المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرتبة الخامسة: الكلام في أفعال العباد - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٧

[ابن الوزير]

الفصل: ‌المرتبة الخامسة: الكلام في أفعال العباد

‌المرتبة الخامسة: الكلامُ في أفعال العباد

.

وإنما قدمت (1) الكلام في المراتب الأربع، لأنها أساس الكلام فيها (2)، وهي من فضلات المسائل وفروعها، والأصل المُعتَمَد في الباب مسألة الإرادة، ولذلك أهمل الغزالي مسألة الأفعال والخوض فيها في كتابه " الاقتصاد " فأصاب.

ومن اعتقد نفوذ مشيئة الله تعالى، وأن العبد فختار، وأنه غير مُستَقِلٍّ بنفسه، فقد استغنى عن الخوض فيه، عدا ذلك.

وإنما تكلمتُ على مسألة الأفعال لِغَلَطِ المعتزلة على أهل السنة فيها، وجهل كثيرٍ من أهل السنة بمذهب (3) أئمتهم فيها، فيجب الإمساك عن الخوض فيها، والتحقيق (4) في البحث عنها، وأكثر الناس لا يصبر عن الخوض فيما لا يعنيه، ولا يتكلم بتحقيق ما يخوض فيه، وهذا هو الذي أفسد الدِّين والدنيا، فرحم الله من تكلَّم بعلم، أو سكت بحِلْمٍ.

واعلم أنه لا خلاف بين المسلمين أن للعباد أفعالاً مضافةً إليهم يسمون بها مطيعين وعصاة، ويثابون على حَسَنِها، ويستحقون العقاب على قبيحها (5)، وأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، وله الحجة البالغة لا عليه، وأن عقابه لمن

(1) في (ش): قدمنا.

(2)

في (ش): فيهما، وهو خطأ.

(3)

في (أ): لمذاهب، والمثبت من (ش).

(4)

في (أ): أو التحقيق، والمثبت من (ش).

(5)

في (ش): قبحها.

ص: 5

عاقبه (1) منهم عدل منه لا جَوْرَ فيه ولا ظلم. وعلم جميع (2) هذا ضرورة من الدين (3).

وأجمعوا على أن أفعال العباد اختيارية غير اضطرارية، وأن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب ضروري، إلَاّ من لا يُعْتَدُّ به في الإجماع مِنْ سَقَطِ المتاع الذين لم يرجعوا (4) إلى تحقيق في النظر، ولا إلى حسن في الاتباع، ولا لهم في ذلك سَلَفٌ ماضٍ، ولا خَلَفٌ باقٍ، وهؤلاء هم الجَبْرِيَّة.

فالجبرية الخالصة، منهم الذين لا يثبتون للعبد قدرة أصلاً، والجبرية المتوسطة، منهم من يثبت للعبد قدرة، ولكن غير مؤثرة أصلاً. ذكرهما الشهرستاني في " الملل والنِّحَل "(5).

قال: فأما من أثبت (6) للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل (7)، وسمى ذلك كسباً، فليس بجبري.

ثم اختلف القائلون بالاختيار وتأثير قدرة العبد في العبارات اختلافاً متباعداً في المعنى.

والأصل في ذلك أن من ترجم عن أصول الأشياء ورجوعها إلى الله تعالى في الابتداء والانتهاء، وكونها بتقديره وتدبيره، أوجبت (8) عبارته نفي الاختيار.

ومن ترجم عن كمال حجة الله على عباده وتمكينهم وبيانه لهم، أوهمت عبارته استقلالهم بأنفسهم، واستبدادهم بحولهم وقوتهم.

(1) قوله: " لمن عاقبه " سقط من (ش).

(2)

لفظة: " جميع " لم ترد في (ش).

(3)

تحرف في (ش) إلى: البين.

(4)

في (ش): لا يرجعون.

(5)

1/ 85.

(6)

في (أ) و (ف): يثبت، والمثبت من (ش).

(7)

قوله: " في الفعل " لم يرد في الأصول، وأثبته من كتاب " الملل والنحل ".

(8)

في (أ) و (ف): أوجب، والمثبت من (ش).

ص: 6

ومن (1) قصد من الطائفتين شيئاً من ذلك، فقد ضلَّ وابتدع، وخالف دليل العقل والسمع وإجماع السلف.

والذي أجمعت عليه فِرَق أهل السنة أن العبد غير مستقل بنفسه، وذلك لما يجده العاقل من الضرورة والفطرة العقلية من شدة الحاجة إلى إعانة ربه عز وجل ومالكه له في كل أمر مع علمه الضروري بالتمكين وطلب الاستعانة من ربه فيه، وعدم الهم والعزم فيما لم يُقدره الله عليه (2)، وعدم الطلب للاستعانة (3) عليه.

ومن هنا قال الله تعالى في فاتحة الكتاب التي يقرأ بها كل مصلٍّ في فرائضه سبع عشرة مرة في كل يومٍ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6] فطلب الإعانة والهداية أوضح دليلٍ على عدم الاستقلال والكفاية، وعلى أن للعبد فعلاً يستعين بالله عليه، ويحتاج في تمامه إليه، ولا يمنع من ذلك ورود الأمر به في قوله تعالى:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

فقد قال تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلَاّ بالله} [النحل: 127] فأمر سبحانه بالصبر، ومنع استقلال أكمل عباده به.

وعلى ذلك نبَّه القرآن الكريم في قراءة " المخلَصين " بفتح اللام وكسرها في السبع المتواترة في غير آية من كتاب الله عز وجل وأمثال ذلك كما مضى في مرتبة الأقدار (4).

واعلم أن مراد أهل السنة بخَلْقِ الأفعال المبالغة في تنزيه الرب سبحانه من الشرك في الخلق لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وليس غرضهم نفي حجة الله.

(1) في (أ) و (ف): إن، والمثبت من (ش).

(2)

في (ش): فيما لم يقدر عليه.

(3)

في (ش): طلب الاستعانة.

(4)

في (ش): الأفعال.

ص: 7

وكذلك تُثبِتُ كل طائفة منهم أمراً يستحق عليه العبد الجزاء كما سيأتي.

وهذه نكتة نفيسة جداً، فهذا القدر هو الذي أجمع أهل السنة عليه في الجملة، ثم اقتصر أهل الحديث عليه، ومَنْ تجاوزه، فقد دخل في علم الكلام على قدر مجاوزته.

واختلف أهل الكلام منهم في تفصيل (1) هذه الجملة وتعيين أثر قدرة الرب عز وجل، وأثر قدرة العبد، وتمييز أحد الأثَرَيْنِ على الآخر، وانتهى الأمر في ذلك إلى الدِّفَّة والغموض على كل مذهب، حتى قالت المعتزلة: إن الذوات ثابتةٌ في الأزل (2)، وهي غير مقدورةٍ لله عز وجل، والوجود حال غير مقدور له سبحانه ولا لخلقه.

وقالت الأشعريةُ لهم: إذا كان كذلك، كان التكليف بالإيجاد تكليفاً بالمحال، لأن الوجود والموجود عند المعتزلة غير مقدورين.

فأجابت المعتزله بأن المقدور الذات على صفة الوجود، لا كل واحد منهما منفرداً.

قالت الأشعرية: هذه عبارة لا طائل تحتها، لأن المراد بذلك إما الذات (3) وحدها، أو الوجود وحده، أو مجموعهما، وليس في العقل قسمةٌ وراء ذلك، وعندكم الأقسام الثلاثة غير مقدورة، فيكون التكليف بتصوُّر القسم الرابع محالاً فضلاً عن التكليف بتحصيله.

ومن المعتزلة من ألجأه هذا الالتزام (4) بأن المقدور هو الوجود لا الموجود، ويحتاج إلى إقامة برهان قاطع على تغايرهما، وبين أذكياء العقلاء في هذا نزاعٌ كثير، ومباحث غامضة.

(1) لفظة: " تفصيل " لم ترد في (ش).

(2)

في (ش): العدم.

(3)

في (ش): الذوات.

(4)

في (ش): الإلزام.

ص: 8

واعلم أن الذي ألجأ المعتزلة إلى إثبات الذوات في العدم استبعاد أن يتعلق العلم بغير شيءٍ حقيقي في الأزل، وقد اضطرهم ذلك إلى أبعد منه وهو تعليقهم القدرة بغير شيء حقيقي فيما لم يزل (1)، لأن الأشياء الحقيقية تثبت عندهم في الأزل لتعلق العلم بها، فلَيتَهم قَنِعوا في متعلق العلم بنحو ما قَنِعوا به في متعلق القدرة، وعكسوا مذهبهم في المسألتين كما فعل أهل السنة، بل كما فعل أصحابهم أصحاب أبي الحسين (2) الذين سَلِموا من هاتين الشَّناعَتَيْن.

وفي هذا من الرِّكَّة والدقة ما ترى، وإنما قدمته لك قبل مذاهب الأشعرية حتى لا تستنكر ما ترى في بعضها من الدقة أو الركة، فإن أركها لا يزيد في الضعف على هذا، ولا يلزم منه أفحش مما يلزم من هذا.

فطوبى لأهل الحديث والأثر، وهنيئاً لهم السلامة ولذة الخشوع والتلاوة والمناجاة، واتباع الرسل (3) عليهم الصلاة والسلام، ولولا محبتهم ومحبة الذَّبِّ عنهم (4)، وعن علمهم الذي ورَّثَه الرسول صلى الله عليه وسلم ما رَضِيتُ أن أرسم من هذا لفظة، ولا أُفرِّط لأجله في لحظة، ولولا مشاركة الأشعرية لهم (5) في رواية الحديث والتفسير، وقدح المعترض في السنة النبوية بروايتها عمن يخالف المعتزلة، وتعرُّضُه (6) لتكفير الرواة وتحريم الرواية عنهم، ما احتجت إلى تحقيق مذاهبهم، وتلخيص مقاصدهم.

وإنما قصدتُ إيضاحها ليظهر عدم ما ادَّعاه من أنهم تعمدوا جحد المعلوم

(1) من قوله: " وقد اضطرهم " إلى هنا، سقط من (ش).

(2)

هو محمد بن علي البصري المعتزلي، المتوفى سنة (436 هـ)، صاحب كتاب " المعتمد " في الأصول.

(3)

في (أ) و (ف): الرسول، والمثبت من (ش) وهو الصواب.

(4)

في (ش): عليهم، وهو خطأ.

(5)

في (أ) و (ش) و (ف): ولولا شاركهم الأشعرية في

(6)

في (أ) و (ش) و (ف): تعرض.

ص: 9

ضرورةً من الدِّين، وربما حصل للسني (1) برؤية الأمور الاعتبارية، والاغتباط بعلمه، فإن من لم يعرف علم الكلام ربما جوَّز أنهم على حقائق قد فازوا بمعرفتها دون الخلق، فلا بأس عندي بالنظر فيه لذلك ممن هو كامل الإيمان من غير تحكيمٍ للرأي على السنة والقرآن، ولا يوجد في النصوص الصحيحة ما يُحرِّم هذا القَدْرَ (2)، والله أعلم.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن الأشعرية والمعتزلة قد افترقوا في ذلك عشر فِرَقٍ أو أكثر من ذلك.

الفرقة الأولى من المعتزلة: ذهبت إلى أن فعل العبد جعل الذات الثابتة عندهم في العدم على صفة الوجود، فإن تلك الذات غير مقدورةٍ ولا الوجود ولا مجموعهما كما مر ذكره.

الفرقة الثانية منهم: جعلوا الوجود هو مقدور العبد وأثر قدرته، وهو عندهم صفة أو حال وليس بشيءٍ حقيقيٍّ، ذكرهما عنهم ابن المُطَهِّر الحِلِّي في شرح " منتهى السُّول "(3) في الكلام على الاشتقاق لاسم الفاعل.

الفرقة الثالثة منهم: قالت: لا فعل للعبد إلَاّ الإرادة، منهم: الجاحظ وثُمامة (4)، وسيأتي أنه مثل قول بعض الأشعرية: إنه لا فعل له إلَاّ الاختيار.

(1) في (أ): للشيء، وهو خطأ، والمثبت من (ش).

(2)

لفظة: " القدر " لم ترد في (ش).

(3)

ابن المطهر الحلِّي مر التنبيه على ترجمته في الجزء الثاني ص 123 من هذا الكتاب، وشرحه لكتاب " منتهى السول " سماه " غاية الوضوح وإيضاح السبل في شرح منتهى السول والأمل " قال ابن كثير عنه في " البداية والنهاية " 14/ 125: رأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة " المحصول " و" الإحكام "، فلا بأس به، فإنه مشتمل على نقل كثير، وتوجيه جيد.

(4)

هو ثُمامة بن أشرس أبو معن النُّميري البصري المتكلم، من رؤوس المعتزلة شيخ الجاحظ، توفي سنة 213 هـ. انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 10/ 203 - 206.

ص: 10

الفرقة الرابعة منهم: ذهبت إلى أن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها.

وهذان المذهبان معروفان في كتب المعتزلة ونقلهم، وسيأتي بيانهما في ضِمْن بيان مذهب الأشعرية.

الفرقة الخامسة: ذَكَرَتْ أن أفعال العباد لا تَعَدَّى محل القُدرة، وما تعدَّاه فعل الله، وأنها حركاتٌ كلها، والسكون حركة اعتمادٍ، والعلوم والإرادات حركات النفس. حكاه الشهرستاني عن النظام قال: ولم يُرِد بالحركة النقلة، وإنما الحركة عنده مبدأ تغيُّرٍ ما، كما قالت الفلاسفة. ذكره في كتاب " الملل والنحل "(1).

الفرقة السادسة: قالت إن تأثير قدرة العبد في الحركة والسكون، وإنهما صفةٌ إضافية لا ذاتٌ حقيقيةٌ.

وهو قول الشيخ أبي الحسين وأصحابه وأتباعهم، ويَنَوْه على أن المعدوم ليس بشيء (2).

وإلى نحو مذهبهم ذهب الجويني من الأشعرية، إلَاّ أنه يقول: إن الأكوان ذواتٌ، كما سيأتي تحقيق مذهبه.

الطائفة السابعة: يقولون: إن المتولَّدات أفعالٌ لا فاعل لها.

الطائفة الثامنة: يقولون: إن ما عدا الإرادة من أفعال العباد أحداثٌ لا مُحدِثَ لها، وحكاهما الشهرستاني (3) عن ثُمامَة، وربما يُوجَدُ في كتب المقالات غير هذه الأقوال عن المعتزلة وحدهم.

وأما الأشعرية فافترقوا في ذلك أربع فرقٍ:

(1) 1/ 55.

(2)

في (أ): لشيء، والمثبت من (ش).

(3)

في " الملل والنحل " 1/ 71.

ص: 11

الفرقة الأولى: قالوا (1): إن فعل العبد بنفسه الذي أثَّرت فيه قدرته هو بعينه مخلوقٌ لله تعالى على الحقيقة، وإن الشيء الذي خلقه الله تعالى، والشيء الذي فعله العبد من ذلك، هو شيء واحد مقدورٌ بين قادرين.

وقد روى هذا الإمام أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حكاه عنه صاحب " الجامع الكافي في مذهب الزيدية " كما يأتي نصُّه، وكما تقدم معناه، وأنه قول أهل ذلك العصر الأول من أهل البيت وشيعتهم، كما تقدم في مسألة المشيئة مبسوطاً.

ويأتي النص على هذا المعنى عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى عليه السلام مذهباً له، وروايةً عن علي عليه السلام آخر هذه المسألة.

وهذا هو ظاهر عبارات من لم يَخُض في دقيق الكلام من أهل الحديث والأثر، وهو ظاهر اختيار أبي نصر بن السُّبْكيِّ في كتابه " جَمْع الجوامع ".

وهو ظاهر عباره الغزالي في " الإحياء " فإنه نص على خلق الله للاختيار، وعلى بطلان الجبر، وادعى الضرورة في بطلانه. ذكره في " الإحياء "(2) في الرسالة القُدْسِيَّة منه.

ويشبه أن يكون هذا قول أبي إسحاق الإسفراييني (3)، كذا وجدته بخطي فيما علَّقْتُه من كتب الرازي، وأظنه قاله في كتاب " الأربعين "، وأما في " نهاية العقول "، فجعل قول أبي إسحاق كقول الجُوَيني كما يأتي.

(1) لفظة: " قالوا " سقطت من (أ)، وأثبتها من (ش).

(2)

1/ 111، والرسالة القدسية، سميت كذلك لأنه كتبها في القدس، وقد تقدمت الإشارة إليها في الجزء الثالث من هذا الكتاب، ص 438.

(3)

هو الإمام العلامة الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، وصاحب التصانيف الباهرة. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 17/ 353 - 356.

ص: 12

قال الشهرستاني في " نهايته " عن الأستاذ أنه قال: كل ما وقع على التعاون، فهو كسب للمستعين، وحقيقة الخلق هو وقوع الفعل بقدرته مع صحة انفراده به.

قال: وهذا أيضاً شرحٌ لما قاله الأستاذ أبو بكر: إن الكسب هو تعلق القدره به على وجهٍ ما، وإن لم يتعلق به من جميع الوجوه، والخلق إنشاءُ العين وإيجادها من العدم.

ولا فرق بين قوليهما وبين قول القاضي -يعني الباقِلَاّني- إلَاّ أن ما سمياه (1) وجهاً واعتباراً سمَّاه القاضي صِفةً وحالاً.

انتهى بحروفه من كلام الشهرستاني، وهو نقلٌ مُفِيدٌ لتضمنه نسبة وقوع الفعل على الوجوه التي يقبُحُ لوقوعه عليها إلى قدرة العبد على إنفرادها كما يأتي واضحاً في كلام الباقلاني.

وتحقيق مذهب هذه الفرقة الأولى يضاد معنى الجبر ويُنافيه، وذلك أن الذي ألجأهم إلى هذا اعتقادهم إن العبد بانفراده لا يقدر على شيء ألبتة إلَاّ بإعانة ربِّه ومالكه.

وعندهم أن الله قد خلق لعبده قدرة تؤثر في حدوث أفعاله، ولكن بشرط إعانة الله، كالعاجز الذي يحاول حَمْلَ الثقيل ويستعين عليه، فصارت إعانة الله عندهم هي شرطٌ في تمكين العبد واختياره، لا رافعة لذلك.

كما لو قال الله تعالى لعبدٍ ضعيف: احمل هذا الجبل العظيم، فقال:

إني لا أقدِرُ، فكيف تأمُرُني يا رب بما لا أقدر عليه؟ فقال الله تعالى: احمل وأنا أُعينُك، فإنه إن لم يحمل كان عاصياً، وإن حمل، كان مُطيعاً، ولم يكن حملُ الجبل فِعلَه وحدَه إلا مع حَمْلِ الله له معه.

(1) في (ش): سميناه، وهو خطأ.

ص: 13

ويشهد لهذا قوله تعالى: {واصبِرْ ومَا صَبْرُك إلَاّ بالله} [النحل: 127]، وقوله:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2]، وقوله:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] مع قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

ومن ذلك قوله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 56 - 57].

وما علمنا من دعائه بقولنا: وقنا عذاب النار {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] مع قوله: {قُوا أنْفُسَكُم وأهْلِيكُم ناراً} [التحريم: 6].

وكذلك أجمع المسلمون على حمد الله تعالى على النِّعَم التي على أيدي عباده، وعلى حمدِ الله بعدَ حمدِ الله.

وستأتي أيضاً النصوص القرآنية الجَمَّة على حمد الله على الإيمان وسائر أفعال الخير، وعلى التَّسَلِّي بقضاء الله في القتل وسائر المظالم مع تنزيهه عن الجَبْر عليها وجميع ما يُوجِبُ الملامة، ومنه الآية والحديث.

أما الآية: فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23].

وأما الحديث: حديث خبر (1) آدم وموسى في آخر المجلد الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (2).

(1) لفظة: " خبر " لم ترد في (ش).

(2)

وقد تقدم تخريجه في هذا الكتاب 1/ 218.

ص: 14

ومن ذلك قوله تعالى: {فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] أمر بالقتل، وهو غير مقدورٍ للعبد بغير إعانةٍ من الله، وإنما يَقْدِرُ على الجرح دون إخراج الروح من البدن، وأمثال ذلك كثيرٌ جداً.

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] لما خفَّف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر. رواه البخاري (1).

وفيه أنهم لو صبروا على ما أُمِرُوا به من قتال الواحد عَشَرة لطوِّقُوا ذلك، وصبروا عليه.

وهو من أحسن الأمثلة الواقعة لمذهب هذه الطائفة، فإن الواحد من المسلمين -ولو من أقواهم- لا يقدر على عشرةٍ من المشركين -ولو من أضعفهم- إلَاّ بإعانة الله تعالى مع ورود الأمر بذلك إجماعاًً ونصّاً.

بل الواحد لا يقدر على الاثنين إلَاّ بإعانة الله كما قال: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66]، لا يقال: ليس المراد الأمر بمغالبتهم (2).

قلنا: إن أردتم في (3) المطابقة فمُسَلَّمٌ، وإن أردتم في (3) الالتزام، فممنوعٌ، وإلا كان يستلزم الأمر بإلقاء النفس إلى التهلكة، لأن إلقاء النفس من الشواهق لا يزيد على بروز رجل ضعيفٍ لعشرةٍ من أقوياء أعدائه، وتجويز السلامة في الموضعين حاصلٌ، والله سبحانه أعلم.

(1) في " صحيحه "(4653)، وتكملة الحديث بعد قوله " من الصبر ": بقدر ما خُفِّف عنهم. وأخرجه أبو داود (2646)، والطبري في " جامع البيان "(16280)، والنحاس في " ناسخه " ص 189، والبيهقي 9/ 76.

(2)

في (ش): بمغالبتكم، وهو خطأ.

(3)

لفظة: (في) لم ترد في (ش) في الموضعين.

ص: 15

ويُشَيِّدُ (1) ذلك ما خرجه الحاكم في تفسير سورة الحح عن ابن عباس: أن الله أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، قال: ربِّ وما يبلُغُ صوتي؟ قال: أذِّنْ وعليَّ البلاغ (2)، قل: يا أيها الناس كُتِبَ عليكم حجَّ البيت بيت الله العتيق. فسمعه مَنْ بين السماء والأرض، وقال: صحيح الإسناد (3).

وخرَّج في المغازي من حديث الخليل، عن عمروٍ، عن (4) جابرٍ، عنه صلى الله عليه وسلم:" لا تَمَنَّوْا لقاء العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافية، فإنكم (5) لا تدرون ما تُبتَلُون منهم (6)، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك (7)، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض " الحديث (8).

(1) في (ش): وسنده ما أخرجه.

(2)

في (أ): التبليغ، والمثبت من (ش) و" المستدرك ".

(3)

المستدرك 2/ 388 - 389، ووافقه الذهبي على تصحيحه. ولفظه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: ربِّ قد فرغت، فقال: أذن في الناس بالحج، قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعلي البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس، كُتب عليكم الحج، حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يُلَبُّون؟

وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة 11/ 518، وابن جرير الطبري 17/ 144، والبيهقي 5/ 176، وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 32 وزاد نسبته إلى ابن منيع، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وهو حديث موقوف حسن.

(4)

في (أ) و (ف): وعن، وهو خطأ.

(5)

قوله: " وسلوا الله العافية فإنكم " لم يرد في (أ) و (ش)، وأثبته من " المستدرك ".

(6)

في " المستدرك ": معهم.

(7)

قوله: " ونواصينا ونواصيهم بيدك " من " المستدرك ".

(8)

هو في " المستدرك " 3/ 38، وسنده ضعيف، فيه الخليل -وهو ابن مرة- والجمهور على تضعيفه. عمرو: هو ابن دينار.

وأخرجه أيضاً الطبراني في " الصغير "(790) من طريق الخليل بن مرة، به. قال الهيثمي في " المجمع " 6/ 152 بعد أن نسبه إلى الطبراني: وفيه الخليل بن مرة قال أبو زرعة: شيخ =

ص: 16

وفيه قصةُ علي عليه السلام في خيبر وحديثُ الراية (1).

وعن ابن عباس في قصة موسى أنه إنما وجد النصب بعد مجاوزته الموضع الذي أمر الله تعالى به (2).

فكل فعلٍ عندهم من غير إعانة الله مثل حمل الجبل على الضعيف، وقتال الواحد الضعيف لعشرة أقوياء، فإعانة الله تعالى للمؤمن واضحة، ويسمى عند هؤلاء خلقاً وتمكيناً ومشاركة في الفعل وإعانةً عليه.

وأما العاصي، فلا يُسمى الله تعالى بذلك القدر مُعِيناً له، إنما يسمى عندهم خالقاً ومُمَكِّناً ومُبْتَلِياً وممتَحناً.

ونحو ذلك قوله تعالى فيما فعله آل فرعون: {وفي ذلِكُم بَلاءٌ مِن ربِّكم عَظِيمٌ} [البقرة: 49].

ومنه: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].

= صالح، وضعفه جماعة.

قلت: لكن في الباب ما يشُدُّهُ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنَّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا ". أخرجه أحمد 2/ 523، ومسلم (1741)، والنسائي في السير من " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 10/ 201، والبيهقي 9/ 152، وعلقه البخاري (3026).

ورواه أحمد 2/ 400 من طريق آخر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون ما يكون في ذلك ".

وعن عبد الله بن أبي أوفى عند أحمد 4/ 353، والبخاري (3025)، ومسلم (1742)(20)، وأبي داود (2631)، والبيهقي 9/ 152.

(1)

انظر قصة خيبر وحديث الراية في " صحيح ابن حبان " بتحقيقنا (6932) وما بعده، عن عدة من الصحابة.

(2)

هذا قطعة من حديث ابن عباس الطويل في قصة موسى والخَضِر عليهما السلام، وانظر تخريجها في " صحيح ابن حبان "(6220).

ص: 17

ولأن الإعانة في العُرْفِ إنما تكون على محبوب المعين دون المسخوط، والمعاصي مسخوطةٌ غير محبوبةٍ لله تعالى، كما مر تحقيقه في مسألة الإرادة.

أو لأنَّ الإعانة عبارةٌ مُوهِمةٌ للرضا والمحبة، ولم يَرِدْ بها إذنٌ شرعي، وخَلْقُ الله لمعصية العباد عند هؤلاء مثل خلق القدرة على المعصية عند المعتزلة، لأن شرط التكليف التمكين، والتمكين عند هذه الفرقة من الأشعرية لا يصح مع استقلال العبد حتى يشاركه الله في فعله، فيكون فعلاً لفاعلين، لكنه يُسَمَّى بالنظر إلى قدرة الله تعالى مخلوقاً ومفعولاً، وبالنظر إلى قدرة العبد مفعولاً ومكسوباً، كما ذكرناه في أول المسألة بالتمثيل بحمل الجبل.

وقريبٌ منه بالنظر إلى ما يُسَمَّى إعانة من المحبوبات لله سبحانه، وما لا يُسمَى إعانةً من المكروهات له سبحانه ما فعله لعيسى صلوت الله عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبْرَص، وساغ نسبته إلى عيسى عليه السلام حيث قال: إني أخلُقُ وأُبرِىء، مع قوله: بإذن الله، فيُسَمَّى الله في مثل هذا مُعِيناً عليه، ومُحِبّاً له، وراضياً به.

وقد تُنسَبُ الطاعة والخير كله إلى الله تعالى وحده مبالغةً في تعظيمه وحمده عليه، وتضعيف العبد وتقليل أثره كقوله تعالى:{لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] وقوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وأمثال ذلك، وذلك الذي ينبغي من العبد كقوله تعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].

ولما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال [فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:]" فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه ".

ص: 18

رواه مسلم في " الصحيح "(1) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.

وعن أبي الدراء رضي الله عنه، عن (2) زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه علمه دعاء وأمره أن يتعاهد (3) به أهله كل يوم، وذكره، وفيه:" وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضيعةٍ وعورةٍ وذنبٍ وخطيئةٍ، وأنِّي لا أثِقُ إلَاّ برحمتك ". رواه أحمد والحاكم في " صحيحه "(4).

بخلاف ما تُفَرِّقُ به السحرة بين المرء وزوجه، وإن كان بإذن الله كما نصَّ عليه بقوله:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102](5)، فالتأثير في الفرقة على الحقيقة من خلق النُّفرة الضرورية هو فعلُ الله بالإجماع.

وهذا التفريق قد أضافه الله تعالى إلى السحرة وذمَّهم به لما كان مسبَّباً عن اختيارهم كما أن الموت فعل الله، ويُذَمُّ به القاتل لما كان سبباً فيه.

وهذا قول أبي هاشمٍ والأشعري والجُوَيْني وسائر أهل السنة في المسببات، كما يأتي في مسألة تكليف ما لا يُطاقُ.

(1)(2577) في البر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم. وانظر تخريجه في " صحيح ابن حبان "(619) بتحقيقنا.

(2)

في (أ): وعن، وهو خطأ، والتصويب من (ش) ومن مصادر الحديث.

(3)

في (أ) و (ش) و (ف): يعاهد، والمثبت من مصادر الحديث.

(4)

" مسند أحمد " 5/ 191، والحاكم في " المستدرك " 1/ 516 - 517، لكن الحاكم لم يذكر في سنده أبا الدرداء، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر (وهو ابن أبي مريم أحد رواة الحديث) ضعيف، فأين الصحة؟

وأخرجه أيضاً الطبراني في " الكبير "(4803) و (4932)، ولم يذكر في الموضع الثاني منه أبا الدرداء، وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 113: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثِّقوا (قلت: أشار إلى الموضع الثاني، على أن فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، وهو سيىء الحفظ)، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف.

(5)

من قوله: " كما نص عليه " إلى هنا، سقط من (ش).

ص: 19

وكذلك من ألقَاهُ العباد في الماء والنار عُدواناً، فإن إثمه عليهم لكونهم سبب موته، وموته فعل الله، ولو شاء لأنجاه، ففِعْلُ الله عندهم في هذا الجنس يسمى ابتلاءً وامتحاناً، ولا يُسمَّى إعانةً ولا محبةً ولا رضاً.

ويجب أن يضاف القدر المتعلِّق بقدرة العبد من هذه القبائح إلى العبد وحده، تحقيقاً لتنزيه الله تعالى وكمال تقديسه عن القبائح، وكمال عدله وحكمته فيما ابتلى به من تقدير وقوعها وأسبابها.

ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّما النَّجْوَى من الشَّيطان} [المجادلة: 10]، وقوله:{إنَّما ذلِكُمُ الشيطانُ يُخَوِّفُ أولياءَهُ} [آل عمران: 175]، وقوله:{ومَا يَجْحَدُ بآياتنا إلَاّ الكَافِرونَ} [العنكبوت: 47]، وفي آيةٍ:{إلَاّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، وفي آية:{إلَاّ كلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقوله:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105].

ومنه: قول الكليم عليه أفضلُ الصلاة والتسليم: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] وقول يوسف: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، وقول أيوب:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] وسيأتي ذلك مبسوطاً مُطَوَّلاً في آخر هذه المسألة، وما ورد فيه من إجماع السلف والخلف.

وكذلك قد تجتمع كلمة المسلمين على نسبة الأمر إلى الله تعالى من جهة، وإلى العبد من جهةٍ كما يقولون في كثير من الأرزاق، وهي التي توقف على أفعال العباد واختيارهم كالصدقات وقضاء الديون، وما يُثَابُ عليه العبد كأنها من جهة اختيار العبد فيها وثوابُه عليها منسوبة إليه.

وليست المعتزلة تقول: إنها منسوبةٌ إليه من كل وجهٍ بحيث لا يُشْكَرُ الله عليها، بل هي مع ذلك رِزْقٌ من الله حلالٌ، منسوبةٌ إلى الله من سائر الجهات.

وكذلك يقول خُصُومُ المعتزلة في جميع الأفعال.

ص: 20

فتأمل في ذلك النظائر والأمثال، فانظر الآن بعين التحقيق" هل حَمْلُ الله تعالى للجبل مع الضعيف إن أمره بحمله مُبْطِلاً لتكليفه وتمكينه واختياره، أو مُصَحِّحاً له؟

ولو كان قولهم: إن فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى يبطل كونه فعلاً للعبد، ويوجب الجبر كما زعمت المعتزلة، لم يكن أولى من العكس: وهو أن فعل العبد لما هو خلقٌ لله يبطل كونه خلقاً لله، وينفي عنهم الجبر.

ولكن المعتزلة يُستخرَجُ من كلامهم ما هو عليهم، ولا يُستخرج عنه ما هو لهم، كما قال الشاعر:

وعَينُ الرِّضا عن كلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ

ولكنَّ عين السُّخْطِ تُبدِي المساوِيَا (1)

(1) البيت من قصيدة لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أوردها المبرد في " الكامل " 1/ 276 - 277، والحصري في " زهر الآداب " 1/ 93 - 94، وابن الشجري في " حماسته " 1/ 252 قالها في الفضيل بن السائب بن الأقرع الثقفي، حين لم ينهض بحاجته، وهي:

رأيتُ فُضيلاً كان شيئاً مُلَفَّفاً

فكشفه التمحيصُ حتى بدا لِيا

أأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ

فإن عَرَضَتْ أيْقَنْتُ أنْ لا أخا لِيا

فلا زادَ ما بيني وبينَكَ بعدَما

بلَوْتُك في الحاجاتِ إلَاّ تَمادِيا

فلستَ براءٍ عيبَ ذي الوُدِّ كلَّه

ولا بعض ما فيه إذا كنت راضِيا

فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ

ولكنَّ عينَ السُّخْطِ تُبدي المساويا

كِلانا غنيٌّ عن أخيه حياته

ونحن إذا مُتْنا أشدُّ تغانِيا

وذكر صاحب " الأغاني " 12/ 214 و233 أنه لعبد الله بن معاوية يقوله للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فيما نقله عن مصعب الزبيري، ونقل عن مُؤَرِّج -وقال: وهو الصحيح- أنه في صديق له يقال له: قُصي بن ذكوان.

وقال الذهبي في " تاريخ الإسلام " 5/ 97: كان عبد الله جواداً ممدَّحاً شاعراً من رجال العلم وأبناء الدنيا، خرج بالكوفة وجمع خلقاً، ونزع الطاعة، وجرت له أمور يطول شرحها، =

ص: 21

فإن جَحَدتَ هذا المعنى، وأنكرت تصوره في العقول، جحدتَ الضرورة، وإن أقررت به ولكن قلت: ما الذي ألجأهم إلى هذا؟ وقلت: مقدورٌ بين قادِرَيْنِ غير صحيح في العقل.

فالجواب: أن هاتين مسألتان غير الجبر، فأما الجبر، فقد تخلصوا منه، ومن جميع ما يترتب عليه من الشَّناعَات، وسوف يظهر ذلك بذكر ما يَرِدُ عليه، ويُجيبون به.

وأما هاتان المسألتان، فهما من دقيق المسائل التي لم تُعْلَمْ من ضرورة العقل، ولا من ضرورة الدين، فإن أصابوا فيهما، أجادوا، وإن أخطؤوا فيهما، فقد أخطأ في مثلهما وفي أجْلَى منهما أئمة العلوم المعقولة والمنقولة لأسبابٍ لا يعرفها إلَاّ من خاض الغَمَرات التي خاضوها، أو راض نفسه مع معاناة الدقائق كما راضوها.

وكفى لهم أسوةً في هذه المسألة شيخ الاعتزال، وعنترة فوارس الجدال إذا دُعِيَ في محافِلِه نزال، الشيخ أبو علي الجُبَّائي المتكلم الشهير، فإنه التجأ في مسألة القرآن إلى القول بأن تلاوة التالي المسموعة كلامان اثنان حقيقيان:

أحدهما: كلام الله تعالى، تكلم به في لسان التالي عند تلاوته.

وثانيهما: كلام التالي، تكلم به مع كلام الله تعالى، فالسامع له سامعٌ لله وسامعٌ من الله على الحقيقة، وعلى الحدِّ الذي سمع منه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام.

وكذلك قال: إن كلام الله باقٍ، وإنه يَحُلُّ في الخط المكتوب، ويظهر مع الصوت وهو غير الصوت.

= ثم لَحِق بأصبهان، وغلب على تلك الديار، ثم ظفر به أبو مسلم الخراساني فقتله، وقيل: بل سجنه إلى أن مات في حدود الثلاثين.

ص: 22

حكى هذا عنه ابن مَتَّوَيه في " تذكرته " وهو من أئمة الاعتزال تلميذٌ لقاضي القضاة عبد الجبَّار، وحكاه عنه الشهرستاني في " نهايته ".

فالذي ألجأ أبا عليٍّ الجُبَّائيَّ إلى ذلك مع غوصه على دقائق الكلام الحذر من مخالفة إجماع المسلمين على أن القرآن المتلُوَّ بالألسنة، المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى، فحمله خوفه مخالفة السمع الدالِّ على أن الإجماع حُجَّة على هذا القول المعلوم بطلانه عقلاً وسمعاً، كما يَعرِف ذلك أدنى المميِّزين مع جلالة أبي علي في علم النظر، ما ذلك إلَاّ لخوف الابتداع وخوف مخالفة الإجماع، فلم تنتقصه المعتزلة، ولا ذمَّته بسقوط المنزلة.

وكذلك أئمة الحديث والأثر، وكثيرٌ من أهل الكلام والنظر، لما سمعوا ظواهر القرآن والسنن تقضي بأن الله تعالى خالق كل شيءٍ، وأن إرادته ومشيئته أساس كل شيء، حتى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وذمَّ الذين أقسموا لَيَصْرِمُنَّ جنتهم (1) مصبحين ولا يَستثنون، وأمر أكمل عباده بالاعتراف بذلك في قوله:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، مع ما قرروه في كتبهم الكلامية من الأنظار العقلية، قضوا بذلك.

على أن هذه الفرقة التي جعلوا فعل العبد وخلق الرب شيئاً واحداً، ولم يفرقوا بينهما، هم أقل فِرَق أهل النظر من أهل السنة، كما أَوضحه إن شاء الله تعالى.

بل لا يكاد يتحقَّقُ القائل به من أئمة النظر منهم، ولكنه أكثر ما يلزم من إطلاق عباراتهم، وقد يقول به ولا يبحث عن دقائق الكلام لجلائه، فإن صحة المقدور بين قادرين مما يعقله الكافَّة، ولا يعجز عن فهمه أحدٌ من العامة (2).

(1) في (ش): ليصرمنّها.

(2)

قوله: " أحد من العامة " سقط من (أ).

ص: 23

فإن قيل: فإذا لم يفعل المكلَّف الواجب، لزم أن لا تقوم عليه الحجة، لأنه لم يُعِنْه (1) الله تعالى حين لم يخلقه، ولو خلقه، ما قَدَرَ العبد على تركه، وهذا حقيقة الجبر ونفي الاختيار.

قلنا: لم يختلفوا في أن الاختيار إلى العبد، وأن الله تعالى (2) يخلق عند اختياره ما اختاره العبد، حتى صرَّح بذلك الأشعري والرازي اللذان نُسِبَ إليهما أفحشُ الجَبْرِ الصريح، وتكليف ما لا يطاق كما يأتي.

وإنما خلاف هذه الفِرقة الأولى لسائر فِرَق الأشعرية أثبتوا تأثير قدرة العبد في عين ما أثَّرَتْ فيه قدرة الرب عز وجل من وجود الذات وإخراجها من العدم بمعونة الله تعالى، كما هو قول بعض الفرقة الرابعة وهو الإمام الجويني كما يأتي، ويأتي الفرق بينهم، وأما أكثر الأشعرية، فإنهم منعوا تأثير قدرة العبد في إخراج الذات من العدم إلى الوجود.

وأما الاختيار، فلم تختلف فرقهم الأربع في إثباته للعبد، وصلاحية قدرته فيه، سواء تعلَّقَ بالترك أو بالفعل، كما يأتي تحقيقه، ولكنه لا يكون اختياره إلا تابعاً وموافقاً لما سبق من مشيئة الله تعالى أن يفعل العبد مختاراً، كما لم يختلفوا هم والمعتزلة في أن الاختيار وضع الأمر لما سبق به علم الله تعالى وكتابه، كما تقدم تحقيق ذلك في الكلام على الأقدار، وبيان عدم التناقض في الجمع بين القول بنفوذ القدر والمشيئة والاختيار، بل الاختيار عند هذه الفرقة مقدور بين قادِرَيْنِ.

وقد حاوَلَتِ المعتزلة الرد على هؤلاء والتكفير لهم.

فأمَّا الرد عليهم، فلست أتعرَّض لنَقْضِه، بل هو عندي حقٌّ وصواب، ولكن ما هو من مقصود كتابي هذا، فإن سائر طوائفِ أهل السنة الثلاث الآتية ترُدُّ على

(1) في (ش): يعبد، وهو تحريف.

(2)

من قوله: " ما قدر العبد " إلى هنا سقط من (ش).

ص: 24

هذه الطائفة الأولى كما ترد عليهم المعتزلة، وكما يرد بعض المعتزلة على بعضٍ في تفاصيل مذاهبهم.

والمختار عندي من مذاهب أهل السنة ما درج عليه السلف، ولزمه أهل الحديث والأثر من اتباع السنن، ولُزُومُ مناهج الأنبياء والأولياء، وترك رد الشرائع المعلومة عن المعصومين إلى ما يلائم خيالات الأذكياء المتكاذبين، وظنون العقلاء المتخالفين.

وكيف يرد الأقوى إلى الأضعف، ومن لم يعترف بعلو مرتبة الأنبياء على الأذكياء، فما أنصف، وكفى فارقاً بينهم بعد ما خصَّهم الله تعالى به من المعجزات شدة الاختلاف بين الأذكياء التي تستلزم بالضرورة جهل بعضهم، كما يمنع بالضرورة علم جميعهم، فما اختلف في القطعيات عالمان قط، ولا يصح الاختلاف إلَاّ بين جاهلين، أو بين عالمٍ وجاهل إلَاّ ما كان مراداً لله تعالى مثل اختلاف سليمان وداود عليهما السلام، وسائر المجتهدين في الفروع، والله أعلم.

وقد عصم الله رسله الكرام عن هذه النقيصة، فما زالت كلمتهم واحدة، الأول يُبَشِّرُ بالآخر، والآخر يوجب الإيمان بالأول، وسيأتي طَرَفٌ من حجة هذه الفرقة عند ذكر ما يروى منه، وبيان القدر القوي الجَلِيِّ من مذهبهم.

وأما تكفير المعتزلة لهم، فإن رده هو مقصود كتابي هذا، وقد احتج من زعمه بأمورٍ مدارها على أنهم قد نسبوا القبائح إلى الله تعالى لقولهم بمشاركته سبحانه لعباده في فعلها، وما قبح من العباد من العقليات قَبُحَ من الله تعالى عند المعتزلة.

والجواب عليهم من وجوهٍ:

الوجه الأول: أن نقول: ما مُرادُكم بأن نسبة القبيح إليه تعالى كفرٌ؟ هل نِسبَتُه ممن يعتقد قُبحه أو لا؟ الأول: مُسَلَّم ولا يَضُرُّ تسليمه، لأنهم يعتقدون

ص: 25

حُسْنَ ذلك من الله تعالى، ويمنعون قُبحَه من الله تعالى.

والثاني: ممنوعٌ لأمورٍ:

أولها: أن من نسب إلى الله تعالى الحُسْنَ، وهو يعتقد أنه قبيح، كفر إجماعاً، لأنه قصد انتقاص الرب تعالى، فدل على أن الحكم للاعتقاد لا لمطابقته المعتقد، فيلزم في من اعتقد في أمرٍ قبيح أنه حَسَنٌ، ثم نسبه إلى الله تعالى، أنه لا يكفر، لأنه قصد مدح الرب عز وجل بكمال القدرة ونفوذ المشيئة، مع تصريحه بأن لله الحجة البالغة، عرفها أو لم يعرفها.

وكم يقع للمعتزلة مثل هذا كثيراً، فإنهم اختلفوا في آلام الأطفال والبهائم ومن لا ذنب له.

فمنهم من قال: يحسن مع العِوَضِ وحده.

ومنهم من قال: مع الاعتبار وحده.

ومنهم من قال: هي مع العوض وحده عَبَثٌ، لإمكان التفضل (1) بالعوض من دون ألمٍ، ومع الاعتبار وحده ظلم في حق الصغير والعَجْماوات، لأن المعتبر غير الأليم.

وهذا (2) هو المختار عندهم، فيجب في الألم أن يكون جامعاً بين العوض والاعتبار، ومع هذا فلم يُكَفِّروا من جوَّزه بأحدهما، ويجعلوه بمنزلة من أجاز العبث أو الظلم على الله تعالى.

وكذا تقدم أن قاضي القضاة منع من تكليف من عَلِمَ أن لُطْفَه في فعلٍ قبيحٌ، وقال: إنه غير مُزَاحِ العلة، ولم يُكَفِّرِ الشيوخ لتجويزهم على الله تعالى تكليف من هو كذلك، وأمثال هذا بينهم كثيرة، مثل قول أبي القاسم البَلْخِي والبغدادية: إن تكليف الكافر لمصلحة المؤمن تجوز على الله تعالى، وهذا ظلمٌ عند سائر المعتزلة.

(1) في (ش): الفضل.

(2)

في (ش): فهذا.

ص: 26

وكذلك اختلافهم في بعض صفات الله تعالى، ثم لا يُكَفِّرُ بعضهم بعضاً بذلك، وإذا خالفهم السني في شيءٍ منها، تَمَحَّلوا تكفيره بأنه قد عبد غير الله.

والقصد بهذا تنبيه الغافل على ما بين الفِرَقِ من العصبية لعله يتقي الله تعالى في التقليد في التكفير والتفسيق، ويرجع إلى النظر الصحيح والتحقيق.

الوجه الثاني: -وهو المعتمد- أن التكفير سَمْعِيٌّ قطعي عند المعتزلة، والصحيح أن كل قطعي من الشرع فهو ضروري، والمعلوم ضرورةً أو قطعاً من السمع إنما كفر من اعتقد في أمرٍ أنه قبيح ثم نسبه إلى الله تعالى، ومن ادَّعى كُفْرَ من أخطأ في استحسان قبيحٍ وتجويزه على الله تعالى لحسنه عنده من الله تعالى، احتاج إلى دليلٍ قاطعٍ، بل ضروي من السمع، وهذا غير موجودٍ قطعاً.

الوجه الثالث: أن قدرة الله تعالى عند هؤلاء إنما أثَّرَتْ في مجرد الذات الحقيقية، وهي: الحركة والسكون، بل (1) المرجع بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مجرد اللبث في الجهة مع شروط عدميةٍ وإضافيةٍ مثل شرط النُّقلة في (2) الحركة، وشرط البقاء في السكون.

ولا شك أن لبث الجسم في حَيِّزٍ إما فعل الله، لأن العبد لا يقدر على الانفكاك من ذلك القدر الذي هو حقيقة الذات في الأفعال عندهم، وإنما يكون اختيار العبد في صفات ذلك اللبث وأحواله التي يقبح بسببها ولم تُعَلَّقْ قدرة الرب بها.

وأما الذات التي تعلقت قدرة الرب بها، فإنها لا تُوصَفُ بقُبْحٍ باتفاق الفريقين من المعتزلة والأشعرية، وإنما تَقْبُحُ عند الجميع لوقوعها على بعض

(1) في نسخة (ش) ضرب على لفظة " بل "، وكتب بدلاً منها بخط مغاير " اللذين " وأشير عليها برمز " صح ".

(2)

في (أ) و (ف): والحركة، وكتب فوق الواو (ظ: في)، وهي كذلك في (ش).

ص: 27

الوجوه والاعتبارات الإضافية، وهي لا تقع على تلك الوجوه بقدرة الرب عند الفريقين أيضاً، لأن تلك الوجوه ليست بأشياء حقيقيةٍ عند الجميع، والمضاف إلى قدرة الله تعالى في أفعال العباد إنما هو إخراج ذوات الأفعال التي هي أشياء حقيقيةٌ من العدم إلى الوجود، وقدرة العبد تؤثر في وقوع ذوات الأفعال على تلك الوجوه المختلفة، ولأجل وقوعها بقدرة العبد وحده على تلك الوجوه استحقت أسماءً لا يصح إطلاقها على الله تعالى مثل: العبادة والطاعة والمعصية، فلو وقعت تلك الوجوه بقدرة الله سبحانه لزم أن يُسَمَّى مطيعاً وعابداً وعاصياً ومُصَلِّياً وصائماً، ونحو ذلك.

فلما كانت هذه الأسماء لا تطلق عليه، إنما يطلق عليه أنه الخالق الموجد المبدع، دلَّ على أن متعلق قدرته سبحانه هو ما اشتق له منه الأسماء الحسنى، وأن الاشتقاق من الفعل الواحد يختلف بحسب اختلاف وجوهه.

كما أن إيلام اليتيم ذاتٌ واحدة، وأسماؤه وصفاته تختلف، فحين يكون تأديباً له ممن له ذلك يُسَمَّى تأديباً وإحساناً وإصلاحاً وقربةً وطاعةً، وحين يكون على ضد ذلك يُسمى معصيةً وظلماً وعدواناً، وحين يكون من الله تعالى يستحيل فيه اسم المعصية والطاعة والظلم والقبح، ويبقى اسم الإحسان والإصلاح والتأديب.

فهذا شيء واحد اختلفت أسماؤه لوقوعه على الوجوه المختلفة، فكذلك سائر الذوات الموصوفة بالقبح، متى استحقت اسم القبح لوجهٍ وقعت عليه بقدرة العبد لا يستحقه لعدم ذلك الوجه حين تقع تلك الذات منسوبةً إلى قدرة الرب.

وبالجملة فإن المعتزلة والأشعرية اتفقوا على أن المعاصي والطاعات كلها ليست هي الذوات المُخْرَجة بالقدرة من العدم إلى الوجود، وإنما هي وجوهٌ تقع الذوات عليها، وجهاتٌ لاستحقاق الذمِّ والعقاب، والثناء والثواب، وتلك الوجوه لا نحتاج إلى قدرة الله لتُؤَثِّرَ فيها على انفرادها، لأنها ليست بأشياء.

ص: 28

مثالٌ لبعض (1) ذلك: التروك، فإنها توصف بالتحريم متى كانت تُروكاً للواجبات ويستحق عليها الذم والعقاب، وتوصف بالوجوب متى كانت تُروكاً للمحرمات ويستحق عليها الثناء والثواب، مع أن التروك عند جماهير المعتزلة عدمٌ محضٌ، وإنما هي جهةٌ لاستحقاق الذم والعقاب، أو الثناء (2) والثواب.

ومن قال منهم: إنها كفُّ النفس، وأن الكفَّ أمرٌ ثبوتي كالبَلْخِي والجُبَّائي، قال: إن الحُسْنَ والقبح الذي في التروك عَدَمِيٌّ إضافي، لأن الترك الواحد قد يكون كفّاً عن الواجب والحرام معاً، مثل من ترك الصلاة والظلم واشتغل بالمباح، فإن المباح عند هؤلاء واجب بالنظر إلى كفه عن الحرام، وحرام بالنظر إلى كفه عن الواجب.

فلو كان الوجوب والتحريم حقيقِيَّيْنِ كالسواد والبياض لم يجتمعا، فدل على أن الحسن والقبح ليسا بشيء حقيقي، وأن جميع الطاعات والمعاصي ليست بذواتٍ وأشياء تحتاج إلى قدرة الرب تعالى عند الجميع.

وقد يظن أن الجويني وأبا الحسين يخالفان في هذا، وليس كذلك، كما سيأتي مُحَقَّقاً إن شاء الله تعالى.

ومن أدَقِّ ذلك الكلام في الكذب، فإنه لا يجوز أن يضاف الكذب إلى الله تعالى عند أهل السنة، لأنه لم يكن كذباً لذاته التي أثَّرت فيها قدرة الله تعالى، بل الصحيح عند المعتزلة أيضاً أنه لا يكون كَذِباً إلَاّ كذلك بحيث إنه عندهم إذا جُرِّدَ عن نسبة بعضه إلى بعض بالقصد لم يُوصَفْ عندهم بانه صدق ولا كذب.

فإن قلت: وما ذاتُه الموجودة بقدره الله تعالى عند أهل السنة؟

قلت: أحد أمرين: إما مجرَّد الصوت، لأنه من المُتَولَّدات عن الاعتماد، والمتولدات عندهم كلها فعل الله لعدم اختيار العبد فيها بعد وجود سببها كسواد

(1) في (ش): بعض.

(2)

في (ش): والثناء.

ص: 29

المِدَاد بعد خلط العَفْصِ (1) وماء الزاج (2) ونحو ذلك.

وإما الحروف مع الصوت (3) إن كانت أشياء زائدةً عليه، والموجود (4) منها بقدرة الله تعالى ليس إلَاّ حرفٌ واحد، وهو لا يوصف بالكذب ولا بالصدق قطعاً، فدل على أن الموصوف بالكذب جملة الحروف المعدوم منها والموجود (5)، وهو حرف واحد، وذلك أوضح دليلٍ على أن وصفها بالكذب وصفٌ عدمي إضافي، ونسبة مثل هذا الوصف العدمي إلى قدرة العبد وحدها من غير مشاركة الرب صحيحٌ عند جميع فرق أهل السنة، كما سيأتي بيانه عند الكلام على مذهبهم في الكسب وتحقيقه، إن شاء الله تعالى (6).

وقد تقدم أن هذه الوجوه والاعتبارات غير محتاجةٍ إلى قدره الرب، وإنما هي جهاتٌ لاستحقاق الذم والعقاب.

وقد قال الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المُجْتَبى " في المسألة الحادية عشرة في كُفْرِ المُجْبِرَة ما لفظه: ولم يكفِّرْهُم صاحب " المعتمد "، وبه قال الرازي لِمَا مرَّ، يعني من تصديقهم جميع الأنبياء والكتب والقيام بأركان الإسلام المنصوصة.

قال: وأما نسبتهم القبائح إلى الله تعالى فيقولون: إنه لا يَكذِبُ في الشهادة

(1) العَفْص: هو من جنس الشجر العِظام ومن أنواع البلُّوط، له ثمر في قدر الجوز أو أقل. انظر " حديقة الأزهار " ص 210 لأبي القاسم الغساني، و" شرح القاموس "(عفص) للزبيدي.

(2)

الزَّاج: ملح، وقال الليث: يقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر. " شرح القاموس " 2/ 55 (زوج).

(3)

في (ش): ووضع الصوت.

(4)

في (أ) و (ف) فوق الواو: فا.

(5)

في هامش (ف): لأن المعدوم لا يصح وصفه بصفة حقيقية.

(6)

عبارة: " إن شاء الله تعالى " لما ترد في (أ).

ص: 30

على الأنبياء، فتقبُحُ طريق معرفة النبي لهم، نعم إنهم جاؤوا خطأً فاحشاً، وتخبَّطُوا تخبُّطاً عظيماً، لكن لما أقروا بذات الله وصفاته الذاتية، فيجوز أن لا يبلغ عقابهم عقاب الكفرة.

فإن قيل: إنهم كعبدة الأصنام، لأنهم يعبدون إلهاً فاعلاً للمعاصي والمنكرات، مُرِيداً للقبائح والسيئات، ومثله غير الله، وعبادة (1) غير الله كفرٌ.

قلنا: الجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أنهم اعتقدوا صانِعاً للعالم غير جسمٍ واجب الوجود لذاته، قادراً عالماً حيّاً، لم يزل ولا يزال سميعاً بصيراً، وأقرُّوا به، فجاز أن يَنقُصَ عقابهم عن عقاب الكَفَرة.

والثاني: أن هذه الاختلافات ثابتةٌ في صفاته وصفات أفعاله بين أئمة العدل والتوحيد، وبين السنية وبين الأشعرية، وبين المرجئة وبين الخوارج وبين الشيعة، وكل واحدٍ من أرباب هذه المذاهب يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله تعالى.

فلو لزم من هذا تكفيرهم لزم تكفير هذه الطوائف الإسلامية بأسرها، وأنه شنيع وممتنع عقلاً وسمعاً وإجماعاً.

ألا ترى إمام المعتزلة أبا عليٍّ ينفي الأحوال، وابنه أبو هاشم يُثْبِتُها، والبغدادية ينفون الصفات والأحوال وقالوا بالأحكام، وكل واحدٍ يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله، أيحسُنُ تكفير أولئك الأئمة أو واحدٌ منهم.

فثبت أنه لا يجوز تكفير أحد (2) من أهل القبلة إلَاّ من ثبت (3) بالتواتر والإجماع كفره والله أعلم. انتهى ذلك (4) بحروفه.

(1) في (أ): عباد، وهو خطأ، والمثبت من (ش) وهامش (أ).

(2)

في (ش): واحد.

(3)

في (ش): يثبت.

(4)

" ذلك " لم ترد في (ش).

ص: 31

وقد مرَّ للمؤيد بالله عليه السلام نحو ذلك في " الزيادات "، وللإمام يحيى بن حمزة عليه السلام نحوه في كتبه منها " التمهيد " ومنها " التحقيق " وغيرهما.

فهذه الفرقة الأولى، وقد شاركها أهل الكسب في تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، فلو لم تؤثر قدرة العبد في ذلك عندهم، بطل التكليف قطعاً، بل هي مؤثرة فيها عند الجميع، ولكن زاد هؤلاء على أهل الكسب أمرين:

أحدهما: جواز (1) تأثير قدرة العبد في وجود الذات مع الله تعالى لا على جهة الاستقلال.

وثانيهما: تسمية ما أثَّرت فيه قدرة العبد مخلوقاً، وهو بعينه من غير تأويلٍ بخلاف أهل الكسب، فإن المخلوق متميز (2) عندهم عن فعل العبد عند التحقيق كما (3) يأتي.

وقد صرح الشهرستاني بما ذكرته من اتفاقهم على تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، كما تقدم ذكره من نصِّه، على أن المرجع بقول الأستاذ أبي بكر وأبي إسحاق إلى قول القاضي أبي بكر الباقِلَاّني بعينه، إلَاّ أن ما سمياه (4) وجهاً واعتباراً أسماه القاضي صفةً وحالاً. ولا شك أن الأستاذ وأبا إسحاق هما صاحِبَا هذه المقالة، وإماماً أهلها.

فإن قلت: فهلَاّ كان تأثير قدرة العبد في وجوه الحسن والقبح مشروطاً بمشاركة قدرة الله تعالى في ذلك كالذوات، فإنه يلزم من استقلال العبد بالتأثير في ذلك أن يستقل دون الله تعالى بشيء من الأشياء، وهذا لا يجوز بإجماع أهل السنة.

فالجواب: أن وجوه الحسن والقبح عندهم ليست بشيء البتَّة، حتى يكون

(1)" جواز " ليست في (ش).

(2)

في (ش): مميز.

(3)

في (أ): وكما.

(4)

في (أ) و (ش): سميناه.

ص: 32

العبد متى استقل بها، كان مستقلاًّ (1) بشيء، وإنما هي جهاتٌ للاستحقاق مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند المعتزلة، وما لم يكن شيئاً لم يحتج إلى ذلك.

فإن قيل: وهل يصح التكليف وتوابعه بغير شيء؟

قلنا: إن أردت بغير شيء لُغَويٍّ، أو بغير شيء شرعي، أو بغير شيء معقولٍ أنه يُطلب ويُستحق عليه الجزاء فلا يصح التكليف بغير شيء.

وإن أردت بغير شيء اصطلاحي، وهو الذات الذي يصح تصورها، ويعلق العلم بها منفردةً، فلا يصح بإجماع المعتزلة أيضاً.

فإن قلت: فإن الاختيار شيء، وقدرة العبد لا تؤثر فيه إلَاّ مع قدرة الرب.

قلت: السؤال مردود، فإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، وإلا لزم المعتزلة ثبوته في العدم وهو محال، بل هو عدميٌّ إضافي.

ولا يُعلَمُ أحدٌ (2) من المعتزلة -دع عنك أهل السنة- نص على أنه شيءٌ وجودي نصّاً، بل عند المعتزلة بأسرهم إلَاّ أبا الحسين أن الأشياء كلها ثابتة في الأزل، وأنه يستحيل تأثير قدرة الله تعالى فيها كيف إلَاّ قدرة العبد.

وإنما تؤثر عندهم قدرة الله وقدرة العبد في الأحوال التي ليست بأشياء، فكيف ينكرون على أهل السنة قولهم: إن الذي أثرت فيه قدرة العبد وحدها هو الاختيار وحده، وليس بشيء.

وقد احتج الرازي في " النهاية " -على أن الاختيار ليس بشيء حقيقي- أنه لو كان كذلك، لكان من جملة أفعال العبد المحتاجة في ثبوتها إلى الاختيار، فيحتاج كلُّ اختيارٍ يفعله العبد إلى اختيار آخر يختاره به، ويتسلسل إلى ما لا

(1) من قوله " فالجواب " إلى هنا، سقط من (ش).

(2)

في (أ): ولا نعلم أحداً.

ص: 33

نهاية له، وذلك محال، وكذلك ما أدى إليه وهو القول بأن الاختيار شيء ثُبوتيٌّ.

ثم ذكر الرازي أن العبد يفعل الاختيار عند الداعي الراجح من غير جبرٍ كما يفعل الله تعالى الواجب في حكمته عند المعتزلة وجوباً من غير جبرٍ.

قال: ولا يصح للمعتزلة أن تلزم الجبر بذلك لوجهين:

أحدهما: أن الداعي عند المعتزلة غير موجب.

قلت: بل هو كذلك عند الجميع، فهذا الرازي من الغُلاة فيه قد نص في " النهاية " على بقاء الاختيار مع الداعي الموجب كما يأتي.

قال الرازي: وثانيهما: أنهم يقولون بمثل ذلك في حق الله تعالى، ولم يقتض أنه عندهم غير مختار.

وبهذا يعرف خطأُ الغزالي على أهل السنة حيث نسب خلق الاختيار إلى من يقول بالكسب، وينفي الجبر في الرسالة القدسية في أوائل كتاب " إحياء علوم الدين "(1)، إلَاّ أن يكون أراد بالاختيار التمكن، كما قال الجويني في مقدمات " البرهان " (2): لا يُكلف إلَاّ المتمكِّن، ولا يصح التكليف إلَاّ بالممكن. فلا شكَّ أنا خُلِقنا متمكِّنين مختارين بغير اختيارنا، كما تقدم في المرتبة الأولى من هذه المسألة.

فهذا الرازي والبيضاوي والشهرستاني المقدمون في هذا الفن، المعوِّلون عليه في جميع أعمارهم لم يَنْسِبوا إلى أحدٍ من فرق السنة شيئاً من ذلك، وقرروا القول بأن الاختبار أثرُ قدرة العبد لا أثر قدرة الله تعالى.

وحقق ذلك الرازي بأنه ليس بشيء حقيقي، واحتج على ذلك موضحاً أن

(1) 1/ 111.

(2)

1/ 105 بتحقيق الدكتور عبد العظيم الديب.

ص: 34

ما كان شيئاً حقيقياً، فهو الذي يختص بقدرة الله تعالى وحدها على قولٍ، أو بالإعانة منه تعالى على القول الآخر.

وأما قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] فذكر الواحدي في " أسباب النزول "(1) أنها نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أخبر تعالى أنه لا يبعث الرسل على اختيارهم، رواه الواحدي في " أسباب النزول " ونسبه إلى أهل التفسير ولم يَسْتَثْنِ منهم أحداً، فصار هذا راجحاً، ولو لم يكن إلَاّ مُحتملاً مرجوحاً، لكان القاطع مقدماً عليه كيف الضروري. وكذا قال البغوي (2)، وقال: هو كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكونَ (3) لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. انتهى.

وقد ظهر أن هذا من الاختيار الذي هو الاصطفاء والاجتباء والانتقاء، لا من (4) الاختيار الذي هو نقيض الاضطرار وليس فيه تأويل، بل هو من المشترك،

(1) ص 229، والواحدي: هو العلامة الأستاذ أبو الحسن، علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري الشافعي، إمام علماء التأويل، توفي سنة (468 هـ). مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/ 339 - 342.

(2)

هو في تفسيره المسمى " معالم التنزيل " 3/ 452 - 453، والبغوي: هو الشيخ الإمام العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسِّر، صاحب كتاب " شرح السنة "، المطبوع بتحقيقي في خمسة عشر مجلداً، توفي سنة (516 هـ). مترجم في " سير أعلام النبلاء " 19/ 439 - 443.

(3)

هكذا قرأ هذا الحرف غيرُ الكوفيين: بالتاء المثناة من فوق لتأنيث " الخيرة "، وأما الكوفيون فقد قرؤوها بالياء، لأن تأنيث " الخيرة " غير حقيقي وهي معنى الخيار، وحجتهم إجماع الجميع على قوله (ما كان لهم الخِيَرة) ولم يثبتوا علامة التأنيث في " كان ". انظر " حجة القراءات " ص 578، و" النشر في القراءات العشر " 2/ 348.

(4)

في (ش): لأثر، وهو تحريف.

ص: 35

ومادة هذا من علم الغيوب، لقوله تعالى:{وكُنَّا به عالِمينَ} [الأنبياء: 51]، {وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، " وأستخيرك بعلمك " رواه البخاري (1)، ومادة الثاني من القدرة.

فإن قيل: قد أجمعوا على أن الإراده أمر ثُبوتي وجودي، والاختيار هو الإرادة.

قلنا: هذا ممنوع باتفاقهم، أما الأشعرية فظاهرٌ كما نص عليه الرازي، واحتج عليه في " نهاية العقول " كما ذكرته أول هذا الكلام.

وأما المعتزلة فقد ذكر ابن متَّوَيه في " تذكرته ": قد ثبتت حيث ينتفي الاختيار، والاختيار قد يثبت حيث تنتفي الإرادة.

مثال الأول: إرادة المُلْجَأِ إلى فعل ما يدعوه الداعي إليه كالهارب من السبع، فإنه يضطر إلى الهرب ويريده ولفعله وليس بمختارٍ فيه.

ومثال الثاني: أنه متى حصلت القدرة والداعي وقع الفعل بهما وإن منع الله تعالى الإرادة، بل وإن خلق الكراهة. انتهى كلامه.

وذكر في موضعٍ آخر منها، وذلك في أواخر فصول الإرادة: أن الإرادة إذا قارنت الفعل ووقع بها على وجهٍ سُمِّيَتْ نِيَّةً، ودلَّت على ما في الضمير، وذلك لا يوصف بها الله تعالى. وأما ما يتعلق منها بالحدوث فلا يُسمى نية، قال: وكذا ما يتعلق منها بالكلام يُسَمَّى قصداً، حتى قال: ويشبه بالقصد قولنا: إيثارٌ واختيارٌ.

فدل على أن هذه الأسماء قد تُطلق على الإرادة عند تعلُّقاتٍ مخصوصةٍ، ووجوهٍ مختلفةٍ، تقع عليها الإرادة فتميز تلك الوجوه بعضها من بعض باختلاف

(1) هو قطعة من حديث الاستخارة، وقد تقدم تخريجه، وانظر " البخاري "(1166)، و" صحيح ابن حبان "(886) و (887).

ص: 36

هذه الأسماء، فخالفوا بين هذه العبارات لتدل على تلك المعاني المختلفات.

فدلَّ على أن الاختيار غير الإرادة، وعلى أن الاختيار قد يُطلق عليها (1) عند وقوعها على وجهٍ مخصوص، فهو في بعض اعتباراته وصفٌ من أوصافها، أو حالٌ من أحوالها.

فالإرادة بنفسها من غير نظرٍ إلى تعلقها بشيء، هي ذاتٌ حقيقية، ووجودها غير متعلقةٍ صحيحٌ عند المعتزلة، والعبد مكلف بتعليقها بوجوه الحسن دون القبح، وتخصيص الفعل بوقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر، وهذا التعليق والتخصيص هو بالاختيار لا بالإرادة، بل الإرادة فعلٌ للعبد يقع بالاختيار (2) فَافْتَرقا.

ولا يُنْقَضُ هذا بقول البيهقي في " الأسماء والصفات "(3): وأما الاختيار، فقد قال الله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وهو عند الأشعري يرجع إلى إرادته إكرام من يشاء [من عبيده بما يشاءُ من لطائِفِه]، وهو عند غيره من صفات الفعل، فلا يكون معناه راجعاً إلى الإرادة بمعنى، بل يكونُ راجعاً إلى فعل الإكرام. انتهى بحروفه.

والجواب: أنه لا يُنَاقِضُ ذكرنا عن الأشعرية، فإن الاختيار غير الإرادة على الحقيقة، ولكن الأشعري تأول الاختيار في حق الله تعالى بالإرادة على سبيل المجاز، كما تأول الغضب والسُّخط في حقه تعالى بإرادته الذم والعقاب، وتأول المحبة والرضا بإرادة الثناء والثواب، وهذا عنده في حق الله تعالى.

وأما في حق المخلوقين فلا يجب تأويل شيء من ذلك، بل تُستَعْمَلُ الإرادة، والاختيار، والغضب، والبُغْضُ، والمقت، والسخط، والمحبة،

(1)" عليها " لم ترد في (ش).

(2)

في (ش): بالإحسان، وهو تحريف.

(3)

ص 504.

ص: 37

والرضا (1)، كل واحدٍ في مدلوله الحقيقي اللغوي، لأنه لا مانِعَ عنده من استعمالها في حقائقها في المخلوقين.

وهذا التأويل الذي ذكره البيهقي عن الأشعري هو مذهب المعتزلة أجمعين في حق الله تعالى.

واعلم أنه لا يُفَرِّقُ بين هذه الأمور ويميزها (2) إلَاّ من عرف علم اللطيف، وهو فنٌّ مستَقِلٌّ من فنون الكلام، وللمعتزلة فيه " تذكرة " ابن متويه، وللأشعرية فيه " الملخص " للرازي.

وقد ذكر الغزالي في " المنقذ من الضلال "(3) تقصير المتكلمين فيه، لأنه ليس من مقصودهم الأول، وإنما عنى أن مقصودهم الذب عن الإسلام، ثم اضطروا إلى الكلام في بعضه، وإنما هو من مقصود علوم (4) الفلاسفة. فإذا كان المتكلمون قد قصروا فيه، فما ظنُّك بمن ليس من النظر في شيء إذا تعرض للخوض فيه، وإنما حملني على التنبيه على هذه الجمل (5) اليسيرة قَرْعُ أسماع الغافلين الخائضين في التضليل والتكفير بغير هُدَىً ولا كِتابٍ مُنِيرٍ.

فيا عَجَبَاهُ ممن يُكفر طوائف من المسلمين ولم يعرف ما قالوا، ولا هو أهلٌ لفهم ما قصدوا، ولا فهم ما خافوا وحَذِرُوا

ومن البَلِيَّةِ عَذْلُ من لا يَرْعَوِي

عَن غَيِّهِ وخِطابُ مَنْ لا يَفْهَمُ (6)

(1) من قوله " الإرادة والاختيار " إلى هنا، سقط من (ش).

(2)

في (ش): وغيرها.

(3)

انظر ص 92 - 93 منه.

(4)

في (ش): علم.

(5)

في (ش): الجملة.

(6)

البيت للمتنبي وهو من قصيدة يهجو بها إسحاق بن إبراهيم الأعور ابن كيغَلَغ، وهي في " ديوانه " 4/ 121 - 132 بشرح أبي البقاء العكبري، ومطلعها:

لِهَوى النفوس سريرةٌ لا تُعْلَمُ

عَرَضاً نَظَرتُ وخِلتُ أني أسلمُ

قال الصفدي في " الوافي بالوفيات " 8/ 401: وكان إسحاق هذا قد ولاّه المقتدر ساحل الشام، وكان جواداً ممدَّحاً شاعراً محسناً، توفي في حدود العشرين وثلاث مئة.

ص: 38

فإن قيل: فكيف يصح من العبد أن يختار أمراً وذلك الأمر مخلوقٌ لله عز وجل، والمخلوق لله تعالى كائن قطعاً.

والجواب من وجهين: معارضة وتحقيق (1):

الوجه الأول: وهو المعارضة بالعلم الذي تُقِرُّ به المعتزلة، فإنه يقال لهم: كيف يصح اختيار العبد في معلوم الله تعالى؟ فما أجابوا به، فهو جواب أهل السنة.

الوجه الثاني: وهو التحقيقُ أن اختيار العبد سابقٌ لخلق الرب سبحانه سَبْقَ الشرط للعلة المؤثِّرَة كما سيأتي.

وهذا السؤال قد تكرَّر وتكرَّر جوابه، فلا يُضْجَرُ منه، فإنه لا يخلو من فائدة أو زيادة وضوحٍ وبيان، وذلك وإن تكرر وطال خيرٌ من الجهل بمذاهب الرجال.

وقد ذكر الرازي هنا معارضاتٍ للمعتزلة، قصد بها بيان أن مذهب المعتزلة ليس بأوضح من مذهبهم لاستلزام كل مذهبٍ في هذه المسألة للجبر ونفي الاختيار، لولا انفصال كل فِرقةٍ عن ذلك بالأنظار الدقيقة والاعتبارات اللطيفة، وقد مضى شيءٌ من ذلك عند ذكر مذهب المعتزلة أول المسألة.

فإن قيل: إن المؤثِّر في قبح القبائح هو الإرادة، يوضحه الحديث المتفق عليه وعلى حُكْمِه " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىءٍ ما نوى "(2) والنية:

(1) عبارة " معارضة وتحقيق " سقطت من (ش).

(2)

أخرجه البخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907)، وأخرجه أيضاً مالك في " الموطأ " ص 401 برواية محمد بن الحسن، والطيالسي في " مسنده " ص 9، وأحمد 1/ 25 و43، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي 1/ 58 - 60 و6/ 158 - 159 و7/ 13، وابن ماجه (2427)، وابن منده في " الإيمان "(17) و (201)، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 42، وفي " أخبار أصبهان " 2/ 115 و222، والبغوي في " شرح السنة "(1).

ص: 39

هي الإرادة بعينها، وإذا كانت الإرادة (1) هي المؤثِّرة، لزم (2) نسبة القبيح إلى الله لأنها أثَرُ قدرته.

فالجواب من وجوه:

الوجه الأول: أنه لا يصح عند الجميع تأثير الإرادة في ذلك، بل ولا الاختيار، لأنهما يوصفان بالقبح، فلو كان القبح يستلزم ذلك احتاج قبح الإرادة وقبح الاختيار إلى إرادةٍ واختيارٍ سابقين، ويتسلسل إلى ما لا نهاية له.

ذكر ذلك ابن متَّويه في " تذكرته " في " الإرادة " دون الاختيار، وذكر وُجُوهاً أُخَر في الإرادة غير مؤثرة في ذلك.

منها: أن المُرِيد لو مُنِعَ من القصد، وهو عالمٌ بقبح القبيح يتمكن من التحرُّز منه، لكان إذا فعله يقبُحُ ذلك منه، ويستحق به الذم ولا إرادة هناك.

فإن قلت: فما المؤثِّر في ذلك، فإنه لا بد من مؤثرٍ معقول (3)؟ قلت: هذه غفلةٌ عظيمة، فإنا قد (4) قررنا أن الحسن والقبح ليسا بشيء البتَّة، فكيف يحتاج ما ليس بشيء حقيقي إلى مؤثِّرٍ حقيقي، وقد بينا أنهما يتعلقان بالتروك العدمية المحضة، والعدم يستحيل التأثير فيه، وإنما سُمِّيَ الوجه الذي نشأ منه الحسن والقبح مؤثِّراً فيهما على سبيل المجاز، وذلك الوجه هو الحال الذي وقع الفعل عليه فاستحق به اسم الحسن والقبح ولوازمهما، وهو أمرٌ دقيق.

وقد اشتد اختلاف المتكلمين في الأحوال: منهم من أثبتها كأبي عليٍّ الجُبَّائي من المعتزلة، والباقِلَاّني من الأشعرية.

ومنهم من نفاها. وقد طوَّل الشهرستاني في ذلك، وأَفْرَدَ الكلام فيه في

(1) لفظ " الإرادة " سقط من (ش).

(2)

" لزم " سقطت من (ش).

(3)

" معقول " سقطت من (ش).

(4)

" قد " لم ترد في (أ).

ص: 40

مسألةٍ مستقلةٍ جعلها من مهمات كتابه، ويأتي في بيان الكسب إشارة يسيرة إلى معناها.

ومنهم من نفاها وجعلها مجرد عبارة، فإن صح ثبوت الأحوال وأنها أمور معقولة، فهو منشأ الحسن والقبح في الأفعال، وهي تُسمى موثرة فيهما مجازاً، وإن لم يصح ذلك كان الحسن والقبح معلومين بالإجماع، بل من ضرورة الدين وضرورة العقل عند المعتزلة وبعض أهل السنة، ولم يكونا مُعَلَّلَيْنِ، فليس كل معلوم معلَّلاً بمؤثرٍ متصورٍ في الذهن بالاتفاق كالتُّروك.

وقد دقَّ الأمر في هذا على المعتزلة كما دق على الأشعرية، ونُسِبَ إلى بعض أوائل المعتزلة أن القبيح قبيحٌ لذاته (1) والحسن كذلك، وهو قولٌ مرذولٌ عند المعتزلة، وللأشعرية عليه ردود ضرورية ذكروها في الكلام على التحسين والتقبيح العقليين.

ولذلك عوَّلت الأشعرية في هذه المسألة على السمع دون العقل، إلَاّ في صفة النقص كالجهل والكذب، وصفة الكمال كالعلم والصدق، واعترفوا بدَرْكِ العقل لها من دون أن يُدْرِك استحقاق الذم والعقاب على صفة النقص، ولا الثناء والثواب على صفة الكمال، فلا يعرف ذلك إلَاّ بالسمع عندهم، خلافاً للمعتزلة فإنهم جعلوا ذلك من المدارك العقلية، وليس اختلافهم إلَاّ في هذه النكتة على ما حققه الرازي.

الوجه الثاني: أن ابن متويه ذكر في " تذكرته " أن الإرادة إذا قارنت الفعل، ووقع الفعل بها على وجهٍ سُمِّيت نية، فأما تعلق الإرادة بمجرد (2) الحدوث فلا يسمى نية، لأن النية مفيدةٌ للضمير، فلهذا لا يصح استعمال هذه اللفظة في الله تعالى.

(1) كتبت في (أ): لذلك، وفوقها: لذاته، وهي كذلك في (ش): لذاته، وهو الصواب.

(2)

في (ش): فأما ما تعلق بمجرد.

ص: 41

قال: وأما القصدُ، فيجب أن يكون مقارِناً للمراد، وأن يكونا معاً من فعل فاعلٍ واحدٍ، فلا يقع من أحدنا قصدٌ إلى فعل الغير، ولهذه (1) الطريقة تُسَمَّى الإرادة التي يقع بها الكلام خبراً قصداً، ولا يُسَمَّى ما يؤثر في كونه أمراً لمن هو أمر له مُسَمَّاه بأنها قصد هذا (2) التفصيل، ويشبه القصد من هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ، لأن حكمهما حكمه (3) سواء. انتهى بحروفه.

واشتراطه في القصد (4) أن يكون فاعله فاعل المقصود، إن أردنا بالقصد الإرادة نفسها، فهي مسألة خلافٍ بين المعتزلة يأتي بيانها في الوجه الثالث إن شاء الله تعالى.

فإن أراد بالقصد وجهاً من وجوه تعلق الإرادة، فمُسَلَّمٌ وهو ظاهر مراده، وهذا الكلام يدل على أن للإرادة (5) تعلُّقاتٍ مختلفةً، بعضها: يتعلق بالحدوث، يتخصص الحدوث لأجله بوقتٍ دون وقت، وقَدْرٍ دون قدرٍ، فيسمى إرادةً ولا يُسمى نيةً، وبعضها: يتخصَّص بالوجوه المختلفة المُقتضية للحسن أو القبح، فتميز من بين سائر أقسام الإرادة بهذا المعنى، ويختص لأجل تميزه بهذا باسمٍ مُفرَدٍ: وهو النية التي توثر (6) في الأعمال، وهذا مطابِقٌ لما ورد به النص المتفق على صحته نقلاً ومعنىً وعملاً.

وهذا التعلق المخصوص الذي ميز هذا النوع من الإرادات هو أثر قدرة العبد وحدها، فلذلك نُسَمِّيه ناوياً وليس بمتعلِّقٍ بقدرة الله تعالى، ولذلك لم يصح إطلاق الناوي على الله تعالى، كما اعترف بذلك ابن متويه، وكما سيأتي تقريره في كلام الباقِلَاّني في تعريف معنى الأحوال.

وفي هذا جواب قول السائل: إن النية هي الإرادة، وبيانُ غَلَطِه في ذلك بإجماع المعتزلة والأشعرية بسبب افتراق العبد والرب في وجوه تعلق الإرادة.

(1) في (ش): وبهذه.

(2)

في (ش): ففيه هذا.

(3)

" حكمه " لم ترد في (ش).

(4)

في (أ): القصر، وهو تحريف.

(5)

في (أ): الإرادة.

(6)

في (ش): لا تؤثر، وهو خطأ.

ص: 42

صح أن يُشتق للعبد ما لا يشتق للرب من اسم المُطيع والعابد والعاصي والكافر والمؤمن والمتقرِّب وما لا يُحصى، فكذلك الظالم وفاعل الظلم والقبيحِ ونحو ذلك.

وقول ابن متويه: ويشبه القصد في هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ يعني أنهما من أسماء الإرادة عند تعلقها ببعض الوجوه المخصوصة، وأنهما لا يتعلقان بفعل الغير كالقصد، فيجب أن يكونا وما تعلقا به من فعل فاعلٍ واحدٍ، كما هو قول الأشعرية في الإرادة، فالإيثار اسم لإرادة الإحسان إلى الغير ممن ليس له غيرُ ما أعطى، والاختيار هنا هو في معنى النية بزيادة شرط المقارنة والقدرة، فهو اسمٌ للإرادة على هذه الشروط المخصوصة.

الوجهُ الثالث: أن الشيخ أبا هاشمٍ، وهو شيخ الاعتزال، قد جوَّر أن تؤثِّر الإرادة في الخطاب، وإن كانت من فعل الله تعالى والخطاب من فعلنا، فيكون خبراً أو إنشاءً بها، ويُنْسَبُ كونه خبراً أو إنشاءً إلينا، كما أن العلم الضروري بالصناعات المحكمة التي هي فِعْلُنا تؤثِّر في أحكامها، وتنسب الأحكام إلينا، مع أن العلم الضروري المؤثر في صحة الأحكام من فعل الله تعالى، وهذا كلامٌ صحيحٌ.

وقد اعترضه ابن متويه بأنها لو أثرت، وهي من فعل الغير، لكان أحدنا إذا أوجد (1) الكلام ووجدت هذه الإرادة خرج عن الاختيار في جعل كلامه خبراً، ومعلومٌ أن كونه خبراً مضافٌ إلى الفاعل، ولا يمكن التسوية بينها وبين العلم، لأن مع وجود العلم تصح أحكام الفعل، ويبقى الاختيار له فيه، سواء كان العلمُ من فعله أو من فعل غيره.

والجواب على ابن متويه: أنه قد اعترف في " تذكرته " أنه يصح وجود الإرادة غير متعلقةٍ، وهو مذهب أبي هاشم وغيره، فيمكن أن يقول: إن الله تعالى

(1) في (ش): وجد.

ص: 43

يُوجِدُها في المتكلم غير متعلقةٍ بكون كلامه خبراً أو إنشاءً، ثم يُعَلِّقُها المتكلم بأحدهما باختياره.

بيانه: أنه قد ثبت أن للإرادة بالمراد تعلُّقاتٍ شتى، فبالنظر إلى حدوثه يسمى إرادةً، وبالنظر إلى كونه خبراً وصدقاً وكذباً يُسَمَّى قصداً، فلأبي هاشمٍ أن يجعل هذا التعلق المختص باسم القصد من فعلنا واختيارنا، وإن كانت الإرادةُ في ذاتها من فعل الله، وهي تسمى مؤثرة في الخطاب في الحقيقة العُرفية. وإن كان التأثير على التحقيق لهذا التعلق الخاص، لا سيما، وقد نصَّ ابن متويه في الكلام الذي مضى في الوجه الثاني على هذا المعنى، وهو أن المؤثر في الكلام هو نوع من الإرادة يختصُّ باسم القصد، فإنه إنما اختص بذلك الاسم لوقوع الكلام به على وجهٍ.

وذكر في فصل آخر أن القبيح لا يقبُحُ بالإرادة في وجه القبح مثل كون الخبر كَذِباً، لأنه إنما يصير خبراً بالإرادة.

قلت: ومعنى هذا أنها مُصَحِّحَةٌ لوقوع الكلام خبراً كاذباً، والمؤثِّر في قبحه وقوعه (1) كذلك لا بالإرادة، فليست هي المؤثرة، ولكنها مصححةٌ للوجه المؤثر.

وكلامه ها هنا (2) لا يناقض ما قدمه من أن الكلام لا يصير خبراً إلَاّ بالقصد، لأن القصد نوعٌ من الإرادة، كما أن النية نوعٌ منها، والأنواع لا يتميز بعضها من بعض، ولا تتميز هي من أجناسها إلَاّ لوقوعها على الوجوه المختلفة، كما ذكر في تقاسيم الإرادة، حتى قسمها إلى: عَزْمٍ ونية وقَصْدٍ وإيثارٍ واختيارٍ ومحبةٍ وحَسَدٍ وغِبْطَةٍ ومُوالاةٍ ومُعاداةٍ، وكل هذه الأقسام يتميَّز بعضها من بعض بوجه مفهوم يقع الفعل عليه باختيار المختار، فيتغير اسم الإرادة ليدل تغييره وتبديله على المعاني المختلفة، وهذا التفصيل بمنزلة التقييد.

وقوله في غير هذا الفصل: إن الكلام يصير خبراً بالإرادة بمنزلة المطلق

(1) في (ش): هو وقوعه.

(2)

في (ش): فكلامه هذا.

ص: 44

المُتَجوَّز فيه، وإنما عنى بالإرادة حيث أطلق تأثيرها في الكلام، فعلى هذا القصد الذي بُيِّن في هذا التفصيل أن الإرادة (1) تسمى به حين تختص بالتأثير في الكلام.

فعلى هذا لو سلَّم أهل السنة أن الإرادة فعل الله وحده في العبد والاختيار إلى العبد، جاز أن يوقع الفعل به على الوجه القبيح، ويكون القبيح منسوباً إلى العبد دون الله تعالى، كما أن الله لما أوجد فيه العلم والقدرة المؤثرين في الإحكام، ووقع الإحكام باختياره، كان الإحكامُ منسوباً إلى العبد.

على أنا لو سلمنا ضعف كلام أبي هاشم في ذلك، فقد عرفت مما ذكرته أن الأمر قد انتهى في هذه المسائل على الدقة الكبيرة (2)، فمن بنى مذهبه على مثل هذا وشاركه في أساس مذهبه مثل أبي هاشم وأتباعه كان خليقاً عند المعتزلة بعدم التكفير، بل بعدم التشنيع والتحقير، وكل ما بُنِي على التدقيق، فهو دقيقٌ بلا خلاف بين أهل التحقيق، فيرتفع بذلك التكفير والتفسيق، وتَنسَدُّ إليه عند الإنصاف الطريق.

فإن قيل: فكلام هذه الفرقة ينبني على صحة القول بمقدورٍ بين قادرين، وتجويز فعلٍ واحدٍ لفاعلين، فما الذي ألجأهم إلى هذا؟

قلت: أمران عقلي وسمعي:

أما العقلي: فالفِرار من تعجيز الله عز وجل، فإن من قال بإحالة ذلك استلزم القول بأن الله عز وجل لا يقدر على أعيان مقدوراتِ العباد، حتى أفعال ما ضربه الله تعالى مثلاً في الضعف والحقارة من البعوضة والذباب والعنكبوت، وقد التزمت هذا المعتزلة إلَاّ أبا الحسين، حتى قالت البهاشمة من المعتزلة: إن في العدم ذواتٍ مُمكِنَة الوجود، وهي غير مقدورةٍ لله تعالى، وهي جميع مقدورات العوالم والحيوانات.

(1) في (ش): فعلى هذا القصد بين في هذا التفصيل لأن الإرادة.

(2)

في (أ): الكثيرة.

ص: 45

وقد أُلزِمُوا (1) التكفير في هذا، واعتذروا عنه بحيلتهم المعروفة في تسميته مُحالاً، وتفسير المحال بأنه لا شيء، والمنع من القدرة على لا شيء.

وبهذه الحيلة احتال كل عدوٍّ للإسلام في تعجيز الرب جل جلاله عن كثير من الممكنات، حتى اعتذر بذلك من منع من معاد الأجساد من الزنادقة.

ومن العجب أن الذي ألجأ المعتزلة إلى هذا القول الساقط أمرٌ قريب، وهو قولهم: إن أحد القادِرَيْن لو أراد إيجاد مقدوره، وأراد الآخر خلافه، أدى إلى أحد باطِلَيْن: إما وجودُ مقدور القادر من غير إرادته، وإما عدمه عندها (2).

وجوابه واضحٌ: وهو أن مقدوره إنما يكون مقدوراً له بشرط عدم المانع، ومع وجود المانع ليس بمقدورٍ، والقادران إن كانا مِثْلَيْنِ كالعبد مع العبد جاز أن يتمانعا حين يستويان، وأن يغلب أحدهما الأضعف حين يتفاضلان، وإن لم يكونا مثلين كالعبد مع الرب عز وجل كان في مقدور الله تعالى واقعاً مطلقاً متى أراد، ومقدور العبد مشروطاً بعدم منع الرب عز وجل له، وليس في هذا دِقَّةٌ، فمعذرتهم في هذا غلطةٌ داحِضَةٌ لا شبهةٌ غامضةٌ.

ولولا كثرة التجرُّؤ على ذي العزة والجلال ما أقدموا على تعجيزه سبحانه بمثل هذا الخيال، ولكن ليس يلزم من القول بقدرة الرب تعالى على أفعال العباد القطع بأنه سبحانه قد شاركه في فعلها، فإنه سبحانه موصوفٌ بالقدرة التامة على ما يفعل وعلى ما لا يفعل، وهذا هو مذهبُ طوائف أهل السنة الثلاث الآتي ذكرها، وهو أوسط الأقوال وأعدلها.

وأما الأمر السمعي، فهو نوعان: عمومٌ وخصوصٌ.

أما العموم: فكثيرٌ شهير، مثل قوله تعالى:{الله خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وقوله:{إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وخَلَقَ كُلَّ

(1) في (أ): التزموا، وكتب فوقها: ألزموا، وهي كذلك في (ش): ألزموا.

(2)

في (ش): عند وجودها.

ص: 46

شيءٍ فقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]، وهو أشهر وأكثر من أن يُذْكَرَ ويُحصر، غير أنهم اختلفوا في تفسير الخلق والخالق.

فمنهم من فهم أنه المؤثر في الذات علي جهة الاستقلال من غير معين، فجوز أن يؤثر العبد في الذات، وهو غير مستَقِلٍّ، وهؤلاء اعتبروا الاستقلال دون مجرد التأثير، وهم الفرقة الأولى.

ومنهم من اعتبر مجرد التأثير في وجود الذات، وهم أهل الكسب الأشعري وأتباعه، وأما الجُوَيني وأصحابه فسيأتي تحقيق مذهبهم في الفرقة الرابعة.

النوع الثاني: الخصوص (1) الوارد في ذلك، وهو قليلٌ ومحتمل لما في تفسيره من الخلاف بين أهل السنة، كما سيأتي في مثل قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقوله تعالى:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].

وحديث حذيفة بن اليمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الله يصنعُ كلَّ صانعٍ وصَنْعَتَهُ ".

رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "(2) وغير ذلك، وسيأتي ذلك مستقصى ويُبين اختلاف أهل السنة في الاحتجاج بهذه الحجج الخاصة والصحيحُ من أقوالهم إن شاء الله تعالى.

الفرقة الثانية: الذين يُنْسَبُ إليهم الجبر المحض، وأنه لا تأثير لقدرة العبد في فعله، ولا في صفةٍ من صفات فعله، بل يقولون: إن الله تعالى يخلق الفعل بقدرته، ويخلق للعبد قدرةً متعلِّقَةً به، مقارنةً له (3) في الوجود، غير سابقةٍ عليه (4) ولا مؤثِّرةٍ فيه، ولا تصلُحُ لتركه ولا لضِدِّه ولا لغيره.

(1) في (ش): المخصوص.

(2)

ص 26 و260 و388، وهو حديث صحيح، وسيأتي تخريجه ص 116.

(3)

" له " سقطت من (ش).

(4)

" عليه " لم ترد في (ش).

ص: 47

وهذا (1) قول الأشعري، وقد شَذَّ به ولم يُتابَعْ عليه، ورد عليه أصحابه هذا كما ردَّ به المعتزلة، وذلك واضحٌ في كتبهم.

وأهل هذا القول على رِكَّتِه وتصريحهم بما يُفهم منه الجبر الصريح، قد صرَّحوا بما يخرجهم عن صريح الجبر، وجحد الضرورتين العقلية والشرعية، فروى عنهم الرازي في " نهاية العقول " واللفظ له، والبيضاوي في " مطالع الأنوار "(2)، والشهرستاني في " نهاية الإقدام " أنهم يقولون: إن الاختيار إلى العبد، فإن اختار الطاعة خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها، وإن اختار المعصية خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها.

قال الرازي: ولهذا يحسن عندهم توجيه الأمر والنهي إليه.

قلت: وقد تقدم الكلام على الاختيار، وأنه وصفٌ إضافي وليس بشيء حقيقي وما يترتب عليه من الكلام سؤالاً وانفصالاً.

وتحقيق مذهب هؤلاء أن اختيار العبد شرطٌ عادي (3) في الحركة والسكون، كما أن فعله عند المعتزلة شرطٌ عادي (3) في تأثير السحر وفي خلق الولد من النطفة وسائر المسبِّبات ففعل العبد على هذا مرتبطٌ بالعبد وبالرب من جهتين

(1) في (ش): وهذا هو.

(2)

كذا سماه المؤلف رحمه الله " مطالع الأنوار "، والمعروف المتداول أنه " طوالع الأنوار " وهو مطبوع.

والبيضاوي: هو القاضي أبو الخير أو أبو سعيد، ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، صاحب التصانيف البديعة المشهورة في التفسير والفقه وأصوله، كان إماماً مبرِّزاً نظّاراً صالحاً متعبداً زاهداً، والبيضاوي نسبة إلى مدينة البيضاء، وهي مدينة مشهورة بفارس قرب شيراز، توفي سنة (685 هـ) في مدينة تبريز. انظر ترجمته في " الوافي بالوفيات " 17/ 379، و" طبقات الشافعية " للسبكي 8/ 157 - 158، و" البداية والنهاية " 13/ 327.

(3)

الجادة أن يقال: " المعتاد " لأن العادي في لغة العرب هو القديم.

ص: 48

مختلفتين، فارتباطه بالعبد من أجل اختياره ارتباط المشروطات بشروطها، وارتباطه بالرب من أجل قدرته ارتباط المعلولات بعِلَلِها، ولهذا الارتباط يصح أن يُسمى (1) العبدُ فاعلاً، والربُّ فاعلاً، وليس هذا من تجويز مقدورٍ بين قادِرَيْنِ، وفعلٍ بين فاعلين في شيء على التحقيق.

وإن كان صاحب " الخارقة "(2) قد أطلق ذلك عليه فقال ما لفظه: وأما قوله: لا (3) يصح مقدورٌ بين قادرين، وكذا فعلٌ بين فاعلين، فنقول: إذا كانا فاعلين لمعنى (4) واحد، وقادرين بمعنى واحدٍ، فذلك هو الممتنع، وأما إذا كانا على وجهين مختلفين فلا يمنع.

وبيانه: أن الآدمى محلٌّ لفعل الله تعالى ومحلٌّ لمقدوره، ولا تمانُعَ بين الله وبين عبده لأن الله تعالى فاعلٌ مُخترعٌ، والأدمي محل لذلك، فأين التمانع؟

وهذا كما تقول: قتل الأمير فلاناً، وتقول: قتله الجلاد، ولكن (5) الأمير قاتلٌ بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر.

وذلك أنه تعالى خلق في العبد القدرة، وارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط المعلول بالعلة، وكل ما له ارتباط بقدرة، فإن محلَّ القدرة يسمى فاعلاً كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد

(1) في (ش): اسم، وهو تحريف.

(2)

هو عالم الأشعرية عبد الرحمن بن منصور بن أبي القبائل الهمذاني، وكان حياً سنة 608 هـ، وهي رسالة صدرها باسم " الخارقة لأستار القدرية المارقة " وقد رد عليه فيها الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بكتاب سماه " الشافي ". انظر " فهرس المخطوطات بالجامع الكبير بصنعاء " 1/ 173 - 176.

(3)

في (ش): فلا.

(4)

في (ش): بمعنى.

(5)

في (ش): وذلك.

ص: 49

قاتلاً، والأمير قاتلاً، لأن القتل ارتبط بقدرتيهما، ولكن على جهتين مختلفتين. انتهى.

وفيه بيان أنه ليس من المقدور بيان قادرين في شيء، بل هذا مقدوران بين قادرين، فمقدور العبد مجرد الاختيار لا سوى، ومقدور الرب ما سوى ذلك.

فهؤلاء اعتقدوا أن كل موجودٍ من جسمٍ عَرَضٍ، ومن مُحْكَمٍ وغير محكم يسمى مخلوقاً، وكل مخلوق فلا يطلق على الحقيقة إلَاّ فيما خلقه الله تعالى، واحتجوا بنحو قوله تعالى:{هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3]، وقوله تعالى:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].

فلم يجيزوا مقدوراً بين قادرين، لأنه يقتضي أن يشترك العبد والرب في إيجاد الشيء المخلوق، وإن كان العبد غير مستقلٍّ، بخلاف الطائفة الأولى فأجازوا ذلك مع إعانة الله تعالى لعبده وإذنه، ولا يسمى خالقاً إلَاّ المستقل، وسيأتي الكلام على هذه الآيات في الكلام على الفرقة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

وأما الاختيار فليس عند هؤلاء شيئاً حقيقياً، فلا يستحق الدخول في عموم خلق كل شيء، فلذلك نَسَبُوه إلى قدرة العبد.

ولبعض المعتزلة قول شبيه (1) بهذا، وهو قول الجاحظ وثُمامة بن الأشرس: إنه لا فعل للعبد إلَاّ الإرادة، لكن المعتزلة يتعافَوْنَ البدع فيما بينهم حتى يقول بها غيرهم، وألزموه الكفر، وأخرجوه من الإسلام، وإلا فأيُّ فرقٍ بين قول الأشعري وثمامة والجاحظ.

فأما كون الإرادة شيئاً حقيقياً بخلاف الاختيار، فلا أثر لذلك، لما مضى من تقرير إجماع المعتزلة على أن الحسن والقبح لا يتعلَّق بذوات الأشياء

(1) في (أ): يشبه.

ص: 50

الحقيقية، فالحسنُ والقبحُ اللذان في الإرادة مثل الحسنِ والقبحِ اللذين في الاختيار عند المعتزلة، والذنوب والحسنات، إنما نشأت من ذلك لا من الذوات عندهم، بل قول الأشعريِّ أبعد من الجبر من قولهما.

إن قالا: ليس للعبد فعلٌ إلَاّ الإرادة من دون الاختيار لزم الجبر، وكانت كإرادة المريض للعافية عند (1) حصول العافية، فإن مقارنة الإرادة للعافية لا توجب أن العافية فعلٌ للعبد (2).

وإن قالا: إن الاختيار للعبد مع الإرادة، فالذي (3) أخرجهما من الجبر هو القول بأن الاختيار إلى العبد، وقد شاركهما في ذلك الأشعري، على أن للأشعري أن يُفَسِّر الاختيار بالإرادة، وينازع في كونها ذاتاً حقيقية، ويذهب مذهب أبي الحسين في الأكوان، ولا يمنعه من ذلك ضرورةٌ عقلية ولا شرعية.

واعلم أنه لا خلاف بين فرق الأشعرية في إثبات الاختيار للعبد، حتى إن الرازي في " نهاية العقول " صرَّح بأن الحق هو الجبر، ثم يُفَسِّر الجبر بوقوع الفعل عند الرجحان قطعاً مع بقاء الاختيار، وهذا تصريح بأن تسميته لذلك جبراً خلاف في مجرد العبارة، إلا أن الرازي وحده كثير التَّلوُّن في تصرفاته، وليس من جنس الأشعرية، وله في " المحصول " هفواتٌ قلَّ من يُدْرِكُ غَوْرَها.

فمنها: أنه صرح فيه (4) بنفي الاختيار، وناقض نصوصه المتكررة في " النهاية "، كأنه تكلم في " النهاية " عن المذهب، وفي " المحصول " عن اختياره هو في نفسه، وذلك أنه يتحامى مخالفة أصحابه (5) في علم الكلام دون أصول الفقه، ولذلك حكى كلام الفلاسفة في كتابه " الأربعين " في الوصف العدميِّ في المسألة الأولى منه، ثم قال بعده: وهذا سؤالٌ قويٌّ، ثم أجابه وقرَّر الجواب على الصواب ومضى.

(1)" عند " سقطت من (ش).

(2)

في (ش): العبد.

(3)

في (ش): والذي.

(4)

انظر " المحصول " 5/ 255.

(5)

في (ش): وذلك يتحابى أصحابه.

ص: 51

ولما تكلَّم في " المحصول " على الوصف العدمي في باب القياس ذكر كلام الفلاسفة واختاره تصريحاً، وذكر الجواب الذي رد به عليهم في " الأربعين "، ثم نَقَضَهُ في " المحصول ".

وتراه في " النهاية " يتلوَّن، ففي مسألة حدوث العالم قال: لا جواب على الفلاسفة إلَاّ بمذهب المعتزلة في ترجيح الفاعل لأحد مقدوريه من غير مرجحٍ.

وفي مسألة خلق الأفعال أبطل قول المعتزلة في هذه المسألة بعينها.

وكذلك صرَّح فيما أحسِبُ بنفي الاختيار في مقدمات " المحصول " في أصول الفقه في الاحتجاج على نفي التحسين العقلي، وجوّد ابن الحاجب الرد عليه في " المنتهى " كما نقلته في هذا الكتاب في آخر هذه المسألة.

واضطرب الرازي في " مفاتح الغيب " فقال: إن إثبات الإله يُلجِىءُ إلى القول بالجبر، وإثبات الرسل يُلجِىءُ إلى القول بالقدر (1)، ثم قال: بل هنا سر آخر وهو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقةً بديهيةً بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وجزماً بديهياً بحُسْنِ المدح والذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة.

فكأن هذه المسألة وقعت في حيِّز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته، وبحسب تعظيمه نظراً إلى حكمته، وبحسب التوحيد والنُّبُوَّة، وبحسب الدلائل السمعية.

(1) كتب في (أ) و (ف) فوق لفظة " بالقدر ": بالاختيار، ثم حشِّي علبها في الهامش: هكذا في بعض كتب الفن منقولاً عن الرازي.

ص: 52

فلهذه المآخذ التي شرحناها، والأسرار التي كشفنا عن (1) حقائقها، صَعُبَتِ المسألة وغَمُضَتْ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق. انتهى كلامه.

وإنما أوردته ليعرف أنه ليس كل ما (2) وُجِدَ نُسِبَ إلى طائفة الأشعرية، فكيف بمن يَنْسِبُ مثل ذلك إلى أهل الحديث والأثر.

وقد قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال "(3) ما لفظه: الفَخْرُ بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عريٌّ عن الآثار، وله تشكيكاتٌ على مسائل من دعائم الدين (4) تُورِثُ حَيْرةً، نسأل الله أن يُثَبِّتَ الإيمان في قلوبنا، وله كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم "(5)

(1) في (أ): على.

(2)

في (أ): كما، وهو خطأ.

(3)

3/ 340.

(4)

" التي " لم ترد في " الميزان " ولا في (ش).

(5)

جاء في " كشف الظنون " ص 989: " السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم " للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المتوفى سنة 606 هـ. وقيل: إنه مختلق عليه، فلم يصح أنه له، وقد رأيت في كتاب أنه للحرالي أبي الحسين علي بن أحمد المغربي، المتوفى سنة 637 هـ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 192: كتاب " السر المكتوم في علم النجوم " ليس من مؤلفات فخر الدين، وإنما هو من وضع بعض الملاحدة نسبه إليه ليروِّجَه بين الناس، وقد تبرّأ الرازي نفسه من هذا الكتاب في بعض مصنفاته، فالطاهر أنه نسب إليه وهو حي.

وقال السبكي في " طبقاته " 8/ 87: وأما كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " فلم يصح أنه له، بل قيل: إنه مختلق عليه.

وقال ابن خلدون في " المقدمة " ص 1154: وذكر لنا أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتاباً في ذلك (أي: في السحر والطلسمات) وسماه بالسر المكتوم، وأنه بالمشرق يتداوله أهلُه، ونحن لم نقف عليه، والإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن، ولعل الأمر بخلاف ذلك.

وقال ابن قاضي شهبة في " طبقات الشافعية " 2/ 84: ومن تصانيفه على ما قيل كتاب " السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم " على طريقة من يعتقده، ومنهم من أنكر أن يكون من مصنفاته.

ص: 53

سِحرٌ صريح، فلعله تاب منه إن شاء الله تعالى. انتهى.

فمن تشكيكاته ما تراه يصنع في المعجزات، فإنه في الكلام على التحسين والتقبيح من " المحصول " نفى الاختيار، ثم أورد من أدلة المعتزلة ما يلزم من نفي التحسين والتقبيح بطلان النبوة، وقرر ذلك أبين تقريرٍ، ثم إنه اقتصر في جوابه على المعتزلة بأن لهم من القواعد ما يقتضي بطلان النبوة أيضاً، ثم أورد ذلك وأوضحه وقرَّره أبين تقريرٍ، ثم ترك ذلك في كتابه على هذه الصفة.

وما يزيد أعداء الإسلام على ما صنع شيئاً، بل لا يستطيع أعداء الإسلام مثل هذا، فإن كُتُبَهم مهجورةٌ، وهذا جعل هذا مقدمةً لأصول الفقه، أحد أركان علوم الإسلام، وصدر من أحد علماء الإسلام، وأخرجها مخرج الرد على المبتدعة، فنفوس أهل السنة قبل التأمُّل تميل إليها، وإذا تأملت، وجدته قرَّر بطلان النبوات على كلا المذهبين، تقريراً يعلم أنه يصعب على أكثر المسلمين الانفصال عنه.

فما هذا صُنْعَ المعتزلة والأشعرية، فإن الجميع يَسْعَوْنَ في تقرير النبوَّات، كما صنع القاضي عياض في كتابه " الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى "، وذكر الذهبي في ترجمة الجاحظ من " النبلاء " أنه جود الكلام في النبوات فرحمه الله (1).

وكذلك فليكن علماء الإسلام، وكذلك هذا الكلام الذي ذُكِرَ عن الرازي آنفاً فيما أودعه تفسيره قوله: إن مسألة الجبر والقَدَرِ وقعت في حيِّز التعارض بالنظر إلى العلوم، فإنه مما لا يخفى على مثله فساده، لأن استحالة التعارض بين العلوم مطلقاً، ثم بين العلوم الضرورية خاصة مما يعرفه المبتدىء في العقليات، وهو يمرض القلوب من كلا الطرفين، ويُشوِّش على أهل المذهبين، ويستلزم مذهب أهل التجاهل، وأنا لا ندري ولا يدري أنا لا ندري، وإذا

(1) بعد هذا في (أ) و (ش) بياض بقدر ثلاث كلمات، وكلام الذهبي هذا الذي أشار إليه المؤلف ليس في المطبوع من " النبلاء "!

ص: 54

تأمَّلت، وجدته مخالفاً لإجماع المسلمين، ولم ينف الاختيار أحدٌ من أئمة الدِّين.

وقد حاف الرازي وما أنصف في دعواه التعارض بالنظر إلى العلوم الضرورية، فما علمنا أحداً ادعى ثبوت الجبر بالضرورة، بل الجَمُّ الغفير من الأشعرية وأبو الحسين وأصحابه من المعتزلة ادَّعوا الضرورة في ثبوت الاختيار، كما تأتي ألفاظهم في ذلك إن شاء الله تعالى.

وكما أقرَّ الرازي مع الجماعة ثم انفَرَدَ وحده، وشذَّ عن الجماعة، وادَّعى معارضة هذه الضرورة التي قد أقر بها مع الناس، ومن حق الضرورة أن يشترك فيها جميع الناس.

فأما قوله: إن الممكن لا يترجَّح إلَاّ بمرجِّحٍ، فإن هذا ضروري، فمُسَلَّمٌ له ذلك.

وأما قوله: إن ذلك يقتضي الجبر، فغيرُ مُسَلَّمٍ، بل ولا صحيح في النظر كما يأتي، وكما أقر به في " النهاية "، وسيأتي لفظه في ذلك.

فانظر كيف أوهم الضرورة في هذا القدر، وأدرجه في العلم الضروري بأن الممكن لا يترجَّح إلَاّ بمرجِّحٍ، وله أمثال هذا كثيرٌ.

والقصد التحذير مما في مصنفاته من هذا القبيل ونسبته (1) إلى طائفة الأشعرية، وأهل السنة، وليس القصد إساءة الظنِّ به، فإن بركات العلم والإسلام قد أدرَكَتْهُ، ولله الحمد، فتاب عن جميع ذلك، وقال في وصيَّتِهِ رحمه الله ما لفظه (2): وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فعلى (3) ما ورد في

(1)" ونسبته " سقطت من (أ).

(2)

انظر وصيته مع اختلاف يسير، في " تاريخ الإسلام " للذهبي في الطبقة الحادية والستين ص 211 - 215، طبع مؤسسة الرسالة، و" طبقات الشافعية " للسبكي 8/ 90 - 92، و" عيون الأنباء " لابن أبي أصيبعة 3/ 40 - 42.

(3)

في " تاريخ الإسلام " و" الطبقات ": وكل، وفي " العيون ": فكل.

ص: 55

القرآن والأخبار الصحيحة المتَّفَقِ عليها بين الأمة المتعين فيها المعنى الواحد والذي لم يكن كذلك، فأقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مُطْبِقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وكلُّ ما مَرَّ بقَلْبِي، أو خطر ببالي، فأشهد وأقول: كل ما علمت مني أني أريد به تحقيق باطلٍ أو إبطال حقٍّ، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت أني ما سعيتُ إلَاّ في تقرير ما اعتقدت أنه الحق وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي فذلك جهدُ المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة، فأغثني وارحمني يا من لا يزيدُ ملكه عرفانُ العارفين، ولا ينقص بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعةُ محمد سيِّدِ صلى الله عليه وسلم، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما. إلى آخر كلامه في هذا المعنى.

وإنما أوردته هنا ليَحْسُنَ فيه ظنُّ الواقف على ما في مصنفاته مما ذكرته، ومن أمثاله على أنه يمكن أنه لم يُرِدْ بالجبر نفي الاختيار، وإنما أراد وجوب وقوع الراجح بالنظر إلى الداعي كما هو مذهب أبي الحسين المعتزلي، بل ذلك هو الظاهر من تصرُّفات الرازي، فإنه صرح في " نهاية العقول " ببقاء الاختيار مع وجوب وقوع الراجح، وسمَّى ذلك الوجوب فيها جبراً كما سيأتي بحروفه في ذكر الفرقة الرابعة، فيكون الحمل عليه في تسميته بهذا الاسم، لما فيه من إيهام القول الباطل بالجبر المحض الذي يستلزم إفحام الرسل، وتقبيح الأمر والنهي والمدح والذم، والثواب والعقاب، وما عُلِمَ بالضرورتين العقلية والشرعية، كما اعترف بذلك هو، والله سبحانه أعلم.

الفرقة الثالثة: أهل الكسب، وهم جمهور الأشعرية، وقد طال اللَّجَاجُ بينهم وبين المعتزلة وبعض من يخالفهم من الأشعرية في أن الكسب معقولٌ أو غير معقولٍ، والإنصاف يقتضي أنه معقولٌ، كما عقله الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المجتبى " وبيَّن الجواب عنه، بل هو واضحٌ جليٌّ كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.

ص: 56

قال الشيخُ مختارٌ في " المجتبى ": وأما معنى الكسب عندهم، فقال بعضهم: إنه تعالى يخلُقُ الفعل، ويخلق قدرته في العبد مستَقِلَّةً بالفعل مقارِنَةً له غير مؤثِّرةٍ فيه.

زاد الرازي: إن الله عنذهم إنما يفعل ذلك عند اختيار العبد لذلك كالمسببات عند المعتزلة.

قال الشيخ مختار: وقال بعضهم: أصل الحركة بقدرة الله تعالى وتعينها بقدرة العبد وهو الكسب.

وقال بعضهم: إن الفعل بالله تعالى وصفته بالعبد، وهو قريبٌ من الثاني. انتهى.

وقد رأيت أن أُورِدَ كلام الأشعرية بنصِّه لعدم التفات المعتزلة إلى تحقيقه فيما رأيت من مشهور مصنفاتهم، فاقول: قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": قال القاضي -يعني الباقِلَاّني-: الإنسان يُحِسُّ من نفسه تفرقةً ضرورية بين حَرَكَتَي الضرورة والاختيار، كحركة المرتعش، وحركة المختار، والتفرفة لم تَرْجِعْ إلى نفس الحركتين من حيث الحركة، لأنهما حركتان متماثلتان، بل إلى أمرٍ زائدٍ على كونهما حركتين، وهو كون أحدهما مقدوره ومراده، ثم لا يخلو الأمر من أحد حالتين:

فإما (1) أن يُقال: تعلَّقت القدرة بأحدهما، كتعلق العلم من غير تأثيرٍ أصلاً، فيؤدي ذلك إلى نفي التفرقة، فإن نَفْيَ التأثير كنفي التعلق فيما يرجع إلى ذاتي الحركتين، والإنسان يجد التفرقة بينهما وبينهما لا (2) في أمر زائد على وجوديهما وأحوال وجودهما، ثم لا يَخْلُو الحال:

إما أن يرجع التأثير إلى الوجود والحدوث.

(1) في (ش): إما.

(2)

في (ش): وبينها إلا.

ص: 57

وإما أن يرجع إلى صفةٍ من صفات الوجود، والأولُ (1) باطل لما ذكرنا من أول لو أثرت في الوجود، لأثرت في كل موجودٍ، فيتعين أنه يرجع التأثير إلى صفةٍ أخرى، وهي حالٌ زائدة على الوجود.

قال: وعند الخصم قادرية (2) الباري تعالى لم تؤثر إلَاّ في حالٍ هو (3) الوجود، لأنه أثبت في العدم سائر صفات الأجناس من الشيئيَّة (4) والجوهرية والعَرَضية والكونية، إلى أخصِّ الصفات من الحركة والسكون والسواديَّة والبياضية، فلم يَبْقَ سوى حالةٍ وهي الحدوث، فليأخذ منا في قدرة العبد مثله.

قلت: قد تقدم أن بعض المعتزلة لا يجعلون الحال الذي هو الوجود مقدوراً على الحقيقة عند المناقشة، وإنما المقدور جعل الذات عليها، وقد تقدم (5) ما عليهم في ذلك من الإشكال.

ثم ذكر الشهرستاني قول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية في نفي الكسب، وأنه غير معقولٍ.

ثم قال في الجواب: ألسنا أثبتنا وجوهاً واعتباراتٍ للفعل الواحد، وأضفنا كل وجهٍ إلى صفةٍ أثَّرت فيه مثل الحدوث، فإنه من آثار القدرة، والتخصيص ببعض الجائزات فإنه من آثار الإرادة، والإحكام، فإنه من دلائل العلم، وعند الخصم كون الفعل واجباً ومندوباً وحلالاً وحراماً وحسناً وقبيحاً صفاتٌ زائدةٌ على الوجود، بعضها ذاتية للفعل، وبعضها من آثار الإرادة.

وكذلك الصفات التابعة للحدوث، مثل كون الجوهر متحيِّزاً وقابلاً للعرض، فإذا جاز عنده إثبات صفاتٍ هي أحوالٌ أو وجوهٌ واعتباراتٌ زائدة على الوجود (6) لا يتعلق بها القادرية وهي معقولة ومفهومة، فكيف يُستَبْعَدُ إثبات وجه

(1) في (ش): الأول.

(2)

في (ش): فإن ربه، وهو تحريف.

(3)

" هو" لم ترد في (ش).

(4)

في (أ): الشيئة، وفي (ش): التشبيه.

(5)

في (أ): وتقدم.

(6)

في (ش): الذات.

ص: 58

أثرِ القُدرة الحادثة معقولاً ومفهوماً.

ومن أراد تعيين ذلك الوجه الذي سمَّيناه حالاً، وأثبته أثراً، فطريقه أن يجعل حركة إما (1) اسم جنسٍ يشمل (2) أنواعاً وأصنافاً، أو اسم نوعٍ يتمايز بالعوارض واللوازم، فإن الحركة تنقسم إلى أقسامٍ، فمنها ما هو كتابةٌ، ومنها ما هو قولٌ، ومنها ما هو صناعة باليد، وينقسم كل قسمٍ أصنافاً، فتكون كونها حركة كتابةً، وكونها صناعة متمايزين، وهذا التمايز راجعٌ إلى حالٍ في إحدى الحركتين يُمَيِّزُها (3) عن الثانية، مع اشتراكهما في كونهما حركةً.

وكذلك الحركة الضرورية والحركة الاختيارية فتضاف تلك الحال إلى العبد كسباً وفعلاً، ويُشْتَقُّ له منها اسمٌ خاص مثل: قام وقعد، وقائِمٌ وقاعدٌ، وكتب وقال، وكاتبٌ وقائلٌ، ثم إذا اتصل به أمرٌ ووقع ذلك على وفق الأمر سُمِّي عبادةً وطاعةً، فإذا اتصل به نهيٌ ووقع على خلاف الأمر سُمِّي جريمةً ومعصيةً، ويكون ذلك الوجه هو المكلَّف به، وهو المقابل بالثواب والعقاب كما قال الخصم: إن الفعل يقابل بالثواب والعقاب لا من حيث إنه موجودٌ، بل من حيثُ إنه حسنٌ وقبيحٌ، فالحسن والقبح حالتان زائدتان (4) على كونه فعلاً، وعلى كونه موجوداً، والخصم أبعد من العدل، فإنه أضاف إلى العبد ما لم يُقابَلْ بثوابٍ ولا عقابٍ، وقابَلَ بالثواب والعقاب ما لم يكن من آثار قدرة العبد.

والقاضي الباقِلَاّني عيَّن الجهة التي لا تقابل عنده بالجزاء وهي الوجود، فأثبتها فعلاً للرب سبحانه، وعيَّن الجهة التي هي تُقابَلُ بالجزاء وهي كونُ ذلك الوجود طاعةً أو معصيةً، فأثبتها من فعل العبد وكسبه، ثم قابلها بالجزاء، وذلك هو العدل. إلى آخر ما ذكره من تقرير هذا المذهب، وهو كلامٌ طويلٌ.

(1) في (أ) و (ف): ما، وهو خطأ.

(2)

في (ش): يشتمل.

(3)

في (أ): بتميزها، وكتب فوقها " يميزها: ط "، وفي (ش): يتميز بها.

(4)

في (أ): زائدان، وهو خطأ.

ص: 59

وفي هذا القدر كفايةٌ مع ما يَرِدُ من ذكر الشهرستاني لمذاهب المعتزلة والجواب عنه.

ثم ذكر أن كلام المعتزلة ينحصر في مسلكين (1): أحدهما: مَدْرَكُ العقل (2)، والثاني: مَدرَكُ السمع.

قال: أما الأول: فهو أن الإنسان يُحِسُّ (3) من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرَّك، وإذا أراد أن يَسْكُنَ سكن، ومن أنكر ذلك، فقد جحد الضرورة، ولولا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد لما أحس (4) من نفسه ذلك، قالوا: وأنتم توافقونا على إحساس التفرقة بين حركتي الضرورة والاختيار، ولم يَخْلُ من أحد أمرين:

إما أن يرجع إلى نفس الحركتين من حيث إن إحداهما واقعةٌ بقدرته، والأخرى واقعة بقدرة غيره.

وإما أن يرجع إلى صفةٍ في القادر من حيث إنه قادرٌ على أحدهما أو غير قادر (5) على الآخر، وإن كان قادراً فلا بد من تأثيرٍ ما في مقدوره، ويجب أن يتعين الأثر في الوجود، ولأن حصول الفعل بالوجود لا بصفةٍ أخرى تقارن الوجود، وما سميتموه كسباً فغير معقولٍ، فإن الكسب إما أن يكون شيئاً موجوداً أم لا، فإن كان شيئاً موجوداً فقد سلَّمْتُمُ التأثير في الوجود، وإن لم يكن موجوداً، فليس بشيء فلا تأثير.

وأكدوا هذا بقولهم: إثبات (6) قدرةٍ لا تأثير لها كنفي القدرة، فإن تعلقها بالقدرة كتعلق العلم بالمعلوم، ولا يجد الإنسان تفرقة بين حركتين في أن

(1) في (ش): مسألتين.

(2)

في (ش): الفعل، وهو خطأ.

(3)

في (أ): يحسن، وهو خطأ.

(4)

في (أ): أحسن، وهو خطأ.

(5)

في (ش): وهو قادر.

(6)

في (ش): إن إيثار، وهو تحريف.

ص: 60

إحداهما (1) معلومةٌ، والثانية مجهولةٌ، ويجد التفرقة بينهما في أن إحداهما (1) مقدورةٌ، والثانية غير مقدورةٍ.

قال الشهرستاني في الجواب مع اختصار بعضه: ما ذكرتُموه من التفرقة بين الحركتين، إما الوجدان فمُسَلَّمٌ، ولكن ما قلتم من أنها راجعةٌ إلى أن إحداهما (2) موجودةٌ بالقدرة الحادثة فغيرُ مُسَلَّمٍ، وأحال إلى ما تقدم من البيان، ثم عطف بنحو ما تقدم.

إلى أن قال: فالوجود من حيث هو وجود (3) إما خيرٌ مَحْضٌ، وإلا لا خيرٌ ولا شرٌّ انتسب (4) إلى الله سبحانه إيجاداً وإبداعاً (5) وخلقاً، والكسب المنقسم إلى الخير والشر منتسبٌ إلى العبد فعلاً واكتساباً، وليس ذلك مخلوقاً بين خالقين، بل مقدورٌ بين قادرين من جهتين مختلفتين، أو مقدورين متمايزين، ولا يُضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني.

إلى أن قال: المسلك الثاني لهم في إثبات الفعل للعبد (6) ايجاداً قولهم: التكليف متوجِّهٌ إلى العبد بافْعَلْ، أولا تفعلْ، فلم يَخْلُ الحال من أحد أمرين: إما أن لا يتحقق من العبد فعلٌ أصلاً، فيكون التكليف سَفَهاً وعَبَثاً، ومع كونه سفهاً يكون متناقضاً، فإن تقديره: افعَلْ يا مَنْ لا يفعلُ.

وأيضاً فإن التكليف طلبٌ، والطلب يستدعي مطلوباً ممكناً من المطلوب منه، وإذا (7) لم يُتصوَّر منه فعلٌ بَطَلَ الطلب.

وأيضاً فإن الوعد والوعيد مقرونٌ بالتكليف، والجزاء مقدر (8) على الفعل

(1) في (أ): أحدهما، وهو خطأ.

(2)

في (أ): أحدهما، وهو خطأ.

(3)

في (ش): فالوجود ممن هو موجوداً، وهو خطأ.

(4)

في (ش): ينسب.

(5)

في (ش): ابتداعاً.

(6)

" للعبد " سقطت من (ش).

(7)

في (ش): وإن.

(8)

في (ش): مقدور.

ص: 61

والتَّرك، فلو لم يحصل من العبد فعلٌ ولم يتصور ذلك بَطَلَ الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فيكون التقدير: افعل وأنت لا تفعل، ثم إن فعلتَ ولم تفعل فيكون لك الثواب أو العقاب على ما لم تفعل، وهذا خروجٌ عن قضايا الحِسِّ، فضلاً عن قضايا العقول، حتى لا يبقى فرقٌ بين خطاب الإنسان العاقل، وبين خطاب الحمار، فلا فصل بين أمر التَّسخير والتعجيز، وبين أمر التكليف والطلب.

قالوا: ودَعِ التكليف الشرعي، أليس المتعارف منا، والمعهود بيننا مخاطبة بعضنا بعضاً بالأمر والنهي، وإحالة الخير والشر على المختار، وطلب الفعل الحسن، والتحذير عن الفعل القبيح، ثم تُرَتَّبُ المجازاة على ذلك.

فمن أنكر هذا فقد خرج عن حد العقل خروج عناد، فلا يُناظَرُ إلَاّ بالفعل كمناظرة السُّوفِسْطائِيَّة (1) فيُشتَم ويُلطَمُ، فإن غضب من الشتم وتألم من اللطم، وتحرك للدفع والمقابلة (2) فقد عرف بأنه رأى من الفاعل شيئاً يوجب الجزاء والمكافأة، وإلا فما له غَضِبَ منه، وأحال الفعل عليه.

والجواب من وجهين: أحدهما: الإلزامات على مذهبهم، والثاني: التحقيقُ على مذهبنا.

الأول: نقول: عَيِّنُوا لنا ما المُكَلَّفُ به، فإن القول بأن التكليف متوجِّهٌ على العبد ليس يُغني في تقدير أثر القدرة الحادثة وتعيينه.

فإن قلتم: المكلَّف به هو الوجودُ من حيث هو وجودٌ، لا من حيث كونه قبيحاً وحسناً، ومن المعلوم أن المطلوب بالتكليف (3) مختلف الجهة، فمنه: واجبٌ مطلوبٌ فِعْلُه، ومنه: حرامٌ مطلوبٌ تَرْكُهُ.

وإن قلتم: المكلَّف به هو جهة الوجود، وهو الذي يستحق المدح والذم

(1) في (أ): السوفصطائية.

(2)

في (ش): والمقاتلة.

(3)

في (ش): أن المكلف به.

ص: 62

عليه، فمُسَلَّمٌ، وذلك الوجه ليس (1) يندرج تحت القدرة عندكم، بل هو صفةٌ تابعةٌ للحدوث، فيا هو المكلف به حقيقةً لم يندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة لم يكن مكلفاً به.

فإن قيل: المقدور هو وجود الفعل، إلَاّ أنه يلزمه وجود ذلك الوجه المكلف به لا مقصوداً في الخطاب.

قيل: وما يُغنيكم هذا الجواب، فإن التكليف لو كان مُشعِراً بتأثير القدرة في الوجود، لكان المكلَّف به هو الوجود من حيث هو وجودٌ لا غير، ولكان تقديرُ الخطاب أوجد الحركة التي إذا وُجِدَتْ وُجِدَ (2) معها كونها حسنةً وعبادةً وصلاةً وقُربَةٌ، فما هو مقصودٌ بالخطاب غير موجودٍ بإيجاد العبد، فيعود الإلزام عكساً عليكم: افعل يا من لا يفعل.

فليت شعري أي مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف، ولا يندرج تحت قدرة غيره، وبين مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف ولا يندرج (3) من جهة ما كُلِّفَ به، والمندرج تحت قدرة غيره من جهة ما لم يُكَلَّف به، أليست القضيتان لو عُرِضَتا على محل العقل، كانت الأولى أشبه بالخبر.

إلى قوله: لزمهم (4) الأعراض التي اتفقوا على أنها حاصلةٌ بإيجاد الله تعالى، وقد ورد الخطاب بتحصيلها وتركها، وتوجه الثواب والعقاب عليها، وهي أيضاً مما يتعارفه الناس ويتداولونه مثل بعض الألوان والطعوم، واستعمال الأدوية والسموم والجراحات المُزْهِقَةِ للرُّوح، والفهم عقيب الإفهام، والشِّبَع عقيب الطعام، إلى غير ذلك، فإن هذه كلها حاصلةٌ بإيجاد الباري، وقد ورد الخطاب بتحصيلها عقيب أسبابٍ يُباشِرُها العبد، ووجهُ الإلزام أن الخطاب يتوجَّهُ بتحصيل أعيانها مقصوداً، ولذلك يُعاقَبُ عليه ويُمدَحُ.

(1)" ليس " سقطت من (ش).

(2)

" وجد " سقطت من (ش).

(3)

" ولا يندرج " سقطت من (ش).

(4)

في (ش): لنا إلزامهم.

ص: 63

ومن المعلوم أن من استأجر صبَّاغاً ليُبَيِّضَ ثوبه فسوَّدَه غَرِمَ، ومن قتل إنساناً بالسُّمِّ، استَوْجَبَ القَوَدَ، ومن أحرق ثوب إنسانٍ، أو غرَّق سفينة، أو فتح نقباً حتى هلك زرعٌ أو خَرِبَتْ دارٌ، عُوقِبَ على ذلك وضَمِنَ وغَرِمَ، فمورِدُ التكليفِ غير ما اندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة غير مَورِدِ التكليف.

والجوابُ عن السؤال من حيث التحقيق: أنا قد بيَّنَّا وجه الأثر الحاصل بالقدرة الحادثة، وهو وجهٌ أو حالٌ مثل ما أثبتوه للقادرية والأزلية، فخذوا من العبد ما يُشابِهُ فعل الخالق عندكم، ولينظر إلى الخطاب بافعَلْ أو لا تفعل (1)، أو خُوطِبَ أوْجِدْ أو لا تُوجِد، أو خوطِبَ: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، فجهة العبادة التي هي أخصُّ وصف الفعل حاصلٌ بتحصيل العبد مضافٌ إلى قُدرته، فما ضرَّكم (2) إضافة أخرى يعتقدها وهي مثل ما اعتقدتموه تابعاً.

فالوجود عندنا كالتابع أو كالذاتي الذي كان ثابتاً في العدم عندكم، والفرقُ بيننا أنا جعلنا الوجود متبوعاً وأصلاً، وقلنا: هو عبارةٌ عن الذات والعين، وأضفنا إلى الله تعالى وجميع ما يلزمه من الصفات، وأضفنا إلى العبد ما لا يجوز إضافته إلى الله تعالى، حيث لا يقال: أطاع الله وعصى الله، وصام وصلَّى وباع واشترى ومشى، فلا تتغيَّرُ صفاته بأفعاله، بخلاف ما يضاف إلى العبد، فإنه يُشتَقُّ له وصفٌ واسمٌ من كل فعلٍ يباشره وتتغير ذاته وصفاته بأفعال، ولا يجحد العلماء بجميع (3) وجوه اكتسابه وأعماله، وهذا معنى ما قاله الأستاذ أبو إسحاق: إن العبد فاعلٌ بمعنى، والرب سبحانه فاعلٌ بمعنى.

ثم ذكر الشهرستاني الجواب على أصل الأشعري والجبرية الخُلَّص بنحو ما تقدم من قول الرازي عنهم، إلى أن قال: ومما يُوضِحُ الجواب غاية الإيضاح أن التكليف بافْعَلْ ولا تفعل، ورد بالاستعانة بالله تعالى في نفس المكلف به كقوله:{اهْدِنا الصِّرَاطَ المستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا

(1) في (أ): أو يفعل، وهو خطأ.

(2)

في (ش): يضركم.

(3)

مكان قوله: " ولا يجحد العلماء " في (ش) بياض.

ص: 64

بَعدَ إذْ هَدَيتَنا} [آل عمران: 8].

وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {واصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَاّ باللهِ} [النحل: 127] لأنه قصر إمكان المأمور به على إعانة الله تعالى، وحصره فيها.

قال: وسواءٌ كانت الهداية بنفسها المسؤولة بالدعاء أو الثبات عليها، فلا شك أن العبد لو كان مستقلاًّ بإنشائها بقدرته مستنداً بالثبات عليها، كان مستغنياً عن هذه الاستعانة، ثم الله سبحانه يمُنُّ على من يشاء من عباده بأن هَدَاهُمْ إلى الإيمان، وعند الخصم هو محمولٌ على خلق القدرة، وهي صالحة للضدين جميعاً على السواء، وذلك يبطل قضية الامتنان بالهداية، قال الله تعالى:{بَلِ الله يَمُنُّ عليكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ} [الحجرات: 17].

وتحقيق ذلك من غير حَيْدٍ عن الإنصاف أن العبد كما يُحِسُّ من نفسه التمكن من الفعل يُحِسُّ الافتقار والاحتياج إلى مُعِينٍ في كل ما يتصرف ويجد في استطاعة، وفِقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويَذَر، ويُقَدِّمُ ويؤخر من تصرفات فِكْرِهِ نظراً واستدلالاً، ومن حركات لسانه قِيلاً وقالاً، ومن تردُّدَات يديه يميناً وشمالاً، فيُحِسُّ الاقتدار على النظر، ولا يُحِسُّ الاقتدار على عدم العلم بعد حصول النظر، فإنه لو أراد أن لا يحصل العلم لم يتمكن منه، ويُحِسُّ من نفسه تحريك لسانه بالحروف، ولو أراد أن يُبَدِّلَ المخارج ويغير الأصوات حَسَّ (1) ذلك، ويُحِسُّ تحريك يده وأَنْمَلَتِه، ولو أراد تحريك جزءٍ واحدٍ من غير تحريك (2) الرِّباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك.

وعند الخصم القدرة صالحةٌ للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين، والعبد مستقلٌّ بالإيجاد والاختراع وليس لله من هذه الأفعال إلَاّ خلق القدرة، واشتراط النية وهو من أضعف ما يُتصور، والحق في المسألة تسليم التمكن والتأنِّي والاستطاعة على الفعل على وجهٍ يُنْسَبُ إلى العبد معه وجهٌ من الفعل

(1) في (ش): من.

(2)

" تحريك " لم ترد في (ش).

ص: 65

يليق بصلاحية قدرته واستطاعته وإثبات الافتقار والاحتياج إلى الله تعالى، ونفي الاستقلال والاستبداد، فيجد في التكليف مورداً إلى موردي الخطاب فعلاً واستطاعةً، ويصادف في الجزاء تفضُّلاً ومقابلة، والله أعلم، وهو الموفق سبحانه.

انتهى كلام الشهرستاني في " نهاية الإقدام "، وبعضه يحتاج إلى شرحٍ لمن لم يَتَدَرَّبْ في علم الكلام، ولكن قد طال الكلام، والزيادة على هذا تُورِثُ السَّآمة والملل.

وقد أوجز الرازي العبارة في تفسير الكسب، فقال في كتاب " الأربعين ": إن الله تعالى يخلق الحركة المطلقة بقدرته سبحانه، والعبد بقدرته يجعل تلك الحركة صلاةً وظلماً، أو كما قال.

وقال الرازي في " النهاية " والشيخ مختار في (1)" المجتبى " في تفسير طريقة الباقِلَاّني في الكسب: هي أن القدرة الحادثة وإن لم تكن مؤثِّرَةً في وجود الفعل، لكنها مؤثرة في وجود صفةٍ له، وهي كونه طاعةً ومعصيةً. انتهى.

قلت: وبعض المتكلمين من الأشعرية كإمام الحرمين وأصحابه وبعض المعتزلة كأبي هاشم وأصحابه شَنَّعُوا على أهل الكسب في قولهم: إنه غيرُ معقولٍ، فإن معنى " غير معقول "(2) أنه يستحيل تصوُّرُه في الذهن وتفهمه، وإذا استحال ذلك، استحال الجواب المعين عليه بالبطلان، وهذا غلوٌّ في العصبية فاحش وليس كذلك (3)، ولا في معناه شيء من الغموض والدقة، فإن الكسب هو فعل العبد بعينه الذي هو الطاعات والمعاصي والمباحات وسائر التصرفات، وهذا شيءٌ ليس فيه دقةٌ، وإنما اختاروا تسمية فعل العبد بالكسب دون الفعل،

(1)" في " سقطت من (أ).

(2)

عبارة " فإن معنى غير معقول " ليست في (أ) و (ف).

(3)

" وليس كذلك " لم ترد في (أ).

ص: 66

ومعناهما واحدٌ عندهم، لأن الكسب يختص بفعل العبد دون فعل الرب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى كاسباً بخلاف الفعل فإنه مُشتَرَكٌ، فيجوز أن يُسَمَّى الله تعالى فاعلاً، وأن يُسَمَّى العبد فاعلاً، ثم الله تعالى يختص باسم الخالق المبدع المخترع، والعبد يختص باسم المطيع والعاصي وسائر أنواع الأفعال.

ولما كان الكسب يعُمُّ الطاعة والمعصية، ويختص بفعل العبد دون فعلِ الرب عز وجل، اختاروه (1) في التعبير عن فعل العبد كما اختاروا الخلق في التعبير عن فعل الرب عز وجل مع اعترافهم أن الفعل والكسب صادرٌ (2) عن العبد، وأنهما مترادفان، وله يُنْكِروا أفعال العباد، ولكن خصَّصُوها لتميز بعض أسمائها (3) الصحيحة لغة وشرعاً ونصّاً وإجماعاً وهو الكسب.

فإن كان المعتزلي لم يعرف ما الكسب، فليبحث كتب اللغة والتفسير، وليسأل ما معنى قول الله تعالى:{لها مَا كَسَبَتْ وعَلَيها ما اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله تعالى:{وتَشْهَدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُونَ} [يس: 65] وأمثال ذلك.

فإن قال: هو أعمال العباد من الواجبات والمحرمات، ترك مذهبه وأقرَّ بما قاله أهل الكسب، وإن فسَّره بتفسير المعتزلة ومذهبهم، وهو أمرٌ رابع ليس هو ذات الشيء ولا وجوده ولا كليهما (4)، فقد جاء في (5) المثل: رمتني بدائها وانسَلَّتْ (6)، وأين الكسب وجلاؤه ووضوحه من إثبات الذوات في الأزل،

(1) في (ش): اختاره، وهو خطأ.

(2)

في (أ): صادرة.

(3)

في (ش): أسبابها، وهو خطأ.

(4)

في (أ) و (ش): كلاهما، وهو خطأ.

(5)

" في " لم ترد في (أ) و (ف).

(6)

يقال لمن عيَّر صاحبه بعيب هو فيه، وقصة المثل أن سعد بن زيد مناة بن تميم كان تزوج رُهْمَ بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، وكانت من أجمل النساء، فولدت له مالك بن سعد، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فشكت ذلك إلى =

ص: 67

ودعوى الفرق بين الثبوت والوجود، والقِدَمِ والأزل، والقديم والأزلي مع عدم معرفة أهل اللغة للفرق بينها، وإذا جاز لهم أن يصطلحوا في ذلك على ما لا يعرفه غيرهم، فما الذي حصر الاصطلاح على المجهولات عليهم، وحَظَرَهُ على غيرهم.

وقد حكى صاحب " شرح الأصول الخمسة "(1) عن الجاحظ أنه يقول: إن المؤثِّر في أفعال العباد هو الطبع.

وحكى عن ثُمامة بن الأشرس أنه يقول: إنها حوادث لا مُحْدِثَ لها (2)، فلم تَنْسُبِ المعتزلة إليهما من الجبر والتشنيع نحو ما نسبته إلى أهل الكسب، فبهذا (3) يعرف أن فيهم أهل هوى، وإن لم يشعر بعضهم.

وقد غَلِطَ بعض متكلِّمي المعتزلة عليهم في مواضع:

الموضع الأول: ذكروا عن أهل الكسب أنهم يقولون: لا فاعل في الشاهد، وهذا غلطٌ فاحش، وقد تقرَّر في كلامهم الذي نقلته (4) عنهم أنهم يُسمون الكسب فعلاً، والمكتسب فاعلاً، وإنما يمنعون إطلاق الخلق والإيجاد والإبداع والاختراع متى كانت تُفيِدُ إخراج المعدوم إلى الوجود، وإنشاء عين (5) الذات الأزلية عند المعتزلة، مع أنهم لا يمنعون إطلاق هذه الأشياء في الشاهد

= أمها، فقالت: إذا ساببنك، فابدئيهن بعَفَالِ سُبِيتِ، فسابَّتها بعد ذلك امرأةٌ من ضرائرها، فقالت لها رُهم: يا عفلاء -كما وضحتها أمها- فقالت لها السابَّة: " رمتني بدائها وانسلَّت "، فأرسلتها مثلاً. انظر " مجمع الأمثال " 1/ 102 و286، و" المستقصى في أمثال العرب " 2/ 103، و" فصل المقال " ص 92 - 93، و" لسان العرب " 11/ 457، و" زهر الأكم " 3/ 60 - 61.

(1)

" الخمسة " لم ترد في (أ)، وصاحب الكتاب هو قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، وانظر حكاية قول الجاحظ فيه ص 387.

(2)

" شرح الأصول " ص 388.

(3)

في (ش): بهذا.

(4)

في (أ) و (ف): نقله.

(5)

في (ش): غير.

ص: 68

على غير هذا المعنى، فإنه يجوز نسبة الخلق إلى العبد متى صُرِفَ عن ذلك المعنى إلى معنى التقدير، كما قال تعالى عن عيسى عليه السلام:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وكما قال سبحانه:{فتبارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقينَ} [المومنون: 14].

وكذلك الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى:{وتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وأما الخلق الذي يختص بالله تعالى هو إنشاء عين الذات، وعلى هذا قال تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ الله} [فاطر: 3] وأمثالها.

الموضع الثاني: ذكروا عنهم أنهم لا ينسبون الاختيار إلى الفاعل من العباد، وأنهم ينسبونه إلى الله تعالى، وهذا لم يصح عن الجبرية الأشعرية كما تقدم، فكيف بأهل الكسب؟

وقد تقدم تصريحهم بخلاف ذلك، وتكذيبهم في حكايتهم لمذاهبهم حرامٌ بالإجماع، ولو فتحنا باب التكذيب لأهل المذاهب لم تكن فِرقةٌ أولى به من فرقةٍ، ولانسَدَّ باب نقل المقالات عن أربابها.

الموضع الثالث: ذكروا عنهم أنهم يقولون: قدرة العبد على الكسب مقارنةٌ لمقدورها، فلا تؤثر فيه، ولا يخرجهم القول بالكسب عن الجبر. وهذا جحدٌ لصريح ردهم على الأشعري في قوله: قدرة العبد متعلقةٌ بفعله غير مؤثرةٍ فيه.

وقد تقدم تصريحهم بالرد عليه كما في كلام الباقلاني (1) الماضي، وسيأتي ردُّ ابن الحاجب عليه في مواضع من " مختصر المنتهى ".

وقد ذمَّ صاحب " الخارقة " منهم صاحب " الرادة " بأنه يرمي أهل الكسب بمذاهب أهل الجبر، ونص على أن الكسب غير معقولٍ، ويجتزىء بهذا القدر في إبطاله، وعابَه بهذا أشد العيب، وتمثل في الرد عليه بقول الشاعر:

(1) في (ش): بالرد عليه كالباقلاني، وهو خطأ.

ص: 69

أتانا أن سهلاً ذمَّ جهلاً

علوماً (1) ليس يعرفهنَّ سهلُ

ولو لم يخلُ منها ذَبَّ عنها

ولكن الرضا بالجهل سهلُ

فإن قيل: كيف يصح القول بالكسب وهو مبنيٌّ على أن الله تعالى يوجبُ ذات فعل العبد، وأن العبد أكسب تلك الذات صفة الحسن والقبح، وليس يصحُّ أن تكون الذاتُ لفاعلٍ، وصفتها لفاعلٍ آخر.

فالجواب أن من (2) أورد هذا السؤال، فقد عقل ماهية الكسب، وبطل دعواهُ أنه غير معقولٍ، ودعواه أنه قولُ الجبرية، ودعواه أنه كفرٌ، فإنه يؤدي إلى تلك الشناعات، ولم يبق إلَاّ أنه صوابٌ أو خطأ، وهذا سهلٌ، فإن المعتزلة عشرُ فِرَقٍ، وبين أبي علي وأبي هاشم والبصرية والبغدادية وأصحاب أبي الحسين من الاختلاف في القطعيات ما هو أكثر من هذا، وهذه المسألة بعينها مما اختلفوا فيه.

وقد جوَّز أبو (3) الحسين ما منعه السائل من كون الذات الجسمية فعلاً لله تعالى، وصفتها الكونية في الجهات فعلاً للعبد، وكفى وشفى في الرد على من منع ذلك، ومن أحبَّ ذلك فليطالع كتبه وكتب أصحابه مثل محمود بن الملاحِمِي (4)، وصاعد، ومختار صاحب " المجتبى "، والإمام يحيى بن حمزة.

ومن أرَكِّ (5) ما جاءت به البهاشمةُ في منع ذلك أنهم احتجوا بكلامنا وكلام الغير، قالوا: فإنا لما (6) قدرنا على ذات كلامنا، قدرنا على جعله على جميع صفاته من كونه خبراً أو إنشاءً، ولما لم نقدر على كلام الغير لم نقدر على

(1) في (ش): أموراً.

(2)

" من " سقطت من (أ).

(3)

في (أ) و (ش): أبي، وهو خطأ.

(4)

في (أ): محمود الملاحمي، ومحمود بن الملاحمي هذا ذكره أحمد بن يحيى بن المرتضى في " المعتزلة " ص 71 فقال: ومن تلامذة أبي الحسين البصري الشيخ النِّحرير محمود بن الملاحمي مصنف " المعتمد الأكبر ".

(5)

في (ش): أدرك، وهو تحريف.

(6)

" لما " سقطت من (ش).

ص: 70

جعله على شيء من تلك الصفات، فدارت العلة على القدرة على الذات وجوداً وعدماً.

فنقض أبو الحسين ما ذكروا بأنه (1) ليس لكلامنا بكونه خبراً أو إنشاءً صفةٌ حقيقية، لأنه لا يوصف بالخبر والإنشاء من الكلام إلَاّ الجُمَلُ، ويستحيل وصف الحرف الواحد بذلك، مع أنه لا يصح عند الخصم أن يوجد (2) من الكلام إلا الحرف بعد الحرف، والمعدوم لا يصح وصفه بصفةٍ حقيقيةٍ.

سلمنا أن كلامهم في هذه المسألة هو الصحيح دون كلام أبي الحسين، وأن كلام الشيخ أبي الحسين مع البهاشمة يختص بصفات الأجسام التي هي باقيةٌ دون التي لا بقاء لها كما يشير إلى ذلك كلام الشيخ مختار في " المجتبى " في الرد على من قال بالكسب، فإنه لا يلزم أهل الكسب منه شيء، لأن كلامهم في الكسب إنما هو إكساب (3) الذات صفات الحسن والقبح، وهي إضافيةٌ لا وجود لها، بدليل أنا نصف التروك بها، وليست التروك بأشياء على المذهب الصحيح وهو مذهب البهاشمة.

ولو سلمنا أن التروك أشياء، فالقول بأن الوجوب والتحريم ونحوهما ليست بأشياء حقيقيةٍ وإنما هي أوصافٌ إضافية كلمة إجماعٍ بين المتكلمين، ولو كانت أعراضاً وجوديةً، لوجب قيامُ العَرَض بالعَرَض، فإن الصلاة عَرَضٌ، فلو كان وجوبها عرضاً آخر وهي متصفة به، لكان العرض قد حل العرض.

وخلاصة مذهبهم أن الهَمَّ بالفعل اختيار وقوعه على الوجوه من أثر قدرة العبد، وذلك سابقٌ على حدوثه الذي هو قدرة الله، فلما كان الله يخلق حدوث الفعل في العبد بعد همِّ العبد واختياره المؤثر في حسن كسب العبد وقبحه (4)،

(1) في (ش): به أنه، وهو تحريف.

(2)

في (ش): يؤخذ، وهو خطأ.

(3)

في (ش): اكتساب، وهو خطأ.

(4)

في (أ): وكسبه، وهو خطأ، والمثبت من (ش)، وقد كتبت على الصواب فوق الكلمة في (أ).

ص: 71

وتسميته بأخصِّ أسمائه لم يمنع ذلك لتقدم اختيار العبد في نيته من فعل الله تعالى لشعوره به قبل وقوعه وحال وقوعه (1)، فإنه إنما وقع على جهة الامتحان عندهم، كما يؤثر الله في التفريق عند السحر عند الجميع على جهة الامتحان، وكما يؤثر سبحانه في قبض الأرواح عند فعلنا لسبب ذلك.

وكذلك سائر المسبَّبَات عند الجميع فتؤثر نية العبد في المسببات إجماعاً مع عدم استقلاله في ذلك إجماعاً، والتشاغلُ بمثل هذا يحتاج إلى الاعتذار.

ولولا أن القصد بذكره أن يكون وسيلةً إلى ترك التكفير لمن غَلِطَ في هذه الدقائق التي لا تُعْلَمُ ضرورة من الدِّين، فإني ما قصدت إلَاّ هذا، ولم أقصد تصحيح القول بالكسب دع عنك الجبر، فإن المختار عندي قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة، وابن تيمية وأصحابه من أهل السنة، فإنهم قد صححوا أن الحركة والسكون وَصْفَانِ إضافيان تابعانِ للذات، ولهم ردودٌ قوية على من زعم أن الأكوان ذواتٌ ثُبوتيةٌ، وأين من يعرف ما قالوا كيف الأمر برده بالبراهين القاطعة (2).

ولو ذهب ذاهب من أهل الكسب إلى مذهبهم لجوز تأثير قُدرة العبد في الأكوان، ونزَّلَها أنفسها منزلة الوجوه والاعتبارات عند الباقلاني، وهو مذهبٌ صحيح الاعتبار، قوي الأساس على قواعد النظار.

وإذا ضمه الجويني إلى ما اختار، لم يبق عليه غُبار، ومنتهى ما يلزم أهل الكسب أن يكون فعل العبد، وخلق الرب سبحانه مقدورين مختلفين معنىً، متلازمين وجوداً، بين قادرين غير متمانعين، ولا ماء من ذلك قاطعٌ بحيثُ يمنع قدرة الله تعالى عن أن يشرك العبد في فعله هذه المشاركة، بل منتهى ما فيه مقدورٌ واحدٌ بين قادرين، وقد جوزه أبو الحسين وأصحابه من المعتزلة وجماهيرُ الأشعرية، وليس فيه كفرٌ ولا فسوقٌ ولا عصيان ولا مُروق.

(1)" وحال وقوعه " لم ترد في (أ)، و (ف).

(2)

في (أ): وإن من يعرف ما قالوا كيف من يرده بالبراهين القاطعة.

ص: 72

ومتى كان الخطأُ متوقِّفاً على مثل هذه الدقائق لم يكن التكفير فيه بلائقٍ، وهدا هو مقصودي (1) بوُلُوج هذه المضايق والبحث عن الحقائق، والله تعالى عند لسان كل ناطقٍ، وسريرة كل كاذبٍ وصادقٍ، لأن هذا الكتاب إنما صُنِّفَ في الذب عن السنة النبوية لا في الذب عن الجبرية، ولا عن الأشعرية، لكن الذي أنكر صحة السنن النبوية وصحة التمسك بها توسَّل إلى ذلك بأن رُواتها أو كثيراً منهم جبرية كفار تصريحٍ، متعمِّدُون للكذب على الله تعالى ورسوله، وجعل الأشعرية وخصومهم من أهل الحديث والجمود (2) من جملة الجبرية الخالصة الغلاة (3)، فقصدت تمييز بعضهم من بعض، لأنه كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي في " المجتبى "، فإنه ميَّز أهل الكسب من غُلاة الجبرية الخالصة، وقال: إنه المشهور من مذهبهم، وإنه قول أكثر أهل السنة فنُفْرِد لكل واحد من المُجْبِرةِ الخالصة والكسبية مسألةً على حَِدَةٍ. انتهى كلامه بحروفه.

وقد أوضحت في المجلد الأول (4) إجماع الأمة والعترة على قبول أهل التأويل من طرقٍ عديدة من طريق العترة والشيعة والمعتزلة وأهل السنة، وإنما كلامي هنا في بيان الوجه في قبول أهل الإجماع لأهل التأويل، وبيان دقة الأمر الذي تأولوا فيه، وبيان مراتب البدع، كل ذلك حتى لا يلزم انطماس السنن والآثار التي هي تفسير القرآن، وعليهما (5) عمل جميع أهل الإسلام والإيمان، وقد تقدم أنه يلزم مُنكِرُ ذلك أكثر من مئتي إشكال لما (6) يؤدي إليه من الضلال والإضلال، والله المستعان.

الفرقة الرابعة من أهل السنة: الذين قالوا: إن فعل العبد واقع بقدرته

(1) في (أ) و (ف): مقصر، وهو تحريف، وقد كتبت فوقها على الصواب، وفي (ش): مقصدي.

(2)

في (ش): والجحود، وهو خطأ.

(3)

في (ش): العداة.

(4)

انظر الجزء الثاني بتقسيمنا ص 316 وما بعدها.

(5)

في (ش): عليها.

(6)

في (ش): بما.

ص: 73

لتمكين الله تعالى له ذلك، وسابق مشيئته وتقديره وتيسيره، والتأثير عندهم لقدرة العبد المخلوقة من غير استقلال العبد بنفسه، ولا استغنائه طَرْفَةَ عين عن ربه، لتوقُّف تأثير قدرته على ما سبقها من مشيئة ربه عز وجل وتقديره وتيسيره، وهذه الفرقة طائفتان:

الطائفة الأولى: الذين يقولون إن الأكوان التي هي أفعال العباد كالحركة والسكون ليست ذواتاً حقيقيةً، وإنما هي صفاتٌ إضافيةٌ. ومثال الصفات الإضافية: القبلية والبعدية، فإن اليوم " قَبْلٌ " بالنظر إلى غدٍ، و" بعدٌ " بالنظر إلى أمس، وليس له بذلك وصفٌ حقيقيٌّ كالسوادية والبياضية.

وهذا القول أعدل الأقوال كلِّها وأقواها، وهو المختار لمن سبح في هذه الغمرات، ولم يَقِفْ مع أهل الحديث والأثر في ساحل النجاة. وإنما كان أقوى هذه الاختيارات، لأنه سلم من جميع التكلُّفات، وساعدت عليه قواطع البراهين العقليات، والنصوص السمعيات، أخذ من قول أهل السنة: تأثير القدرة الحادثة في مجرد الأمور الإضافيات، وعدم تأثيرها في وجود الأشياء التي هي ذوات حقيقيات، وسَلِمَ من جميع ما تُورِدُه المعتزلة ويورده بعض الأشعرية على بعضهم من الإشكالات (1).

ولم يبق الخلاف بين أهله وبين سائر أهل المقالات إلَاّ في أن الأكوان صفاتٌ لا ذواتٌ، والدلالة على ذلك من أوضح الدلالات، وقد تقدم ما قلته في ذلك وشرحتُهُ من الأبيات.

وقد توافق على هذه المسألة جماعةٌ جِلَّةٌ من أمراء علم المعقولات والمنقولات، مثل شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية وأصحابه من متكلِّمِي أهل الحديث والأثر، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وشيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه، وهم

(1) في (ش): على بعض الإشكالات.

ص: 74

رجالُ المعتزلة كما قاله الفخر الرازي، وفي كتب هؤلاء من نُصْرَةِ هذا (1) المذهب ما يُغني عن التطويل بذكره ها هنا.

الطائفةُ الثانية: من يقول بأن الأكوان أشياءُ حقيقيةٌ وجوديةٌ، وذلك إمام الحرمين (2) أبو المعالي الجُوَيني وأصحابه، وعزاه الرازي في " النهاية " إلى الشيخ أبي إسحاق، قال الرازي في " النهاية ": صرح به الجويني في كتابه " النِّظامي "، ورواه الإمام يحيى بن حمزة في " التمهيد " عن الجويني، وصرح به الجويني في مقدمات كتاب " البرهان " له بأن القول بالكسب (3) تمويه بهذه العبارة، وقال فيه: وأما سِرُّ ما يعتقده في خلق الأفعال، فلا يحتمله هذا الموضع. انتهى بحروفه.

ثم إني لم أقف على قوله في ذلك منصوصاً في كتبه، لكن قال أبو نصرٍ السبكي في " جمع الجوامع " (4) له ما لفظه: وقال إمام الحرمين: خلق الطاعة.

وقال شارح " جمع الجوامع ": قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلَاّ أنه لم يثبت للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سببٍ آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى، وهو الخالق المُبْدعُ المستقِلُّ بإبداعه من غير احتياج إلى سبب، إلى قوله: وإنما حمله على تقرير ذلك الاحترازُ عن (5) رَكَاكَةِ الجبر.

قلت: لكنه رحمه الله وقع في ركاكة تأثير قدرة العبد في إخراج الذوات من العدم إلى الوجود، فلو قال: بما (6) اخترناه من أن الأكوان إضافيةٌ كالطائفة الأولى

(1) في (أ) و (ف): أهل، وكتب فوقها تصحيحاً لها: هذا، وهو الصواب، وهي كذلك في (ش): هذا.

(2)

من قوله " من يقول " إلى هنا سقط من (ش).

(3)

في (ش): بأن الكسب.

(4)

انظر " جمع الجوامع " مع حاشية العطار 2/ 469 - 470.

(5)

في (ش): من.

(6)

في (ش): كما.

ص: 75

سَلِمَ من الرَّكاكتينِ في كِلْتا المقالتين.

قال الشهرستاني بعد قوله " إن الجويني فر من ركاكة الجبر ": والجبر لازِمٌ في كل تقديرٍ حتى الاختيار على المختار جبر.

قلت: هذا معنىً صحيحٌ، وقد قدمت ذكره في المرتبة الأولى، ولكنها عبارة مبتدعةٌ مكروهةٌ لأنها توهم خلاف الصواب، وهذا وَلَعٌ شديد بتسمية العبد مجبراً وإن لم يكن تحت هذه التسمية في الاختيار، كما ذلك دَأْبُ الرازي يطلقُ المجبر وهو يعني به المختار، ويقول: الصحيحُ هو الجبرُ، ويفسِّره بالاختيار (1)، وهذه مراغَمَةٌ للمعتزلة، وفيها مفسدةٌ بَيِّنَة، فإنها تُوهِمُ خلاف الصواب في اعتقاد أهل السنة، ويكون عُذراً للغالط عليهم في مذهبهم، وهذا وأمثاله هو الذي شبَّ نار الاختلاف، وبهَّج منار الاعتساف، وقد جوَّد الغزالي التحذير من هذا وأمثاله في مقدمة كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " فليطالع، فإنه مفيدٌ جداً.

وما الذي ألجأ الشهرستاني إلى القول بلزوم (2) الجبر على كل تقدير، وهو الذي أبطل مذهب الجبر، وادعى الضرورة في فساده، وصرَّح بأن من وقف على كلامه في الإرادة هانت عليه تمويهاتُ الجبرية بهذه العبارة كما تقدم.

واعلم أن الأساس الذي ينبني عليه قول هذه الفِرقة الرابعة في عدم استقلال العبد بنفسه، هو القول بأن الداعي الراجح موجبٌ لوقوع ما دعى إليه بالاختيار لذلك من الفاعل. وهذا القول مُجْمَعٌ عليه عند البحث، وإن كان يروى فيه الاختلاف الشديد فإنما (3) هو في العبارة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وهو قول من قدمته من هاتين الطائفتين، وحكاه الرازي في " الأربعين " عن جمهور الفلاسفة، وهو اختيار الرازي.

وإنما ادعيت أن الخلاف فيه لفظي لأن القائمين بحرب أهله وتَعْفِيَة رسمه

(1) من قوله " ويقول: الصحيح " إلى هنا سقط من (ش).

(2)

في (أ): يلزم.

(3)

في (ش): وإنما، وهو خطأ.

ص: 76

هم المعتزلةُ غير أبي الحسين وأصحابه، ومع غُلُوِّ المعتزلة في إنكاره قد صرَّحوا بتصحيحه في أربع مسائل مهمةٍ:

المسألة الأولى قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على فعل القبيح مع أنه لا يفعله قطعاً، ما ذلك إلَاّ لرجحان الداعي إلى تركه، وبطلان الصارف المعارض للداعي، ومن قال: إن الداعي مُوجِبٌ لم يزد على ذلك شيئاً، فإن الرازي -وهو من الغلاة في إيجاب الداعي- صرح في " النهاية " إنه لم يرد بالإيجاب نفي الاختيار، وأن القول بذلك خروجٌ عن الإسلام.

المسألة الثانية: احتجوا على أن أفعالنا لنا لا لله تعالى بوقوعها على حسب قصورنا ودواعينا، وانتفائها على حسب كراهتنا وصوارفنا، وهذا الدليل لا نسلم صحته إلَاّ مع القطع باستمرار هذا التلازم بين رُجحان الداعي (1) ووجود الفعل على وجهٍ لا يجوز وقوع (2) خلافه في الخارج، إذ لو صح أن تكون أفعالنا في بعض الأحوال غير متوقِّفةٍ على دواعينا، لبطل الاستدلال، ومع تسليم استمرار التلازم يزول النزاع، فإنه الذي أراد من قال بأن الداعي موجبٌ.

المسألة الثالثة: احتجتَّ المعتزلة على ثُبوت التحسين والتقبيح عقلاً بأن من خُيِّرَ بين الصدق والكَذِب مع استواء الدواعي من كل وجهٍ إلَاّ أن أحدهما صِدْقٌ، فإن العاقل يختار الصدق ويفعله دون الكذب قطعاً بمُجَرَّد ترجيحه للصدق على الكذب (3) المرجوح بمجرد قدرته عليه، وهذا هو عين مذهب الأشعرية.

المسألة الرابعة: احتجت المعتزلة وسائر (4) المسلمين أن المشركين إنما لم يعارضوا القرآن الكريم لعجزهم عن المعارضة لا استحقاراً له، ولمن جاء به، ولذلك فإن (5) العقلاء إذا دُعُوا إلى أمرٍ يكرهونه ويهون عليهم لدفعه وإبطاله بَذْلُ

(1) في (ش): الدواعي.

(2)

" وقوع " لم ترد في (ش).

(3)

من قوله " قطعاً بمجرد " إلى هنا سقط من (ش).

(4)

في (ش): على سائر، وهو خطأ.

(5)

في (أ) و (ش) و (ف): إن.

ص: 77

أموالهم وأنفسهم، وكان من يدعوهم إلى ذلك يدعوهم بحجة يُبْرِزُها، وكانوا متمكنين من إيراد ما يدحضها من غير ضررٍ عليهم، ولا مشقة عظيمةٍ تلحقهم، فلا بد أن يأتوا بها، ومتى لم يأتوا بها (1) دل على أنهم غير متمكنين من الإتيان بها (1).

قال الجاحظ، ثم الإمام المؤيد بالله: ألا ترى أن واحداً لو جاء وادَّعى النبوة في قومٍ وهم له كارهون، ولتكذيبه مجتهدون، فقال لهم: معجزي أن من كلمته منكم في هذا اليوم لا يمكنه أن يجيبني بكلمةٍ، ثم أخذ يكلمهم طول النهار من غير أن يجيبه أحدٌ منهم مع قوة دواعيهم إلى توهين أمره، وتوهين أصحابه عنه بإظهار كذبه، دلَّنا ذلك على أن جوابه قد تعذر عليهم وأن ذلك حجة له، وهذا مما لا يختلُّ على أحد أنصف من نفسه على ما قلنا.

وجملة هذا الباب أن كل من علمنا من حاله أنه لا يفعل فعلاً ما مع وفور الدواعي إليه، وقوة البواعث عليه، ومع ارتفاع الموانع عنه، وفَقْدِ الحواجز دونه، يعلم أنه لم يفعله إلَاّ لتعذُّره عليه، لولا ذلك لم يكن لنا طريقٌ من جهة الاكتساب يُتوصَّل به إلى العلم بتعذر شيء على أحد. انتهى بحروفه من كتاب الإمام المؤيد بالله في إثبات النبوات الذي أخذه من كلام العترة والشيوخ، ولا سيما كتاب الجاحظ المستجاد (2) في هذا الباب، وفيما جمعه الإمام المؤيد بالله من ذلك عن العترة والشيوخ وسائر علماء الإسلام ما يطيب ويكثر، ويكاد يخرج عن الحصر من اجتماع الكلمة منهم على الاستدلال بتلازم الدواعي في الأفعال على ما نحققه هنا، ولكنا نقتصر على هذه الأربع المسائل على أن الواحدة منها كافيةٌ، فإن قليل البراهين العلمية في القوة مثل كثيرها. فهذه الأربع المسائل دلت على موافقة جميع المعتزلة في إيجاب الداعي مع بقاء الاختيار.

وأما موافقةُ الأشعرية على بقاء الاختيار مع القول بوجوب الداعي (3)،

(1) في (أ) و (ف): به، وهو خطأ.

(2)

في (أ): السجاد، وهو خطأ.

(3)

في (ش): الدواعي.

ص: 78

فنصوصهم الصريحة المتواترة، بل صرح الرازي ببقاء الاختيار في المعنى مع لزوم الجبر في اللفظ كما مضى (1).

وقد قصدت تكثير النقل لألفاظ الأشعرية في إثبات الاختيار ليُقابَلَ جحد بعض المعتزلة لذلك، وقد تقدم طرفٌ من ذلك، وأُرِدفُه هنا وفيما بعد بما يوجب الاضطرار إلى العلم باتفاق مقاصدهم على ذلك.

أما هنا فأُورِدُ كلام الرازي في " نهاية العقول "، لأنه من الغُلاة في تصحيح الجبر والمصرِّحين به، ومع ذلك فقال في مسألة خلق الأفعال من " النهاية " ما لفظه: قوله: الممكن يحتاج إلى المرجِّح في حق القادر أم في حق غيره؟

قلناة على الإطلاق، إلى أن قال: قوله: الهارب من السَّبُعِ يختار أحد الطريقين لا لمرجِّحٍ.

قلنا: لا نُسلِّمُ، بل الله تعالى يخلق فيه إرادةً ضروريةً لسلوك أحد الطريقين دون الآخر، فأما إن لم يخلقها فيه توقَّف، كما أنا توافقنا على أن الله تعالى لو خلق فيه صارِفاً عن العدو، فإنه يترك العدوَّ والفِرار.

إلى أن قال في تجويز أسئلة المعتزلة: قلنا: هذا الكلام يقدح في كون الله تعالى فاعلاً مُوجِداً، بيانه: أن صدور الفعل عن قادريَّتِه إما أن يتوقف على داعٍ مرجح أو لا، فإن لم يتوقف فلم لا (2) يجوز مثله في العبد، وإن توقف، فإما أن يكون حصول ذلك الفعل واجباً مع ذلك المرجِّح أو لا، فإن كان واجباً، لزم من قدم إرادته قِدَمُ مُرادِهِ، فيكون ذلك قولاً بقدم العالم، ولأن أفعال العباد من جملة مراداته عندكم، فيلزم قدم أفعال العباد، وذلك معلوم الفساد بالبديهة، وإن لم يكن حصول الفعل في حقه تعالى واجباً مع ذلك المرجح، فلم لا يجوز مثله ها هنا، إلى قوله في وجوب هذا.

(1) في (ش): في الدليل الذي مضى.

(2)

" لا " ساقطة من (أ) و (ش).

ص: 79

قوله: هذه (1) الحجة تنفي كون الله تعالى مُوجِداً.

قلنا: لا نُسَلِّمُ.

قوله: إما أن تكون أفعاله واجبةً، أو لم تكن.

قلنا: بل هي واجبة، فإن الله تعالى كما إرادته واجبةٌ، وصفاته واجبةٌ، فتعلُّقات صفاته بمتعلقاتها واجبة (2).

فعلى هذا نقول: تعلق إرادة الله تعالى بإيقاع الحادث المتعيِّن في الوقت الفلاني واجبةٌ، ولما كان ذلك التعلق (3) واجباً، استغنى عن مرجِّحٍ آخر، فلما كانت الصفة متعلِّقةً بتخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت المخصوص لا جَرَمَ، لم (4) يلزمنا قدم العالم وقدم سائر الحوادث.

لا يُقال: لما كان تعلق إرادته سبحانه بإيجاد بعض الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على غير تلك الوجوه مُحالاً، لم يكن البارىء سبحانه وتعالى مختاراً قادراً، بل كان عِلَّةً موجبة، وذلك خروج عن الإسلام، لأنا نقول: إن كون الفاعل بحالٍ يجب أن يكون فاعلاً لبعض الأشياء لا تخرجه عن الفاعلية، ألا ترى أن عند المعتزلة الإخلال بالواجب يدل إما على الجهل أو الحاجة، فإذا وَجَبَ على الله تعالى الثواب، استحال إخلاله به لاستحالة مما يلزمُ من ذلك الإخلال في حقه وهو الجهل أو الحاجة، وإذا استحال منه أن لا يفعل، وجب أن يفعل، ففي هذه الصورة وجوب صدور الثواب عن البارىء تعالى واستحالة إلا صدوره عنه لا محالة تكون لأجل وجوب الداعي إلى الفعل، واستحالة حصول الداعي إلى الترك، ولا يُنَافي كونه قادراً، لأنه في ذاته بحالةٍ لو لم تكن

(1)" قوله هذه " ليست في (ش).

(2)

في (ش): فتعلقات صفاتها واجبة.

(3)

في (ش): المتعلق.

(4)

في (ش): لا.

ص: 80

هذه الإراداتُ واجبةً، بل لو حصلت له إراداتٌ أُخَر، لكان هو تعالى عند تلك الإرادات قادراً على عين (1) ما أحدثه الآن.

واعلم أنه لا خلاص للمعتزلة عن هذا الإشكال إلَاّ إذا قالوا: إن تركه تعالى للواجب لا يُؤَدِّي إلى محالٍ، أو (2) لا يقولون: إنه يؤدي إليه أو لا يؤدي إليه، بل يُمْسِكُون عن القولين، ولكن هذا الجواب ركيكٌ، لأنهم إن (3) عنوا بذلك أن أحد القسمين حقٌّ في نفسه، ولكن لا ينطقون به، فذلك مما لا يُفِيدُهم، لأنه ليس المقصود من الإلزام أن ينطقوا به، وان عَنَوْا بذلك فساد طَرَفَي النقيض، فهو معلومٌ البطلان بضرورة العقل.

إلى أن قال: قوله: القادر هو الذي يمكنه الفعلُ والترك، فلو كان كذلك لم تحصل المكنة في شيء من الأحوال.

قلنا: إن عنيتم بقولكم " القادر: هو الذي يكون متمكِّناً من الفعل والترك " أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ منهما بدلاً عن الأخر من غير مرجِّحٍ، فلا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود، فإن النزاع ما وقع إلَاّ فيه.

وإن عنيتم أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ بدلاً عن الآخر عند حصول الدواعي المختلفة (4) فذلك حاصِلٌ، واعتبار الدواعي لا ينافي ما ذكرنا.

إلى أن قال: قوله: لم لا يجوز أن يقال: حصول أحد المقدورين عند حصول الداعية يصير أولى بالموجود، ولكن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد (5) الوجوب؟

قلنا: لوجوهٍ:

الأول: أنه يلزم (6) أن يكون كلُّ واحدٍ من الأمرين معقولاً ممكناً، وكلُّ

(1) في (ش): غير.

(2)

في (أ) و (ش): و.

(3)

" إن " سقطت من (ش).

(4)

" المختلفة " سقطت من (ش).

(5)

" حد " لم ترد في (أ)، و (ف).

(6)

في (ش): لا يلزم.

ص: 81

ممكنٍ فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محالٌ (1) وإلَاّ لكان أيضاً محالاً، لأن ما لا يوجد إلَاّ عند وقوع المحال فهو محال. إلى آخر ما ذكره.

انتهى ما أردتُ من نقل كلامه، وهو صريحٌ في أنه ما عنى بوجوب الفعل وإحالة الترك ما يخرج عن القدرة والاختيار، ويُبْطِلُ معنى الفاعلية، وإنما عنى الذي عنته المعتزلة في فعل الله تعالى لما يجب في حكمته والاحتجاج به كثير في كتاب الله، مثل قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]. فهدا الرَّدُّ عليهم مبنيٌّ على أنه لا يقع من الأفعال ما لا داعي إليه، وإن كان مُمكِناً في نفسه بالنظر إلى القدرة، وإنما لم يقع مثل ذلك، لأنه لا داعي إلى عذاب الولد والحبيب وإن كانا مذنبين، فإن الداعي إلى العفو عنهما موجود، والصارف مفقود، وحينئذ يجب وقوع العفو ويترجَّح على العقاب.

ومن ذلك قوله تعالى لمن ادعى ذلك منهم: {فَتَمَنَّوُا المَوتَ إنْ كُنتُم صادِقينَ} [البقرة: 94] وإنما ألزمهم تَمَنِّيه لوجوب الداعي الراجح لو صحَّت دعواهم.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] فإنه قطع على نفي تمنِّيهم لذلك، وعَلَّله بوجود الصارف الراجح، وذلك الصارف هو علمهم بما قدَّمت أيديهم وما يستَحِقُّون عليه من العقوبة.

ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]. ووجه الاحتجاج بذلك أن الكذب لا يقع إلَاّ لداعٍ أو جهلٍ بقبحه، وقد تبين نزاهة الرسل في الأمرين معاً، إذ (2) كانوا مهتدين لا يجهلون قبحه غير سائلين لأجرٍ، فلا (3) يُتَّهَمُونَ بالحيلة بالكذب على تحصيل المال، والكذب لا

(1) في (ش): بحال، وهو خطأ.

(2)

في (ش): إذا، وهو خطأ.

(3)

" فلا " سقطت من (ش).

ص: 82

يجب لمجرد كونه (1) كذباً، ولا نفع (2) لذلك عند جميع العقلاء، فيجب في من هذه حاله اعتقاد صدقه.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية [الزخرف: 33] وذلك يدلُّ على أن الداعي إلى الكفر لو كان راجحاً للجميع، لوقع من الجميع.

ونحو ذلك قوله تعالى: {ولو بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِه لبَغَوا في الأرضِ} [الشورى: 27].

ومنه قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُم إنْ شَكَرتُم وآمَنْتُمْ} [النساء: 147].

ومن ألطفه قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154] فإنه مع بنائه على أن المرجوح لا يقع مبنيٌّ على لطيفةٍ أخرى: وهي أن تفضيل الذكور على الإناث عقلي لما يلزم الذكور من المنافع الراجحة، والخصال الحسنة المحمودة.

ومثلها قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. وقد كانت العرب تعرف هذا ومن لا يعرف النظر الدقيق، ولهذا قال علماء المعاني في قول الشاعر (3):

(1) في (ش): لكونه، وهو خطأ.

(2)

في (ش): يصح.

(3)

هو الحارث بن حِلِّزة اليشكري، شاعر قديم مشهور، من المقلِّين، وهو صاحب الجاهلية السائرة:

آذنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ

رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ

يقال: إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالاً في شيء كان بين بكر وتغلِب بعد الصلح.

وهو آخر بيت من قصيدة مطلعها:

مَنْ حاكمٌ بيني وبيـ

ـن الدَّهرِ مالَ عليَّ عَمْدا =

ص: 83

والعيشُ خيرٌ في ظِلا

لِ الجهل مِمَّنْ عاشَ كَدَّا

إن معناه: ممن عاش كدّاً مع العقل، حتى يمكن الترجيح، إذ لو اجتمع العيش مع العقل لم يصح من عاقلٍ أن يفضِّل عليه العيش مع الجهل.

ومع ذلك جميع ما تقدم في مسألة الإرادة من التيسير لليسرى والعسرى، ومن آيات المشيئة التي لا يمكن حَمْلُها على الإكراه، لقوله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28 - 29] على ما تقدم تقريره.

فثبت بهذه الجملة أن الراجح واقعٌ، والمرجوح ممتنعٌ، وأن الاختيار مع ذلك ممكنٌ كما مضى تقريره (1)، وكما سيأتي.

وهذا القسم هو المسمى بالممكن لنفسه، الممتنع لغيره، والتكليف به جائز بالإجماع مثل تكليف من عَلِمَ الله أنه لا يؤمن ومع توقُّف الفعل على الدواعي والصوارف وتوقُّفِهما على خلق الله لها، فأجمعت فِرَقُ الإسلام، بل العقلاء على أنه لا تأثير لها في وجود الفعل.

ممن ذكر الإجماع على ذلك الشهرستاني في " نهاية الإقدام " أن العلم لا يؤثر في المعلوم إجماعاً، ومما يدل على ذلك وجوه:

= أنشدها صاحب " الأغاني " 11/ 49 - 50، ونقل عن النضر بن شميل أنه كان يستحسنها ويستجيدها.

وقد استشهد أصحاب المعاني بهذا البيت على الإيجاز المخلِّ، إذ هو يريد أن العيش الناعم في ظل الجهل أو النَّوك خير من العيش الشاق في ظل العقل، وألفاظ البيت لا تفي بهذا المعنى. انظر " معاهد التنصيص " 1/ 308.

ورواية البيت في " الشعر والشعراء " 1/ 198 لابن قتيبة:

والنَّوك خيرٌ في ظِلا

لِ العيش مِمَّنْ عاشَ كدّا

(1)

في (أ) و (ف) مكان قوله " ممكن كما مضى تقريره " بياض.

ص: 84

الوجه الأول: أن العلم (1) لو كان يؤثر، وكذلك سائر الدواعي، لَزِمَ نفيُ القدرة والاختيار عن الرب عز وجل، فإن ما علم الله وجوده أو كان راجحاً، استحال عدمه، وما علم عدمه أو كان مرجوحاً استحال وجوده، ولو كانت هذه الاستحالة إلى ذات المعلوم (2) رَفَعَتِ القدرة والاختيار، فثبت أنه لا استحالة بالنظر (3) إلى الذات، وإنما تُطلَقُ الاستحالة هنا مع إطلاق الإمكان باعتبار الجهتين كما مر في أول مسألة الأقدار.

الثاني: أنه يلزم أن يكون العلم (4) مُغْنِياً عن القدرة وكذلك الرجحان، فيكون ما علم الله وجوده أو ترجَّح وُجِدَ، سواء كان من علم أو من ترجَّح له قادراً أو لا، وفي ذلك انقلاب العلم والدواعي قدرة، وهذا مُحالٌ.

الثالث: أنه يلزم أن يحسن من الله تعالى الاحتجاج على العباد بمجرد سبق العلم بأنه يعذِّبُهم من غير ذنب ولا حجة، ورجحان الداعي وإن لم يكن داعي حكمةٍ كما تقدم في مسألة الإرادة، والسمع بريءٌ من مثل هذه الحجة، والعقل يدرك رِكَّتها إدراكاً ضرورياً، ولو كان في ذلك حجة، لم يقل الله سبحانه وتعالى:{لئلَاّ يكونَ لِلنَّاسِ على الله حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسلِ} [النساء: 165].

وقد حكى الله تعالى، وحكت عنه أنبياؤه كيفية إقامة حُجَجِه على عباده يوم القيامة، ولم يكن في شيء منها أنه احتج على أحد من خلقه بمجرد سَبْقِ علمه بتعذيبه بغير ذنبٍ ولا حجةٍ، وفي " الصحيح ": أنه " ما أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله "(5) فسبحان من له الحجة والحكمة والعزة والمشيئة.

الوجه الرابع: أنه كان يلزم أن لا يتعلق العلم بالرب القديم سبحانه، لأنه

(1) بعد هذا في (أ) عبارة " لا يؤثر في المعلوم إجماعاً "، والصواب إسقاطها كما في (ش).

(2)

" المعلوم " سقطت من (ش).

(3)

في (ش): له بالنظر.

(4)

" العلم " سقطت من (ش).

(5)

تقدم تخريجه في هذا الكتاب 1/ 170.

ص: 85

يستحيل التأثير فيه، فلما علمنا تعلُّق علمه وعلمنا بذاته المقدَّسة، علمنا أن تعلق العلم بالمعلوم لا يؤثر فيه ألبتة، وهذا الوجه ذكره الجويني في مقدمات كتابه " البرهان "(1).

الوجه الخامس: ما تقدم في غير موضع من الاحتجاج في هذه المسألة بالسمع المعلوم لفظه ومعناه بالضرورة مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نفساً إلَاّ وُسْعَها} [البقرة: 286]، بل عُلِمَ من الدِّين الامتنان على العباد بالسماحة من الممكنات، وأن التكليف ورد باليُسْرِ دون العسر، وبَذْلِ السهولة ونفي الحرج، وسمع ذلك جميع العقلاء من المسلمين وغيرهم، فلم يعترضه أحد.

وكذلك من سمعه من العقلاء، علم صدقه، إلَاّ من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وهذا يدل على أنه الفِطرة، وعلى أن التوغُّل في الكلام يُغَيِّرُ الفطرة، ولهذا لا يوجد من ينكر العلوم كلها إلَاّ في المشتغلين بالمعقولات كالسُّوفِسطَائِيَّة وأمثالهم (2).

الوجه السادس: ما ذكره ابن الحاجب من أن ذلك يؤدي إلى أن التكاليف كلها محالٌ، قال: وهو خلاف الإجماع مع ما تقدم من الحجج العقلية من وِجْدان الفَرْقِ الضروري بين الحركتين الاختيارية والاضطرارية، والعلم الضروري بحسن الأمر والنهي في أفعالنا، واستحقاق المدح والذم فيها دون أجسامنا وألواننا. وقد أقرَّ بهذا الرازي، ولكن ادعى أنه معارض بعلم ضروري مثله، فأوهم (3) أن العلوم الضرورية تتعارض، وذلك يستلزم بطلان العلوم، ولم يقل بذلك أحد.

وأما قوله: إن الممكنين لا يقع أحدهما دون الآخر إلَاّ بمرجِّحٍ وإن ذلك ضروري فمُسَلَّم، لكن لزوم نفي الاختيار من هذا غير ضروري، بل ولا نظريٌّ، بل وهميٌّ باطل.

(1) 1/ 105.

(2)

" وأمثالهم " لم ترد في (أ) و (ف).

(3)

في (ش): فأفهم، وهو خطأ.

ص: 86

فانكشف أن قوله: إن الضرورتين تعارضتا، تمويهٌ نازل منزلة قول القائل: إن النفي والإثبات قد اجتمعا، وإن النقيضين قد صدقا، ولو كان مثل ذلك يصح لم يكن إلى صحته طريق، لأن ذلك يبطل الثقة بالعلوم، ومعرفة الصحة والبطلان لا يكون إلَاّ مع بقاء العلوم.

وإنما يصح أن يقال: تعارض المذهبان المستخرجان من هاتين الضرورتين فدلَّ (1) على فساد أحد الاستخراجين، وهو استخراج نفي الاختيار من وجوب وقوع الراجح، ووجوب احتياج الممكن إلى مرجِّحٍ، لأن هذا الوجوب وجوب أولويةٍ واستمرارٍ، لا وجوب عجزٍ واضطرار، كما أقر به الرازي في حق البارىء تعالى، وقال: إن خِلافه خروجٌ من الإسلام كما مرَّ (2).

وقد قطعنا بعدم تأثير الدواعي، فنقطع أيضاً بتوقف تأثير القدرة عليها وتوقف الجميع على الاختيار، فإنا نقطع بقدرة أحدنا على ما لا يفعله قطعاً من التردِّي من الشواهق بغير موجبٍ، وشرب السموم، وقتل الأولاد، ومع قطعنا بأنا لا نفعل ذلك، فإنا نجد فرقاً ضرورياً بين تركنا لذلك بسبب الصارف عنه، وبين ترك ذلك عند العجز عنه بالمنع بالغلِّ والقيد، وأن الداعي الراجح هنا لو دعا إلى الفعل ما صدر منا، وإذا دعا الداعي الراجح إلى الفعل في الصورة الأولى وقع لا محالة.

وبهذا الفرق الضروري، جميع ما تقدم، يندفع الجبر ويثبت الاختيار، وتقدم في مسألة الأقدار وفي أول الكلام على الأفعال تحقيق ذلك على حسب وُسْعِ البشر، ومدارك العلوم (3) والنظر.

واعلم أنه ليس للمعقول (4) وراء هذا مَدْرَك، وكل ما ذكرناه من إحساس الاختيار ووقوع الراجح قطعاً، وحاجة الممكن إلى الراجح ضروري في فِطَرِ

(1) في (ش): تدل، وكذلك أثبت فوق (أ) و (ف).

(2)

" كما مر " لم ترد في (ش).

(3)

في (ش): العقول.

(4)

في (ش): للعقول.

ص: 87

العامة، وإنما استفاد الخائضون فيه تحرير العبارات، وإثارة العداوات، وتطويل الخصومات، واستراح أهل الحديث والأثر حين غَلَّقوا هذه الأبواب، وقنعوا بما في أوَّليَّات الفِطَنِ والألباب، وأيَّدُوها بمعارف السنة والكتاب.

فصل: وإذ قد تم الكلام على فِرَق أهل السنة ومقالاتهم وتقريراتهم من نفي (1) الاختيار، بقي تفسيرُ قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وقولهم: لا خالق إلا الله تعالى، فإن أكثر الغالطين عليهم في مذاهبهم ما غلطوا إلَاّ بسبب قلة الفهم لمرادهم في هاتين المسألتين.

وأنت إذا تأملت ما تقدم من كلامهم، عرفت ذلك، ولكني أحببت زيادة البيان لقوة عصبية المعتزلة عليهم في ذلك.

ولنبدأ بقولهم: إنه لا خالق إلَاّ الله تعالى، وهذا إجماعُ أهل السنة، ونصوص القرآن دالَّةٌ عليه، غير أن هذا الإجمال يحتاج إلى تفصيل مُرادهم، وإيضاح مقصدهم، وعلى معرفته تركيب (2) معرفة مرادهم بخلق أفعال العباد، وذلك أن " الخلق " لفظةٌ مشتركةٌ بين ثلاثة معانٍ، والألفاط المشتركة يتعرَّض الجدليُّ للتشغيب فيها إن لم يتبين المراد بالنص الجلي، ولا يُكتفى فيها بمجرد القرائن.

فقد يكون الخلقُ بمعنى التقدير، مثل تقدير الخَرَّازين للجلود أنطاعاً وأسقيةً، ونعالاً، والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد بشرط دلالة (3) القرينة عليه، والله سبحانه أجَلُّ من أن يَتَمَدَّح بالتفرد بهذا، قال الله تعالى بهذا (4) المعنى حكايةً عن عيسى صلى الله عليه وسلم:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وقال تعالى:{فَتَبارَكَ الله أحسنُ الخَالِقينَ} [المؤمنون: 14].

(1) في (ش): بقاء.

(2)

في (ش): تركب.

(3)

تحرفت في (ش) إلى: الأدلة.

(4)

عبارة " قال الله تعالى بهذا " لم ترد في (ش).

ص: 88

وقال الجوهري في " صحاحه "(1): يقال: خلقتُ الأديم، إذا قدَّرتَهُ (2)، قال زهير (3):

ولأنت تفري ما خلقتَ وبعـ

ـضُ القوم يخلُقُ ثم لا يَفْرِي

وقال الحجاج: ما خلقتُ إلَاّ فريتُ، ولا وعدتُ إلَاّ وَفَّيتُ. انتهى كلام الجوهري.

والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد مع القرائن الدالة عليه، وذلك من جملة أفعالهم التي مَكَّنهم الله تعالى منها بمشيئته وأقداره وسابق علمه وتقديره، على ما مضى من شرح ذلك وتقريره.

المعنى الثاني: الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى:{وَتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17].

وقال في حكاية كلام الكفار: {إنْ هذا إلَاّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7] وهو كثير شهير.

والله تعالى مُنَزَّهٌ عن إضافة الخلق بهذا المعنى بإجماع المسلمين، ومن تأوَّل في تجويز هذا على الله تعالى، فهو من المُلحدين.

المعنى الثالث: الخلق بمعنى إنشاء الموجودات من العدم وتصوير العوالم والصور، وتركيبها وتدبيرها على ما اشتملت عليه كتب التشريح، ثم على ما شاهده (4) كلُّ ذي نَظَرٍ صحيح.

(1) 4/ 1470 - 1471 (خلق).

(2)

زاد في " الصحاح ": قبل القطع.

(3)

من قصيدة يمدح بها هَرِمَ بن سنان ومطلعها:

لمن الديارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ

أقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دهرِ

والفَرْي: القطع، يقول: فأنت إذا تهيّأت لأمرٍ مضيت له. انظر " شرح شعر زهير بن أبي سلمى " ص 82، صنعة أبي العباس ثعلب.

(4)

في (ش): يشاهده.

ص: 89

والخلق بهذا المعنى هو الذي تفرَّد الرب عز وجل به كله دِقِّهُ وجِلِّهُ، صغيره وكبيره، وعظيمه ويسيره، وهو الذي تمدَّح الرب سبحانه بالتفرد به، والذي أراد أهل السنة بنسبته إليه وقصره عليه، ولا يجوز إطلاق الخلق على غير الله تعالى -وإن أُريد به التقدير- إلَاّ مع القرينة الدالة على ذلك كالربِّ، فإنه لفظة مشتركة يقال: رَبُّ الدار، ورب المال، بهذه القيود والقرائن، ومتى تجرد (1) عنها لم يَجُزْ إطلاقه إلَاّ على الله تعالى، وهذا هو محل النزاع بين أهل السنة وبعض المعتزلة، ففي المعتزلة من يسلِّمُ مذهب أهل السنة وهم البغدادية، فقد حكى ابن متويه في " تذكرته ": أن المخلوق عندهم بغير إلهٍ.

ومن المعتزلة من جعل الخلق على الحقيقة للعباد فلا يطلق على الله تعالى إلا مجازاً، وذلك لمخالفته في معناه، لا أنه جعل المعنى الذي ينسبه أهل السنة إلى الله تعالى مقصوراً على العباد: منهم أبو عبد الله البصري (2) ذهب إلى أن الخلق بمعنى الفكر، والفكر لا يجوز على الله تعالى، وهذا ما لا أصل له إلا أن يكون استخرج ذلك من قول اللغويين: إن الخلق بمعنى التقدير، وظن أن الفكر بمعنى التقدير، وغفل عن كون صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين.

فلو ذهبنا هذا المذهب، عطَّلناه سبحانه عن (3) جميع صفاته، فإن الإرادة فينا تستلزم الحاجة، وصفة العلم والقدرة والحياة تستلزم الجسمية والبنية المخصوصة، وقد تقدم ذلك.

والعجبُ من الزمخشري مع تَضَلُّعه في (4) علم اللغة واشتغاله بتفسير القرآن

(1) في (ش): تجردت، وهو خطأ.

(2)

هو أبو عبد الله الحسين بن علي البصري، الملقب بالجُعَل، الفقيه المتكلم صاحب التصانيف، قال الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 16/ 224: من بحور العلم، لكنه معتزلي داعية، وكان من أئمة الحنفية، توفي سنة (369 هـ). وانظر أيضاً " ذكر المعتزلة " ص 62 - 63 لابن المرتضى.

(3)

في (ش): من.

(4)

في (ش): من.

ص: 90

والحديث، وتصنيفه فيهما " الكشَّاف " و" الفائق "، كيف اختار هذا المذهب الباطل، وزَعَم في " أساس البلاغة " (1) أن قولنا: خلق الله الخلق من المجاز.

والذي يدلُّ على بطلان كلامه ومن تابعه من المعتزلة أن أهل اللسان العربي والمعاصرين (2) لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين وغيرهم استعملوا هذه اللفظة مضافةً إلى الله عز وجل ومقصورةً عليه، وشاع ذلك وذاع، وتواتر واستفاض، وصدعت به النصوص، وتداوله العموم والخصوص، وكان السابق إلى الأفهام من غير قرينةٍ.

وأجمع أهل علم التفسير من التابعين وتابعيهم بإحسانٍ على أن نسبة الخلق إلى الله تعالى من المحكم الذي لا يحتاج إلى التأويل، ولا علامة للحقائق في جميع اللغة إلَاّ مجرد الاستعمال الذي لا يبلغُ أدنى أدنى أدنى (3) مراتب هذا الاستعمال المتواتر المعلوم من الضرورات كلها: ضرورة اللغة وضرورة القرآن، وضرورة السنن والآثار، وضرورة إجماع المسلمين.

ولو كُلِّفَ الزمخشري أن ينقل مثل هذا الاستعمال العظيم في كل لفظةٍ زعم أنها حقيقة لغصَّ بريقه، بل لو كُلِّفَ بهذه اللفظة بعينها، وهي أن الخلق بمعنى التقدير أن ينقُل مثل (4) ذلك أو قريباً منه لانقطع، وليس المجاز شيئاً (5) يختصُّ به الزمخشري، فعلامته معروفة: وهو ما لا يسبق الفهم إليه إلَاّ بقرينة، وهذا يَفُتُّ في عَضُدِ دعواه.

وأقلُّ أحوال هذه اللفظة أن يكون إطلاقها على الله حقيقةً عُرفيَّةً أو شرعيَّةً، وهما أقوى من الحقيقة اللغوية كما قال علماء الإسلام في لفظة الصلاة وسائر ألفاظ الشرع.

(1) ص 173.

(2)

في (ش): المعاصرين، بلا واو.

(3)

في (ش): أدنى، مرة واحدة.

(4)

من قوله " هذا الاستعمال " إلى هنا سقط من (ش).

(5)

في (أ) و (ش): شيء، وهو خطأ.

ص: 91

وعلى كلام الزمخشري اسمه الخالق واسمه الخلَاّق وهما من أسمائه الحسنى، متى أُطلِقا وتجرَّدا عن القرائن سبق الفهم إلى أن المراد بهما بعض الخرَّازين ومن يُستَخْبَثُ ذكره من أخسِّ أهل المهن من صُنَّاع النعال ومُصلِحي ما تخرَّقَ، ولا ينصرف إلى الله تعالى إلَاّ مع القرينة كما هو حق المجاز.

بل أخبث من هذا أنه يلزمه نفي هذين الاسمين الشريفين عن الله تعالى من غير قرينةٍ، كما هو علامة المجاز (1)، فإنه لا يجوز لك أن تصف الرجل الشجاع بأنه أسد وتسميه بذلك إلَاّ مع القرينة، ويجوز لك أن تنفي عنه اسم الأسد بغير قرينة باتفاق علماء المعاني والبيان، وإلا لزم الحاجة إلى القرينة في الحقيقة والمجاز معاً، ولم يقل بذلك قائل.

فعلى كلام الزمخشري يجوز للمسلم أن (2) يقول: إن الله تعالى ليس بخالقٍ ولا خلَاّقٍ من غير قرينةٍ ولا بيانٍ لمراده.

ويوضح بطلان ما توهَّمه أنه بنى (3) ذلك على أن حقيقة الخلق (4) التقدير، وحقيقة التقدير عنده يستلزم الفكر، وذلك يستلزم النقص، فوجب أن لا يُنْسَبَ إلى الله تعالى إلَاّ مجازاً.

والجواب عليه أن كل ما استلزم (5) النقص لا يُنسَبُ إلى الله تعالى لا حقيقةً ولا مجازاً، والأسماء الحسنى أرفع مرتبةً من ذلك عند أهل الحق، على ما بَسَطْتُهُ في الصفات، ثم في الإرادة، ولله الحمد.

وهذا المُسَمَّى منهم بالعلامة، فكيف بشيوخ الكلام منهم الذين وصفهم الزمخشري بضيق العَطَنِ والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوام، ذكره في تفسير

(1) من قوله " بل أخبث " إلى هنا سقط من (ش).

(2)

" أن " لم ترد في (أ).

(3)

في (أ): بنى على، وهو خطأ.

(4)

في (ش): الخالق، وهو تحريف.

(5)

في (ش): يستلزم.

ص: 92

{بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} (1)[المائدة: 64].

وهاك أيها السني ما يُقِرُّ عينك في هذه المسألة من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد.

والوارد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقسام:

القسم الأول: المُجْمَعُ على صحة الاحتجاج به عند فِرَقِ أهل السنة.

والقسم الثاني: المختلف في صحة الاحتجاج به بين علمائهم.

أما القسم الأول فهو أنواع:

النوع الأول: النصوص الدالة على تمدُّح الرب عز وجل بالتفرد بالخلق والاختصاص به دون غيره، وذلك مثل قوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللهِ} [فاطر: 3]، وقوله سبحانه:{أفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرونَ} [النحل: 17] وقوله تعالى: {ألَا لَه الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54].

النوع الثاني: العامُّ المُعَلَّل بما يمنع جواز التخصيص، مثل قوله تعالى:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].

فقوله: {قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيء} وإن (2) خرج مخرج العموم، والعمومُ يحتمل التخصيص، فإن تعليلها يوجب القطع على منع تخصيصها، وذلك من وجهين:

الأول: أن الكلام خرج مخرج التمدُّح بالتفرُّد بمُسَمَّى (3) الخلق.

وثانيهما: أنه خرج مخرج الإنكار على من أثبت هذه المِدْحَةَ لغير الله

(1) لم أقف عليه في المطبوع من كتابه في هذا الموضع، فلعله ذكره في غيره.

(2)

في (ش): فإن.

(3)

في (ش): لمنشىء.

ص: 93

تعالى، فلو كان المراد بالعموم خلق بعض الأشياء لحَسُنَ من العباد مشاركته في مثل هذا التمدح بخلق كل شيء، وهم يريدون تقدير بعض الأشياء من النِّعال والأنطاع ونحو ذلك، ولا أعظم جنايةً على كتاب الله تعالى من تطريق مثل هذا إلى مماح آياته السنية، وصرائح نصوصه الجلية.

النوع الثالث: العام من غير تعليل، وهو كثير جداً، مثلُ قوله تعالى:{الله خَالِقُ كلِّ شَيءٍ} [الرعد: 16]، وقوله:{إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله:{وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] وهو كثير جداً.

وفي هذه الآية مع عمومها دليلٌ على بطلان دعوى الزمخشريِّ لقَصْرِ الخلق في الحقيقة على التقدير، لأن الله تعالى نصَّ على المغايرة بينهما، حيث عطف التقدير على الخلق في قوله:{وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] فدل على أن الخلق في المعنى الذي نص عليه أهل السنة من إنشاء العين من العدم.

ومن الدليل على ذلك من السنة الصحيحة ما لا يُحصى، مثلُ حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلُقُ كخلقي، فليخلُقُوا ذَرَّةً، وليخلقوا حبَّةً أو شَعِيرةً ". خرجه البخاري آخر " الصحيح "(1).

وفي " الصحيحين "(2) من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن أصحاب الصُّوَرِ يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم ".

(1)(5953) و (7559)، وصححه ابن حبان (5859).

(2)

البخاري (2105) و (3224) و (5181) و (5957) و (5961) و (7557)، ومسلم (2107)(96)، وصححه ابن حبان (5845). وقد فاتنا أن نعزوه في تخريجنا لابن حبان إلى البخاري، وأحمد 6/ 70 و80 و223 و246، وابن ماجه (2151)، فيستدرك من هنا.

ص: 94

وفي " الصحيحين "(1) أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ".

وفي روايةٍ " الذين يُشَبِّهُون بخلق الله ".

وفي هذا وفي حديث أبي هريرة تفسير قوله: " أحيوا ما خلقتم " أي ما شبَّهتُم بخلق الله تعالى، وادَّعيتم من خلقه ما لستم له بأهل، فلو كان الخلق لله تعالى مجازاً وللعباد حقيقةً، لم يحرم عليهم معلَّلاً بهذه العلة، التي هم عند الزمخشري أحقُّ بها من الله تعالى، بل هي لهم دونه.

ولما كانت الحياة ونحوها من الأعراض تُسَمَّى مخلوقة لأنه لا تقدير فيها، ويحتمل في مجرد التقدير والتصوير لما ليس فيه روح أن يسمى خلقاً، سواء كان من فعل الله تعالى أو من فعل العباد، بخلاف إيجاد الأعيان وإنشائها من العدم، وذلك لقول عيسى عليه السلام:{أَنِّي (2) أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا (3) بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، ولِما ثبت في " الصحيحين " أنه يقال للمصوِّرين:" أحيوا ما خلقتم " أي: ما صوَّرتم، فسمى التصوير خلقاً، كما سماه عيسى عليه السلام.

يوضحه: أن ليس القصد إضافة كل خلقٍ إلى الله تعالى، ولا تفرُّدَه

(1) البخاري (5954) و (6109)، ومسلم (2107)(91) و (92)، وصححه ابن حبان (5847).

(2)

قرأ نافع: " إني " بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الباقون (أني) بالفتح، قال الزجاج:" أني " في موضع جر على البدل من (آية).

(3)

فرأ نافع (طائراً) على واحد، كما تقول: رَجْلٌ وراجل وركب وراكب، قال الكسائي: الطائر واحد على كل حال، والطير يكون جمعاً وواحداً، وحجته أن الله أخبر عنه أنه كان يخلق واحداً، ثم واحداً.

وقرأ الباقون (طيراً) وحجتهم: أن الله جل وعز إنما أذن له أن يخلق طيراً كثيرة، ولم يكن يخلق واحداً فقط. " حجة القراءات " ص 164.

(4)

في (أ): شيء.

ص: 95

سبحانه لكل ما يُسمى خلقاً، لأن الكذب يسمى خلقاً، ولا يجوز إضافته إليه سبحانه، كما قال تعالى:{وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وقال:{إنْ هذا إلَاّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7].

وإنما القصد تفرُّدُه سبحانه بالخلق الذي هو إنشاء الأعيان من العدم الذي لا يقدر عليه سواه، وتفرده بالقدره على خلقِ كل مخلوقٍ، كما دلت عليه الكتبُ السماوية والنصوص النبوية.

وإذا عرفت معاني الخلق، وأن أهل السنة ما قصروا على الله تعالى منها إلا إنشاء العين من العدم، عرفت معنى قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وأخذته من نصوصهم البَيِّنَة في تلخيص مذاهبهم، كما تقدم في الفرق الأربع، وعرفت حينئذ أنهم إنما عنوا بالمخلوق أعيان الذوات المُخرَجَة من العدم، التي يصح عليها تحقيق الاتصاف بالوجود التي هي عند المعتزلة ثابتةٌ في العدم، والتي لا تصح عند المعتزلة أن تعلق بها قدرة الرب عز وجل، كيف إلَاّ العبدُ الضعيفُ؟

وأما ما يقع عليه الجزاء بالذم والعقاب، والثناء والثواب، من الأمور العدمية والإضافية، التي ليست بشيء حقيقي أصلاً كالتروك على الصحيح، وإنما هي جهات استحقاقٍ مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند الخصوم، فليست عند أهل السنة مخلوقةً كما يأتي (1) الدليل عليه قريباً من وجوه ثلاثة قرآنية.

وكيف يصح عندهم وصف ما ليس بشيء في الحقيقة بالحق، وإن كانت تُسمى أشياء في العرف كما أن التروك تسمى فيه أشياء، ولا (2) عبرة بالألفاظ.

وقد مر تقدير أن الثواب والعقاب لا يستلزمان أن يكونا على أشياء حقيقية عند المعتزلة (3)، فإن الثواب يُستحق بترك الحرام، والعقاب يُستحق بترك الواجب، والعقل يُدرِكُ ذلك بالفطرة، والعقلاء أجمعون (4) عليه، فإنهم يذُمُّون

(1) في (ش): مر، وهو خطأ.

(2)

في (ش): فلا.

(3)

" المعتزلة " سقطت من (ش).

(4)

في (ش): والعقال مجمعون.

ص: 96

من ترك قضاء الدين، وترك رد الودائع، ولا يُرَاعُون في ذلك القطع بأن التروك أمر وجودي، له حقيقة في الخارج كما له حقيقة في الذهن، بحيث لا يجزم عاقل على ذم من ترك قضاء الدين، ورد الوديعة، حتى يكون من ذلك على بصيرة، فجمهور النقلة لمذهب أهل السنة من خصومهم جهلوا أو (1) تجاهلوا مذهب أهل السنة وغَلِطُوا على جميع فرقهم.

فأما الفرقتان الأولتان، فإنهم وإن اتفقوا على أن أفعال العباد المقابلة بالجزاء مخلوقةٌ أنفسها، فإنهم متفقون على بقاء اختيار العبد لها، وأن اختياره لوجودها شرط في وجودها سابق على الوجود، وإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، فلا يصح وصف الخلق بذلك كما مر تحقيقه.

ولا يلزمهم الجبر إلَاّ بنفي الاختيار، كما لم يلزم الجبرُ إمامي الاعتزال الجاحظ وثُمامة بن الأشرس وأتباعهما مع قولهما: إن قدرة العباد غير مؤثرةٍ في أفعالهم، وإنه ليس لهم فعل إلَاّ الإرادة، ثم اختلفا (2):

فقال الجاحظ: إن المؤثر في أفعال العباد هو الطَّبْعُ الضروري الراجع إلى قدرة الله وخلقه.

وقال ثمامة: إن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها،

وهذا شرٌّ من قول هاتين الطائفتين، لأنه يستلزم جواز استغناء الحوادث عن مُحدِثها جل وعز، ومع ذلك فلم يَعُدَّهُما أحد من المعتزلة من الجبرية.

وأما الفرقتان الآخرتان، فإنهما لم يَنْسُبَا إلى الله تعالى التفرد بالخلق إلَاّ في إنشاء العين الثُّبوتية وإخراجها من العدم إلى الوجود، ولم ينسبوا إلى الله تعالى خلق ما ليس بشيء حقيقي من الإضافات والوجوه والأحوال والاعتبارات التي

(1) في (ش): و.

(2)

في (ش): اختلفوا. وقد تقدم حكاية قول الجاحظ وثمامة عند المؤلف ص 619.

ص: 97

تختلف بها أسماء الذوات، فإن ذات (1) الحركة المخلوقة واحد، ثم تختلِفُ أسماؤها باختلاف أحوالها، فتُسَمَّى طاعةً ومعصيةً وكتابةً وصناعةً، وأجمعوا هم والجمهور أن المخلوق من مُسَمَّى الصلاة والعبادة والطاعة والمعصية ذواتها التي هي مُطلَقُ الحركة دون الوجه المخصوص الذي سُمِّيَتْ به (2) طاعة ومعصية.

وأما القدر المقابل بالجزاء، فليس هو مرادهم بقولهم: إن الله خالق كلِّ شيء، لأنه ليس بشيءٍ حقيقي، والخلق لا يصح أن يطلق على غير شيء، والله عز وجل إنما تمدح بأنه خالق كل شيء لا خالق لا شيء، لأن المراد كل شيء يُسَمَّى مخلوقاً، والقدر المقابل بالجزاء لا يسمى مخلوقاً لوجوه:

الأول: قوله تعالى: {ربَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً} [آل عمران: 191] فلو كان الله تعالى خالق الباطل الذي فعله العباد لم يتنزه عن خلق الحق في حالِ كونه باطلاً، لأن خلق الباطل أشدُّ قبحاً من خلق غيره في حال كونه باطلاً، كما أن من فعل الكفر لم يَتنَزَّه (3) عن ترك الضلال كفراً.

الثاني: قوله تعالى: {ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] فلو كان الله خالق تغييرهم، لكان خلقاً آخر لا تغييراً لخلق الله، كما أن الشيب في الشعر خَلْقٌ آخر بعد السواد لا تغييرُ خلق الله، ولقال الله: ثم أنشأناه خلقاً آخر، كما قال في تغيير النطفة إلى العلقة، ثم (4) قال في آخر التغييرات:{فتبارك الله أحسنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] ولم يقل: أحسن المغيِّرِين.

وكذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات المغيرات خلق الله (5)، ولم يجعل تغييرَهُنَّ خلقاً منه آخر كما خلق النطفة علقةً، وخلق الشيب بعد الشباب.

(1) في (ش): فإرادة.

(2)

في (ش): له.

(3)

في (أ): ينزه.

(4)

في (أ): حين.

(5)

أخرجه ابن حبان في " صحيحه "(5505) من حديث عبد الله بن مسعود، وانظر تخريجه فيه.

ص: 98

الثالث: قوله تعالى: {الذِي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي على حسب ما أراد، فوجب وصف جميع مخلوقات الله بالحسن، فلو كان القدرُ المقابل بالجزاء من أفعال العباد مخلوقاً، لم تُوصَفْ معاصيهم بالقبح، ووجب وصف قبائحهم بالحسن، وهذا باطلٌ بالإجماع.

وعلى أن في أهل السنة من يقول: إن الحركة المطلقة وصفٌ إضافيٌّ لا شيءٌ حقيقي، وإن الشيء الحقيقي المخلوق هو المتحرِّك نفسه، لا مجرَّد حركته، وهو القوي الصحيح كما تقدم.

وأما الإمام الجويني وأصحابه، فيقولون بخلق الأفعال كما يقوله أهل السنة، ولكن توجيه ذلك يُشكِلُ عليهم جداً مع قولهم: إن الحركة شيءٌ حقيقيٌّ، وإنها أثر قدرة العبد حتى يتأمل مقصدهم وزال الإشكال.

والإشكال عليهم من وجهين:

الوجه الأول: أنه يلزم أن لا يصح وصفهم لفعل العبد بأنه مخلوق.

والجواب ما ذكره الشهرستاني حيث قال: " وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلَاّ إنه لم يُثْبِتْ للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سبب آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى وهو الخالق المبدىء المستقل بإبداعه من غير احتياجٍ إلى سبب.

وقد أشار الشهرستاني بهذا إلى موافقة الجويني لأهل السنة في مسألتين:

أحدهما: توقُّفُ الأفعال على الدواعي مع أن الدواعي من فعل الله تعالى.

وثانيهما: توقُّف الأفعال على سبق (1) مشيئة الله تعالى وقضائه وقدره على ما مر تحقيقه.

(1)" سبق " لم ترد في (ش).

ص: 99

فإن القول بذلك هو الفاروق ما بين السني والبدعي، وإن بقية الاختلاف إنما أكثرُهُ في العبارات.

فتأمل هذه الفائدة العظمى وأيقِظْ بها قلبك، وشُدَّ بها يديك، فهي من نفائس علوم الخاصة، وما يعقلها إلَاّ العالمون.

فمن هنا أطلق إمام الحرمين وأصحابه على أفعال العباد أنها مخلوقة، ويحتجون على صحة هذه التسمية بما ذكرناه من أدلة السمع الخاصة والعامة المُتَّفَقِ عليها بينهم، والمختلف فيها على حسب رأيهم في المختلف فيها.

وقد أشار الغزالي في مقدمات " الإحياء "(1)، بل صرح أن الحامل على تسمية أفعال العباد مخلوقة إنما هو الإيمان بقوله تعالى:{خَالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102]، وصرَّح فيها ببطلان الجبر، وأن بطلانه ضروري للفرق بين الحركة الاختيارية والضرورية ضرورةً، والله أعلم.

الوجه الثاني: أن يقال: يلزمهم أن يوصف العبد بأنه خالقٌ لأفعاله.

والجواب عنهم في ذلك أنه لا يلزم في كل شيء أن يسمى مخلوقاً في اللغة لوجهين:

أحدهما: أن تسمية كل شيء بذلك يحتاج إلى نقل صحيح عن أهل اللغة وهو معدوم، ولم يُعهَد عن أحدٍ من أهل اللغة أنه يقول: خَلَقتُ قياماً (2) ولا صياماً ولا حلالاً ولا حراماً.

الوجه الثاني: أنه يُفهَمُ من كثيرٍ من الكتاب والسنة وكلام البُلَغاء أن ذلك يختص ببعض الأمور دون بعض.

من ذلك قوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] فعطف الهدى المتعلِّق بالأفعال على الخلق المتقدم لها، وظاهره المغايرة

(1) 1/ 110 و111.

(2)

تحرفت في (ش) إلى: فتأمل.

ص: 100

في التسمية، وإن كان الكل بمشيئته سبحانه.

وكذلك قوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] وهي أبينُ آيةٍ في هذا، لأنه قسَّم المسمَّيات فيها إلى قسمين مختلفين متغايرين:

أحدهما: الخلق، وهو أخصُّهما ولذلك قدمه.

وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما ولذلك أخَّره، لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته بدليل قوله تعالى:{وإلَيْهِ يَرجِعُ الأمرُ كُلُّه} [هود: 123] فدخل فيه الخلق والأمر.

فإن قالت المعتزلة: يخرج منه التكاليف، لقوله تعالى في آخر الآية:{فَاعْبُدْه وتَوكَّلْ عليه} [هود: 123] فأمره بالعبادة، وما كان إلى الله لم يأْمُر به.

قلنا: هذا ممنوع لقوله تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلَاّ باللهِ} [النحل: 127] بأبلغ صيغ المبالغة، وهي الحصر بالاستثناء بعد النفي العام، وقد تقدم تقرير ذلك عقلاً وسمعاً مع منع الجبر قطعاً عقلاً وسمعاً.

وكذلك خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعيد فيمن تعرَّض لمثل ذلك الجنس المُجْمَعِ على تسميته خلقاً، وقيل للمصوِّرين:" فليخلقوا حبَّةً أو شعيرةً " وقال صلى الله عليه وسلم: " أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله، والذين يُشَبِّهُون بخلق الله "(1) ولم يقل لهم: اخلقوا قياماً ولا قعوداً، ولا قيل لمن قام وقعد: إنه ضاهى بخلق الله.

وكذلك في " الصحيح "(2) ذم الواشمات بتغيير خلق الله وتسميتهن المغيرات خلق الله، ففرَّق بين كسبهن الحادث وبين الخلق. ويشهد له من القرآن قوله تعالى:{ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119].

(1) تقدم تخريجه قريباً.

(2)

تقدم تخريجه قريباً أيضاً.

ص: 101

ويدل على ذلك حديث رِفاعة بن رافع، وسيأتي (1) في تفسير قوله تعالى:{والله خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُون} [الصافات: 96].

وهذه أحاديث صحاحٌ، وفيها شهادة على الفرق المعلوم من الدين والعقل بين خلق الرب سبحانه وفعل العبد الضعيف، وأن بينهم من التمايز والتباين العظيم ما أوجب (2) على العبد تحريم تشبيهه لكسبه الراجع إلى الوجوه الإضافية العدمية، الموقوف على سائر القَدَرِ والتيسير والمشيئة بخلق ربه عز وجل.

بل هذه مذاهب الأشعرية في جميع أفعال العباد إلَاّ ما كان تقديراً وتصويراً في الأجسام، فإنه يُسَمَّى خلقاً بمعنى آخر، أي: تقديراً.

وأما سائرُ أفعال العباد (3)، فعند أهل السنة كلهم أنها من حيث نُسِبَتْ إلى العباد لا تسمى خلقاً، وإنما تُسمى كسباً وعملاً وفعلاً. فالوجه عندي في ذلك فيها واحدٌ، وهو أن أهل اللغة سَمَّوْها بذلك فَرْقاً بينها وبين إيجاد الأجسام من العدم وتصويرها، لا (4) لأنها أفعالُ العباد خاصة، بل هذا مذهب البغدادية من المعتزلة: أن الخلق اسمٌ لما يوجده الله بغير مباشرةٍ.

وبعد اعتراف الأشعرية بأسمائها هذه، بقي (5) تسميتها خلقاً مجرد دعوى تحتاج إلى دلالةٍ تقطع الخلاف.

ولأمرٍ ما اختلفت العباراتُ عن أفعال الله تعالى أيضاً فعبَّر سبحانه عن بعضها بالخلق، وعن بعضها بأخصِّ أسمائه كإنزال المطر، ورفع السماء، فإن المطر والسماء يُسَمَّيَان مخلوقين، والإنزال والرفع لا يُسَمَّيَان مخلوقين بل مفعولين.

(1) ص 115 من هذا الجزء.

(2)

في (ش): يوجب.

(3)

من قوله " إلَاّ ما كان تقديراً " إلى هنا سقط من (ش).

(4)

" لا " سقطت من (ش).

(5)

تصحفت في (أ) إلى: نفى.

ص: 102

وكذلك قال الله تعالى: {مِنْها خَلَقْناكُم وفِيها نُعِيدُكُم} [طه: 55] ولم يُسَمِّ الإعادة إلى الأرض خلقاً، لأنها عبارة عن الدَّفْنِ الذي هو من جنس أفعال العباد.

وأوضح من هذه الآية {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20].

ولذلك فرَّق أئمة السنة بين الخلق والجعل في مسألة القرآن كما مضى تقريره في مسألة القرآن.

وقد يجوز في بعض ما عُدِلَ به عن لفظ الخلق إلى اسمه الخاصِّ به أن يسمى خلقاً مثل قوله: {وَمِنْها نُخرِجُكم تَارةً أُخرى} [طه: 55] فإن الإخراج هذا (1) يجوز أن يسمى خلقاً إن كان ترجم به عن الخلق، وإن كان إنما أراد الإخراج من حيث هو إخراجٌ، ولم يُشِرْ به إلى الخلق، فلا يظهر تسميته خلقاً على انفراده، فقد يستدل الجويني ومن وافقه من أصحابه ومن معتزلة بغداد بهذه الأمور على أن الخلق في اللغة يختص بالمعاني التي قدمنا ذكرها، فيجبُ قَصْرُه عليها، وتفسيرُ {خالق كلِّ شيء} بما (2) يُسمى خلقاً، ولا يلزم من قال بهذا من أهل اللغة محذورٌ، ولا مخالفةٌ لمذهب أهل السنة وحقيقته، لأنهم إنما يقولون:

الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق من الأمر لا من الخلق، فرقاً بين مجرد (3) التسمية مع اعترافهم بأن الخلق والأمر، كلاهما لله (4) وحده لا شريك له، على أنهم لم يصرحوا بهذا، وإنما هو منتهى ما يلزمهم (5) عند التحقيق، ولهم أن يوافقوا على ما أجمع عليه السلف الصالح منهم من تسمية

(1) في (ش): هنا.

(2)

في (ش): إنما.

(3)

في (ش): مجرى.

(4)

في (ش): مع اعترافهم بأنهما لله تعالى.

(5)

في (ش): يلزم.

ص: 103

الأفعال مخلوقةً: أي: مقدَّرةً لأن تسميته بذلك بهذا المعنى تسميةٌ صحيحةٌ باتفاق أهل اللغة.

فعلى هذا التلخيص أن الله خالق كل شيء بمعنى التقدير، وخالق كل شيء بمعنى الإيجاد، وما بمعنى الثاني -وهو الإيجادُ- يختص بالأشياء الحقيقية وهي الذوات، ويكون معناه: خالق كل مخلوق، ويخرج منه الأمر مع كونه لله وإلى الله (1) وحده لا شريك له، ولذلك لم يدخل القرآن في قوله تعالى:{خالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102] عند فرق أهل السنة القائلين بقِدَمِه والمانعين من ذلك، على ما مر تحقيقه في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات، مع أنهم مُجمِعُون مع اختلافهم في القِدم على أن القرآن ليس بمخلوقٍ، وأن القول بأنه مخلوق، ولذلك أنكر ذلك قدماء أهل البيت عليهم السلام كما ثبت في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، وقد تقدم في مسألة القرآن.

وثبت بهذا أنه لا حجة في العمومات على أن أفعالنا مخلوقةٌ، لأن معنى: إن الله خالق كل شيء، أي: كل شيء يسمى مخلوقاً، ولذلك خرج القرآن من ذلك، لأن الكلام لا يسمى في اللغة مخلوقاً إلَاّ (2) بمعنى المكذوب، وكذلك لا تسمى أفعالنا بذلك.

فثبت أن كل شيء يسمى مخلوقاً من الأجسام وصورها والطعوم والألوان والروائح وسائر ما في العوالم من نحو ذلك، داخلٌ في أن الله خالق كل شيء، وما لم يثبت أنه يسمى مخلوقاً كأفعالنا لا يدخل في ذلك بمرَّة (3).

ولو سلمنا أنه يدخل فيه لغةً جاز تخصيص القبائح منه، كما هي مخصوصةٌ من قول سليمان عليه السلام:{وأُوتينا من كلِّ شيءٍ} [النمل: 16] بل من قوله تعالى في بلقيس: {وأُوتِيَتْ من كلِّ شيء} [النمل: 23].

(1) عبارة " وإلى الله " لم ترد في (ش).

(2)

" إلا " سقطت من (ش).

(3)

في (أ): ثمرة، وهو تصحيف.

ص: 104

ألا ترى أنها لم تُؤْتَ ملك سليمان، ولو أُوتِيَتْ ذلك ما قهرها وغلبها، ولو دخلت في هذا القبائح كانت زانيةً بَغِيَّةً، مسافِحَةً مجاهرةً، ولو كانت كذلك ما تزوجها عليه السلام.

يوضحه: أن الله يعلمُ كلَّ شيء، ولا يلزم أن يعلم عدم موجودٍ، ولا سعادة شقيٍّ، ولا كذب صادقٍ، لأن المعنى: يعلم كل شيء معلوم، فكذلك هو خالقُ كل شيء، وكذلك لم يدخل شيء في ذلك من كلمات الله تعالى التي تَقِلُّ البحار عن أن تكون مِداداً لها.

فليلخص (1) من هذا أن أهل السنة وإن أجمعوا على أن أفعال العباد تُسَمَّى مخلوقةً، فلم يعنوا بذلك أمراً يُوجِبُ الجبر وينفي الاختيار، واختلف تفسيرهم لهذه العبارة بما تقوم معه لله سبحانه وتعالى على عباده الحجة البالغة، والحمد لله رب العالمين.

القسم الثاني: من أدلة أهل السنة على خلق الأنعال: ما اختلفوا في صحة الاحتجاج به، وتفرَّد به الفرقتان الأوَّلتان، ومَنَعَ من الاحتجاج به الفرقتان الآخرتان: آيتان وحديثان.

الآيةُ الأولى: {وَمَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمَى} [الأنفال: 17] احتج بها من قال بخلق الأفعال أنفسها، وأجاب الآخرون بأنها مَسُوقَةٌ لبيان إعانة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أثر تلك الرمية، أو تولِّيه سبحانه لأثرها كله، وليس في الآية ما يدلُّ على أن الله تعالى هو المتفرِّدُ بكل ما فعل (2) العبد من جميع الوجوه، وكيف يصح ونص الآية شاهدٌ بإثبات فعل العباد حيث قال:{إذْ رَمَيْتَ} فالله تعالى أثبت الرمي في نص الآية منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونفاه عنه في نصها أيضا، فوجب تأويلُ ذلك على كل مذهب، وتنزيله منزلة قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] مع قوله تعالى: {لَيسَ على الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61].

(1) في (ش): فتلخص.

(2)

في (ش): بخلق أفعال.

ص: 105

والوجه في الآية أنها نزلت في رَمْيَةٍ (1) مخصوصة، وقع لها أثرٌ (2) عظيمٌ لا يقع مثله في الرمي الذي يكون مصدره من قدر العباد وقواهم، فأثبت الله تعالى الرمي منسوباً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لِمَا كان منه في ذلك من الكسب اليسير، ونفاه عنه، لأن أثره العظيم منفيٌّ عنه، فنَزَّلَ الله تعالى رَمْيَ رسوله صلى الله عليه وسلم منزلة المنفي عنه المعدوم بالنسبة إلى ذلك الأثر العظيم.

ودلَّ على ذلك التجوُّز في نفي الرمي عنه مطلقاً بنصِّه (3) على نسبة الرَّمْيِ إليه صلى الله عليه وسلم في صريح الآية عقلاً وشرعاً من ثبوت عمى الأبصار، على نحو ما ذكرنا في تأويل الرمي أنه من كون مَضرَّة عَمَى الأبصار كَلَا شيءٍ بالنسبة إلى مضرَّةِ عمى البصائر.

وأما أولُ آية الرمي. وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَقتُلُوهم ولكِنَّ الله قَتَلَهم} [الأنفال: 17] فيحتمل أنها على الحقيقة كذلك، لأن الإماتة فعلُ الله تعالى، وجميع المسببات عند أهل السنة فعل الله، وهي عند المعتزلة مختلفةٌ، بعضها فعل الله كالإحراق بالنار وصبغ الثياب بالألوان، وبعضها يخالفون فيه، وليس هذا موضع تفصيل (4) هذا.

وقد تقدم في كلام الشهرستاني في الكسب إشارةٌ إلى ما يسمى فعلاً للعبد، ويدخله الأمر والنهي عرفاً، وهو مجمَعٌ على أنه من (5) أثر قدرة الله عند أهل السنة والمعتزلة، وعدَّ منه إزهاق الأرواح، فما كان من هذا القبيل لم يحتج إلى تأويل نسبته إلى الله تعالى، بل ينعكس الأمر، ويجب تأويل نسبته إلى العباد، فنقول: معنى القتل المنسوب إلى العباد أسباب القتل، وفي بعضها نفيٌ، بل كلها نفي للقتل عنهم، وإثباته لله تعالى.

(1) في (ش): قصة، وهو خطأ.

(2)

في (ش): بها أمر.

(3)

في (أ) و (ف): بنصه، هكذا رسمت، ويمكن قراءتها هكذا: بتبقيه أو لعلها محرفة عن كلمة " بنصّه ".

(4)

" تفصيل " لم ترد في (ش).

(5)

" من " لم ترد في (ش).

ص: 106

وأما آيةُ النفي فتعارض فيها النفي والإثبات، فاستحقَّتِ التأويل، ولو لم نتأولها وجرينا على ظاهر نفي الرمي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن ظاهرها يجري على مذهب أحدٍ من فرق أهل السنة الأربع، فإنهم يجمعون على نسبة أفعال العباد وإن كانت مخلوقةً، ويكون ظاهرها محتاجاً إلى التأويل بالإجماع.

ولذلك احتج بظاهرها ابن عربي الطائي في " فصوصه "(1) على الاتحاد، وظن أن ظاهرها كلها (2) تساعده على ذلك، وليس كذلك، فإنه إن ساعده ظاهرُ شطرها، نافره ظاهرُ الشطر الثاني، وكفى بذلك تعارُضاً يوجب ترك الظاهر والعدول إلى سائر الآيات المُحكَمَات الدالة على إثبات أفعال العباد، ونفي ما توهَّمَهُ من الاتحاد، وبطلانُ جميع ذلك أوضح من أن يعين الاحتجاج عليه دليل، فإنه معلوم (3) من ضرورة الدين والعقل، والمُعَوَّل عليه في مثل هذه المعلومات هو القرائن الضرورية القاضية بالعلم، والعقول المفطورة على الفهم، التي لولا هي، لم يصح الخطاب، ويُخصَّ (4) به ذوو الألباب في نصوص الكتاب.

ولآية الرمي سببٌ نزلت عليه، فَلْتَتِمَّ الفائدةُ في الإشارة إليه، قال الواحدي في " أسباب النزول " (5): أكثر أهل التفسير أن الآية نزلت في رمي النبي صلى الله عليه وسلم القبضة من حصى (6) الوادي يوم بدرٍ حين قال للمشركين: " شاهت الوجوه " ورماهم بتلك القبضة، فلم تَبْقَ عينُ مشرك إلَاّ دخلها منه شيء.

قال حكيم بن حزام: لمَّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حَصَاةٍ وَقَعَتْ في طَشْتٍ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحصيات، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى:{ومَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رَمى} [الأنفال: 17].

(1) ص 185.

(2)

" كلها " ليست في (ش).

(3)

" معلوم " سقطت من (ش).

(4)

في (ش): يختص.

(5)

ص 156 - 157.

(6)

في " أسباب النزول ": حصباء.

ص: 107

ورُوي غير هذا في أسباب النزول، وهذا أشهره.

وفي " المستدرك "(1) من حديث سعيد بن المسيب، عن أبيه: أن الآية نزلت في طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن خلفٍ. وقال على شرطهما.

الآية الثانية: قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].

وقد احتج بها الطائفتان الأوَّلَتَان من أهل السنة، منهم أبو عبيد، ومنع ذلك الآخرون منهم ابن قتيبة، فإنه رد على أبي عُبيدٍ في " مشكل القرآن ".

ولأجل اختلاف أهل السنة في ذلك قال ابن كثيرٍ في أول " البداية والنهاية "(2) في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وسواء كانت " ما " مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون والأصنام مخلوقةٌ، فكيف يعبد مخلوقٌ لمخلوقٍ. انتهى.

فأشار إلى القولين ولم يتعرض لنصرة أحدهما على الآخر لاختلافهم في ذلك.

ووجه كلام المُحتَجِّين بها هو ما يُتَوهَّم قبل التأمل من أن ظاهرها يقتضي ذلك، ووجه كلام المانعين من أهل السنة المنع من ظهور ذلك في الآية، ثم دعوى ظهور خلافه، فهذان مقامان.

(1) 2/ 327. وأخرج ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (15829) عن الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال: جاء أُبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل

فذكر الخبر.

وأورد هذين الخبرين الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 3/ 572 إلَاّ أنه جعل حديث الحاكم في " مستدركه " عن سعيد بن المسيب ولم يرفعه إلى أبيه! وصحح إسناده. ثم قال: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضاً جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة .. والله أعلم.

(2)

1/ 137.

ص: 108

المقامُ الأول: المنع من ظهور معناها فيما زَعَمُوا، وذلك أن المنع يترتب على ظهور الاشتراك الذي يمنع تحقيقه من الظهور، وبيان الاشتراك الذي فيها ما في لفظة " ما " من الاحتمال المعلوم عند أهل علم البيان (1) ونُقَّاد هذا الشأن، فإنها مُحتَمِلَةٌ لمعنيين:

الأول: أن تكون موصولةً بمعنى: الذي، مثل قوله تعالى:{أتَعْبُدونَ ما تَنْحِتونُ} [الصافات: 95].

الثاني: أنها مصدريةٌ بمعنى: وعملكم. وعلى تقدير أنها موصولةٌ تكون أيضاً محتملةً لمعنيين:

أحدهما: أن المراد بالذي تعملونه الأصنام، أي تعملون أشكالها ومقاديرها، كما يقال: صنع النجار الباب، وهذا السيف صنعه فلانٌ، وتسميتُها معمولة حقيقة وعملاً مجازاً، أو حقيقة (2) عُرفِيَّة شائعة.

ومنه حديث رفاعة بن رافع البدري رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين دعاهم إلى الإسلام:" من خلق السماوات والجبال؟ " قلنا: الله، قال:" فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال:" فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق وأنتم عملتموها؟ والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه ".

رواه الحاكم في أول كتاب البر من " المستدرك "(3) وصحَّحَه، كما يأتي بإسناده وتمام متنه، وهو ظاهر كلام المفسرين.

قال البغوي (4): وما تعملون بأيديكم من الأصنام. هذا وهو من أهل السنة، وممن ظن مع هذا أن الآية تدل على خلق الأعمال.

(1) في (أ) و (ف): اللسان.

(2)

في (أ): وحقيقة.

(3)

4/ 149، وسيأتي عند المؤلف ص 115، فانظر الكلام عليه هناك.

(4)

تمام نصه في " تفسير البغوي " 4/ 31: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بأيديكم من الأصنام، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.

ص: 109

الثاني: أن يكون المرادُ: وما تعملونه من أعمالكم، وعلى هذا التقدير فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المراد من أعمالكم مُطلقاً، فيدل على خلق الأفعال كالمصدرية.

وثانيهما: أن يكون المراد من أعمالكم في الأصنام وهو صنعتها (1) أصناماً، وعلى هذا يكون المعنى: وما تعملون فيه.

وذلك أن الفعل قد يُطْلَقُ على المصدر، وهو الذي في مَحلِّ القدرة: مثل حركة اليد عند تصوير الأصنام، وقد تُطلَقُ على الأثر المتعدِّي عن محلِّ القدرة (2) وهو التصوير الباقي (3) بعد فراغ الفاعل من حركته، وهذا المتعدِّي هو الذي أنكره ثُمامة والمطرِّفِيَّةُ من الزيدية أن يكون فعلاً للعبد، وسَمَّوْهُ مفعولاً لا فعلاً.

والمراد في هذا الوجه الثاني: والله خلقكم والذي تعملون فيه عملكم، أي: والأصنام التي تصورون فيها تلك التصاوير.

والاحتمال الأول معناه: وخلق الأجسام التي هي عملكم، أي: مَعمُولكم، ومع وضوح الاحتمالات، بل الاحتمال الواحد يبطل ظهور الآية فيما ادَّعَوْا، ويبقى في حيِّز الاحتمال حتى يقضي الترجيح الصحيح لما ادَّعوه، لكنه قاضٍ عليهم لا لهم كما يظهر في المقام الثاني، وهو ظهورُ خلاف ما فهموه.

وذلك أن المعوَّل عليه في مثل هذه المشكلات هو ترك العناد والعصبية أولاً، ثم ترك القرائن العقلية النظرية واللغوية العادية تعمل عملها، وتطلب أثرها، ولا شك أنها تقضي بأن المراد بما تعملون الأصنام أنفسها كما ثبت ذلك

(1) في (ش): صنعها.

(2)

من قوله " وقد تطلق على الأثر " إلى هنا سقط من (ش).

(3)

في (ش): الثاني، وهو تحريف.

ص: 110

في حديث رفاعة الصحيح، وذلك لوجوهٍ:

الوجه الأول: أن الله تعالى ساق الآية للاحتجاج على بطلان عبادة الأصنام، وليس في كون أعمال العباد مخلوقةً حجةٌ على بطلان عبادة الأصنام، وفي كون الأصنام مخلوقةً لله تعالى أوضح برهانٍ على بطلان عبادتها لوجهين:

أحدهما: أن الله تعالى نصَّ على هذا المعنى في غير آيةٍ، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى في سورة الفرقان:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وقال في سورة النحل:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ (1) مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20].

وثانيهما: أن المشركين حينئذ يُنَبِّهون على أنهم مثلها في كونهم مخلوقين، وليس ينبغي أن يكون العبد والرب من جنسٍ واحد، لا سيما والعابد منهما هنا (2) أشرف من المعبود بالضرورة من جهتين:

الجهة الأولى: أنه حيٌّ ومعبودُهُ جمادٌ.

والجهة الثانية: أنه الذي صوَّره المعبود، وعلى الهيئة التي كانوا يستحسنون معها العبادة، فإنهم لم يكونوا يستحسنون عبادة الحجر المطموس الذي لا شَكْلَ له، حتى يكونوا هم الذين يُشَكِّلُونه ويضاهون بصورته خلق الله تعالى، وهو من هذه الجهة يسمى معمولاً لهم ومفعولاً، كما يقال في السيف: إنه عَمَلٌ، ونحوه، وكذلك سائر الحُلِيِّ التي هي من تصرُّف الصُّنَّاع في خلق الله، وهذه التسمية حقيقةٌ عُرفِيَّةٌ، وكذلك سائر المسببات كالمِدَاد وسائر الأصباغ.

(1) هكذا قرأ جمهور القراء بالتاء المثناة من فوق، وحجتهم ما تقدم قبل الآية وما تأخر: فما تقدم {وإن تَعُدُّوا نعمةَ الله} ، وما تأخّر {إلهُكم إلهٌ واحد} ، وقرأ عاصم:{والذين يَدعُون مِن دون الله} بالياء، إخباراً عن المشركين. انظر " حجة القراءات " ص 387، و" زاد المسير " 4/ 437.

(2)

" منهما هنا " لم ترد في (ش).

ص: 111

وهذه معصيةٌ أخرى تضمنها تصويرهم للحجارة، وهي من أدل دليلٍ على (1) عِظَمِ الجهالة، إذ مجرد تشكيل الصورة من غير حياةٍ غير مميِّزٍ للجماد بمَزِيَّةٍ يشرف بسببها على غير المصوِّر فجمعوا من جهالاتهم (2) في ذلك ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض. وهذا الوجه قوي جداً، لأن مقدماته معلومةٌ ضرورية (3)، فإنا نعلم بالضرورة أن الآية مسُوقَةٌ لإقامة الحجة على بطلان ربوبية الأصنام، ونعلم ضرورةً أن الحجة بما ذكرناه أقوم وألزم، وأنها على تقدير أن المراد خلق أعمال العباد خَفِيَّةُ المعنى، والله سبحانه أعلم.

الوجه الثاني: أن قرينة الحال وصنعة البيان تقتضي أن قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} في آخر الآية موافقٌ (4) لقوله: {ما تَنْحِتُونَ} في صدرها، لأنه صَدَّرَ الآية الكريمة بإنكار عبادة المنحوت في حال خلق الله له، لكن سمَّاه معمولاً، تجنُّباً للتكرار، فإن الواو حاليَّةٌ في قوله:{والله خَلَقَكُم} والحال هذه العجيبة (5) القاضية تَبْرَأُ منكم في الجهل إلى هذه الغاية البعيدة. وأنت إذا نظرت في طِبَاقِ الكلام وسياقه لم يحسن أن يكون المعمول غير المنحوت، ووجب أن يكون هو إيَّاهُ.

أما إن الأول لا يحسن (6)، فلأنَّ الجملة الحالية تقتضي في مثل هذا الموضع زيادة شدة النكارة معها، كما تقول: أتسُبُّ فلاناً وهو أخوك؟! أتَجْفُوهُ وهو أبوك؟! ولو كان المعمول غير المنحوت لم يكن الشرك معه أقبح، ألا ترى أن الشرك على تقدير خلق الأعمال ليس بأقبح من الشرك مع خلاف ذلك.

وأما إنه يجب أن يكون المنحوتُ هو المعمول، فلما في ذلك من زياده قُبْحِ الشرك، لأنه لا يَخْفَى على عاقلٍ أن أقبح الشرك أن يجعل لله شريكاً وهو خلقه وملكه.

(1)" على " سقطت من (ش).

(2)

في (ش): جهالات.

(3)

في (ش): ضرورة.

(4)

في (أ) و (ش) و (ف): موافقاً، وهو خطأ.

(5)

في (أ): العجبية، وهو خطأ.

(6)

" لا يحسن " سقطت من (أ).

ص: 112

فدلَّ على أن قوله تعالى: {وَما تَعْمَلُونَ} كِنايةٌ عن قوله: {ما تَنْحِتُونَ} خالف بين لفظهما من اتحاد معناهما، لِمَا في ذلك من حُسْنِ السَّبْك وعدم التَّكرار، على ما يعلمه أهل اللسان من أئمة البديع والبيان.

الوجه الثالث: حديث رفاعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ذلك كما سيأتي الآن.

الوجه الرابع: النصُّ على أن أعمالهم مخلوقةٌ لله تعالى يُنافي توبيخهم والاستنكار الشديد لصدوره عنهم.

ولذلك قضى جمهور أهل السنة في الخلق الذي تَمَدَّح الرب سبحانه بالتفرد به أنه خلق الأعيان وإنشاؤها (1) من العدم وتشكيل (2) الصوره التي ورد الوعيد لمن ضاهاه من العبيد.

فكيف إذا ورد ذكر الخلق في مثل هذه الصورة احتمل (3) مثل هذه الاحتمالات؟ أليس توجيهه إلى خلق الأعيان المُنْشَأة من العدم أسبق إلى الأذهان، وأقوم في البرهان، وأجْدر أن يفسر به القرآن، وأولى بنص المعاني والبيان!

ويؤيِّدُ (4) مذهب هذه الطائفة من أهل السنة قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله سبحانه عنه في غير هذه الآية في سورة العنكبوت: {إنَّمَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أوْثاناً وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17] فنسب إليهم الخلق الذي بمعنى الكذب، وذمَّهم به لما كان من أفعالهم الاختيارية المحرمة عليهم، وإن كانوا مع ذلك تحت مشيئة الله وعلمه وقضائه وقَدَرِهِ.

ولا شك أن لأفعال العباد عند جميع فِرَق أهل السنة جهتين مختلفتين: جهة يدخلها الحسن والقبح، ومنها تُنْسَبُ الأفعال إلى العباد.

(1) في (أ) و (ش): وأنشاها.

(2)

في (أ): أو تشكيل.

(3)

في (ش): هذه الآية إلَاّ احتمل.

(4)

في (ش): ويؤكد.

ص: 113

وجهة لا يدخلها القبح ويدخلها الحسن وحده دون القبح، ومنها تُنسَبُ كل الكائنات إلى الله تعالى، ولكن المجادل لا يحسن منه أن يُلَقِّنَ خَصْمَه شُبهةً وإن كانت باطلةً.

ولا شك أن نسبة الأفعال إلى الله تعالى من شُبَهِ الكفار، ولذلك احتجوا بأقلِّ (1) شبهةٍ منها فيما حكى الله عنهم، وقالوا:{لَو شَاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] وقد مَرَّ الجواب عليهم مُستوفىً ولله الحمد والمنة في آخر مسألة المشيئة.

فلم يكن الخليل عليه السلام لِيُلَقِّنَهم أعظم من هذه الشبهة التي قد (2) لَهِجُوا بها ودَقَّتْ (3) على خلائق من علماء المِلَّة (4) الإسلامية كيف إلَاّ عبَّاد الحجارة الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشَاوةً مع ما أُوتِيَ الخليل عليه السلام من وضوح الحجة، وحُسْنِ العبارة حتى في الدعاء إلى الله تعالى، وحسن الثناء عليه.

ومن ألطف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، وإن كانا معاً فِعْلَ الله بإجماع المسلمين، لأن سبب المرض قد يكون منه إما بتناول ما يضُرُّه، وإما بذَنْبٍ يرتَكِبُهُ، والشفاء لا يُضَافُ إلَاّ إلى الله تعالى، وإن كان العبد سببه، لأنه على كلِّ تقديرٍ من نِعَمِ الله تعالى التي يجب شكرها، وأقل الشكر الاعتراف بها.

فمن عرف مثل هذه المباحث، وتمكن من معرفة الراجح، وإلا فلا يَفُتْهُ العمل على قوله تعالى:{ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

على أن الحاكم قد روى حديثاً يصلح إيراده في تفسير هذه الآية الكريمة،

(1) في (ش): لأقل.

(2)

" قد " لم ترد في (ش).

(3)

في (ش): ودق.

(4)

لفظة " الملّة " سقطت من (أ) و (ف).

ص: 114

ذكره في أول كتاب البر والصلة من " المستدرك " وصححه فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المقرىء الشَّجَرِيُّ، حدثني أبي، عن عبيد (1) بن يحيى، عن مُعاذ بن رفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن أبيه رفاعة بن رافع، وكان قد شَهِدَ بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قَدِما مكة، فلما هبطا من الثَّنِيَّة رَأَيَا رجلاً تحت الشجرة -إلى قوله- قلنا: من أنت؟ قال: " انْزِلُوا " فنزلنا، فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول؟ فقال: " أنا " فقلت: فاعرض فعرض علينا الإسلام، وقال:" من خلق السماوات [والأرض] والجبال؟ " فقلنا: الله، فقال:" من خلقكم؟ " قلنا: الله، قال:" فَمَنْ عَمِلَ هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال:" فالخَالِقُ أحقُّ بالعبادة أم المخلوق فأنتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه " إلى قوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2).

قلت: فقال صلى الله عليه وسلم: " فمن عَمِلَ هذه الأصنام التي تعملون " مقرِّراً للحجة عليهم، ولم يقل: فمن خلق عملكم لهذه الأصنام.

وأصرح من ذلك قوله: " والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه " ولم يقل: من شيءٍ خلق الله عملكم فيه وعبادتكم له.

وفي تفسير كتاب الله تعالى بالرأي وعيدٌ شديد ليس هذا موضِعَ ذكره،

(1) في المطبوع من " المستدرك ": عبد، وهو خطأ.

(2)

" المستدرك " 4/ 149 - 150، قلت: وفي تصحيح الحاكم لإسناده نظر، فقد تعقبه الذهبي في " تلخيصه " بقوله: يحيى الشجري -والد إبراهيم- صاحب مناكير، قلت: وابنه إبراهيم لين الحديث، وعبيد بن يحيى مجهول، لم يرو عنه غير يحيى بن محمد الشجري هذا، ولم يوثقه غير ابن حبان 7/ 158، وذكره البخاري في " التاريخ الكبير " 6/ 7، وابن أبي حاتم 6/ 5 ولم يأثرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد وقع في هذه المصادر الثلاثة في ترجمته " معان بن رفاعة " بالنون، وهو تحريف.

ص: 115

ونرجو أن لا يكون العمل بمقتضى القرائن اللغوية والفِطْرية من ذلك إن شاء الله تعالى، وما (1) كَثُرَ فيه الإشكال، ودَقَّ فيه الاحتمال، فأعوذ بالله من الخوض فيه بآراء الرجال، وهذا المستند الذي معي قد أبْدَيْتُ صفحته للناظرين، فمن عرف خيراً منه وأوضح وأبيَنَ فَلْيَتَّبِع الهدى، ولا يَمِلْ عن الأقوى، فإن ذلك صنيع أهل الأهواء، وما أصبت فيه فبحمد الله ومشيئته وحُسْنِ توفيقه، وما أخطأت فيه فبسُوء اختياري، والله سبحانه من ملامته بريءٌ كما صح عن أبي بكرٍ وعمر أنهما قالا ذلك كما سيأتي بيانه.

وكما صح عن ابن مسعود أنه قال مثل ذلك في قصة بَرْوَعَ بنت واشِقٍ وهو المُجَارُ على لسان محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كما يأتي بيان صحة ذلك ونظائره في آخر خاتمة هذه المسألة الجليلة إن شاء الله تعالى، وبيان تواتر نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصدر الأول على صحة هذه العبارة وحسنها، وعلى مطابقته لقواعد فِرَقِ أهل السنة الجميع، ولله الحمد.

وأما الحديثان النبويَّان:

فالحديث الأول: ما حكى البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات "(2) عن الإمام الحافظ أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى أنه روى -يعني في غير " الصحيح "- فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي (3) الهيثم المُطَّوَّعي ببخارى، أخبرنا محمد بن يوسف الفِرَبْرِي، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري (4) يقول: حدثنا علي بن عبد الله -يعني: ابن المديني- حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن رِبْعِيِّ بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " وتلا بعضهم عند ذلك: {والله خَلَقَكُم ومَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96](5).

(1) في (ش): ومتى.

(2)

ص 260.

(3)

" أبي " سقطت من (أ) و (ش).

(4)

في " خلق أفعال العباد "(117).

(5)

إسناده صحيح. أبو مالك: هو سعد بن طارق الأشجعي. وأخرجه الخطيب =

ص: 116

ذكره البيهقي في باب الفرق بين التلاوة والمَتْلُوِّ.

وقال في باب بدء الخلق من " الأسماء والصفات "(1) أيضاً: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد الفقيه (2)، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن رِبْعي بن حِرَاش، عن حذيفة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث كما تقدم.

انتهى ما أورده البيهقي رحمه الله تعالى.

وخرج البزار هذا الحديث في " مسنده "(3) ولفظه: " خلق الله كل صانعٍ وصنعته ". قال الهيثمي (4) ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبي الحسين بن الكردي، وهو ثقةٌ.

ومعنى هذا الحديث معنى صحيح، يشهد له ما نصَّ الله سبحانه عليه من تعليمه بالقَلَمِ، ومنَّ (5) بذلك على عباده، وهو نصٌّ في أنه سبحانه المعلِّمُ لصنعة

= البغدادي في " تاريخه " 2/ 30 - 31 عن محمد بن علي بن أحمد المقرىء، عن محمد بن عبد الله النيسابوري أبي عبد الله الحافظ، بهذا الإسناد.

وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "(358)، والبزار (2160)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 26 من طرق عن مروان بن معاوية الفزاري، به.

وأخرجه ابن أبي عاصم (357)، وابن عدي في " الكامل " 6/ 2046، والحاكم 1/ 31 - 32 من طريق الفضيل بن سليمان، عن أبي مالك الأشجعي، به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(1)

ص 388، وهو في " المستدرك " للحاكم 1/ 31، وأخرجه عنه البيهقي أيضاً في " الاعتقاد " ص 144.

(2)

في " المستدرك ": محمد بن يوسف الفقيه، ويوسف جده. انظر:" سير أعلام النبلاء " 15/ 490 - 492.

(3)

(2160)" كشف الأستار ".

(4)

في " المجمع " 7/ 197.

(5)

في (أ): وما، وهو خطأ وقد كتبت فوقها على الصحيح، وفي (ش): وامتن.

ص: 117

الكتابة، وليس فيه حجةٌ على خلق الأفعال، إذ ليس كلُّ فعلٍ يسمى صنعةً، فإن الصنعة اسمٌ لُغَوي تختصُّ بما يحتاج إلى علاجٍ ويُفهَمُ، بحيث يختص به بعض العقلاء في الحقيقتين اللغوية والعُرفية، وهي مقدَّمةٌ على اللغوية، ومنتهى الأمر أن هذا محتملٌ، والقطع ببطلانه في الظنِّيَّات حرامٌ إلَاّ بدليلٍ، كيف في القطعيات؟!

الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الله تعالى حين يريد أن يَخْلُقَ الخلق يبعث ملكاً فيدخُلُ الرحم، فيقول: يا رب ماذا؟ فيقول: غُلامٌ أو جاريةٌ، فيقول: يا رب، شقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول: شقيٌّ أو سعيدٌ، فيقول: يا رب، ما أجله ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، فما من شيءٍ إلَاّ وهو يُخْلَقُ معه في الرحم "(1).

قال الهيثمي (2): رواه البزار ورجاله ثقات.

قلت: فيه الاشتراك في لفظة الخلق، فقد تكون بمعنى التقدير ومعناه هنا (3) صحيحٌ ولا نزاع فيه، وقد تكون بمعنى الإيجاد ولا يَصِحُّ هذا المعنى، لأن العمل غير موجودٍ في الرحم، ولأن سياق الحديث يدلُّ على ذلك من أوله، وانما ذكر الخلق في آخره ليُتَرجِمَ عما تقدم في أوله من الأمور التفصيلية، فكأنه قال: ما مِنْ شيءٍ من الذُّكورة (4) والأُنُوثة، والرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، إلا يُخلَقُ في الرحم.

فهذان الحديثان أقوى ما عرفت في ذلك، ولم يذكروا منهما إلَاّ حديث حُذيفة، ولعلهم إنما تركوا حديث عائشة لظهور الأمر (5) فيه، وأن الخلق فيه بمعنى التقدير.

(1) أخرجه البزار (2151)، ونسبه الحافظ المزي في " تهذيب الكمال " 5/ 110 إلى أبي داود في " القدر ".

(2)

في " المجمع " 7/ 193.

(3)

في (ش): هذا.

(4)

في (أ): الذكور.

(5)

في (ش): الأثر.

ص: 118

وأما ما رواه الطبراني (1) عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال: قال الله عز وجل: أنا خلقت الخير والشر، وطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير، وويلٌ لمن قدَّرْتُ على يده الشر " فلا حجة فيه لوجهين:

أحدهما: أن فيه مالك بن يحيى النُّكري، وهو ضعيف، وتكلم فيه ابن حبان (2)، وقال البخاري: في حديثه نظر (3)، ولم أعلم أن أحداً وَثَّقَه.

وثانيهما: أن الخير والشر المنصوص في الحديث إنهما مخلوقان ليسا عبارةً عن الأعمال بدليل قوله: " فطُوبى لمن قَدَّرْتُ على يده الخير ". فالتقدير على اليد هو العمل، وعلى تقدير أن الخير والشر هما العمل نفسه، فإن لفظة " الخلق " مشتركة، وأحد معانيها: التقدير، وأحد معانيها: إيجاد العين، ولا يجوز القطع على أن المراد أحدُ المعنيين إلَاّ بدليل، ولا الظن إلَاّ بقرينةٍ، والقرينة هنا تدل على أنه بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد، وتلك القرينة هي قوله: فطوبى لمن قَدَّرتُ " فإن هذا أمرٌ نِيطَ بقوله: " خَلَقْتُ " وهو كالترجمة عنه، وذلك مُدرَكٌ بالذوق عند أهل اللسان، ومنتهى ما فيه أنه محتَمَلٌ، فلا يصح القطع بأنه غير مرادٍ.

ومما يصلح أن يحتج به الفرقتان الأوَّلتان من أهل السنة قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

(1) أورده السيوطي عنه في " الجامع الكبير "(12797). وقال الهيثمي في " المجمع " 8/ 192 بعد أن نسبه للطبراني: وفيه مالك بن يحيى النكري وهو ضعيف.

(2)

في " المجروحين " 3/ 37، قال: منكر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد عن الثقات بالمفاريد التي لا أصول لها.

(3)

نقله عنه العقيلي في " الضعفاء " 4/ 174، وابن عدي في " الكامل " 6/ 2379، ولم أره في " التاريخ الكبير " ولا في " الصغير " وكلاهما للبخاري، والمؤلف نقل كلام البخاري وابن حبان فيه من " الميزان " للذهبي 3/ 429.

ص: 119

وتفسيرها في حديث: " كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطرة، وإنما أبواه يُهوِّدانِهِ ". الحديث (1).

وفيه ما تقدم في حديث عائشة وابن عباسٍ من الاحتمال الناشىء من الاشتراك في معنى الخلق، ويُوضِحُه أن الخلق هنا راجعٌ إلى الفِطْرَةِ.

وقد دلَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، أنها العقل القابل للإسلام حتى يخالفه الأبوان، يوضحه ما تقدم من امتناع تفسير الخلق بإيجاد الأعمال، لعدم وجودها في ذلك الوقت بالضرورة، وهذا منتهى ما عَرَفْتُ في هذه المسألة الجليلة.

وقد ادعى بعض الفرقتين الأُولَيَيْنِ الإجماع على ما اختاره، ولم يُسَلِّمْ لهم ذلك الآخرون.

والحق عندي في دعوى الإجماع في ذلك من السلف رضي الله عنهم أنه يُمكِنُ أنها صحيحةٌ على وجهٍ دون وجهٍ، وذلك أن الخلق لفظةٌ مشتركة بين التقدير ويين إيجاد الرب عز وجل للذوات، ولا شكَّ أن أفعال العباد مخلوقةٌ بالمعنى الأول: أي مُقَدَّرةٌ معلومةٌ مكتوبةٌ، مقطوعٌ بوقوعها منهم باختيارهم على جهةٍ تُوجِبُ الحجة عليهم وتقطع أعذارهم، من غير جَبْرٍ ولا سَلْبِ اختيارٍ، وفي الآثار في (2)" الجامع الكافي " عن قدماء أهل البيت ما يكفي ويشفي.

وأما المعنى الثاني ففي دعوى الإجماع عليه بخصوصه بُعْدٌ كثيرٌ مع شهرة هذا النزاع بين متكلمي أهل السنة، فكيف بغيرهم من سائر متكلمي أهل الإسلام؟! فكيف بالسلف الذين كانوا أبعد الناس عن الخوض في مثل هذا والتنصيص عليه؟! وسيأتي قريباً كلام القاضي عياض، والنَّواوي، وابن الحاجب في اختلاف أهل السنة في ذلك، مع ما مضى من ذلك.

(1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث ص 387.

(2)

في (أ) و (ش): والآثار وفي، وهو خطأ، وقد نبَّه على الصواب في (أ) بخط مغاير.

ص: 120

والظاهر أنه يتعذَّر نقلُ نصٍّ واحدٍ عن رجل واحدٍ منهم في ذلك بطريقٍ صحيحةٍ بل لا أعلم مثل ذلك نُقِلَ عن أحدٍ منهم بطريق ضعيفةٍ إلَاّ ما رُوِيَ عن علي عليه السلام من طريق أهل البيت عليهم السلام، وهي من أحسنِ الطُّرُق، لكنها مُنقَطِعَةٌ غير مُسنَدَةٍ، ذكرها في " الجامع الكافي " عن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي، عن علي عليه السلام قال: سُئِلَ عليٌّ عليه السلام، فقال -يعني في أفعال العباد-: هي من الله خَلْقٌ، ومن العباد فِعْلٌ، لا يسأل عنها أحدٌ بعدي.

قال أحمد: إنما يعذب الله العباد على فعلهم، لا على خلقه.

وقال أحمد: إنها من الله خَلْقٌ، ومن العباد فعلٌ، لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا فعل العباد تقدم خلق الله. روى الجميع عنه محمد بن منصور الكوفي المرادي في كتاب أحمد، وقد تقدم من توعِير معرفة الإجماع ما يُزهِّدُ في كثيرٍ من دعاويه، فمن أشفِّ ما اعتمدوه من دعوى الإجماع أمران:

أحدهما: قول أبي عبد الله البخاري رحمه الله (1)، سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقةٌ. انتهى.

قلت: البخاري وشيخه عبيد الله بن سعيد، وشيخُه يحيى القَطَّان رحمهم الله، أئمةٌ أثباتٌ من أجِلَاّء ثقات المسلمين لا ريب في صدقهم، لكن القطَّان كان في الطبقة السادسة، فإنه وُلِدَ سنة عشرين ومئةٍ، وتُوفِّيَ سنة ثمانٍ وسبعين ومئة، وذلك قريبٌ من رأس المئتين. وقد قال الذهبي في آخر الطبقة الرابعة من " التذكرة " (2) وهو ما بعد المئة الأُولى إلى الخمسين ومئةٍ ما لفظه: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرة عمرو بن عُبيد العابد، وواصل بن عطاء الغَزَّال، ودعوا إلى

(1) في " خلق أفعال العباد "(125). وأورده عن البخاري: البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 260، وفي " الاعتقاد " ص 109 - 110، والخطيب في " تاريخه " 2/ 31.

(2)

1/ 159 - 160.

ص: 121

الاعتزال " والقول بالقدر "، وظهر بخُراسان الجَهْمُ بن صفوان ودعا إلى تعطيل الرب عز وجل وخَلْقِ القرآن، وظهر في قُبَالَتِه مقاتل بن سليمان المفسِّر وبالغ في إثبات الصفات حتى جَسَّمَ، وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف، وحذَّرُوا من بِدَعِهم. اننهى.

وهو يدُلُّك (1) على أن القطان وشيوخه الذين سمع منهم ما (2) حكاه عنهم من خلق الأفعال قد كانوا بعد زوال أَلفَة الأمة، وانشقاق (3) عصا الإجماع، وظهور الاختلاف والابتداع، فإن حملنا كلامه على ظاهر قول أصحابنا، وهو أنهم الذين يوافقونه في العقيدة من أئمة الحديث والأثر فصحيحٌ، وقد ذكرت في الفرقة الأولى أن غالب المحدِّثين على ذلك، فقد ذكر ابن الحاجب في " المنتهى " أن القول بتكليف ما لا يُطاقُ نُسِبَ إلى الأشعري لقوله بخلق أفعال العباد.

وقد نقل النواوي في كتاب الجُمُعة من " شرح مسلم "(4) والقاضي عياض ما يدل على اختلاف بين مُتَكلِّمي أهل السنة في ذلك دع عنك غير أهل الكلام منهم، فقال في تفسير الختم على القلوب المنسوب إلى الله، دع عنك أفعال العباد (5): قال القاضي: اختَلَفَ المتكلِّمُون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل: هو إعدامُ اللُّطف وإعدام أسباب الخير، وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلِّمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل: هو علامةٌ جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تَمدَحُ ومن تذُمُّ. هذا بعد أن ذكر أن الختم بمعنى الطبع والتغطية، ومثله الرَّيْنُ، وقيل: الرَّين اليسير من الطبع، والطبع اليسير (6) من الإقفال، والإقفال أشدُّها. انتهى كلامه.

(1) في (أ) و (ش): بذلك، وهو خطأ.

(2)

في (أ) و (ش): من، وهو خطأ، وقد نبه على الصواب في (أ).

(3)

في (أ): واشتقاق، وهو تحريف.

(4)

6/ 153.

(5)

عبارة " دع عنك أفعال العباد " لم ترد في (ش).

(6)

في (أ): أيسر، والمثبت من " شرح مسلم ".

ص: 122

وتفريقه بينها يدلُّ على تفسيره بغير الخلق، لأن الخلق لا يكون بعضُهُ أشدَّ من بعضٍ، فثبت أن القول بخلق الأفعال على الجملة صحيحٌ عن (1) كثيرٍ من أهل السنة، شهيرٌ بينهم في العصر الذي ذكره البخاري، ولكن لا يكون ذلك روايةً لإجماع الأمة بغير شكٍّ.

وكذلك إن أراد إجماع أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقةٌ على الجملة، مع ما بيَّنَّاهُ من اختلافهم في تفسير ذلك صحيحٌ أيضاً.

وكذلك إن حملنا كونها مخلوقةً على كونها مقَدَّرةً بقدرٍ أن يختاروها غير مجبرين صحيح أيضاً.

وأما إن حملنا كلامه (2) على أنه أراد بأصحابنا أهل الإسلام، وأن الخلق هو فِعلُ الله، وأن المخلوق من أفعال العباد هو القدر المقابل بالجزاء بلا خِلافٍ في ذلك فغير واضحٍ، ولا يَصِحُّ لأحدٍ أن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن قدماء التابعين في ذلك نَصّاً ولا ظاهراً.

ولو كان شيءٌ من ذلك يصح لدوَّنَتْهُ الأئمة في دواوين الإسلام من الصِّحاح والسنن والمسانيد والتواريخ، كما دوَّنُوا كلام يحيى القطان هذا عن أهل عصره الذين لا يُوازنون عندهم صحابياً واحداً، وأين آثار الصحابة الصحاح فهي ثابتةٌ [ثبوت] النصوص النبوية، ولذلك دوَّنَها أهل السنة لما عُلِمَ من سلامة أذهانهم من ظلمات الشُّبَهِ وبُعْدِهم عن التكليف لتعريف العقل ما لا يعرفه، والتعرُّض لعلم ما لا يعلم، والتعاطي للدعاوي الباطلة على العقول وعلى الإسلام، وثباتهم على الفطرة التي فطر الله عباده عليها، وتركهم ما لا يعنيهم، وحفظهم لما علموه بالضرورة من نبيهم صلوات الله عليه وسلم، بل لم يذكر ذلك الإمام مالكٌ في " الموطأ "، وقد ذكر في أواخره (3) أمثال ذلك، مثل ما ذكر ما جاء في

(1) في (ش): عند.

(2)

في (أ): كلامك، وهو خطأ.

(3)

2/ 900.

ص: 123

القدر ونحوه، وكذلك أمثال ذلك ممن صنَّف في ذلك العصر وتكلم في الاعتقاد، ولا ذكره من يليهم.

الأمر الثاني: ما رُوِيَ من ذلك في العقيدة الشهيرة التي رواها أبو الحسن الأشعري في كتاب " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين "(1) وهي التي أولها: جُملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قال الذهبي في ترجمة زكريا بن يحيى (2) المعروف بالساجي في الطبقة العاشرة من " التذكرة "(3): إن الأشعري أخذ عن السَّاجي تحرير مقالة أهل الحديث والسلف.

قال الذهبي: قال ابن بَطَّةَ: حدثنا أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال: قال أبي: في القول في السنة التي رأيت عليها أهل الحديث الذين لَقِيتُهم، إلى آخرها.

قال الذهبي في " الميزان "(4) في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي: راوي الإجماع عن أهل السنة على هذه العقيدة التي ذكر فيها إجماعهم على خلق الأفعال.

قال أبو الحسن بن القطان: إنه مُختَلَفٌ فيه في الحديث وَثَّقَه قومٌ وضعَّفه آخرون.

قلت: فبطل الاحتجاج بروايته، إذ لا قائل بتقديم التوثيق على الجرح

(1) ص 290 - 297.

(2)

في (أ) و (ش): يحيى بن زكريا، وهو خطأ.

(3)

2/ 709.

(4)

2/ 79، لكن من قوله " راوي الإجماع " إلى قوله " خلق الأفعال " ليس في النسخة المطبوعة منه!

ص: 124

المتساويين (1)، على أنه إنما حكى عمن رأى من المحدِّثين، وليس ذلك من عبارات الإجماع (2) في شيء، وعلى أن رواية الإجماع تحتاج إلى استفسارٍ لشدة الخلاف في كثيرٍ من صُوَرِهِ.

فمن الناس من يرى إجماع أهل مذهبه حجةً، بناءً على أنهم أهل الحق، وأنهم المُعتَبَرُون في الإجماع، وهذا كثيرٌ.

ومن الناس من يرى عدم علمه بإنكار القول بعد إنتشاره دليلاً على إجماع الباقين على موافقة المتكلم، وهذا كثيرٌ أيضاً.

على أن في هذه العقيدة التي أخذها الأشعري عن الساجي ما لفظه: ويقرون أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيدُ وينقُصُ، ولا يقولون: مخلوقٌ ولا غيرُ مخلوقٍ، مع قوله فيها: وعلى أن أعمال العباد يَخلُقُها الله.

فهذا يدل على ما رواه الرازي والشهرستاتي والبيضاوي أن الأشعري لا يجعل الأعمال المخلوقة هي مَورِدُ التكليف، ويجعله ما ليس بمخلوقٍ، إذ لا يمكن حمله على التناقض الصريح في كلامٍ واحدٍ متقاربٍ، مع أن الرجل من أئمة النظر وأهل الحِذْقِ بالكلام والجدل.

أو يكون أراد بالخلق الذي أثبته التقدير، وبالخلق الذي لم يُثْبِتْهُ الفعل، فلا شكَّ في خلق الأفعال بمعنى تقديرها فيهم، وعبارة من ادَّعى الإجماع محتملةٌ لذلك، والله سبحانه أعلم.

وكذلك عقيدة أهل السنة التي رُوِيَتْ عن حرب بن إسماعيل الكَرْمَاني صاحب أحمد بن حنبل عن أهل السنة، ليس فيها ذِكْرُ خلق الأعمال البتة، وإنما فيها ذكر مشيئة الله تعالى، وذلك يُفَسِّرُ القدر، وبين المسألتين فَرْقٌ كما مرَّ تقريره في تفسير القدر في آخر مسألة المشيئة في المرتبة الثانية.

(1) في (ش): المساويين.

(2)

في (أ): الإيمان، وكتب فوقها الصواب كما هو مثبت، وفي (ش): الإثبات.

ص: 125

على أن الذهبي نصَّ في " النبلاء "(1) في ترجمة أحمد على وضع تلك العقيدة على الإمام أحمد رحمه الله، فقال بعد أن أسندها وذكر شيئاً من ألفاظها، ما لَفْظُه: إلى أن ذكر بهتاً (2) من هذا الأُنمُوذَج المنكَر، والأشياء التي والله ما قالها الإمام أحمد، فقاتَلَ الله واضِعَها، فانظر إلى جهل المحدِّثين يروون مثل هذه الخُرافة ويسكُتُون. انتهى كلام الذهبي.

وقد ذكرته في الذبِّ عن أحمد رحمه الله تعالى، وأعدته هنا لعلَّ المحدِّثين يتنَبَّهُون لمثل ما كان الذهبي رحمه الله يَتَنَبَّهُ له من هذه البواطل التي تشتهر ولا أصل لها.

وبعد أن نقل الإجماع واحدٌ فقد ينقله خلقٌ كثير مستندين إلى ذلك الواحد كما نقله أبو محمد بن حزم في كتابه " الإجماع "، ونقله عنه الفقيه جمال الدين الرَّيْمِي (3) في كتابه في " الإجماع " فلا تفيد كثرة النَّقَلَةِ من المتأخِّرين قوَّة الظن بسبب ذلك.

وهذا آخر ما وعدت بذكره في القسم الثاني من أدلة أهل السنة على خلق الأفعال التي اختلفوا فيها، واختص بها الفرقتان الأوَّلَتَان منهم من أصحاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (4)، ولم يحتج إليها جمهورُ الأشعرية أصحابُ

(1) 11/ 303.

(2)

في (أ): هنا، وفي " السير ": أشياء.

(3)

هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحُثَيثي الصردَفي جمال الدين الريمي، فقيه شافعي، اشتغل بالعلم وتقدم في الفقه، وصنف التصانيف النافعة، منها " شرح التنبيه " و" المعاني الشريفة " و" بغية الناسك في المناسك " و" خلاصة الخواطر " و" اتفاق العلماء " -وهو الذي أشار إليه المصنف وسماه " الإجماع "- توفي سنة 792 هـ. والصردفي والريمي نسبة إلى ناحيتين في اليمن. انظر ترجمته في " إنباء الغمر " 3/ 47 - 48، و" الدرر الكامنة " 3/ 486، كلاهما لابن حجر، و" العقود اللؤلؤية " للخزرجي 2/ 218، و" شذرات الذهب " للعماد 6/ 325.

(4)

في (أ) و (ش): الأشعري، وهو خطأ، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوق الكلمة الأولى.

ص: 126

الكسب أتباع القاضي أبي بكر الباقلاني، وأصحاب ابن تيمية وإمام الحرمين، وما قصدتُ بجميع ما ذكرته إلَاّ نصيحة المسلمين، وبراءة أئمة السنة من نفي الاختيار.

ثم أختِمُ الكلام في هذه المسألة العظمى بما يُؤيِّدُ ما ذكرتُه من براءتهم عن نفي الاختيار بذكر فصلٍ أُورِدُ فيه جُملةً شافيةً مما وقفت عليه من نصوصهم الدالة على تواتر ذلك لاختلاف أهلها بُلداناً وأزماناً وأسباباً (1)، ولا أُمَيِّزُ من هو من الفرقة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة في هذا الفصل، وبالله التوفيق.

فمن ذلك قول صاحب " الخارقة " في أوائلها: خلق الله الفعل (2) في عبده لا يؤدي إلى الإجبار، كما أن علمه بوجوده ووقوعه في محلٍّ مخصوص ووقتٍ مخصوص لا يؤدي إلى الإجبار، وإلا فما الفرق بين الأمرين، إذ ما عُلِمَ، فلا بُدَّ من وجوده، وما خُلِقَ فلا بد من حدوثه

إلى قوله: فليت شعري، أي الأمرين أسلم، أنُصَدِّقُ الله تعالى فيما قال، ونَرجِعُ على أنفسنا باللوم والتعيير فيما خالفنا فيه الشريعة؟ أم نقول: نحن مُستَبِدُّون بخلق أفعالنا ولا يقدر الله تعالى على خلق شيء منها؟

إلى قوله: فقد بان أنَّ مقالة المُجْبِرَةِ: إن الإنسان مُجبَرٌ على جميع أفعاله، مُلجَأٌ إليها، مُضطَرٌّ إلى فعلها، وأنه لا فعل له أصلاً، تجويرٌ للبارىء وإبطالٌ للتكليف (3)، وحَسْمٌ لباب الثواب والعقاب، ومَقالَةُ القدرية تجهيلٌ للبارىء بأمر خلقه، وتعجيزٌ له عن تمام مشيئته فيهم، وكلا الصِّفَتَيْنِ لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين.

فظهر لك أن أهل السنة والجماعة قد سَلَكُوا طريقةً سليمةً من شناعة المقالتين،

(1) في (أ): وإنساناً، وهو تحريف.

(2)

" الفعل " لم ترد في (أ)، وقد أُلحقت في (ش) إلحاقاً بخط مغاير.

(3)

في (أ): التكليف.

ص: 127

مُنتَظِمَةً لكل واحدٍ من الطرفين، ارتفعت عن تقصير الجبربة، وانحطت عن غُلُوِّ القدرية.

إلى قوله: وقد رُوِيَ عن جعفر بن محمد عليه وعلى آبائه السلام أن رجلاً قال له: العباد مجبُورُون؟ فقال: الله عز وجل أعدَلُ من أن يُجبِرَ عبده على معصيته، ثم يُعَذِّبَه عليها، فقال له السائل: فهل أمرُهم مُفَوَّضٌ إليهم؟ فقال: الله أعزُّ من أن يُجَوِّزَ في مُلكِهِ ما لا يريد، فقال له السائل: فكيف ذاك إذاً؟ قال: أمرٌ بين الأمرين، لا جَبْرٌ ولا تفويضٌ.

فبنى أهل السنة تفريع مقالتهم هذه على أصل الغَرَض منه أن لله تعالى علم غيبٍ سَبَقَ بكلِّ ما هو كائن قبل كونه، ثم خلق الإنسان فجعل له عقلاً يُرشِدُه، وقدرةً يصح بها (1) تكليفه، ثم طوى علمه السابق عن خلقه، وأمرهم ونهاهم، وأوجب عليهم الحجة من جهة الأمر والنهي الواقعين عليهم، لا من جهة علمه السابق فيهم، فهم يتصرفون بين مطيع وعاصٍ، وكلهم لا يعدو علمه السابق فيهم (2)، وليس في علم الله الأمور إجبارٌ على ما توهَّمَه المُجبِرُون، ولا تَتِمُّ الاستطاعة على ما يهُمُّ به من الأمور إلَاّ بأن يُعينه الله عليه، فإن عصمه مما يَهُمُّ به من المعصية، كان فضلاً، وإن وَكَلَه إلى نفسه، كان عدلاً، فإذا اعتبرت حال العبد من جهة الإضافة إلى علم الله السابق فيه، وجدته في صوره المُجْبَر، وإذا اعتبرت حاله من جهة الإضافة (3) إلى الاستطاعة المخلوقة له، والأمر والنهي الواقعين عليه وجدته (4) في صورة المُفَوَّض، وليس هناك إجبار مُطلَق، ولا تفويضٌ مُطلَق، إنما هو أمرٌ بين أمرين يَدِقُّ عن أفكار المُعَبِّرِين، ويُوِلهُ أذهان المتولِّهين، وهذا (5) ما أشار إليه أهل السنة من قولهم: إن العبد لا مُوثَقٌ ولا مُطلَقٌ.

(1) في (ش): بهما.

(2)

" فيهم " سقطت من (ش).

(3)

من قوله " إلى علم الله السابق " إلى هنا سقط من (أ) و (ف).

(4)

في (أ): وجد.

(5)

في (ش): وهذا معنى.

ص: 128

ولأجل هذا الإشكال والدِّقة رأى المشيخةُ من أهل السنة وجِلَّة العلماء الوقف عن الكلام في ذلك، وترك الخوض فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا ذُكِرَ القضاء فأمْسِكُوا "(1).

فكان هذا المذهب أحسن (2) المذاهب لمن أراد الخلاص والسلامة، لكن عند الضرورات تُباح المحظورات. انتهى بحروفه.

ومن ذلك قول البيضاوي في كتابه " طوالع (3) الأنوار " وقد ذَكَرَ احتجاج المعتزلة بالآيات الدالة على أن أفعال الله عز وجل لا تتصف بصفات أفعال العباد من الظلم ونحوه، قال ما لفظه: أجيب بأن كونه ظلماً اعتبار تعرُّض بعض الأفعال بالنسبة إلينا لقُصُور ملكنا واستحقاقنا، وذلك لا يمنع صدور أصل الفعل عن البارىء تعالى مجرداً عن هذا الاعتبار.

واعلم أن أصحابنا لما وجدوا تَفْرِقَةً بديهيةً بين ما يزاوله وبين ما يُحِسُّه من الجمادات ورادَّهم قائم البرهان عن إضافة الفعل إلى العبد قطعاً، جمعوا بينهما وقالوا: الأفعال واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد، على معنى أن العبد إذا صمَّم العزم فالله يخلق الفعل، وهو أيضاً مُشْكِلٌ، ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على المناظرين (4) فيه. انتهى بحروفه.

ومن ذلك قول ابن الحاجب في كتابه " مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل " وهو كتاب مُتداوَلٌ في أيدي الزيدية في هذه الأعصار، فأحببتُ أن أستكثر النقل منه، ليتَوَضَّحَ لهم غَلَطُهم على أهل السنة في النقل، وقد ذكر ما يدل على ذلك في مواضع:

منها: نَقْضُه في مسألة التحصين والتقبيح استدلال بعض الجبرية على

(1) تقدم تخريجه في الجزء السادس.

(2)

في (ش): آخر.

(3)

" طوالع " لم ترد في (أ).

(4)

في (ش): الناظرين.

ص: 129

بطلان التحسين والتقبيح بما معناه: أن العبد غير مختارٍ، بدليل أن الفعل مع الرجحان واجبٌ، ومع عدم الرجحان ممتنع، فإن قُدِّرَ تخلُّفُه مع الرجحان ووقوعه مع عدمه، فهو اتفاقي، وأكثر من تَلَهَّجَ بهذه الرازي، لكنه رجع في " نهاية العقول " إلى أن ذلك لا يوجب نفي الاختيار كما تقدم.

قال ابن الحاجب في " المنتهى " في رد هذه الشبهة ما لفظه: وهذا ضعيفٌ، فإنا نُفَرِّقُ بين الاختيارية والضرورية ضرورةً، ويلزم عليه فعل البارىء، وأن لا يوصف بحُسْنٍ ولا قبحٍ شرعاً، والتحقيق أنه يترجح بالاختيار. انتهى كلامه.

وهو نصٌّ لا يحتمل التأويل في نفي الجبر.

ومنه قوله في المحكوم فيه، وهو من أفعال العباد ما لفظه (1): شرط المطلوب الإمكان، ونُسِبَ خلافه إلى الأشعري، ثم ذكر احتجاج من قال بذلك بأمرين:

أحدهما: أن القدرة مقارِنَةٌ للمقدور (2).

وثانيهما: أن الأفعال مخلوقةٌ.

ثم أجاب عن الوجهين معاً بأن ذلك يستلزم أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمستحيل، وهو باطلٌ بالإجماع.

هذا نصُّ ابن الحاجب، وفيه أوضح دليلٍ على مخالفتهم للأشعري في معنى خلق الأفعال، وفي مقارنة القدرة على ما تقدم تقريره.

وإنما قال: نُسِبَ خلافه إلى الأشعري، على صيغة ما لم يُسَمَّ فاعله، لأن الأشعري لم يَنُصَّ على التكليف بغير الممكن، ولا هو لازِمٌ له قطعاً لما تقدم

(1) انظر " مختصر ابن الحاجب مع حاشية التفتازاني " 2/ 9 و11.

(2)

في (ش): لوجود المقدور.

ص: 130

من نَقْلِهم عنه أنه يرى أن التكليف غير مُتَوجِّهِ إلى الفعل المخلوق عنده، وإنما هو متوجِّهٌ إلى الاختيار، وليس الاختيار عنده بمخلوقٍ إذ ليس بشيء حقيقيٍّ.

ولكن ألزمه القول بجواز التكليف بالمحال من وقف على ظاهر قوله: إن الأفعال مخلوقةٌ وإن القدرة مقارنة، وقد تقدم أنه لم يَقُلْ بذلك في مورد الطلب والتكليف، لأن المقارنة غير مؤثرةٍ ألبتة، ولا يصح أن تقارن ما وقع بها من الاختيار، وإنما تقارن المخلوق بقدرة الله تعالى.

وقال ابن الحاجب في هذه المسألة (1): لو كُلِّفُوا بعد علمهم لانتفت فائدةُ التكليف، ومثله غير واقعٍ.

وقال في المسألة الثانية (2): لو صحَّ لأمكن الامتثال.

وقال في المسألة الثالثة في معنى الترك (3): لا تكليف إلَاّ بفعلٍ، لنا: لو كان لكان مُستدعىً حُصُولُه منه، ولا يُتَصَوَّرُ، لأنه غير مقدورٍ له، وأُجِيبَ بمنع أنه غير مقدورٍ له كأحد قولي القاضي.

وقال في المسألة الرابعة (4): قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، ومَنَعه الإمام والمعتزلة، فإن أراد الشيخ أن تعلُّقه لنفسه فلا ينقطع بعده، وإن أراد أن تنجيز التكليف به باقٍ، فتكليفٌ بإيجاد الموجود، وهو محال، لامتناع إتيان المكلَّف به (5)، ولعدم صحة الابتلاء، فتنتفي فائدة التكليف قالوا: مقدورٌ حينئذٍ باتفاقٍ، فيصح التكليف به. قلنا: بل يمتنع (6) بما ذكرنا.

ففي هذا التصريحُ بمخالفتهم للأشعري، والتصريح بأن الأشعري يُعَلِّلُ صحة التكليف بكونه مقدوراً، وذلك يدل على صحة ما ذكره الرازي

(1) 2/ 11.

(2)

2/ 12.

(3)

2/ 13.

(4)

2/ 14.

(5)

عبارة " لامتناع إتيان المكلَّف به " ليست في المطبوع من " المختصر ".

(6)

في (أ): يمنع، وفي (ش): ممتنع، والمثبت من " المختصر ".

ص: 131

والشهرستاني عنه من إثبات الاختيار.

وقال ابن الحاجب (1) في المحكوم عليه: الفهم شرط التكليف، لنا: لو صحَّ، لكان مُستدعىً حصوله منه طاعةً كما تقدم.

وقال فيه (2): يصح التكليف بما عَلِمَ الآمر انتفاء شرط وقوعه من الإرادة، قالت المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطاً فيه، وأُجيب بأن الإمكان المشروط فيه أن يكون مما يتأتَّى فِعلُه عادةً عند وقته واستجماع شرائطه كما لو جَهِلَ الآمر، وهو اتفاق.

قالوا: لو صح لصحَّ مع علم المأمور، أُجِيبَ بانتفاء فائدة التكليف وهو (3) يطيع ويعصي بالعزم والبشر والكراهة.

وقال في البيان والمبين (4): تأخير البيان عن وقت الحاجة مُمتنِعٌ. إلى آخر كلامه في المسألة.

وكذلك توجيهُه للصلاة في الدار المغصوبة باعتبار الجهتين، وكلامه في الواجب المخَيَّر وفي ما لا يَتِمُّ الواجب إلَاّ به، وأمثال ذلك.

كل ذلك يدل على مراعاتهم للعقل والشرع في منع المحالات، ولو تعرَّضْتُ لشرح كلامه وبيان مقاصده لطال، وبيان مأخذي من مقاصده، لطال وأمَلَّ، فمن أحبَّ ذلك فليطالع شروح كتابه.

والذي يدل على ما أنا بصدده أن شرَّاح كتابه من الأشعرية يقرِّرون ما ذكره في هذا، ولا يقدحون عليه، ولا ينسبونه إلى التفرُّد باختيار شيء، كما قد يكون من الرازي، ثم كتاب الأصل الذي مختصر المنتهى راجعٌ إليه هو تأليف السَّيف الآمديِّ، أحد أئمَّتهم في الكلام، وكتابه أحد كتبهم المشهورة، وهذه الأمورُ تفيد العلم الضروري بأنهم لا ينفون الاختيار.

(1) 2/ 14.

(2)

2/ 16.

(3)

في " المختصر ": ولهذا.

(4)

2/ 164.

ص: 132

فالعجب ممن استخرج لابن الحاجب نفي الاختيار وصريح الجبر من قوله في شرح مقدمة " الكافية " في الإعراب في المفعول به من المنصوبات في قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أنه يفيد العموم في المخلوقات، وهذا ظن من لم يعرف مذهبهم في الشيء الحقيقي الذي يوصف بأنه مخلوقٌ.

فإن قلت: قول الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، وقوله بمقارنة القدرة صريح في التكليف بالمحال.

قلت: كلَاّ، بل فيه أقوى قرينةٍ على أنه ما أراد ذلك، فإنه لو أراد ذلك، وخَلَعَ رِبْقَةَ النظر في التمييز بين الممكن والمحال، لم يقيده بحال حدوثه ولا يشترط قدرةً مقارنةً، ولقال: إنه يصح التكليف بالفعل بعد حدوثه أبداً، ومن غير قدرةٍ أصلاً، ولكن قد اشتهر بين أهل النظر أن العبارة قد تُوهِمُ غير مقصد العالم، لا سيما فيما كَثُرَ غموضه ولَطُفَت دِقَّتُه، ولذلك يكثر اعتراض النُّظَّار للحدود، فلا يكاد تصح عبارة مع صحة المقصود، وربما (1) تعذرت العبارات. بالمرة، وحُكِمَ بالخطأ على كل عبارةٍ كما زعم بعضهم في تحديد العلم.

والذي أحسِبُ أن الأشعري أراد به ما أراد به المعتزلة في التكليف بالمسبَّبَات بعد فعل أسبابها، وبُطلان الاختيار فيها، فإن التكليف قد يُطلَقُ ويراد به تنجيز الفعل، وليس هذا مقصوداً هنا، وقد يطلق ويراد الحكم على الفاعل باستمرار حكم الطاعة والعصيان (2) من غير طلبٍ لتنجيز الفعل، وهذا قد يُتَصَوَّر وقوع الاختلاف فيه لدقته وغموضه، وقد وقع شيخ المعتزلة أبو هاشم في مثل هذا.

قال الجويني في " البرهان "(3): مسألة: من تَوسَّط أرضاً مغصوبةً على علم، فهو متعدٍّ، مأمورٌ بالخروج عن الأرض المغصوبة، ثم الذي ذهب إليه أئمتنا أجمعون أنه إذا افتتح الخروج (4) واشتد أقرب المسالك، وأخذ [فيه]

(1) في (ش): لما، وهو خطأ.

(2)

في (ش): أو العصيان.

(3)

1/ 298 - 302.

(4)

" الخروج " سقطت من (أ).

ص: 133

على مبلغ الجهد، فليس هو مع التَّشمير واجتناب التقصير ملابِساً عدواناً، بل هو منسلك في سبيل الامتثال (1).

وقال أبو هاشم: هو إلى الانفصال عاصٍ، وعَظُمَ النكير عليه من جهة أن من فيه الكلام لا يألوا جهداً (2) في الامتثال، وإذا كانت حركاته امتثالاً، استحال أن تكون محتسبةً عليه عدواناً، وهذا المسلك ناءٍ عن طريق القول في الصلاة في الدار المغصوبة، فإن العدوان في تلك المسألة غير (3) مختصٍّ بالصلاة وحكمها، فانفصل مقصود الصلاة عن مقتضى النهي عن الغصب، كما سبق مقرراً.

والأمر بالخروج فيما نحن مدفوعون إليه مباين للعُدوان على حكم المضادَّة، فكان الحكم (4) للخارج بمُلابسة الامتثال في جهة ترك العدوان مناقضاً لاستصحاب حكم العدوان عليه، وهذا يَلزَمُ أبا هاشمٍ جدّاً، من حيث إنه جعل أكوان الغاصب خارجةً عن وقوعها طاعةً في جهة الصلاه، ورأى تقرير ذلك تناقضاً، فكيف يحكم على الخارج بالامتثال مع استمرار حكم العدوان عليه؟

والذي هو الحق عندي أن القول في ذلك معروضٌ على مسألةٍ من أحكام المظالم، وهي أن من غصب ما لا وغاب به، ثم ندم على ما تقدم وتاب (5)، فالذي ذهب إليه المُحَصِّلُون أن سقوط ما يتعلق بحق (6) الله يتنجز إما مقطوعاً به على رأيٍ، أو مظنوناً على رأي، وأما ما يتعلق بمطالبة الآدميِّين، فالتوبة لا تبرئُهُ منها، ولست أعني بها الغُرْمَ، وإنما أعني بها الطلبة الحاقة في القيمة.

(1) تحرفت في (أ) إلى الأمثال.

(2)

" جهداً " ليست في (أ) و (ش)، وهي من " البرهان ".

(3)

" غير " سقطت من (أ).

(4)

في (ش): الحاكم، وهو خطأ.

(5)

في " البرهان ": وثاب، وفيه بعدها عبارة " واسترجع وآب، وأتى بتوبته على شرطها ".

(6)

" بحق " سقطت من (أ)، و (ف).

ص: 134

فأما المغارم، فقد ثبتت من غير انتساب إلى المآثم، كالذي يجب على الطفل بسبب ما جنى، والسبب في بقاء المظلمة مع حقيقة الندم، وتصميم العزم على استفراغ كُنْهِ الجهد في محاولة الخروج عن حق الآدمي، أن (1) الذي تورط فيما يندم عليه، فلا (2) ينجيه الندم ما لم يخرج عما خاض فيه.

فإذا وضح ذلك (3) انعطفنا على عرض المسألة قائلين: من تخطى (4) أرضاً مغصوبةً، نظر، فإن اعتمد ذلك متعدِّياً، فهو مأمورٌ بالخروج، وليس خارجاً عن العدوان والمظلمة، لأنه كائنٌ في البقعة المغصوية والمعصية مستمرة، وإن كان في حركاته في صوب الخروج ممتثلاً للأمر، وهذه تلتفت على (5) مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها تقع امتثالاً من وجه، وعصياناً (6) واعتداءً من وجهٍ، وكذلك الذاهب إلى صوب الخروج ممتثلٌ من وجهٍ، عاصٍ ببقائه من وجهٍ.

فإن قيل: إدامة حكم العصيان عليه متلقّىً من ارتكابه نهياً، والإمكان مُعتَبَرٌ في المنهيات اعتباره في المأمورات، فكيف الوجه في إدامة معصيةٍ فيما لا يدخل في وسعه الخلاص منه؟

قلنا: تسبُّبُه إلى ما تورَّط فيه آخراً سبب معصيته، وليس هو عندنا منهيّاً عن الكون في هذه الأرض مع بذله المجهود في الخروج منها، ولكنه مرتبك في المعصية مع انقطاع (7) تكليف النهي عنه، هذا تمام البيان.

(1) في (أ) و (ش) و (ف): أنه، والمثبت من " البرهان ".

(2)

في (أ) و (ش): ولا، والمثبت من نسختين من " البرهان ".

(3)

في (أ) و (ش): لك، والمثبت من " البرهان ".

(4)

في (أ) وش و (ف): تعطا، والمثبت من " البرهان "، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوق الكلمة تصحيحاً لها.

(5)

في " البرهان ": وهذا يلتفت إلى.

(6)

" وعصياناً " ليست في (أ) و (ش) و (ف).

(7)

في (أ) و (ف): ارتكاب، والمثبت من (ش) و" البرهان ".

ص: 135

ويظهر الغرض منه بمسألةٍ ألقاها أبو هاشم حارت فيها عقول الفقهاء، وأنا ذاكرها ومُوضحٌ ما فيها: وهي أن من توسط جمعاً من الجرحى، وجثم على صدر واحدٍ منهم، وعلم أنه لو بقي على ما هوعليه، لهلك من تحته، ولو انتقل عنه، لكان في انتقاله هلاك من انتقل إليه، فكيف حكم الله عليه؟

وهذه المسألة لم أتحصَّل فيها من قول الفقهاء على ثَبَتٍ، والوجه المقطوع به سقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سُخط الله عليه.

أما وجه سقوط التكليف، فلأنه يستحيل تكليفه ما لا يُطِيقُه، ووجه استمرار حكم العصيان عليه تسبُّبُه إلى ما لا تخلُّصَ منه. انتهى كلام الجويني.

وفيه ما ترى من الإنصاف، فإنه لم يُعنِّف (1) عدوَّهم أبا هاشم، ويؤاخذه بظاهر العبارة، ويلزمه الجبر وتكليف ما لا يُطاق، بل غاص فكره اللطيف في غَمْرَةِ هذه المشكلة حتى استخرج العذر لأبي هاشم.

وكذلك يجب من المعتزلي أن يستخرج عذر أبي الحسن الأشعري كما يستخرجه حُذَّاق أتباعه، ولو فعل الفريقان هكذا لذهب عنهم نصب الشيطان، والله المستعان.

إذا عرفت كلام الجويني في مراد أبي هاشم، فاعلم أن منهم من يُسمِّي بقاء حكم العصيان تكليفاً، وإن لم يكن فيه اقتضاء فعلٍ وطلب تنجيزه، فيَنْسُبُ إليه أن يقول بتكليف المحال، ومن ذلك قول الأشعري:" لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوث " أراد استمرار الحكم من غير طلبٍ، وإنما صح استمرار الحكم عنده، لأن اختياره كان سبب خلق الله تعالى لذلك ووقوع العبد فيه، وانقطاع اختياره فيه حينئذٍ غير عُذرٍ له، لأن اختياره أوَّلاً هو كان سبب انقطاع اختياره ثانياً، كالرامي يتُوبُ قبل أن يُصيب، ثم يصيب سهمه ويقتل، والمُلْقِي لغيره في النار يندَمُ عقيب إلقائه.

(1) في (أ) و (ش) و (ف): يغنم.

ص: 136

وهذا هو معنى تكليف ما لا يطاق عند من أجازه (1) من غير طلبٍ لوقوع ما لا يطاق ممن لا يطيقه، كما سيأتي ذلك عند الكلام عليه بخصوصه، ولذلك قال ابن الحاجب فيما تقدم: إن القول بخلق الأفعال ومقارنة القدرة يؤدي إلى أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمحال، قال: وذلك خلاف الإجماع.

ففي حكايته للإجماع هذا دِلالةٌ على أن من جوَّز ذلك جوَّزه في صورةٍ نادرةٍ، ومع نُدُور ذلك، فإنما خلاف المخالف فيه في تسمية ذلك الذي لا طلب فيه تكليفاً، كما أن من جوَّز تكليف من (2) لا يفهم إنما أراد بذلك تنفيذ طلاق السكران، والاقتصاص منه إذا جنى، وإيجاب الأرش عليه والغرامة، وسمى ذلك تكليفاً له، ولم يُرِدْ أن الله أراد تفهيمه ما لا يفهم في حال سكره، فيجب على الوَرِعِ المتَّقي أن يَتَثَبَّت في النقل، ولذلك لم يجزم ابن الحاجب بنسبة تكليف المحال إلى الأشعري.

ومن ذلك كلام قطب الدين الشيرازي (3) أحد أئمة المعقولات منهم، فإنه قال في شرح كلام ابن الحاجب المتقدم في بعض شبهة الراجح والمرجوح في نفي التحسين والتقبيح ما لفظه: وتوجيه الاعتراض الأول أن نقول: ما ذكرتم من الدليل تشكيكٌ في الضروريات، فلا يستحِقُّ الجواب، لأنا نُفرِّقُ بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية بالضرورة، ونُدرِكُ أن أفعالنا اختياريةٌ.

ويمكن توجيهه بوجهٍ آخر: وهو دلالة البديهة على أن البعض ليس اضطرارياً مع استلزام دليلكم كون الكل كذلك. إلى آخر كلامه في شرح بقية الحُجَجِ الثلاث المقدمة.

(1) في (ش): اختاره.

(2)

في (ش): ما.

(3)

هو العلامة محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي الشافعي، ولد بشيراز سنة 634، له " شرح مختصر ابن الحاجب "، و" شرح المفتاح " للسكاكي، و" شرح الكليات " لابن سينا، و" شرح الإشراق " للسهروردي، وغيرها، وتوفي سنة 710. انظر " طبقات السبكي " 10/ 386، و" الدرر الكامنة " 4/ 339 - 341.

ص: 137

فانظر كيف تواتَرَتْ (1) عنهم النصوص البَيِّنَة على دعوى الضرورة في أن أفعالنا اختياريةٌ لنا، وهذا أبلغ من قول المعتزلة، فإنهم قالوا: إن علمنا بذلك استدلاليٌّ يُنسب المُنكِرُ له إلى التأويل، ويحتاج إلى المناظرة.

وإذا كان مثل هذا من المنصوص في كتبهم المتداولة في بلاد الزيدية والمعتزلة، فكيف يحسُنُ بمن يدعي العلم والتُّقى أن ينسب إليهم كما فعله هذا المعترض، وكما يفعله كثير من المعتزلة والشيعة في مصنفاتهم.

ومن ذلك قول قطب الدين الشيرازي في " شرح مختصر ابن الحاجب " في مسألة التحسين والتقبيح ما لفظه: والتحقيق في هذه المسألة أن فعل العبد جائزٌ صدوره ولا صدوره، ويترجح وجوده بالاختيار (2).

قوله -يعني صاحب الشبهة-: الفعل مع المرجح إن كان لازماً كان اضطرارياً، ممنوعٌ، لأن وجود الشيء بشرط الغير لا ينافي القدرة عليه، وإلَاّ لَزِمَ نفي قدرة الله تعالى لوجوب صدور المعلومات عنه بشرط إرادته الجازمة .. إلى آخر ما ذكره.

وقال الجويني في مقدمات " البرهان "(3):

فإن قيل: ما عَلِمَ الله أنه لا يكون، وأخبر عن (4) وَفْقِ علمه أنه لا يكون، فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائزٌ.

قال الجويني: قلنا: إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدورٌ في نفسه، وليس امتناعه بالعلم (5) بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، والعلم (6) بالمعلوم لا يغيِّرُه ولا يوجبه، بل يتبعه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يُؤَثِّرُ في المعلوم، لما تعلق العلم بالقديم

(1) في (أ): توارت، وهو خطأ.

(2)

في (أ) الاختيار.

(3)

1/ 105.

(4)

في " البرهان ": على.

(5)

في " البرهان ": للعلم.

(6)

في " البرهان ": وتعلّق العلم.

ص: 138

سبحانه وتعالى، وتقريرُ ذلك في الكلام.

وقال الشهرستانيُّ في " نهايته ": ولذلك اتفق المتكلِّمون بأسرهم على أن العلم يَتْبَعُ المعلوم، فيتعلق به على ما هو عليه، ولا يُكْسِبُه صفةً، ولا يكتسب عنه صفةً.

وقال ابن عبد السلام في أواخر " قواعده "(1) في فصلٍ ذكره في البدع وأقسامها، إلى قوله: وللبِدَع المُحَرَّمة أمثلةٌ، منها: مذهب القدرية، ومنها: مذهب الجبرية، ومنها: مذهب المرجئة، ومنها: مذهب المُجَسِّمَة، والرَّد على هؤلاء من البدع الواجبة. انتهى بحروفه.

وهو يكفي في تأويل ما يخالفه من الظواهر في كتابه " القواعد "، وهذا وإن كان له عبارةٌ رَدِيَّةٌ في بعضه تُوهم أن الله تعالى عذَّب العصاة على نفس ما خلقه فيهم بغير سببٍ آخر، وهذا خطأ منه، وشرُّ عبارةٍ مع اعترافه بنفي الجبر وثبوت الاختيار، فإن المقابل بالجزاء هو غير الأمر المخلوق في السمع والعقل، ولكنهما اتَّحدا في الذات على قول، وتمايزا (2) فيها على القول الآخر، كما مر تحقيقه، وإلا أدَّى إلى (3) القول بالجبر الذي صح تزييفه (4)، فتأمل ذلك.

وقال البغوى (5) في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]: اختلف العلماء في إسناد الختم إلى الله تعالى، فقيل: هي (6) علامةٌ جعلها الله تعالى على قلوبهم تعرفهم الملائكة، وقيل غير ذلك،

(1) ص 173.

(2)

في (أ): ربما يرا، وهو تحريف.

(3)

" إلى " سقطت من (أ).

(4)

في (ش): ترهيقه، وهو خطأ.

(5)

" معالم التنزيل " 1/ 49، ونص كلامه:{خَتَمَ اللَّهُ} أي: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيراً ولا تفهمه، وحقيقة الختم: الاستيثاق من الشيء كي لا يدخله ما خرج منه، ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر لما سبق من علمه الأول فيهم، وقال المعتزلة: جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها.

(6)

في (ش): هو.

ص: 139

وقال أهلُ السنة: ختم الله على قلوبهم بالكفر.

وقال الشيخُ الصالح العارف شهاب الدين السُّهْرَوَرْدِي الصوفي في كتابه " عوارف المعارف "(1) في الباب الثامن والعشرين ما لفظه: ومن أولئك قوم يزعمون أنهم (2) يغرقون في بحار التوحيد، ولا يثبتون لأنفسهم حركةً ولا فعلاً، ويزعمون أنهم مجبورون على الأشياء، وأن لا فعل لهم مع الله تعالى، ويسترسلون في المعاصي، ويركنون إلى (3) البطالة والاغترار بالله تعالى، والخروج عن الملة، وترك الحدود والأحكام والحلال والحرام.

وقد سُئِلَ سَهلٌ عن رجلٍ يقول: أنا كالباب لا أتحرك إلَاّ إذا حُرِّكْتُ، فقال: هذا لا يقوله إلَاّ صِدِّيقٌ أو زنديق، لأن الصِّدِّيق يقول هذا (4) إشارةً إلى أن (5) قِوام الأشياء بالله مع إحكام الأُصول، ورعاية حقوق العبودية، والزنديق يقول ذلك إحالةً للأشياء على الله تعالى، وإسقاط اللائمة عن نفسه، وانخلاعاً من الدين ورسمه.

وقد تقدم كلام الخطابي في تفسير القضاء والقدر، وتصريحه فيه بنفي الجبر، وقد نقله عنه بلفظه النواوي في " شرح مسلم "(6)، وابن الأثير في " جامع الأصول "(7).

وقد بالغ شيخ الإسلام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية الحنبلي رحمه الله في ذم الجبرية في جميع مصنفاته التي يعرض فيها ذكرهم، ومن أخصِّ ما له في ذلك كلامه في رسالته المعروفة "بالفرق بين الأحوال الربانية والأحوال

(1) ص 72، وهو في الباب التاسع منه.

(2)

" يزعمون أنهم " سقطت من (أ) و (ش) و (ف)، واستدركت من " العوارف ".

(3)

" إلى " سقطت من (أ) و (ش)، وقد تصحف فيهما " ويركنون " إلى: ويركبون.

(4)

في (أ): هذه.

(5)

" أن " لم ترد في (أ) و (ش) و (ف).

(6)

1/ 154 - 155.

(7)

10/ 104 - 105.

ص: 140

الشيطانية" (1) وهو قوله: ومن ظن إن القدر حجة لأهل الذنوب (2) فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الذين أشركوا لو شاء الله ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا} قال الله ردّاً عليهم (3): {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149].

ولو كان القدر حجة لم يعذب الله المكذبين للرسل، وتكلم في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في هذه الرسالة المذكورة بكلامٍ نفيس يأتي عند الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى.

وكذلك رفيقه في السماع وتلميذه ابن كثيرٍ رد على الجبرية بما يأتي ذكره عند الحديث.

وقال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي "(4) بعد ذكره لأنواع الشرك في الفصل الثاني الذي ترجم عليه بأنه يكشف سر المسألة ما لفظه: وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده بما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فعاقب عبده على فعله وهو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره سبحانه على الفعل أعظم من إكراه المخلوق [للمخلوق]، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعلٍ، أو ألجأه إليه، ثم عاقبه عليه، لكان قبيحاً، فأعدل العادلين، وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعلٍ لا صنيع له فيه ولا تأثير، ولا هو واقعٌ بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقبه عليه عقوبة

(1)" الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " ص 104.

(2)

" لأهل الذنوب " لم ترد في " (أ) و (ش) و (ف)، وهي من " الفرقان ".

(3)

عبارة " رداً عليهم " من " الفرقان ".

(4)

ص 164 - 165 و166.

ص: 141

الأبد، تعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، وقول هؤلاء شرٌّ من قول أشباه المجوس والطائفتان (1) ما قدروا الله حق قدره.

وكذلك لم يقدُرُه حق قدره من قال: إنه يجوز أن يُعذِّب أولياءه، ويُنَعِّمَ أعداءه عقلاً، وإنما الخبر (2) المحض جاء عنه بخلاف ذلك، فمنعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله، وقد أنكر سبحانه على من جوَّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوإِ الأحكام.

وقال في هذا الكتاب وقد ذكر أنواع المغرورين نحواً من ذلك وأخصر (3).

وقال في كتابه " حادي الأرواح "(4) وقد ذكر الحديث الصحيح الذي فيه " الخير بيديك والشر ليس إليك " ما لفظه: ولم (5) يقف على المعنى المقصود من قال: الشر لا يُتَقَرَّبُ به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ من الوجوه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمالُ المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات [كمال] يُحمَدُ عليها ويثنى [عليه] بها، وأفعاله كلها خيرٌ ورحمة وعدلٌ وحكمة لا شر فيها بوجهٍ ما، وأسماؤه كلُّها حسنى، فكيف يضاف إليه الشر، بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه إذ فعله غير مفعوله، ففعله خيرٌ كله، وأما المفعول المخلوق ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً، فهو لا يضاف إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: وأنت لا تخلق الشر، حتى يُطلَبَ تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفاً وفعلاً واسماً. انتهى.

وقد فسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الآخر الذي خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأثر الشريف الإلهيِّ الذي فيه: "يا عبادي، إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيها عليكم، فمن وجد خيراً،

(1) في (أ): والطائفتين، وهو خطأ.

(2)

في (أ): الجبر، وهو تصحيف.

(3)

انظر ص 21 وما بعدها من " الجواب الكافي ".

(4)

ص 264 - 265.

(5)

في (ش): ولا، وهو خطأ.

ص: 142

فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يَلُومَنَّ إلَاّ نفسه" (1).

وفيه إشارةٌ إلى ما تقدم من حكمة الله سبحانه في خلق الشُّرور الدنيوية والأخروية، وبعض أسباب الشرور الدينية، وأن فعل الله تعالى وخلقه في ذلك حَسَنٌ لوقوعه في حسان (2)، وإن لم يُحِطِ البشر بجميع وجوه حكمته في بعض أفعاله ولا شيءٌ منها في بعضها، فالله سبحانه وتعالى له الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والإراده النافذة، والقدرة القاهرة، والكمال المطلق، وقصورُ العبد الظلوم الجهول عن معرفة أعيان الحكم على التفصيل لا ينتهض معارضاً للبراهين القاطعة الدالة على ثبوت أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، ومن أُشْرِبَ قلبه صفو الإيمان أغناه هذا الإجمال، ومن أصابه الشيطان بشيء من شؤم الكلام، والبدع، فليراجع ما تقدم في المرتبة الرابعة في حكم الله تعالى في تقدير الشرور، وما ذكرناه في المرتبة الثانية في الحكمة في عدم هداية الجميع.

خاتمةٌ: ومما أوهم على أهل السنة أنهم يقولون بالجبر ونفي الاختيار أنهم فِرَقٌ مختلفةٌ كما تقدم في مسألة الأفعال، ومنهم من يخوض في علم الكلام ويُعَبِّرُ بعباراتٍ مبتدعةٍ، ولا يتوقف على عبارات الكتاب والسنة والسلف الصالح السالمة من الشناعة، وإيهام ما لم يُقصد.

ولنذكر من ذلك عبارةً واحدةً في كتب بعض المتكلمين من الأشعرية كالغزالي ومن تابعه من المتأخرين: وهي أن الكفر وأنواع القبائح والفواحش من الله تعالى، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح مع تصريحه قبل هذا في " الإحياء " بنفي الجبر المحض، وإثبات الكسب للعبد الذي يختص باسم الكفر والقبائح (3).

(1) تقدم ص 19.

(2)

في (ش): في الحكم إحسان.

(3)

في (ش): وأنواع القبائح.

ص: 143

وكيف يصحُّ له مع هذا قوله: إن ذلك الكسب الذي هو كفر وكذب وفجور وظلم من الله سبحانه وتعالى.

بيانه: أن الكفر والمعاصي إن كانت على زعمه من الله وحده ولا أثر فيها من العبد، فهذا محض الجبر الذي اعترف ببطلانه، ففيه أيضاً نفيُ الكسب الذي اعترف بثبوته وأنه لا بد منه، وإن اعترف أن ذلك من الله ومن العبد معاً، فإما أن يقول بتمييز ما هو من الله عما هو من العبد، كقول الأشعرية بالكسب، فالذي من العبد عندهم يُسَمَّى كسباً، والذي من الله عندهم يسمى خلقاً، لا كسباً ولا كفراً ولا معصيةً، والذي من العبد هو الكسب الذي هو كفرٌ ومعصيةٌ.

وكذلك إن اختار تمييز الخلق من الكسب، وقال: مقدورٌ بين قادرين، فإنهم فرَّقوا في المعنى والاسم كما تقدم تحقيقه، ولو كانت المعاصي من الله كان عاصياً، وقد تمدح سبحانه بالمغفرة، ولا يصح لمن ليست المعاصي منه قطعاً، وإلا كان غافراً لنفسه سبحانه وتعالى.

وما الملجىء إلى هذه العبارة المُوهِمَة للجبر الذي قد اعترف ببطلانه مع براءة الكتاب والسنة وعبارات السلف منها، بل مُضَادَّةٌ لذلك كله لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وإن كانت ذهبت العلوم فأين الأدب والعقول، فيالها من زلةٍ قبيحةٍ، ونسبةٍ إلى أهل السنة غير صحيحة، بل فيها تمكينٌ لأعدائهم من التشنيع عليهم، وجنايةٌ عليهم بالتنفير عنهم، وتجهيلٌ لعوامِّهم لاعتقادهم من ظاهرها أن العبد مُجْبَرٌ غير مختارٍ، بل إنه لا فعل له ألبتة لا اختياري ولا اضطراري، لمصادمته لما جاءت به الشرائع، وعُلِمَ من الكتاب والسنة من إضافة أفعال العباد إليهم بهذه العبارة بعينها وسائر العبارات كما أُوضِحُه إن شاء الله تعالى.

ومع وضوح الخطأ في هذه العبارة على أهل السنة فقد قلَّد المُبتَدع لها كثيرون، على ظن أنها عقيدة أهل السنة.

ص: 144

فإن كان المتكلم بهذا أراد الترجمة عن أوائل الخلق فإن الله تعالى خلق الكافر وقدرته والداعي له، ولم يمنعه بمانعٍ ضروريٍّ، ولا مانعٍ اختياريٍّ، ووكله إلى نفسه ليَبْلُوَه ويُقيم عليه حجة عدله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة على ما أشار إليه قوله تعالى في أهل السعادة:{وما تشاؤون إلَاّ أن يشاء الله} [التكويرة 29]، وقوله تعالى في أهل الشقاوة:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وقوله:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] وسائر ما تقدم في ذلك فهذا أمرٌ متفق عليه.

وهذه العبارة لا تدل عليه بل تُضَادُّه، لأن الله تعالى علم وقوع المعاصي من العاصي باختياره حجة عليه، وما قَدَّر الله أنه من غيره، لم يكن من الله، وإلا لكان قد انعكس عليه مراده في القدر، والقَدَرُ سَبَق بأن الحجة لله، والذنب من المذنب واقعٌ بالاختيار على وجهٍ يكون حجة عليه في علم الله وعقول العقلاء.

وقد قدمت الكلام في تسلسل الأمور وتدريجها بالحكمة البالغة إلى قدر الله وقضائه في المرتبة الأولى، وأن ذلك إجماع من يُعْتَدُّ به من المسلمين، لم يخالف فيه إلَاّ من نفى علم الغيب.

وإن كان المتكلم أراد بذلك الجبر ونفي الاختيار رد عليه بالتفرقة الضرورية بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب كرهاً كما مضى، وبالنصوص الصَّادِعَة:{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] وهو نصٌّ جليٌّ لا يمكن مدافعته البتة، ولله سبحانه الحجة البالغة.

ومن ذلك قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومنه قوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ

ص: 145

سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]، وقوله:{عَلِمَتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ} إلى: {يَعْلَمونَ ما تَفْعَلونَ} [الانفطار: 5 - 12]، وأمثال ذلك، ولا حاجة إلى التطويل فيه لعدم ظهور المنازع، وفي كتب الأشعرية مِنْ رد الجبر مثل ما في كتب المعتزلة.

وإن كان المتكلِّم بذلك أراد الترجمة بذلك عن مذهب أهل السنة أجمعين فقد فَحُشَ خطؤه، وقد مضى بيان افتراق مذاهبهم (1) وإجماعهم على نفي الجبر وإثبات الاختيار.

وإنما صواب العبارة عن مذهبهم الذي لا يفترقون فيه: أن الكفر وجميع القبائح من العباد باختيارهم بقَدَرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعباد لاحقٍ، لما (2) في الجمع بين التقدير والتمكين من الجمع بين حكمة (3) الله البالغة، وحجته (4) الدامغة، وعِزَّتِه القاهرة، ومشيئته النافذة، ومطابقة آياته الكريمة وحسنى أسمائه الشريفة، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ومن أُمَّهاتها: الملك الحميد.

فاقتضى تفرده بكمال الملك والعزة، وعلم الغيوب، والقدرة على كل شيء، والكمال الأعظم في ذلك كله، نفوذ المشيئة وسبق القضاء، كي لا يفوت عليه مرادٌ فيما يتعلق بالعباد مثل مالا لا يتعلق بالعباد.

وهنا خالفت طوائف المبتدعة من المعتزلة والقدرية، ويكفيك في هذا المقام أن تؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وبما ورد من آيات المشيئة مثل قوله تعالى:{وما تشاؤون إلَاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقوله: {وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاها} [السجدة: 13] ونحو ذلك.

وتؤمن مع ذلك بأنه حكيم في جميع ذلك، له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وزياده السُّنِّيِّ على هذا القدر يوقعه في نفي التقديس والتسبيح، فافهم

(1) في (ش): مذهبهم.

(2)

" لما " سقطت من (أ).

(3)

في (ش): حِكَمِ.

(4)

في (ش): حججه.

ص: 146

ذلك، وكن منه على عظيم الحذر.

واقتضى تفرده بكمال الحمد والعدل والثناء والتسبيح والتقديس أوْفَرَ نصيبٍ لأفعاله الشريفة الحميدة العادلة السديدة من التنزيه والتعديل، والحكمة والترجيح، والتسبيح والتقديس، ولو على جهة الإيمان الجملي بالتأويل الذي لا يعلمه إلَاّ الله، وذلك لكمال الحجة لله تعالى على خلقه بالتمكين والإقدار والاختيار، وخلق العقول والأسماع والأبصار، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] في آيات كثيرة زاد سبحانه على ذلك القدر، فقطع كثيراً مما لا يجب في عرف العقلاء قطعه من أعذار الجاهلين، حتى لم يَقْضِ يوم القيامة بعلمه الحق، مع حُسْنِ ذلك لو فعله، حتى أضاف إليه ما يعتاده أهل العدل وأهل العقول من الخلق من إحضار الكتب والموازين والشهود العدول، حتى أشهد الأيدي والجلود حين يَعْرِضُ المنافقون للقدح في ملائكته الشهود (1) الكرام، كما ثبت في الحديث الصحيح.

وفي نحو ذلك لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، فلم تمنعه عِزَّتُه القاهرة من لطيف الحكمة كما هو عادة الجبابرة، بل جمع كمال اللُّطف في العدل إلى كمال العز في الملك، وكان بذلك حميداً مجيداً: حميد النعوت والأسماء والأفعال، مجيد الملك والجلال والكمال، ولذلك قال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وثبت في " الصحيحين " عن أعلم الخلق به محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب "(2).

وثبت في " صحيح مسلم " في الحديث الجليل الرَّبَّاني، الذي عَظَّمَهُ علماء

(1)" الشهود " لم ترد في (ش).

(2)

تقدم تخريجه في الجزء الخامس ص 58.

ص: 147

السنة من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن الله تعالى يقول:" إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً، فلا يَلُومَنَّ إلَاّ نفسه "(1).

فكيف يحسُنُ نسبتُها إلى الله تعالى من جميع الوجوه على الإطلاق، أو يحسن إيراد ما يوهم ذلك من العبارات، والله تعالى يقول:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، و {تَعالَى عَمَّا يقولون} [الإسراء: 43] فكيف يقال فيما تعالى عنه، وسبَّح نفسه العزيزة: إنه منه.

وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى بعبارة أخرى في كتاب محبة الله من " الإحياء " في السبب الرابع منه.

واعلم أن جميع الاختلاف والتطويل هنا يرجع إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا (2) مشيئة، لا قبل مشيئة الله ولا بعدها، وهو قول الجبربة.

الثاني: أنه لا مشيئة لله ولا قدرة ولا أثر في فعل العبد إلَاّ الواجب عليه بعد التكليف عندهم، وهو قول المعتزلة.

وثالثها: أن للعبد مشيئةً واختياراً وفعلاً بتيسيره (3)، وهو قول أهل السنة.

فالمعتزلة احتجوا بقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُم أنْ يَستَقِيمَ} [التكوير: 28].

وأهل السنة احتجوا بقوله بعد ذلك: {وما تشاؤون إلَاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، وكذلك:" لا حول ولا قوة إلَاّ بالله " وفي الكهف: {لا قُوَّةَ إلَاّ بالله} [39]، وفي ن:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18]، وذلك كثيرٌ معلومٌ ضرورةً.

(1) تقدم ص 19.

(2)

في (أ): ولا.

(3)

في (أ): وتيسيره.

ص: 148

والجبرية احتجوا بقوله (1): {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، {وما تشاؤون} وترك الاستثناء فيها، فهم أَرَكُّ الفرق الثلاث. وأهل السنة أعدلهم وأوسطهم، فإنهم جمعوا بين المُطْلَق والمقيَّد، فقدموا الاستثناء المنطوق المنصوص على الإطلاقين: التخيير الذي تمسَّكت به المعتزلة، وإطلاق التعجيز الذي تمسكت به الجبرية.

وبذلك يجب العمل عند علماء الأصول في المطلق والمقيد، وعليه اجتمعت الفرق المختلفة في مسائل لا تُحصى، حيث لا عصبيَّةَ ولا هوى، وإنما أُتِيَ أهل السنة من عبارات مبتدعةٍ قبيحةٍ صَدَرَتْ من كثيرٍ من أهل الكلام منهم تُوهِمُ الجبر، وتُضادُّ الحق.

وكذلك توسَّط أهل السنة في نظر العقول، فاعترفوا بالاختيار الضروري الفارق بين حركة المختار والمفلوج والمسحوب، مع الاعتراف بالافتقار إلى الله تعالى في كل طرفة عينٍ، وعدم الاستقلال كما قال سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فدل على ثبوت الاختيار والافتقار، والجبرية أنكروا الاختيار الضروري من العقل والدين، والمعتزلة أنكروا الاحتياج (2) إلى الله عز وجل في الأفعال بعد تعلق القدرة، وما يجب عندهم من اللطف الذي يقدر على تركه منه، وذلك خلاف المعروف بين المسلمين والمعلوم من دين المؤمنين، فالله المستعان.

وقولهم: لو قَدَرَ عليه ولم يفعله كان قبيحاً، كقول الفلاسفة: لو قدر على أحسن من هذا العالم ولم يبادر بالجود به، كان بخيلاً، تعالى الله عن قول المبطلين عُلُوّاً كبيراً.

وبالجملة: فالمعلوم من العلوم الضرورية العقلية والشرعية أن الأنبياء والكتب الربانية، وجميع الأديان، ما وردت بنفي الأفعال عن العباد، ولا بنفي المشيئة عنهم، وإنما وردت بتوقف أفعالهم ومشيئتهم على مشيئة الله وتقديره عند

(1) في (أ): بقولهم، وهو خطأ.

(2)

في (أ): الاحتجاج، وهو خطأ.

ص: 149

أهل السنة، وعلى تخلية الله بينهم وبين نفوسهم على قول المعتزلة.

وكما قال أهل السنة تواردت النصوص كتاباً وسنةً، كما مرَّ وكما لا يُحصى، نحو قوله تعالى:{وما تشاؤون إلَاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].

ومن ذلك الحديث المشهور في النهي عن أن يقال: " ما شاء الله وشاء فلانٌ " بل يقال: " ما شاء الله ثم شاء فلان "(1).

وكذلك قال الله: {وما تشاوون إلَاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، و {لا قُوَّةَ إلَاّ بالله} [الكهف: 39] والإجماع منعقدٌ على ذلك، فقد أجمع أهلُ السنة على وجوب كراهة الكفر والقبيح من الجهة التي صار منها كفراً وقبيحاً، لأنه من تلك الجهة غير منسوبٍ إلى الله، بل هو منها منسوبٌ إلى كسب العبد فكيف يُنْسَبُ من حيث سُمِّيَ كفراً وقبيحاً إلى الله تعالى وهو يجب علينا (2) الرضا بأفعاله سبحانه، فلو صح الجميع لوجب التناقض.

وقد اجتهد أهل السنة في التبرُّؤ من الجبر، وافترقوا على فِرَقٍ كثيرة تقدم بيانها، كل منهم بين ما يتعلق بقدرة العبد أهل الكسب وغيرهم، ولولا فرارهم من الجبر، ما ذكروا الكسب (3)، والأدلَّة عليه، وهذه العبارة تلزمهم الجبر،

(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/ 384 و394 و398، وأبو داود (4980)، والنسائي في " اليوم والليلة "(985)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "(236) بتحقيقنا، من طرق عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن عبد الله بن يسار الجهني، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان ". وهذا إسناد صحيح.

وفي الباب عن جابر بن سمرة وقتيلة بنت صيفي الجهنية، كلاهما عند الطحاوي (237) و (238) و (239). فانظر تخريجهما فيه.

(2)

في (أ): بحيث علمنا.

(3)

من قوله: " وغيرهم ولولا " إلى هنا سقط من (أ).

ص: 150

وتُبطِلُ عنايتهم في التبرُّؤ منه، فثبت أنها جِنايةٌ عليهم.

يوضحه: أنها عبارةٌ توافق مذهب الجبرية الباطل بالضرورة عند أهل السنة وبالوفاق، فكيف تكون مع ذلك موافِقَةً لمذهب السنة ومُترجمةً عنه، وعن الجبر الذي هو نقيضه، فتأمَّل ذلك.

وأهلُ السنة ما أنكروا على المعتزلة إثبات أفعال العباد، ولا نِسبتها إليهم، ولا اختيارهم فيها، بل نسبوا من جحد ذلك من الجبرية إلى مخالفة الضرورة، وزادوا في دعوى الضرورة في ذلك على جمهور المعتزلة.

وإنما أنكر أهل السنة في هذه المسألة على المعتزلة، أو على أكثرهم قولهم: إن إرادة الله فيما يتعلق بهداية العباد غير نافذةٍ، وإن أفعالهم غير مقدورةٍ لله تعالى بأعيانها، مبالغةً في المنع من مقدورٍ بين قادرين، وإن الذوات غير مقدورةٍ لله عز وجل لثبوتها في الأزل، وتعجيز الرب جل جلاله عن هداية العصاة واستلزام مذهبهم لذلك، وإن منعت المعتزلة من تسميته تعجيزاً مع تسميتهم له غير مقدورٍ كما مرَّ بيانه.

وأما قول أهل السنة: إن أفعال العبادِ مخلوقةٌ لله مفعولةٌ للعباد، فقد تقدم بيان مرادهم بذلك مبسوطاً، وأنه لا يقتضي سقوط حجة الله على عباده إلا الجبرية الغُلاة، أما على (1) قول الجويني وأصحابه من أهل السنة، فلأنَّ كونها مخلوقةً مُفَسَّرٌ عندهم بكونها مقدرة، لأن التقدير أشهر معاني الخلق، ولذلك ادعى فيه أنه الحقيقة دون غيره، وقد تقدم مبسوطاً، وأما بقيتهم، فلأن الخلق من الله عندهم من فعل العبد بمنزلة تمكين العباد من المسببات كلَوْنِ المداد ونحوه عند المعتزلة، فهو بمنزلة خلق القدرة والقادر، لا أنه القدر المقابل بالجزاء كما مرَّ محقَّقاً.

وقد أجمعت على تنزيه الله سبحانه من الظلم، بل من العبث واللعب،

(1)" على " سقطت من (أ).

ص: 151

جميعُ الشرائع السمعية والبراهين العقلية، كما اجتمعت على تعظيم جلاله، وعزته في نفاذ مشيئته، وعموم قدرته وبطلان قول المعتزلة في خلاف ذلك.

وقد بالغ أئمة الكلام من الأشعرية في نفي الجبر وتزييفه كالشهرستاني في " نهاية الإقدام "، والجويني في كتبه في الأصول والكلام، كما مضى قريباً في مسألة الأفعال بحمد الله تعالى.

وظهر من ذلك أن الجبرية في الأفعال مثل الاتحادية في التوحيد، وذلك أن أهل الاتحاد سمعوا تعظيم المقربين لله ونسيان ما عداه، حتى جرى على ألسنتهم: أنه لا موجود سواه، أي في قلوبهم، فحسبوهم جحدوا الضرورة في وجود المخلوقات فقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- هو خلقه، ليصح لهم بزعمهم حقيقة التوحيد، ولا يكون مع الله سواه، فصوَّبوا عبادة الأصنام لذلك إلَاّ (1) في مجرد تحقيقها.

وكذلك الجبرية لما سمعوا تعظيم إلى ملف لمشيئة الله تعالى وتأثيرها أنكروا أن يكون لغيره سبحانه مشيئةٌ أو فِعلٌ (2)، وجعلوا ذلك مُحَالاً وعجزاً، والرب يتعالى عنه (3)، فلم يثبتوا قدرةً لله تعالى على أن يجعل أحد عباده قادراً فاعلاً مختاراً.

فرجع تعظيمهم لقدرة الله تعالى إلى تهوينها، ونسبة القبائح إليه، ولم يعلموا أن مشيئة العباد وأفعالهم متى ثبتت بمشيئة الله، كان أعظم لإجلال الله وتقديسه، فاحذر مواقع الغُلُوِّ، فإنها أساس البدعة، نسأل الله السلامة.

وبعد هذا كله يجب على العبد أن ينظر فيما يحبه سيِّدُه ومولاه ثم يقصده ويتحرَّاه، وقد نظرنا في كتاب الله تعالى، فوَجَدْنا الله سبحانه وتعالى يحبُّ التنزه

(1) أثبت فوقها " لا " في (ف).

(2)

في (أ): فعلاً، وهو خطأ.

(3)

العبارة في (أ) هكذا " وجعلوا ذلك محالاً ولا عجزوا الرب تعالى عنه " وفيها خلل بيّن، وكانت هكذا في نسخة (ش) لكنها صححت من قِبل قارىء النسخة.

ص: 152

عن قبائح الأسماء والأفعال، ويحب الاتصاف بالعدل والحكمة وإقامة الحجة وإعذار الخلق (1)، وإزاحة العِلَل الباطلة وكثيرٍ من أعمال المُبْطِلين، ولولا ذلك ما كَلَّفَهم، ولا نَصَبَ لهم حِساباً وموازين، وبعث رُسُلَهُ، وأنزل كتبه، وكتب أعمالهم، وأشهد ملائكته عليهم، فلمّا لم يقبلوهم أشهد جلودهم.

فنظرنا: هل المناسِبُ لهذا أن تُنْسَبَ ذنوبُهم إليه، ونقول: هي منه؟ أو إليهم، ونقول: هي منهم؟ فلا يشك عاقل أن القول بأنها منهم أنسب لما يحب ربُّنا لو لم يَنُصَّ على أنها منهم، كيف وقد نص عليه نصوصاً جمة كما أُوضحه الآن.

ثم قد أرشدنا إلى الأدب في العبارة فيما أنزل في كتابه على رسوله، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ومعناهما واحدٌ، لكن لما تعلق بأحدهما بعض المفاسد اللفظية كيف إلَاّ ما يُوهِمُ تَوْهِينَ حُجَجِ الله وحكمته التي شرع جميع ما ذكرنا لتقويتها وبيانها، حتى تسمى بالحق المبين ليكون آخر كلام الخلائق يوم الدِّين {الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] كما جاء في الكتاب المبين.

وهذه مقدمةٌ أحببتُ تقديمها تمهيداً لما أُورِدُه من الأدلة على بطلان هذه العبارة التي ظنَّ المغتَرُّ بها أنه ترجم بها عن مذاهب السلف وأهل السنة، بل ظن أنه ترجم بها عن الكتاب والسنة، فعَظُمَ خطؤه، وفَحُشَ في ذلك.

والأدلة على ذلك لا تُحصى، وقد رأيت أن أجعلها أنواعاً، كل نوعٍ يشتمل على الإشارة إلى أدلةٍ جَمَّةٍ.

النوع الأول: ما يَدُلُّ على أن الكفر وكُلَّ قبيح من العباد بلفظ " من " المسمى بحرف الجر الذي معناه الابتداء من غير استقصاء، فلنذكر هنا نَيِّفاً وعشرين آية من كتاب الله تعالى، من ذلك:

(1) في (أ): الحق، وهو خطأ.

ص: 153

قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فجعل الظلم منهم بالنصِّ.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] فجعل الكفر منهم بالنص.

وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182]، وقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله:{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].

بل قال تعالى في عقوبة الذنوب: {قُل هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، وقال تعالى في ذلك:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فأما قوله قبلها:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله} بعد قوله: {وإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} ، {وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 79] فلأن المراد عقوبات الذنوب التي من فعلِ الله بالاتفاق، ولذلك قال:{مَا أَصابك} ولو كانت للذنوب، لقال: ما أصبت، وإنما رد عليهم بقوله:{قُلْ كلٌّ من عِنْدِ الله} [النساء: 78] لأنهم تشاءموا برسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبوا إليه (1) عقوبات الله لهم على تركها (2). فلا نسبوها إلى خالقها سبحانه وتعالى، ولا إلى فاعل سببها.

ومنه قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].

ومنه قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

(1) في (أ): إليهم، والمثبت من (ش)، وقد أشير إلى صوابها في (أ).

(2)

في (ش): تركهم الإسلام.

ص: 154

ومنه قوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ففرق بين ما هو من الله وما هو من الناس، وإن كان الكل بقدرٍ سابقٍ، فلا يقال في الجميع: إنه من الله.

ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذا في الحلال كيف في الحرام؟!

ومنه قوله (1): {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13].

ومنه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].

ومنه قوله تعالى: {ولكِنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكُم} [الحج: 37]، وهذا في طاعة الله تعالى التي يحسن إضافتها إلى فضله، ويجب حمده عليها، فكيف بمغضباته التي حرَّمها وقبَّحها، ولام فاعلها ولعنه وأعد له عقوبته.

ومن ذلك قوله سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

ومنه: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].

ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

ومنه: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]

ومنه ما حكى الله عن موسى من قوله: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ} [القصص: 15].

(1)" ومنه قوله " لم ترد في (أ).

ص: 155

ونحوه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. وقوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] وهاتان الآيتان مُصَدَّرَتان بإنما التي تقبل الحصر، وقصر ذلك على الشيطان لعنه الله.

وفي القرآن الكريم كثيرٌ من هذا بغير لفظ " من "، ومعناه معناها كقوله:{وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].

ومن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد قالا معاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه اصطفى من الكلام أربعاً " إلى قوله: " ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قِبَلِ نفسه كُتِبَ له ثلاثون حسنةً، وحُطَّ عنه ثلاثون سيِّئَةً " رواه النسائي واللفظ له، والحاكم في " المستدرك " بمعناه وقال: صحيح على شرط مسلم (1).

قلت: وله شاهد في كتاب الله، وهو قوله تعالى:{وتثبيتاً من أنفسهم}

(1) النسائي في " عمل اليوم والليلة "(840)، والحاكم 1/ 512.

وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 310 و3/ 35 و37، وابن أبي شيبة 10/ 428، والطبراني في " الدعاء " (1681) عن أبي هريرة وأبي سعيد. ولفظ الحديث بتمامه مرفوعاً " إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَاّ الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كُتِبَ له عشرون حسنة، وحُطَّت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر، فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلَاّ الله، فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كُتِب له ثلاثون حسنةً، وحُطَّت عنه ثلاثون سيئة ".

وأخرج أوله بنحوه النسائي (841)، وابن حبان (836) عن أبي هريرة وحده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الكلام أربعٌ، لا يضرك بأيهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ".

وأخرجه كذلك أحمد 4/ 36، والنسائي (842) من طريق أبي صالح السمّان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مرفوعاً. وعلقه البخاري 11/ 575 في الأيمان والنذور: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم، ولم يسم صحابياً للحديث.

وفي الباب عن سمرة بن جندب عند ابن حبان (835)، انظر تخريجه فيه.

ص: 156

[البقرة: 265]، وفي أثر إلهي يقول الله تعالى:" يا ابن آدم، ما أنصفتني، الخير منِّي إليك هابِطٌ، والشر منك إليَّ صاعدٌ " أو كما ورد، وبه يخطب خطباء المسلمين في جُمَعهم وجماعاتهم ولا ينكره مسلم.

وفي مراسيل [أبي داود] عن أبي رجاء محمد بن سيف الأزديِّ أنه سأل الحسن عن النُّشْرَةِ؟ فقال: ذكر لي عن النبي صلى الله عليه وسلم[أنه قال:]" إنها من عمل الشيطان "(1).

(1)" المراسيل "(453) بتحقيقي، عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن أبي رجاء، به.

وهذا سند رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي رجاء -وسماه المزي في " التحفة ": محمد بن سيف الأزدي الحداني- فقد روى له أبو داود في " المراسيل " والنسائي، وهو ثقة.

وأخرجه موصولاً الحاكم 4/ 418 من طريق مسكين بن بكير، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: سألت أنس بن مالك عن النُّشرة، فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من عمل الشيطان. وقال: هذا حديث صحيح، وأبو رجاء هو مطر الورّاق (كذا سماه)، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

وفي الباب ما يشهد له عن جابر بن عبد الله، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال:" هو من عمل الشيطان " أخرجه أحمد 3/ 294، وأبو داود (3868)، وسنده قوي.

قال البغوي في " شرح السنة " 12/ 159: النشرة: ضرب من الرقية يعالج بها من كان يُظن به مس من الجن، سميت نُشرة، لأنه يُنشر بها عنه، أي: يحل عنه ما خامره من الداء، وكرهها غير واحد، منهم إبراهيم وقال سعيد بن المسيب: لا بأس بها.

قال البغوي: والمنهي من الرقى ما كان فيه شرك أو كان يذكر مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو، ولعله يدخله سحراً وكفراً.

فأما ما كان بالقرآن أو بذكر الله عز وجل، فإنه جائز مستحب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه بالمعوذات، أخرجه البخاري (5735)، ومسلم (2192) وقال صلى الله عليه وسلم للذي رقى بفاتحة الكتاب على غنم:" من أين علمتم أنها رقية؟ أحسنتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم " أخرجه البخاري (2276) وقال: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " أخرجه البخاري (5737) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذُ الحسن والحسين: " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " أخرجه البخاري (3371).

وقال جبريل صلى الله عليه وسلم: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد =

ص: 157

ومنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فإنها تدل على أنه لا يضاف إلى الله ما فيه نقصٌ ولا قُبْحٌ.

ومنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فدل على أن حكم الجاهلية ليس حكماً من الله، فكذلك كل حكمٍ قبيحٍ.

ومنه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].

ومنه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32].

ومنه: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] ففرَّق بينهما، والكل بقَدَرٍ سَبَقَ من الله، وأمثالُ ذلك كثير.

وهذا أيضاً في الأحاديث وفي آثار السلف كثيرٌ شهير، وقع في محافلهم المحشودة بجماعاتهم من غير نكيرٍ، واشتملت عليه دواوين الإسلام، وتواليفُ علماء السنة والإسلام، من غير مُناكرةٍ ولا تأويلٍ ولا معارضةٍ، فكان إجماعاًً من ذلك الصدر، إذ لا يُنْقَلُ شيءٌ من إجماعاتهم إلَاّ على هذه الصفة، أو على ما هو دونها، مع إجماعهم (1) على عدم تأويل ما ذكرته من آيات القرآن الكريم، والعادة (2) تقتضي العلم في مثل ذلك، كما تقدم في آيات المشيئة، فتأمل ذلك.

فمن ذلك ما خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " وأبو داود والترمذي وغيرهما من أئمة السنة من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" التَّثَاؤُبُ من الشيطان، يضحك منه إذا قال: ها ".

= الله يشفيك بسم الله أرقيك" أخرجه مسلم (2185).

وروي عن عوف بن مالك الأشجعي: كنا نرقي في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اعرضوا علي رقاكم، فإنه لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " أخرجه مسلم (2200).

(1)

في (ش): اجتماعهم.

(2)

في (ش): والعبادة، وهو تحريف.

ص: 158

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1)، وسيأتي كلام أئمة السنة في تفسيره.

وخرج الجماعة من حديث أبي قتادة " الرؤيا الصالحة من الله، والحُلُمُ من الشيطان "(2).

ولمسلم مثله عن (3) أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم (4).

وروى البخاري والترمذي والنسائي عن أبي سعيدٍ كذلك، وقال:" إنما هي من الشيطان "(5) بالحَصْرِ.

وخرج ابن ماجه وابن عبد البر في " التمهيد " مثل حديث أبي هريرة من حديث عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم (6).

وإنما تواترت النصوص في الرؤيا، لأنه يُتَوهَّمُ أنه يشتبه الأمر فيها ولا يتميَّزُ إلا بالنص.

وخرج البخاري ومسلم والأربعة وغيرهم أيضاً حديث أبي هريرة في سجود

(1) وانظر " صحيح ابن حبان "(2357) و (2358).

(2)

وصححه ابن حبان (6059). وانظر تخريجه فيه.

(3)

في (أ) و (ش): وعن، وهو خطأ.

(4)

" صحيح مسلم "(2263)، ولفظه:" إذا اقترب الزمانُ لم تكد رؤيا المسلم تكذب " إلى أن قال: " والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث المرء نفسه ". وأخرجه أيضاً أبو داود (5019)، والترمذي (2280)، والنسائي في " اليوم والليلة "(910).

(5)

البخاري (6985) و (7045)، والترمذي (3453)، والنسائي في " اليوم والليلة "(893)، وفي الرؤيا من " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 371. واستدركه الحاكم 4/ 392 على الشيخين وتابعه الذهبي، فوهما!

(6)

ابن ماجه (3907)، وابن عبد البر في " التمهيد " 1/ 286، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (6042) بتحقيقنا، وانظر تمام تخريجه فيه.

ص: 159

السهو، وفيه:" إن أحدكم إذا قام يُصَلِّي جاءه الشيطان، فلَبَّسَ عليه، حتى لا يدري كم صلَّى "(1).

وفي ذلك نسبة سبب النسيان إلى الشيطان، وتخصيصه بذلك ذمّاً له، كما شهد له قوله تعالى:{وما أنْسَانِيهُ إلَاّ الشيطان} [الكهف: 63].

وكذلك ثبت في " الصحيحين "(2) عن عائشة، عنه صلى الله عليه وسلم أن الالتفات في الصلاة اختلاسٌ يَخْتَلِسُه الشيطان من صلاة العبد.

وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صلاة الجمعة: إنَّ تقليب الحَصَى من الشيطان (3)، رواه مسلم في " الصحيح " وإماما أهل السنة مالك وأحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وذا لفظه وأحمد به.

وخرَّج أحمد في " المسند " وأبو داود، والنسائي، والحاكم في " المستدرك " من حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن تَفَرُّقكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان "(4).

(1) البخاري (1232)، ومسلم (389)، وأبو داود (1030)، والترمذي (397)، والنسائي 3/ 31، وابن ماجه (1216) و (1217)، وصححه ابن حبان (2683).

(2)

كذا نسبه المؤلف إلى الصحيحين، وهو سبق قلم، فليس هو في " صحيح مسلم "، فقد أخرجه البخاري في " صحيحه "(751) و (3291)، وصححه ابن حبان (2287)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

هو قطعة من حديث صحيح، أخرجه أحمد 2/ 10، والنسائي 2/ 236 - 237 و3/ 36.

وأخرجه من غير هذه القطعة مالك في " الموطأ " 1/ 88 - 89، ومن طريقه أحمد 2/ 65، ومسلم (580)(116)، وأبو داود (987)، والنسائي 3/ 36 - 37.

قلت: وعزو قول ابن عمر: " إن تقليب الحصى من الشيطان " إلى هذه المصادر جملة ذهول بين كما هو واضح من التخريج، وكذلك في عزوه إلى الترمذي، فإنه لم يخرج هذا الحديث.

(4)

أحمد 4/ 193، وأبو داود (2628)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " =

ص: 160

قال الحاكم: صحيح الإسناد، وهو كما قال، خرجه أبو دواد، والحاكم في الجهاد، والنسائي في السير.

وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد (1) مرفوعاً " الأناة من الله، والعجلة من الشيطان ". وقال: حديث حسن غريب أخرجه في كتاب البر (2).

ومن ذلك حديث أبي هريرة المتفق على صحته " كل مولودٍ يولد على الفِطْرَة، وإنما أبواه يهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه "(3).

ومن ذلك حديث المستحاضة وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: " إنما ذلك رَكْضَةٌ من الشيطان " خرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححاه من حديث حَمْنَةَ بنت جحشٍ (4).

= 9/ 133، والحاكم 2/ 115، وصححه ابن حبان (2690).

(1)

تحرف في (أ) إلى: سعيد.

(2)

رقم (2012). وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل متفق على ضعفه.

قلت: وفي الباب عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " التأنِّي من الله، والعجلةُ من الشيطان " أخرجه أبو يعلى في " مسنده "(4256)، والبيهقي 10/ 104. وفيه سعد بن سنان وهو مختلف فيه، لكن حديثه يصلح في الشواهد والمتابعات.

وأورده الهيثمي في " المجمع " 8/ 19 وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح! كذا قال، مع أن سعد بن سنان لم يخرج له واحد منهما في " الصحيح "، والبخاري أخرج له في " الأدب المفرد " فقط.

وزاد نسبته ابن حجر في " المطالب العالية " 3/ 35 إلى أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة، وقال البوصيري في " إتحاف المهرة " 2/ 147: رواته ثقات.

وله شاهد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشجِّ عبد القيس: " إن فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحِلم والأناة " أخرجه مسلم (17)(25)، وصححه ابن حبان (7204).

وعن الأشج العَصَري عند ابن حبان (7203)، وانظر تخريجه فيه.

(3)

تقدم مراراً.

(4)

أبو داود (287)، والترمذي (128)، وأحمد 6/ 439، وقال الترمذي: حديث =

ص: 161

وقال ابن الأثير في " النهاية "(1): المعنى أن الشيطان قد وجد بذلك سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها. ذكره في حرف الراء مع الكاف.

وفي " المسند " عن ابن عباس وأبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " لا تأكل الشريقة (2)،

= حسن صحيح، وكذا نقل عن أحمد أنه قال: هو حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه أيضاً الدارقطني 1/ 214، والحاكم 1/ 172 - 173، والبيهقي 1/ 338 - 339.

قال الخطابي في " معالم السنن " 1/ 89 - 90: أصل الركض: الضرب بالرجل والإصابة بها، يريد به الإضرار والإفساد، كما تركض الدابة، وتصيب برجلها، ومعناه -والله أعلم- أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها، ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك، فصار في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته، وإضافة النسيان في هذا إلى فعل الشيطان كهو في قوله تعالى:{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فسبحوا " أو كما قال، أي: إن لبس عليَّ.

(1)

2/ 259.

(2)

كذا نقل المؤلف عن " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وهو تصحيف صوابه " الشريطة " كما في " المسند " و" سنن " أبي داود و" مستدرك " الحاكم و" سنن " البيهقي.

قال ابن المبارك: والشريطة أن يخرج الروح منه بشرطٍ من غير قطع الحلقوم.

وقال الخطابي في " معالم السنن " 4/ 281: إنما سمى هذا شريطة الشيطان من أجل أن الشيطان هو الذي يحملهم على ذلك ويحسن هذا الفعل عندهم، وأُخذت الشريطة من الشرط: وهو شق الجلد بالمبضع ونحوه، كأنه قد اقتصر على شرطه بالحديد دون ذبحه والإتيان بالقطع على حلقه.

وقال الزمخشري في " الفائق " 2/ 233: " نهى صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان " هي الشاة التي شُرِطت: أي أثر في حلقها أثر يسير كشرط الحاجم من غير فَرْي أوداج ولا إنهار دمٍ، وكان هذا من فعل أهل الجاهلية يقطعون شيئاً يسيراً من حَلْقها، فتكون بذلك ذكية عندهم، وهي كالذبيحة والذكية والنَّطيحة.

وقال ابن الأثير في " النهاية " 2/ 460: وفيه " نهى عن شريطة الشيطان " قيل: هي الذبيحة التي لا تقطع أوداجها، ويُستقصى ذبحها وهو من شرط الحجَّام، وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حَلْقها ويتركونها حتى تموت، وإنما أضافها إلى الشيطان، لأنه هو الذي =

ص: 162

فإنها ذبيحةُ الشيطان" (1) وهي التي تشرق بالماء فتموت، وهو الحديث (355) من مسند ابن عباس من " جامع " ابن الجوزي.

وقد أجمعت الأُمة إجماعاًً ضرورياً أنه يجب الرضا بما كان من الله تعالى، والتحسين له، والثناء به، وأنه يجب كراهة المعاصي وسخطُها والتقبيح لها، فلو كانت المعاصي من الله لتناقض الإجماعان، واتحد محلُّ السخط والرضا.

والعجب من الغزالي أنه صرح في كتبه " منهاج العابدين إلى الجنة " وغيره أنه يجب الكراهة للمعاصي، ويجب الرضا بأفعال الله تعالى، ومع ذلك قال: إن المعاصي من الله، وقال أيضاً: إن الجبر باطلٌ بالضرورة، فما الفرق بين القول بالجبر، والقول بأن المعاصي من الله سبحانه وتعالى.

ومن ذلك حديث ابن عباس: ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء، فجعل عمر يَضْرِبُهُنَّ بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:" مهلاً يا عمر، إنه ما كان من العين والقلب فمن الله، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ".

رواه أحمد وابن تيمية في " المنتقى "(2).

= حملهم على ذلك، وحسَّن هذا الفعل لديهم، وسوَّله لهم.

قلت: ولم يتنبه إلى هذا التصحيف ابن الجوزي، فقال في " غريب الحديث " 1/ 534: ولا أحسبها إلَاّ التي تَشْرَق بالماء فتموت، وأخذه عنه ابن الأثير في " نهايته " 2/ 465، فتبعهما ابن الوزير على ذلك.

(1)

أخرجه أحمد في " المسند " 1/ 289، وأبو داود (2826)، وابن حبان (5888)، والحاكم 4/ 113، والبيهقي 9/ 278، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي! مع أن فيه عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليماني، وهو ضعيف.

(2)

تحرف في (أ) و (ش) إلى: المنتهى، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوقها.

والحديث في " مسند أحمد " 1/ 237 - 238 و335 وفي سنده علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف. وانظر " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار " 4/ 149. =

ص: 163

فهذه خمسة عشر حديثاً، عن أبي هريرة منها ست، وعن ابن عباس حديثان، وبقيتُها عن ابن عمر بن الخطاب وعائشة وأبي ثعلبة، وسهل بن سعد، وأبي قتادة، وأبي سعيدٍ، وعوف بن مالك، وحَمْنَة بنت جحش من غير استقصاءٍ، ومن غير الآثار الموقوفة على (1) الصحابة كما نذكره الآن عن ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبي بكر الصدِّيق، وعلي عليه السلام.

قال الإمام الحافظ أبو داود في " سننه، (2) المشهورة، التي هي أحد دواوين الإسلام، في كتاب النِّكاح في باب من تزوج ولم يفرض صداقاً: حدثنا عُبيد الله (3) بن عمر هو القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن خِلَاس وأبي حسان، كلاهما عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أنه أُتِي في مسألةٍ فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مراتٍ، قال: فإني أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان (4).

= وأخرجه ابن سعد في " الطبقات " 8/ 37، إلَاّ أنه قال في روايته " رقية بنت رسول الله " بدل " زينب "، وفيه أيضاً علي بن زيد بن جدعان.

(1)

في (أ): عن.

(2)

(2116).

(3)

في (أ) و (ش): عبد الله، وهو خطأ.

(4)

إسناده صحيح على شرط الشيخين، غير أن أبا حسان -وهو الأعرج- أخرج له مسلم فقط، ورواية يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط.

قلت: وقد فات المزي أن يذكره في " تحفة الأشراف " في ترجمة عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمه عبد الله بن مسعود، ويظهر أن النسخة التي اعتمدها من " السنن " لم يكن فيها هذا الحديث، بدليل أنه لم يرمز بـ " د " على رواية خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة بن مسعود في تراجم الثلاثة من كتابه " تهذيب الكمال ".

وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 447 عن محمد بن جعفر، والبيهقي 7/ 246 من طريق عبد الوهَّاب بن عطاء، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، بهذا الإسناد.

وأخرجه أحمد 4/ 279 عن أبي داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن خلاس وحده، به.

ص: 164

وقال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في مسند الجَرَّاح بن أبي الجراح من " مسنده "(1): قرأتُ على يحيى بن سعيدٍ، عن هشام قال: حدثنا قتادة بالحديث المتقدِّم ولفظه: " فإن أصَبْتُ فالله عز وجل يُوفِّقُني لذلك، وإن أخطأتُ فهو مِنِّي ".

وفي الباب عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

أما عليٌّ فهو إمام التنزيه لله تعالى، وهو في كلامه كثيرٌ غير قليلٍ، وذكر ابن حجر أن هذه العبارة قد وُجِدَتْ في كلامه عليه السلام في حكم أم الولده، ولم أقف عليها بنصِّها.

وأما أبو بكر، فإنها مشهورة عنه في الكلالة فإنه قال فيها: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني وأستغفر الله.

رواه ابن حجر في " التلخيص "(2) في كتاب القضاء (3)، وذكر سنده عن عبد الرحمن (4) بن مهدي، عن حماد بن زيدٍ، عن سعيد (5)، عن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ أهيب لِمَا لم يُعلَم من أبي بكرٍ، فإنها نزلت به فريضةٌ لم يجد لها في كتاب الله أصلاً، ولا في السنة أثراً، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله.

(1) هذا سبق قلم من المؤلف رحمه الله، فهذا الحديث بهذا السند أخرجه أحمد 1/ 430 - 431 في مسند عبد الله بن مسعود، وليس في مسند الجراح، وهو في مسند الجراح 4/ 279 - 280 من طرق أخرى.

(2)

4/ 195.

(3)

في (أ) و (ش): النص، وهو تحريف.

(4)

في (أ) و (ش): عبد الله، وهو خطأ، والتصوبب من " التلخيص ".

(5)

" عن سعيد " سقطت من (أ) و (ش)، واستدركت من " التلخيص "، وسعيد هذا: هو ابن أبي صدقة البصري.

ص: 165