الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قيام الدولة الأفضلية
ووقائعها
قال علي بن الحسين الخزرجي لاطفه الله تعالى في الدارين لما توفي السلطان الملك المجاهد رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور اجتمع كبراء حضرته وأمراء دولته على قيام دولة السلطان الملك الأَفضل العباس بن علي بن داود ولم يكن في أولاد المجاهد حاضرهم وغائبهم من هو أَشد منه ولا أَعقل ولا أَولى ولا اكمل للأمر منه وان كان فيهم من هو أكبر منه سناً.
فما الحداثة من حلم بمانعة
…
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
فبايعهُ الحاضرون من الخاصة والعامة ووجوه أهل الدولة يومئذ. ولما انتظمت بيعته ونفذت كلمته أَنفق على العسكر نفقه جيدة في يومه ذلك إلى الليل واصبح سائراً بوالده إلى محروسة تعز وجملة العسكر يسيرون أمامه بعد أن ظلاه بالممسكات وجعله في تابوت من خشب. فكان دخوله تعز آخر يوم الخميس سلخ جمادى الأولى من السنة المذكورة. فاستقر في قصر ثعبات فلما اصبح يوم الجمعة غرة جمادى الأخرى نزل الناس خاصتهم وعامتهم فحضروا دفن السلطان الملك المجاهد وكان يوماً مشهوداً. واستمرت القراءَة عليه سبعة أيام.
وكان محمد بن ميكائيل قد استفحل أَمره في حرَض واستولى على الجهات الشامية لخلاف العرب وخراب التهائم واشتغل الملك المجاهد عنه بخلاف أولاده وهم الصالح وأعادل والمظفر. وكانت الأطراف مضطربة وقد انفتح في كل ناحية منها باب فساد. فلما مات المجاهد رحمه الله قويت شوكة الفساد وازداد طمع ابن ميكائيل في البلاد ورأَى أن موت المجاهد من الأَسباب الدالة على ثبات سلطنته. فجع جموعه وسار من حرَض إلى المهجم في عسكر جرار.
إذا رفلوا لم يعرفوا البيض منهم
…
سرابيلهم من مثلها والعمائم
ثم جرد العساكر إلى زبيد يتلو بعضها بعضاً. فلما علم السلطان بذلك جمع أَكابر أهل دولته وفرَّق فيهم الأموال وأمرهم باستخدام الرجال وحمل للأمير بهاءِ الدين حملاً وعلماً وأَمرهُ بالتقدم إلى زبيد. واستوزر القاضي جمال الدين محمد بن حسان. وتقدم ابن سمير في عسكر ابن ميكائيل يريد زبيد فكان وصوله إلى زبيد يوم الخميس الثاني عشر من شهر رجب في نحو سبعمائة فارس ورَجْل لا ينحصر. فلما حط في العرق قبالة زبيد تقدم من أصحابه أهل عشر من الخيل يطلبون الذمة ويستأْذون في الخدمة. وكان القائم يومئذ في زبيد أبو بكر بن علي بن مبارك الملقب ناصح الدين. وكان رجلاً عاقلاً وقوراً شديد البأْس حسن السياسة كريم النفس فأَذَمَّ للواصلين وكساهم للفور جميعاً وأَنفق عليهم نفقة جيدة وأضمر بالقيام على دوابهم وأَجرى لهم ما يقوم بكفايتهم بكرة وعشية. ولما أصبح ابن سمير يوم الجمعة ركب في عسكره إلى باب المدينة فقاتله أهل زبيد قتالاً شديداً إلى أن حمى النهار وافترق الناس. فلما كان عشي يوم الجمعة خرج عسكر زبيد من الباب الشرقي وهو باب الشبارق. وركب ابن سمير في عسكره ومن معه من الخيل والرجل واشتد القتال إلى أن غربت الشمس فقتل من كل فريق جماعة وانهزم العسكر السلطاني وثبت ناصح الدين بن مبارك ثباتاً حسناً وثبتت معه جماعة من العسكر حتى رجع العدو ولم يظفر بشيءٍ وأَمسى الناس في تلك الليلة في حراسة شديدة وحزم عظيم وأَصبحوا يوم السبت على مصافهم من غير قتال فاستذم جماعة من الرَّجل ودخلوا المدينة. فلما كان ليلة الأحد وصل رسول جماعة من الأشراف إلى القاضي ناصح الدين يطلبون الذمة فأَذم عليهم وعرَّف رسولهم أن يصلوا إلى ناحية باب القرتب ليلاً فلما وصلتهم الذمة خرجوا في ليلتهم من المحطة يتسللون وقصدوا باب القرتب ففتح لهم فدخلوا وكانوا نحواً من سبعين فارساً فكساهم القاضي ناصح الدين وأَنفق عليهم كما أَنفق على أصحابهم فلما اصبح يوم الأحد الخامس عشر من الشهر المذكور علم ابن سمير بما كان من الأشراف فاستوحش من بقية العسكر ولم يأمن إليهم ولا وثق بأحد منهم
وخشي على نفسه التبعة. فطلب وجوه العسكر وفرَّق فيهم شيئاً من المال ووعدهم بالجامكية والأنعام عند وصول الخزينة. وانفرد بأكابرهم وقال لهم اعلموا أَني أَدرى منكم بالبلد وأهلها والمسافة بيننا وبين المهجم ثلاثة أيام ليس فيها مدينة معمورة ولا كلمة مسموعة وكل أهلها داعية فساد. والمصلحة أن نرفع المحطة إلى بيت الفقيه ابن عجيل. فاستصوبوا رأْيه فانتقل بمحطته إلى بيت الفقيه فأَقام فيها يوماً أَو يومين ثم انتقل إلى القحمة. فلما استقر في القحمة وكانت يومئذٍ خراباً لا ساكن فيها أَمر بعمارتها وأقام فيها هو ومن معه من العسكر. وفي يوم السادس عشر من شعبان حملت الرايات السعيدية الأفضلية. وفي شهر ذي القعدة أغار ابن سمير من القحمة إلى حارة وادي زبيد فحرق قرية المَوْقر وقتل من أهلها جماعة ولزم آخرين فسار بهم إلى القحمة وصادرهم بشيءٍ من المال.
وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح أبو محمد عبد الله بن محمد بن عمر بن أبي بكر إسماعيل البريهي السكسكي بقرية ذي السّفِال. وكان فقيهاً فاضلاً ورعاً صالحاً عالماً عاملاً صوفيّاً جمع بين الطريقتين وحاز شرف المنزلتين. وكانت له كرامات ومقامات وكان مشاركاً في عدة من أنواع العلوم فقيهاً نحويّاً محدّثاً مفسراً صوفيّاً تحكم على يد جماعة من الفضلاء وحج بيت الله الحرام عدة سنين. وكان له مع العرب حكايات يطول شرحها وكان حسن الأَخلاق عذب المنطق له صيت عظيم على التدريس. توفي إلى رحمة الله تعالى في شهر المحرم من السنة المذكورة رحمه الله ورضوانه عليه.
وفي سنة خمس وستين وسبعمائة نزل الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي بالعساكر المنصورة الأفضلية من الأشراف والأَكراد ونزل صحبته الأمير بهاء الدين بهادر السنسبلي وجماعة من المماليك وكان نزولهم يوم العاشر من المحرم فدخلوا زبيد يوم الثالث عشر من المحرم المذكور. ثم انتقلوا إلى فشال يوم الرابع عشر فأقاموا إلى يوم الثاني والعشرين من الشهر المذكور وقصدوا ابن سمير إلى القحمة فلما علم بهم ابن سمير خرج إليهم فيمن معه من العسكر والأشراف والعرب. فكان يوماً ما
بعده من الأيام فانهزم ابن سمير ومن معه هزيمة شديدة ولم يلتفت
ولكنه ولي وللطعن سورة
…
إذا ذكرته نفسه لمس الجنبا
فقتل أخوه الأعور يومئذ وكان فارساً شجاعاً. وقتل الأمير شمس الدين على بن داود بن علاء الدين وهو ابن أخت الأمير نور الدين محمد بن ميكائيل وقتل من أَحابه عدة مستكثرة ودخل العسكر السلطاني القحمة فاحتووا على ما فيها من خيل وبغال وجمال وسلاح وأَثاث وغير ذلك. وافترق العسكر الذي كان مع ابن سمير واستذم بعضهم واهتزم الباقون. فأمسى خبر الهزيمة يومئذ في المهجم فخرج ابن ميكائيل منها في ليلته سائراً نحو حرَض. فأقام في حرَض أَياماً. فلما علم بوصول العسكر السلطاني إلى المهجم ترك حرَض وخرج منها يريد صعدة وفيه يقول الشريف مطهر بن محمد بن مطهر.
لجهلك لم تخش الذي بأسهُ يخشى
…
ولم ترهب الأَفعى ولا الحية الرقشا
وأَرداك من منَّاك في الملك مثلما
…
تردّى ضحى من ظهر ناقته الأَعشى
ولجت طموم البحر وهو غطمطم
…
ومن ولج التيار لاقى به القرشا
أَغرّك إرخاء المجاهد سترهُ
…
عليك ولم ينهاك منه لذي يخشا
عفى عنك صفحاً في الظلام إذا انجلى
…
بفضل وإحسان وفي الليل إذ يغشى
فلما ثوى وابتزَّ في العزة ابنهُ
…
وربك يعطي الملك من خلقه من شا
ففاجاَّك العباس منهُ بصولةٍ
…
فغشاك منهُ يا محمد ما غشا
وَليت فلم تؤْمن سريّاً ولم تخف
…
غويّاً ولم تنه الفحوش عن الفحشا
فلما استوى العباس في الملك وانجلت
…
دياجير للنظار في جنحها أَعشا
دعانا فلبينا نداهُ بعصبةٍ
…
تَرُش الثرى من ضربها بالدما رشا
بهاليل من أبناء فاطمة التي
…
قضى فضلها في الخلق من خلق العرشا
أَتوك ببيض ضربها يقطف الكلى
…
ويختطف الأشلا ويخترق الأَحشا
فلما استقرت في فشال فشلتم
…
كما فشلت للأسد في رعيهن الشا
ثمان ليال ظلمت جندك القنا
…
كما جعلت بيض المواضي لها فرشا
أَلم تر أن الملك يؤتيه من يشا
…
إله السما الجبار مبتدع الإنشا
تأَن وقف في حيث أوقفك القضا
…
فمن فاته إيوانه سكن الحشا
ولما دخل العسكر السلطاني في القحمة أقام فيها يومه ذلك يوم الثلاثاء. ثم توجهوا نحو الكدراء ثم ساروا منها إلى المهجم. فكان دخولهم المهجم يوم الجمعة السادس والعشرين من المحرم فأَقام العسكر فيها أياماً. ثم توجه الأمير فخر الدين زياد الكاملي إلى حرَض فدخلها في صفر من السنة المذكورة فجعل فيها الأمير سيف الدين الرومي أميراً وجعل معه طائفة من المماليك الأَجواد. واستوسقت البلاد كلها في أسرع مدة وعمرت القرى والمدائن. واتصل الناس بعضهم ببعض. واستمر القاضي ناصح الدين أميراً في المهجم وتفرَّدت الأحوال وزال الليث في غابةِ واستحق الحق في نصابه.
وفي شهر ربيع الآخر كان ختان أولاد السلطان الملك الأفضل وكان ذلك يوم الأحد الثالث عشر منه. وأسست المدرسة الأفضلية في ناحية الجبيل من تعز المحروسة يوم الجمعة الرابع عشر من شهر رجب من السنة المذكورة. ولما أن في زبيد وقت السبوت ندب السلطان رحمه الله الأمير شمس الدين علي بن الحسام وجماعة من بني حمزة فيهم الشريف قاسم بن أحمد صاحب الموقر فأَقاموا في النخل أياماً كما جرت العادة. فكان فساد القرشيين في كل يوم يزداد. فلما كان ليلة الثامن عشر من شوال اجتمعوا وهجموا النخل. وكان مشدة يومئذٍ القاضي برهان الدين إبراهيم بن يوسف الجلاد. فنهبوا طائفة من النخل فخرج العسكر في طلبهم وكانوا قد جعلوا عدة مكامن. فلما توسط العسكريين المكامن انبعث العدوّ من كل ناحية فقتل من العسكر جماعة الخيل فيهم الشريف قاسم بن أحمد صاحب الموقر وقتل من الرجل طائفة وغشيهم الليل. ووصل في تلك الليلة الأمير بهاء الدين السنبلي من القحمة فاتاه الخبر عشاء فركب من فوره يريد النخل فدخله آخر الليل واجتمع بالمقدّمين فأقاموا في النخل محوا من خمسة عشر يوماً حتى انقضى أمر النخل وارتفع رسمه. فلما ارتفع رسم النخل وصل الطواشي صفي الدين أبو مَلْعق في أول
شهر ذي القعدة بخزانةٍ جيدة وعسكر جيد فيهم الشريف جمال الدين محمد بن تاج الدين الحمزي صاحب الطَّوِيلَة والأمير شجاع الدين حسين ابن حسن بن الأسد الكردي فأَنفق الطواشي صفي الدين على العساكر جميعاً وقصدوا القُرَيْشيِةَ يوم السابع من القعدة فقتل من وجوه الفريشيين وشجعانهم نحواً من مائة رجل من أَجوادهم وفرسانهم وشجعانهم ومشاهير رجالهم. وفي جملة من قتل منهم يومئذ عبد الله بن محمد بن عمر بن غراب وكان أحد الفرسان المشهورين في زمانه فراسة وشجاعة ونهبت القرية نهباً شديداً ورجع العسكر من فوره إلى زبيد ظافراً منصوراً. فأقام العسكر في زبيد أَياماً. ثم خرج الأمير بهاء الدين بهادر السنبلي فحط في القريْشِيةَ وكان أهلها قد انتقلوا منها إلى العَرمَة فلما صاروا هنالك طلبوا الذمة وسلموا نصف الخيل التي معهم ورهنوا عدة من أولادهم فأذم عليهم السلطان ورجعوا إلى قريتهم.
وفي سنة ست وستين وسبعمائة كان رجوع أهل القرية إلى بلادهم وفيها استمر الأمير سيف الدين الخراساني مقطعاً في حرض وانفصل عنها الأَمير سيف الدين الرومي وأقطعه السلطان القحمة. وفي هذه السنة أوقع الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي بالمعازبة فقتل منهم مقتلة عظيمة. وسار العسكر المنصور إلى المدبي فقطعوا شيئاً كثيراً من نخلة وذلك في شهر شعبان من السنة المذكورة وفي شهر رمضان نزل محمد بن ميكائيل من صعدة إلى المنيعة من أعمال حرض في عسكر كثيف من الخيل والرجل فواجهه عسكر السلطان هنالك. فانهزم ابن ميكائيل هزيمة شديدة وقتل من أصحابه جمع كثير فيهم أربعة من الفرسان ومن الرجل نحو من مائة وسبعين. ونزل السلطان زبيد في شوال فأقام فيها أياماً ثم تفرج في النخل وكذلك في البحر ثم توجه نحو الجهات الشامية لقبض خيول العرب فقبضها بأسرها في مدة يسيرة ثم عاد إلى زبيد.
وفي سنة سبع وستين طلع السلطان إلى تعز بعدة من خيول العرب نحو من مائتي رأس ووصل ابن سمير إلى السلطان على الذمة الشريفة وكان وصوله يوم
الخميس الرابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
ووصل الملك المظفر إلى حوض في عسكر جرار من أصحاب الإمام فنهض إليهم صاحب حرَض فانهزموا ورجعوا من غير قتال. ووصل رسول صاحب ظفار الحبوضي وهو الفقيه أبو محمود بهدية وتحف وطلب لصاحب بلاده نيابة من السلطان فكتب له بذلك وذلك في شهر جمادى الأخرى.
وفيها تقدم القاضي جمال الدين سفيراً إلى الديار المصرية وصحبته من الهدايا والتحف ما يليق بحال المُهْدِى والمُهْدِى إليه. وكان تقدمه في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من مدينة تعز.
ووصل محمد بن الفهد صاحب ثُلَا إلى الأبواب السلطانية مستوفداً فأكرمه السلطان وأنصفه ووصل جماعة من الأشراف المعدودين إلى الأبواب المكرمة صحبة الأمير عماد الدين يحيى بن أحمد الحمزي فقابلهم السلطان بالإكرام والإنعام العام. وفي شهر رمضان من هذه السنة المذكورة وقع في تعز مطر عظيم اخرب بستان المحلية وعدة من قصورها ومنازل كثيرة هلك فيها كثير من الناس سحبهم السيل من البيوت وكانت مطرة لم يعهد مثلها.
وفي هذه السنة توفي الأمير سيفد الدين الرومي وكان أميراً كبيراً جليلاً عاقلاً حسن السيرة مقداماً مهذباً. وكان وفاته في مدينة القحمة وهو مقطع بها رحمه الله تعالى.
وفي سنة ثمان وستين وسبعمائة وصل القاضي جمال الدين محمد بن علي الفارقي من الديار المصرية بالهدايا من صاحب مصر والمماليك. وكان وصوله يوم الثامن من شهر صفر. وفي شهر ربيع الأول أمر السلطان بحمل أربعة أحمال طبلخانة وأربعة أعلام للأمير سيف الدين طغى الأفضلي.
وفيها قصد الملك المظفر وابن اليماني فخرج إليهم صاحبها في عسكره لقتالهم فانهزموا ورجعوا خائبين وذلك في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة.
ووصل رسول صاحب كنباية ورسول ملك السند بالتحف والهدايا إلى
الأبواب السلطانية ووصلوا بغراسات شجر الفلفل الأحمر والأصفر والأزرق واستمر الأمير صارم الدين داود بن موسى بن حبابر أَميراً في الشجر. وكان سفره من عدن يوم السادس والعشرين من شوال.
وفيها استمر الأمير بهاء الدين الظفاري مقطعاً في حرض والقاضي جمال الدين محمد بن إبراهيم الجلاد مقطعاً في فشال.
وفي هذه السنة توفي الأمير الكبير بهادر السنبلي وكان أَميراً كبيراً شجاعاً مقداماً فارساً مشهوراً وكان من أعيان الأمراء في الدولة المجاهدية. ونال من الملك المجاهد شفقة تامة وهو الذي أنشأَه وحمل له أربعة أحمال من الطبلخانة وأربعة أعلام وأقطعه مواضع عديدة من جهات المملكة اليمنية وكان مشهوراً بالشجاعة والفراسة وكانت وفاته يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.
وفي هذه السنة توفي الفقيه الإمام البارع أبو الفضل بن أحمد بن عثمان ابن أبي بكر بن بصيص النحوي الحنفي الزبيدي بفتح الزاي وضمها. وكان إمام الحفَّاظ وشرف النحاة وختام الأدباء انتهت إليه رياسة الأدب. وكانت الرحلة إليه وكان بارعاً في فهمه وله تصانيف مفيدة وأشعار جيدة شرح مقدمة ابن بابشاذ واخترمته المنية قبل تمامه وهو شرح جيد مفيد انتحل فيه الأسئلة الدقيقة وأجاب عنها بالأجوبة الحقيقة وهذب منهاجها ونشر مقاصدها. وله المنظومة المشهورة في العروض. ولم يزل على حسن طريقه باذلاً جهده إلى أن توفي في يوم الأحد الحادي عشر من شهر شعبان من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه الصالح تقي الدين عمر بن عبد الله المكي الفقيه الحنفي المحدث. وكان فقيهاً محدثاً عارفاً مشاركاً في عدة من فنون العلم تفقه في زبيد على الفقيه برهام الدين إبراهيم بن عمر العلوي والفقيه موفق الدين علي بن نوح والقيه صارم الدين إبراهيم بن مهنا وطلب تدريس الحديث في المدرسة المجاهدية لتعز سنة سبع وأربعين. وكان حسن التدريس فاستمر في المدرسة المذكورة إلى أن توفي في
شهر رمضان. وكان مولده على ما قيل سنة ثلاث عشرة وسبعمائة في مدينة زبيد رحمه الله تعالى.
وفي سنة تسع وستين استمر الأمير بهاءُ الدين بهادر المجاهدي أميراً في مدينة زبيد فحدث فيها ما حدث من الفساد. فأمر السلطان الأمير علاء الدين شنجل والياً وعزل البهاء المجاهدي.
وفي هذه السنة حصل في المعازبة قتل كثير واحتز منهم اكثر من خمسين رأساً. وفيها قبض حصن خَدَد ومعشاره بالشوافي وانفصل الأمير بهاء الدين الظفاري من حرض. واستمر فيها الأمير سيف الدين طغى الا فضلى وكان حاد المزاج قريب النفس كثير الغيظ قليل الاحتمال ضعيف السياسة. وكان أشراف حرض غير محتكمين فلما رأى ما هم عليه من الخلوج والخروج عن الطاعة ظاهراً وباطناً لم يجرهم على ما يعتادونه من المقطعين فتنافرت القلوب بينهم وبينه. فلما رأى ذلك منهم قبض على جماعة منهم وحبسهم عنده فطالبوه بإخراجهم مطالبة حثيثة فقتلهم فنزع الباقون أيديهم عن الطاعة. فلما علم السلطان بما كان منهم ومنه نزعه عن البلاد خوفاً وحسماً لمادة الفساد وأعاد الأمير بهاء الدين الظفاري وقد كانوا يعرفونهُ فلم ينفق له استصلاح قلوبهم فأصرُّوا على الخلاف والمنافرة قولاً وفعلاً.
وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أسعد بن علي بن منصور المعروف بالنظاري رحمه الله نسبة إلى قرية في بعدان تسمى النظار ونسبه في ذي رعين. وكان فقيهاً فاضلاً حسن السيرة صالح السريرة اخذ عن جماعة من كبار العلماء كالفقيه إبراهيم العلوي والفقيه إبراهيم الوزيري. توفي مبطوناً في غرة ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو بكر بن أحمد بن درُّوب وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بعمر بن المقرئ من بلده وأخذ الحديث عن عثمان الدناني من أهل وصاب. وكان وفاة الفقيه المذكور في شهر ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه البارع أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سلمة
الحبشي الوصابي. وكان مولده سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة. وكان فقيهاً فاضلاً له شهرة طائلة وشيمة فاضلة مشار كافي كثير من العلوم وله عدة تصانيف مفيدة منها كتاب الإرشاد إلى معرفة ساعات الإعداد وهو تصنيف عجيب وله ديوان شعر كله حسن جيد ليس له في زمانه نظير. تفقه بابيه واحمد عن أبي جبريل المقدم وعن قاضي عبد الأكبر. وانتفع به جماعة كثيرة. وكان وفاته في سلخ المحرم من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه البارع أبو بكر بن علي بن موسى الهاملي الملقب سراج الدين وكان فقيهاً فاضلاً جليل القدر عارفاً بالفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وكان فروعياً أصولياً نحوياً لغوياً منطقياً شاعراً فصيحاً بليغاً نظم بداية المهتدى نظماً جيداً ودرَّس في المدرسة المنصورية بزبيد. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفي سنة سبعين وسبعمائة قبض السلطان حصن القاهر وقبض من مشايخ العنسيين نحواً من ثمانية عشر شيخاً وقتلهم جميعاً.
وفي شهر جمادى الأولى تقدم السلطان إلى محروسة الدملؤَة وصحبته خزانة عدن وتهامة وجملة من هدايا تجار الكارم ووضعها في الخزائن المعهودة ووصل السفراء من الحبشة بالهدايا والتحف في شهر شوال من السنة المذكورة.
وفيها وصلت هدية صاحب كاليقوط ووصل شيء كثير من غرائب الأشجار والأطيار فأمر مولانا السلطان بالأشجار فغرست في بستان دار الديباج وفيه فل أبيض وفل أصفر ووردُ وغير ذلك.
وفي شوال لزم الأمير سيف الدين طغى أمراء الأشراف بحرض كما ذكرنا وقتلهم في الشهر المذكور. ونزل السلطان إلى محروسة زبيد فعزل الامير علاء الدين شنجل وأمر الأمير شهاب الدين أحمد بن سمير والياً في زبيد. وأقام السلطان في زبيد أياماً ثم توجه نحو المهجم فبسط ابن سمير يده في البلاد وصادر الناس مصادرات عنيفة لا أصل لها. ولزم أناساً وحبسهم من غير سابقة واتلف بعضهم وطلب من
بعضهم مطلباً عنيفاً فافتدوا أنفسهم منه بما طلب. ولم يزل على هذا الأمر إلى أن رجع السلطان من المهجم فلما استقر ركابه العالي في مدينة زبيد أمر بالقبض عليه واستمر عوضه الأمير علاء الدين شنجل وصودر مصادرة قبيحة على يد القاضي رشيد الدين عمر بن أحمد الشتيري.
وفي هذه السنة المذكورة تصدَّق السلطان رحمه الله تعالى على كافة الرعايا في سائر جهات المملكة اليمنية بان يمسح بالذراع المظفري فسماء الناس الأفضلي لكونه الذي أجراه لهم صدقة تامة وعامة لا يختص بها أحد. دون أحد وهي من إحدى فعلاته المشهورات. وأجرى لبعضهم مزال خمس فيما تدور عليه الحبال ولبعضهم مزال الربع صدقة مؤبدة يتصل بها القوى والضعيف رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وفيما استمر القاضي سراج الدين عبد اللطيف بن محمد بن سالم مشدَّا في وادي زبيد المبارك.
وفيها توفي القاضي وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمر اليحيوي. وكان غلمان الدولة المجاهدية ولي إمارة الجند في آثام المجاهد ونال من المجاهد شفقة تامة وكان محباً للصوفية وينسب إليهم. وولى نظر الأوقاف في الدولة الأفضلية. وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفي سنة إحدى وسبعين خرج الأشراف بحرض على الأمير بهاد الدين الظفاري ورفعوا أيديهم عن الطاعة ووصلهم السيد إبراهيم بن يحيى الهدوي والأمير نور الدين محمد بن ميكائيل في عسكر كثيف وجماعة من بني حمزة فحصروا الأمير بهاء الدين في دار حرض أياماً كان يقاتلهم بكرة وعشية فخانه جماعة من أصحابه وأسلموه. فلما رأى ما نزل به استأمن من الشريف شمس الدين علي بن محمد المسمى مسلة وخرج متوجهاً إلى اليمن. وكان السلطان رحمه الله تعالى قد ندب القاضي جمال الدين محمد بن عمر الشريف والقاضي تقي الدين عمر بن محمد بن محيا في جماعة من العسكر لجباية الأموال في الجهات الشامية. فلما صاروا في المهجم نزل
الأشراف على حرض كما ذكرنا وحاصروا الأمير بهاء الدين فكتب القاضي جمال الدين محمد بن الشريف إلى مقام السلطان يحقق له حقيقة ذلك الأمر ويستمده بالعسكر فأمده بالأمير شمس الدين على بن إسماعيل بن إياس والأمير سيف الدين طغى. فلما استولى الأشراف على حرض أقاموا فيها أياماً ثم توجهوا نحو المهجم فارتفع الشريف ومن معه إلى الكدراء ووصله الأمير شمس الدين علي بن إياس والأمير سيف الدين طغى. فلما وصل الأشراف المهجم أقاموا فيها اياماً ثم توجهوا نحو الكدراء فارتفع ابن الشريف وسائر عسكر السلطان إلى القحمة. وكان في القحمة يومئذ فخر الدين زياد ابن أحمد الكاملي فاجتمع العسكر عنده واستعدوا لقتال فقصدتهم الأشراف إلى القحمة يوم الأربعاء ثالث عشر شهر جمادى الأولى. وكان السلطان قد أرسل بخزانة جيدة صحبة الأمير شمس الدين بن إياس خارجاً عن خراج الجهات الشامية التي تحت يد ابن الشريف فاقترفت كلمة المقدمين وأمسك كل منهم ما عنده من المال ولم ينفقوا على العسر شيئاً فقصدهم العدوّ وهم على غير اتفاق فتخاذلوا وانهزموا وقتل ابن الشريف والقاضي تقي الدين عمر ابن محيا والأمير سيف الدين طغى وقتل جماعة من الغز والعرب وأسر الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي وانهزم ابن إياس في بقية العسكر إلى زبيد فلما دخلوا زبيد على هذه الحالة أجتمع أرباب الفساد من كل ناحية واختلف العوارين بالليل على قتل ابن إياس. فلما أصبح يوم الخميس الرابع عشر من الشهر المذكور ركب ابن إياس إلى دار السلطان وركب بركوبه أمير المدينة وهو الأمير فخر الدين أبو بكر بن نور ومشدّ الوادي يومئذ وهو القاضي سراج الدين عبد اللطيف بن محمد بن سالم وناظر البلاد وهو الأمير جمال الدين محمد بن على العرس وصاحب فشال وهو القاضي جمال الدين محمد بن إبراهيم الجلاد. واتفقوا جميعاً على أن يعدوا العسكر فاجتمع العوارين من أهل زبيد ومن انضم إليهم من غيرها وتقدموا إلى الأمير شمس الدين ابن إياس وطالبوا بالنفقة عليهم كسائر العسكر فشتمهم الأمير شمس الدين وزجرهم بالكلام ووبخهم وأمر العسكر بلزمهم وكانوا نحواً من عشر رجال وهم أعيانهم ولم يعلم
أن على باب الدار منهم جمّاً غفيراً. فلما أمر بلزمهم بطش بهم العسكر فامتنعوا بسلاحهم وصفر الصافر وكان أمر الله قدراً مقدوراً فانقلبت المدينة بمن فيها من عوارين البلد وعوارين الشام وسائر العرب العرباء على العسكر فنبهوهم في ساعة واحدة. وكانت المدينة قد امتلأَت بالعربان والعسر من الشام وكان في ظن الأمير أن كافة العربان الواصلين من الشام يقولون بقوله ولم يعلم أن الجميع داعية فساد وطمع. فلما رأَى ما رأَى من السواد الأعظم قام هارباً وهرب سائر المقدمين المذكورين وافترق العسكر فدخل الأمير موضعاً من الدار فتبعه جماعة من العوارين فقتلوه وصت صلاة المغرب من ليلة الجمعة الخامس عشر من الشهر المذكور. فلما أصبح صبح يوم الجمعة حمل من موضعه ذلك وغسل وكفن ودفن في داخل المدينة قبالة باب الشبارق عند المسجد المعروف بمسجد السدرة.
ولما طلعت الشمس يوم الجمعة الخامس عشر من الشهر المذكور وصل الأشراف بأجمعهم إلى مدينة زبيد وحطوا في البستان الشرقي ودخل الشريف يحيى بن حمزة الهدوي في جماعة من أصحابه من السور برأْي بعض العوارين فوقفوا في المدينة ساعة يدورون على بيوت غلمان السلطان ويتأَملونها وأَمر صائحاً يصيح بذمة الله وذمة الإمام على كافة الناس ثم قال لمن معه من العوارين افتحوا الباب للعسكر يدخلوا المدينة له رجل من مشايخ العوارين يقال له ابن العدني المصلحة يا شريف أن ترجع إلى أصحابك وتمهلونا هذه الليلة حتى نجتمع بأكابر أَهل البلد. فقال له وهل في البلد من هو أكبر منكم قال نعم معنا فقهاء وتجار ورعية ومن لا نتعدى أمرهم فان رضوا بكم فتحنا لكم الباب ومرحباً بكم وإن لم يرضوا بكم فيا حجر يا حجر ويا سيف يا سيف ويعطى الله النصر من يشاءُ. فقال الشريف وما في الكلام إلا هذا قال له نعم. فرجع الشريف هو وأصحابه الذين معه وكانوا نحواً من سبعة أو ثمانية نفر فانزلوا من الدرب ورجعوا إلى أصحابهم واشتد القتال ساعة من نهار. وكان هذا قبل زوال الشمس من يوم الجمعة الخامس عشر من الشهر المذكور. فلما زالت الشمس وحضر وقت الصلاة لم يحضر الجامع من
الناس إلا وأقل من نصفهم بل من ثلثهم وتأَخر كثير من الناس ولم يحضر القاضي ولا الخطيب وغاب كثير من الأعيان فتأهب الناس لصلاة الظهر فقام الفقيه أبو بكر الوصابي المعروف بالمكي فصعد المنبر وخطب خطبة مختصرة ولم يذكر السلطان فيها فبكي كثير من الناس بكاءً شديداً حتى كانوا كأَن بين أيديهم ميتاً. ثم نزل وصلى بالناس فلما انقضت الصلاة خرج الناس بأجمعهم إلى موضع شرقيّ الجامع يقال له المبرك وأرسلوا للعوارين فوصل جماعة منهم فقال لهم الحاضرون يا مشايخ ما هذه الأفعال التي فعلتموها في البلاد قتلتم نائب السلطان ونهبتم غلمانه ونهبتم المدينة ما عرفنا ما مرادكم أن كان غرضكم أن تسلطنوا واحداً منكم فقولوا لنا وإن كان عزمكم على دخول الأشراف فانصحونا وان كانت البلاد بلاد السلطان عرفتم الناس بما أنتم فاعلوه فمن أحب الوقوف في البلاد وقف ومن أحب الخروج عنها خرج فعرفونا عزمكم الذي قد عزمتم عليه فقالوا والله يا فقهاء ما نحن إلا عبيد السلطان وغلمانه لو يقصنا بالمقص ما رضينا بأحد غيره فقال لهم الحاضرون إنا نخشى أن يأتي غيركم من أصحابكم ويقول غير هذا القول قالوا والله يا فقهاء ما أحد يقدر أن يقول غير هذا القول أبداً ولو كنا نريد الأشراف كنا قد فتحنا لهم الأبواب ولكن والله يا فقهاء ما نقدن إلا من قدمتم ولا نؤَخر إلا من أَخرتم وما أشرتم به علينا قبلناه. قالوا فتقدموا إلى عند الأمير سيف الدين الخراساني فانه عبد السلطان وأولى من حفظ بلاده ولا تتهمه في شيءٍ فتقدموا بأجمعهم إليه ودخلوا عليه وقالوا من حفظ بلاده ولا نتهمه في شيءٍ فتقدموا بأجمعهم إليه ودخلوا عليه وقالوا يا مولانا أنت عبد السلطان وغلامه وهذه بلاد السلطان فاحفظها ونحن نقاتل بين يديك ولا يتخلَّفُ أحد منا عن القتال. فقال الأمير سيف الدين وأنا انفق عليكم وعلى كافة الناس ذهباً وفضة. فصاح الصائح بالأمان وبذمة السلطان على كافة الناس فظهر حينئذ من العسكر أناس كانوا مختفين في المدينة نحواً من مائة وثلاثين فارساً من عسكر السلطان واجتمع من الرجْل شيء كثير.
ولما أصبح صبح يوم السبت السادس عشر من الشهر المذكور ولم يظهر من أهل المدينة على الأشراف علم ركب الأشراف بأجمعهم وداروا حول المدينة فوجدوا
الدرب من ناحية باب النخل متخلخلاً ففتحوا الحرب من هنالك فقاتلهم أهل المدينة قتالاً شديداً فقتل من أهل المدينة نحو من أربعة عشر إنساناً بالنشاب وقتل من الأشراف فارس واحد كان قد نزل عن فرسه وقاتل رجَّالاً حتى وصل إلى اسفل الدرب وأراد أن يطلع الدرب قهراً فواجهه رجل من العوارين يقال له دهيس فتطاعنا مليّاً فأصابت الشريف طعنة كان فيها اجله وقتل جماعة من رَجْلهم ورجعوا إلى محطتهم في البستان الشرقي ولم يكن بعد ذلك اليوم قتال ولم يزالوا في محطتهم والأبواب مغلقة إلى يوم الثاني والعشين من الشهر المذكور. ثم استمروا راجعين إلى الشام فكانت إقامتهم بالكدراءِ. ولما ارتفعت المحطة عن زبيد وصل الطواشي أمين الدين أهيف في عسكر جيد من الباب السلطاني فتخوف منه أعوارين وأغلقوا أبواب المدينة فوقف في البستان السلطاني خارج المدينة فاشتد خوف العوارين منه وتواترت الإمداد إلى الطواشي. فكان العوارين يحرسون الأبواب حراسة شديدة والطواشي يظهر لهم انه لا حاجة له في دخوله المدينة وإنما وقوفه لانتظار باقي العسكر. ثم يتقدم إلى الجهات الشامية في العساكر كلها ثم طلب مشايخ العوارين وحلفهم على حفظ المدينة وكساهم كسوة جيدة وأوجدهم انه متوجه إلى الشام وان السلطان لم يأْذن له في الدخول إلا عند رجوعه من الشام فآمنوا وما آمِنوا. ولم يزل الطواشي يرقب غفلات العوارين عن حراسة الباب حتى اطمأَنوا وملوا من طول الحراسة. فلما كان يوم الأربعاء الثالث من شهر رجب أشعر الطواشي على العسكر أن يكونوا على أُهبة. وجاءته عيونه فأخبروه أن الباب مفتوح وليس هنالك أحد من العوارين. فأَمر جماعة من الخيل فساقوا إلى الباب فملكوه فأمر الطواشي أن يسقط أحد المصرعين من الباب الأول وكذلك من الباب الثاني فاسقط وصرخ الصارخ في المدينة فما وصل أول العوارين إلا وقد دخل العسكر فركب الطواشي حينئذٍ واستنهض باقي العسكر من الخيل والرجل ووقف هو خارج المدينة وأمر العسكر بالدخول ولم يزل واقفاً موضعه حتى أتى بعدة رؤوس من القتلى. ثم دخل وأمر جماعة من العسكر يدورون حول المدينة يتلقون الهارب فكان يوماً عظيماً ونهبت
المدينة نهباً شديداً وقتل في ذلك اليوم نحو من أربعين رجلاً. ولما كان عند آذان العصر أمر صائحاً يصيح بأمان الناس وترك النهب ولا أمان على المفسدين. ولما كان يوم الخميس الرابع من الشهر المذكور جرد الجرائد إلى القرى في طلب المفسدين فكان يؤتى بهم ولا خطاب لهم إلا السيف.
وفي هذا التاريخ قيد الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي في المهجم وصدروا به إلى صعدة في جماعة من الخيل والرجل ولما صاروا به في حد بلاد القائد ففكه القائد وأطلقه وطرد العسكر الذين كانوا معه مجردين إلى صعدة وقال له القائد توجه حيث شئت فطلع حصن المنابر ثم نزل منه إلى ملحان وكان هنالك يومئذٍ العفيف عبد الله بن الهليس. ثم خرج من ملحان إلى الصباحي ثم إلى قرن عامر.
وفي آخر شهر شعبان خرج الطواشي من زبيد يريد القرشيين وكانوا قد انتقلوا إلى العرمة فقصدهم إلى هنالك فقتل منهم محمداً البابلي فارساً شجاعاً مشهوراً وقتل معهُ جماعة من الرجل فأرسلوا للأشراف إلى الكدراء وللعوارين إلى الجبل فوصلوهم فاجتمع من الأشراف والعوارين والقرشيين جمع كثير فقصدوا زبيد. وكان الطواشي مقيماً في القوز وكان يأمر العسكر بالركوب والتيسر إلى الأماكن النازحة. فلما كان يوم الأحد السابع عشر من رمضان ركب من العسكر نحو من مائة فارس وساروا نحو وادي رمع فواجههم الجم الغفير من الأشراف والعوارين والقرشيين. فأرسل المقدم من يعلم الطواشي ويستنجده وواجههُ القوم فقاتلوا قتالاً شديداً وثبت كل حزب للآخر. فبينا هم كذلك إذ وصل العسكر وهم مشتغلون في القتال فانهزم الأشراف والعوارين والقرشيون ومن معهم هزيمة شديدة وقتل منهم يومئذٍ نحو من خمسين رجلاً فيهم عدة من مشاهير العوارين وباقيهم من الأشراف والقرشيين. ولما كان أواخر شهر شوال نزل الأمير فخر الدين أبو بكر بن بهادر السنبلي في عسكر جيد من الباب الشريف فارتفع بعض الأشراف من الكدراء إلى المهجم.
وفي شهر ذي القعدة نزل من بني حمزة جماعة فلما دخلوا المهجم أقاموا فيها أياماً قلائل وخرجوا منها عاصين يريدون بلادهم. فلما صاروا في أثناء الطريق
قصدوا ملحان يريدون العفيف عبد الله بن الهليس فأكرمهم وانصفهم وأرسلهم إلى الأمير فخر الدين زياد بن أحمد فوصلوه في آخر ذي القعدة وفي أول ذي الحجة ارتفع السيد إبراهيم وبقية العسكر من الكدراء إلى المهجم حين سمعوا بوصول عسكر السلطان والأمير فخر الدين أبي بكر بن بهادر السنبلي. فلما كان يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة ارتفعوا من المهجم إلى المحالب فأمسوا فيها ليلة واحدةً وأمسوا سائرين لا يلوى أحد على أحد.
ودخل الأمير فخر الدين المهجم يوم السبت الحادي عشر من ذي الحجة ودخل الأمير فخر الدين أبو بكر السنبلي يوم الأحد الثاني من ذي الحجة المذكور فأقاموا في المهجم أياماً وتقدموا إلى حرض فأقاموا فيها أياماً قلائل ورجع زياد إلى السلطان وأقام ابن السنبلي بها مقطعاً.
وفي هذه السنة توفي الأمير الكبير شهاب الدين أحمد بن سمير وكانت وفاته في المصادرة ثاني يوم المحرم أول السنة المذكورة.
وفيها توفي الفقيه شمس الدين علي بن محمد بن يوسف العلوي تحت المصادرة أيضاً مع القاضي سراج الدين عبد اللطيف بن محمد بن سالم وفي سنة اثنتين وسبعين نزل السلطان إلى محروسة زبيد وكان دخوله المدينة يوم الخامس من جمادى الأولى وكان الوالي في زبيد يومئذ الأمير فخر الدين أبو بكر بن المفضل الخرازي ففصله عن ولاية زبيد وولاه مدينة فشال فقال مشايخ القرشيين فاعمل الحيلة في وصولهم إليه فلم يصلوا فأمَّر السلطان الأمير فخر الدين أبا بكر بن السنبلي في جماعة من العسكر إلى القرشية ولقيهم بن الخرازي من فشال. فلما صاروا في القرشية طلبوا مشايخ القرشيين لسبب المباشرة في بلادهم فوصل معظم المشايخ وتأَخر آخرون فأمر ابن السنبلي بالقبض عليهم وكانوا ستة عشر رجلاً فقيدهم ووصل بهم يوم السبت السادس عشر من الشهر المذكور. وكان صاحب القحمة قد لزم الشيخ محمد ابن حجر وأربعة من قرابته وأرسل بهم إلى السلطان فأودعهم السجن. فلما لزم مشايخ القرشيين كما ذكرنا أمر السلطان بتلف الجميع
فوسط منهم خمسة نفر وسمر ثلاثة وشنق الباقون. وذلك في يوم الأحد السابع عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة. وكان فيهم من مشايخ القرشيين وأعيانهم الشيخ علي بن محمد بن عمر بن غراب وولده الذي يقال له الكندروس والشيخ عمر حوالي وولده حميضه والشيخ محمد بن عمر بن عروة والشيخ محمد بن علاء الدين وأباح السلطان قريتهم وأجلاهم عنها واسكنها قوماً آخرين وتشتت القرشيون في البلاد وصاروا من طوائف الفساد.
وأقام السلطان في زبيد جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً وشعبان ورمضان وشوالاً وذا القعدة وذا الحجة. وفي ذي الحجة استمرَّ الطواشي أمين الدين أَهيف. وكان استمراره يوم الحادي عشر من ذي الحجة المذكورة فاستمر في ولايته إلى أن هلك في تاريخه الآتي ذكرهُ أن شاء الله تعالى. وهي الولاية المشهورة. كان يحكم وهو في زبيد على من في عدن وفي تعز ومن في حرض. وكان يحكم على ما وراء البحر من أهل عوان وزيلع وغيرها من البلاد الشاسعة. ذلك أنهُ كان إذا اشتكى إليه إنسان بغريم له غائب عن البلاد وأعمالها وكان في أي بلد من بلاد السلطان كتب له محضراً وأرسل بهِ جماعة من الجند والأعوان فإما أرضى خصمه وإلا وصل وقام بحجته فان امتنع عن الوصول أَو التسليم الزم الطواشي أهله وأقاربه أو وكيله أو عبيده بتسليم ما توجه عليه وان لم يكن له عاقلة في البلاد الزم الواصلين من أهل بلده الذي هو فيها إذ وصلوا إلى زبيد بتسليم ما يتوجه عليه. وكان السلطان قد أطلق يده في البلاد فلا يعلوا أمره أمر.
وفي سنة ثلاث وسبعين تقدم الركاب العالي إلى محروسة تعز في شهر المحرم. وفي هذه السنة نزل الشريف نور الدين محمد بن إدريس بن تاج الدين الحمزي في طائفة من الأشراف أصحاب المشرق ووافقهم الأمير نور الدين محمد ابن ميكائيل وانضم إليهم الشريف جمال الدين محمد بن سليمان بن مدرك فقصدوا حرض وكان فيها يومئذ الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي فعاثوا في البلاد. وطلع الأمير فخر الدين إلى باب السلطان مستمدّاً فكساه السلطان كسوةً فاخرة وانعم عليه وجرَّد
معه عسكراً من الباب وجماعة من بني حمزة وأمره أن يأخذ من الرتب ما شاءَ. فنزل في عسكر جرار وخزانة جيدة. وكان نزوله في أول شهر ربيع الآخر فتوجه نحو المهجم وقد استقرَّ فيها ابن ميكائيل وأصحابه المذكورون وابن همائيل ومن معهم. واشتد القتال بينهم ساعة من نهار ثم انهزم ابن ميكائيل وأصحابه الأشراف هزيمة شديدة وقتل الشريف محمد بن إدريس في نحو من مائة إنسان. وكانت الوقعة آخر النهار فلما حصلت الهزيمة في ذلك الوقت سترهم الليل فاتخذوا جملاً وحملت رؤوس المقاتيل إلى السلطان وهو في تعز. ثم نزل السلطان إلى تهامة في النصف من جمادى الأولى وسار الأمير فخر الدين إلى حرض ونواحيها فخالف عليه أهل جازان وانضم إليهم أصحاب المخلاف السليماني فقصدهم الأمير فخر الدين في عساكره إلى جازان وحط عليهم حتى أذعنوا إلى الصلح بعد أن قتل منهم جماعة في شوال.
وفي هذه السنة توفي الطواشي صارم أدين نجيب زمام الباب الشريف وكان سيد الزمامية في عصره حليماً كريماً خطاطاً كريم النفس حسن الأخلاق قل أن يكون مثله في أبناء جنسه وكان وفاته في مدينة الجوة وقبر هنالك رحمه الله تعالى.
وفيها توفي القاضي جمال الدين محمد بن حسان الوزير وكان رجل الزمان عاقلاً كاملاً لبيباً مهيباً صاحب البأْس الشديد والرأي السديد وكان سيد الوزراء في زمانه كامل الأوصاف حسن السيرة جيد التدبير نصوحاً لهُ عزم وحزم
قليل الكار لو كانت البيض والقنا
…
كآرائه ما أعيت البيض والرعف
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه
…
وتستعرف الألفاظ من لفظه حرف
رحمه الله تعالى وفيها توفي الفقيه الإمام البارع برهان الدين إبراهيم بن عيسى بن مطير الساكن في أبيات حسين من نواحي سردد وكان فقيهاً نبيهاً عالماً عاملاً صالحاً ورعاً زاهداً حسن المذاكرة مبارك التدريس محبوباً عند الخاص والعام توفي ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة من السنة المذكورة. وكان ميلادهُ ليلة الاثنين لأربع
بقين من شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه الفاضل المتقن المحقق جمال الدين أبو زيد محمد بن عبد الرحمن بن أبى السراج بن عثمان الأشعري السدوسي الحنفي. وكان فقيهاً عالماً عاملاً فطناً ذكيّاً ورعاً له فهمُ ثاقب ورأْيُ صائب تفقه بالفقيهين إبراهيم بن عمر العلوي وإبراهيم بن مهنا وأخذ علم الجبر والمقابلة عن الفقيه موسى بن علي النحلي المعروف بالجلاد. وله تعاليق حسنة واعتراضات جيدة واختصر شرح الخوارزمي. وكان مبارك التدريس حسن الإقراء مراعياً لطريقة مشايخه رحمه الله عليهم وتفقه به عدة من أهل المذهب. وكان لا تزال وصيته تحت رأسه فلما أحس بالموت آثر كل من كان له عليه شيءُ قلَّ أو كثر. وكانت وفاته في السنة المذكورة وعمره يومئذ ثلاث وخمسون سنة رحمه الله تعالى.
وفي سنة أربع وسبعين تقدم الركاب العالي من زبيد إلى تعز وكان تقدمه في أيام الخريف وكانت سنة كثيرة الأمطار فوقع على السلطان والعسكر في وادي المخيشيب مطر عظيم فامتلأَ الوادي ماءً وسال بطائفة من الناس فضلاً عن الجواب وغيرها.
وفي هذه السنة تولى الوزارة القاضي تقي الدين عمر بن أبى القاسم بن معيبد. وكان أحق من قيل له سيد الوزراء لما جمع الله فيه من الخصال الحميدة والأوصاف العديدة. وكان استمراره يوم الخميس الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
وفي هذه السنة تقدم السفراء إلى الديار المصرية مرة أخرى صحبة القاضي جمال الدين محمد بن علي الفارقي والأمير ناصر الدين محمد بن علي الحلبي وكان تقدمهم في شهر رمضان من السنة المذكورة.
وفي شوال تقدم السلطان إلى زبيد فسكنها واستوطنها وعمل الخفية فيها.
وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح المشهور أبو بكر بن محمد بن يعقوب السودي بفتح السين المعروف بابن ابي حربة. وكان أحد علماء الحقيقة ومشايخ
الطريقة عالماً عاملاً له كرامات مشهورة وكان فصيحاً يطعم الطعام ويكفل عدة من الأرامل والأيتام. توفي في جمادى الأخرى من السنة المذكورة في قرية الواسط من قرى مور ودفن فيها. وكان يوم وفاته ودفنه يوماً مشهوراً رحمه الله تعالى.
وفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة طلع السلطان من محروسة زبيد إلى مدينة تعز كعادته ونزل في شوال من السنة المذكورة فأقام فيها أياماً. ثم تقدم إلى النخل فتفرج فيه مدَّة. ثم سار إلى البحر من ساحل الأهواب فأقام هنالك إلى آخر السنة المذكورة.
وفي هذه السنة قتل الأمير الكبير سيد الأمراء فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي غيلة وخديعة في حد القحرية وكان يومئذ مقطعاً في الجثة فتزوّج امرأَةً من العرب وكان يتكرر إليها ويبيت معها. فلما كثر تكرره إليها ومبيته عندها رصده بعض بني عمها فدخل عليه وهو نائم فقتله رحمة الله عليه. وكان سيد الأمراء في زمانه لا يقاس بغيره ولا يقارنهًُ أَحد. وكان سريع النهضة عند الحادثة شجاعاً رئيساً جواداً نفيساً كثير العدل والأنصاف متحبباً إلى الرعية محبوباً عند كافة الناس. وكان قتله في ليلة الخامس من رجب من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفي شهر ذي الحجة من السنة المذكورة قتل الشيخ أبو بكر بن معوضة السيري صاحب بعدان غيلة على فراشه واحترز رأْسه وحمل إلى حضرة السلطان وكان أحد رجال الدهر وأًفراد العصر عزماً وحزماً وهو الذي استولى على حصون بعدان ونزع يده عن الطاعة.
وفي سنة ست وسبعين طلع السلطان من تهامة في أول السنة المذكورة بعد قتل السيري. ولما قتل الشيخ أبو بكر السيري كما ذكرنا كتب ولدهُ محمد بن أبي بكر إلى الإمام صلاح بن علي يستنجده على بلاد السلطان فانجده بنفسه في ما شاء من خيل ورجل. وجمع السيري جموعه وسارا جميعاً يريدان تعز فوصلا مدينة الجند يوم السادس من شهر رمضان فأقاما هنالك ثلاثة أيام. واستخدم السلطان جمعاً كثيراً من الفارس والراجل وكتب إلى كافة القبائل تحظ الطرق التي يمرُّ فيها الإمام
واستوحش الإمام أمره. وكان يقدّم الحزم في أموره كلها فاستمر راجعاً في غير الطريق التي جاء فيها وجدّ في السير حتى خرج من حدود بلاد السلطان وتعلق ابن السيري ببلده وحصونه وكان مبارز الرفدي ممن نزل إلى الأمام وسار معه وكثر سواده. فلما ارتفع الأمام من الجند كما ذكرنا جرد السلطان جماعة من العسكر للرفدي فأخذوه وجاءُوا به إلى السلطان فأمر السلطان بقتله وقتل ولم ينزل السلطان تهامة في هذه السنة.
وفيها تقدم إلى عدن في شهر شوال فجعل طريقه على الحج وأقام في عدن أياماً فنشر شيئاً من العدل ما لا يعهد وكسى النواخذ وأَبطل كثيراً مما أحدثه العمال وصار التجار تذكره بالجميل ونائله الجزيل إلى كل ناحية في البر والبحر. ثم تقدم أَبين فأقام فيها أياماً قلائل واصطاد كثيراً من حمر الوحش ثم رجع إلى عدن ولم يقم فيها إلا يومين أو ثلاثة أيام ثم سار إلى محروسة تعز.
وفي سنة سبع وسبعين وصل السفراء من الديار المصرية صحبة القاضي جمال الدين محمد بن علي الفارقي ووصلوا من الهدايا والتحف بشيءٍ كثير وكان وصولهم في شهر المحرم من السنة المذكورة.
وفي هذه السنة نزل الإمام صلاح بن علي إلى تهامة بجيوش عظيمة من الخيل والرجل فرأَى ولاة البلاد لا طاقة لهم به فانشمروا من البلاد إلى زبيد فاجتمعوا وسار الإمام في الجهات الشامية فنهبها عسكره وأخربوها وسار في عسكره وجموعه إلى مدينة زبيد فوصلها غرة شهر رجب من السنة المذكورة فأقام شرقي المدينة ثلاثة أيام وهو يدور كل يوم حول المدينة فلم يجد فيها طمعاً. ويقال انه طلع منارة جامع النويدرة فرأي في المدينة أمماً لا تحصى قد احتشدوا من كل ناحية فاجتمعوا فيها فراعه ما رأَى من كثرة الناس فيها. وكان الطواشي أَهيف في المدينة أميراً يومئذ قد طلب مشايخ القرى وأمرهم بجمع رجالهم وإن يكونوا على أهبة بينما يصلهم علمه وأن لا يتأخر منهم أحد فيعاقب اشد العقوبة. وكان قد عزم على أن يقصد المحطة في ليلة من الليالي بالعسكر الذي في زبيد وبكافة أهل القرى فوصله العلم من بعض أهل
القرى فانشمر راجعاً ولم يقف اكثر من ثلاثة أيام وسار في اليوم الرابع راجعاً.
قال علي بن الحسن الخزرجي عامله الله بالحسنى كنت يومئذ في مدينة زبيد فأخبرني رجل من أهل سهام لا اتهمه فيما اخبرني به. كان الإمام صلاح حاطّاً على باب المدينة في الناحية الشرقية قبل أن دخل المدينة بليلة أو ليلتين. قال رأَيت الليلة كان حصل قتال بين عسكر الإمام وأهل المدينة فبينما الناس يقتلون إذ خرج رجل من زبيد عظيم الخلقة طويل القامة على فرس كأعظم ما يكون من الجمال لا من الخيل وعلى الفرس والفارس ثياب كلها خضر وحوله من الناس جمع كثيف. فلما خرج في جمعه ذلك ورآه عسكر الإمام انهزموا بين يديه فتبعهم في ذلك الجمع فتوجهوا نحو الشام ولم يلتفت منهم أحد فكان آخر العهد بهم. فلما سمعت هذه الرؤْيا منه مع ما أعلم من صدق حديثه في جميع الحالات وحسن سيرته أيقنت بهزيمة القوم. فأصبح الإمام وجيشه متوجهين نحو الجهات الشامية في صبح ليلة الرؤْيا أو صبح الليلة الثانية والله أعلم.
وفي هذه السنة استمر الأمير ركن الدين عبد الرحمن علي بن الهمام في حَرَض والأعمال الرحبانية مقطعاً بها.
وفي شهر رمضان من السنة المذكورة جرَّد الأمير صارم الدين داود بن موسى بن حباجر إلى ناحية ذمار في عسكر كثيف من الخيل والرَّجل فقبض عدة حصون هنالك وأجابته العرب رعباً ورهباً واخرب قرىً كثيرة. فوجه الإمام جيوشاً عظيمة لقتاله فلم تقم لهم قائمة ثم جمع الإمام جموعاً أُخر واستنجد بأهل صنعاء ونصب خيامه في الحقل مقابلاً لمحطة ابن حباجر وأرسل عيونه يحققون له أخبار العسكر يوماً فيوماً وساعة فساعة حتى وصل إليه بعض عيونه مع القضاءِ السابق يخبره بافتراق العسكر في ذلك اليوم انه ليس في المحطة إلا نحو من أربعين فارساً فانتهز الفرصة وصدم المحطة بنفسه ومن معه في حال افتراق العسكر وكان في المحطة من الزيدية أناس كثير قد استخدمهم الأمير. فلما اصطدم العسكر أحاطوا حول الإمام فأُسر الأمير وقتل ناس من العسكر وانتهبت المحطة وذلك في شهر صفر من سنة ثمان وسبعين.
وفي سنة ثمان وسبعين طلع الأمير بدر الدين محمد بن إسماعيل بن إياس في العسكر المنصور مغيراً إلى الحقل ومنع عساكر الإمام من حدود البلاد السلطانية وأقام هنالك يشن الغوائر في كل ناحية وعلى كل قبيلة وبذل الأموال وملك قلوب الرجال.
وفي هذه السنة خالف الشريف محمد بن سليمان بن مدرك في حَرَض ونزع يده عن الطاعة ووافقه على الخلاف جماعة من الأشراف وقالوا بقوله وأَقام باقيهم على طاعة السلطان. فلما كان يوم الثاني عشر من جمادى الأولى حصل المصاف بوادي رحبان من أعمال حرض بين العسكر السلطاني والأشراف المخالفين فقتل الشريف محمد بن سليمان وقتل معه جماعة من أصحابه وأُخذت رءوسهم وحملت إلى زبيد ثم إلى تعز. وكان السلطان يومئذ في تعز بل في الجوة فقام برياسة الأشراف بعده يوسف بن سيف الدين وأخوه أحمد المسمى عصيرة. وكان صاحب حرَض يومئذ الأمير ركن الدين عبد الرحمن ابن علي الهمام.
وفي آخر جمادى الآخرة نزل السلطان من محروسة تعز إلى مدينة زبيد فدخلها أول يوم من رجب فأقام أياماً في قصره المعروف بالخورنق ثم سار إلى وادي رمع في طلب الصيد فاصطاد هنالك شيئاً كثيراً ورجع إلى قصره المعروف بالخورنق فأقام فيه.
ثم وصل ولدهُ مولانا السلطان الملك الأشرف من محروسة تعز. وكان وصوله إلى زبيد يوم الجمعة الرابع عشر من شعبان الكريم مطلوباً طلباً حثيثاً ليقضى الله أمراً كان مفعولا. فكانت مدة إقامته عنده ثمانية أيام من الجمعة إلى الجمعة.
ثم توفي السلطان الملك الأفضل يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان الكريم من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. فاتفق رأي الجماعة من رؤَساء الدولة على قيام ولده مولانا السلطان الملك الأشرف إسماعيل بن العباس بن علي بن داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول. فاجتمع كبراء الدولة وعظماؤُها وصلحاء الأمة وعلماؤُها وانعقدت بيعته المذكورة في التاريخ المذكور وحضر أمراء العسكر وكبراء
الأشراف ومشايخ العرب وحلف الجميع منهم وانتظمت الأمور وتقررت أحوال الناس ولم يمد أحد يده ولا رفع رأسه.
ثم شرعوا في جهازه وغسله وتكفينه والمسير به إلى تربته الشريفة بمدينة تعز المحروسة. وكان دفنه يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر شعبان الكريم. وكانت القراءَة عليه في سائر المملكة اليمنية سبعة أيام رحمهُ الله تعالى.
وكان ملكاً شهماً يقظاً حازماً عازماً أبيّاً ذكيّاً فقيهاً مشاركاً للعلماء في عدة فنون من العلم عارفاً بالنحو والآداب واللغة والأنساب وسير العرب وسير الملوك. وصنف عدة من الكتب منها كتاب نزهة العيوم في تاريخ طوائف القرون لم يحذ على مثاله ولم ينسج على منواله وهو كتاب نافع جدّاً وله أيضاً كتاب العطايا السنية في المناقب اليمنية يحتوي على طبقات فقهاء اليمن وكبرائها وملوكها ووزرائها. وله كتاب نزهة الأبصار في اختصار كنز الأخبار. واختصر تاريخ ابن خلكان. وله كتاب بغية ذوي الهمم في انساب العرب والعجم وله غير ذلك.
وهو الذي جدد سور زبيد وعمر خنادقها بعد أن انهدم سورها وخرجت خنادقها وأنفق في عمارة ذلك جملة مستكثرة. وأجرى للرعية في معظم جهات اليمن مزال الربع مما أزدرعوه وفي بعضها الخمس. وأجري لهم الذراع الشرعي في المساحة وبينه وبين الذراع الأرضي فرق. وكان كريماً جواداً يضع الهبات موضع التعب ووهب للشريف علي بن الهادي مائة ألف دينار ملكية زوادة له يوم تقدمه إلى بلاده. وكان شجاعاً جلداً شديد البأس قوي النفس قصده الإمام صلاح بن علي في جموع كثيرة لا تنحصر من الخيل والرجل لمواقعة ابن السيري. وجمع ابن السيري ما يجاوز حد الحصر فبلغ جمعهم الحوبان. وكان يومئذٍ مقيماً بثعبات فما تزلزل ولا تحول. وولي الملك في قطر اليمن وفي البلاد من طوائف الفساد ما يزيد على ألفي فارس فضلاً عن القرناءِ والأضداد ففرَّق كلمتهم واستأصل شأفتهم.
وكان له من المآثر الدينية المدرسة التي أنشأها في مدينة تعز في ناحية الجبيل
منها. أمر فيها بعمارة منارة لم يكن في البلاد مثلها وذلك إنها على ثلاث طبقات الأولى مربعة الشكل صحيحة الأركان والطبقة الثانية مثلثة الأركان قائمة الحروف والطبقة الثالثة مسدسة الشكل عجيبة المنظر. ورتب في المدرسة المذكورة إماماً ومؤذناً وقيماً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن ومدرساً في الشراع الشريف ومعيداً وعشرة من الطلبة ومحدثاً وشيخاً صوفيّاً ونقيباً وفقراء وطعاماً للفقراء الوردين فأوقف عليهم أطياناً ونخلاً وكروماً ورباعاً ما يقوم بكفاية الجميع منهم.
وابتنى مدرسة في مكة المشرفة قبالة باب الكعبة المعظمة ورتب فيها مدرساً ومعيداً وعشرة من الطلبة وإماماً ومؤَذناً وقيماً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن الكريم وأوقف عليها وقفاً جديداً. وله كثير من الآثار الحسنة والسير المستحسنة. وتوفي عن سبعة أبناء ذكور كلهم أكبرهم السلطان الملك الأشرف إسماعيل. والثاني عبد الله المنصور. والثالث علي المجاهد. والرابع محمد المفضل. والخامس أبو بكر المؤَيد. والسادس عمر المظفر. والسابع عثمان الفائز. والثامن داود مات صغيراً قبل أبيه.
وكان وزيرهُ القاضي جمال الدين محمد بن حسان. فلما توفي في تاريخه المذكور استوزر بعده القاضي تقي الدين عمر بن القاسم بن معيبد ورثاه جماعة من الفضلاء بعدة من القصائد المختارات ونال الناس عليه حزن شديد. تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوح جنته. وقد أثبت من جميع ما رثي به من الشعر قصيدة نظمتها يومئذ لما عزب عليّ حفظ غيرها فجعلتها سداداً من عوز وهي
بكت الخلافة والمقام الأعظم
…
والملك والدين الحنيف القيمُ
والشمس والقمر المنير كلاهما
…
والأرض تبكي والسما والانجم
والبيت والحرم الشريف بمكةٍ
…
والحجر والحجر اليماني الأسحم
والبيض والبيض المهندة الظبا
…
والسمهرية والقسي والأسهم
ومدارس العلم الشريف وأهله
…
والمسلمون فصيحهم والأعجم
جزعاً على الملك المتوَّج بالبها
…
من قبل يعقد تاجه وَينظم
الأفضل بن علي الذي ساد العلى
…
وبنى منار المجد وهو مهدَّم
وحمى ثغور المسلمين بعزمه
…
والسيف يقطر من جوانبه الدم
الأروع الطلق الفرافصة الهصو
…
ر القسور الورد الهزبر الضيغم
والعارض الهتن الأجش المرجحن
…
الوابل الغدق الملث المثجم
والصارم الذكر الجاز المشرفي
…
القاطع العضب العضوض المخذم
ومصرف الملك الجموح ولم يزل
…
بالسيف ينقض ما يشاءُ ويبرم
ملكُ له عنت الملوك وأذعنت
…
قهراً ودان الأغلب المتعظم
وأطاعهُ الدهر العصيُّ وأهله
…
طوعاً وكرهاً كافر أو مسلم
فأتاه حكم الله جل جلاله
…
وهو المليك العدل فيما يحكم
حكم على كل البرية لم يكن
…
مستأخر فيهم ولا مستقدم
فتغيّر القمر المنير لفقده
…
والشمس كاسفة تنوح وتلطم
والأرض راجفة تميد بأهلها
…
والجوّ مُغْبَرّ الجوانب مظلم
وبكل أرضٍ من تهامة حسرة
…
وبكل بيتٍ في زبيد مأتم
نزلت ملائكة السماءِ لدفنه
…
وملوك يعرب في العزاء تقدموا
سبأ وحمير والعريحج وابنه
…
وزهير الشامي وياسر ينعم
والصعب ذو القرنين والهدهاد والصم
…
باح ذا يبكي وذا يترحَّم
وأتى أبو كرب وحسان ابنه
…
وشقيقه وأبو الضجاعم ضجعم
وملوك غسان ولخم وكندة
…
وأبى الجلندي وابنه والأَيهم
وأتى الشهيد ويوسفُ وسليله
…
عمر وداود الهزبر الضيغم
وعلي بن داود المجاهد قائم
…
يبكي ومدع العين قانٍ عندم
يا وحشة الدنيا ووحضة أهلها
…
إذ قيل مات التبعيُّ الأَعظم
من للمواكب والكتائب في الوغى
…
والخيل في أرسلنها تتحمحم
من للطغاة وللبغاة مدمر
…
من للضلال وللفساد مهدّم
من للكتاب يفضه ويحجب عن
…
مضمونه في صدره ويترجم
هيهات ولي الفضل بعدك كله
…
والجود ولي والعطا والأَنعم
يا أيها الليث الهصور لدي الوغى
…
يل أيها البر الرحيم الأكرم
يا أيها الجبل الأشم المرتقى
…
يا أيها البحر الخِضَمَُ الخضرم
يا أَيها القمر المنير ضياؤُه
…
يا أَيها الغيث الهتون المثجم
غالتك غائلة الردى صرفاً ولم
…
يغن الحسام ولا اللسان اللهذم
كلا ولا خولُ ولا حشمُ ولا
…
خدمُ ولا مالُ به يستخدم
فسقالك من سحب الرضا مغدودوق
…
وأهلا العرى مسحنفر لا يثجم
في كرم يوم بكرة وعشية
…
ما غرَّدت ورُقُ ولاحت أنجم
فلئن ذهبت فلما ذهبت حقيقةً
…
ولئن مضيت فما مضت لك أنعم
ودَّعتنا وتركت فينا ماجداً
…
يبني مآثر جفَنَةٍ ويتمم
الأشرف الملك الذي في تاجه
…
قمر يلوح وفي المقامة ضيغم
الحازم اليقظ الجواد اليعربي
…
الهزبري الأَفعوان الأَرقم
والقائد الخيل العتاق إلى الوغى
…
سعياً تعادى بالكماة تحمحم
بين الصواهل والعواسل والظبا
…
قمر الخلافة زندها والمعصم
وأخو الفضائل والفواضل والذي
…
في كل كف منه بحر خضرم
ملك له شم الملوك خواضعُ
…
محك إذا التقت الجيوش غشمشم
ليث لدى الهيجاء في عريسهِ
…
متهللُ لوفوده متبسم
من آل جفنة من بني ماء السما
…
من سرّ غسان الذين هم هم
ذو سيرة مرضية ما شادها
…
في عصره الرَّاضي ولا المستعصم
طلق الجبين أغر لا فظُّ ولا
…
جهمُ ولا متكبرُ متعظم
فالله يسعدهُ ويمتعنا به
…
ما دام فوق الأرض يمشي مسلم
ويزيده ملكاً إلى الملك الذي
…
أولى ويكفيه الردى ويسلم
ما جن ليلُ وانجلى صبح وما
…
باتت حمامات الحمى تترنم