الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع نظرة في تاريخ العقيدة
هل تطورت العقيدة عبر الزمان
يرى كثير من الباحثين الغربيين أن الإنسان لم يعرف العقيدة على ما يعرفها عليه اليوم مرة واحدة، ولكنها ترقت، وتطورت في فترات وقرون متعاقبة.
ولا عجب أن يقول بهذا القول الباطل قوم لم يمنحهم الله كتابه الذي يحكي تاريخ العقيدة بوضوح لا لبس فيه، إلا أن العجيب أن يذهب هذا المذهب رجال يعدون أنفسهم باحثين مسلمين.
فهذا عباس محمود العقاد يرى في كتابه (الله)(1) - وهو كتاب يبحث في نشأة العقيدة الإلهية - أن " الإنسان ترقى في العقائد "، ويرى أن ترقي الإنسان في العقائد موافق تماماً لترقيه في العلوم.
ويقول: " كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليس أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليس عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى ".
بل يرى أن تطور العقيدة لدى الإنسان كان أشق من تطور العلوم والصناعات، يقول في هذا:" وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدّين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات؛ لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى ".
(1) نشرته دار الهلال - القاهرة: انظر: ص: 10 وما بعداه.
ويرى أن الحقيقة الإلهية لم تتجل للناس مرة واحدة، يقول:" فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدلّ على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، كل ما يدلّ عليه أنّ الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد ".
ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة، فمنهم من يرى أنّ السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى الطبيعة والأحياء،
…
وبعضهم يرى أن العقيدة الدينية حالة مرضية في الآحاد والجماعات، ويرى بعضهم أن أصل العقيدة الدينية عبادة ((الطوطم)) ، كأن تتخذ بعض القبائل حيواناً (طوطمياً) تزعمه أباً لها. وقد يكون شجراً أو حجراً يقدسونه، إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين الغربيين.
ومع الأسف فقد سرت هذه النظرية (1) إلى كثير من الكتّاب، واعتنقها جملة من الدارسين (2)، والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ أمور:
الأول: أنهم قدّروا أن الإنسان الأول خُلق خلقاً ناقصاً، غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، بل إن تصوراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.
الثاني: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى العقيدة بنفسه بدون معلم يعلمه، ومرشد يوضح له. فما دام الأمر كذلك فلا بد أن يترقى في معرفته بالله كما ترقى في العلوم والصناعات.
الثالث: أنهم عندما بحثوا في الأديان ليتبينوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المحرفة أو الضالة، فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تمثل انحراف الإنسان في فهم العقيدة.
(1) ممن جنح إلى القول بهذه النظرية مصطفى محمود في كتابه (الله) .
(2)
لست أدري أي عقيدة هذه التي تطورت، أهي العقيدة اليهودية المحرفة، أم النصرانية المبدلة، أم عقيدة الفلاسفة
…
إن هذه العقائد لا تمثل إلا انحرافات عقائدية، ولا تمثل العقيدة السليمة.
القرآن وحده يوضح تاريخ العقيدة:
ليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله سبحانه وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً لأسباب:
الأول: أن ما نعرفه عن التاريخ قبل خمسة آلاف عام قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فيعتبر أقل من القليل، وما قبل ذلك فيعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
الثاني: أن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف، ومما يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر الحديث تعتبر من أشقّ الأمور، فكيف بتاريخ يمتدّ إلى فجر البشرية؟ !
الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل في السماء.
لذا فإن الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى (إنَّ الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء)
[آل عمران: 5] .
تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم
أعلمنا الله سبحانه أنه خلق آدم خلقاً مستقلاً سوياً متكاملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأباح له أن يأكل هو وزوجته منها كيف شاءا إلا شجرة واحدة، فأغراه عدوّه إبليس بالأكل من الشجرة، فأطاع عدوه، وعصى ربّه، فأهبطه الله من الجنة إلى الأرض، وقبل الهبوط وعده الله - سبحانه - بأن ينزل عليه وعلى ذريته هُداه، كي يعرف الإنسان بربه ومنهجه وتشريعه، ووعد المستجيبين بالهداية في الدنيا والسعادة في الأخرى، وتوّعد المستكبرين بالمعيشة الضنكة في الدّنيا وبالشقاء في الآخرة:(قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمَّا يأتينَّكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - والَّذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا أولئِك أصحاب النَّار هم فيه خالدون)[البقرة: 38-39]
وفي سورة طه يقول: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ فإمَّا يأتينَّكم مني هدىً فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى - ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى - قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً - قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)[طه: 123-126] .
الجيل الأول من البشرية كان على التوحيد:
هبط آدم إلى الأرض، وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص كما قال الله تعالى:(كان النَّاس أمَّةً واحدة ً)[البقرة: 213]، أي على التوحيد والدين الحق فاختلفوا (فبعث الله النَّبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقَّ ليحكم بين النَّاس فيما اختلفوا فيه) [البقرة: 213] ، وفي حديث أبي أمامة أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: (نعم،
مكلم) قال: قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال (عشرة قرون) رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. وقال ابن كثير: " هذا على شرط مسلم، ولم يخرجه ". (1)
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: (وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) . (2)
ومقدار القرن مائة سنة، وعلى ذلك يكون بين آدم ونوح ألف سنة.
وقد تكون المدة بينهما أكثر من ذلك، إذ قيد ابن عباس هذه القرون العشرة بأنها كانت على الإسلام، فلا ينفي أن يكون بينهما قرون أخرى على غير الإسلام.
وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس كما قال تعالى: (وكم أهلكنا من القُرُونِ من بعد نوحٍ)[الإسراء: 17]، وقوله:(ثمَّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخَرِينَ)[نوح: 23] . (3)
أول انحراف عن العقيدة وأول رسول:
وبعد أن كان الناس أمة واحدة على التوحيد حصل الزيغ والانحراف، وكان أول انحراف حدث هو الغلو في تعظيم الصالحين، ورفعهم إلى مرتبة الآلهة المعبودة.
ففي صحيح البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى: (وقالوا لا تذرُنَّ آلهتكم ولا تذرُنَّ ودّاً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً)[نوح: 23] . قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك
(1) البداية والنهاية: 1/101.
(2)
البداية والنهاية: 1/101.
(3)
راجع البداية والنهاية: 1/101.
أولئك، وانتسخ العلم (نُسي ودرس) عُبدت ". (1)
فهذا أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد، فأرسل الله إليهم أول رسله نوحاً عليه السلام مصداقاً لوعده الذي أعطاه لأبي البشر آدم بإرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للبشرية.
والدليل على أن نوحاً كان أول رسول مبعوث حديث الشفاعة الثابت في الصحيح، وفيه:(أن الناس يأتون بعد آدم نوحاً فيقولون له فيما يقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً)(2) . والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا تدل دلالة واضحة على أن نوحاً قد دعا إلى التوحيد الخالص، فقد قال لقومه:(اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره إني أخافُ عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ)[الأعراف: 59]، وقال:(أن لَاّ تبعدوا إلَاّ الله إني أخافُ عليكم عذاب يومٍ أليمٍ)[هود: 26] وقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره أفلا تتَّقون)[المؤمنون: 23] .
والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس، وتنكّر لها السادة والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والذكاء حيث استكبروا عن متابعة الحق:(قال الملأ ُ من قومه إنَّا لنراك في ضلالٍ مُّبينٍ)[الأعراف: 60] والملأ المذكورون في الآية هم السادة والكبراء، وقالوا له:(وما نراك اتَّبعك إلَاّ الَّذين هم أراذلنا بادي الرَّأي)[هود: 27] ؛ أي: اتبعوك بدون تأمل عميق، وتفكير ونظر، وهذا الذي رموهم به هو ما يجب أن يُمدحوا به، فإن الحق إذا ظهر لا يحتاج إلى نظر، بل يجب اتباعه.
وتعجبوا أن يبعث الله رسولاً بشراً فقالوا: (ما نراك إلَاّ بشراً مثلنا)[هود: 27] ، (فقال الملأُ الَّذين كفروا من قومه ما هذا إلَاّ بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضَّل عليكم ولو شاء
(1) صحيح البخاري: 8/667. ورقمه: 4920.
(2)
رواه مسلم: 1/185. ورقمه: 194.
الله لأنزل ملائِكةٍ) [المؤمنون: 24]، وطلبوا منه أن يطرد الضعفاء والمساكين الذين تابعوه فرفض طلبهم (وما أنا بطارد الَّذين آمنوا إنَّهم مُّلَاقُو ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون) [هود: 29] .
وقد تطاول الزمان وكثرت المجادلة بينه وبينهم كما قال الله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنةٍ إلَاّ خمسين عاماً)[العنكبوت: 14] فدعا عليهم: (وقال نوحٌ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً - إنَّك إن تذرهم يضلُّوا عبادك ولا يلدوا إلَاّ فاجراً كفَّاراً)[نوح: 26-27] فأهلكهم الله بالطوفان: (وقوم نوح لَّمَّا كذَّبوا الرُّسل أغرقناهم)[الفرقان: 37] ، وأنجى نوحاً والمؤمنين برحمة منه، وخلت الأرض من الظالمين، ولم يبق فيها إلا الموحدون، فلما انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسولاً (ثمَّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين - فأرسلنا فيهم رسولاً منهم) [المؤمنون: 31-32] ، فدعاهم إلى توحيد الله (أن اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره) [المؤمنون: 32] .
وهكذا استمرت رحمة الله وعنايته ببني آدم كلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم هُداه يضيء لهم الظلمات: (ثُمَّ أرسلنا رسلنا تترا كلَّ ما جاء أمَّةً رَّسولها كذَّبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقومٍ لَاّ يؤمنون)[المؤمنون: 44] .
هذه هي قصة البشرية الحقيقية صراع طويل بين الحق والباطل، بين الرسل الذين يعرضون الهدى والحق، وبين الضالين المعرضين عن التوحيد المتمسكين بما ألْفَوْا عليه الآباء والأجداد، وبأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة: (ألم يأتكم نَبَأُ الَّذين من قبلكم قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والَّذين من بعدهم لا يعلمهم إلَاّ الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به وإنَّا لفي شكٍ مّمَّا تدعوننا إليه مُريبٍ - قالت رسلهم أفي الله شكٌّ فاطر السَّماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ
مُّسمّىً قالوا إن أنتم إلَاّ بشرٌ مثلنا تريدون أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطانٍ مُّبينٍ) [إبراهيم: 9-10] .
وبالتأمل في دعوة الرسل التي عرضها القرآن تتبين لنا الحقائق التالية:
الأولى: أن الله خلق الإنسان منذ البداية خلقاً سوياً مكتملاً لغاية محددة، هي عبادته، وأن خلقه مؤهلاً لذلك.
الثانية: أن الله عرفه على نفسه منذ البداية، ولم يتركه لفكره يتعرف على ربه بطريق التفكير والتأمل، بل أرسل إليه رسلاً، وقد كان هؤلاء الرسل من الكثرة بحيث إنهم بلّغوا البشرية كلها (وإن من أمَّةٍ إلَاّ خلا فيها نذيرٌ) [فاطر: 24] .
لذا فإننا لا نعلم أسماء جميع الرسل الذين أرسلهم الله (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم مَّن قصصنا عليك ومنهم مَّن لَّم نقصص عليك)[غافر: 78] .
ومما يدل على ذلك أن الأمم المكذبة في يوم القيامة تقر وتعترف بتبليغ الرسل لها دعوة الله قوله تعالى: (كلَّما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيرٌ - قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم إلَاّ في ضلالٍ كبيرٍ)[الملك: 8-9]
وما هذا التتابع في إرسال الرسل على مدار التاريخ إلا رحمة من الله بعباده، ووفاء بوعده الذي وعد به آدم أبا البشرية، وإعذاراً منه لخلقه:(لئلَاّ يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسل)[النساء: 165]، (وما كُنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً) [الإسراء: 15] .
الثالثة: دعوة الرسل واحدة، فأصل دعوتهم جميعاً ولبها التوحيد، بتعريف الناس على ربهم ومعبودهم، وبيان الطريقة التي يعبدونه بها.
الرابعة: أن دين الرسل جميعاً الإسلام لا دين لهم سواه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)[آل عمران: 85] فنوح يقول: (وأمرت أن
أكون من المسلمين) [يونس: 72] . وقال الله عن التوراة: (يحكم بها النبيُّون الَّذين أسلموا للَّذين هادوا)[المائدة: 44]، وقال موسى لقومه:(إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكَّلوا إن كنتم مُّسلمين)[يونس: 84] ، وأمر الله خليله إبراهيم بالإسلام، فقال:(أسلمت لرب العالمين)[البقرة: 131]، (ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إنَّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنَّ إلَاّ وأنتم مُّسلمون) [البقرة: 132] .
وعندما سأل يعقوب بنيه عن معبودهم من بعده (قالوا نعبد إلهك وإله آبائِك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)[البقرة: 133]، وملكة سبأ قالت:(رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)[النمل: 44]، ويوسف كان من دعائه:(توفَّني مسلماً وألحقني بالصالحين)[يوسف: 101]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(والأنبياء إخوة لعلاّتٍ، أمهاتُهم شتى ودينهم واحد) . (1)(2)
وهذا التنوع الذي نراه في الشرائع لا يدل على أن دينهم كان مختلفاً؛ لأن الله قد يشرع أمراً لحكمة، ثم يشرع أمراً آخر في وقت آخر لحكمة أخرى، بل قد يكون هذا في الشريعة الواحدة، كما شرع الله في بداية الأمر الاتجاه إلى بيت المقدس في الصلاة، ثم نسخ ذلك بأن أمر بالتوجه إلى البيت الحرام فكان الإسلام أولاً التوجه إلى القدس، ثم أصبح التوجه إلى الكعبة، وكذلك شرائع الأنبياء، فالمتأخر ينسخ المتقدم، وأصبحت الشريعة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الخاتمة الناسخة لما قبلها من الشرائع.
الخامسة: ليس الترقي في الاعتقاد عبر القرون هو السبب في الشرك
(1) رواه البخاري: 6/478، ورقمه:3443.
(2)
إخوة لعلات هم الأخوة لأب، أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، وكذلك الأنبياء دينهم واحد وشرائعهم مختلفة.
واتخاذ معبودات من دون الله كما ذهب إليه (العقاد) والذين تابعهم من الغربيين، بل سبب انحراف أتباع الرسل عما جاءت به الرسل، وتركهم ما جاءت به الرسل (ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً) [طه: 124] ، واتباعهم الظن والهوى وتركهم الهدى:(إن يتَّبعون إلَاّ الظَّنَّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من رَّبهم الهدى)[النجم: 23]، (ولا تتَّبعوا أهواء قومٍ قد ضلُّوا من قبل وأضلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواء السَّبيل) [المائدة: 77] .
وقال في اليهود: (فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به)[المائدة: 13]، وقال في النصارى:(ومن الَّذين قالوا إنَّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)[المائدة: 14] وقال فيهم مبيناً انحرافهم عن التوحيد الذي أمروا به: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلَاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلَاّ هو سبحانه عمَّا يشركون)[التوبة: 31] .
لذا فإن الرسل يتبرؤون من الذين انحرفوا عن منهجهم (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علَاّم الغيوب - ما قلت لهم إلَاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربَّكم)[المائدة: 116-117] .