى الروايتين عن مالك وإحدى الروايتيتن عن أحمد واختاره ابن القيم رحمه الله، ومذهب الجمهور أحوط. وكون القراءة نقلت عن أحد الصحابة بطريق الآحاد لا يلزم منه كونها قرآنا، ولا يلزم أنه كان يقرأ بها في الصلاة؛ لاحتمال أنه كان يقولها تفسيرًا لما في القرآن من إجمال، وتقييدا لما فيه من إطلاق.

‌حجية القراءة الشاذة:

اختلف العلماء في حجية القراءة الشاذة (الآحادية) على قولين:

القول الأول: أنها حجة، وهو منسوب لأبي حنيفة وأحمد، وأكثر أصحابهم، وحكاه البويطي عن الشافعي.

ودليل هذا القول: أن هذه القراءة نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح فهي لا تخلو إما أن تكون قرآنا أو سنة، وعلى كلا الاحتمالين فهي حجة.

القول الثاني: أنها ليست بحجة، وهو المشهور عن الشافعي رحمه الله.

والدليل على ذلك: أن الصحابي نقلها على أنها قرآن، لا على أنها

ص: 161

سنة، وهي لا يمكن أن تكون قرآنًا؛ لأن القرآن متواتر وهي غير متواترة، ولأن الظاهر أنها تفسير من الصحابي نفسه، ومذهب الصحابي ليس حجة عند الشافعي، والراجح هو القول الأول.

وأما السنة: فالأدلة أيضًا كثيرة: فكل السنة دليل على وجوب طاعة الله عز وجل، ومن طاعة الله الأخذ بما جاء في كتاب الله عز وجل.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» .

(1)

ثانيًا: السنة كما ذكر الشيخ رحمه الله [وسنة مثبتة].

والسنة في اللغة: الطريقة والسيرة، سواء أكانت حميدة، أم غير حميدة.

وأما في الاصطلاح: فهي قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، والسنة أيضًا حجة بالإجماع.

والدليل على حُجية السنة أدلة كثيرة: من ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

وأما الأدلة من السنة على حجية السنة فمنها:

حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»

(2)

الحديث.

(1)

انظر ص (128).

(2)

انظر ص (180).

ص: 162

ومنها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم» .

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم»

(2)

، وكذلك الإجماع منعقد على حجية السنة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فيشترط لحجية السنة أن تكون ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

مسألة: ما المقصود بتقريره صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو حجة؟

المقصود بتقريره صلى الله عليه وسلم أن يفعل أحدُ الصحابة بحضرته فعلًا أو يقول قولًا فيمسك صلى الله عليه وسلم عن الإنكار ويسكت، كإقراره صلى الله عليه وسلم إنشاد الشعر المباح

(3)

.

والأصل في حجية إقراره صلى الله عليه وسلم هو أنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ سكوته يدل على جواز ذلك الفعل أو القول، بخلاف سكوت غيره.

وكذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن وجوب إنكار المنكر لا يسقط عنه بالخوف على نفسه لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

وإنما يكون سكوته صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره حجة فيدل على الجواز بشرطين:

الشرط الأول: أن يعلم صلى الله عليه وسلم بوقوع الفعل أو القول، فإما أن يقع ذلك بحضرته، أو في غيبته لكن ينقل إليه، أو في زمنه وهو عالم به لانتشاره انتشارًا يبعد معه ألا يعلمه صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثاني: ألا يكون الفعل الذي سكت عنه صلى الله عليه وسلم صادرًا من كافر، لأن إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يفعله الكفار معلوم ضرورة، فالعبرة في فعل أحد المسلمين.

(1)

انظر ص (65).

(2)

انظر ص (128).

(3)

أخرجه البخاري رقم (3212)، ومسلم رقم (2485).

ص: 163

مسألة: حجية تركه صلى الله عليه وسلم:

والمقصود بالترك: تركه صلى الله عليه وسلم فعل أمر من الأمور.

وهو نوعان بالنسبة لنقل الصحابة رضي الله عنهم له:

النوع الأول: التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقول الصحابي في صلاة العيد:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة»

(1)

.

النوع الثاني: عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله صلى الله عليه وسلم لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحدٍ منهم على نقله للأمة، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة ولا حدث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن.

وذلك كتركه صلى الله عليه وسلم التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه.

وتركه صلى الله عليه وسلم لفعل من الأفعال يكون حجة، فيجب ترك ما ترك كما يجب ما فعل بشرطين:

الشرط الأول: أن يوجد السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده صلى الله عليه وسلم وأن تقوم الحاجة إلى فعله، فإذا كان الحال كذلك وتركه صلى الله عليه وسلم ولم يفعله كان تركه لهذا الفعل سنة

(2)

يجب الأخذ بها ومتابعته في ترك هذا الفعل. أما إن انتفى المقتضي ولم يوجد السبب الموجب لهذا الفعل فإن ترك النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ لا يكون سنة؛ لأن تركه كان بسبب عدم وجود المقتضي إذ لو وجد المقتضي لفعله صلى الله عليه وسلم وذلك كتركه صلى الله عليه وسلم قتال مانعي الزكاة فقط؛ إذ إن هذا الترك كان لعدم وجود السبب وعدم قيام المقتضي، فلما فعل أبو بكر رضي الله عنه ذلك وقاتل مانعي الزكاة فقط

(3)

لم يكن مخالفًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري رقم (690)، ومسلم رقم (885) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أخرج البخاري رقم (7290).

(3)

أخرجه البخاري رقم (1400)، ومسلم رقم (20).

ص: 164

الشرط الثاني: انتفاء الموانع وعدم العوارض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد يترك فعلًا من الأفعال - مع وجود المقتضي له- بسبب وجود مانع يمنع من فعله.

وذلك كتركه صلى الله عليه وسلم قيام رمضان مع أصحابه في جماعة -بعد ليالٍ- وعلل ذلك بخشيته

أن يُفرض عليهم، فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قارئ واحد

(1)

، ولم يكن هذا الاجتماع بهذه الهيئة مخالفًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا جَمْع القرآن

(2)

، فإن المانع من جمعه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويُحكم ما يريد، فلو جُمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه.

أما تركه صلى الله عليه وسلم للأذان في العيدين فلم يكن لوجود مانع، لذا كان هذا الترك سنة نبوية يجب اتباعه فيها عليه الصلاة والسلام.

وكذا يشترط أن لا يكون الترك لحق الغير خبر الآحاد

(3)

والكلام عنه من وجوه:

‌الوجه الأول: تعريف خبر الآحاد:

الآحاد: جمع أحد بمعنى واحد، والواحد هو الفرد.

وفي اصطلاح الأصوليين هو: ما عدا المتواتر.

فيشمل كل خبر لم تتوفر فيه شروط المتواتر.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2010).

(2)

أخرجه البخاري رقم (4986).

(3)

انظر معالم في أصول الفقه ص (117 - 140) وأصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص (103 - 119) و «شرح الكوكب المنير» (2/ 160) و «مجموع الفتاوى» (19/ 82 - 92)، و «إعلام الموقعين» (2/ 290 - 293) والمسودة» (191)، و «قواعد الأصول» (39).

ص: 165

‌الوجه الثاني: حجية خبر الواحد:

قال الخطيب البغدادي: «وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين، ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا اعتراض عليه.

فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه».

الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد:

أولًا: ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من إنفاذه أمراءَه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام وأخذ الصدقات ودعوة الناس.

ثانيًا: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتهار ذلك عنهم في وقائع كثيرة ومن ذلك تحول أهل قباء إلى القبلة بخبر واحد.

ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .

رابعًا: أن خبر الواحد حجة في الأحكام والعقائد، دون تفريق بينهما:

وهذا أمر مجمع عليه عند السلف.

والدليل على وجوب قبول خبر الواحد في أبواب الاعتقاد: الأدلة الموجبة للعمل بخبر الواحد؛ فإنها عامة مطلقة، لم تفرق بين باب وباب ومسألة وأخرى، ثم إنه يترتب على القول برد خبر الواحد في العقائد رد كثير من العقائد الإسلامية الصحيحة.

والتفريق بين أحاديث الأحكام والعقائد أمر حادث فهو بدعة في دين الله؛ لأن هذا الفرق لا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن تابعيهم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام، وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم.

ص: 166

قوله: [من بعدها إجماع هذي الأمة]: هذا الدليل الثالث: من أدلة التشريع، وهو دليل الإجماع.

والإجماع في اللغة: يطلق على العزم والاتفاق، ومن ذلك قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} .

أما في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد وفاته على أمر ديني.

قولنا: (اتفاق): يخرج وجود خلاف، ولو كان المخالف واحدًا فلا إجماع.

قولنا: (مجتهدي): أي من توفرت فيه شروط الاجتهاد، ويخرج المقلدين والعوام فلا عبرة وفاقًا وخلافًا.

قولنا: (أمة محمد صلى الله عليه وسلم: يخرج الأمم السابقة فلا يعتد بإجماعهم.

قولنا: (في عصر من العصور): يخرج من مات، ومن لم يولد.

قولنا: (بعد وفاته): يخرج الاتفاق في حياته صلى الله عليه وسلم.

قولنا: (أمر ديني): يخرج الأمور الدنيوية، والعقلية، واللغوية.

والإجماع حجة، وقد دل على حجيته القرآن، والسنة، أما القرآن: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] مفهوم هذه الآية أننا إذا لم نتنازع في شيء فإنه حجة بذاته.

وأيضًا: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

فقال تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإذا أجمع المؤمنون على شيء فهذا سبيلهم، فإذا اتبع غير السبيل فهو ضال.

وأيضًا: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدولًا خيارًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ومقتضى الشهادة

ص: 167

على الناس: أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولًا وفعلًا.

وأما السنة: فما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه ضعف - «لا تجتمع أمتي على ضلالة» .

(1)

وكذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة فأثنى عليها الصحابة رضي الله عنهم خيرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجَبَتْ» ثم مروا عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» ثم قال: «أنتم شهداء الله في الأرض»

(2)

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» .

(3)

و‌

‌الإجماع يشترط لحجيته

شروط:

الشرط الأول: أن يكون الإجماع من العلماء المجتهدين فلا عبرة

(1)

أخرجه الترمذي في جامعه رقم (2167) وابن أبي عاصم في السنة (80) والحاكم في المستدرك (1/ 115) والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (322) وضعفه الترمذي والدارقطني في علله. وجاء من وجه آخر رواه أبو داود رقم (4253) والطبراني في الكبير رقم (3440) وابن أبي عاصم في السنة (92) وضعفه ابن كثير في تحفة الطالب (122) والزركشي في المعتبر وابن حجر في التلخيص (3/ 141) وقال: هذا حديث مشهور له طرق كثيرة لا يخلو واحد منها من مقال.

وقد جاء هذا من قول أبي مسعود البدري أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (85)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 244) والحاكم في المستدرك (4/ 506) ورجاله ثقات، وقال الحافظ في التلخيص إسناده صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الزركشي والظاهر وقفه على أبي مسعود.

(2)

أخرجه البخاري رقم (1367) ومسلم رقم (949). وفيه قال عمر (ما وجبت) قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت إليه النار أنتم شهداء الله في الأرض).

(3)

أخرجه أحمد (1/ 379)، والبزار (1816) والحاكم (3/ 79) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأخرجه أبو داود الطيالسي رقم (243) والبيهقي في الاعتقاد رقم (251) من وجه آخر.

وقال ابن القيم في الفروسية (82) عن هذا الأثر: وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، وقال ابن كثير في تحفة الطالب (391) إسناده جيد.

ص: 168

بإجماع العوام، ويكفي الاجتهاد الجزئي؛ لأن اشتراط الاجتهاد المطلق يؤدي إلى تعذر الاجتهاد.

الشرط الثاني: الإسلام، وهذا ظاهر لكن يذكره الأصوليون.

الشرط الثالث: أن يكون الإجماع من جميع العلماء المجتهدين، وعند ابن جرير رحمه الله لا عبرة بمخالفة الواحد والاثنين.

الشرط الرابع: أن يكون المجمعون أحياء موجودين.

الشرط الخامس: العدالة، وهو قول جمهور الأصوليين، وعند بعضهم لا يشترط؛ لعدم ما يدل على ذلك.

الشرط السادس: اختلف الأصوليون في انقراض عصر المجتهدين هل هو شرط أو ليس شرطًا لصحة الإجماع.

يعني لو أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على مسألة من المسائل هل يشترط أن ينقرضوا لكي يكون إجماعهم حجة أو ليس شرطًا؟

جمهور الأصوليين: على أن انقراض عصر المجتهدين ليس شرطًا؛ لأن أدلة الإجماع لا توجب انقراض العصر؛ ولأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة.

وقال بعض الشافعية - وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله أنه يشترط انقراض العصر؛ لاحتمال رجوع بعضهم.

يترتب على الإجماع:

أولًا: وجوب اتباعه، وحرمة مخالفته من أهله، ومن غيرهم.

ثانيًا: لا يقع إجماع على خلاف نص؛ لأن الأمة لا تجتمع على خطأ.

ثالثًا: لا يقع إجماع على خلاف إجماع لاسْتِلزامه تعارض قطعيين.

رابعًا: لا يجوز ردة هذه الأمة.

خامسًا: لا يمكن للأمة تضييع نص تحتاج إليه، لكن قد يجهله البعض دون الكل.

ص: 169

سادسًا: الإجماع المعلوم يكفر مخالفه، وغير المعلوم يمتنع تكفيره.

مسألة: جمهور الأصوليين: إذا اختلف الصحابة على قولين لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؛ لاتفاقهم على عدم القول الثالث، لكن يجوز إحداث تفصيل؛ لأنه لا يرفع القولين.

وإذا كان لا يجوز إحداث قول ثالث فيما إذا اختلفت الأمة على قولين، فإنه يجوز إحداث تأويل ثالث في معنى آية أو حديث فيما إذا اختلفت الأمة في تأويلها أو تأويله على قولين أولى.

إذ تجويز ذلك معناه أن الأمة كانت مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث

مسألة: إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين، لم يجز للتابعين الإجماع على أحدهما؛ لأن في انعقاد هذا الإجماع نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عن الدليل الذي أوجب الإجماع.

قال ابن تيمية: «والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه، كما يكفر مخالف النص بتركه، ........... وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره» .

مسألة: لا يعتبر قول العامي في الإجماع؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا فإن شفاء العيِّ السؤال»

(1)

. فقد تبين هنا أن العامي يلزمه المصير إلى أقوال العلماء، فلا تعتبر مخالفته فيما يجب عليه التقليد فيه.

ولأن المجتهدين إنما كان قولهم حجة؛ لأنه مستند إلى دليل؛ حيث لا يجوز إثبات الأحكام بلا دليل، والعامي ليس أهلًا للاستدلال والنظر

(1)

أخرجه أبوداود في سننه رقم (336)، والدار قطني (1/ 189)، والبيهقي (1/ 227)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

ونقله الدار قطني عن أبي بكر بن أبي داود، وضعفه البيهقي وجماعة وجاء من حديث ابن عباس أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 330)، وأبو داود في سننه رقم (337)، وابن ماجه رقم (572)، والدارمي (758)، وأعله أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني.

ص: 170

في الأدلة، فلا يكون قوله معتبرًا لذلك.

قوله: [والرابع القياس فافهمنه]: هذا الدليل الرابع من الأدلة المتفق عليها؛ وهو القياس وهو في اللغة: التقدير.

وفي الاصطلاح: إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعه. ويتبين من هذا التعريف أركان القياس، فأركان القياس أربعة:

الركن الأول: الأصل: وهو المقيس عليه.

الركن الثاني: الفرع: وهو المقيس.

الركن الثالث: العلة الجامعة: وهي الوصف الجامع بين الفرع والأصل لإثبات الحكم.

الركن الرابع: الحكم: وهو محل القياس.

والقياس حجة باتفاق الأئمة الأربعة، فهم يتفقون على أن القياس حجة، وخالف في ذلك الظاهرية ومع ذلك فإنهم يقولون بالقياس. يعني إذا قرأت في كتبهم تجد أنهم يلتزمون بالقياس أحيانًا.

وقد دل على حجية القياس: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

أما الكتاب فالأدلة على ذلك كثيرة: فكل الأدلة التي ورد فيها الأمر بالاعتبار، والتفكر والتي فيها ضرب الأمثال دالة على إثبات القياس ومن ذلك:

أولًا: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] والميزان: ما توزن به الأمور ويقاس بينها.

ثانيًا: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت: 39].

فهنا فيه قياس، قياس إحياء الموتى على إحياء الأرض.

ثالثًا: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] هنا قياس الإعادة على البدء فإعادة الخلق هنا قيست

ص: 171

على بدء خلقهم، بل أهون فاستدل الله عز وجل على وجود البعث بخلق الناس أول مرة.

رابعًا: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].

خامسًا: كل الأدلة التي فيها الأمر بالاعتبار والتفكر كما في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

وغير ذلك من الأدلة.

وأما السنة فالأدلة أيضًا كثيرة من ذلك:

أولًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل؟» قال: «نعم» قال صلى الله عليه وسلم: «فما ألوانها؟» قال: حمر قال: «هل فيها من أورق» ؟ قال: إن فيها لوُرْقا قال: «فأنى أتاها ذلك» قال: عسى أن يكون نزعه عِرْق قال: «وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق» .

(1)

فهنا قاس النبي صلى الله عليه وسلم لون هذا الولد على ألوان هذه الإبل.

ثانيًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء» .

(2)

فهنا قاس النبي صلى الله عليه وسلم دَين الله عز وجل على دَين المخلوق، فكما أنه يجب قضاء دَين المخلوق فكذلك أيضًا يجب قضاءُ دَين النذر.

وكذلك من الأدلة: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على استخدام القياس في

(1)

أخرجه البخاري رقم (5305)، ومسلم رقم (1500).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1852).

ص: 172

وقائع كثيرة من هذه الوقائع: قياسهم مانع الزكاة على مانع الصلاة في قتاله، وقولهم في خلافة أبي بكر:«رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا!؟» .

(1)

ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: «اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه في أمهات الأولاد - أن لا يبعن كالحرائر، أما الآن فقد رأيت بيعهن كالإماء»

(2)

.

و‌

‌القياس يشترط لحجيته شروط:

الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل المقيس عليه ثابتًا بنص، أو إجماع، أو اتفاق الخصمين عليه ولا يكون منسوخًا.

الشرط الثاني: أن يكون المقيس عليه معقول المعنى.

الشرط الثالث: أن توجد العلة بتمامها في الفرع الذي يطلب إلحاقه بالأصل، أو يغلب الظن على وجودها، وأن لا يكون حكم الفرع منصوصًا عليه بنص يخالف حكم الأصل.

الشرط الرابع: أن يكون حكم الفرع مساويًا لحكم الأصل.

الشرط الخامس: أن تكون العلة متعدية.

الشرط السادس: أن تكون العلة ثابتة بنص، أو إجماع، أو استنباط.

الشرط السابع: أن لا تخالف العلة نصًا، أو إجماعًا.

الشرط الثامن: إذا كانت العلة مستنبطة، فلابد أن تكون وصفًا مناسبًا صالحًا لترتب الحكم.

الشرط التاسع: أن يكون القياس في الأحكام الشرعية العملية، ولا يجري القياس في العقائد والتوحيد إذا أدى ذلك إلى البدعة.

ويفهم من هذه الشروط أن القياس لا يكون في المقدّرات، وكذلك

(1)

أخرجه ابن سعد ف ي طبقاته (3/ 183)، وإسناده ضعيف جدًا.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (7/ 291) وسعيد بن منصور (2046) وابن أبي شيبه (6/ 436) بسند صحيح.

ص: 173

لا يكون في العلة إذا كانت تعبدية ليست معقولة المعنى.

ومن‌

‌ أمثلة القياس:

ما سبقت الإشارة إليه من حديث عبادة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء»

(1)

فالشارع نص على الذهب والفضة وأنه يجري فيهما الربا، فقاس العلماء رحمهم الله على الذهب والفضة: كل ما كان ثمنًا للأشياء مثال ذلك: الريالات والجنيهات والدينارات

إلخ. هذه يجري فيها الربا قياسا على الذهب والفضة، فالذهب والفضة: أصل، وهذه الريالات: فرع، والعلة: الثمنية، والحكم: جريان الربا.

المثال الثاني: «البر بالبر

إلخ» قاس العلماء رحمهم الله: الأرز على البر في جريان الربا، فالأصل المقيس عليه هو البر، والفرع المقيس هو الأرز، والعلة هي الطعم والكيل، والحكم: جريان الربا، وعلى هذا فقس.

والعلة: هي مناط القياس الشرعي، وهي أحد أركانه الأربعة:

الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والعلة.

فلا يصح القياس الشرعي إلا بعلة صحيحة مثال ذلك: منع القاضي من القضاء حال الغضب، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان»

(2)

فقرر العلماء أن المنع هنا إنما هو لتشويش ذهن القاضي بالغضب الذي منعه من النظر الصحيح، فقاسوا عليه كل ما يشوش الذهن كالفرح الشديد، والجوع الشديد، ونحوه.

ولذلك فإن بحث العلة وأحكامها بحث مهم لطالب العلم؛ لأنه هو الطريق الصحيح لتطبيق القياس الشرعي باعتباره دليلًا من أدلة الشريعة.

(1)

تقدم تخريجه ص (94).

(2)

أخرجه البخاري رقم (7158)، ومسلم رقم (1717).

ص: 174

قال ابن القيم رحمه الله: ولهذا يذكر الشارع العلل، والأوصاف المؤثرة، والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12].

والعلة التي يصح القياس بها لها شروط كثيرة من أهمها:

الشرط الأول: أن يكون المعنى الذي عُلل به مشتملًا على جلب منفعة، أو دفع مفسدة مثل: تحريم الخمرة لعلة الإسكار لدفع مفسدة إذهاب العقل.

الشرط الثاني: أن تكون العلة ظاهرة فإن كانت خفية لم يصح التعليل بها مثل تعليل صحة البيع بالرضا؛ لأن الرضا معنى قلبي لا يُطلع عليه، ولذلك علل بالإيجاب والقبول.

الشرط الثالث: أن لا تخالف العلة نصًا ولا إجماعًا؛ لأنهما مقدمان عليها.

الشرط الرابع: أن توجد كلما وجد الحكم وتتخلف كلما تخلف الحكم، وهذا في الجملة.

والعرب وضعت ألفاظًا تدل على التعليل منها:

اللفظ الأول: (من أجل) قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» .

(1)

اللفظ الثاني: (إذًا) كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74، 75].

(1)

أخرجه البخاري رقم (6241) ومسلم رقم (2156).

ص: 175

اللفظ الثالث: ذكر المفعول لأجله {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

اللفظ الرابع: ذكر لفظ الحكمة كقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].

اللفظ الخامس: (إنّ) مكسورة الهمزة مشددة النون كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات»

(1)

.

أو كانت الألفاظ نصًا ظاهرًا وهي التي تدل على العلية وغيرها، وهي فيها أرجح، ومن ألفاظها:

اللفظ الأول: (اللام) كقوله:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

اللفظ الثاني: (الباء) كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160].

اللفظ الثالث: (الفاء) كقوله: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73].

اللفظ الرابع: (لعل) كقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].

اللفظ الخامس: (حتى) كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

والإجماع كأن ينعقد الإجماع على أن هذا الوصف علة لهذا الحكم.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ (1/ 22) وأحمد (5/ 303) وأبو داود رقم (75)، والنسائي (1/ 55)، والترمذي رقم (92) وابن ماجه رقم (367) وابن خزيمة رقم (104) وابن حبان رقم (121) وابن الجارود (60) وصححه البخاري والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والعقيلي والحاكم والدارقطني والنووي والبغوي وشيخ الإسلام ابن تيمية وقال الحاكم وهذا الحديث مما صححه مالك واحتج به في الموطأ ومع ذلك فإن له شاهد بإسناد صحيح.

ص: 176

كالصغر: ثبوت الولاية على الصغير، وعلة تحريم الخمر: الإسكار، والجهل بالعوض علة لفساد البيع.

وهناك مباحث تتعلق بالإجماع والقياس، والعلة تكلمنا عليها في شرح الورقات، وكذا بقية الأدلة.

ثانيًا: ينقسم القياس باعتبار علته إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قياس العلة، وهو: ما صرح فيه بالعلة فيكون الجامع هو العلة، وذلك كقوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].

يعني: هم الأصل، وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم الهلاك.

والقسم الثاني: قياس الدلالة، وهو: ما لم تُذكر فيه العلة، وإنما ذُكر فيه لازم من لوازمها؛ كأثرها أو حكمها فيكون الجامع هو دليل العلة، وذلك كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

فالأصل القدرة على إحياء الأرض، والفرع القدرة على إحياء الموتى، والعلة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلة.

والقسم الثالث: القياس في معنى الأصل، وهو: ما كان بإلغاء الفارق فلا يحتاج إلى التعرض إلى الجامع، وذلك كإلحاق الضرب بالتأفيف، وهذا القسم هو القياس الجلي؛ ويسمى: بمفهوم الموافقة.

ثالثًا: ينقسم القياس إلى: قياس طرد، وقياس عكس.

فقياس الطرد: ما اقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه.

وقياس العكس: ما اقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.

ص: 177

ومثال هذين القسمين:

«وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس؛ فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يُعلم أن من فعل مثل ما فعلوا، أصابه مثل ما أصابهم، فيتقي تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد، ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس» .

والعلماء حين يعرفون القياس إنما يعرفون قياس الطرد لأنه الأصل، أما قياس العكس فقل من يراعيه عند تعريف القياس؛ إما لأنه لا يرى حجيته، وإما لقلة وروده في كلام الفقهاء، وإما لاختلاف الحقيقتين وتعذر الجمع بينهما في تعريف واحد.

والمراد بالطرد هنا: ثبوت الحكم لثبوت الوصف المدعى عليته.

والعكس: انتفاء الحكم لانتفاء الوصف المدعى عليته.

والأدلة المختلف فيها:

أولًا: قول الصحابي، وسبق هل هو حجة أو ليس حجة

إلخ؟ تقدم الكلام على ذلك

(1)

.

ثانيًا: الإجماع السكوتي: وهو أن يشتهر القول، أو الفعل من البعض ويسكت الباقون عن إنكاره.

اختلف العلماء رحمهم الله في حجيته:

قال أكثر العلماء: إنه حجة تنزيلًا للسكوت منزلة الرضا، وقال الشافعي، وهو قول الظاهرية: ليس حجة.

والصواب: ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنه يُنظر إلى قرائن الأحوال، وأحوال الساكتين، وملابسات المقام، فإن غلب على الظن اتفاق الجميع فهو حجة ظنية، وإن قطعنا باتفاقهم فهو حجة قطعية، وإن ترجحت

(1)

انظر ص (181).

ص: 178

المخالفة فليس حجة.

ثالثًا: إجماع أهل المدينة، هل هو حجة أو ليس بحجة؟ لخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماع أهل المدينة، وأنه لا يخلو من أحوال:

الحال الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: نقلهم المد والصاع فهذا حجة بالاتفاق.

الحال الثانية: العمل القديم قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فهذا حجة عند جمهور أهل العلم، فالجمهور على أن سنة الخلفاء الراشدين حجة.

الحال الثالثة: أن يتعارض دليلان ونجهل أرجح الدليلين، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، فهذا يُرجَّح بعمل أهل المدينة كما قال الإمام مالك والشافعي رحمهما الله وغيرهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله ليس حجة، وعن الإمام أحمد روايتان.

الحال الرابعة: العمل المتأخر لأهل المدينة، فالجمهور على أنه ليس بحجة، وقد كتب الليث بن سعد رحمه الله إلى الإمام مالك رحمه الله فيما يتعلق بعدم حجية عمل أهل المدينة يعني العمل المتأخر؛ لأن الصحابة اختلفوا، وتفرقوا في البلاد، وأيضا هم كغيرهم اختلفوا فيما بينهم فعملهم ليس حجة.

رابعًا: شرع من قبلنا هل هو حجة أو ليس بحجة؟ هذه المسألة تنقسم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يوافق شرعنا شرع من قبلنا، فهذا حجة. يعني يكون شرعًا لنا، ومن ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فالصيام مكتوب علينا ومكتوب عليهم.

القسم الثاني: أن يثبت أنه شرع لهم، ويثبت أنه ليس شرعًا لنا. يعني أن يخالف شرعنا شرعهم، فهذا ليس حجة بالاتفاق، ومن ذلك قوله

ص: 179

تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

القسم الثالث: ما سكت عنه. يعني ثبت بطريق صحيح أنه شرع لهم ولم يرد في شرعنا أنه شرع لنا، فموضع خلاف. والصواب: أنه حجة لنا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف: 111] ولقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138].

فالصواب: أنه حجة لنا إذا سكت عنه في شرعنا، لكن لابد من شرطين:

الشرط الأول: ثبوته.

الشرط الثاني: أن لا يكون من الإسرائيليات.

خامسًا: الاستصحاب، والاستصحاب في اللغة: طلب الصحبة وهي الملازمة.

وفي الاصطلاح: استدامة إثبات ما كان ثابتًا، ونفي ما كان منفيًا، حتى يأتي الدليل المغير.

ويستصحب الدليل الشرعي، فلا يترك حتى يأتي الناسخ، ويستصحب العموم والإطلاق حتى يأتي المخصص والمقيد، ويستصحب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه.

والاستصحاب ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: استصحاب البراءة الأصلية، فهذا حجة بالاتفاق.

مثال ذلك: الصلوات خمس؛ فيُستدل على إيجاب نفي صلاة سادسة باستصحاب البراءة الأصلية، وأن الذمة بريئة من إيجاب صلاة سادسة.

أيضًا الذي يجب صومه شهر رمضان يُستصحب عدم وجوب صوم شهرٍ آخر بالبراءة الأصلية.

القسم الثاني: استصحاب دليل الشرع، وهذا أيضًا حجة، ويقسمه

ص: 180

العلماء رحمهم الله إلى أمرين:

الأمر الأول: استصحاب عموم النص حتى يرد المخصص.

مثال ذلك: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] يشمل كل المشركين من أهل الكتاب ومن أهل الأوثان

إلخ فهذا عام حتى يرد المخصص.

الأمر الثاني: استصحاب العمل بالنص حتى يرد الناسخ أيضًا.

مثال ذلك: المثال السابق: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} . نعمل به حتى يرد ما يدل على النسخ.

القسم الثالث: استصحاب حكم الشرع، فإذا كان عندنا حكم دل الشرع على ثبوته لورود سببه، فالأصل ثبوت الحكم حتى يرد الناقل من ذلك.

مثال ذلك: في البيع: زيد اشترى سيارة فنحكم بملك زيد لهذه السيارة حتى يرد الناقل، إما أن يبيع، أو يهب، أو يوقف

إلخ؛ فالشرع حكم بملك زيد لهذه السيارة بالبيع فنستصحب حكم الشرع، وأنها لاتزال لزيد حتى يرد الدليل، أو يرد الناقل.

القسم الرابع: استصحاب حكم الإجماع: جمهور أهل العلم رحمهم الله على أنه ليس حجة.

سادسًا: الاستحسان وهو في اللغة: الحسن وهو الجمال والزينة.

واعلم أن الاستحسان كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينقسم قسمين:

القسم الأول: ترجيح أحد الدليلين لمرجح، أو العمل بأقوى الدليلين، فهذا استحسان صحيح بالاتفاق. وهذا ما يعبر عنه ب «العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص» .

القسم الثاني: ما يستحسنه المجتهد بعقله. يعني يرى بعقله ورأيه أن

ص: 181

هذا هو الحسن فيقول به أو أنه غير حسن فلا يقول به فهذا باطل بالاتفاق. وقد قال الشافعي رحمه الله: (من استحسن فقد شرَّع) قال العلماء رحمهم الله: (مراد الشافعي أن يقول بلا علم، بل يقول بالهوى والتشهي).

وما نُسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أنه يقول بالاستحسان - يعني كون الإنسان يستحسن بعقله - فهذا لا يصح؛ لأن العلماء رحمهم الله متفقون على أنه يحرم على الإنسان أن يقول على الله بغير علم؛ ولهذا أبو يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة رحمه الله لما ذهب إلى المدينة، واطلع على بعض السنن التي كانت خافية عليه قال:(لو علم صاحبي - يعني أبا حنيفة رحمه الله ما علمت لرجع كما رجعت).

فالصواب: أن الاستحسان ينقسم إلى هذين القسمين.

فالمعنى الصحيح باتفاق هو أن الاستحسان: ترجيح دليل على دليل، أو هو العمل بالدليل الأقوى أو الأحسن.

سابعًا: المصالح المرسلة، وقد تقدم تعريف المصالح.

وأما المرسلة بمعنى المطلقة، واعلم أن المصالح تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مصالح اعتبرها الشارع يعني جاء بها الشرع، وهذا كما تقدم

(1)

أنه يشمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية، والمصالح التحسينية.

القسم الثاني: المصالح الملغاة وهي: التي ألغى الشارع اعتبارها؛ لكونها مصادمة للدليل من النص، أو الإجماع.

مثال ذلك: كفارة الوطء في نهار رمضان: إعتاق رقبة، فإن لم يجد

(1)

انظر ص (54).

ص: 182

فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وهذا يشمل كل الناس، فكوننا نقول: إن الغني لا يكفِّر بالعتق، وإنما يكفِّر بالصيام؛ لأنه واجد الآن والمصلحة أن نردعه ونزجره فيكفِّر بالصيام، هذه المصلحة باطلة؛ لأن الشارع ألغى هذه المصلحة وجعل الحكم عامًا.

القسم الثالث: المصالح المرسلة. يعني المطلقة، وهي كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، ولم يشهد لها الشارع بإلغاء أو اعتبار، وإنما تستند إلى دليل كلي عام. فهل هذه معتبرة أو ليست معتبرة؟

هذا موضع خلاف بين أهل ا لعلم رحمهم الله:

فبعض العلماء قال: بأنها معتبرة، منهم الإمام مالك، وأحمد رحمهما الله إلا أن تكون في العبادات، والمقدرات، والكفارات.

وبعضهم أنكر اعتبار هذه المصالح المرسلة.

والذين قالوا بعدم اعتبارها قالوا: هذا يؤدي إلى التلاعب بالشريعة، أو إدخال ما ليس فيها، فكل من أراد أن يثبت شيئًا قال المصلحة دلت على ذلك، والذين قالوا بأنها تعتبر قالوا: بأن هذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم.

وقد ضرب الشاطبي

(1)

أمثلة لاجتهاداتٍ بنوْا أحكامها على المصلحة ومنها: (جمع القرآن في مصحف واحد

(2)

، وحدهم شارب الخمر بثمانين

(3)

، وقضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع)

(4)

،

(1)

في كتابه الاعتصام (2/ 99).

(2)

أخرجه البخاري رقم (4679).

(3)

أخرجه البخاري رقم (6779).

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 217) والبيهقي في سننه (6/ 122) عن علي رضي الله عنه وهو ضعيف جدًا لأنه من رواية جعفر بن محمد عن أبيه وأبوه لم يسمع من علي، وكذلك ضعفه الشافعي والبيهقي وابن الملقن وروي من وجه آخر وفيه ضعف أيضًا

ص: 183

وعمر رضي الله عنه اشترى دارًا للسجن

(1)

، وأيضًا جعل الدواوين

(2)

، وألزم بالطلاق الثلاث

(3)

إلخ.

واشترط العلماء رحمهم الله شروطًا لإعمال المصلحة المرسلة:

الشرط الأول: أن يغلب على الظن وجود المصلحة، فلا تكون متوهمة، أو مشكوكًا فيها.

الشرط الثاني: أن تكون المصلحة في الكليات الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعرض.

الشرط الثالث: أن تتفق مع أصول وقواعد الشريعة ولا تصادم الدليل.

الشرط الرابع: أن لا تكون في العبادات، والمقدرات كالمواريث وأنصبة الزكاة.

الشرط الخامس: أن تكون مصلحة عامة لا خاصة ولا تعارضها مصلحة أرجح منها، فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم يجز إعمال هذه المصلحة بل تنتقل إلى كونها بدعة.

ولهذا قال بعض العلماء: بأن الخلاف لفظي. يعني بناء على هذه الشروط.

• • •

(1)

هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه كتاب الخصومات باب الربط والحبس في الحرم. ووصله عبد الرزاق في مصنفه (5/ 148) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 7) وعبد الله بن الإمام أحمد في مسائله (280) والبيهقي في سننه (6/ 34).

(2)

أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد فضائل الصحابة (1/ 328) وفي العلل (2/ 194) وإسناده صحيح إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 300) ورجاله لا بأس بهم من قول أبي هريرة وجاء عند الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 581) من قول صعصعة بن صوحان.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1472).

ص: 184

‌51 - واحْكُمْ لِكلِّ عَامَلٍ بنيّتِه

واسْدُدْ على المحتَالِ بابَ حيلتِهْ

هذا البيت تضمن شطرين:

الشطر الأول: يتعلق بقاعدة من القواعد الخمس الكلية وهي‌

‌ قاعدة: [الأمور بمقاصدها]

وأشار إليها المؤلف رحمه الله بقوله: [واحكم لكل عامل بنيته] وهذه القاعدة أشار إليها السعدي رحمه الله بقوله:

النية شرط لسائر العمل

بها الصلاح والفساد للعمل

(1)

الشطر الثاني: يتعلق بالحيل.

قوله: [النية] في اللغة: العزم والقصد، جاء في لسان العرب (نوى الشيء قصده واعتقده).

وفي الاصطلاح: عزم القلب على الفعل تقربًا لله عز وجل، وهذه القاعدة:[الأمور بمقاصدها] ذكر الشافعي رحمه الله: أنها تدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه، وهذا من قبيل التمثيل وإلا فإنها تدخل في جُل مسائل الفقه، ما من باب من أبواب الفقه إلا وتدخله هذه القاعدة، قاعدة:[الأمور بمقاصدها] وليست خاصة بالفقه، بل في العقائد والعمليات كما سيأتي إن شاء الله.

والنية لها معنيان:

الأول: انبعاث القلب نحو قول، أو عمل يراه موافقا لغرض صالح له من جلب مصلحة، أو دفع مضرة، وهذا المعنى عام للأمور الدينية والدنيوية.

الثاني: قصد الطاعات والتقرب إلى الله تعالى بفعل المأمور به أو بترك المنهي عنه، وهذا المعنى أخص من الأول؛ لأنه لا يكون إلا في الأمور الشرعية، وهذه القاعدة من أجمع قواعد الدين وأشملها وأعظمها منزلة.

(1)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي البيت رقم (11).

ص: 185

قال ابن القيم رحمه الله: (وأما النية فهي رأس الأمر، وعموده، وأساسه، وأصله الذي عليه ينبني

).

والأدلة على هذه القاعدة كثيرة من القرآن والسُنّة.

أما القران: فقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] قال تعالى: {مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] هذه النية.

وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]

إلخ.

وأما السنة فكثير: من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

.

قال أبو عبيدة: (ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع، وأغنى، وأكثر فائدة منه). وقد جعله بعض الأئمة ثلث العلم، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي داود، وغيرهم.

ومن الأدلة: حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»

(2)

أخرجه البخاري ومسلم.

قال القرطبي: (أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، سواء أكانت واجبة، أم مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة).

ومن الأدلة أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يُبعثون على نياتهم»

(3)

وحديث

(1)

تقدم ص (43).

(2)

أخرجه البخاري رقم (55)، ومسلم رقم (1002).

(3)

أخرجه البخاري رقم (2118) ومسلم رقم (2884) وفيه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم) قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم).

ص: 186

عقبة بن عامر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة وذكر منهم: وصانعه يحتسب في صنعته الأجر» .

(1)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد رضي الله عنه: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها

الحديث».

(2)

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولكن جهاد ونية» .

(3)

متفق عليه.

والإجماع قائم على اعتبار هذه القاعدة.

‌النية اشترط العلماء لها شروطًا:

الشرط الأول: الإسلام، فالكافر لا تصح نيته في الجملة فلا تصح عباداته كصلاته ووضوئه، ونحو ذلك لكن تصح عقوده كالبيع والإجارة، وفسوخه كطلاقه، وإقالته، ونحو ذلك.

الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا تصح نيته، فلو نوى المجنون أنه يصلي لم تصح نيته؛ لأنه لا قصد له معتبر.

الشرط الثالث: التمييز؛ فغير المميز لا تصح نيته فلو كان الطفل له سنتان، أو ثلاث سنوات ونوى أن يتوضأ، أو نوى أن يصلي لا تصح نيته، والمميز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب.

ويشترط التمييز إلا في باب الحج والعمرة، فإنه لا يُشترط التمييز.

واعلم أن الحج والعمرة لها مسائل فيما يتعلق بالنية تختلف فيهما عن كثير من أبواب الفقه كالوضوء، والغسل، والصلاة، والصيام

إلخ

(1)

أخرجه أحمد في سننه (4/ 146) وأبو داود رقم (2513)، والترمذي رقم (1637)، والنسائي رقم (3148)، وابن ماجه (3811).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1295) ومسلم رقم (1628).

(3)

أخرجه البخاري رقم (3189)، ومسلم رقم (1353).

ص: 187

فالحج والعمرة لا تشترط لهما النية فيصح الحج والعمرة من الصبي الذي لم يميز.

ويدل لذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبيًا للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر»

(1)

قال العلماء رحمهم الله: ولو كان ابن ساعة يعني لو ولد الآن فيصح حجه وعمرته وينوي عنه وليه.

الشرط الرابع: العلم بالمنوي: بأن يعلم المكلف حكم الذي يعمل من وجوب، أو ندب، وهل هذا العمل عبادة أو عادة، وكذا العلم بصفته إذْ لا يتصور قصد الشيء إلا بعد العلم به.

الشرط الخامس: أن لا يأتي بمناف بين النية والمنوي، والمنافي قطعها، أو الردة، والعياذ بالله.

وللنية أربع فوائد:

الفائدة الأولى: تمييز العبادات بعضها عن بعض، فالإنسان يُصلي ركعتين، قد يقصد بهما الفرض، وقد يقصد بهما السنة الراتبة، أو تحية المسجد، كذلك أيضًا قد يصلي ركعتين وينوي بهما نفلًا مطلقًا، أو سنة مقيدة فيميز الإنسان الفروض عن النوافل، والنوافل المعيَّنة عن المطلقة.

الفائدة الثانية: تمييز العبادات عن العادات، فالإنسان ينغمس في الماء، قد ينوي بذلك أن ينظف بدنه وقد ينوي بذلك أن يرفع الحدث الأكبر عنه.

الفائدة الثالثة: الإخلاص لله عز وجل، وسيأتي إن شاء الله الإشارة فيما يتعلق بالتشريك في النية

(2)

فقد يتصدق الإنسان وينوي بذلك وجه الله عز وجل، وقد ينوي بذلك الرياء والسمعة وعرض الدنيا

إلخ.

الفائدة الرابعة: فيما يتعلق بتداخل العبادات فالضابط في ذلك: أنه

(1)

أخرج مسلم رقم (1336).

(2)

انظر ص (221).

ص: 188

إذا كانت العبادة ليست مقصودة لذاتها فإنها تدخل مع غيرها.

مثال ذلك: تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإنها تدخل مع غيرها كالسنة الراتبة، فإذا دخلت المسجد لصلاة الظهر فإنك تصلي ركعتين تنوي بهما السنة الراتبة وتنوي تحية المسجد.

فإذا نويت تحية المسجد والسنة الراتبة حصل لك صلاتان بركعتين، وإذا توضأت وأتيت المسجد تنوي السنة الراتبة، وتحية المسجد، وركعتي الوضوء يحصل لك ثلاث صلوات بركعتين فهذه من فوائد النية، وكذلك إذا توضأ الإنسان للضحى وصلى ركعتين ينوي بهما ركعتي الوضوء وركعتي الضحى يحصل له صلاتان بركعتين.

ولو أن الإنسان عطس وهو يرفع من الركوع فقال بعد قوله: سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد، ينوي بذلك التحميد، وأيضًا قول الحمد لله بعد العطاس فإنه يجزئ.

وكذلك لو أن الإنسان لم يطف طواف الإفاضة، ثم أخره حتى خرج من مكة فإنه يطوف، ينوي بذلك طواف الإفاضة وطواف الوداع ويجزئ.

الفائدة الخامسة: حصول الثواب، فالنية شرط الإثابة فإنه يتوقف حصول الثواب على قصد التقرب إلى الله تعالى بهذا الفعل أو القول، فالمباح كالأكل والشرب ونحو ذلك إذا صحبها نية صالحة كالاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على طاعة الله تعالى بهذا المباح يكون عملًا صالحًا يثاب عليه المسلم.

الفائدة السادسة: في العقود والفسوخ: الكنايات تحتاج إلى نية.

مثال ذلك: إذا قال لزوجته: اخرجي إلى أهلك، إن نوى الطلاق طلقت، وإلا فلا.

‌محل النية:

محل النية القلب قال النووي رحمه الله: «بلا خلاف» .

وكذا قال ابن تيمية

ص: 189

رحمه الله وغيرهما: ولا يتلفظ بها كما هي رواية في مذهب الإمام أحمد وغيره أنها مستحبة واحتجوا بالأثر «لبيك عمرة وحجًا»

(1)

وكذلك بالنظر قالوا: اجتماع جارحتين في عمل آكد وأولى.

وعلى هذا ليست من أعمال الجوارح، وإنما هي من أعمال القلوب يكفي في ذلك قصد القلب وعزيمته، وأما التلفظ بها فهذا لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته إذْ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة أو الوضوء قال: نويت أن أصلي، أو أتوضأ، أو أغتسل

إلخ. وأما بالنسبة للحج والعمرة فهو تصريح بالمنوي وليس بالنية. ولهذا لا يشرع للإنسان إذا أراد أن يحرم بالحج أو العمرة أن يقول نويت العمرة، أو نويت الحج، وإنما يلبي بالمنوي إظهارًا لشعيرة الله عز وجل فإذا أراد الحج قال:«لبيك حجًا» وإذا أراد العمرة قال: «لبيك عمرة» ولا يشرع أن يقول نويت العمرة متمتعًا بها إلى الحج

إلخ، أو قصدت الحج

إلخ، فالإيراد الذي يأتي في الحج نقول: بأن الحج إظهار للمنوي وليس إظهارًا للنية، فالتلبية شعيرة النسك وهي تحدث بعد نية العمل. صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أنكر على رجل قال:«اللهم إني أريد حجًا أو عمرة»

(2)

قال ابن رجب رحمه الله «في شرح الأربعين» هذا خبر صحيح عنه.

‌مسألة: هل النية شرط أو ركن في العبادات؟

هذا مما وقع الخلاف فيه، والفرق بين الشرط والركن: أن الشرط يكون سابقًا للمشروط بينما الركن جزء من أجزائه.

وإذا تقرر لنا أن النية تسبق الفعل فإنها حينئذ تكون شرطًا وأما النية المقارنة للفعل، فإنها ركن في العبادة وهذا يجرنا إلى مبحث وهو:

(1)

أخرجه البخاري رقم (4353)، ومسلم رقم (1232).

(2)

رواه البيهقي (5/ 40).

ص: 190

‌ما هو وقت النية؟

الأصل أن تكون النية مقارنة للفعل المنوي، أو قبله بيسير إلا أن الشارع صحح سبق النية للفعل في بعض الأعمال، مثل: الصوم، فإنه تصح نيته من الليل، ولو لم تكن نيته مقارنة لأول الصوم.

‌مسألة: ما لا تشترط له النية:

هناك أشياء لا تشترط لها النية منها:

أولًا: التروك ومنها إزالة الخبث، فلو أن الإنسان أصاب ثوبه بول، ثم وقع ثوبه في ماء، أو نزل عليه المطر ولم ينوِ إزالة الخبث من هذا الثوب فإنه يطهر؛ لأن المقصود إزالة الخبث، وقد حصل وسواء كان هذا الخبث على الثوب، أو البدن، أو البقعة التي يُصلى عليها.

ثانيًا: العبادة التي لا تكون عادة، قال العلماء رحمهم الله: لا تشترط لها النية مثل الخوف من الله عز وجل، والتوكل عليه، وقراءة القرآن، وغيرها من العبادات التي لا تكون عادات؛ لكونها لا تلتبس بغيرها.

ثالثًا: ما كان نفعه متعديًا، فهذا أيضًا لا تشترط له النية.

مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يزرع زرعًا، أو يغرس غرسًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو حيوان إلا كُتب له بذلك أجر»

(1)

فهذا الرجل زرع زرعًا لم يقصد بذلك إطعام الطير، بل أحيانًا يضع في زرعه ما يدفع الطير ويمنعه من أكل الزرع، ومع ذلك إذا أكل من هذا الزرع فإنه يكتب له الأجر عند الله عز وجل.

‌مبطلات النية:

1 -

الردة ودليل ذلك: قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

2 -

قطع حكم النية، فإذا قطع حكمها فإنها تبطل عبادته.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2320)، ومسلم رقم (1353).

ص: 191

مثال ذلك: إذا كان يصلي، أو يتوضأ ثم قطع نيته، فإن عبادته ونيته تبطل.

3 -

التردد في القطع، هل يبطل النية أو لا؟

مثال ذلك: إذا تردد هل يبطل وضوؤه أو غسله أو صلاته أو يستمر فيه؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب: أنها لا تبطل عبادته؛ لأن أصل النية لا يزال باقيًا.

ويدل لذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه»

(1)

فابن مسعود رضي الله عنه لما أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام يقول: هممت أن أجلس وأترك النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فابن مسعود رضي الله عنه عزم على ذلك، ومع ذلك لم تبطل عبادته.

4 -

العزم على فعل المحظور هذا لا يبطل النية، فلو أن الإنسان يصلي ثم عزم على أن يأكل، أو يشرب، أو يتكلم

إلخ من المبطلات فإن نيته لا تبطل.

‌الانتقال بالنية من عبادة إلى عبادة فهذا له أربع صور:

الصورة الأولى: أن ينتقل من عبادة معينة إلى عبادة معينة فتبطل الأولى ولا تنعقد الثانية، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إنسان شرع يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الفجر وهو محدث فنوى أن هذه الصلاة هي صلاة الفجر، فنقول: بطلت الأولى وهي صلاة الظهر؛ لأنه قطع نيتها ولم تنعقد الثانية وهي صلاة الفجر؛ لأن النية كما سبق لنا أن محلها قبل الشروع في العبادة بزمن يسير أو مع الشروع فيها.

(1)

أخرجه البخاري رقم (1135)، ومسلم رقم (773).

ص: 192

المثال الثاني: إنسان يصلي الظهر ثم تذكر أنه لم يصلِّ راتبة الظهر القبلية فنوى أنها راتبة الظهر القبلية، فالحكم هنا بطلت صلاة الظهر؛ لأنه قطع نيتها ولم تنعقد السُنة القبلية؛ لأنه لم ينوها قبل الشروع فيها.

الصورة الثانية: أن ينتقل بنيته من معيّن إلى مطلق فهذا لا بأس به.

والمعيّن: هو المقيد بزمان أو مكان أو حال.

ومن المعين الفرض فإذا انتقل من المعين إلى المطلق فلا بأس به.

مثال ذلك: إنسان يصلي الظهر، ثم نوى أنها نفل مطلق ليس معينا فلا بأس بذلك؛ لأن الصلاة اشتملت على نيتين نية الإطلاق ونية التعيين، فالآن هو أبطل نية التعيين فبقيت نية الإطلاق.

الصورة الثالثة: أن ينتقل بنيته من مطلق إلى معين فلا يصح.

مثال ذلك: إنسان صلى نافلة مطلقة ثم انتقل من هذه النافلة المطلقة إلى نافلة معينة؛ كأن ينوي بهذه النافلة المطلقة سنة راتبة، أو فريضة فلا يصح هذا الانتقال.

الصورة الرابعة: الانتقال من مطلق إلى مطلق، فهذا لا أثر له؛ لأنه لا يترتب عليه شيء.

مثال ذلك: إنسان نوى أن يصلي أربع ركعات نفلا مطلقًا ركعتين ركعتين، فشرع في الركعتين الأوليين، ثم نوى أن هاتين الركعتين الأوليين هما الركعتان الأخيرتان، فهذا لا يترتب عليه شيء.

‌التشريك في النية:

الأصل أن الإنسان يخلص العمل لله عز وجل وضابط الإخلاص: أن لا يريد بعمله إلا وجه الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [النساء: 114] وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]

إلخ فإن خالف هذا الأصل وشرَّك في نيته

ص: 193

فهذا لا يخلو من أحوال:

الحال الأولى: أن ينوي التقرب بعمله لغير الله عز وجل، مثل: أن يريد بذلك ثناء المخلوقين ومدحهم ونحو ذلك فيتقرب إليهم بعمله فهذا شرك.

الحال الثانية: أن يريد بعمله نيل غرض دنيوي، فهذا عمله حابط ففي الحال الأولى قصد مراءاة الناس وتسميعهم لكي يمدحوه ويعظموه والحال الثانية ليحصل على غرض دنيوي فالأول شرك والثاني محرم، وعمله حابط؛ لأنه يريد بعبادته أمرًا من أمور الدنيا إما أن تكون له وظيفة أو يأخذ على ذلك مالًا أو نحو ذلك.

الحال الثالثة: أن يقصد الأمرين التقرب إلى الله عز وجل وحصول الغرض الدنيوي فهذا تحته أحوال:

الحال الأولى: أن يتساوى في قلبه الأمران التقرب إلى الله عز وجل وحصول الغرض الدنيوي فهذا عمله لا ثواب له.

الحال الثانية: أن تغلب نية التقرب إلى الله عز وجل ويقصد بذلك أيضًا الغرض الدنيوي، لكن نية التقرب هي الغالبة فهذا فاته كمال الإخلاص فينقص عليه الإخلاص، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«ما من سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم» .

(1)

الحال الثالثة: عكس هذه الحال وهي أن تغلب نية الغرض الدنيوي، فهذا لا ثواب له عند الله.

وقوله: [واسدد على المحتال باب حيلته]: هذا الشطر من البيت يتعلق بالحيل.

‌الحيلة في اللغة:

الحذق في تدبير الأمور، وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود. والحيلة والاحتيال: الحذق، وجودة النظر، والقدرة

(1)

أخرجه مسلم رقم (1906).

ص: 194

على دقة التصرف.

وأما في الاصطلاح: فهو عمل يتحول به فاعله من حال إلى حال.

والأدلة على الحيل كثيرة جدًا من ذلك: قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98].

ومن الأدلة ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه»

(1)

فاليهود احتالوا على تحريم الشحوم، لم يأكلوها مباشرة وإنما أكلوا أثمانها.

وأيضًا «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ والمحلَّل له»

(2)

.

واعلم أن الحيل تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: حيل شرعية.

القسم الثاني: حيل غير شرعية محرمة.

‌الحيل الشرعية:

هي التي يأتي بها الإنسان للتخلص من المأثم، أو التوصل إلى الحق، أو دفع باطل بطريق مشروع، وذلك مثل الأسباب التي نصَبَها الشارع مُفْضِية إلى مسبباتها، كالبيع سبب لتملك الرقبة، والإجارة سبب لتملك المنفعة، وكذلك المعاريض في الكلام، عند المصلحة، أو عند دفع الظلم عنه؛ كأن يكون عنده وديعة لشخص فيأتي ظالم يريد أن يأخذ هذه الوديعة فيعرض له يقول: ما له عندي شيء ويقصد في جيبه مع أن الوديعة في البيت، أو ماله عندي شيء في بيتي

(1)

أخرجه البخاري رقم (2236) ومسلم رقم (1581).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 448) والنسائي (6/ 149) والترمذي رقم (1120)، والدارمي (2/ 158) وابن أبي شيبة (3/ 553) والبيهقي (7/ 208) وصححه الترمذي وابن حزم وابن دقيق العيد وابن القطان وابن الملقن وغيرهم ..

ص: 195

مع أنها في مكان آخر

إلخ، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بتمر جنيب (جديد) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا يعني (التمر الجنيب) بالصاعين يعني من التمر الرديء (الجَمْع) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلا تفعل بع الجَمْعَ (التمر الرديء) بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»

(1)

أي: تمرًا جديدًا؛ فهذا من باب الحيلة لا للوقوع في الحرام، وإنما لتوقي الحرام فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يستطيع به أن يتخلص من الوقوع في الحرام فبدلًا من أن يقع في ربا الفضل، مثل أن يأخذ الصاع بصاعين أرشده إلى أن يبيع الجمع (التمر الرديء) بالدراهم ويشتري بالدراهم جنيبًا.

‌الحيل المحرمة:

وهي الحيل التي يتوصل بها إلى إبطال حق؛ أو إحقاق باطل، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: في باب العبادات: صلاة الجماعة واجبة فلو أكل شخص بصلًا، أو ثومًا لكي يتحيل على ذلك بترك الجماعة لم يجز.

ومنها: الفطر في رمضان محرم فيتحيل على ذلك بالسفر لكي يفطر، فإن هذه الحيلة محرمة، ومن الأمثلة في المعاملات: بيع العينة محرم؛ لأنه حيلة على ربا الفضل وربا النسيئة، بدلًا من أن يقرضه خمسين بستين إلى أجل يسلك مسلك العينة فيشتري منه سلعة بثمن مؤجل بستين ألفًا ثم يبيعها عليه بخمسين ألفًا أصبحت خمسين بستين.

ومن ذلك في باب الأنكحة: نكاح التحليل فالنبي صلى الله عليه وسلم: «لعن المحلَّ والمحلَّل له»

(2)

فيتزوج المرأة لا لقصد الزواج وإنما لقصد أن يحلها لمن طلقها ثلاثًا، فإذا كان ذلك عن مؤامرة واتفاق، أو لم يكن هناك اتفاق وإنما نوى التحليل للزوج ولم يقصد الاستمرار فهذا كله محرم ولا يجوز.

ومن القواعد المندرجة تحت عموم هذه القاعدة:

قاعدة: [قولهم

(1)

أخرجه البخاري رقم (2201) ومسلم رقم (1593).

(2)

تقدم قريبًا.

ص: 196

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني] فتنعقد البيوع والإجارات ونحوها من المعاملات بكل مادل على مقصودها من قول أو فعل عرفًا، وليس لذلك صيغة أو فعل محدد.

ومنها قاعدة: [الثواب لا يكون إلا بنية].

ومنها: قولهم: [المقاصد معتبرة في التصرفات والعادات].

ومنها: قاعدة: [من كان عازمًا على الفعل عزمًا جازمًا وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل].

ومنها قولهم: [من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه].

ومنها قاعدة: [التداخل في العبادات].

ومنها قولهم: [اللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية].

ومنها قولهم: [الكناية مفتقرة إلى نية].

• • •

‌52 - فإنَّما الأعمالُ بالنَّيَّاتِ

كَما أَتَى في خبرِ الثِّقاتِ

هذه قطعة من حديث عمر رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى» .

(1)

قوله: [كما أتى في خبر الثقات]: هذا الحديث في الصحيحين فهو متفق على صحته وهذا البيت كما تقدم تابع لقاعدة [الأمور بمقاصدها].

ص: 197

‌53 - ويَحْرُمُ المُضِيُّ فيما فَسَدَا

إلا بحجِّ واعْتِمَارٍ أَبَدَا

أي يحرم على الإنسان إذا فسدت العبادة أن يمضي فيها.

مثال ذلك: الصلاة إذا فسدت يحرم على الإنسان أن يمضي فيها، وكذلك الصيام، وكما يكون ذلك في العبادات يكون في المعاملات والأنكحة، فالبيع إذا فسد لاختلال شرط من شروطه يحرم أن يمضي فيه.

مثال ذلك: إذا كان الثمن مجهولًا، أو كان المبيع مجهولًا، وكذلك النكاح إذا كان فاسدًا اختل شرط من شروطه؛ لعدم الولاية، أو عدم الرضا ونحوه، فإن ذلك يحرم المضي فيه.

المهم أن هذه القاعدة شاملة للعبادات، والمعاملات، والأنكحة فهذه الأشياء إذا فسدت يحرم على الإنسان أن يمضي فيها.

ويدل لذلك: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا»

(2)

فدل ذلك على أنه إذا سمع صوتًا، أو وجد ريحًا فإنه ينصرف ولا يستمر في عبادته.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»

(3)

فالصلاة مع الحدث هذه مردودة، وإذا كانت مردودة فإنه لا يجوز للإنسان أن يمضي فيها.

وكذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتكما قال عقبة: فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟»

(4)

فنهاه عنها.

(1)

تقدم تخريجه ص (43).

(2)

تقدم تخريجه ص (113).

(3)

تقدم تخريجه ص (154).

(4)

أخرجه البخاري رقم (88) و (2640) ولم يخرجه مسلم.

ص: 198

وكذلك أيضًا غيلان الثقفي لما أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا وأن يفارق سائرهن.

(1)

وكذلك فيروز الديلمي لما أسلم وتحته أختان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار واحدة

(2)

إلخ. بناء على ثبوت هذين الحديثين فالمضي في النكاح الفاسد، والمعاملة الفاسدة، والعبادة الفاسدة محرم، ولا يجوز.

قوله: [إلا بحج واعتمار أبدًا]: إلا العمرة والحج فإنه يجب المضي في فاسدهما هذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافًا للظاهرية.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فجعل الله تعالى المتلبس بالحج والعمرة كالناذر، والناذر يجب عليه أن يوفي بنذره، وكذلك الحج والعمرة يجب عليه أن يوفي بهما حتى ولو فسدا لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم فإنه ورد عن عبد الله بن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم

(3)

فيمن وطأ قبل التحلل الأول فإنه يفسد عليه حجة ويمضي فيه

(1)

أخرجه أحمد (2/ 13) والترمذي رقم (1128) وابن ماجه رقم (1953) وابن حبان (9/ 466) والحاكم (2/ 193) وقد طعن في هذا الخبر الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم وأبو زرعة ومسلم بن الحجاج.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 232) وأبو داود رقم (2243) والترمذي رقم (1129) وابن ماجه رقم (1951) وابن حبان (9/ 462) والدارقطني (3/ 273) والبيهقي (7/ 184) وضعفه البخاري والعقيلي (2/ 44) وابن قطان الفاسي.

(3)

الأثر المروي عن عمر وعلي وأبي هريرة، أخرجه مالك رقم (151) والبيهقي (5/ 167) وأخرجه البيهقي (5/ 167) من طريق اِلأوزاعي عن عطاء عن عمر، وعطاء لم يسمع من عمر شيئًا وعليه فالرواية منقطعة، ورواه سعيد بن منصور عن مجاهد عن عمر، وهو منقطع؛ فإن مجاهدًا لم يدرك عمر بن الخطاب وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة عنه وعن علي وهو منقطع أيضًا: انظر نصب الراية (3/ 126)، الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 40).

أما الأثر المروي عن ابن عباس فأخرجه البيهقي (5/ 167)، البغوي في شرح السنة (7/ 281) رقم (1996) وإسناده صحيح.

ص: 199

ويقضي، والفاسد من الحج هو من وطأ فيه قبل التحلل الأول، وأما الفاسد من العمرة فهو من وطأ فيها قبل تمام أركانها

(1)

فإنه يمضي في هذا الفاسد، ويقضيه، وعليه التوبة، والفدية، فلو وطأ في العمرة بعد الطواف وقبل السعي، أو بعد الإحرام وقبل الطواف فإن العمرة فسدت عليه ويجب عليه أن يمضي فيها لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.

واعلم أن الحج والعمرة لا يجوز الخروج منهما إلا بواحد من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: تمام النسك فإذا أتم الحج، أو العمرة تحلل منه.

الأمر الثاني: الردة فإذا ارتد عن الإسلام بطل حجه، وبطلت عمرته لقوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .

الأمر الثالث: الإحصار بحيث لا يتمكن المحرم من إتمام النسك، فإذا أحصر بعدو، أو غيره فإنه يذبح الهدي ويخرج منه كما هو معروف في أحكام الإحصار.

• • •

(1)

أركان العمرة هي: 1 - الإحرام. 2 - الطواف. 3 - السعي.

ص: 200

‌54 - والنَّفلُ جوِّزْ قطعَهُ مَا لم يَقَعْ

حَجًا وعُمرةً فَقَطعُهُ امْتَنَع

النفل يجوز قطعه، لكن المؤلف رحمه الله استثنى الحج والعمرة ويقول: بأن قطعهما ممتنع ويدل لجواز قطع النفل: ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبح صائمًا فأتى إلى أهله فقال: «هل عندكم شيء؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: أهدي لنا حيس

(1)

فقال: أرنيه فلقد أصبحت صائمًا»

(2)

فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أرنيه فلقد أصبحت صائمًا» هذا دليل على أنه يجوز قطع النفل لكن قال العلماء رحمهم الله: يكره قطع النفل إلا لحاجة فإذا شرعت في الصوم يكره أن تقطعه إلا لحاجة.

مثال ذلك: أن يأتي الإنسان ضيوف فيحتاج إلى قطعه. وإذا شرع في صلاة نافلة يكره أن يقطعها إلا لحاجة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

وقوله: [النفل]: يخرج الفرض فالفرض لا يجوز أن تقطعه إلا لضرورة فالصلاة الفريضة مثلًا يحرم على الإنسان أن يقطعها إلا لضرورة؛ كأن يخشى على نفسه من سبُع، أو عدو أو يخشى على ماله من سرقه ونحو ذلك، وكذلك الصيام لا يجوز أن يقطعه إلا لضرورة كإنقاذ معصوم من مهلكة.

قوله: [ما لم يكن حجًا وعمرة فقطعه امتنع]: الحج والعمرة لا يجوز قطعهما أبدًا وتقدم الدليل على ذلك من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فالإحرام بالحج والعمرة كالنذر يجب الوفاء به.

(1)

الحيس هو: الأقط، والتمر، والسمن يخلط ويعجن (شرح النووي على مسلم (9/ 226).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1154).

ص: 201

وذكرنا أن الإنسان لا يخرج من الحج والعمرة إلا بواحد من ثلاثة أمور: تمام النسك، أو الردة، أو الإحصار.

• • •

ص: 202

‌55 - والإثمُ والضَّمانُ يَسقُطانِ

بِالجَهْلِ والإكراهِ والنِّسْيَانِ

(الجهل والنسيان والإكراه) هذه من أسباب التخفيف وسبقت الإشارة إلى ذلك

(1)

عند قاعدة: [المشقة تجلب التيسير] عند قول المؤلف رحمه الله: [عند عارض طرا].

وقول المؤلف: [الإكراه]: تقدم الكلام عنه وذكرنا تعريف الإكراه، ودليله، وشروطه في أسباب التخفيف

إلخ.

(2)

و‌

‌النسيان في اللغة:

فهو الغفلة.

وأما في الاصطلاح: فهو الغفلة عن الشيء وعدم تذكره.

وقيل: بأنه ذهول القلب عن معلوم.

والنسيان -كما ذكر المؤلف رحمه الله سبب لسقوط الإثم، وأما الضمان ففيه تفصيل يأتي إن شاء الله.

* و‌

‌الدليل على أن الخطأ والنسيان من أسباب التخفيف:

1 -

قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، قال الله تعالى كما في صحيح مسلم:"قد فعلت"

(3)

.

2 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"

(4)

، وفيه ضعف.

أمثلة لذلك:

المثال الأول: لو أن الإنسان نسي، أو أخطأ فصلى وعليه نجاسة، فهذا النسيان من أسباب التخفيف، فصلاته صحيحة.

المثال الثاني: لو نسي أو أخطأ وأكل وهو صائم، فإن هذا من أسباب

(1)

انظر ص (73).

(2)

انظر ص (78).

(3)

رواه مسلم (126).

(4)

رواه ابن ماجه (2043)، وقال أبو حاتم:"لا يثبت"، وأنكره الإمام أحمد.

ص: 203

التخفيف، فصيامه صحيح.

المثال الثالث: لو نسي أو أخطأ وصلى وهو محدث، فإن هذا من أسباب التخفيف، فلا إثم عليه، لكن يجب عليه أن يعيد الصلاة.

مسألة: ذكر الشيخ رحمه الله أن الإثم والضمان يسقطان بالنسيان أو الخطأ، فنقول: بأن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: ما يتعلق بحقوق الله تعالى:

أ- فمن حيث الحكم التكليفي: يسقط الإثم بالنسيان أو الخطأ؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وأيضاً لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم.

ب- لكن بالنسبة للحكم الوضعي في الخطأ والنسيان-الضمان-:

فإن كان من باب الأوامر: فإنه يضمن ولا يسقط، وإن كان من باب النواهي والتروك فإنه يسقط ولا يضمن.

مثال ذلك: لو صلى الإنسان محدثاً فإنه يضمن إعادة الصلاة؛ لأن الأوامر يمكن استدراكها.

وكذلك لو صلى وقد أخل بالطمأنينة فإنه يضمن، وفي قصة الأعرابي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:"ارجع فصل فإنك لم تصل"

(1)

لم يعفه النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه جاهل، والجهل هو أخو النسيان.

ولقصة أبي بردة رضي الله عنه: "لما ذبح قبل الوقت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد"

(2)

.

ولأن عمر رضي الله عنه: "لما صلى بالناس وهو جنب أعاد"

(3)

.

(1)

رواه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (955)، ومسلم (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.

(3)

رواه مالك في الموطأ (1/ 49)، وعبد الرزاق في مصنفه (2/ 348)، والدارقطني في سننه (1/ 364). وقال صاحب التعليق المغني:"رواته كلهم ثقات، واحتج به الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح".

ص: 204

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم"

(1)

.

وأما إن كان من باب النواهي والتروك: فلا ضمان عليه ولا إثم.

مثال ذلك: رجل أكل وهو صائم، أو شرب ناسياً، فلا شيء عليه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه"

(2)

.

كذلك لو جامع في الصيام وهو ناس فلا شيء عليه.

ولو تكلم في الصلاة وهو ناس فلا شيء عليه.

وكذلك في الحج لو صاد وهو ناس أنه محرم، أو ناسٍ أنه في الحرم فلا شيء عليه.

ولو جامع أهله ناسياً أنه محرم لا شيء عليه.

وكذلك لو حلق رأسه ناسياً فلا شيء عليه، ولا ضمان.

الأمر الثاني: فيما يتعلق بحقوق المخلوقين:

أ- فمن حيث الحكم تكليفي: لا إثم عليه، فلو أتلف مال شخص ناسياً يظن أن هذا المال ماله فأكله، أو لبس ثوب غيره حتى أبلاه يظن أنه له، فلا إثم عليه؛ لما تقدم من الدليل على أنه يعذر بالنسيان.

ب- لكن بالنسبة للحكم الوضعي في الخطأ والنسيان -الضمان-: فلا يسقط في حقوق المخلوقين.

ودليل ذلك:

1 -

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}

(1)

رواه البخاري (694).

(2)

رواه البخاري (1933)، ومسلم (1155).

ص: 205

النساء: 92، فوجبت الدية ولم يُعذر بالخطأ، والنسيان أخو الخطأ في كتاب الله عز وجل.

2 -

ولأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحَّة.

ولهذا قال الشيخ رحمه الله:

• • •

‌56 - إن كان ذا في حقِّ مولانا ولا

تُسقطْ ضمانًا في حقوق للمَلا

فَفرْق بين حق الله وحق المخلوق، فما يتعلق بحقوق المخلوقين يجب فيه الضمان؛ لأن حقوق العباد مبنية على المشاحَّة، والمقاضاة، وأما الإثم فيسقط، ولهذا لما غضبت عائشة رضي الله عنها وضربت يد الخادم فانكسرت القصعة ضمنها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل فيها الطعام قال صلى الله عليه وسلم:«طعام بطعام، وإناء بإناء»

(1)

.

‌مسألة: الخطأ يراد به معنيان:

الأول: ضد الصواب، واسم الفاعل من هذا المعنى:"خاطئ"، كما في قول إخوة يوسف عليه السلام:{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} يوسف: 97.

الثاني: عدم القصد للفعل، واسم الفاعل منه:"مخطِئ".

وما قيل في النسيان، يقال في الخطأ.

أما بالنسبة للجهل فتقدم الكلام عليه فيما يتعلق بالعذر بالجهل وما لا يعذرعند قول الناظم: والشرع لا يلزم قبل العلم

(2)

والجهل: لغة: نقيض العلم.

وأما في الاصطلاح: الجهل بالأحكام الشرعية، كلها أو بعضها.

(1)

أخرجه الترمذي رقم (1359) وقال حديث حسن صحيح وأصله في البخاري رقم (2481).

(2)

انظر ص (88).

ص: 206

وأما ما يتعلق بالإثم والضمان، فالجهل لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل:

أ- فمن حيث الحكم تكليفي: لا يأثم؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة.

فلو أن الإنسان صلى جاهلاً لغير القبلة، أو ترك المضمضة في الوضوء، فلا يأثم، ودليل ذلك:

1 -

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة: 286.

2 -

ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه" وفيه ضعف.

(1)

.

3 -

حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه لما تكلم في الصلاة

(2)

لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة؛ لأنه كان جاهلاً تحريم الكلام، يظن أنه على ما سبق في أول الإسلام وأنه مباح.

ب- أما من حيث الحكم الوضعي:

فإن كان في باب الأوامر: فيضمن؛ لأنه يمكنه الاستدراك، قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ارجع فصل فإنك لم تصل"

(3)

لما جهل وجوب الطمأنينة ولم يطمئن.

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بردة رضي الله عنه: "شاتك شاة لحم"

(4)

لما ذبح قبل الصلاة.

وكذلك لو صلى إلى غير القبلة جاهلاً فإنه يعيد الصلاة.

وعند شيخ الإسلام: لا يضمن، ولا إعادة.

واستدل شيخ الإسلام رحمه الله: بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ

(1)

سبق تخريجه ص (86).

(2)

رواه مسلم (537).

(3)

سبق تخريجه ص (87).

(4)

سبق تخريجه ص (87).

ص: 207

لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالإعادة لما أخل بالطمأنينة لما مضى.

أما إن كان من باب التروك والنواهي: فيعذر إثماً وضماناً.

فلو أن إنساناً جهل النجاسة التي في ثوبه وصلى، أو جهل وجوب إزالة النجاسة؛ فصلاته صحيحة ولا إثم عليه، وكذا لو جهل تحريم الخمر فلا إثم عليه ولا عقوبة؛ لأنه من باب التروك.

الأمر الثاني: ما يتعلق بحقوق المخلوق:

أ- فمن حيث الحكم تكليفي: فإنه يعذر فيه فلا يأثم، فلو جهل وأتلف مال زيد من الناس فلا إثم عليه.

ب-أما من حيث الحكم الوضعي: فإنه يضمن، وتقدم حديث عائشة رضي الله عنها لما ضربت يد الخادم فقال صلى الله عليه وسلم:"طعام بطعام، وإناء بإناء"

(1)

.

وأيضاً فإن الله عز وجل أوجب الدية على من قتل خطأ في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} النساء: 92، مما يدل على أنه لا يعذر في الخطأ والنسيان والجهل فيما يتعلق بحقوق المخلوق، فلابد من الضمان.

ولأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحَّة.

والإكراه: تقدم الكلام عليه وذكرنا تعريفه وشروطه

إلخ

(2)

لكنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الإكراه الملجئ بحيث يكون المكره لا اختيار له، ولا قدرة له على الامتناع، وهذا لا خلاف في عدم تكليفه.

(1)

سبق تخريجه ص (89).

(2)

انظر ص (88).

ص: 208

القسم الثاني: الإكراه غير الملجيء: أن يكون مجبرًا مكرهًا لكن له نوع اختيار فهذا هو محل الخلاف هل هو مكلف أولا؟

وينقسم الإكراه أيضًا إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون في حقوق الله.

القسم الثاني: أن يكون في حقوق المخلوقين.

الأول: ما يكون في حقوق الله: فإنه لا يأثم لما تقدم من الأدلة، لكنه بالنسبة للضمان إن كان من باب الأوامر فإنه يعيد؛ لأنه يمكنه أن يستدرك فلو أكره على أن يصلي بلا وضوء، فلا إثم عليه لكن يعيد الصلاة، وأما إن كان من باب النواهي فإنه يعذر فلو أُكره أن يتكلم في الصلاة أو يأكل وهو صائم

إلخ فإنه معذور في هذه الحال.

الثاني: ما يكون في حقوق المخلوقين: فإن الإكراه يسقط الإثم كما تقدم، وأما بالنسبة للضمان فإنه يوجب الضمان لكن يكون تارة على المُكرِه، وتارة يكون على المُكرِه والمُكرَه، وتارة يكون على المكرَه.

• • •

ص: 209

‌57 - وكلُّ مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا

لَمَ يكْن الاتلافُ مِنْ دَفع الأَذَى

‌58 - أويكُ مأذونًا به مِنْ مالكِ

أو ربِّنَا ذي المِلكِ خيرِ مالكِ

الإتلاف: هو إخراج الشيء عن كونه منتفعًا به.

وهذه القاعدة في المتلفات، فإذا أتلف شخص مال شخص فيضمن إلا ما يستثنى.

ودليل هذه القاعدة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وإذا أتلف شخص مال شخص ولم نضمّنه كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.

وكذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها لما ضربت يد الخادم فسقط الإناء وانكسر فقال صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعام، وإناء بإناء»

(1)

فضمّن النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، وكذلك ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تضمين الصنّاع عند التلف

(2)

، فإذا أتلف شخص مال شخص فإنه يضمن هذا هو الأصل، سواء أكان عمدًا، أم سهوًا، أم جهلًا، أم عن طريق الإكراه، لكن إذا كان عن طريق الإكراه فالضمان على المكرِه، سواء أتلفه عن طريق الانتفاع به، أو أتلفه دون أن ينتفع به.

مثال ما ينتفع به: إنسان أكل طعام شخص، أو لبس ثوبه حتى أبلاه، فإنه يضمن.

ومثال ما كان بدون الانتفاع: كأن يحرقه، أو يكسره

إلخ فإنه يضمن.

استثنى المؤلف رحمه الله: [ما لم يكن الإتلاف من دفع الأذى]، وكذلك استثنى أمرين في البيت الذي يليه، فنستثني من الضمان على كلام

(1)

تقدم تخريجه ص (236).

(2)

تقدم تخريجه ص (207).

ص: 210

المؤلف ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إذا كان لدفع أذاه، مثال ذلك: صال عليه شخص يريد قتله، أو ماله، أو أهله، فإنه يدفع الصائل بالتي هي أحسن بالأسهل فالأسهل، إن لم يندفع إلا بقتله فإنه يقتله ولا ضمان عليه؛ لدفع أذاه.

وكذلك لو صال عليك بعير، أو ثور، ونحو ذلك، فإنك تدفعها بالتي هي أحسن بالأسهل فالأسهل، فإن لم تتمكن إلا بقتل هذا الصائل فلا شيء عليك؛ لأنه لدفع الأذى.

وكذلك إذا أشرفت السفينة على الغرق فألقى عمرو متاع زيد؛ لكي تنجو السفينة، فإنه يضمن، لكن لو وقع عليه متاع زيد فدفعه عنه دفعًا لأذاه فسقط في البحر، فلا ضمان عليه.

ففرق بين الشيء إذا أتلفته لكي تنتفع به، أو الشيء الذي أتلفته لدفع أذاه.

الأمر الثاني: قوله: [أويك مأوذنا به من مالك]:

أي: إذا أذن لك المالك في إتلافه فإنه لا ضمان عليك، فإذا أعطاك الطعام، لتأكله، أو الماء لتشربه، أو الثوب لتلبسه فلا ضمان في ذلك؛ لأنه هو الذي سلطه عليك، وأذن لك في الإتلاف والانتفاع.

الأمر الثالث: قوله: [أو ربنا ذي الملك خير مالك]: إذا كان الإذن من الله عز وجل، فلا ضمان عليك، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: المضطر إلى طعام الغير، وليس معه طعام أذن له الشارع في أن يأكل من طعام غيره وليس عليه ضمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(لا بأس أن يأكل من مال الغير ما يدفع به مخمصته إذا كان فقيرًا ولا ضمان عليه).

المثال الثاني: إذا اضطر الإنسان إلى نفع مال الغير، لم يضطر إلى عين ماله؛ كأن يضطر إلى الثوب لكي يلبسه، أو السيارة لكي يركبها، أو الدلو لكي يخرج به الماء، فإنه لا ضمان عليه مطلقًا مع أنه أتلف المنافع.

• • •

ص: 211

‌59 - فكُلُّ ما يحصلُ مما قدْ أُذِنْ

فليس مضمونًا وعكسُهُ ضُمِنْ

هذا البيت تضمَّن قاعدة: [ما ترتب على المأذون ليس مضمونًا، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون].

وتقدم أن الإذن قد يكون من الله عز وجل، وقد يكون من المالك، وقد يكون لدفع أذاه.

ومن الأمثلة على ذلك: الأمين لا ضمان عليه إذا لم يتعد ولم يفرط.

والأمين: هو كل من قبض العين بإذن الشارع، أو بإذن المالك، ويدخل في ذلك المستعير على الصحيح، وكذا المودَع، وولي اليتيم، والمستأجر، هؤلاء كلهم قبضوا هذه الأموال بالإذن، فالمستأجر قبض السيارة بإذن مالكها، والولي قبض مال اليتيم بإذن الشارع، والمودع والمستعير قبضا المال بإذن مالكه، فهذه قاعدة في الأمناء.

التعدي: هو فعل مالا يجوز. والتفريط: هو ترك ما يجب.

مثال التعدي: إنسان استأجر السيارة على أن يقودها داخل البلد، ثم قادها خارج البلد فتلفت، فإنه يضمن، أو أسرع بالسيارة فوق السرعة المسموح بها فتلفت فإنه يضمن.

ومثال التفريط: ولي اليتيم يجب عليه أن يحفظ مال اليتيم في حِرْزِ مثله، فإذا وضعه في مكان غير محرز فسُرِق فإنه يضمن، وعلى هذا فقس.

ثم بيّن المؤلف رحمه الله في البيت الذي سيأتي الآن كيفية الضمان.

• • •

ص: 212

‌60 - ويُضْمَنُ المثليُّ بالمثلِ ومَا

ليس بمثليٍّ بما قد قُوِّمَا

يقول رحمه الله: الضمان إن كان مِثْليًّا فإنه يضمن بالمثل، وإن كان قِيمِيًّا فإنه يُضمن بالقيمة.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] اختلف العلماء رحمهم الله في ضابط المثلي والقيمي ما هو؟ وهذا الضابط يحتاج إليه كثيرًا في أبواب الفقه في: (باب السّلمَ، وباب القرض، وباب الغصب، وفي المتلفات .... إلخ) فيحتاج أن يعرف ما هو المثلي وما هو القيمي؟ فإذا قال العلماء رحمهم الله في كتبهم: يضمن بالمثل، أو يضمن بمثله، أو يضمن بقيمته.

‌ما هو المثلي وما هو القيمي؟

الحنابلة والشافعية رحمهم الله يُضيِّقُون المثلي ويوسعون القيمي فيقولون: المثلي كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه.

مثال ذلك: اقترض زيد من عمرو مائة صاع من البر، وجب عليه في ذمته مائة صاع من البر، وكذلك من اقترض شيئًا موزونًا مثل اللحم يجب رد مثله.

وهذا في القرض ما لم يتراضوا على شيء يوم التقابض، فإذا تراضوا جاز أن يعطيه غير ما استسلف.

وقولهم: (كل مكيل وموزون): يخرج ما لم يكن مكيلًا، أو موزونًا من المعدودات، والمذروعات.

قولهم: (لا صناعة فيه مباحة): يخرج الموزون إذا خرج عن الوزن بالصناعة، مثل أنواع الآنية من قدور وغيرها مما أصلها الوزن، فهذه وإن كان الأصل فيها الوزن لكن خرجت بالصناعة عن الوزن، فهذه تضمن لكن لا تضمن بمثلها؛ لأنها خرجت عن المثلية بالصناعة فتضمن

ص: 213

بقيمتها، ومثله الحلي وإن كان أصله الوزن لكن خرج عن الوزن بالصناعة فيضمن بالأكثر من قيمته أو وزنه.

وقولهم: (مباحة): يخرج الصناعة المحرمة فإذا أتلف شخص على إنسان إبريقًا من الذهب، أو الفضة، أو ملاعق من الذهب، أو من الفضة فإنها تضمن بوزنها من جنسها.

فلا تضمن الصنعة؛ لأن الصنعة المحرمة لا قيمة لها في الشرع وإن كانت لها قيمة عند الناس لكنها في الشرع تهدر ولا تحسب.

قولهم: (يصح السلم فيه): يخرج الموزون الذي لا يصح السلم فيه، وهو كل مالا تنضبط صفاته التي يختلف بها الثمن اختلافًا ظاهرًا بالوصف كالجواهر، واللؤلؤ وما أشبه ذلك مما لا ينضبط.

أمثلة على هذا:

أقرضه برًا ثم عند الوفاء أعطاه المقترض دراهم فرفض المقرض، وطلب برًا فالقول قوله؛ لأن البر مثلي.

مثال آخر: أقرضه كتابًا فأعطاه المقترض دراهم فرفض المقرض وطلب كتابًا فالقول قول المقترض؛ لأن الكتاب قيمي لأنه ليس مكيلًا ولا موزونًا، وهذا إذا كان هناك اختلاف بين المقرض والمقترض، أما إذا تراجعوا على المثل فلا بأس.

مثال ثالث: إذا أتلف حديدًا يجب عليه أن يعطيه مثله؛ لأن الحديد موزون.

مثال رابع: إذا أتلف شعرًا، أو صوفًا، أو قطنًا، أو كتانًا، أو حريرًا يجب أن يعطيه مثله؛ لأن هذه الأشياء مثلية موزونة إلا إن تراضوا على القيمة فلا بأس به.

مثال خامس: البر مكيل مثلي، لو أن هذا البر عُمِل خبزًا فإنه ينتقل من كونه مثليًا إلى كونه قيميًا، وعلى هذا لو أن إنسانًا أكل خبز شخص فأتاه

ص: 214

بخبز مثل الذي أكله لا يلزمه أن يقبل؛ لأن هذا الخبز لما دخلته الصناعة المباحة أصبح قيميًا ولم يكن مثليًا.

وقولهم: (الصناعة المباحة) يخرج الصناعة المحرمة، فإنه لا يخرج عن كونه مثليًا.

مثال ذلك: الحديد مثلي؛ لأنه موزون فإذا جعله صاحبه على شكل تمثال، فجاء شخص فأتلف هذا التمثال فإنه يضمن بجنسه وزنًا. يعني الصورة المحرمة لا أثر لها شرعًا لا تضمن، لكن يضمن الحديد، وكونه دخلته صناعة محرمة وجعله على صورة، فهذا لا يخرجه عن كونه مثليًا فيضمن بالمثل؛ لأن الموزون والمكيل نشترط لكي يكون مثليًا أن لا تدخله صناعة مباحة، فإن دخلته صناعة محرمة فإنه لازال مثليًا؛ لأن المحرم لا عبرة به.

فالخلاصة في ذلك: أن المثلي عندهم هو كل مكيل، أو موزون يصح السلم فيه لم تدخله الصناعة المباحة، وما عدا ذلك قيمي؛ فعندهم الثياب، والقطن، والأقلام، والسيارات، والآلات، وأشياء كثيرة هذه كلها قيمية إذا أتلفت، أو أخذها الإنسان قرضًا فإن تنازعا فإن المرجع إلى القيمة.

المكيل مثل: الشعير، والأرز، وسائر الحبوب، والمائعات.

والموزون مثل: الحديد، والرصاص، والنحاس، وسائر المعادن، والشعر، والصوف، والحرير، والقطن.

الرأي الثاني: أن المثلي: ماله مثل في الأسواق، والقيمي: ما ليس له مثل في الأسواق وهو رأي الحنفية رحمهم الله وهذا القول هو الصواب في الجملة، واختيار شيخ الإسلام رحمه الله ونصره ابن القيم رحمه الله في (أعلام الموقعين) وقاله جمع من أهل العلم، وهذا القول هو الذي يدل عليه القرآن والسنة والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، والقياس الصحيح.

ص: 215

أما القرآن: فقول الله عز وجل {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فأوجب الله عز وجل على من قتل صيدًا مثله من النعم مع أنه ليس مكيلًا ولا موزونًا.

وأما السنة: فحديث عائشة: لما ضربت يد الخادم فسقط الإناء وانتثر الطعام قال عليه الصلاة والسلام: «طعام بطعام، وإناء بإناء»

(1)

فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالمثل مع أن الصناعة المباحة دخلتها.

ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «استسلف بكرًا ورد رباعيًا»

(2)

والحيوان عند الشافعية والحنابلة قيمي؛ لأنه ليس مكيلًا ولا موزونًا، ومع ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المثل فدل على أن المثل أوسع من المكيلات والموزونات.

وأما آثار الصحابة: فالمحْرِم يضمن الصيد إذا أتلفه بمثله، أو ما يقاربه، فقضى الصحابة رضي الله عنهم في البعير بالنعامة مع أن الفرق بينهما كبير لكنها تشابهها في بعض الأشياء، مثل طول الرقبة، والجسم، وقضوا في الشاة بحمامة مع الفرق بينهما لكن لأنها تشبهها من جهة مص الماء - والله أعلم - والصحابة رضي الله عنهم هم أفقه الأمة وأعلمها ومع هذا قضوا في مثل هذا بالمثل بما يشابهه من بعض الوجوه، مع أنها ليست مكيلة ولا موزونة، وعلى هذا يكون المثلي أوسع من القيمي فكل شيء له مثل في الأسواق نقول: بأنه مثلي (البر، والشعير، والكتب، والثياب

إلخ) هذه الأشياء كلها لها مثل، وعلى هذا لو أتلف له ثوبًا وطالبه بالقيمة هل يلزمه أن يدفع له ثوبًا آخر أو يدفع له القيمة؟

نقول: يدفع له ثوبًا آخر لا يدفع له قيمته؛ لأن هذا هو المثلي. وكذلك لو أتلف برًا، أو كتابًا، أو قلمًا فالمتلِف يأتيه بالمثل، بمثل هذا البر أو الكتاب أو القلم

إلخ ولا يلزمه أن يأتيه بالقيمة.

أما الذي ليس له مثل فتجب قيمته.

(1)

تقدم تخريجه ص (236).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1600)

ص: 216

مثال ذلك: عندنا صناعة وانقطعت، مثل صناعة لقلمٍ من الأقلام، أو ثوب من الثياب ثم بعد ذلك لم يكن لهذا الثوب، أو لهذا القلم

إلخ وجود في الأسواق، فأتلفها شخص أو استقرضها فإن عليه القيمة، ومثل ذلك الجواهر الطبيعية التي ليس لها مثل.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن داود عليه السلام قال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79] فداود عليه السلام قضى بحكم، وخالفه ابنه سليمان، وذلك بأن قومًا لهم غنم، وقومًا لهم بستان فنفشت هذه الغنم بالبستان - والنفش: هو الإفساد ليلًا - فقضى سليمان لأهل الزرع بأن يقوم أهل الغنم بإصلاح البستان كما كان - وهذا لا شك أنه ليس مثليًا - فلما قضى بهذا أثنى الله تعالى عليه بالفهم.

وهذا هو ظاهر اختيار البخاري رحمه الله في صحيحه وقد بوّب بابًا في صحيحه وقال: (باب من هدم جدارًا بنى مثله)، وهذا يلزم إذا اختلفوا لكن لو تراضوا على شيء جاز.

• • •

ص: 217

‌61 - وما على المُحسنِ مِنْ سبيلِ

وعكسُهُ الظالمُ فاسْمَع قِيْلِي

قوله: [المحسن]: من تبرع وفعل المعروف.

قوله: [الظالم]: المعتدي.

وقوله: [قيلي]: أي قولي.

دليل ذلك: قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] وقوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] أي أن المحسن ليس عليه ضمان ولا إثم، ويدخل في هذه القاعدة أمران:

الأمر الأول: الأُمَناء كلهم لا ضمان عليهم إلا بالتعدي، أو التفريط؛ لأنهم محسنون والأمين كما تقدم: هو كل من قبض المال بإذن الشارع، أو بإذن المالك، فهؤلاء إذا تلف المال تحت أيديهم فلا ضمان عليهم ولا إثم إلا بالتعدي أو التفريط كالمستعير، والمودَع، والمستأجر، والملتقط، والشريك، والمضارب، وكذلك الحاكم إذا أخذ مال شخص عنده لمصلحة، فإنه محسن لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

الأمر الثاني: من عمل عملًا أراد به صلاح الناس ونفعهم فتلف بذلك العمل أحد، فإنه لا ضمان عليه ولا إثم ما دام أنه لم يتعدَّ ولم يفرط.

مثال ذلك: شخص وضع حجارة، أو أخشابًا على الطين في المطر لكيلا يزلق الناس في الوحل فجاء شخص وتلف بهذه الحجارة أو تلف بهذه الأخشاب، فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل إلا إذا كان هناك تعد أو تفريط.

مثال آخر: وضع حجرًا كبيرًا يُتلف الناس، أو أشياء يزلق بها الناس، فإنه هنا غير محسن بل هو ظالم.

وقوله: [وعكسه الظالم]: هذا يدخل تحته أمور منها:

الأمر الأول: من أخذ مال غيره بغير إذنه ورضاه كالغاصب،

ص: 218

والسارق، والمنتهب، والمختلس. فالغاصب: قبض المال بغير إذن المالك، وبغير إذن الشارع، فكل من قبض مالًا بغير إذن الشارع وبغير رضى المالك، فهو ظالم فلو غصب سيارة وتلفت تحت يده ضمن مطلقًا؛ لأنه بغصبه تعدى حتى لو حفظها ثم احترقت، أو حفظ النقود في الصندوق ثم سرقت، فإنه يضمن؛ لأنه بغصبه قد تعدى.

ومثل ذلك: السارق، والمنتهب، والمختلس

إلخ هؤلاء كلهم يضمنون ما يتلف تحت أيديهم مطلقًا.

الأمر الثاني: المحسن إذا تعدى، أو فرط فإنه ظالم ويضمن كما سبق في الأمثلة السابقة.

• • •

ص: 219

‌62 - ثمَّ العُقودُ إنْ تَكُنْ مُعاوضَهْ

فَحَرِّرَنْهَا ودَعِ المخَاطَرَهْ

‌63 - وإنْ تكُنْ تَبَرُّعًا أو تَوْثِقهْ

فأمْرُها أخفُّ فادْرِ التفرِقَهْ

‌64 - لأنَّ ذِي إنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمْ

وإنْ تَفُتْ فَلَيس فِيها مَغْرَمْ

قوله: [معاوضة، وتبرعًا، وتوثقه]: تأتي إن شاء الله.

قوله: [فحررنها]: أي اضبطها بالعلم، والقدرة عليها.

قوله: [المخاطرة]: المجازفة، وعدم ضبطها بالعلم وغير ذلك من شروط المعاوضات.

قوله: [فادر التفرقة]: أي اعلم الفرق بين عقود المعاوضات، والتوثقات، والتبرعات كما سيأتي إن شاء الله.

قوله: [لأن ذي إن حصلت فمغنم]: أي فائدة وربح بلا مقابل.

قوله: [وإن تفت فليس فيها مغرم]: أي غرامة وخسارة في ماله.

العقود تنقسم إلى أقسام منها ما ذكره الشيخ رحمه الله:

عقود معاوضة، وعقود توثقة، وعقود تبرعات.

وفي هذه الأبيات الثلاثة ذكر الشيخ رحمه الله فرقًا بين عقود المعاوضات، وعقود التوثقات، وعقود التبرعات.

عقود المعاوضات: هي كل عقد قائم على التبادل، وقُصِد منه العوض، والربح، والكسب.

عقود التبرعات: هي كل عقد قُصِد منه الإحسان والإرفاق.

عقود التوثقات: هي العقود التي تكون وثيقة لعقود أخرى.

مثال عقود المعاوضات: البيع، والشراء، والإجارة، والسلم، والمساقاة، والمزراعة، والشركة

إلخ.

مثال عقود التبرعات: الهبة، والوصية، والعتق، والوقف، والعارية.

مثال عقود التوثقات: الرهن، والكفالة، والضمان.

ص: 220

فأشار الشيخ رحمه الله إلى أن هذه العقود ترتب على مراتب:

المرتبة الأولى: عقود المعاوضات وهذه يطلب فيها من العلم والتحرير ما لا يطلب في عقود التوثقات. أي يُحتاط فيها، ويُشترط فيها من العلم والتحرير مالا يُشترط في عقود التوثقات.

المرتبة الثانية: عقود التوثقات وهي أوسع من عقود المعاوضات ويشترط فيها من العلم والتحرير مالا يشترط في عقود التبرعات.

المرتبة الثالثة: عقود التبرعات وهي أوسع من عقود المعاوضات وأوسع من عقود التوثقات، ودليل ذلك أدلة كثيرة منها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].

فقال تعالى: {وَالْمَيْسِرُ} والميسر كل معاملة يدخل فيها الإنسان وهو إما غانم أو غارم، وهذا يكون في عقود المعاوضات.

مثال ذلك: إذا بعت الكتاب بثمن مجهول فالمشتري الآن يدخل وهو إما غانم، أو غارم؛ لأن الثمن إن كان أقل من قيمة الكتاب يكون غانمًا، وإن كان أكثر من قيمة الكتاب يكون غارمًا، فهو الآن دخل في المخاطرة، أيضًا المُثمن إذا اشتراه شخص وهو مجهول يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم، وكذلك البائع يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم إذا كان المثمن مجهولًا، فإذا كان الثمن أكثر بالنسبة للمشتري فهو غارم، وإن كان الثمن أقل فهو غانم وهكذا.

ويدل لذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر»

(1)

.

والغرر لغة: يطلق على معان منها: النقصان، والخطر، والجهل.

(1)

أخرجه مسلم (1513).

ص: 221

وفي الاصطلاح: ماجهلت عاقبته، ولا تعرف حقيقته ومقداره. وأيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم «قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة، والسنتين، والثلاث فقال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .

(1)

فدل ذلك على أن عقود المعاوضات لابد فيها من العلم والتحرير، وأن يكون الثمن والمثمن معلومًا.

بعد ذلك عقود التوثقات يخفف فيها، فهي أوسع من عقود المعاوضات.

مثال ذلك: يصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم مع أنه في البيع لا يصح بيع المجهول، فيصح أن تقول للبقَّال: بع على هذا الشخص وأنا ضامن، مع أنك لا تدري قد يأخذ بمائة أو مائتين فالمضمون الآن مجهول، لكنه يؤول إلى العلم، بعد أن ينتهي ستعلم بكم اشترى.

أو مثلًا: تقول: بعه السيارة وأنا ضامن ثمنها لك، وأنت لا تدري بكم يبيعها قد يبيعها بعشرة آلاف، أو بأحد عشر ألفًا، أو باثني عشر ألفًا، فضمان المجهول يصح إذا آل إلى العلم.

كذلك المضمون، والمضمون له لا يشترط رضاهما عند طوائف من العلماء.

مثال ذلك: أقول أقرض زيدًا وأنا ضامن لك، فأنا الآن أضمن زيدًا حتى لو لم يرضَ؛ لأن هذا من عقود التوثقة لكن في عقد البيع لابد أن يكون المتعاقدان متراضيين جميعًا.

مثال آخر: أقول أقرض زيدًا وأنا ضامن، ولو لم يرض المضمون له، فإن الضمان يصح. وأيضًا لو جهلت المضمون والمضمون له، فإن الضمان يصح عند بعض العلماء ومنهم الحنابلة رحمهم الله. وكذلك في

(1)

تقدم تخريجه ص (146).

ص: 222

الكفالة أكفل زيدًا وهو لم يرضَ، وأكفل زيدًا وهو مجهول لا أعرفه، يصح ذلك. وكذلك المكفول له إذا لم يرض، أو كان مجهولًا تصح الكفالة.

وكذلك أيضًا الرهن من عقود التوثقة، يصح أن أرهن الثمرة قبل بدو صلاحها.

مثال ذلك: اقترضت من زيد ألف ريال وأنا عندي نخل لم يبدُ صلاح الثمر فيه حتى الآن مازال أخضر لم يحمر أو يصفر في مثل هذا الوقت، يصح أن أعطيه هذا الثمر رهنًا، مع أن البيع لا يصح لكن يصح أن أرهن هذه الثمرة قبل بدو صلاحها؛ لأن هذا من عقود التوثقة. أيضًا الزرع قبل اشتداد حبه لا يصح بيعه لكن يصح رهنه. وكذلك الأَمَة لا يصح أن تفرق بينها وبين ولدها في البيع، لكن يصح أن ترهن الأَمَة دون ولدها، فدل ذلك على أن عقود التوثقة أخف من عقود المعاوضة.

أيضًا عقود التبرعات أخف وأوسع، ففي عقود التبرعات يصح أن تهب المجهول والمعدوم، فلو قلت لك: وهبتك ما في جيبي من النقود صح ذلك، لكن في البيع لا يصح أن أبيع المجهول ويصح أن أهبه ما تحمل شاتي أو شجرتي.

أيضًا يصح في عقود التبرعات أن أهبك غير المقدور عليه.

مثال ذلك: عندي جمل شارد فقلت: وهبتك جملي الشارد، صح ذلك، لكن بيع الجمل الشارد على من لا يقدر على تحصيله ولا يظن ذلك لا يصح لكن هبته تصح مطلقًا. أيضًا لو أن لي سيارة مسروقة، أو مغصوبة، أو منتهبة، أو مختلسة يصح هبتها لكن لا يصح بيعها على شخص لا يقدر على تحصيلها ولا يظن ذلك، فدل ذلك على أن عقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات ولهذا قال الشيخ رحمه الله:

لأن ذي إن حصلت فمغنم

وإن تفت فليس فيها مغرم

ص: 223

مثال ذلك: قال: وهبتك الرقيق الآبق فإن هذه الهبة صحيحة، إن حصلت عليه فأنت غانم وإن لم تحصل عليه لم يفتك شيء، وكذا لو وهبت السيارة المغصوبة، أو المسروقة، أو المنتهبة صح؛ ففرق بين عقود المعاوضة، وعقود التبرعات، فعقود المعاوضات يدخل فيها الإنسان وهو مغامر -مخاطر- إما غانم أو غارم، أما بالنسبة لعقود التبرعات فيدخل الإنسان فيها وهو إما غانم أو سالم ففرق بين البابين.

واعلم أن الأبواب في الموضوع الواحد تتفاوت، فمثلًا في التبرعات باب الوصايا أوسع من أبواب الهبات فتجد أن الفقهاء رحمهم الله يتوسعون في باب الوصايا مالا يتوسعون في أبواب الهبات.

مثال ذلك: تصح الوصية من الصبي المميز فلو أنه أوصى بثلث ماله، كأن يكون عنده ثلاثة ملايين وأوصى بمليون يصح ذلك لكن لو أنه باع سيارة بعشرة آلاف ريال أو وهبها فلا يصح؛ لأن الوصية هنا ليس فيها ضرر، وإنما تبرع بالمال بعد الموت، إن احتاج إليه له أن يبطل الوصية، وإن لم يحتج إليه لا يزداد إلا خيرا فلو مات كان خيرًا له.

• • •

ص: 224

‌65 - وكُلُّ ما أَتَى وَلمْ يُحَدَّدِ

بالشَّرِع كالحرْزِ فبالعُرفِ احْدُدِ

العرف في اللغة: يرجع إلى معنيين، قاله ابن فارس.

الأول: هو إدراك الشيء على حقيقته وهو ما يقال له: المعرفة، فتقول: عرفت الشيء، وهو أخص من العلم، على ما ذكره عدد من فقهاء اللغة.

الثاني: هو تتابع الشيء كما يقال للضَّبُع: عرفاء لتتابع شعر رقبتها مع طولها.

وأما في الاصطلاح: هو كل قول، وفعل، وترك اعتاد عليه الناس.

وقيل: بأنه ما يتكرر بين الناس ويقبلونه من الأقوال والأفعال.

وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله: بأنه ما تعارف عليه الناس من أمور دنياهم.

و‌

‌الفرق بين العرف والعادة:

قيل: إن العُرف ما يختص بالأقوال. والعادة: تختص بالأفعال.

وقيل: إن العادة: أعم من العُرف. والعُرف أخص من العادة. وهذا أظهر أنها أعم، فعلى هذا يكون كل عُرف عادة وليس كل عادة عُرفًا. فالعُرف: هو ما يعتاده جماعة الناس ويتعارفونه فيما بينهم من البيع، والشراء، والنكاح، وما أشبه ذلك.

والعادة: هي الأمر المتكرر سواء أكان لجماعة أم لفرد، فالعُرف لا يكون عادة لفرد بل يكون عادة للجماعة فقط.

يقول رحمه الله في هذه القاعدة: كل ما أتى على لسان الشارع مطلقًا ولم يحده بشيء بزمان ولا مكان ولا عدد

إلخ فإننا نرجع إلى تحديده بالعُرف، وهذا يدل على اعتبار العُرف، والرجوع إلى العُرف واعتباره إحدى القواعد الخمس الكلية.

ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

ص: 225

[البقرة: 228] وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].

وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة رضي الله عنها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .

(1)

وأيضًا ما رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن» قال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي

(2)

وهذا يدخل تحته أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات والأنكحة

إلخ.

فمن الأمثلة الداخلة على ذلك: إدراك تكبيرة الإحرام فإنه لم يحدها الشارع بشيء فنرجع فيها إلى العُرف، فإن كان هناك فاصل كثير بحيث لا يعتبر عُرفًا أنه مدرك فلا يكون مُدركًا وإن كان الفاصل يسيرًا بحيث يعتبر عُرفًا أنه مدرك فإنه يكون مُدركًا.

مثال ثان: الأصل أنه يتوضأ بالماء لكن إذا كان الماء بعيدًا عُرفًا على الإنسان، فإنه يتيمم وإن كان الماء قريبًا عُرفًا فإنه لا يتيمم.

مثال ثالث: إذا كان يجهل القبلة وحوله البلد نقول: إن كان قريبًا عُرفًا، فإنه لابد أن يذهب وينظر إلى القبلة، وإن كان غير قريب عُرفًا فإنه يصلي، وعلى هذا فقس.

مثال رابع: في المعاملات: العيب في السلعة يُرجع فيه للعرف إذا قال أهل العُرف: إن هذا عيب يفسخ به العقد أو يؤخذ فيه الأرش فهو عيب معتبر، أما إذا قالوا: بأنه عيب يسير لا يوجب الفسخ ولا يوجب أخذ

(1)

أخرجه البخاري رقم (2211)، ومسلم رقم (1714).

(2)

تقدم تخريجه ص (189).

ص: 226

الأرش فإنه لا فسخ ولا أرش.

مثال خامس: الغبن. إذا غبن نرجع في ذلك إلى العرف إذا دل العُرف على أنه غبن فله الخيار، أما إذا دل العُرف على أنه ليس غبنًا وأنه يسير فلا خيار.

مثال سادس: التدليس أيضًا نرجع في ذلك إلى العُرف.

مثال سابع: القبض في المبيع لابد للمشتري من القبض، وأن لا يبيع حتى يقبضه، وضابط القبض يُرجع فيه إلى العُرف، والعُرف يختلف باختلاف السلع.

مثال ثامن: في الحدود إذا سرق السارق فإنه تقطع يده لكن يشترط أن يسرق من حرز، وضابط الحرز يرجع فيه إلى العُرف فحرز السيارة ليس مثل حرز الدراهم، والذهب، والماشية، فالماشية حرزها في الأحواش، والخضروات حرزها وراء الشرائج، والذهب والفضة والنقود حرزها في صناديق الحديد يقفل عليها، فالحرز يختلف باختلاف الأموال، والزمان، والمكان، فيرجع في ذلك إلى العُرف.

مثال تاسع: في باب الأنكحة المرأة هل يجب عليها أن تخدم زوجها أو لا؟ نرجع في ذلك إلى العرف إن كانت من نساء يخدمن أزواجهن فإنه يجب عليها أن تخدمه تغسل ملابسه، وتطبخ طعامه

إلخ، وإن كانت من نساء لا يخدمن أزواجهن فلا يجب عليها أن تخدم زوجها.

مثال عاشر: نفقة الزوجة يُرجع فيها إلى العُرف.

‌مسألة: والعُرف له شروط فليس كل عرف مقبولًا:

الشرط الأول: أن يكون العرف مطردًا: أي ظاهرًا ومتكررًا بين الناس.

قال ابن نُجيم في الأشباه والنظائر: (فلا عبرة بالعُرف غير المطرد، أو الأغلبي).

ص: 227

الشرط الثاني: أن يكون عامًا: فلا يكون في حي من أحياء البلد.

الشرط الثالث: أن لا يخالف نصًا شرعيًا: فإذا كان كذلك فإنه يكون عُرفًا فاسدًا كالتعارف على الأمور المحرمة.

الشرط الرابع: أن لا يكون طارئًا؛ أي: أنه لم يحدث إلا منذ فترة يسيرة ولم يشتهر بعد. فالعُرف ما تألفه النفوس وهذا غير معروف، وفي هذه الحال لا يكون مقبولًا قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر:(فلا عبرة بالعرف الطارئ) وحكى الشاطبي: (الاتفاق على هذا في الموافقات).

الشرط الخامس: أن لا يعارضه تصريح؛ كأن يصرح الزوج أنه سيعطي نصف المهر والباقي يكون مؤجلًا، فإنه يُعمل بهذا التصريح ويكون مخالفًا للعُرف وهو تعجيل المهر.

الشرط السادس: أن يكون ظاهرًا غير خفي لتنقاس عليه المسائل، كما ذكره القرافي رحمه الله.

‌مسألة: يقسم جمهور الأصوليين والفقهاء العُرف إلى قسمين:

‌الأول: عرف قولي:

كأن يعتاد الناس في بيعهم وشرائهم على صيغة معينة يعتادونها في الإيجاب والقبول، مثل أن يقول: الله يربحك أو يقول: نصيبك، أو ما أشبه ذلك.

‌الثاني: عرف فعلي:

وهو ما يعتاده الناس بينهم عن طريق العادة المتكررة، أو عن طريق العمل.

ويقسمونه أيضًا إلى: عُرف عام: يعمل به أهل البلاد كلها ويتوارثه الناس في كل البلاد.

وعُرف خاص: يعمل به مجموعة من الناس ويكون في بلد معين.

• • •

ص: 228

‌66 - منْ ذاكَ صِيغاتُ العُقُودِ مُطلقًا

ونحوُها في قَولِ مَنْ قَدْ حَقَّقَا

قوله: [صيغات العقود]: جمع صيغة، يقال صاغ شعرًا أو كلامًا: أي وضعه.

وفي الاصطلاح: ما دل على انعقاد العقد من قول، أو فعل يرجع فيها إلى العُرف. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(أن العقود تنعقد بكل ما دل عليه العُرف من قول، أو فعل متعاقب، أو متراخ).

فالبيع ليس له صيغة خاصة بل ينعقد بأي صيغة دل عليها العُرف.

إذا قال: بعتك السيارة بألف ريال، أو ملكتك السيارة بألف ريال، أو وهبتك السيارة بألف ريال فإنه ينعقد ليس له صيغة محددة.

وكذلك الشركة ليس لها صيغة محددة والإجارة، والمساقاة، والمزارعة

إلخ من صيغ العقود وأيضًا النكاح هل له صيغة محددة أو لا؟.

المشهور من المذهب ومذهب الشافعية: أنه لابد أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويج قالوا: لأن هذين اللفظين هما اللذان وردا في الكتاب والسنة قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»

(1)

وقال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم»

(2)

.

والصواب أن النكاح كغيره ولهذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: [مطلقًا]

(1)

أخرجه البخاري رقم (1905)، ومسلم رقم (1400).

(2)

أخرجه أبو داود رقم (2050) والنسائي (6/ 65) وابن حبان (9/ 363) والحاكم في مستدركه (2/ 162) وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وقال ابن الصلاح حسن الإسناد ..

ص: 229

يعني النكاح، وغير النكاح لا نستثني شيئًا.

قوله: [في قول من قد حققا]: يعني من أصاب في هذه المسألة وبلغ التحقيق فيها كشيخ الإسلام رحمه الله.

ويدل لذلك: حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال للرجل في قصة الواهبة: «ملكتكها بما معك من القرآن» .

(1)

فالصواب: لا نستثني شيئًا النكاح أو غيره، فسائر العقود تنعقد بما يدل عليه العُرف؛ لأن هذا مطلق على لسان الشارع ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: بيعوا واشتروا بلفظ كذا، وأيضًا لم يرد في الكتاب بيعوا أو أجروا بلفظ كذا وكذا، ولم يرد ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (5030)، ومسلم رقم (1425).

ص: 230

‌67 - واجْعَلْ كَلَفْظٍ كُلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ

فَشَرطُنَا العُرفيُّ كَاللفْظِيْ يَرِدْ

هذه أيضًا قاعدة في الشروط في العقود: [أن الشرط العُرفي كالشرط اللفظي] وسيأتي تعريف الشرط في العقد، والفرق بين شرط العقد، والشرط في العقد عند قول المؤلف رحمه الله:

والشرط والصلح إذا ما حللا

محرمًا أو عكسه لن يقبلًا

فيجب الوفاء به لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

والأمر بإيفاء العقد يتضمن الأمر بإيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري معلقًا بصيغة الجزم «المسلمون على شروطهم»

(1)

وحديث عقبة رضي الله عنه «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»

(2)

والشروط التي يشترطها أحد العاقدين إما أن تكون لفظية مثل أن يقول: «بعتك السيارة بشرط أن أستعملها يومًا أو يومين، وإما أن تكون عرفيه تعارف الناس على ذلك، فنقول: بأن الشرط العرفي كالشرط اللفظي في وجوب الوفاء به.

ومن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد أن يتزوج على فاطمة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني يريبها ما يريبني»

(3)

قال ابن القيم رحمه الله: «هذا دليل على أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي؛ لأن الإنسان إذا تزوج من قوم لا يتزوج على نسائهم فإنه ليس له أن يتزوج على هذه

(1)

أخرجه أحمد (2/ 366) وأبو داود رقم (3594) وابن حبان (11/ 488) والحاكم (2/ 449) والبيهقي (6/ 79) وابن عدي في الكامل (2088/ 6) وعلقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الإجارة من صحيحه، وصححه الترمذي وابن حبان وحسنه ابن الملقن وقواه ابن عبد الهادي، وقال النووي رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح، وضعفه ابن حزم وعبد الحق وابن القطان.

(2)

أخرجه البخاري رقم (5151)، ومسلم رقم (1418).

(3)

أخرجه البخاري رقم (5230)، ومسلم رقم (2449).

ص: 231

المرأة؛ لأنه دخل على بصيرة وشرط، وأن هذه المرأة لا يتزوج عليها فليس له أن يتزوج على امرأته».

ومثل ذلك: كل من نصب نفسه للعمل للناس (سمسارًا) يبيع لهم وتعارف الناس على أنك إذا أعطيته السلعة فباعها فإن له كذا وكذا، فهذا شرط عرفي حتى وإن لم يقل: بشرط أن لي كذا وكذا، مادام أن الناس تعارفوا أنه يعمل بنسبة كذا وكذا، أو أنه يصنع هذا الطعام أو يغسل أو يخيط بكذا وكذا - فإنه وإن لم يشترطه عليك - له ذلك بناء على أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي.

• • •

ص: 232

‌68 - وشَرْطُ عَقْدٍ كوْنُه منْ مَالكِ

وكلُّ ذِي ولايَةٍ كالمالكِ

يشترط في العقود أن تكون من مالك أو من يقوم مقامه.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فقال «تداينتم» فهذا يدل على أنه لابد أن يكون العقد بين مالكين.

وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ومن أَكْل أموال الناس بالباطل أن يبيع الشخص مال غيره، أو يؤجره، أو يعقد عليه عقد شركة، أو مساقاة، أو مزارعة بغير إذنه ورضاه

إلخ. هذا كله من أكل أموال الناس بالباطل.

ولحديث حكيم بن حزام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك»

(1)

وإذا باع ملك غيره فإنه يبيع ما ليس عنده.

قوله: [وكل ذي ولاية كالمالك]: أي يشترط في العقد أن يكون من مالك، أو من ينوب مناب المالك، والذي ينوب مناب المالك خمسة:

الأول: الناظر: وهو الذي يلي أمر الوقف، فهذا قائم مقام المالك يبيع في الوقف ويشتري؛ حسب المصلحة فهذا استفاد التصرف من المُوقِف أو الحاكم.

الثاني: الوصي: وهو الذي استفاد التصرف من المالك بعد الموت، فإذا وصى أن زيدًا يقوم على وصيته وأنه يبيع فيه ويشتري حسب المصلحة فإنه قائم مقام المالك.

الثالث: الولي: وهو القائم على أموال القُصَّار من المجانين، وغير البالغين، والسفهاء، فهذا قائم مقامهم يبيع ويشتري لهم بالأحظ قال

(1)

أخرجه أحمد (3/ 402) وأبو داود رقم (3503)، والنسائي رقم (4601)، والترمذي (1232) وابن ماجه رقم (2187). وقال الترمذي حديث حسن وفي بعض النسخ حسن صحيح وصححه ابن الملقن وقال البيهقي إسناده حسن متصل.

ص: 233

تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ولقول عمر رضي الله عنه «ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» .

(1)

الرابع: الوكيل: هو الذي استفاد التصرف من المالك حال الحياة، فإذا وكل شخصًا أن يبيع له وأن يشتري فإنه يكون قائمًا مقام المالك.

ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكّل عروة بن الجعد رضي الله عنه أن يشتري له أضحية» .

(2)

الخامس: الحاكم يبيع مال المدين؛ لكي يوفي الدين الذي عليه، أو يبيع مال الشخص؛ لكي ينفق على أهله فالإذن هنا من جهة الشرع.

وقول المؤلف: [وشرط عقد كون من مالك

]: يفهم منه عدم صحة عقد الأجنبي - غير المالك - ولو أجازه المالك، وهو ما يسمى بالتصرف الفضولي.

والصواب: أن التصرف الفضولي ينفذ في كل ما تدخله النيابة من العبادات، والمعاملات، والأنكحة، والكفارات.

والأدلة على هذا كثيرة منها: حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في شراء شاة بدينار، وفي الطريق باع الشاة بدينارين، واشترى بدينار شاة أخرى، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة» رواه البخاري ومسلم.

(3)

• • •

(1)

أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في مسائل أبيه (159) والدارقطني في سننه (2/ 110) والبيهقي (4/ 107) وقال البيهقي: إسناده صحيح.

(2)

أخرجه البخاري رقم (3642)، ومسلم رقم (1873).

(3)

تقدم قريبًا.

ص: 234

‌69 - وكلُّ مَنْ رِضاه غيرُ مُعْتَبَرْ

كَمُبْرإٍ فعلمُهُ لا يُعْتَبَرْ

هذه قاعدة: [أن كل من لا يعتبر رضاه لا يعتبر علمه].

وأدلة هذه القاعدة كثيرة منها:

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فأباح الله عز وجل الطلاق، سواء أكان ذلك برضا المرأة أم بغير رضاها، بعلمها أو بغير علمها، فالطلاق يقع حتى وإن لم تعلم المرأة ومن الأدلة: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر» .

(1)

وتصرية الإبل: ربط أخلافها حتى يجتمع اللبن فيظن المشتري أن هذا هو عادتها فيشتريها، فإن اشتراها فهو بخير النظرين إذا تبين له أن البائع قد دلس عليه إن شاء أن يفسخ ويرد صاعًا من تمر مقابل الحليب الذي أخذ، وإن شاء أن يمسك فإذا فسخ فله ذلك رضي البائع أو لم يرضَ، علم أم لم يعلم. ومن صور هذه القاعدة:

الصورة الأولى: الفسخ لِلعيب، فلو أن المشتري وجد في السلعة عيبًا، فله أن يفسخ وإن لم يعلم البائع وإن لم يرضَ.

الصورة الثانية: لو أن المشتري وجد البائع قد غبنه في الثمن، فله أن يفسخ وإن لم يعلم البائع؛ لأنه لا يشترط رضاه.

الصورة الثالثة: لو أن المشتري وجد أن البائع قد دلس عليه فأظهر المبيع الرديء بصورة جيدة، أو الجيد بصورة أجود، فله أن يفسخ وإن لم يعلم البائع؛ لأن البائع لا يشترط رضاه فإذا كان لا يشترط رضاه لا يشترط علمه.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2148)، ومسلم رقم (1515).

ص: 235

الصورة الرابعة: إذا طلق زوجته وهي لم تعلم، وهو في مكان، وهي في مكان آخر فقال: زوجتي طالق، فيقع عليها الطلاق حتى ولو كرهت ذلك؛ لأن الزوجة لا يعتبر رضاها.

الصورة الخامسة: أعتق رقيقه فالعتق ينفذ ولو كره الرقيق؛ لأنه لا يعتبر رضاه فكذلك لا يعتبر علمه.

الصورة السادسة: الشفيع له أن يأخذ بحق الشُّفعة وإن لم يعلم المشتري؛ لأن المشتري لا يعتبر رضاه فكذلك لا يعتبر علمه.

مثال ذلك: زيد وعمرو شريكان في أرض، فزيد باع نصيبه على صالح، الشريك عمرو له أن يُشفِّع على صالح وإن لم يعلم صالح فيقول: شفعت ويأخذ النصيب الذي باعه شريكه زيد على صالح ويُعطي صالحًا الثمن الذي دفعه لزيد ويستقل بكل النصيب فيشفع حتى وإن لم يعلم المشتري؛ لأن المشتري لايشترط رضاه فلا يشترط علمه.

ومثل ذلك: المضمون والمضمون له، والمكفول والمكفول له

إلخ هؤلاء كلهم لا يشترط علمهم؛ لأنه لا يشترط رضاهم فيصح أن أضمن زيدًا من الناس وإن لم يعلم زيد؛ لأنه لا يشترط رضاهم أو أكفل لزيد أو أكفل زيدًا.

• • •

ص: 236

‌70 - وكُلُّ دَعوَى لِفسادِ العَقْدِ

مَعَ ادِّعاءِ صِحَّةٍ لا تُجْدِي

قوله: [دعوى]: الدعوى: إضافة الإنسان لنفسه حقًا على غيره، والمراد ادعاء فساد العقد، وعدم ترتب أثر العقد من انتقال الملكية ونحو ذلك.

والعقد الفاسد: هو الذي عاد النهي فيه إلى عين المعقود عليه، أو اختل شرط من شروط صحته، أو وجد مانع يمنع صحته.

والعقد الصحيح: هو ما توفرت شروطه، وانتفت موانعه.

الأصل في العقود السلامة؛ أي: أنها وقعت على وجه الصحة.

ويدل لذلك: عمومات أدلة العقود كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فالله تعالى أباح البيع فدل ذلك على أن الأصل فيه أنه وقع على وجه السلامة والصحة فلك أن تبيع ما اشتريته سابقًا، فدل على أن عقد الشراء السابق وقع على وجه الصحة، وكقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»

(1)

وعلى هذا كل دعوى تنافي هذا الأصل، فلابد فيها من البينة قال صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»

(2)

، وهذا يكون في عقود المعاوضات، والتبرعات، والأنكحة

إلخ.

مثال ذلك: في عقود المعاوضات، لو أنه باع السيارة ثم بعد أن تم البيع ادعى البائع أن البيع غير صحيح لوجود مانع؛ لأن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، أو لأن البيع وقع بعد أن تضايق وقت المكتوبة وهو لم يصلها فنقول: الأصل السلامة وأن البيع صحيح، ولابد من دليل يدل على أن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، أو أن البيع وقع بعد أن

(1)

تقدم تخريجه ص (266).

(2)

تقدم تخريجه ص (114).

ص: 237

تضايق وقت المكتوبة.

أيضًا إذا باع ثم ادعى أحد المتعاقدين انتفاء شرط، مثل أن يكون الثمن أو المثمن مجهولًا

إلخ فالأصل في البيع السلامة لابد من دليل يدل على صحة قول من يدعي الفساد.

وقل مثل ذلك: في الإجارة، والشركة، والمزارعة، الأصل في هذه العقود أنها وقعت على وجه السلامة، فلابد من دليل يدل على الفساد.

ومثل ذلك في عقود التبرعات: الهبة، والوقف، والوصايا، لو أنه وهب زيدًا كتابًا، ثم ادعى أن هذا الكتاب الذي وهبه ليس ملكًا له وأن هذه الهبة فاسدة، فهذه الدعوى باطلة لابد من الدليل على أن هذا الكتاب ليس ملكًا له، أو أنه وقف وقفًا ثم ادعى أن هذا الوقف الذي أوقفه مرهون والمرهون لا يصح وقفه، فلابد من الدليل الذي يدل على ما ذكر من فساد عقد الوقف. وكذلك لو زوج ابنته ثم ادعى فساد العقد؛ لفقد شرط فلابد من الدليل على هذا الفساد.

• • •

ص: 238

‌71 - وكُلُّ مَا يُنكِرهُ الحِسُّ امنَعَا

سَمَاعَ دَعْواهُ وضِدَّهُ اسْمعَا

قوله: [الحس]: هو الإدراك بإحدى الحواس الخمس.

والمراد به هنا: مالا يتصور وقوعه، ولو على وجه بعيد. كل دعوى ينكرها الحس فإن القاضي لا يسمعها أصلًا ولا ينظر فيها.

فالدعوى تنقسم قسمين:

القسم الأول: دعوى يقرها الحس.

القسم الثاني: دعوى ينكرها الحس.

الدعوى التي ينكرها الحس: لا يسمعها القاضي ولا ينظر فيها، ولا يستمع لقول المتخاصمين ولا ينظر في شهودهما.

أما إذا كان الحس يقرها: فإن القاضي ينظر في أقوال المتخاصِمَين، والبينات من الشهود، وغيرها.

مثال: (الدعوى التي ينكرها الحس): لو أن المرأة ادعت أن عدتها انقضت، وعدتها ثلاث حيض فادعت أنها حاضت ثلاث حيض في عشرين يومًا، وأن زوجها الذي طلقها لا يتمكن من مراجعتها، فهذه دعوى ينكرها الحس؛ لأنه لا يمكن أن تحيض امرأة ثلاث حيض في عشرين يومًا.

المثال الثاني: لو أن شخصًا ادعى أن هذا الولد ولده، وهذا الولد له عشر سنوات، وعمر المدعي خمس عشرة سنة، فهذه الدعوى ينكرها الحس، فلا يمكن أن يولد لمن له خمس سنوات، وعلى هذا لا يسمعها القاضي ولا ينظر فيها.

المثال الثالث: لو أن شخصًا في أقصى المغرب ادعى على شخص في أقصى المشرق أنه سرق منه، أو أنه اعتدى عليه في تلك الليلة وهو في أقصى المشرق، بحيث أنه لا يمكن أن يأتي في ذلك الوقت فهذه دعوى ينكرها الحس فلا ينظر إليها القاضي.

ص: 239

المثال الرابع: لو ادعى شخص معروف فقره أموالًا عظيمة على شخص آخر، وأنه أخذها منه قرضًا أو غصبًا

إلخ ولم يُعهد أن هذا الفقير قد أصاب مثل ذلك المال بإرث أو نحوه، فإن هذه الدعوى لا تقبل ولا يلتفت إليها.

• • •

ص: 240

‌72 - بيَّنةً أَلْزِمْ لكُلِّ مُدَّعِ

وَمُنْكِرًا أَلْزِمْ يمينًا تُطِعِ

قوله: [بينة]: البينة: الحجة الواضحة.

ويأتي المراد بها عند العلماء.

وقوله: [مدع]: المدعي: هو المطالِب، والمدعى عليه هو المطالَب.

وقيل: المدعي: من إذا ترك الخصومة لم يجبر عليها.

والمدعى عليه: إذا ترك الخصومة يجبر عليها.

وقيل: المدعي: من يخالف قوله الظاهر.

والمدعى عليه: من يوافق قوله الظاهر.

وقال ابن قدامه رحمه الله: (يحتاج إلى جهد القاضي).

وقال ابن المسيب رحمه الله: (أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم بينهما).

هذه قاعدة وهي: [البينة على المدعي، واليمين على من أنكر] فإذا ادعى شخص على شخص شيئًا؛ كأن يريد منه مالًا، أو أن عليه دينًا، أو ادعى عليه عقدًا، أنه باعه، أو اشترى منه، فنقول: يجب على المدعي البينة، فإذا لم يكن بينة فإن على المدعى عليه اليمين.

مسألة: الحقوق التي تشرع فيها اليمين والتي لا تشرع فيها اليمين تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: حقوق الله تعالى:

أ- الحدود؛ كالزنا، والسرقة فلا تشرع فيها اليمين بلا خلاف، إلا إذا تضمن إثبات حق لآدمي؛ كأن يدعي عليه سرقة ماله ليضمنه فيثبت الحق دون القطع.

ب - الحقوق المالية، كدعوى أن الحول قد تم، وأن الزكاة وجبت، فعند الحنابلة لا يستحلف، وعند الشافعي: يستحلف.

القسم الثاني: حقوق الآدميين:

ص: 241

أ - المال وما يقصد به المال تشرع فيه اليمين بلا خلاف.

ب - ما ليس بمال ولا يقصد به المال كالقصاص، وحد القذف، والطلاق، والرجعة، والنسب

إلخ. فالشافعي والإمام أحمد: يستحلف، وأبو حنيفة ومالك: لا يستحلف.

لقوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»

(1)

والظاهر: الرجوع إلى اجتهاد القاضي.

وقوله: [بينة ألزم]: ما المراد بالبينة؟

في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:

الرأي الأول: أن البينة مختصة ببينة الشهود فقط، وهو رأي جمهور أهل العلم.

ويستدلون على ذلك: بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].

الرأي الثاني: أن البينة ليست خاصة بالشهود، بل هي كل ما يُبيّن الحق ويظهره من القرائن، والشهود، والوثائق، والكتابات والعادات، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.

مثال العادات: لو أن الزوج طلق زوجته وادعى الزوج أن حلي المرأة له، وادعت الزوجة أن الكتب التي للزوج لها، فالعادة تكذب ذلك، فالحلي يكون للمرأة، والكتب تكون للزوج فما اختص بالمرأة يكون للمرأة، وما اختص بالرجل يكون له وهذا القول هو الصواب.

ويدل لذلك: أولًا: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] والبينات التي أرسلت بها الرسل ليست هي الشهود، بل هي الدلائل الواضحات على صدقهم من الآيات الشرعية والكونية.

(1)

تقدم تخريجه ص (114).

ص: 242

ثانيًا: أن الشارع اعتبر القَافَة في إثبات النسب، ففي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورًا تبرق أسارير وجهه فقال:«ألم تري إلى مُجَزِّزًا المُدْلِجي؟ نظر إلى أقدام زيد بن حارثة وأسامة وقد غطيا رأسيهما بقطيفة فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض»

(1)

وهذه قرينة على أن أسامة ابن لزيد ولم يكن هناك شهود.

ثالثًا: حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه»

(2)

والبينة هنا ليست الشهود بل كل ما يبين الحق ويظهره.

رابعًا: الخلفاء رضي الله عنهم عملوا بالقرائن في إثبات الحدود فقال عمر رضي الله عنه كما في الصحيحين «ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف»

(3)

فالحَبَل قرينة على الزنا فإذا حملت امرأة ليس لها زوج ولا سيد فإن هذا قرينة على زناها.

وكذلك عثمان رضي الله عنه جَلَد من تقيأ الخمر

(4)

وأنه لم يتقيأ الخمر إلا لكونه شربها وأما قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] هذا ليس في القضاء بالحق، إنما هو في إثبات الحق، وفرق بين القضاء في الحقوق وتمييز الحقوق وبيان أصحابها.

ففي الفصل في الحقوق، والخصومات قد تكون البينة أعم من هذه الأشياء والله سبحانه ذكرها في معرض إثبات الحقوق لا في معرض الفصل في الخصومات.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (3555)، ومسلم رقم (1459).

(2)

أخرجه البخاري رقم (3142)، ومسلم رقم (1751).

(3)

أخرجه البخاري رقم (6829) ومسلم رقم (1691).

(4)

أخرجه مسلم رقم (1707).

ص: 243

‌73 - كُلُّ أمِينٍ يدّعي الرَّدَّ قُبِلْ

مَالمْ يَكُنْ فِيمَا لَه حظٌّ حَصَلْ

الأمين: هو كل من قبض المال بإذن الشارع، أو بإذن المالك. ويدخل في ذلك صور وقد تقدم بيان ذلك.

(1)

إذا قبض الأمين المال، ثم ادعى رده هل يقبل قوله؟

مثال ذلك: قال الموكِّل للوكيل: أنا أعطيتك السيارة تبيعها أعطني السيارة قال: أنا رددتها عليك، أو قال المُعِير: أنا أعطيتك الكتاب رده علي قال المستعير: أنا رددته عليك

إلخ، أو المستأجِر قال للمؤجر: رددت عليك السيارة أو المودَع قال للمودِع: رددت عليك الوديعة، هل هذا الأمين يقبل قوله في الرد أو لا يُقبل؟ المؤلف رحمه الله فصّل في هذه المسألة: وأن الأمين فيما يتعلق بالرد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من قبض المال لحظ نفسه ولذلك أمثلة:

المثال الأول: المرتهن إذا أقرض شخصًا، وقبض السيارة من مالكها - الراهن - توْثِقَة، فإنه أمين على هذه السيارة، لكن قبضها لحظ نفسه لكي يتوثق من ماله.

المثال الثاني: إذا استعار شخص سيارة، فإنه أمين عليها، ويكون قبضها لحظ نفسه.

القسم الثاني: أن يكون قبض العين لحظ نفسه، ولحظ المالك، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: إذا أعطيت شخصًا ألف ريال لكي يُضارب فيه يعمل ويتاجر فيه، وله جزء من الربح ولك جزء من الربح يكون قبض المال لحظ المالك وحظ القابض؛ لأن المالك سيكون له حظ من الربح وأيضًا المضارب له حظ من الربح.

المثال الثاني: الشريك قبض المال لحظ الشريك ولحظه هو. يعني

(1)

انظر ص (270).

ص: 244

لحظهما جميعًا.

المثال الثالث: الوكيل بجعْل، إذا وكَّلت زيدًا يبيع السيارة بمائة ريال هو الآن قبضها لحظ مالكها؛ لأن المالك ستُباع سيارته وأيضًا لحظ الوكيل؛ لأن الوكيل سيبيع له بجعل.

فهذان القسمان المذهب أنه لا يقبل قول الأمين في الرد.

الرأي الثاني: يقبل قوله كما سيأتينا إن شاء الله.

(1)

القسم الثالث: أن يكون القبض لحظ المالك فقط، والأمين ليس له حظ في القبض.

ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: الوديعة، المودَع قبض المال لحظ المالك، والأمين سيقوم بالحفظ فقط.

المثال الثاني: الوكيل إذا كان متبرعًا، قبض السيارة من صاحبها لكي يبيعها له فالقبض هنا لحظ المالك.

المثال الثالث: ناظر الوقف إذا كان متبرعًا، فإنه قبض لحظ الموقوف عليه، فيقبل قوله في الرد، وكذا المودَع لو قال: رددت الوديعة نقبل قوله، وكذلك الوكيل إذا كان متبرعًا فيقبل قوله؛ لأنه قبضها لحظ مالكها.

والصواب في هذه المسألة: أن الأمين يقبل قوله في الرد مطلقًا سواء قبضه لحظ نفسه، أو لحظهما جميعًا، أو لحظ المالك؛ لأنه أمين ومقتضى الأمانة أن نقبل قوله، وإذا كان الأمين إذا تلفت السلعة تحت يده لا ضمان عليه فالرد من باب أولى، فإذا تلفت السلعة تحت يده وهو لم يتعدَّ ولم يفرط لا نضمنه، فكذلك إذا ادعى الرد فإننا نقبل قوله.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] وهذا ليس ظالمًا؛ لأنه قبض بإذن المالك، أو بإذن الشارع، فإذا كان

(1)

سيأتي قريبًا.

ص: 245

كذلك فإنه لا ضمان عليه.

• • •

ص: 246

‌74 - وَأطْلِقِ القَبُولَ في دَعْوَى التلَفْ

وكُلُّ مَنْ يُقْبَل قولُه حَلَفْ

الأمين يقبل قوله في التلف، مثال ذلك: المستأجر أمين إذا ادعى تلف السيارة نقبل قوله، أو ادعى المودَع أو المستعير سرقة الوديعة أو العارية، فإنه يقبل قوله إن تلفت العين تحت يديه، فكل الأمناء إذا تلفت العين تحت أيديهم لا ضمان عليهم سواء كان قبضه لهذه العين لحظ نفسه، أو لحظ المالك، أو لحظهما جميعًا، والمؤلف رحمه الله فرّق بين مسألة الرد، وبين مسألة التلف.

والصواب: أنه لا فرق بين هاتين المسألتين، وأن الجميع لا ضمان عليهم فيقبل قوله في الرد وأيضًا إذا تلفت، لكن إن تعدى، أو فرط فإنه يضمن. والتعدي: فعل ما لا يجوز. والتفريط: ترك ما يجب.

مثال ذلك: المستأجر أمين، إذا تلفت السيارة تحت يده وهو لم يتعد ولم يفرط يسوق بقيادة نظامية، ثم تلفت السيارة فلا ضمان عليه، لكن لو تعدى بفعل ما لا يجوز، استأجرها لكي يقودها في البلد، ثم خرج بها إلى خارج البلد وحصل عليه حادث، أو أسرع فوق السرعة النظامية فإنه فعل شيئًا لا يجوز فيضمن.

والتفريط ترك ما يجب، ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: السيارة التي استأجرها، بدلًا من أن يقفلها تركها مفتوحة وهو يجب عليه أن يقفلها، فجاء شخص وسرقها وسرق ما فيها فإنه يضمن.

المثال الثاني: الوديعة. أيضًا لا يضمن إلا إذا تعدى؛ أي: فَعَل شيئًا لا يجوز له، أعطاه السيارة وديعة فذهب وقاد السيارة فلا يجوز؛ لعدم الإذن في الاستعمال، فإذا تلفت فإنه يضمن؛ لأنه فعل شيئًا لا يجوز.

المثال الثالث: أعطاه الكتاب ليحفظه فبدلًا من أن يحفظ الكتاب مع الكتب وضع الكتاب في فناء البيت، فأصابته الرياح، أو الأمطار، أو

ص: 247

الشمس حتى تلف فإنه يضمن؛ لأنه ترك الواجب. فالأمين يقبل قوله في التلف بلا بينة إلا إذا ادعى التلف بأمر ظاهر فإنه يكلف بالبينة.

مثال ذلك: استعار الكتاب ثم قال: البيت احترق واحترق معه الكتاب، أوغرق بالمطر

إلخ فلابد أن يكلف البينة؛ لأنه إن كان صادقًا فبإمكانه أن يقيم البينة على هذا الأمر الظاهر من حريق أومطر

إلخ.

قوله: [وكل من يقبل قوله حلف]: ما دمنا نقبل قوله فإنه لابد أن يحلف. فكل أمين يقبل قوله في التلف، لكن يحلف.

مثال ذلك: رجل أعرته، أو أودعته فادعى التلف فيقبل قوله، لكن يحلف.

• • •

ص: 248

‌75 - أدِّ الأمانَ لِلذي قدْ أَمَّنَكْ

ولا تَخُنْ مَنْ خَان فَهْوَ قدْ هَلك

هذه قاعدة: [يجب على الإنسان أن يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه ولا يخن من خانه] ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وفي الحديث الضعيف «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»

(1)

فمن ائتمنك يجب عليك أن تؤدي الأمانة إليه، وأن لا تتعدى ولا تفرط وأن تحفظها.

فمثلًا: الوكيل ائتمنك على السلعة أو العين التي وكلك عليها، أو المودع ائتمنك على الوديعة، أو المعير ائتمنك على العارية، أو أموال الأيتام والمجانين والقصّار أنت أمين على هذه الأشياء، أو الشريك ائتمنك على مال الشركة يجب عليك أن تؤدي هذه الأمانة إلى أهلها وتحفظها لهم بما يقتضي الحفظ وأن لا تتعدى ولا تفرط لما تقدم من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .

قوله: [ولا تخن من خان فهو قد هلك]:

لا تخن من خانك، فزيد جحد لك مالًا؛ كأن أقرضته ألف ريال ثم بعد ذلك جحد هذه الألف، ثم اشتريت منه سلعة بثمن مؤجل فهل تخونه أو لا؟

يقول المؤلف: من خانك فلا تخنه أعطه الذي يريد منك، وكذا لو تمكنت من شيء من ماله، يقول المؤلف رحمه الله: لا تأخذه، إذن فما هو الطريق؟ الطريق أن ترفع أمره إلى القاضي والقاضي يخلص حقك منه؛ لأن هذا الأمر لو فُتِح لأدى ذلك إلى التلاعب فكل من يأخذ مال

(1)

أخرجه أبو داود رقم (3535)، والترمذي رقم (1264)، والدارمي (2/ 264)، والبيهقي (10/ 271)، وضعفه أبو حاتم وأحمد والشافعي والبيهقي وابن الجوزي.

ص: 249

شخص ويدعي أنه يريد من هذا الشخص كذا وكذا وأنه جحده

إلخ، ويأتي تمام هذا في قوله:

• • •

‌76 - وَجَائِزٌ أخذُك مالا استُحِقْ

شَرعًا ولو سِرًّا كَضَيفٍ فهْو حَقْ

هذه المسألة يسميها العلماء رحمهم الله بمسألة الظَفَر وهي أن يظْفَر الإنسان بمال لشخص له حق عنده جحده إياه فهل له أن يأخذ منه هذا المال بدلًا من حقه أو لا؟ هذه المسألة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون السبب ظاهرًا، فهذا لك أن تأخذ من ماله حقك الذي تريد منه، ويدخل في ذلك نفقة الأولاد، والزوجة، وحق الضيف كما قال الشيخ رحمه الله هنا، فسبب نفقة الزوجية ظاهر، وسبب نفقة الأولاد والقرابة أمرها ظاهر، وسبب نفقة الضيف الضيافة أمرها ظاهر، فالزوجة إذا لم ينفق عليها زوجها وقصر في نفقتها الواجبة ثم ظفرت بشيء من ماله، فلها أن تأخذ من ماله بقدر الواجب، والأولاد أو الأقارب إذا قصّر قريبهم في الإنفاق عليهم ثم ظفروا بشيء من ماله، فلهم أن يأخذوا الكفاية أو تمامها.

ودليل ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند لما شكت إليه أبا سفيان أنه رجل شحيح قال صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك» .

(1)

أيضًا رخص النبي صلى الله عليه وسلم للضيف إذا امتنع المُضيف أن يأمر له بحقه، أن يأخذ حقه منه كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» .

(2)

القسم الثاني: أن يكون السبب خفيًا مثل القرض، وثمن المبيع، وقيمة المتلف، والوديعة، والعارية

إلخ، فليس لك أن تأخذ فإذا جحد

(1)

تقدم تخريجه ص (261).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2461)، ومسلم رقم (1727).

ص: 250

وديعتك، أو عاريتك، أو أقرضته وجحد القرض، أو بعت عليه بثمن، مؤجل وجحد الثمن، أو أتلف مالك وجحد القيمة، فليس لك أن تأخذ منه إذا ظفرت بشيء من ماله فلا تخن من خانك، وإنما ترجع إلى القاضي فتأخذ حقك منه؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى التلاعب والفوضى

إلخ.

وذهب الشافعي وقول في مذهب أبي حنيفة ومالك إلى أنه يجوز أن يأخذ، فمن كان يطلب إنسانًا دينًا قال الشافعي: إنه يجوز له أن يأخذ حقه.

وقال بعضهم: إنه يجوز أن يأخذ إذا كان لا يمكن إثباته عند القاضي، أما إذا كان يمكن إثباته عند القاضي؛ كأن يكون الذي عليه الدين مقر به، أو عنده بينِّه فقالوا: لا يجوز في هذه الحال أن يأخذ؛ لأنه ينسب إلى الخيانة والسرقة عند خفاء السبب، وكما تقدم قال صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .

(1)

وفصّل بعض العلماء بين الشيء اليسير، فلك أن تأخذ حقك من ماله، وبين الكثير فليس لك أن تأخذ.

• • •

(1)

تقدم تخريجه ص (288).

ص: 251

‌77 - قد يَثْبُتُ الشَّيءُ لغيرِهِ تَبَعْ

وإنْ يَكُنْ لوِ استَقَلَّ لا مْتَنَعْ

هذه قاعدة: [يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالًا]:

التبع: هو المشارك لغيره في الحكم.

والمعنى أن هذا التبع يثبت له حكم متبوعه، والحكم لا يثبت له لو كان مستقلًا، وإنما اكتسبه من تَبَعِه لغيره.

والاستقلال: الانفراد في الحكم لوحده.

ومعنى القاعدة: [أن الشيء قد يكون له حكم حال الانفراد عن غيره، ولكن إذا اشترك مع غيره وتبعه فإنه يتغير حكمه لحكم متبوعه، ولا يصح هذا الحكم له لو كان منفردًا].

وللفقهاء ألفاظ أخرى تدل على القاعدة أو قريب منها كقولهم: [قد يثبت الشيء ضمنًا وحكمًا ولا يثبت قصدًا]، وقولهم:[يغتفر في التوابع مالا يغتفر في غيرها]، وقولهم:[التابع تابع]، وقولهم:[التابع لا يفرد بحكم].

ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «حرّق نخل بني النضير»

(1)

وهذا جائز لما فيه من النكاية بالعدو، لكن هذا التحريق يؤدي إلى تعذيب الحيوانات بالنار من الحشرات والطيور فتعذيب هذه الأشياء إذا كانت على وجه الاستقلال محرم ولا يجوز؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار لكنه جاز تبعًا لغيره، فلما كان التحريق فيه مصلحة، فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سيترتب على ذلك أن يحرق شيئًا من الحيوانات فنقول: يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالًا فلما كان تابعًا لغيره جاز ذلك، وكذلك الفلاح يحرق أرضه لما يترتب على ذلك من المصلحة في الأرض؛ ولأن التابع أيسر من المستقل فهو داخل في ضمنه وفي حكمه، ومن ذلك المأموم يسجد مع الإمام

(1)

أخرجه البخاري رقم (3021)، ومسلم رقم (1746).

ص: 252

سجود السهو وهو لم يسهو وإنما سها الإمام فنقول: زاد هنا تبعًا للإمام.

ومن الأمثلة أيضًا: يأتي المأموم، والإمام في الركعة الثانية، فيدخل معه، فهي الركعة الثانية للإمام والركعة الأولى للمأموم، فالإمام سيجلس للتشهد فيتابعه المأموم ويجلس للتشهد مع أن هذا ليس موضع جلوس له؛ لأنها الركعة الأولى بالنسبة له.

ومن الأمثلة: السوس في التمر لا يجوز أن تأكلها استقلالًا لكن لو أكلت التمرة وما فيها من سوس فإن هذا جائز ولا بأس به.

ومن الأمثلة: ثمرة النخل لا يجوز أن تبيعها حتى يبدو صلاحها، فإذا بدا الصلاح ولو في بسرة واحدة جاز لك أن تبيع البسر وهو أخضر لم يحمّر أو يصفّر.

ومن الأمثلة: الصلاة لا تجوز النيابة فيها؛ أي: مَنْ يصلي عن فلان، لكن لو حج عن إنسان حي أو ميت جاز له أن يصلي ركعتي الطواف وتدخل ركعتا الطواف تبعًا لا استقلالًا.

وكذلك ذكاة الجنين ذكاة أمه فيحل بذكاة أمه إذا خرج ميتًا ولا يحتاج إلى ذكاة أما لو خرج حيًا فلا يحل إلا بذكاة.

ومن الأمثلة: المجهول لا يجوز لك أن تبيعه، فالحمل على وجه الاستقلال لا يجوز لك أن تبيعه، لكن تبيع الشاة وفيها حمل يجوز؛ لأنه تابع؛ لأن الحمل قد يكون ذكرًا، وقد يكون أنثى، وقد يكون واحدًا، وقد يكون اثنين

إلخ.

وكذلك اللبن على وجه الاستقلال في الضرع لا يجوز بيعه؛ لأنه مجهول لكن تبيع الشاة أو البقرة

إلخ وفيها اللبن فهذا جائز؛ لأنه يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالًا.

ومن الأمثلة: لو حلف أن لا يشتري صوفًا فاشترى شاة على ظهرها صوف، لم يحنث لأن الصوف هنا لم يكن مستقلًا، وإنما تابع للشاة.

ص: 253

وهذه القاعدة متفق عليها بين الفقهاء فقد حكى الاتفاق غير واحد ومنهم: السيوطي رحمه الله في «الأشباه والنظائر» والنووي في «المجموع شرح المهذب» والماوردي في الحاوي الكبير».

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:

‌78 - كَحَامِلٍ إنْ بِيعَ حَمْلُها امْتَنَعْ

وَلَوْ تُباعُ حَامِلًا لم يَمْتَنِعْ

يعني لو بيع الحمل وحده لا يصح كما تقدم في الأمثلة السابقة، لكن لو بيعت الحامل مع الحمل هذا جائز؛ لأن القاعدة [يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا].

• • •

ص: 254

‌79 - وكُلُّ شَرطٍ مُفْسِدٍ للعقدِ

بِذِكرِهِ يُفسِدُهُ بِالقصْدِ

‌80 - مِثْلُ نِكَاحِ قاصِدِ التَّحْلِيلِ

ومَنْ نَوى الطلاقَ للرَّحِيلِ

هذه قاعدة: [أن كل شرط إذا ذُكر في العقد أفسده فكذلك أيضًا إذا نواه أفسد العقد].

ودليل هذه القاعدة: حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

متفق عليه.

مثال ذلك: المرأة إذا طُلقت ثلاثًا فإنها لا تحل لزوجها حتى يطأها زوج غيره بعقد صحيح، فإن كان هناك شرط أو اتفاق بأن قال الولي: بشرط أن تطلقها إذا أحللتها لزوجها، أو اتفاق بين الولي والزوج، أو بين الزوج والزوجة على أنه متى أحلها لزوجها طلقها، فهذا يبطل عقد النكاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن نكاح التحليل»

(2)

فالشرط إذا ذكر أفسد العقد، وكذلك إذا نوي فإنه يفسد العقد.

فمثلًا هنا ليس فيه اتفاق لكن نوى الزوج أنه متى أحلها لزوجها فإنه سيطلقها.

مثال ذلك: زيد من الناس طلق زوجته آخر الطلقات الثلاث فقال شخص: أتزوجها وأحلها له، ثم بعد ذلك يتزوجها زيد ونوى ذلك فالنية هنا تفسد العقد كالشرط.

والدليل على ذلك: حديث عمر رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(3)

. وهذا بنيته لم يقصد الدوام، وإنما نوى التحليل. وورد أن ابن عمر سئل عن الرجل ينكح المرأة ليحلها لزوجها بلا مؤامرة، وإنما فقط نية من الزوج فقال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نعد هذا سفاحًا على

(1)

تقدم تخريجه ص (43).

(2)

انظر ص (223).

(3)

انظر ص (43).

ص: 255

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

(1)

قوله: [ومن نوى الطلاق للرحيل]: أي من تزوج بنية أنه يطلق هذه المرأة عند رحيله من هذا البلد، فإن هذا محرم ولا يجوز، وهذا ما يسمى بالزواج بنية الطلاق، وقد اختلف العلماء في حكمه:

فالمشهور من مذهب الحنابلة: أنه من نكاح المتعة، لحديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمال بالنيات .. »

(2)

فالأمور بمقاصدها، فكما أن من نوى تحليل المطلقة ثلاثًا لا تحل ولا يصح معه العقد؛ فكذا من نوى الزواج بنية الطلاق؛ ولأن النكاح يراد للدوام والاستمرار وهذا ينتفي مع النكاح بنية الطلاق، وأيضًا فإن النكاح شرع لما يترتب عليه من مصالح عظيمة تنتفي مع النكاح بنية الطلاق، ولما فيه من الغش والتدليس، ولا يرضاه أحد لموليته وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

(3)

ولما فيه من اتخاذ آيات الله هزوًا.

وعند الأئمة الثلاثة: جوازه ومنهم من كرهه لاستكماله الشروط والأركان.

واستدلوا أيضًا: بأن المعيب يتزوج وهو يعلم أنه سيفسخ منه النكاح، وأجيب: بأن كتمانه للعيب محرم فلا عبرة به.

واستدلوا: بأنه يجوز الزواج من الأَمة وقد تعتق فتختار الفسخ، وأجيب: بأن هذا طارئ ونادر وليس أصليًا كإرادة الطلاق.

واستثنى المؤلف من القاعدة السابقة ما إذا كان الطرف الآخر يجهل هذه النية وذلك بقوله:

(1)

أخرجه الحاكم (2/ 199) والبيهقي (7/ 207) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وابن تيمية في بيان الدليل (479).

(2)

تقدم تخريجه ص (43).

(3)

أخرجه البخاري رقم (13) ومسلم رقم (45).

ص: 256

‌81 - لكنَّ مَنْ يَجْهلُ قَصْدَ صاحبِهْ

فالعقْدُ غيرُ فاسدٍ مِنْ جانبِهْ

‌82 - لأنَّه لا يَعلمُ الذي أَسَرْ

فَأُجْرِيَ العَقْدُ على ما قدْ ظَهَرْ

أي أن العقد يفسد في جانب العالم بذلك، أما من الجاهل فالعقد صحيح في جانبه.

مثال ذلك: إذا اشترى عنبًا وهو يقصد أن يعصرها خمرًا فلو اشترط أنه سيعصرها خمرًا فهذا الشرط يفسد العقد، وكذلك إذا نواه فإنه يفسد العقد، ويكون في حقه فاسدًا، أما في حق الآخر الذي لا يعلم، فإنه صحيح.

مثال آخر: هذه المرأة التي تزوجها هذا الشخص يريد تحليلها فالعقد في حقها صحيح، فإذا مات فإنها ترثه وتعتد له، وإذا كان حيًا تطالبه بالنفقة والمهر

إلخ من سائر أحكام النكاح، فيترتب عليه أحكام النكاح الصحيح بالنسبة لهذه المرأة، أما بالنسبة لهذا الزوج الذي نوى التحليل، فإن العقد في حقه فاسد، فلو ماتت لا يرثها؛ لأنه عقد فاسد وعلى هذا فقس.

ص: 257

‌83 - والشَّرطُ والصُّلحُ إذا ما حلَّلا

مُحرَّمًا أو عكسُه لنْ يُقْبَلا

الشَّرَطُ في اللغة: العلامة ومنه الشُرَط؛ لأن لهم علامات يتميزون بها عن الناس وهي لباسهم.

وأما في الاصطلاح: إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما له فيه منفعة، ومصلحة.

الصلح في اللغة: قطع المنازعة. وأما في الاصطلاح: معاقدة يتوصل بها إلى إصلاحٍ بين متخاصمين.

والأصل في الشروط: الصحة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] والإيفاء بالعقد يتضمن الإيفاء بأصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه.

وأيضًا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم»

(1)

رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم. وأيضًا حديث عقبة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» .

(2)

فالأصل في العقود الصحة والحل ويجب الوفاء بها لما تقدم من الأدلة ولا فرق على الصحيح بين الشروط في المعاملات، وفي الأنكحة، كلها يجب الوفاء بها.

و‌

‌الفرق بين الشروط في العقد وشروط العقد:

الفرق الأول: أن شروط العقد من وضع الشارع، والشروط في العقد

(1)

تقدم تخريجه ص (267).

(2)

تقدم تخريجه ص (268).

ص: 258

من وضع المتعاقدين.

مثال ذلك: كون المبيع معلومًا، والثمن معلومًا، والعقد من مالك، هذا من وضع الشارع، أما الشروط في العقد فهي من وضع المتعاقدين.

الفرق الثاني: أن شرط العقد لا يصح إسقاطه، وأما الشرط في العقد فيصح إسقاطه، فلو أن إنسانًا اشترط على من يشتري سيارته أن يستعملها لمدة يوم أو يومين

إلخ. فيصح أن يسقط هذا الشرط، أما شرط كون المبيع معلومًا، أو الثمن معلومًا، أو شرط الولاية في عقد النكاح، فهذا لا يصح إسقاطه.

الفرق الثالث: أن الإخلال بشروط العقد يترتب عليها فساد العقد، وأما الإخلال بالشروط في العقد فيترتب عليها عدم الإلزام به فإذا لم يوفِّ به فإن من له الشرط له أن يفسخ، أما الإخلال بشروط العقد فإنه يترتب عليه فساد المعاملة.

الفرق الرابع: أن شروط العقد تكون قبل العقد، أما الشروط في العقد فإنها تكون قبل العقد، وفي صلب العقد، وفي زمن الخيارين، وتقدم الإشارة إلى شيء من ذلك.

‌مسألة: والشروط في العقد تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: شروط صحيحة.

القسم الثاني: شروط فاسدة.

أيضًا يقسم العلماء رحمهم الله الشروط الصحيحة إلى أقسام:

القسم الأول: شرط يقتضيه العقد. مثاله: لو أن إنسانًا اشترى سيارة وقال: أشترط أن أركبها فيقال: هذا الشرط يقتضيه العقد، فالإنسان إذا ملك سلعة له سائر التصرفات فيها من بيع، أو هبة، أو وقف، أو استخدام، أو أكل لما يؤكل، ونحو ذلك فله هذه التصرفات وإن لم يشترط.

أو اشترى طعامًا وقال: بشرط أن آكله، هذا شرط يقتضيه العقد ولهذا لا يذكره بعض العلماء رحمهم الله يسقطونه، أو تزوج المرأة وقال بشرط أن استمتع بها هذا شرط يقتضيه العقد

إلخ.

القسم الثاني: شرط منفعة في العاقد، أو المعقود عليه.

ص: 259

مثال ذلك: باع السيارة واشترط أن يستعملها لمدة يومين، فهذا شرط صحيح (شرط منفعة في المعقود عليه) أو اشترى سيارة واشترط على البائع أن يُصلِح فيها كذا وكذا، فهذا شرط صحيح، أو أن يغسلها فهذا شرط منفعة في العاقد.

القسم الثالث: اشتراط صفة في المعقود عليه، مثاله: اشترى سيارة فاشترط أن يكون لونها كذا، وسرعتها، وقوتها كذا

إلخ أو تزوج امرأة واشترط أن تكون متعلمة، دينة، بكرًا

إلخ فهذه شروط صحيحة.

القسم الرابع: اشتراط مصلحة تعود على العقد أو العاقد، كاشتراط البائع رهنًا مقابل تأجيل الثمن، أو كفيلًا، أو ضامنًا، أو اشترط المشتري تأجيل الثمن، أو اشترطت المرأة أن لا يتزوج عليها، أو أن لا يتسرى عليها، أو لا يخرجها من بلدها.

وكذا لو اشترط الرجوع في العقد، فلو اشترط الرجوع في عقد البيع، أو الشركة، أو الضمان، أو المساقاة، أو الهبة، أو الوقف فله ذلك، والقاعدة في ذلك:[أن خيار الشرط جائز في كل العقود] لما تقدم من الدليل على ذلك.

والشرط الفاسد: هو ما خالف النص.

وتنقسم الشروط الفاسدة إلى قسمين:

القسم الأول: شروط فاسدة غير مفسدة.

القسم الثاني: شروط فاسدة مفسدة.

القسم الأول: الشروط الفاسدة غير المفسدة: وهي ما خالف الشرع، ولم يعد إلى ذات المعقود عليه أو شرط صحته، ولم يعارض مقصوداً أصلياً من أجله شرع العقد ..

مثال ذلك: أن يشتري السيارة ويقول: بشرط أن أربح فيها نقول: هذا شرط فاسد غير مفسد؛ لأنه مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخراج

ص: 260

بالضمان»

(1)

والحديث فيه ضعف.

فكما أن لك خراج الشيء، أيضًا عليك ضمانه، فكما أن ربح هذه السيارة لك، كذلك إذا خسرت فالخسارة عليك، فكونك تشترط أن تربح، وأنك لا تخسر هذا شرط فاسد لكن لا يفسد العقد.

مثال آخر: أن يبيع رقيقه ويشترط أن الولاء له إذا أعتقه المشتري، فهذا شرط فاسد؛ لأن الشارع أبطله، أو أن يشتري السلعة ويقول إن اشتراها الناس وإلا رددتها عليك، فهذا شرط فاسد لأنه يخالف ما دل عليه النص «الخراج بالضمان» .

و‌

‌من الأمثلة في الأنكحة:

أن تقول المرأة: أنا أتزوجك بشرط أن تطلق زوجتك، فهذا شرط فاسد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها»

(2)

أو تقول: أنا أرضى بالزواج لكن بشرط أن تقسم لزوجتك يومًا ولي يومين، أو لزوجتك يومين ولي ثلاثة، فهذا شرط فاسد لما فيه من الظلم والاعتداء

إلخ.

القسم الثاني: شروط فاسدة مفسدة تبطل العقد، وهي ما عاد النهي إلى ذات المنهي عنه، أو شرط صحته، أو كان يعارض مقصوداً أصلياً من أجله شرع العقد.

مثل: اشتراط عدم حل الزوجة لزوجها في عقد الزواج.

مثال آخر: أن يقول أقرضتك بشرط أن تبيعني أو أن تقرضني فهذا شرط فاسد مفسد؛ لأن القرض يراد به الإرفاق، والإحسان، وإرادة وجه الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل سَلَفٌ وبيع» .

(3)

(1)

أخرجه أحمد (6/ 80) وأبو داود رقم (3508) والترمذي رقم (1285) والنسائي (7/ 254) وضعفه أبو داود والبخاري وابن حزم.

(2)

أخرجه البخاري رقم (2140) ومسلم رقم (1515).

(3)

أخرجه أحمد (2/ 178)، أبو داود رقم (3504)، والترمذي رقم (1234)، والنسائي (7/ 228)، وابن ماجه رقم (2188)، ورواه ابن حبان (10/ 161)، الحاكم (2/ 17). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي، وقال النسائي: هذا حديث منكر.

ص: 261

و‌

‌من الشروط الفاسدة المفسدة:

شرط العِينة أن يبيعه سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها منه بأقل من ثمنها نقدًا؛ كأن يبيع السيارة بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل من ثمنها نقدًا فهذا شرط فاسد مفسد.

ومثاله في الأنكحة: نكاح التحليل يتزوج المرأة بشرط أنه متى حللها لزوجها طلقها، ونكاح الشغار: أن يقول: زوجتك موليِّتي على أن تزوجني موليِّتك. ونكاح المتعة: يتزوجها بشرط أنه إذا مضت مدة كذا وكذا طلقها

إلخ هذه كلها شروط فاسدة مفسدة.

الصلح: ذكرنا تعريفه.

وهو ينقسم إلى قسمين:

- القسم الأول: الصلح في حقوق الله عز وجل، وذلك بإقامتها وتأديتها على الوجه الشرعي، أما الصلح بإسقاطها فهذا باطل.

مثال ذلك: الصلاة الصلح فيها أن يقيمها الإنسان كما أمره الله عز وجل، ولو أن شخصًا صالح شخصًا على أن لا يصلي ويعطيه كذا وكذا، كأن يعطي الولد أباه كذا وكذا ولا يصلي، أو صالح شخصًا على أن يعطيه كذا وكذا ويصلي عنه، أو يتوضأ عنه، أو يغتسل عنه أو يتيمم عنه، كل هذا صلح باطل.

- القسم الثاني: الصلح في حقوق المخلوقين هذا يصح ويقسمه العلماء رحمهم الله إلى أقسام:

القسم الأول: صلح في الأموال.

القسم الثاني: صلح بين أهل العدل، وأهل البغي.

القسم الثالث: صلح بين الكفار، وبين المسلمين.

ص: 262

القسم الرابع: صلح بين الزوجين

إلخ.

والصلح في الأموال يقسمونه إلى قسمين:

- القسم الأول: صلح عن إقرار.

- القسم الثاني: صلح عن إنكار.

مثال صلح الإقرار: أن يقر له بمال.

مثاله: يقول أنا أقر أن هذا الكتاب لك لكن أعطيك عنه كذا وكذا من المال، أو أعطيك عنه كتابًا آخر فهذا صحيح.

مثال صلح الإنكار: أن ينكر دعوى المال، ثم يصالح عن هذه الدعوى. مثاله: أن يقول المدعي: أنا أريد منك ألف ريال ثم ينكر هذه الألف، إما لكونه نسي، أو جهل، أو نحو ذلك، ثم يصالحه المدعي على شيء، بدلًا أن يرفع المدعي الأمر للقاضي ويذهب المدعى عليه ويحلف، فافتداء ليمينه يصالحه، يقول: أنت تدعي علي بألف ريال خذ خمسمائة ريال، فنقول: هذا صحيح مادام أن المدعى عليه يجهل والمدعي ليس كاذبًا.

والصلح إما أن يكون على دين، وإما يكون على عين.

مثاله على دين: أن يدعي عليه بدين فيقول: نعم أنا مقر أنك تريد مني دينًا، لكن أصالحك على هذا الدين بكذا وكذا، يقول: تريد مني ألف ريال دين، أعطيك عنه برًا، أو شعيرًا، أو كتابًا، أو نحو ذلك، فكل هذه الأشياء صحيحة بشروطها الشرعية وهذه يتكلم عليها العلماء رحمهم الله في باب الصلح، وقد يكون الصلح أيضًا عن حقوق ليست أموالًا.

ومثاله على عين: أن يدعي عليه أن هذا الكتاب الذي بيده، أو البيت الذي يسكنه له، ثم يصالحه على مال.

مسألة: الصلح عن حق الشفعة، والصلح عن حق الخيار، الأصل في ذلك الصحة إلا إذا كان صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا؛ كأن يصالح

ص: 263

رجل على أن لا يأكل الطعام فنقول: بأن هذا محرم ولا يجوز؛ لأنه حرّم حلالًا، أو تُصالح المرأة زوجها على أن لا يقسم لزوجته الأخرى أو أن لا يعاشرها بالمعروف.

وصلح الإنكار إذا لم تتوفر فيه شروطه الشرعية فهو محرم ولا يجوز.

مثال ذلك: رجل صالح امرأة على أنها زوجته وليست زوجته، أو رقيقًا على أنه رقيقه وليس رقيقًا له، فهذا محرم ولا يجوز، أو ينكر المدعى عليه، وهو كاذب في إنكاره.

• • •

ص: 264

‌84 - وكُلُّ مَشْغُولٍ فَليسَ يُشْغَلُ

بِمُسْقِطٍ لِما بِهِ يَنْشَغِلُ

قوله: [مشغول]: اشتغل بكذا عمل وتلهى به عن غيره، ومال.

مشغول: مقيد بالتزام يحدد بعض التصرف فيه.

وقوله: [وكل مشغول فليس يشغل]: دليل هذه القاعدة: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلا»

(1)

فالصلاة لها أفعال، وأذكار خاصة فلا تشغل بغير ما شرع فيها ونظير ذلك قول الشيخ السعدي رحمه الله:

وكل مشغول فليس يشغل

مثاله المرهون والمسبَّل

(2)

ومعنى القاعدة: أن من اشتغل بشيء شرعي، سواء من المكلفين أنفسهم، أو فيما يلزمهم من أملاكهم ومعاوضتهم، فإنه لا يجوز أن يشتغل بشيء آخر حتى يفرغ من الأول.

مثال ذلك: اقترضت من زيد ألف ريال، ثم رهنت بيتك، فهذا البيت الآن انشغل، أصبح توثقة لهذه الألف التي اقترضتها، فلا يصح بيع هذا البيت؛ لأنه الآن انشغل بتوثقه القرض.

أيضًا المُسَبَّل (الوقف) أصبح مشغولًا بالوقف، فلو وقفت بيتك، أو سيارتك لا يصح أن تهبها أو تبيعها

إلخ؛ لأنها انشغلت بالوقف.

ومثل ذلك: في العبادات لو أن الإنسان شرع يصلي ثم سمع المؤذن يؤذن فلا يجيبه؛ لأنه مشغول في الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن في الصلاة لشغلًا»

(3)

لكن الأذكار القصيرة التي وجد سببها في الصلاة يأتي بها المصلي.

أي أن كل ذكر وجد سببه في الصلاة فإنه يؤتى به كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

(1)

أخرجه البخاري رقم (1199)، ومسلم رقم (538).

(2)

منظومة القواعد الفقهية للسعدي البيت رقم (43).

(3)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 265

فإذا عطس يحمد الله، وإذا سمع نباح كلب، فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أو سمع صياح ديك، فإنه يسأل الله من فضله، أو أصابته مصيبة، فإنه يسترجع، أو نعمة فإنه يحمد الله

إلخ.

لكن الأذكار الطويلة كالأذان

إلخ لا يأتي بها؛ لأنه مشغول، والمشغول لا يشغل وعلى هذا فقس.

ومن الأمثلة على ذلك: الأجير الخاص: وهو من قُدِّر نفعه بالزمن، فإذا استأجرت شخصًا من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية عشرة، الآن هو مشغول، والمشغول لا يشغل فليس له أن يبيع، أو يشتري

إلخ. أي أنك ملكت هذا الزمن من الأجير الخاص، فليس له أن يؤجر نفسه، أو يبيع، أو يشتري .... إلخ؛ لأن المشغول لا يشغل، وكذلك إذا أجرت بيتك لا تملك أن تؤجرها؛ لأن المشغول لا يشغل وعلى هذا فقس.

وكذلك: المعتمر إذا لبّى بالعمرة لا يجوز له أن ينصرف عنها حتى ينتهي منها؛ لأنه مشغول بها.

وكذلك: المعتكف إذا لزم مسجده لا يجوز له الخروج إلى عبادة، أو شغل آخر؛ لأنه مشغول به.

والموظف إذا كان عمله محدودًا بساعات معينة لا يجوز له أن يشتغل في هذا الوقت بعمل آخر؛ لأن المشغول لا يشغل.

• • •

ص: 266

‌85 - كَمُبْدَلٍ في حُكْمِهِ اجعَلْ بَدَلا

ورُبَّ مَفْضُولٍ يكونُ أَفْضَلَا

هاتان قاعدتان أشار إليهما الشيخ رحمه الله الأولى:

قوله: [كمبدل في حكمه اجعل بدلا]: أي أنه إذا أقيم عمل، أو عين مقام عمل أو عين أخرى أخذ حكمه.

فالبدل له حكم المبدل، ودليل ذلك: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فالصعيد الطيب له حكم المبدل الماء في أحكامه إلا ما يُستثنى كما سيأتي.

وأيضًا: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .

(1)

فالقعود بدل عن القيام، فإذا لم يتمكن، بأن لحقته مشقة ظاهرة فإنه يجلس، ففي القيام يقرأ الفاتحة، وفي الجلوس أيضًا يقرأ الفاتحة، وفي القيام يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، وفي الجلوس أيضًا يضع يده على اليمنى على يده اليسرى على صدره، فإذا أراد أن يركع رفع يده في القيام، وكذلك أيضًا في الجلوس

إلخ؛ لأن البدل له حكم المبدل.

وأيضا: حديث أبي بردة رضي الله عنه لما ذبح أضحيته قبل الصلاة أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح مكانها أخرى.

(2)

فالبدل له حكم المبدل، فيشتري أضحية أخرى بدلًا عن الأولى تتوفر فيها شروط الأضحية الشرعية.

والتيمم كما قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} بدل له حكم المبدل وهو الماء، فالماء لا يشترط للوضوء به دخول الوقت، كذلك التيمم لا يشترط على الصحيح للطهارة به دخول الوقت فيصح أن يتطهر به، ولو قبل الوقت؛ لأن البدل له حكم المبدل.

(1)

تقدم تخريجه ص (74).

(2)

تقدم تخريجه ص (234).

ص: 267

وكذلك إذا خرج الوقت لا تبطل طهارة الماء، وكذلك طهارة التيمم لا تبطل بخروج الوقت، وإذا توضأ يصلي به أي عبادة، وكذلك إذا تيمم لأي عبادة فإنه يصلي بهذا التيمم أي عبادة.

وأما قول بعض أهل العلم رحمهم الله: إنه استباح تلك العبادة فلا يستبيح إلا مثلها ودونها ولا يستبيح أعلاها، فهذا خلاف الصواب، بل البدل له حكم المبدل.

وكذلك الوقف إذا بيع فالبدل له حكم المبدل، فنبدل الأول بمثله أو أصلح، فإذا كان مسجدًا نشتري مسجدًا مثله أو أصلح منه، ويكون وقفًا بمجرد الشراء، ويصرف رَيعه كما يصرف رَيع الأول فالبدل له حكم المبدل.

وأيضًا الأضحية: إنسان اشترى أضحية وعيّنها ثم تلفت بتعد، أو تفريط فإنه يشتري أضحية مثل تلك الأضحية السابقة وعلى هذا فقس.

‌مسألة: هل يستوي البدل والمبدل في الأجر؟

ذهب بعض أهل العلم رحمهم الله: إلى أنهما لا يستويان في الأجر ولو كان البدل مثل المبدل منه في الأجر لم يكن هناك فرق بين فعل البدل والمبدل منه، ولم يكن شرط فعل البدل فقد المبدل منه، فيُفهم منه أنهما لا يستويان فلا يُجعل التيمم كالوضوء، فالوضوء أفضل، ولا يُجعل الصوم كالعتق فالعتق أفضل؛ لأن نفعه متعد، ويترتب عليه تحرير رقبة مسلمة، وكذلك في أنواع المبدلات، وهذا ذكره الزركشي عن العز بن عبد السلام لكن يقال: إن في هذا تفصيلًا:

وأنه في بعض المواضع يكون كما سبق، وفي بعض المواضع قد يكون البدل مثل المبدل في حال العذر والمشقة، فإذا لم يستطع الوضوء لمرضه، أو لفقد الماء فقد جاءت السنة أنه يكتب له أجر من توضأ.

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا

ص: 268

صحيحًا».

(1)

وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: «إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض» .

(2)

قوله: [ورب مفضول يكون أفضلا]: هذه القاعدة الثانية، الأصل أن الفاضل أفضل من المفضول، ويدل لهذا: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» .

(3)

فالفرائض أفضل من السنن كما في الحديث القدسي، لكن قد توجد مصالح تجعل المفضول أفضل من الفاضل، ولذلك أمثلة:

المثال الأول: قراءة القرآن أفضل الذكر، لكن قد يكون الذكر أفضل من قراءة القرآن إذا كان مشروعًا في محله، أو زمنه، أو حاله فمثلًا دبر الصلاة السنة أن يذكر الله عز وجل مع أن قراءة القرآن أفضل من الذكر، ولكن لما كان مشروعًا في هذه الحال كان أفضل.

المثال الثاني: صلاة السنة في وقتها أفضل، لكن قد تتعلق مصالح يؤخر الإنسان فيها صلاة السنة حتى لو خرج الوقت مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما شغله وفد عبد القيس في تعلم أمور الإسلام فأخر النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر البعدية إلى دخول وقت العصر

(4)

فكون النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها في وقتها هذا هو الفاضل، وكونه يفعلها بعد الوقت، هذا مفضول، بل لا تصح بعد الوقت إذا كان عمدًا بلا عذر، لكن لما كان يترتب على التأخير مصالح كان المفضول هنا أفضل من الفاضل.

(1)

أخرجه البخاري رقم (2996).

(2)

أخرجه مسلم رقم (1911) وأخرجه البخاري رقم (2839) من حديث أنس.

(3)

أخرجه البخاري رقم (6502).

(4)

أخرجه البخاري رقم (1233) ومسلم رقم (834) وفيه قال صلى الله عليه وسلم: يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناسٌ من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان».

ص: 269

المثال الثالث: صلاة الجماعة الأفضل أن تكون في المسجد، بل هذا هو الواجب، وفعلها في البيت مفضول، فإذا كان يترتب على فعلها في البيت مصلحة فلا بأس، فلو أنه إذا خرج إلى المسجد لم يصلِّ أُناس في البيت بأن يتركوا الصلاة بالكلية، وإذا جلس صلوا فكونه يجلس ويصلي معهم أفضل من كونه يخرج إلى المسجد .. إلخ.

المثال الرابع: الإسرار بالصدقة أفضل، والجهر مفضول، لكن إذا ترتب على ذلك مصلحة؛ كأن يقتدي الناس به

إلخ فالجهر في هذه الحال أفضل من الإسرار.

(1)

• • •

(1)

ينظر ما تقدم عند قول الناظم رحمه الله: وخذ بعالي الفاضلين لا تخف " البيت رقم (30).

ص: 270

‌86 - كُلُّ استِدَامَةٍ فأقوى مِنْ بَدَا

فِي مِثْلِ طِيبِ مُحْرِمٍ ذَا قَدْ بَدَا

قوله: [استدامة]: يقال: دام الشيء دوْمًا، ودوامًا ثبت، والاستدامة: طلب دوام الشيء، وثبوته.

وهذه القاعدة: يُعبر عنها العلماء رحمهم الله بقولهم: [الاستدامة أقوى من الابتداء، والدفع أهون من الرفع].

ودليل هذه القاعدة: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مَفارِق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم»

(1)

فالمحرم ممنوع ابتداءً من الطيب لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته راحلته قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تحنطوه، ولا تمسوه بطيب»

(2)

ومشروع له قبل الإحرام، لكن استدامة هذا الطيب جائزة بعد الإحرام؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، لا نقول له: إذا تطيبت في رأسك ووجهك قبل الإحرام يجب عليك أن تغسله بل لا بأس أن تستديمه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

ومن الأمثلة: على ذلك أيضًا: المحرم ليس له أن يتزوج لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَنْكحُ المحرم ولا يُنكِح ولا يَخْطُبُ»

(3)

فهو ممنوع من الزواج لكن له أن يُراجع زوجته التي طلقها فهذا لا بأس به؛ لأن المراجعة هنا استبقاء (استدامة) للنكاح وليس ابتداء للنكاح فالاستدامة أقوى من الابتداء.

كذلك المحرم: ممنوع أن يصيد صيدًا ابتداء، لكن لو أحرم وعنده غزالة قد صادها قبل أن يحرم، ثم أحرم والغزالة هذه في ملكه، فإنه لا يجب عليه أن يُطْلِق هذه الغزالة مع أنه ابتداءً ممنوع من الصيد مادام أنه

(1)

أخرجه البخاري رقم (1538)، ومسلم رقم (1190) ..

(2)

تقدم تخريجه ص (172).

(3)

أخرجه مسلم رقم (1409).

ص: 271

محرم، لكن كونه يستديم الصيد لا بأس بذلك؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.

ومن الأمثلة: ذكر العلماء رحمهم الله أن الولي له أن يمنع موليّته من زوج فيه بعض العيوب، فيمنع موليّته من الزوج المجنون، أو المجذوم، أو الأبرص، لكن لو تزوجت المرأة رجلًا عاقلًا ثم جُن فإن الولي لا يملك أن يُجبرها على فسخ النكاح؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.

• • •

ص: 272

‌87 - وكلُّ مَعلومٍ وجُودًا أو عَدَمْ

فالأصْلُ أنْ يَبْقَى على ما قد عُلِمْ

هذه القاعدة تقدمت

(1)

تحت قاعدة: [اليقين لا يزول بالشك] فالأصل بقاء ما كان على ما كان، وذكرنا هذه القاعدة والقواعد المترتبة عليها، فيقول رحمه الله: كل معلوم وجوده، أو عدمه الأصل بقاؤه، ودليل هذه القاعدة: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه الرجل يُخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث فقال صلى الله عليه وسلم «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا»

(2)

هذا يدل على أن الأصل بقاء الطهارة المعلومة، فإذا توضأ الإنسان وارتفع حدثه وشك هل أحدث أو لم يحدث؟ فالأصل بقاء الطهارة، ولو أنه أحدث ثم شك هل وقع منه طهارة ترفع الحدث أو لم تقع؟ فالأصل بقاء الحدث.

وكذلك لو شك هل وقّف بيته، فالأصل عدم الوقف، وكذلك لو شك هل باع؟ الأصل عدم البيع.

ولو شك في طلاق زوجته هل قال: أنت طالق أو قال: أنت طاهر؟ فالأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق.

ولو شك في العدد هل طلق زوجته طلقتين، أو ثلاثًا؟ فالأصل بقاء النكاح وأنه طلقها طلقتين.

(1)

انظر ص (111).

(2)

تقدم تخريجه ص (113).

ص: 273

‌88 - والنَّفْيُ للوُجُودِ ثُمَّ الصِّحهْ

ثُمّ الكَمَالِ فارْعَيَنَّ الرُتْبَهْ

النفي الداخل على المسميات الشرعية له ثلاث مراتب:

يكون للوجود، إن لم تمكن هذه المرتبة فإنه للصحة، ثم بعد ذلك للكمال، إن وجد الصارف.

فالمرتبة الأولى للوجود إذا لم تمكن هذه المرتبة فالنفي للصحة هذا هو الأصل إلا إذا وجد دليل يصرف هذا النفي إلى الكمال وأنه ليس نفيًا للصحة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(من قال إن النفي للكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يُذم صاحبه فقد صدق، وإن أراد الكمال المستحب فلم يقع في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك ولا يجوز أن يقع). فإذا قلت: لا خالق إلا الله فالنفي هنا للوجود، يعني ليس هناك خالق موجود غير الله عز وجل وإذا قلت: لا صلاة إلا بوضوء، الصلاة الآن موجودة فنقول: النفي هنا للصحة هذا الأصل إلا إذا وجد صارف ولم يوجد صارف.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي»

(1)

النفي هنا للصحة، وأن النكاح لا يصح إلا بولي إلا إذا وجد صارف ولم يوجد الصارفُ.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان»

(2)

فالنفي هنا ليس للصحة، وإنما هو للكمال لوجود الصارف، وهو أن هذه الصلاة اكتملت شروطها وواجباتها، وأركانها، لكن لما وجد شيء يشوّش على الإنسان فالنفي هنا للكمال، فالكمال أن يمتنع الإنسان عن كل ما يشوش عليه صلاته،

(1)

أخرجه أبو داود رقم (2085) والترمذي رقم (1101) وابن ماجه رقم (1881)، وصححه علي بن المديني وابن معين وابن حبان والحاكم وابن حزم والبيهقي وابن عدي وابن الجوزي.

(2)

تقدم تخريجه ص (144).

ص: 274

أما إذا كان هذا التشويش يؤدي إلى الإخلال بشرط، أو ركن كالطمأنينة فالنفي يبقى على أصله وهو أنه نفي للصحة.

كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف»

(1)

نقول: النفي هنا للصحة؛ لأن الصلاة وجدت فلا يمكن أن يكون للوجود، فمن صلى خلف الصف فصلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمنفرد خلف الصف» إلا إذا وجد صارف وذلك فيما إذا كان الصف مكتملًا، فإن النفي لا يكون للصحة.

• • •

(1)

رواه أحمد (4/ 228) وأبو داود رقم (682) والترمذي رقم (231) وابن حبان (3/ 313) وفي الباب عن علي بن شيبان أخرجه أحمد (4/ 23) وابن ماجه (1003) وحسن هذا الحديث الإمام أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم والبوصيري، وقال ابن رجب (رواته كلهم ثقات) وأخذ به ابن معين وعمل به.

ص: 275

‌89 - وَالأصْلُ في القَيْدِ احترازٌ وَيَقِلْ

لِغَيْرِهِ كَكَشفِ تَعْليلٍ جُهِلْ

أفاد المؤلف: أن الأصل في القيود التي تأتي في الأدلة الشرعية أنها للاحتراز والتقييد، وليست للتعليل وعلى هذا نقول: القيود التي تأتي في الأدلة الشرعية تنقسم قسمين:

القسم الأول: للاحتراز، والتقييد، وهذا هو الأصل.

القسم الثاني: للتعليل، وهذا قليل.

مثال ما كان قيدًا واحترازًا: قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فذكر الله عز وجل قيدًا للاحتراز والشرط. وعلى هذا الربيبة بنت الزوجة إن كنت دخلت بأمها فإنها تحرم عليك، أما إذا لم تكن دخلت بأمها فإنها حلال لك، فلك أن تتزوج هذه الربيبة، فهذا قيد احتراز، يعني ما تحرم الربيبة حتى تدخل بأمها، أما لو خلوت بالأم ما حرمت عليك، ولو استمتعت بالأم ما حرمت عليك، لا تحرم بنت الزوجة ولا بنات أبنائها ولا بنات بناتها إلا بوطء الزوجة الأم، أما قوله تعالى:{اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فهذا ليس شرطًا وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله فالربيبة تحرم عليك، سواء أكانت في حجرك، أم لم تكن في حجرك.

والدليل على ذلك: أن الله عز وجل فصّل في شرط وترك التفصيل في شرط آخر فقال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وترك التفصيل في قوله تعالى: {فِي حُجُورِكُمْ} فدل على أن هذا القيد ليس للاحتراز، وإنما هو للتعليل، والإشارة إلى الحكمة؛ لأن المعنى أنها في حجرك فكأنها بنتك، فكيف تتزوجها!؟ وأيضًا قيد الحجر قيد أغلبي، وما كان قيدًا أغلبيًا لا مفهوم له.

ص: 276

ومن الأمثلة على القسم الثاني وهو التعليل: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} هذا ليس شرطًا، وإنما هو لبيان العلة؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلقكم فاعبدوه قال العلماء رحمهم الله: يُستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فكما أنك تقر بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق المدبر

إلخ فهو الذي يستحق العبادة.

ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فقوله: (لما يحييكم) هذا القيد للتعليل أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا، وليس قيدًا يخرج ما إذا دعانا لغير ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يدعونا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لما يحيينا.

• • •

ص: 277

‌90 - وَإنْ تَعَذَّرَ اليَقِينُ فارْجِعَا

لِغَالِبِ الظَّنِّ تكنْ مُتَّبِعَا

إذا تعذر اليقين فإننا نرجع لغالب الظن، عندنا ظن، وعلم، وجهل بسيط، وجهل مركب، وشك، ووهم:

فالعلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه.

والجهل البسيط: هو عدم الإدراك بالكلية.

والجهل المركب: هو إدراك الشيء على غير ما هو عليه.

والشك: التردد بين الأمرين، إذا ترجّح أحدهما فالراجح ظن، والمرجوح وهم، فإذا حصل للإنسان شك فإنه يرجع إلى الظن إذا تمكن من الظن، إذا لم يتمكن من الظن يبني على اليقين؛ أي: يأخذ بالأقل.

ودليل ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الشك في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فليتحر الصواب»

(1)

. يعني ينظر إذا غلب على ظنه شيء فإنه يأخذ به، فإذا شككت في الصلاة هل صليت ثلاثًا أو أربعًا وترجح عندك أنها ثلاث فاجعلها ثلاثًا، أو ترجح عندك أنها أربع فاجعلها أربعًا، فإذا لم يترجح عندك شيء تأخذ بالأقل وهو اليقين.

إذا شككت في أشواط الطواف هل هي ستة أو سبعة؟ ترجع للظن، غلب على ظنك أنها سبعة اجعلها سبعة، أو غلب على ظنك أنها ستة اجعلها ستة، أو شككت في أشواط السعي، أو في عدد حصيات رمي الجمار

إلخ. وعلى هذا نقول: إذا شك الإنسان فإن شكه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يترجّح عنده شيء فإنه يأخذ بالراجح؛ لما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «ثم ليتحر الصواب، ثم ليَبْنِ عليه» وأيضًا حديث عائشة رضي الله عنها في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «حتى إذا ظن أنه قد

(1)

أخرجه البخاري رقم (401)، ومسلم رقم (572).

ص: 278

أروى بشرته أفاض الماء على سائر بدنه».

(1)

القسم الثاني: أن لا يترجح عنده شيء فيأخذ بالأقل؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِكم صلى أثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبْنِ على ما استيقن» .

(2)

ومن الأمثلة على ذلك: إذا شك الصائم في غروب الشمس نقول: إذا ظننت أن الشمس غربت فأفطر، وإلا فالأصل بقاء النهار فلا تفطر؛ لأنه اليقين.

وإذا شككت في دخول الوقت، فالأصل عدم دخوله، لكن إذا ظننت أن الوقت قد دخل فصلِّ، وإن شككت ولم يترجح عندك شيء فنقول: انتظر حتى تظن أن الوقت قد دخل.

ومن ذلك إذا شك في عدد الركعات، أو أشواط الطواف، أو السعي ونحو ذلك، فيأخذ بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا التقسيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أما المشهور عند الحنابلة رحمهم الله: هو الأخذ بالأقل مطلقًا.

• • •

(1)

تقدم تخريجه ص (155).

(2)

أخرجه مسلم رقم (571).

ص: 279

‌91 - وكلُّ مَا لأمرُ بِهِ يَشْتَبِهُ

مِنْ غَيْرِ مَيْزٍ قُرعَةٌ تُوْضِحُهُ

هذه القاعدة في القرعة.

والقرعة في اللغة: السُهْمة والنصيب.

أما في الاصطلاح: فهو ما يستعمل لتمييز النصيب، أو الحق من بين أمثاله.

والقرعة طريق من طرق فصل الخصومات، وتمييز الأنصباء والحقوق، وقد دل عليها القرآن والسنة.

أما القرآن فقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «اقترعوا فجرت الأقلام مع الْجِرْيَةِ وعَال قلم زكريا الجِرْيَة فَكَفَلَها زكريا»

(1)

.

وقوله تعالى عن يونس عليه السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] ووردت القرعة في السنة في ستة مواضع من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» .

(2)

وأيضا حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه» .

(3)

وفي صحيح مسلم «أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند وفاته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقرَع بينهم فأرق اثنين وأعتق أربعة» .

(4)

وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «أقرع بينهم في الأذان يوم القادسية» .

(5)

(1)

أخرجه البخاري بصيغة الجزم، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات ووصله ابن جرير في تفسيره (3/ 184) ..

(2)

أخرجه البخاري رقم (615)، ومسلم رقم (437).

(3)

أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770).

(4)

أخرجه مسلم رقم (1668).

(5)

علقه البخاري في صحيحه في باب الاستهام في الأذان بصيغة التمريض، وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 429) وهو منقطع قاله ابن رجب وابن حجر. ووصله الطبري في تاريخه واحتج به الإمام أحمد.

ص: 280

ولأن القرعة تحل الإشكال، وتحسم النزاع، وتدفع داء التشهي، وما قيل: إنها نوع من القمار فهو قول غير صحيح ولا يصح، بل هي أعظم ما يُطيَّبُ به النفوس، وهذا من محاسن الشرع.

والقرعة هي لفصل الخصومات، تارة تكون مباحة، وتارة تكون محرمة، فتكون مباحة في مواضع، وابن رجب رحمه الله حصر المواضع التي ذكر العلماء رحمهم الله أن القرعة تستعمل فيها، كالأذان والإمامة، وولاية النكاح

إلخ، والقرعة تستخدم في مواضع:

الموضع الأول: تستخدم لتمييز المستحِق المبهم ابتداءً.

مثال ذلك: القَسْم بين الزوجات، رجل زُفَّ إليه زوجتان جميعًا أيهما يبدأ بالقَسْم لها؟ فكل من الزوجتين مستحقة للقَسْم ابتداءً، وهذا الاستحقاق مبهم فتُجرى القرعة بينهما.

مثال آخر: رجل أوصى بعتق ستة أعبد له، والثلث اثنان، فهل نخرج زيدًا وبكرًا، أو عمرًا وصالحًا، أو محمدًا وإبراهيم

إلخ، فنجري بينهما القرعة.

الموضع الثاني: التزاحم في الاختصاصات، فإذا سبق اثنان إلى مختص من المختصات مثل مكان البيع، أو مكان الشراء، أو مكان الجلوس، أو مواقف السيارات، كل منهما سبق إلى هذا المحل في وقت واحد ولا يتسع لهم، فنجري القرعة بينهما.

وكذلك أماكن الإقراء، والإفتاء، والتدريس كعالمين سبقا إلى مسجد للتدريس فيه، أو للإفتاء، أو نحو ذلك فإننا نجري القرعة بينهما.

الموضع الثالث: التزاحم في الولايات، مثلُ: ولاية النكاح، إذا كان عندنا أخوان شقيقان كل منهما له أن يعقد، أو عمَّان شقيقان كل منهما

ص: 281

له أن يعقد، أو ابنا أخ كل منهما له أن يعقد، رتبتهما واحدة، حتى لو كان أحدهما كبيرًا والآخر صغيرًا، فإن رتبتهما واحدة، فنجري القرعة بينهما إلا إذا عينت المرأة واحدًا فإنه يتعين، وإذا لم يتعين وتشاحا نجري القرعة بينهما.

ومثل ذلك: الأذان إذا تزاحما عليه، وكل واحد منهما توفرت فيه الصفات الشرعية، وكذلك في الإمامة إذا تشاحا وتوفرت الصفات الشرعية في كل منهما فإننا نجري القرعة بينهما.

الموضع الرابع: تمييز المستحِق المعيَّن عند اشتباهه بغيره، فرق بين الموضع الأول، وهذا الموضع، فالموضع الأول المستحِق مبهم، لكن في هذا الموضع المستحِق معيَّن معروف، ولكن اشتبه بغيره.

مثال ذلك: رجل طلق إحدى زوجتيه ثم الْتبس عليه أيهما طلق الصغيرة أم الكبيرة؟ فإننا نجري القرعة.

المثال الثاني: اعتق أحد رقيقيه ولا يدري أيهما أعتق؟ فإننا نجري القرعة.

المثال الثالث: زوّج وليّان هذه المرأة، يعني لها أخوان الكبير زوجها لعمرو، والصغير زوجها لزيد لا ندري أي العقدين السابق فإنا نرجع إلى القرعة.

المثال الرابع: إذا وصف اللقطة اثنان، فنجري القرعة بينهما.

الموضع الخامس: بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة؛ كأن تكون السهام مختلفة، وقيمة أجزاء المقسوم متساوية.

مثال ذلك: ثلاثة يملكون أرضًا هذا له النصف، وهذا له الثلث، وهذا له السدس نجعلها ستة أسهم بقدر أقلها، ثم بعد ذلك نجري القرعة فصاحب النصف يخرج يأخذ ثلاثة أسهم، وصاحب السدس يأخذ سهمًا، وصاحب الثلث يأخذ سهمين، وكذلك إذا كانت السهام متساوية

ص: 282

وقيمة أجزاء المقسوم مختلفة، كأرض بين ستة أشخاص لكل واحد سدس، فتعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة، ثم يقرع بينهم.

فهذه المواضع الخمسة تستخدم فيها القرعة.

وعندنا‌

‌ موضعان لا تستخدم فيهما القرعة واستخدام القرعة فيهما من قبيل المحرم:

الموضع الأول: إذا تعينت المصلحة، فلا يجوز أن نجري القرعة هنا.

مثال ذلك: تقدم اثنان لإمامة المسجد أحدهما اقرأ من الآخر فنقول: تعينت المصلحة أن يكون الإمام الأقرأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»

(1)

أو تقدم اثنان للأذان في هذا المسجد وأحدهما تتوفر فيه الشروط الشرعية نقول: بأنه يقدَّم؛ لأن المصلحة تعينت فإجراء القرعة هنا لا يجوز.

الموضع الثاني: إذا ظهر الحق فإن المستحق يأخذ حقه ولا يجوز إجراء القرعة؛ لأنه يكون من الميسر ويكون فيه مخاطرة.

مثال ذلك: عرفنا المرأة المطلقة فلا يجوز أن نجري القرعة، أو عرفنا الرقيق الذي أعتق عندما اشتبه بغيره فلا يجوز أن نجري القرعة، أو أن الشريكين زيدًا وعمرًا هذا له نصف الربح، وهذا له نصف الربح، ثم بعد ذلك قالوا: نضرب القرعة ومن خرجت له القرعة يأخذ ثلاثة الأرباع، والآخر يأخذ الربع، فلا يجوز ضرب القرعة؛ لأن صاحب الحق واضح كل يأخذ نصيبه.

مسألة: كيفية القرعة: تقدم لنا في القواعد أن ما جاء مطلقًا على لسان الشارع، ولم يقيده بشيء نرجع في تقييده إلى العرف، وعلى هذا فبأي شيء حصلت القرعة، فإننا نأخذ به: سواء بكتابة أوراق، كأنْ تشتبه المطلقات، فيكتب المطلقة كذا، والمطلقة كذا ثم تؤخذ القرعة، أم

(1)

أخرجه مسلم رقم (673).

ص: 283

بإلقاء حجارة أم غير ذلك. المهم أنه ليس لها طريقة معينة، بل الشارع أطلقها، فنرجع في ذلك إلى العرف فكل ما يميز بين المشتبهات فإننا نصير إليه.

• • •

ص: 284

‌92 - وكلُّ مَنْ تَعَجَّلَ الشَّيءَ علَى

وجْهٍ مُحَرَّمٍ فَمَنْعُه جَلا

قوله: [جلا]: أي وضح، وظهر.

هذه قاعدة: [من تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه] ومعنى هذه القاعدة: أن من تعجل الأمور التي يترتب عليها حكم شرعي قبل وجود أسبابها الصحيحة لم يفده ذلك شيئًا، وعوقب بنقيض قصده.

ودليل هذه القاعدة: أدلة سد الذرائع مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فالله عز وجل نهى أن يسب المؤمنون الكفار لئلا يؤدي ذلك إلى سب الله عز وجل. وقوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فنهى الله عز وجل المرأة أن تضرب برجلها على الأرض سدًا للذريعة، ذريعة الفتنة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال:«يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» .

(1)

فهذه الأدلة تدل على قاعدة سد الذرائع؛ ولأن في استعجال الشيء قبل أوانه تقديمًا لما أخره الله تعالى؛ ولأن فيه إضرارًا بالآخرين.

قال ابن القيم رحمه الله: (وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده).

[فمن تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه] معاقبة له بنقيض قصده، وهذه القاعدة يدخل تحتها أمثلة منها:

المثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل شيئًا»

(2)

والحديث فيه ضعف، فمن قتل مورثه عمدًا فلا يرثه معاقبة له بنقيض قصده؛ لأنه تعجل الشيء

(1)

أخرجه البخاري رقم (5973)، ومسلم رقم (90).

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4564)، والنسائي في الكبرى رقم (6367)، والدارقطني (4/ 96)، وضعفه النسائي وابن القطان وابن عبد الهادي.

ص: 285

قبل أوانه، فعوقب بحرمانه.

‌مسألة: من هو القاتل الذي يرث، والذي لا يرث؟

هذا موضع خلاف بين الأئمة رحمهم الله ليس هذا موضع بسطه.

المثال الثاني: الموصى له إذا قتل الموصِي عمدًا فإنه لا يستحق شيئًا عقوبة له بنقيض قصده، تعجل الوصية قبل أوانها فعوقب بحرمانه.

المثال الثالث: المُدَبَّر وهو الرقيق الذي عَلّق سيده عتقه بموته، فإذا قتل المُدَبَّر سيده، فإنه لا يعتق معاقبة له بنقيض قصده.

المثال الرابع: من تعجل شهواته المحرمة في الدنيا، كشرب الخمر، ولبس الحرير، فإنه يحرمها في الآخرة عقوبة له، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة» .

(1)

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»

(2)

.

المثال الخامس: من خَبَّبَ امرأة على زوجها، يعني أفسد بين الزوجين؛ لكي يتزوج هذه المرأة، فإنها لا تحل له معاقبة له بنقيض قصده

وهكذا.

تنبيه: القاعدة السابقة قد تدخل في الأمور الدنيوية كما نص على ذلك ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى) فإن هناك من الأمور ما لو عاجله المرء قبل وقته لحرمه.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (5575)، ومسلم رقم (2003) وفي لفظ «إلا أن يتوب» .

(2)

أخرجه البخاري رقم (5832)، ومسلم رقم (2073).

ص: 286

‌93 - وَضَاعِفِ الغُرْمَ عَلى مَنْ ثَبَتَتْ

عُقُوبةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ سَقَطَتْ

‌94 - لِمَانعٍ كسارقٍ مِنْ غيرِ مَا

مُحَرَّزٍ وَمَنْ لِضالٍ كَتَمَا

قوله: [الغرم]: هو ما يلزم أداؤه.

وقوله: [مُحَرَّز]: الحِرز: هو الموضع الحصين.

وقوله: [الضال]: هو ما ضاع من البهائم خاصة.

هذه قاعدة: [العقوبة إذا سقطت لتخلف شرط، أو لوجود مانع فإن الغرم يضاعف].

ومسألة مضاعفة العقوبة هذا على مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أما على قول الجمهور فلا تضعيف.

ويدل لهذه القاعدة: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الثمر المعلق فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية، والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثلية والعقوبة»

(1)

رواه أبو داود وابن ماجه.

يعني إذا أُخذ الثمر من الجرين فيه القطع؛ لأنه أخذه من حرزه، الثمر حرزه الجرين موضع التيبيس لكن إذا أُخذ من أكمامه لم يؤخذ من الحرز فقال صلى الله عليه وسلم:«ففيه قيمته ومثله» .

وأيضًا يدل لذلك: أن عمر رضي الله عنه أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة قيمتها مرتين.

(2)

(1)

أخرجه أبو داود رقم (4390)، والنسائي (8/ 459)، والترمذي رقم (1289)، وابن ماجه رقم (2596)، وحسنه ابن الملقن وضعفه ابن القطان.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 748) وعبد الرزاق في المصنف (10/ 238) والبيهقي (8/ 278) وضعفه ابن عبد البر وابن التركماني.

ص: 287

ويدل لذلك أيضًا: أن عمر رضي الله عنه جمع أقاربه وقال: «إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فأيما امريء جنى أضعفت عليه العقوبة مرتين»

(1)

لئلا تسوِّل له نفسه أن يحتمي بسلطة الخليفة، ويتساهل بالجناية.

وهذه القاعدة: [أن العقوبة إذا سقطت يضاعف الغرم] لها صور:

الصورة الأولى: قال: [لمانع كسارق من غيرِما محرز

] يعني السارق إذا سرق من غير حرز سقطت عنه العقوبة لتخلف شرط القطع وهو كون السرقة من غير حرز، لكن تضاعف عليه قيمة المسروق فيجب عليه أن يأتي بالمسروق وقيمته فإن استهلك المسروق فإنه تجب عليه القيمة مرتين.

الصورة الثانية: قوله: [ومَن لضال كتما] أي: إذا كتم الإنسان الضالة كبهيمة الأنعام إذا ضلت، ثم بعد ذلك كتمها فإنه يُضاعف عليه الغرم مرتين.

مثال ذلك: إذا أخذ البعير وكتمه فإننا نضاعف عليه الغرم مرتين.

وأيضا هناك صور أخرى للسرقة إذا كانت من غير حرز هل يضاعف فيها الغرم؟ فالمشهور من المذهب أنهم يخصصون التي تضاعف فيها القيمة في ثلاثة أشياء:

الشيء الأول: الثمر. الشيء الثاني: الكَثَر.

(2)

الشيء الثالث: الماشية؛ لأن هذا هو الذي ورد به النص، وليس في كل سرقة، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه شامل لكل سرقة، وهذا هو الرأي الثاني في هذه المسألة؛ فكل سرقة من غير حرز فإنها تضاعف فيها القيمة مرتين.

(1)

أخرجه بنحوه عبد الرزاق (11/ 343) وإسناد لا بأس به.

(2)

الكَثَر: بفتحتين الجمار ويقال الطلع، المصباح المنير ص (635).

ص: 288

الصورة الثالثة: من قَتَلَ ذميًا، فإن المسلم لا يُقتل بالذمي لتخلف شرط المكافأة، وهو شرط من شروط وجوب القصاص فالذمي ليس مكافِئًا للمسلم، لكن إذا قتله عمدًا تضاعف عليه الدية مرتين، وهذا هو الوارد عن عمر رضي الله عنه

(1)

، ودية الذمي على النصف من دية المسلم.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: أن دية الذمي كدية المسلم في العمد، وفي الخطأ لا فرق.

الصورة الرابعة: الأعور إذا قلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة، يعني عندنا رجل عينه اليمنى عوراء، وعينه اليسرى صحيحة، جاء إلى شخص صحيح ففقأ عينه اليسرى، لو قلنا: يقتص منه، وفقأنا عينه اليسرى لأدى ذلك إلى ذهاب بصر الأعور كله، فقالوا: لا قصاص لكن تضاعف عليه الدية؛ لورود ذلك عن عمر رضي الله عنه.

وقال الإمام مالك رحمه الله: (إن شاء الصحيح أن يقتص، وإن شاء أخذ الدية كاملة).

وقال أبو حنيفة والشافعي، رحمهما الله:(إن شاء عفى، وإن شاء أخذ نصف الدية).

• • •

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 97).

ص: 289

‌95 - وكلُّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ جُعِلْ

كَمَيْتِهِ في حُكْمِهِ طُهْرًا وَحِلْ

معنى هذه القاعدة: أن ما قطع من إنسان، أو حيوان، أو طير فحكمه طهارة وحلًا كميتته.

ودليل هذه القاعدة: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت»

(1)

.

وعلى هذا نقول: ما أبين من حي فهو كميتته في الحل والطهارة، ويدخل تحت ذلك أمثلة كثيرة:

المثال الأول: ما أبين من الإنسان فهو طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فإذا قُطِعَت يد رَجُلٍ كافر، أو مسلم فهذه اليد طاهرة؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته.

وبهذا يستدل بعض العلماء رحمهم الله على طهارة الدم الخارج من بقية بدن الإنسان دون الفرج؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته.

المثال الثاني: ما أبين من الشاة فهو كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة، فإذا قُطِعَت رِجْل شاة فهذه الرِّجْل نجسة؛ لأن ميتة الشاة نجسة وحرام لا يجوز أكلها.

المثال الثالث: حيوان البحر مثل الحوت، فإذا قطعنا شيئًا منه فإنه حلال طاهر؛ لأن الحوت ميتته حلال، وطاهرة فما أبين منه فهو حلال طاهر.

المثال الرابع: ما لا نفس له سائلة. يعني الذي إذا قُتل لا يخرج منه دم يسيل مثل الجراد، والجعل، والعقرب

إلخ فما أبين مما لا نفس له سائلة، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة وعلى هذا فقس.

وهل هي حلال أو حرام؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 218)، وأبو داود رقم (2858) والترمذي رقم (1480)، وصوب أبو زرعة والدارقطني إرساله.

ص: 290

ويستثني العلماء رحمهم الله من هذه القاعدة [ما أُبين من حي فهو كميتته] مسألتين:

المسألة الأولى: المسك وفأرتُه، وفأرته (يعني وعاؤه) والمسك: دم ينزل من الغزال، فهناك غزلان يُقال لها غزلان المسك، يُحبس عنها الطعام، ثم بعد ذلك تُجرى هذه الغزلان، فإذا جرت نزل من عند السرة دم يُربط بخيط قوي، ثم بعد ذلك ينْحلّ بعد فترة بسبب شدة الربط مع جلدة الغزال التي هي وعاء هذا المسك فينقلب هذا الدم إلى مسك (طِيْب) والقاعدة:[ما أُبين من حي فهو كميتته] الغزال ميتته نجسة وحرام لا تؤكل، لكن استثنوا من ذلك هذا الدم الذي يخرج من الغزال وفأرته، فهذا الدم الذي ينقلب مسكًا ووعاؤه يكون طاهرًا.

المسألة الثانية: الطريدة، والطريدة: فعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: مطرودة وذلك؛ كأن تندّ بهمية من بهائم الأنعام فيلحقونها ويضربونها بالسيوف ونحو ذلك حتى يُقَطِّعُوها فإذا قَطَّعُوها فما أبين من هذه الطريدة التي قَطَّعوها وقتلوها فهو حلال طاهر؛ لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.

• • •

ص: 291

‌96 - وكانَ تَأتي للدَّوَامِ غالبًا

وليس ذا بِلازِمٍ مُصَاحِبًا

يعني ما يرد في الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، أو كان يقرأ

إلخ.

يقول المؤلف رحمه الله: تأتي للدوام غالبًا وليس لازمًا، وعلى هذا نقول:(كان) الواردة في الأدلة الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن تأتي للدوام دائمًا، وهذا قليل، ومن ذلك ما جاء في الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بالتكبير»

(1)

وأيضًا حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» .

(2)

يعني يَسْتَحْسِن النبي صلى الله عليه وسلم التيمن، فهذه للدوام دائمًا.

القسم الثاني: أن تأتي للغالب ليس للدائم وهذا هو الكثير، ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا غيره على إحدى عشرة ركعة»

(3)

.

هذا هو الغالب وربما زاد وربما نقص، لكن هذا خلاف الغالب، ومن ذلك: حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في الظهر، والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق»

(4)

هذا هو الغالب أنه كان يقرأ بأواسط المفصّل

(5)

وربما أطال النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر

(1)

أخرجه مسلم رقم (493) وأُعل هذا الحديث بأن مسلمًا أخرجه من رواية أبي الجوزاء عن عائشة وأبو الجوزاء لم يسمع من عائشة ففيه انقطاع كما أن مسلمًا رحمه الله أخرجه من طريق الأوزاعي مكاتبة لا سماعًا.

(2)

أخرجه البخاري رقم (168) ومسلم (268).

(3)

أخرجه البخاري (1147) رواه مسلم (738).

(4)

أخرجه أبو داود رقم (805)، والترمذي رقم (307)، والنسائي في الكبرى (1/ 337) وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

(5)

قال شيخنا حفظه الله أواسط المفصل تبدأ من سورة النبأ إلى سورة الضحى.

ص: 292

وهكذا.

القسم الثالث: أن تأتي لغير الغالب، وهذا قليل من ذلك ما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية» .

(1)

فليس غالبًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح والغاشية وأيضًا ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ بالجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة»

(2)

فتارة يقرأ بهذا، وتارة يقرأ بهذا.

• • •

(1)

أخرجه مسلم رقم (878).

(2)

أخرجه مسلم رقم (879).

ص: 293

‌97 - وإِنْ يُضَفْ جَمعٌ وَمُفردٌ يَعُمْ

والشَّرطُ والموصُولُ ذا لهُ انحتَم

قوله: [انحتم]: انحتم الأمر: وجب وجوبًا لا يمكن إسقاطه. هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان شيء من صيغ العموم وهذه المسائل يبحثها الأصوليون رحمهم الله في مباحث العام.

والعام لغة: الشامل.

وفي الاصطلاح: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.

والأصل: العمل بالعام حتى يرد المخصِّص كما تقدم لنا في دليل الاستصحاب، وأشار المؤلف رحمه الله إلى شيء من صيغ العموم.

وقوله: [وإن يضف جمع ومفرد يعم]: أي من صيغ العموم: المفرد المضاف، وبهذا قطع الموفق في الروضة، وجزم به ابن القيم في إعلام الموقعين.

وكذلك الجمع المضاف.

مثال الجمع المضاف: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] أولاد جمع، والضمير مضاف إليه، فيشمل كل الأولاد: الذكر، والأنثى، والصغير، والكبير

إلخ، ومن ذلك قوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13](آلاء) جمع، و (رب) مضاف إليه، فيشمل كل آلاء الله عز وجل.

ومثاله في المفرد: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [الرحمن: 13](نعمة) مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، فيشمل كل نعم الله عز وجل الدينية، والدنيوية.

وتظهر فائدة بيان هذا: أنه يُحتاج إليه في ألفاظ الموقفين، والمتبرعين، والموصين، وألفاظ الفسوخ، ونحو ذلك.

مثال ذلك: لو قال: رقيقي حر، هذا مفرد مضاف يعم كل الأرقاء فيعتق عليه جميع الأرقاء.

ص: 294

لو قال مثلًا: زوجتي طالق نقول: كل الزوجات طلقن عليك؛ لأن هذا مفرد مضاف، فيشمل كل الزوجات، وكذلك لو قال: بيتي وقف فيشمل جميع بيوته

إلخ.

قوله: [والشرط والموصول]: أيضًا من صيغ العموم الأسماء المبهمة، يدخل في ذلك أسماء الشرط، والأسماء الموصولة، وأسماء الاستفهام فهذه كلها تدل على العموم.

مثال اسم الشرط: قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية: 15](من) اسم شرط يشمل كل من عمل صالحًا.

قال العلائي رحمه الله: اتفق الأصوليون الذين يقولون بالعموم على أن (مَنْ) إذا أتت بمعنى الشرطية، والجزاء فإنها تفيد العموم.

وأيضًا قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] هذا عام يشمل أي جهة، وأيضًا مثل هذه الأشياء نستفيد منها كما قلنا في ألفاظ الموقفين، والموصين، وفي ألفاظ المعاملات، والتبرعات

إلخ.

فنفهم من ذلك أن المتلفظ بهذه الألفاظ أنه يحكم عليه بالعموم، وأنه أراد العموم إلا لقرينة، أو بينة تمنع من ذلك.

وقوله: [والموصول]: أي أن اسم الموصول يدل على العموم.

ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»

(1)

(الذي يشرب) أيّ إنسان يشرب ذكرًا كان أو أنثى

إلخ. هذا عام إلا إذا ورد ما يقتضي التخصيص.

وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33](والذي جاء) هذا يشمل كل من جاء بالصدق.

(1)

أخرجه البخاري رقم (5634)، ومسلم رقم (2056).

ص: 295

وأيضا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] هذا يشمل كل من جاهد

إلخ.

وكذلك أسماء الاستفهام تدل على العموم، مثل: من حضر من الطلاب؟

وأيضًا من ألفاظ العموم لفظ (كل) قال أبو المعالي الجويني رحمه الله في كتابه (البرهان): (وهي أقوى ألفاظ العموم في الدلالة على العموم) وقد صنف تقي الدين السبكي رحمه الله مصنفًا في (كل) ومشتقاتها، وأطال الكلام حولها، ولخصه العلائي رحمه الله في (تلقيح الفهوم) وهي تفيد العموم، سواء كانت مستقلة، أم مؤكِّدة.

مستقلة نحو: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ومؤكِّدة نحو قولك: (اشتريت هذا البيت كله).

وكذلك ما يلحق (بكل) فإنها تدل على العموم مثل: (جميع، ومعشر، ومعاشر، وكافة، وعامة

إلخ).

ومن ألفاظ العموم: اسم الجمع المعرف بالألف واللام مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] فالمؤمنون عامة. وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59].

وكذلك من ألفاظ العموم: النكرات بعد النفي، والنهي، والاستفهام كما سيأتي في قول المؤلف رحمه الله.

• • •

ص: 296

‌98 - مُنَكَّرٌ إِنْ بَعدَ إثباتٍ يَرِدْ

فَمُطلقٌ ولِلعُمومِ إنْ يَرِدْ

‌99 - مِنْ بَعدِ نَفْيٍ نَهْيٍ استفهامِ

شَرْطٍ وَفي الإثبات للإنعامِ

النكرات تنقسم قسمين:

القسم الأول: النكرة بعد الإثبات تدل على الإطلاق إلا إذا كانت للإنعام؛ أي: في مجال الامتنان، فإنها تدل على العموم.

والمطلق: هو اللفظ المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه.

مثال ذلك: قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] هذا يشمل كل رقبة: صغيرة، أو كبيرة، مؤمنة، أو كافرة، ذكر، أو أنثى، سليمة من العيوب، أو معيبة

إلخ.

فهذا اللفظ مطلق يشمل كل هذه الأشياء، لكن يتناول أمرًا واحدًا لا بعينه غير محدد.

وأيضًا من ذلك: لو قلت: (أكرم رجلًا)، هذه نكرة في سياق الإثبات فتدل على الإطلاق.

القسم الثاني: أن ترد النكرة بعد النفي، أو النهي، أو الاستفهام، أو الشرط فإنها تدل على العموم.

إذا وردت النكرة في سياق النفي تدل على العموم.

مثال ذلك: قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19](لا تملك) هذا نفي، و (نفس) هذه نكرة تشمل كل نفس، فتدل على العموم؛ لأنها في سياق النفي.

وقوله: (لنفس): أيضًا نكرة ثانية في سياق النفي فتدل على العموم، (شيئًا) نكرة ثالثة في سياق النفي فتدل على العموم وقوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فهنا نفي كل رفث، وكل فسوق، وكل جدال.

ص: 297

وقوله: [من بعد نفي نهي]: أيضا النكرة في سياق النهي تدل على العموم.

ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] فيشمل كل إله.

والدليل على إفادة النكرة في سياق النهي العموم: أنها في الحقيقة بمعنى النفي فتأخذ حكمه.

قوله: [استفهام]: أيضًا النكرة في سياق الاستفهام تدل على العموم، كقوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وكقولك: (أأحد في المسجد؟) هذا يشمل كل أحد.

قوله: [شرط]: أيضًا النكرة في سياق الشرط تدل على العموم.

ومن ذلك: قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123](سوء) هذه نكرة في سياق الشرط، يشمل كل سوء، فتفيد العموم وقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] وقول القائل: (من فاز فأعطه جائزة).

قوله: [وفي الإثبات للإنعام]: يعني إذا كانت النكرة في سياق الإثبات ليس في سياق نفي، ولا نهي، ولا شرط، ولا استفهام، فإنها تدل على الإطلاق ولا تدل على العموم، إلا إذا كانت في معرض الامتنان، فإنها تدل على العموم.

ومن ذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68](فاكهة) هذه نكرة في سياق الإثبات، الأصل أنها تكون من باب الإطلاق، وليس من باب العموم، لكن لما كانت في معرض الامتنان كانت مستثناة فتدل على العموم. فنقول: قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} هذا شامل لكل فاكهة، ولكل نخل، ولكل رمان.

ص: 298

ومن ذلك: قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فقوله: (ماء) هذا يشمل كل ماء؛ لأن هذه وردت في معرض الامتنان، فإذا كانت في معرض الامتنان وبيان النعمة حتى وإن كانت في سياق الإثبات، فإنها لا تكون من باب الإطلاق، وإنما تكون من باب العموم.

• • •

ص: 299

‌100 - واعتبرِ العمومَ فِي نصًّ أُثِرْ

أمّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ

هذه قاعدة أصولية: [العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب] وتقدم أن أشرنا إلى أنه يجب العمل بالعام إلى أن يرد المخصص، وكذلك إذا كان اللفظ عامًا والسبب خاصًا، فإنه لا ينظر إلى خصوص السبب؛ لأن الشريعة عامة لكل زمان، ومكان، وكل أحد، فلا ترد خاصة لأحد بعينه، وعلى هذا نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولهذا تجد كثيرًا من الوقائع أسبابها خاصة ومع ذلك الحكم فيها عام، ومن ذلك اللعان سببه خاص قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9] والحكم عام لكل الناس لا يخصص لأحد دون غيره مع أن السبب خاص على خلاف في منْ نزلت، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: اختلف الأئمة في هذه المواضع فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر العجلاني، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال بن أمية، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضًا، فنزلت في شأنهما معًا، وإلى هذا جنح النووي وتبعه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.

وأيضًا: آيات الظهار نقول بأنها عامة مع أن سبب الظهار خاص وهو مظاهرة أوس بن الصامت رضي الله عنه من زوجته خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها

(1)

، ومع ذلك الآيات عامة قال تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}

(1)

أخرجه أحمد (6/ 46)، والنسائي (6/ 168)، وابن ماجه رقم (2063)، والحاكم (2/ 481) وصححه الحاكم والذهبي وابن الملقن.

وقال ابن حجر في الفتح وهو أصح ما ورد في قصة المجادلة. وقال ابن حجر أيضًا في تغليق التعليق هذا حديث صحيح.

ص: 300

[المجادلة: 2] فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والعلة في ذلك أن الشريعة عامة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(لا تنزل الشريعة لآحاد الناس، ليس هناك دليل في الشريعة وردت خصوصيته خصوصية عين).

مثال ذلك: في قصة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه لما جاءت سهلة زوجة أبي حذيفة وذكرت أن سالمًا مولى أبي حذيفة كبر، وأنه يدخل عليها

إلخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه»

(1)

وهو رجل كبير. قال الجمهور: هذه الخصوصية خصوصية عين يعني أن هذه قضية عينية خاصة بسالم مولى أبي حذيفة.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (الخصوصية هنا ليست خصوصية عين، وإنما هي خصوصية وصف وحال، فكل من كانت حاله مثل حال سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه فإن رضاع الكبير ينتشر).

ومثل ذلك: قصة أبي بردة رضي الله عنه عندما ذبح قبل الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم» ، فقال يا رسول الله فإن عندنا عناقًا هي أحب إليّ من شاتين أفتجزئ عني فقال صلى الله عليه وسلم:«نعم ولن تجزي عن أحد بعدك»

(2)

ليست هذه خصوصية عينية، وإنما هي خصوصية حالية وصفية، وعلى هذا فقس.

• • •

(1)

أخرجه مسلم (1453).

(2)

انظر ص (234).

ص: 301

‌101 - ما لمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِوَصْفِ

يُفيدُ عِلةً فَخُذْ بِالوَصْفِ

سبق أن قررنا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن استثنى المؤلف رحمه الله قال:[ما لم يكن متصفًا بوصف]: يعني أن العام إذا أورد على سبب متصف بصفة فإننا نعممه في حدود تلك الصفة.

ومن الأمثلة على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلًا قد ظُلِّل عليه في السفر بسبب الصيام: «ليس من البر الصوم في السفر»

(1)

السبب هنا خاص، وهو قصة ذلك الرجل الذي أصابته مشقة في السفر بسبب الصيام، ثم ظلل عليه، وازدحم الناس عليه فقال صلى الله عليه وسلم:«ليس من البر الصوم في السفر» فهذا عام يشمل كل مسافر، ويشمل كل سفر، لكن هذا السبب ورد متصفًا بصفة وهي المشقة فقد لحقته مشقة ظاهرة، فمادام تلحق هذه المشقة الظاهرة فنقول: ليس من البر الصوم في السفر كحال هذا الشخص الذي لحقته مشقة، أما إذا كان لا تلحقه مشقة فإنه لا بأس أن يصوم بل يشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر

(2)

وأفطر في السفر

(3)

أيضًا. فنقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم ورد مقيدًا بصفة، وهي لحوق المشقة فليس من البر الصيام في السفر إذا كان يؤدي إلى المشقة.

• • •

(1)

أخرجه البخاري رقم (1946)، ومسلم رقم (1115).

(2)

صام في السفر كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أخرجه البخاري رقم (1945)، ومسلم رقم (1122).

(3)

أفطر في السفر كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب الحديث أخرجه مسلم رقم (1114).

ص: 302

‌102 - وخَصِّصِ العامَّ بِخاصٍ وَرَدَا

كَقَيْدِ مُطلقٍ بِما قد قُيِّدَا

الأصل كما أسلفنا أنه يُعمل بالعام على عمومه حتى يرد المخصص، فإذا ورد المخصص فإنه يصار إلى التخصيص.

والتخصيص: هو قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك.

وقد قسم العلماء المخصصات إلى قسمين:

القسم الأول: المخصصات المنفصلة وهي: الحس، والعقل، والشرع، والإجماع، والقياس.

القسم الثاني: المخصصات المتصلة: وهي الاستثناء، والصفة، والشرط، والبدل، والغاية، ونمثل لكل واحد بمثال:

من أمثلة المخصصات المنفصلة: مثال الحس: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] قوله: (كل شيء)(شيء) نكرة تشمل كل شيء، لكن خصص الحس السموات، والأرض.

ومثال التخصيص بالعقل وقوعه في: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فالعقل اقتضى بنظره عدم دخول الصبي، والمجنون بالتكليف بالحج لعدم فهمهما، والوقوع دليل الجواز، ذكره الأصوليون وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.

ومثال التخصيص بالإجماع: أن العلماء رحمهم الله أجمعوا على أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] مَخصَّص بالإجماع على أن العبد يُجلد خمسين جلدة على النصف من الحر، ومستند هذا الإجماع هو القياس على الأَمة، حيث ورد النص على أنها تجلد نصف ما على الحرة، فقال تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فقاس العلماء العبد على الأَمة، وأجمعوا على هذا القياس.

ومثال التخصيص بالقياس: قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل

ص: 303

عمران: 97] لم يبق على عمومه، حيث من وجب عليه حد في النفس ثم لجأ إلى الحرم فإنه يُقتص منه، ولو كان داخل الحرم، وخصصنا ذلك من عموم الآية السابقة بالقياس، حيث قسناه على من جنى داخل الحرم، فإن قتله جائز أخذًا من قوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191].

ومثال التخصيص بالشرع: قوله صلى الله عليه وسلم «فيما سقت السماء العُشر» .

(1)

هذا عام يشمل القليل والكثير خُصِّصَ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» .

(2)

ومن أمثلة المخصصات المتصلة: الصفة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلًا مؤبَّرً»

(3)

(نخلًا) هذه نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كل نخل، لكن خُصِّصَ بقوله:(مؤبرا) هذه صفة.

ومن أمثلة المخصصات المتصلة: الاستثناء: كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فلا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه» فقال العباس رضي الله عنه يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذْخِر» .

(4)

وقوله: [كقيد مطلق بما قد قيدا]: المطلق سبق تعريفه.

(5)

والمقيّد: هو اللفظ المتناول لمعيَّن، أو غير معيَّن موصوفٍ بأمرٍ زائدٍ على الحقيقة الشاملة لجنسه.

أيضا الأصل العمل بالمطلق حتى يرد المقيّد فإذا ورد المقيد فإن المطلق يُقيَّد. من الأمثلة على ذلك: أن الله تعالى قال في كفارة الظهار

(1)

أخرجه البخاري رقم (1483).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1405) ومسلم رقم (979).

(3)

أخرجه البخاري رقم (2204)، ومسلم رقم (1543).

(4)

أخرجه البخاري رقم (3189)، ومسلم رقم (1353).

(5)

انظر ص (346).

ص: 304

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقال في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ففي كفارة الظهار تحرير رقبة مطلقة وفي كفارة القتل قُيدت هذه الرقبة بالإيمان.

واعلم أنه‌

‌ إذا ورد مطلق ومقيّد فإن الحال لا يخلو من أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يتفق الحكم والسبب، فجمهور الأصوليين على أن المطلق يُحمل على المقيد.

مثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] وقوله تعالى في آية أخرى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فقيد الدم هنا بكونه مسفوحًا فالحكم واحد وهو تحريم الدم، والسبب واحد وهو المضرة والأذى، فقالوا: يُحمل الدم المطلق على الدم المسفوح المقيد، وبعض العلماء قال: إن هذا القسم لا وجود له؛ لأنه إذا اتفق الحكم والسبب فإنه يكون شيئًا واحدًا.

القسم الثاني: أن يتفق الحكم ويختلف السبب، فجمهور الأصوليين على أنه يُحمل المطلق على المقيد.

مثال ذلك: قوله تعالى في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قيدها بالإيمان، وقال في كفارة الظهار:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الحكم واحد وهو إعتاق رقبة في كفارة، والسبب مختلف (ظهار، وقتل) فقالوا: يُحمل المطلق على المقيّد وحينئذ المطلق في كفارة الظهار نحمله على المقيد في كفارة القتل، فنقول: يشترط في الرقبة المعتقة أن تكون مؤمنة.

القسم الثالث: أن يتفق السبب ويختلف الحكم.

مثال ذلك: قال تعالى في الصيام في كفارة الظهار: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وقال في الإطعام في كفارة الظهار: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} السبب واحد في الإطعام وفي والصيام،

ص: 305

وهو الظهار، لكن الحكم هنا اختلف ففي الإطعام قال تعالى:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أطلق ولم يشترط التتابع، وفي الصيام اشترط الله تعالى التتابع قال تعالى:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} فلا نحمل هنا المطلق على المقيّد فلا يجب التتابع في الإطعام. وعلى هذا لو أطعمت اليوم ثلاثين مسكينًا، وغدًا وبعد غد أطعمت ثلاثين مسكينًا صح ذلك.

القسم الرابع: أن يختلف الحكم والسبب، فهنا لا يُحمل المطلق على المقيد.

من الأمثلة على ذلك: كفارة اليمين قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] قال بعد ذلك {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وفي قراءة: {فصيام ثلاثة أيام متتابعة} فهنا قيد صيام كفارة اليمين بالتتابع.

وقال تعالى في كفارة الظهار: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} السبب هنا مختلف يمين وظهار، والحكم أيضًا مختلف، فلا نحمل الإطعام المطلق الوارد في كفارة الظهار على الوارد في كفارة اليمين.

• • •

ص: 306

‌103 - ما لمْ يكُ التِّخْصيصُ ذِكرَ البعضِ

مِنَ العُمُومِ فالعُمُومَ أَمْضِ

هذه قاعدة أيضًا مفيدة وهي: [أن ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص].

مثال ذلك: إذا قلت: (أكرم الطلبة) هذا يشمل كل الطلبة، ثم قلت بعد ذلك:(أكرم زيدًا)، لا يقتضي التخصيص هنا، لا نقول: الإكرام خاص بزيد بل شامل لكل الطلبة وإنما ذكرت زيدًا لكي تعتني به أكثر، أو لكي تزيد في إكرامه.

ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالٍ لم يقسَم» يشمل العقار، والمنقول قال بعد ذلك:«فإذا وقعت الحدود وصُرِّفَت الطرق فلا شفعة»

(1)

وقوله بعد ذلك: (فإذا وقعت الحدود، وصُرِّفَت الطرق فلا شفعة). هنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أفراد العام بحكم يوافق العام، فنقول: لا يقتضي التخصيص، لا نقول: إن قوله: (قضى بالشفعة في كل مال لم يقسم) أنه خاص بالعقار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» بل نقول بأن قوله: «إذا وقعت الحدود وصُرَّفت الطرق فلا شفعة «لا يقتضي التخصيص؛ لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص.

مثال آخر: تقول: (أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم زيدًا) فقولك: (زيدًا) ذكر لبعض أفراد العام بحكم يوافق العام وهو الإكرام، فلا يقتضي التخصيص، ولو قلت:(أكرم الطلبة) ثم قلت: (لا تكرم زيدًا) لقلنا: بأنه يقتضي التخصيص؛ لأنه يخالف العام ولا يوافقه.

انتهت هذه المنظومة المباركة نسأل الله أن يغفر لناظمها ويتجاوز عنه، ويسكنه فسيح جناته، وأن يجعل ما كتبه، ونَظَمَهُ في ميزان حسناته، وأن يغفر لنا، ويرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا

(1)

أخرجه البخاري رقم (2213)، ومسلم رقم (1608).

ص: 307

ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 308